بِالْأَكْلِ لَمْ يُبَدَّلْ فَكَانَ الْعُرْفُ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ وَلِأَنَّ أُجْرَةَ الزَّادِ فِي الْعُرْفِ أقل من أجرة المتاع لما أسفرت بِهِ الْعَادَةُ مِنْ إِبْدَالِ الْمَتَاعِ دُونَ الزَّادِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِنْ كَانَتْ أَسْعَارُ الزَّادِ فِي الْمَنَازِلِ مُتَقَارِبَةً فِي الرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ وَكَانَ انْقِطَاعُهُ مَأْمُونًا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْدَالُهُ لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ فِي حَمْلِ زَادٍ إِلَى مَنْزِلٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى مِثْلِهِ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ إِلَى مَنَازِلَ تَغْلُو فِيهَا أَثْمَانُ الزَّادِ فَيُبَدِّلُ مَا فَنِيَ مِنْهُ لَا يَخْتَلِفُ الْقَوْلُ فِيهِ لِأَنَّ الْعُرْفَ جارٍ بِهِ والقياس دال عليه والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ هَرَبَ الْجَمَّالُ فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكْتَرِيَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اكْتَرَى جَمَلًا مِنْ جَمَّالٍ لِيَرْكَبَهُ إِلَى مَكَّةَ أَوْ يَرْكَبَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً أَوِ اكْتَرَاهُ لِحَمُولَةٍ فَهَرَبَ الْجَمَّالُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْجَمَلِ الْمُكْتَرَى مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَخْلُفَهُ مَعَ الرَّاكِبِ أَوْ يَهْرُبَ بِهِ مَعَهُ فَإِنْ خَلَفَهُ مَعَ الرَّاكِبِ فَلِلرَّاكِبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فِي رُكُوبِهِ إِلَى مَكَّةَ وَالْجَمَلُ لَا يَسْتَغْنِي فِي مُدَّةِ الرُّكُوبِ عَنْ خَادِمٍ وَعُلُوفَةٍ. وَذَلِكَ حَقٌّ لِلرَّاكِبِ عَلَى الْجَمَّالِ فَإِنْ وُجِدَ الرَّاكِبُ حَاكِمًا رَفَعَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ حَتَّى يَحْكُمَ فِي مَالِ الْجَمَّالِ إِنْ وَجَدَ لَهُ مَالًا بِأُجْرَةِ خَادِمٍ وَثَمَنِ عُلُوفَةٍ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا اقْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنَ الرَّاكِبِ قَدْرَ مَا يَصْرِفُهُ فِي أُجْرَةِ خَادِمٍ وَثَمَنِ عُلُوفَةٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْجَمَّالِ يَرْجِعُ بِهِ الْمُقْرِضُ عَلَيْهِ مَتَى وَجَدَهُ أَوْ فِي مَالِهِ أَيْنَ وُجِدَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّرَ الْحَاكِمُ أُجْرَةَ الْخَادِمِ وَثَمَنَ الْعُلُوفَةِ لِيُسْقِطَ التَّنَازُعَ فَإِنْ أَنْفَقَ الرَّاكِبُ زِيَادَةً عَلَى تَقْدِيرِ الْحَاكِمِ فَهِيَ تَطَوُّعٌ لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْجَمَّالِ وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرِ الْحَاكِمُ أُجْرَةَ الْخَادِمِ وَثَمَنَ الْعُلُوفَةِ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمَنَازِلِ جَازَ تَوَسُّطُ الرَّاكِبِ فِيهَا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ.
فَإِنِ اخْتَلَفَ الرَّاكِبُ وَالْجَمَّالُ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ:
أَحَدُهَا: أَنَّ القول فيه قول الراكب المتفق لِأَنَّهُ أَمِينٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَمَّالِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فِي عَلَفٍ مِثْلِهَا فَإِذَا وَافَقَ ذَلِكَ قَوْلَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ وَافَقَ قَوْلَ الْجَمَّالِ أَوِ الرَّاكِبِ أَوْ خَالَفَهُمَا وَهَذَا اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ الْمُوجِبَةِ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ فَقَدْ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ إِذَا تَفَاحَشَ إِلَى مَا يَكُونُ عَدْلًا بَيْنَ النَّاسِ. فَأَمَّا إِنْ أَنْفَقَ الرَّاكِبُ بِغَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَلَا اسْتِئْذَانِهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَاكِمِ كَانَ مُتَطَوِّعًا لَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ.
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْحَاكِمِ أَوْ عَدِمَهُ فَإِنْ لَمْ يُشْهَدْ بِالرُّجُوعِ لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ أُشْهِدَ أَنَّهُ يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ فَفِي رُجُوعِهِ وَجْهَانِ:(7/421)
أَحَدُهُمَا: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ بِمَالِ غَيْرِهِ وَكَمَا لَا يَرْجِعُ مُسْتَوْدَعُ الدَّابَّةِ عَلَى رَبِّهَا بِثَمَنِ عُلُوفَتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى غَائِبٍ فَجَازَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَنْ يَتَوَصَّلَ صَاحِبُهُ إِلَيْهِ بِحَسَبِ الْمُكْنَةِ كَمَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْمَمْنُوعِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى أَخْذِهِ مِنْ مَالِ من هو عليه جهراً وسراً بحكم غير حُكْمٍ وَخَالَفَ ذَلِكَ حَالَ مُسْتَوْدَعِ الدَّابَّةِ لِتَطَوُّعِهِ بِاسْتِيدَاعِهَا فَصَارَ مُتَطَوِّعًا بِنَفَقَتِهَا فَهَذَا حُكْمُ الْجَمَّالِ إِذَا هَرَبَ وَخَلَفَ الْجَمَلَ مَعَ الرَّاكِبِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ بِالْجَمَلِ مَعَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِجَارَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً أَوْ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَسْتَأْجِرُ عَلَى الْجَمَّالِ جَمَلًا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الرَّاكِبُ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْجَمَّالِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ قَرْضًا عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَلَوْ دَفَعَ الْحَاكِمُ الْمَالَ إِلَى الرَّاكِبِ لِيَكْتَرِيَ لِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَا يَجُوزُ لِبَائِعِ السَّلَمِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى مُشْتَرِيهِ مَالًا يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْحَاكِمُ لِلْجَمَّالِ مَالًا وَلَا مُقْرِضًا نَظَرَ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ تَنْقَضِي بَطَلَتْ بِالْفَوَاتِ وَكَانَتِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ دَيْنًا عَلَى الْجَمَّالِ يَتْبَعُهُ بِهَا الرَّاكِبُ مَتَى وَجَدَهُ أَوْ وَجَدَ لَهُ مَالًا وَإِنْ كَانَتْ إِلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تَبْطُلْ بِالتَّأْخِيرِ وَكَانَ الرَّاكِبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَاتِّبَاعِ الْجَمَّالِ بِالْأُجْرَةِ وَبَيْنَ الْمُقَامِ عَلَى الْإِجَارَةِ وَأَخْذِ الْجَمَّالِ بِهَا مَتَى وُجِدَ وَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً عَلَى بَعِيرٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الْجَمَّالِ بَعِيرًا غَيْرَهُ لِأَنَّ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ الْبَدَلُ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا بِعَيْنِهِ فَشَرَدَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ بَدَلَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ مُسَمَّاةٍ بَطَلَتْ بِانْقِضَائِهَا وَكَانَ الْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ دَيْنًا عَلَى الْجَمَّالِ إِنْ قَبَضَهُ وَإِنْ كَانَتْ إِلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ تَبْطُلْ بِالتَّأْخِيرِ وَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ لِاسْتِضْرَارِهِ بِالتَّأْخِيرِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ بَعِيرًا لِيَرْكَبَهُ فَأَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مَتَاعًا بَدَلًا مِنْ رُكُوبِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةِ الْبَعِيرِ فِي مَسِيرِهِ مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا فَصَارَ بِذَلِكَ أَسْهَلَ عَلَى الْبَعِيرِ مِنَ الْمَتَاعِ. وَلَوْ كَانَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ مَتَاعٍ فَأَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ بَدَلًا مِنَ الْمَتَاعِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَتَاعَ يَتَفَرَّقُ فِي جَنْبَيِ الْبَعِيرِ فَصَارَ بِذَلِكَ أَسْهَلَ عَلَى الْبَعِيرِ مِنَ الرَّاكِبِ الَّذِي يَرْكَبُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ ظَهْرِهِ. وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ وَلَمْ يُسَمِّ رُكُوبًا وَلَا حِمْلًا كَانَتِ الْإِجَارَةُ بَاطِلَةً. وَهَكَذَا لَوْ ذَكَرَ رُكُوبًا وَلَمْ يُعَيِّنْ رَاكِبَهُ أَوْ ذَكَرَ حِمْلًا وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ أَوْ ذَكَرَ قَدْرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ جِنْسَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِلْجَهْلِ بِهَا.
فَصْلٌ
: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا شَهْرًا اعْتُبِرَ فِي صِحَّةِ إِجَارَتِهَا شَرْطَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ النَّاحِيَةَ الَّتِي يَرْكَبُهَا فِيهَا لِأَنَّ الْأَرْضَ تَخْتَلِفُ بِالْحُزُونَةِ وَالسُّهُولَةِ فَإِنْ أَغْفَلَ ذِكْرَ النَّاحِيَةِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ الْمَكَانَ الَّذِي يُسَلِّمُهَا فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْكَبُهَا مُسَافِرًا إِلَى بَلَدٍ تَكُونُ مُسَافَتُهُ شَهْرًا فَيَكُونُ تَسْلِيمُهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَقَدْ يَرْكَبُهَا ذَاهِبًا وَعَائِدًا مُدَّةَ شَهْرٍ فَيَكُونُ تسليمه(7/422)
فِي بَلَدِهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مُخْتَلِفًا مَعَ إِطْلَاقِ الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِ التَّسْلِيمِ، فَإِنْ أَغْفَلَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا مَسَافَةَ شَهْرٍ إِلَى مَكَّةَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ الْعَمَلُ فِيهِ لَمْ يَجُزِ اشْتِرَاطُ الْمَدَّةِ فِيهِ وَمَا شُرِطَ فِيهِ الْمُدَّةُ لَمْ يُجْزِ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ التَّعْلِيلِ؛ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجِيزُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يَقُولُ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ مُمْكِنًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ صَحَّ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَمْ يَصِحَّ وَالتَّعْلِيلُ الْمَاضِي يُفْسِدُ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إِلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى غَيْرِهِ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ تَسْلِيمَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَبَ إِلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ عَلَيْهِ تَسْلِيمَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ لِاسْتِئْجَارِهِ إِيَّاهَا ذَاهِبًا وَعَائِدًا جَازَ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ إِذَا كَانَ عَلَى مِثْلِ مَسَافَتِهِ وَكَانَ طَرِيقُهُ مُسَاوِيًا لِطَرِيقِهِ فِي السُّهُولَةِ وَالْحَزُونَةِ أَوْ أَسْهَلَ مِنْهُ وَلَمْ يَجُزْ إِنْ كَانَ أَبْعَدَ أَوْ أَحْزَنَ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْيَهُودِيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ حُرًّا مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ عَلَى عَمَلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ جَازَ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَسْتَقِي الْمَاءَ لِامْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ كُلُّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِدْمَةٍ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فَفِي الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ؛ كَمَا لَوِ ابْتَاعَ الْيَهُودِيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ. فَإِنْ نَقَلَهَا الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَى مُسْلِمٍ وَإِلَّا فَسَخَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا استأجر المسلم أخيراً فَوَجَدَهُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا تَبْطُلُ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَهُوَ مَا كَانَ اخْتِلَافُ الدِّينِ مَانِعًا مِنْهُ وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَمْنَعُ مِنْهُ حُكْمًا كَالْحَجِّ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِيهِ وَإِنْ حَجَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَوِّتُ لِعَمَلِ نَفْسِهِ بِمَا كَتَمَهُ مِنْ كُفْرِهِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا مَنَعَ مِنْهُ حَظْرًا مِثْلُ كَتْبِ الْمَصَاحِفِ لِأَنَّ الْكَافِرَ مَمْنُوعٌ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ حَتَّى كَتَبَهُ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ دُونَ الْمُسَمَّى لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ كَمُلَ لِمُسْتَأْجِرِهِ عَنْ عَقْدٍ حُكِمَ بِفَسَادِهِ فَهَذَا قِسْمٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ وَهُوَ أَعْمَالُ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا طَاعَةٌ مَقْصُودَةٌ كَبِنَاءِ دَارٍ أَوْ عِمَارَةِ أَرْضٍ أَوْ رَعْيِ مَاشِيَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْمَالٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ وَهُوَ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ طَاعَةً مَقْصُودَةً كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْرِ الْأَضَاحِي فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ مُعَيَّنَةً فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ لِأَنَّ قِيَامَ الْمُسْلِمِ بِهِ أَعْظَمُ ثَوَابًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ قِيلَ لِلْأَجِيرِ إِنِ اسْتَنَبْتَ فِيهَا مُسْلِمًا فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ تَوَلَّيْتَهَا بِنَفْسِكِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ.
فَصْلٌ
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِرَضَاعِ طِفْلٍ جَازَ إِذَا عَرَفَتْ سِنَّهُ مُشَاهَدَةً أَوْ خَبَرًا وَكَانَ زَمَانُ رَضَاعِهِ مَعْلُومًا فَإِنْ لَمْ تُشَاهِدْهُ وَلَا أَخْبَرَتْ بِسِنِّهِ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ شُرْبِهِ بِاخْتِلَافِ سِنِّهِ ثُمَّ عَلَيْهَا(7/423)
أَنْ تَسْقِيَهُ قَدْرَ رَيِّهِ وَفِي أَوْقَاتِ حَاجَتِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجْهُولًا فَهِيَ جَهَالَةٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَعُفِيَ عَنْهَا فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهَا مَعَ الرَّضَاعِ حَضَانَةَ الطِّفْلِ وَخِدْمَتَهُ لَزِمَهَا وَإِنْ أَغْفَلَا ذَلِكَ فَفِي لُزُومِهِ لَهَا وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْحَضَانَةِ هَلْ مَقْصُودُهَا الرَّضَاعُ وَالْخِدْمَةُ أَمِ الْخِدْمَةُ وَالرِّضَاعُ تَبَعٌ. فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْخِدْمَةَ تَبَعٌ لِلرَّضَاعِ فِي الْحَضَانَةِ فَعَلَى هَذَا لَا تُجْبَرُ عَلَى خِدْمَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرِّضَاعَ تَبَعٌ لِلْخِدْمَةِ فَعَلَى هَذَا تُجْبَرُ عَلَى خِدْمَتِهِ وَلَيْسَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ أَنْ تَأْتِيَ إِلَى الطِّفْلِ فَتُرْضِعَهُ بَلْ عَلَى وَلِيِّ الطِّفْلِ إِذَا أَرَادَ إِرْضَاعَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَيْهَا لِيَرْتَضِعَ وَلِوَلِيِّ الطِّفْلِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَكْلِ مَا يَضُرُّ بِلَبَنِهَا؛ فَإِنْ كَانَ الطِّفْلُ لَا يَسْتَمْرِئُ لَبَنَهَا لِعِلَّةٍ فِي اللَّبَنِ فَهَذَا عَيْبٌ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ وَلَوْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لَمْ يَمْنَعِ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ فَلَهُ الْفَسْخُ وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنْ إِجَارَةِ نَفْسِهَا مُرْضِعًا فَإِنْ أَجَّرَتْ نَفْسَهَا فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا وَإِذَا سَقَتِ الْمُرْضِعَةُ الطِّفْلَ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ فَلَهَا الْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَلَا أُجْرَةَ لَهَا. وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ لَهَا الْأُجْرَةُ.
وَلَوْ مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَلَوْ مَاتَ الطِّفْلُ فَفِي بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ.
وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ وَيَأْتِي الْمُسْتَأْجِرُ بِبَدَلِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْخُلْعِ وَإِذَا ضَاعَ حُلِيُّ الطِّفْلِ لَمْ تَضْمَنْهُ إِنْ قِيلَ إِنَّ الْعِوَضَ لِلرَّضَاعِ وَالْخِدْمَةَ تَبَعٌ؛ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعِوَضَ أُجْرَةٌ لِلْخِدْمَةِ وَالْحِفْظِ فَهِيَ كَالْأَجِيرِ لَا يَضْمَنُ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا وَيَضْمَنُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(7/424)
تضمين الأجراء من الإجارة من كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " الْأُجَرَاءُ كُلُّهُمْ سواءٌ وَمَا تَلِفَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِمْ فَفِيهِ واحدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا الضَّمَانُ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْأَجْرَ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لا ضمان إلا بالعدوان (قال المزني) هذا أولاهما به لأنه قطع بأن لا ضمان على الحجام يأمره الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبيطر دابته وقد قال الشافعي إذا ألقوا عن هؤلاء الضمان لزمهم إلقاؤه عن الصناع وقال ما علمت أني سألت واحداً منهم ففرق بينهما منهم وروي عن عطاءٍ أنه قال لا ضمان على صانعٍ ولا أجيرٍ (قال المزني) رحمه الله ولا أعرف أحداً من العلماء ضمن الراعي المتفرد بالأجرة عندي في القياس مثله (قال الشافعي) رحمه الله وإذا استأجر من يخبز له خبزاً معلوماً في تنورٍ أو فرنٍ فاحترق فإن كان خبزه في حالٍ لا يخبز في مثلها لاستعار التنور أو شدة حموه أو تركه تركاً لا يجوز في مثله فهو ضامن وإن كان ما فعل صلاحاً لمثله لم يضمن عند من لا يضمن الأجير ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ ضَرْبَانِ: مُنْفَرِدٌ وَمُشْتَرِكٌ وَحُكْمُهُمَا يَخْتَلِفُ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ الْأُجَرَاءَ كُلَّهُمْ سَوَاءٌ يَعْنِي بِهِ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرِكَ مَعَ اخْتِلَافِ صَنَائِعِهِمْ. فَأَمَّا الْأَجِيرُ الْمُنْفَرِدُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَمَلُهُ فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ كَرَجُلٍ دَعَا صَانِعًا إِلَى مَنْزِلِهِ لِيَصُوغَ لَهُ حُلِيًّا أَوْ يَخِيطَ لَهُ ثُوبًا أَوْ يَخْبِزَ لَهُ خُبْزًا أَوْ يُبَيْطِرَ لَهُ فَرَسًا أَوْ يَخْتِنَ لَهُ عَبْدًا فَيَنْفَرِدُ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فِي مَنْزِلِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَذَا أَجِيرٌ مُنْفَرِدٌ سَوَاءٌ حَضَرَ الْمُسْتَأْجِرُ عَمَلَهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ وَهَكَذَا لَوْ حَمَلَ الْمُسْتَأْجِرُ ثَوْبَهُ إِلَى دُكَّانِ الْأَجِيرِ لِيَخِيطَهُ أَوْ حَمَلَ إلي حُلِيَّهُ لِيَصُوغَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ وَيَدُهُ عَلَى مَالِهِ فَهَذَا أَجِيرٌ مُنْفَرِدٌ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي دُكَّانِهِ عَمَلٌ لِغَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَهَذَانِ النَّوْعَانِ عَلَى سَوَاءٍ فِي حُكْمِ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَمَلُهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ لِمُسْتَأْجِرِهِ مَعَ عَمَلِهِ لِمُسْتَأْجِرٍ آخَرَ كَالْقَصَّابِينَ وَالْخَيَّاطِينَ فِي حَوَانِيتِهِمْ فَأَمَّا الْأَجِيرُ الَّذِي يَكُونُ عَمَلُهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ مُنْفَرِدًا لِمُسْتَأْجِرٍ وَاحِدٍ لَا يُشْرِكُهُ بِغَيْرِهِ كَصَانِعٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ فِي دُكَّانِهِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَا يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ وَمُسْتَأْجِرُهُ غَائِبٌ عَنْ عَمَلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ أَوْ حُكْمَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ فَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمُسْتَأْجِرٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ إِنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ.(7/425)
فصل
: وإذ قد وضح ما ذكرنا من حَالِ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُشْتَرِكِ فَسَنَذْكُرُ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْمُنْفَرِدُ إِذَا تَلِفَ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَخْلُو تَلَفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَتِهِ وَعُدْوَانِهِ أَوْ لَا فَإِنْ تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ وَعُدْوَانِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ مَالِكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ جَنَى عَلَى دَابَّةِ رَجُلٍ هُوَ راكبها أو على ثياب رجل فهو لَابِسُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا كَذَلِكَ هَذَا الْأَجِيرُ وَإِنْ تَلِفَ ذَلِكَ بِغَيْرِ جِنَايَةِ الْأَجِيرِ وَلَا عُدْوَانِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا تَلِفَ فِي يَدِ أَرْبَابِهِ لَمْ يَضْمَنْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ وَلَا عُدْوَانٍ فَإِنِ اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْأَجِيرُ فِي الْعُدْوَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَ قَوْلِهِ لِإِنْكَارِهِ وَبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا أُجْرَةُ الْأَجِيرِ فَإِنْ كَانَ تَلَفُ ذَلِكَ قَبْلَ عَمَلِهِ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى عَيْنِ ذَلِكَ الْمَالِ بَطَلَتْ بِتَلَفِهِ وَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً لَمْ تَبْطُلْ وَاسْتَعْمَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُ ذَلِكَ بَعْدَ عَمَلِهِ فَلَهُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ عَمَلَهُ إِذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ حَصَلَ قَبْضُهُ فَلَزِمَهُ الْأُجْرَةُ وَسَوَاءٌ كَانَ التَّلَفُ بِعُدْوَانِ الْأَجِيرِ أَمْ لَا إِلَّا أَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ مَعْمُولًا وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ الْعَمَلِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ. فَلَوِ اخْتَلَفَ الْأَجِيرُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الْعَمَلِ فَادَّعَاهُ الْأَجِيرُ وَأَنْكَرَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا عَمَلَ فَهَذَا حُكْمُ الْأَجِيرِ الْمُنْفَرِدِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ بِجِنَايَتِهِ وَعُدْوَانِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ لِأَنَّ الْأَمَانَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنَايَاتِ وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ جِنَايَتِهِ وَلَا عُدْوَانِهِ فَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَامِنٌ وَقَبْضُهُ قَبْضُ ضَمَانٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يوسف ومحمد بن الحسن وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَوَجَّهَهُ مَا رَوَى خِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو وقال كان علي كرم الله وجهه يضن الْأَجِيرَ وَيَقُولُ هَذَا يُصْلِحُ النَّاسَ وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ وَلِأَنَّ الْأُجْرَةَ تُرْجَعُ إِلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَالْمُؤَجِّرِ الْمُسْتَحِقِّ لِأُجْرَتِهَا كَذَلِكَ الْأَجِيرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمَالِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ صَائِرَةٌ إِلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَالْعَارِيَةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَقْتَ التَّلَفِ.
وَالثَّانِي: أَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَقَبْضُهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ.
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ:
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْلِ الْأَجِيرِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ ضَمِنَهُ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلُهُ عُدْوَانًا أَمْ لَا فَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا الْأَجِيرُ وَإِنْ عَمِلَ سَوَاءٌ ضَمِنَ أَوْ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ عَمَلَهُ تَلِفَ فِي يَدِ نَفْسِهِ لَا فِي يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ(7/426)
هُوَ أَنَّ الْأُصُولَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ضَمِنَهُ كَالْمُقْتَرِضِ وَالْمُسْتَعِيرُ أَخَذَهُ لِمَنْفَعَةِ مَالِكِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ كَالْمُودِعِ وَمَنْ أَخَذَهُ لِمَنْفَعَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِهِ كَالْمُضَارِبِ وَالْمُرْتَهِنِ فَلَا يَضْمَنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي كَذَلِكَ الْأَجِيرُ أَخَذَ الْمَالَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَمَنْفَعَةِ مَالِكِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ. وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَمَّا جَعَلَ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدَ أَمَانَةٍ وَجَبَ أن يجعل يد الأجير يد أمانة ولأنه لما كان أحد الأجيرين وهو المنفرد مؤتمناً وجب أن يكون الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكُ مُؤْتَمَنًا.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ سُقُوطَ الضَّمَانِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ وَسَنُوَضِّحُ مِنْ حُكْمِ مَا احْتَجَّ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ حُجَّتِهِ فَأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ الْحَجَّامُ يُحَجِّمُ أَوْ يَخْتِنُ فَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَنْ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا حَدَثَ بِجِنَايَتِهِ وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ جِنَايَةٌ فَإِنْ حَجَّمَ أَوْ خَتَنَ حُرًّا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. سَوَاءٌ كَانَ الْحَجَّامُ مُنْفَرِدًا أَوْ مُشْتَرِكًا لِأَنَّ الْحُرَّ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَلَيْسَتْ عَلَيْهِ يَدٌ فَصَارَ الْمُنْفَرِدُ وَالْمُشْتَرِكُ مَعَهُ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ حَجَّمَ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ مَعَ سَيِّدِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِ سَيِّدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَجَّامِ لِأَنَّ يَدَ سَيِّدِهِ لَمْ تَزَلْ عَنْهُ فَلَمْ يَضْمَنْ إِلَّا بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ سَيِّدِهِ وَلَا مَنْزِلِهِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَوْلَانِ لِأَنَّ الْحَجَّامَ أَجِيرٌ مُشْتَرِكٌ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الرَّاعِي فَإِنْ نُسِبَ إِلَى التَّعَدِّي بِالرَّعْيِ فِي مَكَانٍ مُسَبَّعٍ أَوْ جَدْبٍ أَوْ مَخُوفٍ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى التَّعَدِّي نُظِرَ فَإِنْ رَعَى فِي مِلْكِ الْمَالِكِ فَهُوَ مُنْفَرِدٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ رَعَى فِي غَيْرِ مَالِهِ لَكِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَعَهُ فَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْمَالِكُ وَلَا رَعَى فِي مِلْكِ الْمَالِكِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَعَ غَنَمِ جَمَاعَةٍ فَهُوَ مُشْتَرِكٌ وَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِوَى غَنَمِهِ فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرِكِ أَوِ الْمُنْفَرِدِ فَمِنْ جَعَلَهُ كَالْمُنْفَرِدِ أَسْقَطَ الضَّمَانَ عَنْهُ وَمِنْ جَعَلَهُ كَالْمُشْتَرِكِ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْبَيْطَارُ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ عُدْوَانٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأٌ ضَمِنَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عُدْوَانٌ فَإِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ مَعَ صَاحِبِهَا أَوْ فِي مَنْزِلِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَتْ مَعَ الْبَيْطَارِ فِي جُمْلَةِ غَيْرِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ مَعَهُ مُفْرَدَةً وَحْدَهَا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْأَجِيرُ لِحِفْظِ الدُّكَّانِ فَيُؤْخَذُ مَا فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى الْمَالِ وَلِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ عَنْهُ لَمْ تَزَلْ. فَأَمَّا الْحَمَّامِيُّ إِنْ تَلِفَتْ ثِيَابُ النَّاسِ عِنْدَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْعِوَضِ هَلْ هُوَ ثَمَنُ الْمَاءِ أَوْ أُجْرَةُ الْحِفْظِ وَالدُّخُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ثَمَنُ الْمَاءِ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِحِفْظِ الثِّيَابِ وَمُعِيرًا لِلسَّطْلِ فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الثِّيَابَ إِنْ تَلِفَتْ وَلَهُ غُرْمُ السَّطْلِ إِنْ هَلَكَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ أُجْرَةُ الدُّخُولِ وَالسَّطْلِ وَحِفْظِ الثِّيَابِ فَعَلَى هَذَا لَا غُرْمَ فِي السَّطْلِ إِنْ هَلَكَ وَيَكُونُ فِي ضَمَانِ الثِّيَابِ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ وَهَكَذَا حُكْمُ الثِّيَابِ فِيمَا يَأْخُذُهُ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْخَبَّازُ إِذَا اسْتُؤْجِرَ لِخُبْزٍ فِي تَنُّورٍ أَوْ فُرْنٍ فَاحْتَرَقَ فَإِنْ نُسِبَ إِلَى الْعُدْوَانِ فِي عَمَلِهِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ يَظْهَرُ عُدْوَانُهُ فِيهَا.(7/427)
أَحَدُهَا: أَنْ يَخْبِزَ فِي شِدَّةِ حُمَّى التَّنُّورِ وَالْتِهَابِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخْبِزَ فِي حَالِ سُكُونِهِ وَبَرْدِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطَوِّلَ مَكْثَ الْخُبْزِ فِي التَّنُّورِ عَنْ حَدِّهِ فَيَلْزَمُهُ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عُدْوَانٌ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ مَعَ الْمَالِكِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْخَبَّازِ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْخَبَّازِ مَعَ غَيْرِهِ فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْخَبَّازِ مُنْفَرِدًا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لِمَا اخْتَارَهُ مِنْ سُقُوطِ الضَّمَانِ.
فَأَمَّا إِنِ اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ حَمَّالًا أَوْ مَلَّاحًا لِحَمْلِ مَتَاعٍ فَهَلَكَ فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ تعدٍ بِالْمَسِيرِ فِي مَسْلَكٍ مَخُوفٍ أَوْ زَمَانٍ مَخُوفٍ أَوْ تَقْصِيرٌ فِي آلَةٍ أَوْ أَعْوَانٌ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تعدٍ وَلَا تَقْصِيرٌ فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَعَهُ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَإِنْ حَمَلَ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ فَضَمَانُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ حَمَلَهُ مُنْفَرِدًا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ الْمَلَّاحُ مَلَّاحًا لِمَدِّ السَّفِينَةِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ فَإِنْ نُسِبَ إِلَى تعدٍ أَوْ تَفْرِيطٍ ضَمِنَ وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ حَاضِرًا لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ يَكُونُ مُنْفَرِدًا أَوْ مُشْتَرِكًا وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ نَظَائِرِهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَلَا أُجْرَةَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ وَإِنْ كَانَ بِأُجْرَةٍ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُوَكَّلًا فِي اقْتِضَاءِ دُيُونٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا قَبَضَهُ مِنْهَا لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي استؤجر عليه هو الاقضاء وَحْدَهُ وَالْقَبْضُ مَأْذُونٌ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ إِذَا اقْتَضَى وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُوَكَّلَ فِي بَيْعِ مَتَاعٍ فَيَكُونَ أَجِيرًا فَيِ الْبَيْعِ وَمَأْذُونًا لَهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ تَلِفَ الْمَتَاعُ فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُوَكَّلَ فِي شِرَاءِ مَتَاعٍ فَيَكُونَ أَجِيرًا فِي الشِّرَاءِ مَأْذُونًا لَهُ فِي قَبْضِ الْمَتَاعِ فَإِنْ تَلِفَ الْمَتَاعُ لَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ تلف الثمن فعلى قولين:
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنِ اكْتَرَى دَابَّةً فَضَرَبَهَا أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَمَاتَتْ فَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُ الْعَامَّةُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ فَعَلَ مَا لَا يَفْعَلُ الْعَامَّةُ ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّابَّةِ أَنْ يَضْرِبَهَا عِنْدَ تَقْصِيرِ الْمَسِيرِ ضَرْبَ استطلاح لَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عَادَةِ النَّاسِ وَكَذَلِكَ كَبْحُهَا بِاللِّجَامِ وَرَكْضُهَا بِالرِّجْلِ فَإِنْ فَعَلَ فَتَلِفَتْ لَمْ يَضْمَنْ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ عُرْفَ النَّاسِ فَيَضْمَنَ وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّابَّةِ أَنْ يَضْرِبَهَا مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ فِي ضَرْبِهَا فَإِنْ ضَرَبَهَا ضَمِنَ وَالدَّلِيلُ عَلَى إباحة(7/428)
ضَرْبِهَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: اضْرِبُوهَا عَلَى الْعِثَارِ وَلَا تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّفَارِ يَعْنِي أَنَّهَا فِي الْعِثَارِ سَاهِيَةٌ فَالضَّرْبُ يُوقِظُهَا وَفِي النِّفَارِ تَزْدَادُ بِالضَّرْبِ نُفُورًا فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ.
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَطَلَعَ بَعِيرِي فَاشْتَرَاهُ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ وَحَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَ يَسُوقُهُ وَأَنَا رَاكِبُهُ وَإِنَّهُ لَيَضْرِبُهُ بِالْعَصَا وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ مَعْهُودًا فَإِذَا لَمْ يُتَوَصَّلْ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْمَسِيرِ إِلَّا بِالضَّرْبِ فَذَلِكَ مُبَاحٌ. فَعَلَى هَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجِيرٍ وإنما هو مستأجر.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَأَمَّا الرُّوَّاضُ فَإِنَّ شَأْنَهُمُ اسْتِصْلَاحُ الدَّوَابِّ وَحَمْلُهَا على السير والحمل عليها بالضرب على أكثر مما يَفْعَلُ الرَّاكِبُ غِيرَهُمْ فَإِنْ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَرَاهُ الرُّوَّاضُ صَلَاحًا بِلَا إعناتٍ بينٍ لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ متعدٍ وَضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا يَسْتَبِيحُهُ الرَّائِضُ مِنْ ضَرْبِ الدَّابَّةِ فَهُوَ أَكْثَرُ مِمَّا يَسْتَبِيحُهُ الرَّاكِبُ لِأَنَّ الرَّائِضَ يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ ضَرْبٍ فِي تَذْلِيلِ الدَّابَّةِ وَاسْتِصْلَاحِهَا لَا يَحْتَاجُ الرَّاكِبُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الدَّابَّةَ عِنْدَ التَّذْلِيلِ أَنْفَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْمَسِيرِ.
فَلَوْ تَجَاوَزَ الرَّاكِبُ ضَرْبَ الرُّكَّابِ إِلَى ضَرْبِ الرَّائِضِ ضَمِنَ لِتَعَدِّيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّائِضُ فِيهِ مُتَعَدِّيًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ تَجَاوَزَ الرَّائِضُ عَادَةَ الرُّوَّاضِ صَارَ مُتَعَدِّيًا وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ عَادَةَ الرُّوَّاضِ صَارَ غَيْرَ متعدٍ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الضمان. فإذا رَاضَهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ رَاضَهَا فِي غَيْرِ يَدِهِ وَلَا مَعَهُ ضَمِنَ فَإِنْ رَاضَهَا مَعَ غَيْرِهِ فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلَانِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِهَا فَعَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَصَارَ الرَّاكِبُ بِخِلَافِ الرَّائِضِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْرُ الضَّرْبِ الَّذِي يَسْتَبِيحُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَالثَّانِي: الضَّمَانُ لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُسْتَأْجِرٌ لَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إِلَّا بِالْعُدْوَانِ وَالرَّائِضَ أَجِيرٌ وَفِي ضَمَانِهِ إِذَا كَانَ مُشْتَرِكًا قَوْلَانِ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) .
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالرَّاعِي إِذَا فَعَلَ مَا لِلرُّعَاةِ فَعْلُهُ مِمَّا فِيهِ صلاحٌ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ ضَمِنَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا يُفْضِي لِأَحَدِ قَوْلَيْهِ بِطَرْحِ الضَّمَانِ كَمَا وَصَفْتُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الرَّاعِي فِي انْفِرَادِهِ وَاشْتِرَاكِهِ وَأَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأُجَرَاءِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالتَّعَدِّي وَسُقُوطِهِ عَنْهُ بِالِانْفِرَادِ وَاخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الِاشْتِرَاكِ وَلَيْسَ تَفْرِيعُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِبْطَالًا لِلْقَوْلِ الْآخَرِ فَيَصِحُّ احْتِجَاجُ الْمُزَنِيِّ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أنه(7/429)
أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ فِي نَفْسِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ مِنْ مَذْهَبِهِ بَلْ قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَوْلَا خَوْفِي مِنْ خِيَانَةِ الْأُجَرَاءِ لَقَطَعْتُ الْقَوْلَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عنهم.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَكْرَى حَمْلَ مكيلةٍ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ فَهُوَ الْمَكِيلَةُ جائزٌ وَفِي الزَّائِدِ فاسدٌ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ لِتَصْوِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَحَمْلِ الْجَوَابِ عَلَيْهَا مُقَدِّمَةً وَهِيَ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ سَوَاءٌ.
فَإِذَا اسْتَأْجَرَ لِحَمْلِ صُبْرَةٍ إِلَى بَلَدٍ مُسَمًّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالصُّبْرَةُ مُشَاهَدَةٌ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَبْلَغَ كَيْلِهَا جَازَ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُكَهَا بِمِائَةٍ وَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِتَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَى أَجْزَاءِ الصُّبْرَةِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ جُمْلَةَ الْأُجْرَةِ مَعْلُومَةٌ وَلَوْ قَالَ قَدِ اسْتَأْجَرْتُكَ لِحَمْلِهَا كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ وَإِنْ جَهَلَا فِي الْحَالِ مَبْلَغَ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ أُجْرَةَ الْأَجْزَاءِ مَعْلُومَةٌ تُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُكَهَا كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَلَوْ قَالَ اسْتَأْجَرْتُكَ لِحَمْلِ هَذِهِ الصُّبْرَةَ قَفِيزًا مِنْهَا بِدِرْهَمٍ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ جَازَ أَيْضًا (لِأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ عَلَى الْجُمْلَةِ) وَذِكْرُ أُجْرَةِ قَفِيزٍ مِنْهَا تَسْعِيرٌ لِجَمِيعِهَا وَتَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ فِيهِمَا وَهَكَذَا لَوْ قَالَ مِثْلَ ذلك في البيع صح وَسَوَاءٌ أَخْرَجَ الزِّيَادَةَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَقَالَ عَلَيَّ أَنَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ أَوْ لَمْ يَقِلْ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ لَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهَا.
فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوِ اكْتَرَى حَمْلَ مَكِيلَةٍ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ فَهُوَ فِي الْمَكِيلَةِ جَائِزٌ وَفِي الزِّيَادَةِ فَاسِدٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَتِهَا. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ صُورُتُهَا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ لِحَمْلِ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ حَاضِرَةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَبِحَمْلِ مَا حَضَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ طَعَامٍ لَهُ غَائِبٍ بِحِسَابِ ذَلِكَ فَتَصِحَّ الْإِجَارَةُ فِي الْعَشَرَةِ الْأَقْفِزَةِ الْحَاضِرَةِ وَتَبْطُلُ فِي الزِّيَادَةِ الْغَائِبَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تَحْضُرُ أَوْ لَا تَحْضُرُ وَقَدْ تَقِلُّ وَتَكْثُرُ وَهَكَذَا فِي الْبَيْعِ أَيْضًا وَلَوْ أَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَقَالَ عَلَى أَنْ تحمل ما زاد بحاسبه بطلت الإجارة في الحاضر والغائب.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ صُورَتُهَا فِي صُبْرَةٍ حَاضِرَةٍ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ وَيَشُكُّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا فَيَسْتَأْجِرُهُ لِحَمْلِ الْعَشَرَةِ الأقفزة المعلومة بعشرة دارهم وَالزِّيَادَةُ الْمَشْكُوكُ فِيهَا بِحِسَابِ ذَلِكَ فَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ فِي الْعَشْرِ لِلْعِلْمِ بِهَا وَتَبْطُلُ فِي الزِّيَادَةِ لِلشَّكِّ فِيهَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُودِهِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ طَعَامٌ يَشُكُّ فِي بَقَائِهِ أَوْ أَكْلِ عِيَالِهِ لَهُ فَاسْتَأْجَرَ لِحَمْلِهِ كَانَ فَاسِدًا فَعَلَى هَذَا لَوْ جَعَلَ الْإِجَارَةَ فِي الزِّيَادَةِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا شَرَطًا فِي الْعَشَرَةِ الْمَعْلُومَةِ فَقَالَ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي الْجَمِيعِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ صُورَتُهَا فِي صُبْرَةٍ(7/430)
حَاضِرَةٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى عَشْرَةِ أَقْفِزَةٍ. فَيَسْتَأْجِرُ لِعَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِي الزِّيَادَةِ وَإِنْ صحت في العشر لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَمْ تُعْقَدْ عَلَى جَمِيعِ الصُّبْرَةِ وَإِنَّمَا عُقِدَتْ عَلَى عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْهَا وَأُضِيفَ إِلَى الْعَقْدِ زِيَادَةٌ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِيهَا.
وَلَوْ جَعَلَ الزِّيَادَةَ شَرَطًا فِي الْعَقْدِ فَقَالَ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ فِي الْجَمِيعِ وَلَهُ إِنْ حَمَلَ شَيْئًا أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ أَشْبَهُ الطُّرُقِ بِلَفْظِ الشَّافِعِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو حمل له مَكِيلَةً فَوُجِدَتْ زَائِدَةً فَلَهُ أَجْرُ مَا حَمَلَ من الزيادة وإن كان الجمال هُوَ الْكَيَّالَ فَلَا كِرَاءَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ وَلِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ فِي أَخْذِ الزِّيَادَةِ فِي مَوْضِعِهِ أَوْ يَضْمَنُ قَمْحَهُ بِبَلَدِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اكْتَرَى مِنْ جَمَّالٍ حِمْلَ عَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ مِنْ صُبْرَةِ طَعَامٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ بِدِينَارٍ فَحَمَلَهَا وَوَجَدَ قَدْرَهَا بِخِلَافِ مَا شَرَطَ فَفِي الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ زَائِدًا.
وَالثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ ذَلِكَ نَاقِصًا.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الطَّعَامُ زَائِدًا عَلَى الْعَشَرَةِ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً قَدْ تَكُونُ بَيْنَ الْمَكَايِيلِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا وَيَأْخُذُهَا رَبُّ الطَّعَامِ وَلَا أُجْرَةَ لِلْجَمَّالِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً لَا تَكُونُ بَيْنَ الْمَكَايِيلِ مِثْلَ أَنْ تُكَالَ الْعَشَرَةُ فَوُجِدَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ قَفِيزًا فَيُنْظَرُ فِي مِكْيَالِ مِثْلِهَا بِالْبَصْرَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ رَبَّ الطَّعَامِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَمَّالَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَجْنَبِيًّا فَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ رَبَّ الطَّعَامِ أَخَذَ طَعَامَهُ وَلَزِمَهُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ فِي الْعَشَرَةِ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الزِّيَادَةِ فَإِنْ تَلِفَ الْبَعِيرُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَمَّالِ أَوْ مَعَ رَبِّ الطَّعَامِ أَوْ مَعَ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كَانَ مَعَ رَبِّ الطَّعَامِ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَمَّالِ فَقَدْ تَفَرَّدَ بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَحْدَهَا فَلَمْ يَلْزَمْ جَمِيعُ الْقِيمَةِ لِحُدُوثِ التَّلَفِ مِنْ مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ وَفِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قوليه في الجلاد.(7/431)
ناب عن الجمال فهو كان لو كما بِيَدِ الْجَمَّالِ وَإِنْ نَابَ عَنْ رَبِّ الطَّعَامِ فهو كما لَوْ كَانَ بِيَدِ رَبِّ الطَّعَامِ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ هُوَ الْجَمَّالَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ وَيَأْخُذُ الْمُسَمَّى فِي الْعَشَرَةِ وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِقَدْرِ الْبَعِيرِ إِنْ تَلِفَ سَوَاءٌ كَانَ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ رَبِّ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ الْجَانِي عَلَى مَالِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْخَمْسَةِ الزائدة فلربها والجمال فيها أربعة أَحْوَالٍ:
حَالٌ يَتَّفِقَانِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ رَبُّهَا بالكوفة فَيَجُوزُ وَحَالٌ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَضْمِينِ الْجَمَّالِ لَهَا لِيَرُدَّ مِثْلَهَا بِالْبَصْرَةِ فَيَجُوزُ وَحَالٌ يَتَّفِقَانِ عَلَى ردها بعينها إلى الْبَصْرَةِ فَيَجُوزُ وَحَالٌ يَخْتَلِفَانِ فَيَدْعُو رَبُّهَا إِلَى رَدِّهَا بِعَيْنِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَيَدْعُو الْجَمَّالُ إِلَى تَضْمِينِهَا لَهُ لِيَرُدَّ مِثْلَهَا بِالْبَصْرَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الطَّعَامِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمَّالُ بِرَدِّهَا إِلَى الْبَصْرَةِ بِعَيْنِهَا كَالْغَاصِبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْجَمَّالِ وَيَأْخُذُ الزِّيَادَةَ مَضْمُونَةً لِيَرُدَّ مِثْلَهَا بِالْبَصْرَةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّ الطَّعَامِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا اتَّصَلَتْ فَارَقَتْ حُكْمَ الْغَصْبِ وَصَارَتْ كَالْغَرْسِ. فَإِنْ كَانَ الْمَحْمُولُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ لَزِمَ الْجَمَّالَ رَدُّ الزِّيَادَةِ بِعَيْنِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا فَلَوْ هَلَكَ الطَّعَامُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى رَبِّهِ ضَمِنَ الْجَمَّالُ الْخَمْسَةَ الزَّائِدَةَ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ الَّتِي لَا عُدْوَانَ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا صَارَ ضَامِنًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ لِاخْتِلَاطِ مَا تَعَدَّى فِيهِ بِغَيْرِهِ كَمَنْ تَعَدَّى فِي دِرْهَمٍ مِنْ دَرَاهِمَ عِنْدَهُ وَدَفَعَهُ ثُمَّ رَدَّ الدِّرْهَمَ منها واختلط بها صار ضامناً لجميعها قبل الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمَّا تَعَيَّنَ بِالتَّعَدِّي جَازَ إِذَا اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ أَنْ يَصِيرَ ضَامِنًا لِغَيْرِهِ لَا لِجَمِيعِهِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي تَعَدَّى فِيهَا مِنَ الطَّعَامِ مُشَاعَةٌ فِيمَا لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ فَلَمْ يَضْمَنْ إِلَّا السَّهْمَ الشَّائِعَ بِالتَّعَدِّي. فَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الزِّيَادَةِ فَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ رَبِّ الطَّعَامِ وَالْجَمَّالِ فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ مَنْ يَدُهُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ رَبِّ الطَّعَامِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْجَمَّالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَصِيرُ ضَامِنًا لِجَمِيعِ الطَّعَامِ إِنْ هَلَكَ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى رَبِّهِ. لِأَنَّهُ بِادِّعَاءِ الزِّيَادَةِ قَدْ صَارَ مُقِرًّا بِالتَّعَدِّي فِي خَلْطِهِمَا فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ مُسْتَأْجِرُ الدَّارِ وَمَالِكُهَا فِي قُمَاشِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْأَبْوَابِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْقُمَاشِ وَيَدَ الْمَالِكِ عَلَى الْأَبْوَابِ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ أَجْنَبِيًّا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كَيْلِ الطَّعَامِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَسَارَ مَعَهُ فَيَضْمَنُ الْجَمَّالُ مَا كَانَ يَضْمَنُهُ رَبُّ الطَّعَامِ لَوْ كَانَ هُوَ الْكَيَّالَ وَأُجْرَةَ مِثْلِ الزِّيَادَةِ وَقِيمَةَ الْبَعِيرِ إِنْ هَلَكَ. وَيَضْمَنُ لِرَبِّ الطَّعَامِ مَا كَانَ يَضْمَنُهُ الْجَمَّالُ لَوْ كَانَ هُوَ الْكَيَّالَ مِنْ عِوَضِ الزِّيَادَةِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهِ وَتَخْيِيرُهُ بَيْنَ قَبْضِهَا مِنْهُ أَوْ تَضْمِينِهِ إِيَّاهَا أَخْذُ مِثْلِهَا مِنْهُ فَإِنْ أَرَادَ رَدَّ عَيْنِهَا كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.(7/432)
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ كَيْلِ الطَّعَامِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلَمْ يَسِرْ مَعَهُ فَيَضْمَنُ لِرَبِّ الطَّعَامِ مَا كَانَ يَضْمَنُهُ لَوْ سَارَ مَعَهُ وَيَضْمَنُ لِلْجَمَّالِ أُجْرَةَ الزِّيَادَةِ وَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ مِنْ قِيمَةِ الْبَعِيرِ إِنْ تَلِفَ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكِيلَ الطَّعَامَ وَلَا يَحْمِلَهُ وَلَا يَسِيرَ مَعَهُ فَلَا يَضْمَنُ لِلْجَمَّالِ شَيْئًا لَا مِنْ أُجْرَةِ الزِّيَادَةِ وَلَا مِنْ قِيمَةِ الْبَعِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْجَمَلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ.
وَأَمَّا ضَمَانُ الطَّعَامِ لِرَبِّهِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ كَيْلِهِ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِرَبِّ الطَّعَامِ أَيْضًا لِأَنَّ يَدَ مَالِكِهِ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِفِعْلِهِ وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ ضَمِنَهُ بِالْغُرْمِ إِنْ تَلِفَ وَلَمْ يَضْمَنْهُ بِالرَّدِّ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي حَمَلَ مِنْهُ لِأَنَّ غَيْرَهُ حَمَلَهُ فَهَذَا حُكْمُ الزِّيَادَةِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا قَدْ يَكُونُ مِثْلَهُ بَيْنَ الْمَكَايِيلِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ وَيَأْخُذُهُ رَبُّهُ نَاقِصًا وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِغُرْمِ النَّقْصِ وَلَا بِأُجْرَتِهِ.
وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ كَثِيرًا مِثْلَ أَنْ يُوجَدَ الْعَشَرَةُ الْأَقْفِزَةُ سَبْعَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّهِ وَالْجَمَّالِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ.
فَأَمَّا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ لَهُ فَيُنْظَرُ فِي الْكَيَّالِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الجمال أو أجنبي فَأُجْرَةُ النُّقْصَانِ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْجَمَّالِ وَرَبُّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ فَتَنْفَسِخَ الْإِجَارَةُ فِي النقصان وبين أن يأخذه يحملها فَتَكُونَ الْإِجَارَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الْكَيَّالُ هُوَ رَبَّ الطَّعَامِ نُظِرَ فَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مُسَامَحَةَ الْجَمَّالِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْجَمَّالِ بِحَمْلِ النُّقْصَانِ وَلَا بِأُجْرَتِهِ. وَإِنْ قَالَ سَهَوْتُ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا شَاءَ مِنْ حَمْلِ النُّقْصَانِ أَوْ أُجْرَتِهِ. فَإِنِ اخْتَلَفَا فَادَّعَى الْجَمَّالُ أَنَّ رَبَّ الطَّعَامِ قَصَدَ بِالنُّقْصَانِ الْمُسَامَحَةَ وَادَّعَى رَبُّ الطَّعَامِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا فَالْقَوْلُ فِيهِ قول رب الطعام مع يمينه لأنه قَصْدَهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْقَسَمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَهْلَكَ ذَلِكَ بِتَعَدِّي الْجَمَّالِ أَوْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ فَإِنْ هَلَكَ بِتَعَدِّي الْجَمَّالِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ. وَلَهُ الْأُجْرَةُ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِيمَا هَلَكَ إِنْ كَانَ مُشْتَرِكًا وَإِنْ هَلَكَ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ نُظِرَ فِي الطَّعَامِ فَإِنْ كَانَ مَعَ رَبِّهِ أَوْ مَعَهُ وَمَعَ الْجَمَّالِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَمَّالِ ولا الْأُجْرَةُ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْجَمَّالِ وَحْدَهُ فَهُوَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي النُّقْصَانِ وَهَلْ لَهُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَلَيْسَ لِرَبِّ الطَّعَامِ أَنْ يُكَلِّفَهُ حَمْلُ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ قَدْ حَمَلَهُ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ(7/433)
نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ رَبِّهِ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَمْ يُحْمَلْ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ الْجَمَّالُ مِنَ الْحَمْلِ ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِأُجْرَةِ النُّقْصَانِ أَوْ بِحَمْلِهِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَبُّهُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ أَنْ حُمِلَ لِيَرْجِعَ عَلَى الْجَمَّالِ بِغُرْمِهِ وَيَدَّعِيَ الْجَمَّالُ أَنَّهُ نُقْصَانٌ لَمْ يُحْمَلْ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْجَمَّالِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يَدَّعِيهِ رَبُّ الطَّعَامِ مِنَ الْغُرْمِ وَلَا رُجُوعَ لِرَبِّ الطَّعَامِ عَلَيْهِ بِأُجْرَةٍ ولا حمل لأنه بادعاء التلف مقراً بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنَ الْحَمْلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمُعَلِّمُ الْكِتَابِ وَالْآدَمِيِّينَ مخالفٌ لِرَاعِي الْبَهَائِمِ وَصُنَّاعِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْآدَمِيِّينَ يُؤَدَّبُونَ بِالْكَلَامِ فَيَتَعَلَّمُونَ وَلَيْسَ هَكَذَا مُؤَدِّبُ الْبَهَائِمِ فَإِذَا ضَرَبَ أَحَدًا مِنَ الْآدَمِيِّينَ لِاسْتِصْلَاحِ الْمَضْرُوبِ أَوْ غَيْرِ اسْتِصْلَاحِهِ فَتَلَفَ كَانَتْ فِيهِ ديةٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِمُعَلِّمِ الصِّبْيَانِ أَنْ يُؤَدِّبَهُمْ بِالضَّرْبِ اسْتِصْلَاحًا لَهُمْ وَهَكَذَا الْأَبُ فِي وَلَدِهِ وَالزَّوْجُ عِنْدَ نُشُوزِ امْرَأَتِهِ فَإِنْ تَعَدَّى أَحَدُ هَؤُلَاءِ فِي الضَّرْبِ إِلَى أَنْ خَرَجَ فِيهِ إِلَى حَدِّ التَّلَفِ فَهُوَ قَاتِلٌ عَمْدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوْدُ إِلَّا الْوَالِدَ فِي وَلَدِهِ فَتَلْزَمُهُ الدِّيَةُ دُونَ الْقَوْدِ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ وَاحِدٌ الِاسْتِصْلَاحَ فَحَدَثَ مِنْهُ التَّلَفُ فَلَا قَوْدَ لِأَنَّهُ خَطَأٌ شِبْهُ الْعَمْدِ وَالضَّارِبُ ضَامِنٌ لِدِيَةِ الْمَضْرُوبِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا ضَرَبَ الْمُعَلِّمُ الصَّبِيَّ بِأَمْرِ أَبِيهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ ضَرَبَهُ الْأَبُ بِنَفْسِهِ ضَمِنَ وَقَالَ أبو يوسف ومحمد الأب لا يضمن والمعلم يضمن وهذا أربى مِنْ قَوْلِ أبي حنيفة وَإِنْ كَانَ كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَاسِدًا لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَضْمَنُ مَا حَدَثَ مِنَ اسْتِصْلَاحِ زَوْجَتِهِ بِالضَّرْبِ الْمُبَاحِ وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْمُعَلِّمُ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ ضَمِنَ مَنْ هُوَ مُبَاحُ الضَّرْبِ وَمَا حَدَثَ عَنِ الْمُبَاحِ صَارَ كَالرَّائِضِ لَا يَضْمَنُ الدَّابَّةَ إِذَا ضَرَبَهَا قِيلَ الْمُبَاحُ مِنْ ضَرْبِ الْآدَمِيِّينَ فِي اسْتِصْلَاحِهِمْ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى التَّلَفِ فَإِذَا أَفْضَى إِلَى التَّلَفِ صَارَ غَيْرَ مُبَاحٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَائِضِ الْبَهَائِمِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْآدَمِيِّينَ قَدْ يُؤَدَّبُونَ بِالْكَلَامِ فَكَانَ لَهُ إِلَى اسْتِصْلَاحِهِمْ سَبِيلٌ بِغَيْرِ الضَّرْبِ فَلِذَلِكَ لَزِمَ الضَّمَانُ إِنْ حَدَثَ مِنْ ضَرْبِهِمْ تَلَفٌ وَالْبَهَائِمُ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِصْلَاحِهَا إِلَّا بِالضَّرْبِ فَلَمْ يَجِدِ الرَّائِضُ إِلَى تَرْكِهِ سَبِيلًا فَلَمْ يَضْمَنْ.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والتعزيز لَيْسَ بِحَدٍّ يَجِبُ بِكُلِّ حالٍ وَقَدْ يَجُوزُ تَرْكُهُ وَلَا يَأْثَمُ مَنْ تَرَكَهُ قَدْ فَعَلَ غَيْرَ شيءٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ حَدٍّ فَلَمْ يَضْرِبْ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْغُلُولُ وَغَيْرُهُ وَلَمْ يُؤْتَ بِحَدٍّ قَطُّ فَعَفَاهُ وَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى امرأةٍ فِي شيءٍ بَلَغَهُ عَنْهَا فَأَسْقَطَتْ فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ مُؤَدِّبٌ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ كَانَ اجْتَهَدَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْتَهِدْ فَقَدْ غَشَّ عَلَيْكَ الدِّيَةَ فَقَالَ عُمَرُ عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَجْلِسَ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ فَبِهَذَا قُلْنَا خَطَأُ الْإِمَامِ عَلَى عَاقِلَتِهِ دُونَ بَيْتِ المال ".(7/434)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعْزِيرُ الْإِمَامِ لِمُسْتَحِقِّ التَّعْزِيرِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِنْ حَدَثَ عَنْهُ تَلَفٌ كَانَ مَضْمُونًا. وَقَالَ أبو حنيفة التَّعْزِيرُ وَاجِبٌ لَا يَضْمَنُ مَا حَدَثَ عَنْهُ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى فَلَمْ يَجُزِ اسْتِبَاحَةُ مَا حَظَرَ مِنْهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ. قَالَ وَلِأَنَّهُ انْتِهَاكُ عِرْضٍ مَحْظُورٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا الحدود وَدَلِيلُنَا عَفْوُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ كثيرٍ مِنْ مُسْتَحِقِّيهِ وَلَمْ يَعْفُ عَنْ وَاجِبٍ مِنَ الْحُدُودِ وَقَالَ حِينَ سُئِلَ الْعَفْوَ عَنْ حَدٍّ لَا عَفَا اللَّهُ عَنِّي إِنْ عَفَوْتُ فَمِمَّا عَفَا عَنْهُ مِنَ التَّعْزِيرِ أَنَّهُ أَتَى وَقَدْ حَظَرَ الْغُلُولَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ فَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَاتِ اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ فَمَنْ يَعْدِلُ وَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} (التوبة: 58) . وَتَنَازَعَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ شِرْبًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ.
فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ إِنَّهُ ابْنُ عَمَّتِكَ فَنَسَبَهُ إِلَى الْمَيْلِ وَالتَّحَيُّفِ فَلَمْ يُعَزِّرْهُ وَفِيهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) {النساء: 65) ، فَفَارَقَ بِعَفْوِهِ عَنِ التَّعْزِيرِ مَا حَظَرَهُ مِنَ الْعَفْوِ عَنِ الْحُدُودِ فَدَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي الْوُجُوبِ وَلِأَنَّهُ ضَرْبٌ غَيْرُ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ وَالزَّوْجِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ أَصَحُّ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حِمَى جَنْبِهِ مِنْ وُجُوبِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَبَاطِلٌ يضرب الزَّوْجِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَدِّ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ عَنْهُ وَجَبَ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّعْزِيرَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَحَدَثَ عَنْهُ التَّلَفُ فَالْإِمَامُ ضَامِنٌ لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة لَا ضَمَانَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ زَوَاجِرَ الْإِمَامِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ كَالْحُدُودِ. وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ إِلَى امرأةٍ فِي شيءٍ بَلَغَهُ عَنْهَا رَسُولًا فَأَسْقَطَتْ. فَقَالَ لِعُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا تَقُولَانِ؟ فَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ وَإِنَّمَا أَنْتَ مؤدبٌ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ إِنْ كَانَا مَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّا وَإِنْ كَانَا قَدِ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ عَلَيْكَ الدِّيَةُ فَقَالَ عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ يَعْنِي عَلَى قريشٍ لِأَنَّهُمْ عَاقِلَتُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَحَدٌ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَمُوِتُ فَأَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْئًا أَلْحَقَ قَتْلَهُ إلا شارب الخمر فإنه رَأْيٌ رَأَيْنَاهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَنْ مَاتَ مِنْهُ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ أَوْ قَالَ فِي بَيْتِ الْمَالِ يَعْنِي فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ الَّذِي رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ اخْتِيَارًا وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ تَعْزِيرٌ.
وَلِأَنَّهُ ضَرْبٌ غَيْرُ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى فِعْلٍ مُتَقَدِّمٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الضَّمَانُ عِنْدَ(7/435)
التَّلَفِ كَضَرْبِ الزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مَنْ دَفَعَ إِنْسَانًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى فِعْلٍ مُتَقَدِّمٍ فَأَمَّا الْحُدُودُ الْوَاجِبَةُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ضَمَانٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ اسْتِيفَائِهَا وَإِنَّ الضَّمَانَ يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهَا. فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الضَّمَانِ مِنَ التَّعْزِيرِ فَأَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ لِحَدِيثِ عُمَرَ وَقَوْلِهِ لِعَلِيٍّ عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى قَوْمِكَ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ.
وَالْقَوْلُ الثاني: إِنَّ الدِّيَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِيهِ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِنَ الضَّمَانِ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ فَعَلَى هَذَا فِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا. وَالثَّانِي: فِي مَالِهِ وَيَكُونُ تَأْوِيلُ فِعْلِ عُمَرَ فِي تَحْصِيلِ الدِّيَةِ لِعَاقِلَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ فَعَادَ إِلَى عَاقِلَتِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إِذَا عَدِمُوا جُعِلَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو اختلفا في ثوبٍ فقال ربه امرأتك أَنْ تُقَطِّعَهُ قَمِيصًا وَقَالَ الْخَيَّاطُ بَلْ قُبَاءً بَعْدَ أَنْ وَصَفَ قَوْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إِنَ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ لِاجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْقَطْعِ وَقَوْلَ أبي حنيفة إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إِلَى رجلٍ فَقَالَ رهن وقال ربه وديعة. ولعل من حجته أن يقول وإن اجتمعا على أنه أمره بالقطع فلم يعمل له عمله كما لو استأجره على حملٍ بإجارةٍ فقال قد حملته لم يكن ذلك له إلا بإقرار صاحبه وهذا أشبه القولين وكلاهما مدخول (قال المزني) رحمه الله القول ما شبه الشافعي بالحق لأنه لا خلاف أعلمه بينهم أن من أحدث حدثاً فيما لا يملكه أنه مأخوذ بحدثه وأن الدعوى لا تنفعه فالخياط مقر بأن الثوب لربه وأنه أحدث فيه حدثاً وادعى إذنه وإجارةً عليه فإن أقام بينةً على دعواه وإلا حلف صاحبه وضمنه ما أحدث في ثوبه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ الْخَيَّاطُ قَبَاءً ثُمَّ اخْتَلَفَ رَبُّهُ وَالْخَيَّاطُ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُكَ أَنْ تَقْطَعَهُ قَمِيصًا فَتَعَدَّيْتَ بِقَطْعِهِ قَبَاءً فَعَلَيْكَ الضَّمَانُ. وَقَالَ الْخَيَّاطُ بَلْ أَنْتَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْطَعَهُ قَبَاءً فَلَا ضَمَانَ عَلَيَّ وَلِيَ الْأُجْرَةُ فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ عُمِلَ عَلَيْهَا وَحُكِمَ بِمُوجِبِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَحَكَى مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ وَمَذْهَبُ أبي حنيفة إن القول قول رب الثوب.
قَالَ وَهَذَا أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ وَكِلَاهُمَا مَدْخُولٌ فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ ذَلِكَ إِلَى مُخْتَصَرِهِ هَذَا وَحَكَى فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ أَحْمَرَ فَقَالَ الصَّبَّاغُ بَلْ أَخْضَرَ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فَهَذَا نَقْلُ مَا حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مِنْ هَذَا الِاخْتِلَافِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك على ثلاثة طرق:(7/436)
أحدهما: وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة. وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَكِلَاهُمَا مَدْخُولٌ بِمَعْنًى مُحْتَمَلٍ لَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ لِمَا يَعْتَرِضُهُ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا قَوْلُ مُجْتَهِدٍ ثُمَّ مَالَ إِلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا لِقُوَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِأَصْحَابِنَا وَلَعَلَّهَا طَرِيقَةُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ عَلَى مَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ مِنْهُمَا هَذَانِ الْقَوْلَانِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ قَوْلَ أبي حنيفة وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فَقَدْ رَغِبَ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَدْخُولٌ ثُمَّ أَمْسَكَ عَنِ التَّصْرِيحِ بِمَذْهَبِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اكْتِفَاءً بِمَا تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي اخْتِلَافِ المتعاقدين ومن التخالف وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ الْأَجِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَيَّاطِ فَوَجْهُهُ فِي الْمَصَالِحِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْخَيَّاطَ يَعْمَلُ فِي الثَّوْبِ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَقْصِدُ خِلَافَهُ وَإِنْ جَرَى غَيْرُ ذَلِكَ فَنَادِرٌ فَصَارَتِ الْعَادَةُ مُصَدِّقَةً لِقَوْلِ الْخَيَّاطِ دُونَ رَبِّ الثَّوْبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَيَّاطَ لَمَّا صَدَّقَ عَلَى الْإِذْنِ الْمُبِيحِ لِتَصَرُّفِهِ صَارَ مُؤْتَمَنًا فَلَمْ يُقْبَلِ ادِّعَاءُ رَبِّ الثَّوْبِ عَلَيْهِ فِيمَا يُوجِبُ غُرْمًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى أَنْ لَا يَشَاءَ مُسْتَأْجِرٌ أَنْ يُثْبِتَ غُرْمًا وَيُسْقِطَ أَجْرًا إِلَّا ادِّعَاءً خِلَافًا وَهَذَا يُدْخِلُ عَلَى النَّاسِ ضَرَرًا فحسم، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ الْخَيَّاطُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَبَاءً وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ الْأُجْرَةُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّمَا قُبِلَ فِي سُقُوطِ الْغُرْمِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُ فِيهَا مُدَّعٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتِ الْخُيُوطُ لِرَبِّ الثَّوْبِ لَمْ يَكُنْ للخياط نقص الْخِيَاطَةِ لِأَنَّهَا آثَارٌ مُسْتَهْلَكَةٌ وَيَصِيرُ الثَّوْبُ قَبَاءً مَخِيطًا لِرَبِّهِ وَإِنْ كَانَتِ الْخُيُوطُ لِلْخَيَّاطِ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُهَا وَضَمَانُ مَا نَقَصَ مِنَ الثَّوْبِ بِأَخْذِهَا إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ قِيمَتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٍ إِنَّ لَهُ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَحْكُومًا بِقَبُولِ قَوْلِهِ فِي الْإِذْنِ فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى أَوْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ بِتَحْقِيقِ مَا حُكِمَ بِهِ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ.(7/437)
وَالثَّانِي: أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِئَلَّا يَصِيرَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْعَقْدِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا قِيلَ بِمَذْهَبِ أبي حنيفة إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ فَوَجْهُهُ فِي الْقِيَاسِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمَالِكِ كَمَا لَوْ قَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ وَدِيعَةً وَقَالَ صَاحِبُ الْيَدِ بَلْ دَفَعْتَهُ إِلَيَّ رَهْنًا فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَالِكِ كَذَلِكَ هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ رَبِّ الثَّوْبِ دُونَ الْخَيَّاطِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْإِذْنِ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْإِذْنِ كَالْوَكِيلِ إِذَا ادَّعَى عَلَى مُوَكِّلِهِ الْإِذْنَ فِي بَيْعِ دَارٍ فَأَنْكَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ كَذَلِكَ الْخَيَّاطُ وَرَبُّ الثَّوْبِ يَجِبُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى رَبِّ الثَّوْبِ فِي صِفَةِ الْإِذْنِ كَمَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي أَصْلِ الْإِذْنِ.
وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنِ اعْتَبَرَ الْمَصَالِحَ فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ رَبُّ الثَّوْبِ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ بِقَطْعِهِ قَبَاءً نَفْيًا لِمَا ادَّعَاهُ الْخَيَّاطُ وَلَا يَحْلِفُ لِإِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَمِيصِ بِخِلَافِ الْخَيَّاطِ الَّذِي يَكُونُ يَمِينُهُ لِإِثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبَاءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْلِفُ عَلَى مَا يُطَالِبُ بِهِ فَالْخَيَّاطُ يُطَالِبُ بِالْأُجْرَةِ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا ادَّعَى مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقَبَاءِ وَتَبِعَهُ سُقُوطُ الضَّمَانِ وَرَبُّ الثَّوْبِ يُطَالِبُ بِمَا جَنَاهُ الْخَيَّاطُ وَيُنْكِرُ الْأُجْرَةَ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يُطَالِبُ بِهِ مِنْ جِنَايَةِ الْخَيَّاطِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيَحْلِفُ الْخَيَّاطُ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَمِيصًا وَلَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَبَاءً وَيُحْكَمُ لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا وَإِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الثَّوْبِ حَلَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَبَاءً وَلَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ قَمِيصًا وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْجَامِعَةَ لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ التَّحَالُفِ الَّذِي يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ مُنْكِرًا وَمُدَّعِيًا فَاحْتَاجَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ النَّفْيِ لِمَا أَنْكَرَهُ وَالْإِثْبَاتِ لِمَا ادَّعَاهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ههنا فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ يَمِينَ الْخَيَّاطِ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَيَمِينَ رَبِّ الثَّوْبِ عَلَى النَّفْيِ وَحَلَفَ رَبُّ الثَّوْبِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا أُجْرَةَ لِلْخَيَّاطِ لِتَعَدِّيهِ فِي الْخِيَاطَةِ وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ الْخُيُوطِ إِنْ كَانَتْ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا إِنْ كَانَتْ لِرَبِّ الثَّوْبِ ثُمَّ عَلَى الْخَيَّاطِ الضَّمَانُ وَفِيمَا يَضْمَنُهُ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: يَضْمَنُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ قَبَاءً وَقَمِيصًا لِأَنَّ قَطْعَ الْقَمِيصِ مَأْذُونٌ فِيهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قَبَاءً مِثْلَ قِيمَتِهِ قَمِيصًا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَغْرَمُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ ثَوْبًا صَحِيحًا وَمَا بَيْنَ قِيمَتِهِ قَبَاءً لِأَنَّهُ بِالْعُدُولِ عَنِ الْقَمِيصِ مُتَعَدٍّ فِي ثَوْبٍ صَحِيحٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مَا صَلَحَ مِنَ الْقَبَاءِ لِلْقَمِيصِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَمَا لَمْ يَصْلُحْ لِلْقَمِيصِ ضَمِنَ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَمَقْطُوعًا لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالتَّعَدِّي.(7/438)
فَصْلٌ
: وَإِذَا قِيلَ بِالصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ فَوَجْهُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي صِفَةِ الْعَقْدِ مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَصْلِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَتَحَالَفَا كَالْبَيْعِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُنْكِرًا وَمُدَّعِيًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَا لَوِ اخْتَلَفَا وَالثَّوْبُ صَحِيحٌ فَقَالَ رَبُّهُ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَخِيطَهُ قَمِيصًا وَقَالَ الْخَيَّاطُ بَلِ اسْتَأْجَرْتَنِي لِأَخِيطَهُ قَبَاءً لَمْ يُعْمَلْ عَلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَتَحَالَفَا عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجَبَ إِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ قَطْعِ الثَّوْبِ أَنْ يَتَحَالَفَا عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ التَّحَالُفَ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى حَالِهِ أَوْجَبَ التَّحَالُفَ مَعَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِ فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهَلْ يَقْتَصِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى يَمِينٍ وَاحِدَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَوْ عَلَى يَمِينَيْنِ إِحْدَاهُمَا لِلنَّفْيِ وَالْأُخْرَى لِلْإِثْبَاتِ، عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإِذَا تَحَالَفَا سَقَطَ الْغُرْمُ عَنِ الْخَيَّاطِ بِيَمِينِهِ وَسَقَطَتِ الْأُجْرَةُ عَنْ رَبِّ الثَّوْبِ بِيَمِينِهِ. فَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ لِلْحَالِفِ منهما عَلَى النَّاكِلِ فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الْخَيَّاطَ قُضِيَ لَهُ بِالْأُجْرَةِ وَسُقُوطِ الْغُرْمِ وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ رَبَّ الثَّوْبِ قُضِيَ لَهُ بِالْغُرْمِ عَلَى مَا مَضَى وَسُقُوطِ الْأُجْرَةِ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِخَيَّاطٍ إِنْ كَانَ يَكْفِينِي هَذَا الثوب قميصاً فاقطعه فَلَمْ يَكْفِهِ كَانَ ضَامِنًا وَلَوْ قَالَ أَيَكْفِينِي هَذَا الثَّوْبُ قَمِيصًا فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ فَاقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ فَلَمْ يَكْفِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ الْأَوَّلَ شَرْطٌ وَالثَّانِيَ اسْتِفْهَامٌ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اكْتَرَى دَابَّةً فَحَبَسَهَا قَدْرَ الْمَسِيرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَبَسَهَا أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ ذَلِكَ ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا شَهْرًا أَوْ لِيَرْكَبَهَا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ فَأَمْسَكَهَا شَهْرًا أَوْ قَدْرَ مِسِيرِهِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْكَبَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنْ رُكُوبِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْإِجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَرْكَبْ وَضَمِنَ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ وَقَالَ أبو حنيفة لَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَكَهَا وَلَمْ يَرْكَبْهَا إِلَّا أَنْ يَرْكَبَهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى سَفَرِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُمْسِكُهَا مُقِيمًا فَتَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ.
وَهَذَا خَطَأٌ لِاتِّفَاقِنَا وَإِيَّاهُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَتَسَلَّمَهَا وَلَمْ يَسْكُنْهَا مُدَّةَ إِجَارَتِهِ فِيهَا فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَكَذَا الدَّابَّةُ لِأَنَّ السُّكْنَى وَالرُّكُوبَ حَقٌّ لَهُ وَلَيْسَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ قَدْ فَوَّتَ مَنَافِعَهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَسَوَاءٌ كَانَ بِرُكُوبٍ أَوْ غَيْرِ رُكُوبٍ فَلَوْ تَلِفَتِ الدَّابَّةُ بِيَدِهِ مَعَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ مَعَ الرُّكُوبِ الْمُضِرِّ لَمْ يَضْمَنْ فَلِأَنْ لَا يَضْمَنَ مَعَ الْكَفِّ عَنِ الرُّكُوبِ أَوْلَى. وَإِنْ أَمْسَكَ عَنْ رُكُوبِهَا لِعُذْرٍ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ يَعُودُ إِلَى الدَّابَّةِ.(7/439)
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ يَعُودُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ فِي الطَّرِيقِ. فَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ عَائِدًا إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِمَرَضٍ حَابِسٍ أَوْ أَمْرٍ عَائِقٍ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ عَجْزُهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ مَانِعًا مِنِ اسْتِيفَائِهِ بِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ عَائِدًا إِلَى الدَّابَّةِ لِمَرَضِهَا فَلَا أُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ. ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُدَّةٍ قَدِ انْقَضَتْ فَقَدْ بَطَلَتْ وَإِنْ كَانَتْ إِلَى مَسَافَةٍ مَعْلُومَةٍ فَهِيَ بِحَالِهَا.
وإن كان العذر في الطريق عن جَدْبٍ أَوْ خَوْفٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِعُذْرٍ فِي الدَّابَّةِ لَكَوْنِ الْعُذْرِ فِي الْحَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ مَمْنُوعًا مِنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ أَمْسَكَهَا مُدَّةَ شَهْرٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ إِمْسَاكُهَا لِعُذْرٍ مَانِعٍ مِنَ الرَّدِّ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الرَّقَبَةِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدَ الْمُدَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُمْسِكَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُؤَجِّرُ بِهَا فَيَمْنَعَهُ مِنْهَا فَهَذَا غَاصِبٌ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي مُدَّةِ حَبْسِهَا وَضَمَانُهَا إِنْ تَلِفَتْ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُطَالِبَهُ الْمُؤَجِّرُ بِهَا فَيَسْتَنْظِرَهُ فِيهَا فَيُنْظِرَهُ مُخْتَارًا فَهَذَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَعِيرِ يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ ضَمَانَ الْعَارِيَةِ وَلَا يَضْمَنُ الْأُجْرَةَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْذُلَهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَا يَقْبَلَهَا الْمُؤَجِّرُ فَهَذَا فِي حُكْمِ الْوَدِيعَةِ لَا يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ وَلَا الْأُجْرَةَ إِلَّا أَنْ يَرْكَبَهَا فَيَصِيرَ مُتَعَدِّيًا فَيَضْمَنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ رَدٌّ وَلَا مِنَ الْمُؤَجِّرِ طَلَبٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ نَقْضِ الْإِجَارَةِ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَ الْمُؤَجِّرِ وَبَيْنَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهَا بِنَفْسِهِ كَالْوَدِيعَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ وَلَا الْأُجْرَةَ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُؤَجِّرِ طَلَبٌ وَمِنَ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْعٌ وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْإِجَارَةِ مِنَ الرَّهْنِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَتَغَلَّبُ فِيهِ نَفْعُ الْمُرْتَهِنِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ رَدِّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَفِي الْإِجَارَةِ يَسْتَوِيَانِ فَاخْتَصَّ بِهَا الْمَالِكُ لِحَقِّ الْمِلْكِ. فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمُخَرَّجِ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنَ الرَّدِّ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّتِهِ غَاصِبًا يَضْمَنُ الرَّقَبَةَ وَالْأُجْرَةَ.
فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْمُؤَجِّرُ حَبَسْتَهَا مَانِعًا لَهَا فَعَلَيْكَ الْأُجْرَةُ وَالضَّمَانُ وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ بَلْ بَذَلْتُهَا لَكَ فَتَرَكْتَهَا عَلَيَّ فَلَا أُجْرَةَ عَلَيَّ وَلَا ضَمَانَ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ فِي ضَمَانِ الرَّقَبَةِ أَنَّهُ مَا حَبَسَهَا مَانِعًا وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَإِنْ قِيلَ بِالصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ حَقَّ الرَّدِّ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤَجِّرِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا كَالضَّمَانِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُمَا وَإِنْ قِيلَ بِالْوَجْهِ الْآخَرِ الْمُخَرَّجِ إِنَّ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ مَعَ يَمِينِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَأْدِيَةُ حَقِّهِ مِنَ الرَّدِّ.(7/440)
فَصْلٌ
: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى بَلَدٍ مُسَمًّى فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَرَادَ أَنْ يَسِيرَ عَلَيْهَا رَاكِبًا إِلَى مَنْزِلِهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ نُظِرَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا تَتَقَارَبُ أَقْطَارُهُ جَازَ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ كَمَا لَوْ نَزَلَ فِي طَرِيقِهِ مَنْزِلًا جَازَ أَنْ يَنْزِلَ حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَوَّلِ الْمَنْزِلِ وَآخِرِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا متباعداً الْأَقْطَارِ فَلَيْسَ لَهُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْبَلَدِ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ رُكُوبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَإِنْ نَزَلَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْبَلَدِ ثُمَّ قَالَ أَخْطَأْتُ مَنْزِلِي مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَكَانَ حَقًّا وَإِنْ نَزَلَ فَلَوْ شَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَرْكَبَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ مِنَ الْبَلَدِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَجِّرُ عَارِفًا بِمَكَانِ مَنْزِلِهِ مِنَ الْبَلَدِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَسَمَّاهُ لَهُ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَلَا سَمَّى لَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بعير إِلَى مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا أَنْ يَحُجَّ عَلَيْهِ وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحُجَّ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى مَكَّةَ أَنْ يَرْكَبَهُ إِلَى مِنًى.
ثُمَّ إِلَى عَرَفَةَ ثُمَّ يَرْكَبُهُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ ثُمَّ إِلَى مِنًى ثُمَّ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ مِنْ مَكَّةَ عَائِدًا إِلَى مِنًى لِيَبِيتَ بِهَا وَيَرْمِيَ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَهُ ذَاكَ لِأَنَّهُ مِنْ بَقَايَا الْحَجِّ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ ذَاكَ لِإِحْلَالِهِ مِنَ الْحَجِّ.
فصل
: وإذا تعادل رجلان على بعير استأجره فارتدف معهما ثالث ركب بعير أَمْرِهِمَا لَزِمَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ لِمَالِكِهِ دُونَ مُسْتَأْجِرَيْهِ وَلَزِمَهُ ضَمَانُ الْبَعِيرِ إِنْ تَلِفَ وَفِي قَدْرِ ما يلزمه من قيمته ثلاث مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: النِّصْفُ اعْتِبَارًا بِجِنْسِ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ.
وَالثَّانِي: الثُّلُثُ اعْتِبَارًا بِأَعْدَادِهِمْ دُونَ وَزْنِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا يُوزَنُونَ.
والثالث: يقدر ثِقَلِهِ مِنْ ثِقَلِ الْجَمَاعَةِ تَقْسِيطًا عَلَى وَزْنِهِمْ لِأَنَّ الرِّجَالَ لَا يُوزَنُونَ فِيمَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الثِّقَلُ وَالْخِفَّةُ وَالْحِمْلُ مِمَّا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهِ تَقْسِيطُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يُوزَنُوا وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا. وَلَوْ كَانَ الرَّاكِبَانِ أَذِنَا لِلرَّدِيفِ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُمَا ضَمِنُوا جَمِيعًا أَعْنِي المستأجرين والرديف البعير إن تَلِفَ لِتَعَدِّي الرَّاكِبَيْنِ بِالْإِذْنِ وَتَعَدِّي الرَّدِيفِ بِالرُّكُوبِ وَرَبُّ الْبَعِيرِ بِالْخِيَارِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى أَيِّهِمْ شَاءَ فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الرَّدِيفِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ رَجَعَ عَلَى أَحَدِ الرَّاكِبَيْنِ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ الْبَعِيرُ مَعَ الْجَمَّالِ فَفِي قَدْرِ مَا يَضْمَنُهُ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ كَالرَّدِيفِ وَيَرْجِعُ بِهَا الْغَارِمُ عَلَى الرَّدِيفِ بَعْدَ غُرْمِهَا وَإِنْ كَانَ الْبَعِيرُ مَعَهُمَا دُونَ الجمال(7/441)
ضَمِنَهُمَا جَمِيعَ الْقِيمَةِ فِي الْبَعِيرِ وَلَمْ يَرْجِعِ الْغَارِمُ مِنْهُمَا عَلَى الرَّدِيفِ بَعْدَ غُرْمِهَا إِلَّا بِقَدْرِ مَا كَانَ يَلْزَمُ الرَّدِيفُ مِنْهَا عَلَى الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ طَحَّانًا لِيَطْحَنَ لَهُ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ بِقَفِيزٍ مِنْهَا مَطْحُونًا لَمْ يجز لأنه جعل المعقودة عَلَيْهِ مَعْقُودًا بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ يَعْنِي بِهِ مَا اكْتَرَاهُ وَلَكِنْ لَوِ اسْتَأْجَرَ لِطَحْنِ تِسْعَةِ أَقْفِزَةٍ بِالْقَفِيزِ الْعَاشِرِ مِنْهَا جَازَ لِأَنَّهُ جَعَلَ تِسْعَةَ أَعْشَارِهِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَعَشَرَةً مَعْقُودًا بِهِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ إِلَى غَسَّالٍ فَغَسَلَهُ أَوْ إِلَى قَصَّارٍ فَقَصَّرَهُ أَوْ إِلَى خَيَّاطٍ فَخَاطَهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أُجْرَةً مَجْهُولَةً.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أُجْرَةً فَإِنْ ذَكَرَ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً كَقَوْلِهِ اغْسِلْ هَذَا الثَّوْبَ بِدِرْهَمٍ فَهَذِهِ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ وَلِلْغَسَّالِ الدِّرْهَمُ الْمُسَمَّى وَإِنْ ذَكَرَ لَهُ أُجْرَةً مَجْهُولَةً كَقَوْلِهِ اغْسِلْهُ لِأُرْضِيَكَ أَوْ لِأُقَاطِعَكَ أَوْ لِأُعْطِيَكَ مَا شِئْتَ فَهَذِهِ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ وَلِلْغَسَّالِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ عَمَلَهُ إِلَّا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ.
وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَهُ أُجْرَةً مَعْلُومَةً وَلَا مَجْهُولَةً. مِثْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ لِغَسَّالٍ فَيَغْسِلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أَجْرًا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ لِأَنَّهُ صَارَ بَاذِلًا لِعَمَلِهِ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ أَجْرًا كَمَا لَوْ بَذَلَ طَعَامَهُ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ ثَمَنًا وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَسْكِنِّي دَارَكَ شَهْرًا فَأَسْكَنَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ أَجْرًا فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ اغْسِلْ ثَوْبِي فَغَسَلَهُ وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ لَهُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِعَمَلِهِ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ كَالْغَاصِبِ وَهَذَا يَفْسَدُ بِبَاذِلِ الطَّعَامِ وَدَافَعِ الدَّارِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِنْ كَانَ رَبُّ الثَّوْبِ سَأَلَ الْغَسَّالَ مُبْتَدِئًا فَقَالَ اغْسِلْ ثَوْبِي هَذَا فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَ الْغَسَّالُ طَلَبَهُ مُبْتَدِئًا مِنْ رَبِّهِ فَقَالَ أَعْطِنِي ثَوْبَكَ لِأَغْسِلَهُ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ إِنْ كَانَ الْغَسَّالُ مَعْرُوفًا أَنْ يَغْسِلَ بِأَجْرٍ فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فَاسِدَةٌ بِبَاذِلِ الطَّعَامِ وَدَافِعِ الدَّارِ حَيْثُ لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَائِلًا أَوْ مَسْئُولًا وَمَعْرُوفًا بِالْمُعَاوَضَةِ أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا نَزَلَ رَجُلٌ فِي سَفِينَةِ مَلَّاحٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ فَحَمَلَهُ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّ الرَّاكِبَ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِمَنْفَعَةِ مَوْضِعِهِ مِنَ السَّفِينَةِ عَلَى مَالِكِهَا فَضَمِنَ الْأُجْرَةَ وَهَكَذَا الْجَمَّالُ. وَإِنْ نَزَلَ فِيهَا عَنْ إِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِوَضٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا أُجْرَةَ لَهُ وعلى قول(7/442)
الْمُزَنِيِّ لَهُ الْأُجْرَةُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ وَإِنِ ابْتَدَأَ الرَّاكِبُ فَسَأَلَهُ فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنِ ابْتَدَأَ الْمَلَّاحُ فَطَلَبَهُ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ إِنْ كَانَ الْمَلَّاحُ مَعْرُوفًا أَنْ يَحْمِلَ بِأُجْرَةٍ فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَهَكَذَا لَوْ دَخَلَ حَمَّامًا بِغَيْرِ إِذْنٍ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَإِنْ دَخَلَهُ بِإِذْنٍ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاخْتِلَافِ.
وَلَوْ أَخَذَ مِنْ سِقَاءٍ مَاءً مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ وَإِنْ أَخَذَهُ بِطَلَبٍ فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاخْتِلَافِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ فَأْتَزَرَ بِهِ ضَمِنَ لِتَعَدِّيهِ لِأَنَّ لِبْسَهُ أَصْوَنُ وَلَوْ أَلْقَاهُ عَلَى كَتِفِهِ مُرْتَدِيًا بِهِ لَمْ يَضْمَنْ بِالتَّعَدِّي لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ وَهَلْ يَضْمَنُ بِالتَّفْرِيطِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ لِأَنَّ لِبْسَهُ أَحْرَزُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ.
فَصْلٌ
: وَلَوِ اسْتَأْجَرَ قَمِيصًا لِيَلْبَسَهُ فَنَامَ فِيهِ نُظِرَ فَإِنْ نَامَ فِيهِ لَيْلًا فَقَدْ تَعَدَّى وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ وَإِنْ نَامَ فِيهِ نَهَارًا لِلْقَائِلَةِ لَمْ يَتَعَدَّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِنَوْمِ النَّاسِ لَيْلًا فِي لِبَاسِ نَهَارِهِمْ وَجَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي نَوْمِ نَهَارِهِمْ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا اسْتَأْجَرَ حَائِكًا لِيَنْسِجَ لَهُ ثُوبًا عَلَى أَنَّ أُجْرَتَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ كَانَتِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً لِلْجَهْلِ بِمَبْلَغِ قِيمَتِهِ فَإِنْ نَسَجَهُ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ عَمَلِهِ بِنَسْجِهِ لِأَنَّ فَسَادَ الْإِجَارَةِ يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِهَا فَلَوْ قَالَ إِنْ نَسَجْتَهُ فِي الْحَفِّ فَأُجْرَتُكَ دِينَارٌ وَإِنْ نَسَجْتَهُ فِي السَّاذَجِ فَأُجْرُتُكَ نِصْفُ دِينَارٍ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ تُعْقَدْ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَلَهُ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ نِسَاجَتِهِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ حَمَّامًا بِالنِّصْفِ مِنْ كَسْبِهِ فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ لِلْجَهْلِ بِهَا وَلَوْ أَجَّرَهُ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ صَحَّتْ وَكَانَتِ الْعِمَارَةُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ وَمُؤْنَةُ الْحَطَبِ وَالْوَقُودِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْعِمَارَةَ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ فَاخْتَصَّ بِهَا الْمُؤَجِّرُ فَلَوْ شُرِطَتْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَمُؤْنَةُ الْحَطَبِ وَالْوَقُودِ مِنْ حُقُوقِ الِاسْتِيفَاءِ فَاخْتَصَّ بِهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَوْ شُرِطَتْ عَلَى الْمُؤَجِّرِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ وَقَدْ يَشْتَرِطُ النَّاسُ فِي وَقْتِنَا هَذَا فِي إِجَارَةِ الْحَمَّامَاتِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ كُلٌّ مِنْهَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا احْتَاجَ الْحَمَّامُ إِلَيْهِ مِنْ بَيَاضٍ وَسَوَادٍ لِيَنْفَرِدَ الْمُؤَجِّرُ بِمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ هَدْمٍ وَبِنَاءٍ وَهَذَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَعْجِيلَ سَلَفٍ لَا يَقَعُ بِهِ الْقَضَاءُ لِيُرَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِنْ لَمْ يَسْتَأْجِرْ ثَانِيَةً وَهَذَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُؤَجِّرُ دُخُولَ الْحَمَّامِ هُوَ وَعِيَالُهُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ وَهَذَا يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ فَلَوْ صَحَّتِ الْإِجَارَةُ لِخِلُوِّهَا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَقَلَّ دُخُولُ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:(7/443)
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يَعُودُ إِلَى الْمُؤَجِّرِ مِنْ خَرَابِ الْحَمَّامِ وَشَعَثِهِ فَعَلَى الْمُؤَجِّرِ عِمَارَةُ مَا خَرَّبَ وَإِصْلَاحُ مَا تَشَعَّثَ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ جَبْرًا فَإِنْ بَادَرَ إِلَى عِمَارَتِهِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ لَمْ يُبَادِرْ إِلَى عِمَارَتِهِ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يَعُودُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ قِلَّةِ الْحَطَبِ وَالْمَاءِ وَمُرَاعَاةِ الْوَقُودِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُنْسَبَ ذَلِكَ إِلَى وَاحِدٍ منها فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِمَانِعٍ مِنْهُ لِفِتْنَةٍ حَادِثَةٍ أَوْ لِخَرَابِ النَّاحِيَةِ فَهَذَا عَيْبٌ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِرَغْبَةٍ عَنْهُ لِحُدُوثِ مَا هُوَ أَعْمَرُ مِنْهُ فَهَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ
فَصْلٌ
: إِجَارَةُ دُورِ مَكَّةَ جَائِزَةٌ وَمَنَعَ مَالِكٌ وأبو حنيفة مِنْ إِجَارَتِهَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَكَّةَ " إِنَّهَا سوائبٌ ".
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَلَا أُجُورُ بُيُوتِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ وَقَدْ قِيلَ لَهُ هَلَّا نَزَلْتَ فِي دُورِكَ فَقَالَ: " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ ربعٍ ".
فَلَوْلَا جَوَازُ بَيْعِهَا مَا أَمْضَى بَيْعَ عَقِيلٍ وَجَعَلَ مُشْتَرِيَهَا مِنْهُ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ وَقَدِ اشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَارًا بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يُنْكِرْ شِرَاءَهُ أَحَدٌ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ إِلَيْهِمْ دُورَهُمْ فَقَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) {الحشر: 28) فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ بَقَاءَ مِلْكِهِمْ عليها وإذا بما ذَكَرْنَا مِلْكَهَا وَجَوَازَ بَيْعِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إِجَارَتِهَا. لِأَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ مِنَ الدور جازت أجارته كسائر البلاد.
ولأنه لَوْ لَمْ تُمْلَكْ رِقَابُهَا وَيُسْتَحَقَّ سُكْنَاهَا لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْطِنَ بِهَا دَارًا وَلَاسْتَهَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا لِاسْتِوَائِهِمْ فِيهَا فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْخَبَرَيْنِ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْهُمَا فِي الْبُيُوعِ.
فَصْلٌ
: تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى كَتْبِ الْمَصَاحِفِ وَمَنَعَ مِنْهَا بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ مَا أُبِيحَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمَعْلُومَةِ جَازَ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنِ الْفَرْضُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ كَالْإِجَارَةِ عَلَى كَتْبِ الْفِقْهِ والحديث.(7/444)
فَصْلٌ
: إِجَارَةُ الْمُشَاعِ تَجُوزُ مِنَ الشَّرِيكِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ أبو حنيفة تَجُوزُ مِنَ الشَّرِيكِ وَلَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى رَهْنِ الْمُشَاعِ دَلِيلٌ عَلَى إِجَارَتِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ مَعَ الشَّرِيكِ صَحَّ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ.
فَصْلٌ
: فِي إِجَارَةِ الْحَفَائِرِ وَالْبِنَاءِ وهذا الفصل مشتمل على مسألتين:
أحدهما: فِي حَفَائِرِ الْآبَارِ وَالْأُخْرَى فِي الْبِنَاءِ. فَأَمَّا حَفَائِرُ الْآبَارِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْقِدَ الْإِجَارَةَ فِيهِ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِحَفْرِ بِئْرٍ عَلَى أَنَّ أُجْرَةَ كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمٌ فَيَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُمْقَ الْبِئْرِ وَدَوَرَهَا إِذَا أَشَارَ إِلَى الأرض التي يحفر فها وَتَكُونُ أُجْرَتُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ عَمَلِهِ كَأُجْرَتِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ قِسْطُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ دِرْهَمًا يَسْتَوِي فِيهِ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ فِي حَفْرِ أَعْلَى الْبِئْرِ وَالْيَوْمُ الْأَخِيرُ فِي حَفْرِ أَسْفَلِهَا وَهَذَا مِمَّا لَيْسَ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى حَفْرٍ مُقَدَّرٍ بِالْعَمَلِ دُونَ الْمُدَّةِ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي عُمْقٍ وَدَوَرٍ مَعْلُومَيْنِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَيَصِحُّ مَضْمُونًا وَمُعَيَّنًا وَقَالَ قَوْمٌ لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَاطِنَ الْأَرْضِ قَدْ يَخْتَلِفُ بِالصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ فَتَخْتَلِفُ أُجْرَتُهُ بِاخْتِلَافِ صَلَابَتِهِ وَرَخَاوَتِهِ.
وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بَعْدَ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ تُرَابِ الْبِئْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَصَارَ الْعَمَلُ بِهَذَيْنِ مَجْهُولًا فَبَطَلَتْ فِيهِ الْإِجَارَةُ حَتَّى تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى الْأَيَّامِ وَهَذَا قَوْلٌ شَذَّ قَائِلُهُ عَنِ الْكَافَّةِ وَخَالَفَ فِيهِ الْجَمَاعَةُ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَلَى أَعْمَالٍ مَعْلُومَةٍ كَعَقْدِهَا عَلَى أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ فِي الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الصَّنَائِعِ يَصِحُّ فِيهَا الْأَمْرَانِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَهَكَذَا حَفْرُ الْآبَارِ يَصِحُّ فِيهِ الْأَمْرَانِ فَإِنْ قُدِّرَ بِالْأَيَّامِ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى مَعْلُومٍ وَإِنْ قُدِّرَ بِالْعَمَلِ كَانَ عُمْقًا وَدَوَرًا فَهُوَ عَلَى مَعْلُومٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى السَّوَاءِ وَقَوْلُهُمْ إِنَّ بَاطِنَ الْأَرْضِ قَدْ يَخْتَلِفُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فَقَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بَاطِنَ الْأَرْضِ كُلَّ تُرْبَةٍ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَصَارَ بَاطِنُهَا بِمُشَاهَدَةِ الظَّاهِرِ مَعْلُومًا كَالْمُشَاهَدِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَمَا يَصِيرُ بَاطِنُ الصبرة من الطعام معلوماً بمشاهدة الظَّاهِرِ فَيَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا لِأَنَّهُ إِنْ وُجِدَ نَقْصًا وَتَغَيُّرًا فُسِخَ فَكَذَا الْإِجَارَةُ وَقَوْلُهُمْ إِنَّ التُّرَابَ مَجْهُولُ الْقَدْرِ فَخَطَأٌ لِأَنَّ مَا تَقَدَّرَ حَفْرُهُ بِالْعُمْقِ وَالدَّوَرِ تَقَدَّرَ تُرَابُهُ وَصَارَتِ الْبِئْرُ مِكْيَالًا لِتُرَابِهَا الْمَحْفُورِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ تُرَابَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَفْرِهِ فَانْهَارَ التُّرَابُ فِيهَا وَعَادَ إِلَيْهَا لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ ثَانِيَةً لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ مِنْ إِخْرَاجِ التُّرَابِ قَدْ وَفَّاهُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْإِجَارَةِ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ مَعْلُومَةِ الْعُمْقِ وَالدَّوَرِ بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ فَعَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يَحْفِرَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَ مَا سُمِّيَ لَهُ فَإِنْ حَفَرَ بَعْضَهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ ظَهَرَتْ صَخْرَةٌ(7/445)
لَا يَقْدِرُ عَلَى حَفْرِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أُجْرَتِهَا بِمَاذَا يَكُونُ مُعْتَبِرًا فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُقَوَّمُ أُجْرَةُ مَا حَفَرَ وَأُجْرَةُ مَا تَرَكَ ثُمَّ تقسط الأجر الْمُسَمَّاةُ عَلَيْهَا فَمَا قَابَلَ الْمَحْفُورَ فَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ وَلَا يَتَقَسَّطُ عَلَى عَدَدِ الْأَذْرُعِ لِاخْتِلَافِ مَا بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ.
مِثَالُهُ أَنْ يستأجر على حفر عشرة أَذْرُعٍ فِي دَوَرٍ مَعْلُومٍ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَيَحْفِرَ خَمْسَ أَذْرُعٍ وَيَتْرُكَ خَمْسًا فَيُقَالُ كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَحْفُورَةِ فَإِنْ قِيلَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ قِيلَ وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَتْرُوكَةِ فَإِنْ قِيلَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا جَمَعْتُهُمَا وَجَعَلْتُ كُلَّ خَمْسَةٍ سَهْمًا فَيَكُونُ جَمِيعُ السِّهَامِ أَرْبَعَةً ثُمَّ قَسَّمْتُ الثَّلَاثِينَ الَّتِي هِيَ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ يَخْرُجُ لِلسَّهْمِ الْوَاحِدِ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِالْخَمْسِ الْمَحْفُورَةِ.
فَإِنْ قِيلَ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَحْفُورَةِ عَشَرَةً وَتُسَاوِي أُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَتْرُوكَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا جَعَلْتُ كُلَّ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ سَهْمًا فَتَكُونُ السِّهَامُ كُلُّهَا خَمْسَةً ثُمَّ قَسَّمْتُ الثَّلَاثِينَ الْمُسَمَّاةَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يُخْرِجُ لِكُلِّ سَهْمٍ سِتَّةَ دَرَاهِمَ فَيَسْتَحِقُّ بِالْخَمْسَةِ الْمَحْفُورَةِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّ قِسْطَ مَا حُفِرَ سَهْمَانِ فَإِنْ قِيلَ تُسَاوِي أُجْرَةُ الخمس المحفورة عشرة دارهم وَأُجْرَةُ الْخَمْسِ الْمَتْرُوكَةِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا جَعَلْتُ كُلَّ عَشَرَةٍ سَهْمًا فَتَكُونُ السِّهَامُ كُلُّهَا سِتَّةً ثُمَّ قَسَّمْتُ الثَّلَاثِينَ عَلَيْهَا يُخْرِجُ لِكُلِّ سَهْمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ بِالْخَمْسَةِ الْمَحْفُورَةِ. لِأَنَّ قِسْطَ عَمَلِهِ سَهْمٌ وَاحِدٌ ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْمَبَرَّةِ فَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِهِ فيما لا يتساوى أَجْزَاؤُهُ.
فَصْلٌ
: وَقَالَ أبو حنيفة تَضَاعُفُ الْأَذْرُعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا بِعَدَدِ مَسَافَتِهَا ثَمَّ تُقَسَّمُ الْأُجْرَةُ عَلَى مَا اجْتَمَعَ مِنْهَا فَمَا خَرَجَ لِكُلِّ ذِرَاعٍ فَهُوَ قَدْرُ أُجْرِتِهِ مِثَالُهُ: أَنْ يَسْتَأْجِرَ على حفر خمسة أَذْرُعٍ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الْأُولَى ذِرَاعًا وَاحِدًا لِأَنَّ نَقْلَ تُرَابِهَا مِنْ ذِرَاعٍ وَاحِدٍ وَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الثَّانِيَةَ ذِرَاعَيْنِ لِأَنَّ نَقْلَ تُرَابِهَا مِنْ ذِرَاعَيْنِ وَيَجْعَلَ الذِّرَاعَ الثَّالِثَةَ مِنْ ثلاثة أذرع لأن نقل ترابها من ثلاثة أذرع ويجعل الذراع الرابعة أربعة أذرع لأن نقل ترابها من أربعة أذرع ويجعل الذراع الخامسة خمسة أذرع لأن نقل ترابها من خمسة أَذْرُعٍ ثُمَّ يَجْعَلَ ذِرَاعًا وَذِرَاعَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا وَخَمْسًا فَتَكُونُ خَمْسَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا وَهِيَ مَسَافَةُ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذْرُعِ الْخَمْسِ ثُمَّ يُقَسِّمُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ عَلَيْهَا وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا يَكُونُ قِسْطُ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا فَإِنْ حَفَرَ ذِرَاعًا وَاحِدًا اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا وَاحِدًا.
ثُمَّ إِنْ حَفَرَ ذِرَاعَيْنِ اسْتَحَقَّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الأولى ذراع والثانية ذراعان صارا أثلاثاً وَإِنْ حَفَرَ ثَلَاثَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ سِتَّةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْأُولَى ذِرَاعٌ وَالثَّانِيَةَ ذِرَاعَانِ وَالثَّالِثَةَ ثَلَاثٌ صَارَ الْجَمِيعُ سِتًّا فَإِنْ حَفَرَ أَرْبَعَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْأُولَى ذِرَاعٌ وَالثَّانِيَةَ ذِرَاعَانِ وَالثَّالِثَةَ ثَلَاثٌ وَالرَّابِعَةَ أَرْبَعٌ صَارَ الْجَمِيعُ عَشْرًا فَهَذَا مَذْهَبُ أبي حنيفة لِأَنَّ مَسَافَةَ الْأَذْرُعِ إِذَا ضُوعِفَتْ مُتَسَاوِيَةً فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ عَلَى مَبْلَغِ عَدَدِهَا مُقَسَّطَةً.(7/446)
فَصْلٌ
: وَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِي أَصْحَابِنَا فِي الْفِقْهِ وَمُجَوِّدِيهِمْ فِي الْحِسَابِ بِمَذْهَبٍ تَوَسَّطَ فِيهِ بَيْنَ مَذْهَبِي الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة لِأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ كَانَ فِي الْقِيَاسِ مُطَّرِدًا وَعَلَى الْأُصُولِ مُسْتَمِرًّا فَإِنَّ فِيهِ اطِّرَاحًا لِعَمَلٍ يَصِحُّ فِيهِ وَيَنْحَصِرُ مِنْهُ وَمَذْهَبَ أبي حنيفة وَإِنْ كَانَ فِي الْعَمَلِ مُطَّرِدًا وَفِي الْحِسَابِ صَحِيحًا فَإِنَّ فِيهِ حُكْمًا يَفْسُدُ فِي الْقِيَاسِ وَيَبْطُلُ عَلَى الْأُصُولِ وَذَلِكَ أَنَّ حَفْرَ الْآبَارِ يَشْتَمِلُ عَلَى حَفْرٍ وَنَقْلِ تُرَابٍ فَالْحَفْرُ يَتَمَاثَلُ فِي الْأَذْرُعِ كُلِّهَا وَلَيْسَ فِي حَفْرِ الذِّرَاعِ الْأَخِيرِ عَمَلٌ يَزِيدُ عَلَى حَفْرِ الذِّرَاعِ الْأُولَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَ أُجُورِهَا لِتَسَاوِي الْعَمَلِ فِيهَا فَصَارَ مَذْهَبُ أبي حنيفة مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَاسِدًا فَأَمَّا نَقْلُ التُّرَابِ الْمَحْفُورِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَسَافَةِ وَيَتَضَاعَفُ بِأَعْدَادِ الْأَذْرُعِ لِأَنَّ مَسَافَةَ الذِّرَاعِ الثَّانِيَةِ مِثْلَا مَسَافَةِ الذِّرَاعِ الْأُولَى وَمَسَافَةَ الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهَا وَمَسَافَةَ الرَّابِعَةِ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهَا وَمَسَافَةَ الْعَاشِرَةِ عَشَرَةُ أَمْثَالِهَا وَمَسَافَةَ النَّقْلِ مَحْفُورَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَذْرُعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ تَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا وَتَحْقِيقِ الْمُسْتَحَقِّ بِهَا إِلَى تَقْوِيمٍ مَعْمُولٍ أَوْ مَتْرُوكٍ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي تَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِمَا فَصَارَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اطِّرَاحٌ لِعَمَلٍ هُوَ أَصَحُّ تَحْقِيقًا وَأَخْصَرُ تَقْسِيطًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تُقَسَّطَ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عَلَى الْحَفْرِ وَالنَّقْلِ فَمَا قَابَلَ الْحَفْرَ قُسِّمَ عَلَى أَعْدَادِ الْأَذْرُعِ مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي جَمِيعِهَا مُتَمَاثِلٌ وَمَا قَابَلَ النَّقْلَ قِسْمَةٌ عَلَى مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَسَافَةُ الْأَذْرُعِ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا مُتَضَاعِفٌ مُتَفَاضِلٌ.
فَإِنْ قِيلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَضَّلَ بَيْنَ أُجْرَةِ الْحَفْرِ وَالنَّقْلِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا تَبَعٌ لِلْآخَرِ قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ النَّقْلِ تَبَعًا لِلْحَفْرِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْحَفْرِ تَبَعًا لِلنَّقْلِ وَإِذَا لَمْ يَتَمَيَّزِ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا كَانَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعَقْدِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْحَفْرِ أَجِيرًا لَا يَنْقُلُ وعلى النقل أجراً لَا يَحْفِرُ صَحَّ فَلَمْ يَكُنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ بِمَانِعٍ مِنْ تَمَيُّزِهَا فِي أَحْكَامٍ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ الْعَمَلُ فَلِلْعَمَلِ عَلَيْهِ مُقَدِّمَةٌ وَهُوَ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مَبْلَغَ مَسَافَةِ نَقْلِ التُّرَابِ مِنْ عَشْرِ أَذْرُعٍ وَشَقَّ عَلَيْكَ أَنْ تَجْمَعَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ عَلَى الْوَلَاءِ فَبَابُهُ الْمُخْتَصَرُ أَنْ تَزِيدَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَاحِدًا يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي نِصْفِ الْعَشَرَةِ تَكُونُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ وَأَنْ تَضْرِبَ نِصْفَ أَحَدَ عَشَرَ فِي عَشَرَةٍ تَكُنْ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ وَهُوَ مَبْلَغُ الْعَدَدِ الْمَجْمُوعِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَشَرَةٍ عَلَى الْوَلَاءِ.
وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ شُجَاعُ بْنُ نَصْرٍ أَنَّ الْوَاحِدَ وَالْعَشَرَةَ يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ وَالِاثْنَانِ وَالتِّسْعَةُ يَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ وَالثَّلَاثَةُ وَالثَّمَانِيَةُ أَحَدَ عَشَرَ وَالْأَرْبَعَةُ وَالسَّبْعَةُ أَحَدَ عَشَرَ وَالْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ أَحَدَ عَشَرٍ فَتَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي مَعَكَ مِنْ جُمْلَةِ أَعْدَادِ الْعَشْرِ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَحَدَ عَشَرَ فَلِذَلِكَ ضَرَبْتَ فِي نِصْفِ الْعَشَرَةِ وَهُوَ خَمْسَةٌ فِي أَحَدَ عَشَرَ فَعَلَى هَذَا إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَجْمَعَ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى الْوَلَاءِ فَزِدِ الْوَاحِدَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ.(7/447)
ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي نِصْفِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ وَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ نِصْفَ سِتَّةَ عَشَرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ صِرْنَا إِلَى الْعَمَلِ فَإِذَا قِيلَ رَجُلٌ اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ عُمْقُهَا خَمْسُ أَذْرُعٍ فِي دَوَرٍ مَعْلُومٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ يُقَالُ كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْحَفْرِ فَإِذَا قِيلَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ قِيلَ وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ النَّقْلِ فَإِذَا قِيلَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُحَابَاةٌ فَاجْعَلْ أُجْرَةَ الْحَفْرِ الَّتِي هِيَ خَمْسَةٌ مَقْسُومَةً عَلَى عَدَدِ الْأَذْرُعِ الْخَمْسِ بِالسَّوِيَّةِ.
لِأَنَّهُ لَيْسَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْحَفْرِ فَضْلٌ فَيَكُونُ قِسْطُ كُلِّ ذِرَاعٍ بِالْحَفْرِ وَحْدَهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا ثُمَّ اجْعَلْ أُجْرَةَ النَّقْلِ الَّتِي هِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا مَقْسُومَةً عَلَى مَبْلَغِ مَسَافَةِ الْأَذْرُعِ الْخَمْسِ وَهُوَ خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا لِأَنَّهُ ذِرَاعٌ وَذِرَاعَانِ وَثَلَاثٌ وَأَرْبَعٌ وَخَمْسٌ وَإِنْ شئت أن تعمله بالباب المختصر زدت على الْخَمْسَةَ وَاحِدًا يَكُنْ سِتَّةً ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي نِصْفِ الْخَمْسَةِ يَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ ضَرَبْتَ نِصْفَ السِّتَّةِ فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ.
وهي مبلغ مسافة النقل مِنْ خَمْسِ أَذْرُعٍ فَإِذَا قُسِّمَتْ عَلَيْهَا قُسِّطَتْ مِنَ الْأُجْرَةِ وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا كَانَ أُجْرَةُ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا فَإِذَا حَفَرَ وَنَقَلَ ذِرَاعًا وَاحِدًا اسْتَحَقَّ دِرْهَمَيْنِ لِأَنَّ لَهُ بِالْحَفْرِ درهماً وبالنقل درهماً ولو حفر ونقل ذارعين اسْتَحَقَّ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ لَهُ بِحَفْرِ ذِرَاعَيْنِ دِرْهَمَيْنِ وَبِنَقْلِ ذِرَاعَيْنِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْأُولَى ذِرَاعٌ وَالثَّانِيَةَ ذِرَاعَانِ وَلَوْ حَفَرَ وَنَقَلَ ثَلَاثَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ لَهُ بِحَفْرِ الْأَذْرُعِ الثَّلَاثِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَلَهُ بِالنَّقْلِ مِنْ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ مَسَافَةَ سِتِّ أَذْرُعٍ سِتَّةُ دَرَاهِمَ.
وَلَوْ حَفَرَ وَنَقَلَ أَرْبَعَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ أَرْبَعَةَ عشر درهماً لأن بحفر الأذرع الأربعة أربعة دراهم وله بالنقل من أربعة أذرع مسافة عشرة أَذْرُعٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَلَوِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ عُمْقُهَا (خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا) فَيَ دَوَرٍ معلوم بمائة وخمسين درهماً قبل كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ الْحَفْرِ بِلَا نَقْلٍ فَإِنْ قِيلَ عِشْرُونَ دِرْهَمًا قِيلَ وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ النَّقْلِ بِلَا حَفْرٍ فَإِنْ قِيلَ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا فَفِي الْأُجْرَةِ مُحَابَاةٌ فَاجْمَعْ أُجْرَةَ الْحَفْرِ وَالنَّقْلِ تَكُنْ مِائَةَ دِرْهَمٍ.
وَاجْعَلْ كُلَّ عِشْرِينَ سَهْمًا تَكُنْ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ سَهْمٌ مِنْهَا لِلْحَفْرِ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِلنَّقْلِ ثُمَّ اقْسِمِ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ يَكُنْ قِسْطُ كُلِّ سَهْمٍ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَتَجْعَلُ أُجْرَةَ الحفر وحده ثلاثون دِرْهَمًا لِأَنَّ قِسْطَ الْحَفْرِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَتَحْصُلُ أجرة النقل وحده مائة وعشرون دِرْهَمًا لِأَنَّ قِسْطَ النَّقْلِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ثُمَّ اقْسِمْ أُجْرَةَ الْحَفْرِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ دِرْهَمًا عَلَى أعداد الأذرع وهي خمسة عشر ذِرَاعًا تَكُنْ أُجْرَةُ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمَيْنِ.
وَاقْسِمْ أُجْرَةَ النَّقْلِ وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا عَلَى مَسَافَةِ خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا وَهِيَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ ذراعاً لأنك إذا زدت على خمسة عشر واحد ثُمَّ ضَرَبْتَ نِصْفَهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ كَانَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ أُجْرَةُ نَقْلِ كُلِّ ذِرَاعٍ وَاحِدَةٍ دِرْهَمًا وَاحِدًا فَإِذَا حَفَرَ وَنَقَلَ خَمْسَ أذرع واستحق بالحفر وحده عشر دَرَاهِمَ كَانَ لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمَانِ وَاسْتَحَقَّ بالنقل وحده(7/448)
خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا لِأَنَّ مَسَافَةَ خَمْسِ أَذْرُعٍ خمسة عشر ذِرَاعًا لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمٌ فَيَصِيرُ جَمِيعَ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْحَفْرِ وَالنَّقْلِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا.
وَلَوْ حَفَرَ وَنَقَلَ عَشْرَ أَذْرُعٍ اسْتَحَقَّ بِالْحَفْرِ وَحْدَهُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّ لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمَيْنِ وَاسْتَحَقَّ بِالنَّقْلِ وَحْدَهُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا لِأَنَّ مَسَافَةَ عَشْرِ أَذْرُعٍ خَمْسٌ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا لَهُ بِكُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمٌ فَيَصِيرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْحَفْرِ وَالنَّقْلِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَالْإِجَارَةُ عَلَيْهِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى الْأَيَّامِ فَيَصِحُّ فَيُسَاوِي أُجُورَ الْأَيَّامِ مِمَّا سُمِّيَ لَهَا مِنْ سُفْلِ الْبِنَاءِ وَعُلُوِّهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً عَلَى بِنَاءٍ مُقَدَّرٍ بِالْعَمَلِ فَتَصِحُّ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْعَقْدِ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُلُوِّ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ آلَةُ الْبِنَاءِ مَوْصُوفَةً مِنْ حَجَرٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ لَبَنٍ بِجِصٍّ وَطِينٍ. فَإِنْ أَغْفَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِاخْتِلَافِ الْعَمَلِ بِاخْتِلَافِهِ وَلَوْ شَرَطَ الْآلَةَ عَلَى الْأَجِيرِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ وَصَفَهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ عَقْدَيْنِ مِنْ إِجَارَةٍ وَبَيْعٍ فِي عَقْدٍ؛ فَإِذَا عَقَدَ الْإِجَارَةَ بِاجْتِمَاعِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ صَحَّتْ بِوِفَاقِ مَنْ خَالَفَ فِي إِجَارَةِ الْآبَارِ وَيُؤْخَذُ الْأَجِيرُ بِإِتْمَامِ الْبِنَاءِ؛ فَإِنْ بَنَى بَعْضَهُ ثُمَّ قَطَعَهُ عَنْ إِتْمَامِهِ قَاطِعٌ وَأَرَادَ أُجْرَةَ مَا عَمِلَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبِنَاءِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْمِسَاحَةِ فِي عُلُوِّهِ وَسُفْلِهِ كَالْمَنَارِ وَالسَّوَارِي. فَيَكُونُ حُكْمُهَا كَحُكْمِ الْآبَارِ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفَ الْمِسَاحَةِ كَالْمَخْرُوطَاتِ فَيَقُومُ الْمَعْمُولُ والمتروك ثم تسقط الْأُجْرَةُ عَلَيْهِمَا فَمَا قَابَلَ الْمَعْمُولَ مِنْهَا فَهُوَ حَقُّ الْأَجِيرِ فِيمَا عَمِلَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.(7/449)
مُخْتَصَرٌ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ وَكِرَاءِ الْأَرْضِ وَالشَّرِكَةِ فِي الزَّرْعِ وَمَا دَخَلَ فِيهِ من كِتَابِ اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ومسائل سمعتها منه لفظاً
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بِأَسًا حَتَى أَخْبَرَنَا رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ فَتَرَكْنَاهَا لِقَوْلِ رَافِعٍ (قَالَ الشافعي) رحمه الله وَالْمُخَابَرَةُ اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نَهْيِهِ عَنِ الْمُخَابَرَةِ عَلَى أَنْ لَا تَجُوزَ الْمُزَارَعَةُ عَلَى الثُّلُثِ وَلَا عَلَى الرُّبُعِ وَلَا عَلَى جزءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ لِأَنَّهُ مجهولٌ وَلَا يَجُوزُ الْكِرَاءُ إِلَّا مَعْلُومًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، الْمُخَابَرَةُ هِيَ الْمُزَارِعَةُ وَهِيَ مَا وَصَفَهَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهَا اسْتِكْرَاءُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالْمُخَابَرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ قُتَيْبَةَ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُعَامَلَةِ خَيْبَرَ حِينَ أَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ خَابِرُوهُمْ أَيْ عَامِلُوهُمْ عَلَى خَيْبَرَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخُبْرَةِ وَهِيَ النَّصِيبُ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الْوَرْدِ:
(إِذَا مَا جَعَلْتِ الشَّاةَ لِلْقَوْمِ خُبْرَةً ... فَشَأْنُكِ أَنِّي ذَاهِبٌ لِشُؤُونِ)
والخبرة: أن يشتري الشاة جماعة قيقتسمونها.
وَإِذَا كَانَتِ الْمُخَابَرَةُ هِيَ اسْتِكْرَاءَ الْأَرْضِ لِزِرَاعَتِهَا بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ، ضَرْبٌ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِهِ، وَضَرْبٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَى فَسَادِهِ، فَهُوَ أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ زَرْعِ الْأَرْضِ مُفْرِدَةً عَنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَدْ زَارَعْتُكَ عَلَى هَذِهِ الأرض على أن ما زرعت من هرن كان لي وما زرعت من أفل كان لك، أو على مَا نَبَتَ مِنَ الْمَاذِيَانَاتِ كَانَ لِي، وَمَا نَبَتَ عَلَى السَّوَاقِي وَالْجَدَاوِلِ كَانَ لَكَ، أَوْ عَلَى أَنَّ مَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ فَهُوَ لِي وَمَا سُقِيَ بِالرِّشَاءِ فَهُوَ لَكَ، فَهَذِهِ مُزَارِعَةٌ بَاطِلَةٌ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى فَسَادِهَا لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِمَا عَلَى السَّوَاقِي وَمَا سُقِيَ بِالْمَاءِ مِنْهَا فَنَهَانَا رَسُولُ اللِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن(7/450)
ذَلِكَ وَأَمَرَنَا أَنْ نُكْرِيَهَا بذهبٍ أَوْ ورقٍ، وَلِأَنَّ تَمَيُّزَ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْنَعُ من إلحاقه بالمساقاة المشاعة، ويخرج بالجهالة عَنْ حُكْمِ الْإِجَارَةِ الْجَائِزَةِ فَصَارَ بَاطِلًا.
فَصْلٌ
: وأما الضرب الذي اختلف الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ يُزَارِعَهُ عَلَى أَرْضِهِ لِيَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى الْأَجِيرِ وَالْأَرْضُ لِرَبِّهَا وَالْبَذْرُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ شَرْطِهِمَا عَلَى أَنَّ مَا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ زَرْعٍ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَهْمٍ مَعْلُومٍ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ لِيَأْخُذَ الزَّارِعُ سَهْمَهُ بِعَمَلِهِ، وَيَأْخُذَ رَبُّ الْأَرْضِ سَهْمَهُ بِأَرْضِهِ فَهَذِهِ هِيَ الْمُخَابَرَةُ وَالْمُزَارِعَةُ الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَذْرَ عَلَى الزَّارِعِ أَوْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وأبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا جَائِزَةٌ سَوَاءٌ شَرَطَ الْبَذْرَ عَلَى الزَّارِعِ أو على رب الأرض، وبه قال في الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَمِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وأبو يوسف ومحمد.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ الْبَذْرَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الزَّارِعِ جَازَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ.
وَاسْتَدَلَّ من أجاز ذلك بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثمرٍ وزرعٍ. وَرَوَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ قُلْتُ لِطَاوُسٍ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوْ تَرَكْتَ الْمُخَابَرَةَ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْهَا فَقَالَ: يَا عَمْرُو أَخْبَرَنِي أَعْلَمُهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا وَلَكِنْ قَالَ: لَأَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خيرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا. وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ " رَحِمَ اللَّهُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ أَنَا أَعْلَمُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْهُ " - يَعْنِي مَا رَوَاهُ عَنِ الْمُخَابَرَةِ - قَالَ زَيْدٌ: " آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَا قَدِ اقْتَتَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمَا فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ ".
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ عَلَى الْأُصُولِ بِبَعْضِ نَمَائِهَا يَجُوزُ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى النَّخْلِ وَالْمُضَارَبَةِ بِالْمَالِ، وَكَذَلِكَ الْمُخَابَرَةُ عَلَى الْأَرْضِ. قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْمُخَابَرَةُ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالْمُسَاقَاةِ جَازَتْ بِانْفِرَادِهَا.(7/451)
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهَا مَعَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُخَابَرَةِ. وَالْمُخَابَرَةُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَرَوَى يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَالَ " كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِنَّ بَعْضَ عُمُومَتِي أَتَانِي فَقَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أمرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا وَأَنْفَعُ، قَالَ: فَقُلْنَا: " وَمَا ذَاكَ " قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ كَانَتْ لَهُ أرضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا أخاه ولا يكاريها بثلث ولا ربعٍ ولا طعامٍ مُسَمًّى، وَرَوَى ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ " مَنْ لَمْ يَذَرِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيُؤْذَنْ بحربٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلِأَنَّ الْأُصُولَ الَّتِي تَصِحُّ إِجَارَتُهَا وَلَا تَصِحُّ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهَا بِبَعْضِ كَسْبِهَا، وَكَذَا الْأَرَضُ لَمَّا جَازَتْ إِجَارَتُهَا لَمْ تَجُزِ الْمُخَابَرَةُ عَلَيْهَا.
فَهَذِهِ دَلَائِلُ الْفَرِيقَيْنِ فِي صِحَّةِ الْمُخَابَرَةِ وَفَسَادِهَا، وَلَمَّا اقْتَرَنَ بِدَلَائِلِ الصِّحَّةِ عَمَلَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ مَعَ الضَّرُورَةِ الْمَاسَّةِ إِلَيْهَا، وَكَانَ مَا عَارَضَهَا مُحْتَمَلًا أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى مَا فَسَّرَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ كَانَ صِحَّةُ الْمُخَابَرَةِ أَوْلَى مِنْ فَسَادِهَا مَعَ صِحَّةِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ لَهَا فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُضَارَبَةِ.
فَصْلٌ
: فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ الْمُخَابَرَةِ حَمْلًا فِيهَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ مِنْ بَذْرٍ وَسَهْمٍ، وَإِنْ قِيلَ بِفَسَادِهَا فَالزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، فَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِمَالِكِ الْأَرْضِ فَالزَّرْعُ لَهُ، وَعَلَيْهِ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ، وَبَقَرِهِ، وَآلَتِهِ، لِأَنَّهُ بَذَلَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ فَسَادُ الْعَقْدِ فَرَجَعَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لِلزَّارِعِ فَالزَّرْعُ لَهُ وَعَلَيْهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ أُجْرَةُ مِثْلِ أَرْضِهِ لِأَنَّهُ بَذَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ فَوَّتَهُ عَلَيْهِ فَسَادُ الْعَقْدِ، فَرَجَعَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ لَهُمَا، فَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ نِصْفُ أُجْرَةِ عَمَلِهِ، وَبَقَرِهِ، وَآلَتِهِ، وَعَلَى الْعَامِلِ لِرَبِّ الْأَرْضِ نِصْفُ أُجْرَةِ أَرْضِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَوِ اشْتَرَكَ أَرْبَعَةٌ فِي زِرَاعَةِ الْأَرْضِ فَكَانَتِ الْأَرْضُ لِأَحَدِهِمْ، وَالْبَذْرُ لِلْآخَرِ، وَالْآلَةُ لِلْآخَرِ، وَمِنَ الرَّابِعِ الْعَمَلُ، عَلَى أَنَّ الزَّرْعَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِشُرَكَائِهِ. وَقَدْ رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ وَاصِلِ بْنِ أَبِي جَمِيلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ اشْتَرَكَ أَرْبَعَةُ رهطٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي زَرْعٍ فَقَالِ أَحَدُهُمْ قِبَلِيَ الْأَرْضُ، وَقَالَ الْآخَرُ، قِبَلِيَ الْبَذْرُ، وَقَالَ الْآخَرُ، قِبَلِيَ الْعَمَلُ، وقال الآخر قبلي الفدان، فما اسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ صَارُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجَعَلَ الزَّرْعَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَأَلْغَى صَاحِبَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ شَيْئَا مَعْلُومًا، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ دِرْهَمًا كُلَّ يومٍ.(7/452)
فَصْلٌ
: وَلِمَنْ قَالَ بِفَسَادِ الْمُخَابَرَةِ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ يُتَوَصَّلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِي الزَّرْعِ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِكَا فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ إِمَّا بِمِلْكِ رَقَبَتِهَا أَوْ بِإِجَارَتِهَا أَوِ اسْتِعَارَتِهَا أَوْ تَكُونُ لِأَحَدِهِمَا فَيُؤَجِّرُ صَاحِبُهُ أَوْ لِغَيْرِهِ نِصْفَهَا مَشَاعًا فَتَصِيرُ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ لَهُمَا ثُمَّ يَشْتَرِكَانِ فِي الْبَذْرِ وَالْعَمَلِ فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ: قَدْ أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي مَشَاعًا سَنَةً بِدِينَارٍ، وَاسْتَأْجَرْتُ نِصْفَ عَمَلِكَ وَنِصْفَ عَمَلِ مَا قَدْ شَاهَدْتُهُ مِنْ بَقَرِكَ وَآلَتِكَ سَنَةً بِدِينَارٍ ثُمَّ يَقَعُ الْقِصَاصُ وَالْإِبْرَاءُ، وَيُخْرِجَانِ الْبَذْرَ بَيْنَهُمَا فَيَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الزَّرْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْعَامِلِ قَدْ أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي مَشَاعًا بِنِصْفِ عَمَلِكَ وَنِصْفِ عَمَلِ مَا شَاهَدْتُهُ مِنْ بَقَرِكِ وَآلَتِكِ سَنَةً، فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَأْجِرًا لِنِصْفِ مَا لِصَاحِبِهِ سَنَةً، بِنِصْفِ مَا لِلْآخَرِ سَنَةً، أَوْ يَعْقِدَانِ ذَلِكَ سِنِينَ مَعْلُومَةً، ثُمَّ يُخْرِجَانِ الْبَذْرَ بَيْنَهُمَا، فَيَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ فِي الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ، وَالْعَمَلِ، فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا.
فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الثُّلُثُ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثَانِ، قَالَ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَدْ أَجَّرْتُكَ ثُلُثَيْ أَرْضِي بِثُلُثِ عَمَلِكَ، وَيُخْرِجُ صَاحِبُ الْأَرْضِ ثُلُثَ الْبَذْرِ فَيَصِيرُ ثُلُثُ الزَّرْعِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَثُلُثَاهُ لِلْعَامِلِ.
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثَا الزَّرْعِ وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ، قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ قَدْ آجَرْتُكَ ثُلُثَ أَرْضِي بِثُلُثَيْ عَمَلِكَ وَيُخْرِجُ ثُلُثَيِ الْبَذْرِ فَيَصِيرُ لِرَبِّ الْأَرْضِ ثُلُثَا الزَّرْعِ، وَلِلْعَامِلِ الثُّلُثُ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا، قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ قَدِ اسْتَأْجَرْتُ نِصْفَ عَمَلِكَ بنصف هذا البذر، ونصف منفعة هذا الأرض فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ قَدْ أَجَّرْتُكَ نِصْفَ أَرْضِي بِنِصْفِ عَمَلِكَ وَنِصْفِ هَذَا الْبَذْرِ فَيَصِيرُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِذَا عَقَدَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ الْبَذْرُ فِيهِ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيْعٌ وَإِجَارَةٌ فَيُخَرَّجُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ بَلْ هُوَ عَقْدُ إِجَارَةٍ مَحْضَةٍ، وَالْأُجْرَةُ فِيهَا نِصْفُ الْبَذْرِ وَنِصْفُ الْعَمَلِ فَيَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ والعرَض وَمَا نَبَتَ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى صفةٍ تُسَمِّيهِ كَمَا يَجُوزُ كِرَاءُ الْمَنَازِلِ وَإِجَارَةُ الْعَبِيدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي إِجَارَةِ الْأَرضِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:(7/453)
أَحَدُهَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَطَاوُسٌ إِلَى أَنَّ إِجَارَةَ الْأَرَضِينَ بَاطِلَةٌ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي مَا قَالَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِنَّ إِجَارَتَهَا جَائِزَةٌ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَلَا يَجُوزُ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَلَا بِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأبو حنيفة وَجَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ إِنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَعْلُومٍ مَنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ بِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ مَنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَاسْتَدَلَّ الْحَسَنُ وَطَاوُسٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِجَارَتِهَا بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَنْهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ الله فقال يابن خَدِيجٍ مَاذَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ فَقَالَ رَافِعٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَمِعْتُ عَمَّيَّ وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا يُحَدِّثَانِ أَهْلَ الدَّارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الْأَرْضَ تُكْرَى، ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحدث في ذلك شيئاً لم يكن يَعْلَمْهُ، فَتَرَكَ كِرَاءَ الْأَرْضِ.
وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدٍ أَبِي شُجَاعٍ عَنْ عِيسَى بْنِ سَهْلٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ إِنِّي لَيَتِيمٌ فِي حِجْرِ رافعٍ، وَحَجَجْتُ مَعَهُ فَجَاءَهُ أَخِي عِمْرَانُ بْنُ سَهْلٍ فَقَالَ أَكْرَيْنَا أَرْضَنَا فُلَانَةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ دَعْهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ.
قَالَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجُزْ إِجَارَةُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ لِكَوْنِهِمَا أَصْلًا لِكُلِّ ثَمَرٍ فَكَذَلِكَ الْأَرْضُ لِأَنَّهَا تَجْمَعُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ.
فَصْلٌ
: وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ إِجَارَتَهَا بِالطَّعَامِ وَبِمَا يَنْبُتُ مِنَ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ، بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ بَعْضِ عُمُومَتِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَتْ لَهُ أرضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ ليزرعها أخاه، ولا يكاريها بثلثٍ ولا ربعٍ وَلَا بطعامٍ مُسَمًّى " وَرَوَى طَارِقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَقَالَ إِنَمَا يَزْرَعُ ثلاثةٌ، رجلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا، ورجلٌ مَنَحَ أَرْضًا، فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، ورجلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بذهبٍ أَوْ فضةٍ.
وَلِأَنَّ اسْتِكْرَاءَ الْأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا بَاطِلٌ كَالْمُخَابَرَةِ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى مَالِكٍ رِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهَا، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ، فَيَهْلَكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلَكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَضْمُونٌ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَكَانَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ مَعَ شَبِيهِهِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ، فَصَارَ هَذَا تَفْسِيرًا لِمَا أَجْمَلَهُ مِنَ النَّهْيِ.(7/454)
وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُؤَاجَرَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ صَحَّ أَنْ يُؤَاجَرَ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ تُؤَاجَرَ بِهِ الدُّورُ وَالْعَقَارُ صَحَّ أَنْ تُؤَاجَرَ بِهِ الْأَرْضُونَ كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَسَنُ مِنْ حَدِيثَيْ رَافِعٍ فِي النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا فَسَّرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ كِرَائِهَا بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْ رَافِعٍ مُخْتَلِفَةٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ الْأَرْضِ، وَبَيْنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ فَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنَ النَّخْلِ أَعْيَانٌ، وَمِنَ الْأَرْضِ آثَارٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ حَدِيثَيْ رَافِعٍ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَنَهْيُهُ عَنْ إِجَارَتِهَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى يَعْنِي مِنَ الْأَرْضِ الْمُؤَاجَرَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُخَابَرَةِ فَهُوَ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْمُخَابَرَةِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَفِي الْإِجَارَةِ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ الْكِرَاءُ إِلَّا عَلَى سنةٍ معروفةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، وَأَنْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، وَأَنَّهَا تَجُوزُ سَنَةً، وَفِي جَوَازِهَا سِنِينَ قَوْلَانِ.
فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ سَنَةً فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِطَ سَنَةً هِلَالِيَّةً، فَيَصِحُّ وَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ يُحْتَسَبُ بِكُلِّ شَهْرٍ مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، كَامِلًا كَانَ أَوْ نَاقِصًا وَيَكُونُ قَدْرُ السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَهَذَا أَخَصُّ الْآجَالِ بِالشَّرْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) {البقرة: 189) .
وَالْقِسْمُ الثاني: أن يشترط سَنَةً عَدَدِيَّةً فَيَصِحُّ وَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وستين يوماً كاملة لأن عدد الشهر مستوفٍ بِكَمَالِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِطَ سَنَةً شَمْسِيَّةً وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَرُبُعُ يَوْمٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ بِهَذَا الْأَجَلِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لِلْعِلْمِ بِالْمُدَّةِ فِيهَا.
وَالثَّانِي: بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِحِسَابٍ تُنْسَأُ فِيهِ أَيَّامٌ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّسِيءَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا النَسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرَ) {التوبة: 37) .
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُطْلِقَ ذِكْرَ السَّنَةِ، فلا يشترطهما هِلَالِيَّةً، وَلَا عَدَدِيَّةً وَلَا شَمْسِيَّةً فَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ حَمْلًا عَلَى السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ لِأَنَّهُ الزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ فِي الْآجَالِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا تَكَارَى الرَّجُلُ الْأَرْضَ ذَاتَ الْمَاءِ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ أَوْ عَثَرِيًّا أَوْ غَيْلًا أَوِ الْآبَارِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا غَلَّةَ شتاءٍ وصيفٍ فَزَرَعَهَا إِحْدَى(7/455)
الْغَلَّتَيْنِ وَالْمَاءُ قائمٌ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ فَذَهَبَ قَبْلَ الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ فَأَرَادَ رَدَّ الْأَرْضِ لِذَهَابِ الْمَاءِ عَنْهَا فَذَلِكَ لَهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِرَاءِ بِحِصَّةِ مَا زَرَعَ إِنْ كَانَ الثُّلُثُ أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ وَسَقَطَتْ عَنْهُ حِصَةُ مَا لَمْ يَزْرَعْ لِأَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلزَّرْعِ إِلَّا بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا قَدِ اسْتَأْجَرَهَا لَهُ، مِنْ زَرْعٍ أَوْ غَرْسٍ أَوْ بِنَاءٍ، فَإِنْ أَغْفَلَ ذِكْرَ مَا يَسْتَأْجِرُهَا لَهُ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِاخْتِلَافِهِ، ثُمَّ لَا يَذْكُرُ ذَلِكَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ بَلْ يَقُولُ " لِتَزْرَعْهَا " فَإِنْ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ، فَقَالَ " عَلَى أَنْ تَزْرَعَهَا " بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَهُ شَرْطًا لَزِمَهُ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا هو إذا مكن منها مخير بين استيفاءها أَوْ تَرْكِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِلسُّكْنَى كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ سُكْنَاهَا وَتَرْكِهَا، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ سُكْنَاهَا فِي الْعَقْدِ فَقِيلَ فِيهِ " عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا " بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ.
فَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً لِزَرْعِهَا غَلَّةَ شِتَاءٍ وَصَيْفٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَقْتَ الْعَقْدِ مَاءٌ قَائِمٌ يُسْقِي بِهِ الزَّرْعَ مِنْ عَيْنٍ أو نهر أو نيل أوعثريا، وَهُوَ: الْمَاءُ الْمُجْتَمِعُ فِي أُصُولِ الْجِبَالِ أَوْ عَلَى رُؤُوسِهَا، أَوْ غَيْلًا، وَهُوَ: السَّيْحُ الْجَارِي، سُمِّيَ سَيْحًا لِأَنَّهُ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ، أَوْ غَلَلًا وَهُوَ: الْمَاءُ بَيْنَ الشَّجَرِ. وَإِنَّمَا افْتَقَرَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَيْهَا إِلَى وُجُودِ الْمَاءِ لِزَرْعِهَا، لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا يَنْبُتُ فِي جَارِي الْعَادَةِ إِلَّا بِمَاءٍ يَسْقِيهِ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَاءٌ يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْهَا لِأَنَّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ تَمْكِينَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ سَقَى زَرْعَهَا بَعْلًا أَوْ عِذْيًا، وَالْبَعْلُ: مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ، وَالْعِذْيُ: مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ، فَهِيَ كَالْأَرْضِ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ قَائِمٍ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ وَلَا يَكُونُ، فَلَا يَصِحُّ إِجَارَتُهَا لِلزَّرْعِ.
فَإِذَا اسْتَأْجَرَهَا وَلَهَا مَاءٌ قَائِمٌ فَزَرَعَهَا إِحْدَى الْغَلَّتَيْنِ، ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ أَوْ نَقَصَ أَوْ مَلَحَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ زَرْعُ الْغَلَّةِ الثَّانِيَةِ نُظِرَ، فَإِنْ تَوَصَّلَ الْمُؤَجِّرُ إِلَى إِعَادَةِ الْمَاءِ بِحَفْرِ نَهْرٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَوِ اسْتِنْبَاضِ عَيْنٍ فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا.
وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْمَاءِ أَوْ أَمْكَنَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَاءِ الدَّارِ إِذَا انْهَدَمَتْ، وَلَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى مُدَاوَاةِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ بِهِ مَرَضٌ. ثُمَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْمُقَامِ عَلَيْهِ أَوِ الْفَسْخِ، لِمَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ بِتَعَذُّرِ التَّمْكِينِ.
فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا كَمَا لَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ أَوْ مَاتَ الْعَبْدُ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَرْضَ الْمُسْتَأْجَرَةَ بَاقِيَةٌ مَعَ انْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا، وَالدَّارُ تَالِفَةٌ بِانْهِدَامِهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ بِمَوْتِهِ، فَلَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنِ الْأَرْضِ، وَإِنْ بَطَلَتْ بِانْهِدَامِ الدَّارِ، وَمَوْتِ الْعَبْدِ وَاسْتَحَقَّ الْمُسْتَأْجِرُ الْخِيَارَ لِلنَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَامَ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ، وَإِنْ فَسَخَ فَلَهُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، وَفِي جَوَازِ فَسْخِهَا فِيمَا مَضَى وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَاكَ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ بِاسْتِيفَائِهَا وَمَنِ اسْتَهْلَكَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ خِيَارًا فِي فَسْخِهِ، فَعَلَى هَذَا يُقِيمُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَيَرْجِعُ لِبَاقِي الْمُدَّةِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ.(7/456)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ مَا مَضَى كَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ ما بقي لأنها صفقة فلم يفترق حكمها فِي الْخِيَارِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ فَسَخَ فِي الْجَمِيعِ رَجَعَ بِالْمُسَمَّى، وَكَانَ عَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا مَضَى، وَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا مَضَى، وَفَسَخَ فِيمَا بَقِيَ، لَزِمَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ ما مضى، ويرجع مِنْهَا بِقِسْطِ مَا بَقِيَ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ يُقِيمُ عَلَى مَا مَضَى بِكُلِّ الْأُجْرَةِ وَإِلَّا فَسَخَ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ لَمْ يُقَسِّطْ ذَلِكَ عَلَى الْمُدَّةِ، وَإِنَّمَا يُقَسِّطُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاضِي مِنَ الْمُدَّةِ نِصْفَهَا لَمْ يَرْجِعْ بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ، وَقِيلَ: " كَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ؟ فَإِذَا قِيلَ عِشْرُونَ دِينَارًا، قِيلَ وَكَمْ تُسَاوِي أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ؟ فَإِذَا قِيلَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ رَجَعَ بِثُلُثِ الْأُجْرَةِ، وَلَوْ كَانَ أُجْرَةُ مَا مَضَى عشرة وأجرة ما بقي عشرون، رَجَعَ بِثُلُثَيِ الْأُجْرَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَخْتَلِفُ أُجْرَةُ مِثْلِ الْمُدَّتَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَسِّطَ عَلَى أَعْدَادِهَا وَلَزِمَ أَنْ يُقَسِّطَ عَلَى أُجُورِ أَمْثَالِهَا والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ تَكَارَاهَا سَنَةً فَزَرَعَهَا فَانْقَضَتِ السَّنَةُ وَالزَّرْعُ فِيهَا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يُحْصَدَ فَإِنْ كَانَتِ السَّنَةُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا زَرْعَا يُحْصَدُ قَبْلَهَا فَالْكِرَاءُ جائزٌ وَلَيْسَ لِرَبِّ الزَّرْعِ أَنْ يُثَبِّتَ زَرْعَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُلَهُ عَنِ الْأَرْضِ إلا أن يشاء رب الأرض تركه (قال الشافعي) وإذا شرط أن يزرعها صنفاً من الزرع يستحصد أو يستقصل قبل السنة فأخره إلى وقتٍ من السنة وانقضت السنة قبل بلوغه فكذلك أيضاً وإن تكاراها لمدةٍ أقل من سنةٍ وشرط أن يزرعها شيئاً بعينه ويتركه حتى يستحصد وكان يعلم أنه لا يمكنه أن يستحصد في مثل المدة التي تكاراها فالكراء فيه فاسدٌ من قبل أني إن أثبت بينهما شرطهما ولم أثبت على رب الأرض أن يبقي زرعه فيها بعد انقضاء المدة أبطلت شرط الزارع أن يتركه حتى يستحصد وإن أثبت له زرعه حتى يستحصد أبطلت شرط رب الأرض فكان هذا كراء فاسداً ولرب الأرض كراء مثل أرضه إذا زرعه وعليه تركه حتى يستحصد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ أَرْضًا مُدَّةً مَعْلُومَةً لِيَزْرَعَهَا زَرْعًا مَوْصُوفًا فَزَرَعَهَا، ثُمَّ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ، قَبْلَ اسْتِحْصَادِ زَرْعِهَا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ الزَّرْعَ يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِهَا، وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِهَا، وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِيهِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِجَارِي الْعَادَةِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الزَّرْعِ يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ اسْتِحْصَادِهِ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ اسْتِحْصَادِهِ لِعُدُولِهِ عَنِ الْجِنْسِ الَّذِي شَرَطَهُ إِلَى غَيْرِهِ مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ لِزَرْعِ الْبَاقِلَّا، فَيَزْرَعُهَا بُرًّا، فَتَنْقَضِي الْمُدَّةُ، وَالزَّرْعُ غَيْرُ مُسْتَحْصَدٍ، فَهَذَا يُؤْخَذُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ قَبْلَ اسْتِحْصَادِهِ لِأَنَّهُ بِعُدُولِهِ عَنِ الْبَاقِلَّا إِلَى الْبُرِّ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا فَلَمْ(7/457)
يَسْتَحِقَّ اسْتِيفَاءَ زَرْعٍ تَعَدَّى فِيهِ، فَإِنْ تَرَاضَى الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ عَلَى تَرْكِهِ إِلَى أَوَانِ حَصَادِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُدَّةِ أَقَرَّ، وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ وَأَبَى الْمُؤَجِّرُ، أَوْ رَضِيَ الْمُؤَجِّرُ وَأَبَى الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ بَذْلِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ قُلِعَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ اسْتِحْصَادِهِ لِتَأْخِيرِ بَذْرِهِ مِنْ غَيْرِ عُدُولٍ عَنْ جِنْسِهِ، فَهَذَا مُفَرِّطٌ، وَيُؤْخَذُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ قَبْلَ اسْتِحْصَادِهِ لِأَنَّ تَفْرِيطَهُ لَا يُلْزِمُ غَيْرَهُ، فَإِنْ بَذَلَ أُجْرَةَ مِثْلِ الْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ وَرَضِيَ الْمُؤَجِّرُ بِقَبُولِهَا تُرِكَ وَإِلَّا قُلِعَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُ اسْتِحْصَادِهِ لِأَمْرٍ سَمَائِيٍّ، مِنَ اسْتِدَامَةِ بَرْدٍ، أَوْ تَأْخِيرِ مَطَرٍ، أَوْ دَوَامِ ثَلْجٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُتْرَكُ إِلَى وَقْتِ اسْتِحْصَادِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ عُدْوَانٌ، وَلَا تَفْرِيطٌ فَإِذَا تُرِكَ إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ أُجْرَةً مِثْلَ الْمُدَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى عَقْدِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُؤْخَذَ بِقَلْعِ زَرْعِهِ وَلَا يُتْرَكَ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِظْهَارِ لِنَفْسِهِ فِي اسْتِزَادَةِ الْمُدَّةِ خَوْفًا مِنْ حَادِثِ سَمَاءٍ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَظْهِرْ صَارَ مُفْرِطًا.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِجَارِي الْعَادَةِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الزَّرْعِ لَا يُسْتَحْصَدُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لِزَرْعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُشْتَرَطَ قَلْعَهُ عِنْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ، فَهَذِهِ إِجَارَةٌ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ زَرْعَهُ قَصِيلًا، وَلَا يُرِيدُهُ حَبًّا، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ أُخِذَ بِقَلْعِ زَرْعِهِ وَقَطْعِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ تَرْكَهُ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ، فَهَذِهِ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ اسْتِيفَاءِ الزَّرْعِ بَعْدَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يُنَافِي مُوجِبَهَا، فبطلت ثم للزارع استيفاء زرعه إلى وقت حصاد، وإن بطلت الإجارة، فلا يؤخذ بقلع زرع، لِأَنَّهُ زَرَعَ عَنْ إِذْنٍ اشْتَرَطَ فِيهِ التَّرْكَ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الزَّرْعِ مَعَ فَسَادِ الْإِجَارَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ بِقَلْعِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْسَامِ مَعَ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ: أَنَّ الْإِجَارَةَ إِذَا بَطَلَتْ رُوعِيَ الْإِذْنُ دُونَ الْمُدَّةِ، وَإِذَا صَحَّتْ رُوعِيَتِ الْمُدَّةُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ: أَنْ يُطْلِقَ الْعَقْدَ فَلَا يَشْتَرِطُ فِيهِ قَلْعًا وَلَا تَرْكًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ إِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي الْقَلْعَ أَوِ التَّرْكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ يَقْتَضِي الْقَلْعَ اعْتِبَارًا بِمُوجِبِ الْعَقْدِ، فَعَلَى هَذَا الْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ، وَيُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ عِنْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي التَّرْكَ إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ، كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مِنَ الثِّمَارِ يَقْتَضِي إِطْلَاقَ بَيْعِهِ لِلتَّرْكِ إِلَى وَقْتِ الصِّرَامِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَيَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ تَرْكُ زَرْعِهِ إِلَى وَقْتِ حَصَادِهِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ شَرَطَ التَّرْكَ.(7/458)
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ هَلْ يُسْتَحْصَدُ الزَّرْعُ فِيهَا كَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ لِزَرْعِ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ وَبَعْضِ السِّنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُسْتَحْصَدَ، فَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ حُكْمَ مَا عُلِمَ أَنَّهُ يُسْتَحْصَدُ فِيهِ وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ حُكْمَ مَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحْصَدُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى إِسْقَاطًا لِلشَّكِّ وَاعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا تَكَارَى الْأَرْضَ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا إِنَّمَا يُسْقَى بِنُطَفِ سماءٍ أَوْ بسيلٍ إِنْ جَاءَ فَلَا يَصِحُّ كِرَاؤُهَا إِلَّا عَلَى أَنْ يُكْرِيَهُ إِيَّاهَا أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا مَاءَ لَهَا يَصْنَعُ بِهَا الْمُسْتَكْرِي مَا شَاءَ فِي سَنَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ فَإِذَا وَقَعَ عَلَى هَذَا صَحَّ الْكِرَاءُ وَلَزِمَهُ زَرَعَ أَوْ لَمْ يَزْرَعْ فَإِنْ أَكْرَاهُ إِيَّاهَا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا وَلَمْ يَقُلْ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا مَاءَ لَهَا وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهَا لَا تُزْرَعُ إِلَّا بمطرٍ أَوْ سيلٍ يَحْدُثُ فَالْكِرَاءُ فاسدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِجَارَةَ الْأَرْضِ لِلزَّرْعِ لَا تَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا مَاءٌ قَائِمٌ يَغْتَذِي بِهِ الزَّرْعُ، فَإِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ لَا مَاءَ لَهَا، وَإِنَّمَا تُسْقَى بِمَا يَحْدُثُ مِنْ نُطَفِ سَمَاءٍ مِنْ مَطَرٍ أَوْ طَلٍّ أَوْ بِحُدُوثِ سَيْلٍ مِنْ زِيَادَةِ وَادٍ أَو نَهْرٍ فَلَا تَصِحُّ إِجَارَتُهَا لِلزَّرْعِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ أَجَّرْتُكَهَا عَلَى أَنَّهَا أَرْضٌ بَيْضَاءُ لَا مَاءَ لَهَا لِتَصْنَعَ بِهَا مَا شِئْتَ عَلَى أَنْ لَا تَبْنِيَ وَلَا تَغْرِسَ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَشْرُطْ هَذَا - وَقَدِ اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ - تَوَهَّمَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ مُلْتَزِمٌ بِحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ التَّمْكِينِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ شَرْطٍ يَنْفِي هَذَا التَّوَهُّمَ وَيُزِيلُ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَا يَخْلُو حَالَ الْعَقْدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُشْتَرَطَ أَنْ لَا مَاءَ لَهَا فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَزْرَعَهَا وَلَا يَغْرِسَهَا، وَيَحْفِرَ فِيهَا لِلزَّرْعِ بِئْرًا إِنْ شَاءَ، وَعَلَيْهِ طَمُّهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُشْتَرَطَ أَنَّ لَهَا مَاءً، وَهُوَ مَا يَحْدُثُ مِنْ سَيْلٍ أَوْ مَطَرٍ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ السَّيْلَ وَالْمَطَرَ قَدْ يَحْدُثُ وَقَدْ لَا يَحْدُثُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ الْعَقْدَ، فَلَا يَشْرُطُ أَنَّهَا بَيْضَاءُ لَا مَاءَ لَهَا، وَلَا يَشْرُطُ أَنَّ لَهَا مَاءً يَحْدُثُ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْأَرْضِ مِنْ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ رَخْوَةً يُمْكِنُ حَفْرُ بِئْرٍ فِيهَا أَوْ شقُّ نَهْرٍ إِلَيْهَا فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِمَا فِيهَا مِنَ احْتِمَالِ الْتِزَامِ الْمُؤَجِّرِ لِذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أن تكون صلبة لا يمكن من حَفْرُ بِئْرٍ فِيهَا وَلَا شِقُّ نَهْرٍ إِلَيْهَا كَأَرَاضِي الْجِبَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُهُ أَنَّ إِجَارَتَهَا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَإِطْلَاقِ الْعَقْدِ جَائِزَةٌ لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ ذَلِكَ فِيهَا يُغْنِي عَنِ الشَّرْطِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ.(7/459)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِجَارَتَهَا مَعَ الْإِطْلَاقِ بَاطِلَةٌ مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا شَرْطٌ لِأَنَّهُ مَعَ اسْتِحَالَةِ حَفْرِهَا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى زَرْعِهَا بِمَا يَحْدُثُ مِنْ سَيْلٍ أَوْ سَمَاءٍ.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ ذَاتَ نَهْرٍ مِثْلِ النِّيلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَعْلُو الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا زَرْعًا لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِأَنْ يُرْوَى بِالنِّيلِ لَا بِئْرَ لَهَا وَلَا مَشْرَبَ غَيْرُهُ فَالْكِرَاءُ فاسدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي أَرْضٍ عَلَى نَهْرٍ يَعْلُو عَلَى مَاءِ الْبِئْرِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى سَقْيِهَا إِلَّا بِأَنْ يَزِيدَ مَاءُ ذَلِكَ النَّهْرِ حَتَّى يَعْلُوَ فَيَسْقيها كَأَرْضِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَمَا انْحَدَرَ مِنْ أَرْضِ دِجْلَةَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُؤَجِّرَهَا عِنْدَ زِيَادَةِ الْمَاءِ وَعُلُوِّهِ، وَإِمْكَانِ سَقْيِ الْأَرْضِ بِهِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لِوُجُودِ الْمَاءِ وَإِمْكَانِ الزَّرْعِ، وَلَيْسَ مَا يُخَافُ مِنْ صُدُورِ نُقْصَانِهِ بِمَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا يُظَنُّ مِنْ حُدُوثِ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ فِي الْحَالِ مِنْ صِحَّتِهِ، كَمَوْتِ الْعَبْدِ، وَانْهِدَامِ الدَّارِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُدُوثَ النُّقْصَانِ إِنَّمَا يَكُونُ عُرْفًا بَعْدَ اكْتِفَاءِ الْأَرْضِ وَارْتِوَاءِ الزَّرْعِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُؤَجِّرَهَا عِنْدَ نُقْصَانِ الْمَاءِ وَقَبْلَ زِيَادَتِهِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَرْعَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَصَارَ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مُتَعَذِّرًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُدُوثَ الزِّيَادَةِ مَظْنُونٌ قَدْ يَحْدُثُ وَلَا يَحْدُثُ، وَقَدْ يَحْدُثُ مِنْهَا مَا يَكْفِي، وَمَا لَا يَكْفِي، فَلِهَذَيْنِ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا أَرْضُ الْبَصْرَةِ ذَاتُ الْمَدِّ وَالْجَزْرِ فَإِجَارَتُهَا لِلزَّرْعِ جَائِزَةٌ فِي وَقْتِ الْمَدِّ وَالْجَزْرِ، لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ لَا يَتَغَيَّرُ الْمَدُّ عَنْ وَقْتِهِ وَلَا الْجَزْرُ عَنْ وَقْتِهِ عَلَى حَسَبِ أَيَّامِ الشُّهُورِ وَأَحْوَالِ الْقَمَرِ لَا تَخْتَلِفُ عَادَتُهُ وَلَا يَخْتَلِفُ وَقْتُهُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا كَانَتْ أَرْضٌ مَنْ أَرَاضِي الْجِبَالِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِيهَا نَدَاوَةُ الْمَطَرِ حَتَّى يُمْكِنَ زَرْعُهَا بِهِ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ يَأْتِي، وَلَا سَيْلٍ يَحْدُثُ جَازَ أَنْ تُؤَاجَرَ لِلزَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَاءٌ مُشَاهَدٌ، لِأَنَّ زَرْعَهَا عَلَى حَالِهَا هَذِهِ مُمْكِنٌ فَصَارَتْ كَالْأَرْضِ ذَاتِ الْمَاءِ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا تَكَارَاهَا وَالْمَاءُ قائمٌ عَلَيْهَا وَقَدْ يَنْحَسِرُ لا حالة فِي وقتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الزَّرْعُ فَالْكِرَاءُ جائزٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْحَسِرُ وَلَا يَنْحَسِرُ كَرِهْتُ الْكِرَاءَ إِلَّا بَعْدَ انْحِسَارِهِ ".(7/460)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي أَرْضٍ دَخَلَهَا الْمَاءُ حَتَّى عَلَا عَلَيْهَا، وَأَقَامَ فِيهَا فَاسْتُؤْجِرَتْ لِلزَّرْعِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ كَثِيرًا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا لِكَدَرِهِ وَكَثْرَتِهِ وَلَمْ تَتَقَدَّمْ رُؤْيَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لَهَا قَبْلَ عُلُوِّهِ، فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِلْجَهْلِ بِحَالِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ صَافِيًا لَا يَمْنَعُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا، أَوْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ رُؤْيَةُ الْمُسْتَأْجِرِ لَهَا، قَبْلَ عُلُوِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنْ مُشَاهَدَتِهَا فَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِمَا يُمْكِنُ زَرْعُهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهَا كَالْأُرْزِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَ زَرْعُهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ كَالْحِنْطَةِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ بِجَارِي الْعَادَةِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْحَسِرُ عَنْهَا قَبْلَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ مَا اسْتُؤْجِرَتْ لَهُ مُتَعَذَّرٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشُكَّ فِي انْحِسَارِ الْمَاءِ عَنْهَا قَبْلَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ إِسْقَاطًا لِلشَّكِّ وَاعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي بَقَاءِ الْمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَاءَ يَنْحَسِرُ عَنْهَا يَقِينًا قَبْلَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ لَهَا مَغِيضًا يُمْكِنُ إِذَا فُتِحَ الْمَاءُ أَنْ يَغِيضَ فِيهِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لِلْقُدْرَةِ عَلَى إِرْسَالِ ماءها، وَالْمُكْنَةِ مِنْ زِرَاعَتِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلْعَادَةِ الجارية فيها فإنها تشرب مائها، وَتُنَشِّفُهُ الْأَرْضُ وَالرِّيَاحُ عُرْفًا قَائِمًا فِيهَا، وَعَادَةً جَارِيَةً لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا فَفِي صِحَّةِ إِجَارَتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ والظاهر من مذهب الشافي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ لِمَا اسْتَقَرَّ مِنَ الْعُرْفِ فِيهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ إِنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ زَرْعَهَا فِي الْحَالِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَارْتِقَاءَ الْمَاءِ عَلَيْهَا يَقِينٌ.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ غَرَّقَهَا بَعْدَ أَنْ صَحَّ كِرَاؤُهَا نِيلٌ أَوْ سيلٌ أَوْ شَيْءٌ يُذْهِبُ الْأَرْضَ أَوْ غُصِبَتِ انْتَقَضَ الْكِرَاءُ بَيْنَهُمَا مِنْ يَوْمِ تَلِفَتِ الأرض ".
قال الماوردي: وصورتها في أرض استؤجؤت لِلزَّرْعِ فَغَرِقَتْ أَوْ غُصِبَتْ فَلَا يَخْلُو حَالُ غَرَقِهَا أَوْ غَصْبِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَمَانًا يَسِيرًا كَالثَّلَاثِ فَمَا دُونَ فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ لَا تَبْطُلُ بِمَا حَدَثَ مِنْ غَرَقِهَا أَوْ غَصْبِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ، لَكِنَّهُ عَيْبٌ قَدْ طَرَأَ وَالْمُسْتَأْجِرُ لِأَجْلِهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ كَثِيرًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِدَاءِ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ الْإِجَارَةِ، فَقَدْ بَطَلَتْ لِلْحَائِلِ بَيْنَ(7/461)
الْمُسْتَأْجِرِ وَمَا اسْتَأْجَرَهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ، ثُمَّ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأُجْرَةِ كُلِّهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ، كَأَنَّهُ مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ نِصْفُهَا، وَبَقِيَ نِصْفُهَا، فَالْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا بَاطِلَةٌ، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَوَازُهَا فِيمَا مَضَى، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فِيمَا مَضَى لِبُطْلَانِهَا فِيمَا بَقِيَ جَمْعًا لِلصَّفْقَةِ وَمَنْعًا مِنْ تَفْرِيقِهَا فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ فَاسِدٌ، لِمَا تَقَدَّمَ من تعليل فساده.
فإذا قيل بهذه التَّخْرِيجِ فِي بُطْلَانِ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى وَرَجَعَ الْمُؤَجِّرُ بِأُجْرَةِ مِثْلِ مَا مَضَى، وَإِذَا قِيلَ بِصِحَّتِهَا فِيمَا مَضَى، وَأَنْ تَبْطُلَ فِيمَا بَقِيَ فَالْمَذْهَبُ لُزُومُهُ وَسُقُوطُ خِيَارِ الْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ، فَعَلَى هَذَا يُقِيمُ عَلَيْهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ لَهُ فِيهِ الْخِيَارَ لِمَا حَدَثَ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ، فَإِنْ فَسَخَ الْتَزَمَ أُجْرَةَ مِثْلِ مَا مَضَى، وَرَجَعَ بِالْمُسَمَّى وَإِنْ أَقَامَ فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يُقِيمُ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَالثَّانِي - وَهُوَ مُخَرَّجٌ - أَنَّهُ يُقِيمُ بِكُلِّ الْأُجْرَةِ وَإِلَّا فَسَخَ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضٌ وَلَمْ يَزْرَعْ فَرَبُّ الزِّرْعِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْكِرَاءِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تُسَلَّمْ لَهُ كُلُّهَا وَإِنْ كَانَ زَرَعَ بَطَلَ عَنْهُ مَا تَلِفَ وَلَزِمَهُ حِصَّةُ مَا زَرَعَ مِنَ الْكِرَاءِ وَكَذَا إِذَا جَمَعَتِ الصَّفْقَةُ مِائَةَ صاعٍ بثمنٍ معلومٍ فَتَلِفَ خَمْسُونَ صَاعًا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَأْخُذَ الْخَمْسِينَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ أَوْ يَرُدَّ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ كُلَّ مَا اشْتَرَى وَكَذَلِكَ لَوِ اكْتَرَى دَارًا فَانْهَدَمَ بَعْضُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ مِنْهَا مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْكِرَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَا يَتَبَعَّضُ مِنْ عبدٍ اشْتَرَاهُ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى حَدَثَ بِهِ عيبُ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ رَدِّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ مَا هُوَ غَيْرُ معيبٍ وَالْمَسْكَنُ يَتَبَعَّضُ مِنَ الْمَسْكَنِ مِنَ الدَّارِ وَالْأَرْض كَذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَغَرَّقَ السَّيْلُ بَعْضَهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَالْإِجَارَةُ فِي الَّذِي غَرِقَ مِنْهَا بَاطِلَةٌ ثُمَّ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا فِي الْبَاقِي مِنْهَا جَائِزَةٌ وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ فِيهِ أَوْ أَخْذِهِ بِقِسْطِهِ مِنَ الْأُجْرَةِ لِتَقْسِيطِ الْأُجْرَةِ عَلَى أَجْزَاءِ الْأَرْضِ كَتَقْسِيطِ ثَمَنِ الصُّبْرَةِ عَلَى أَجْزَاءِ الصُّبْرَةِ، وَلَيْسَ كَالْعَبْدِ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ لَمْ يَتَقَسَّطْ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يُوجِبُ خِيَارَ الْمُشْتَرِي فِي أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ فَسْخِ الْبَيْعِ فِيهِ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ إِنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ فِيمَا بَقِيَ لِبُطْلَانِهَا فِيمَا غَرِقَ، وَيَمْنَعُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ زَرْعِ الْبَاقِي، فَإِنْ زَرَعَهُ ضَمِنَ أُجْرَةَ مِثْلِهِ دُونَ المسمى وليس بصحيح.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ مَرَّ بِالْأَرْضِ ماءٌ فَأَفْسَدَ زَرْعَهُ أَوْ أَصَابَهُ حريقٌ أَوْ جرادٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ جائحةٌ عَلَى الزَّرْعِ لَا عَلَى الْأَرْضِ كَمَا لَوِ اكْتَرَى مِنْهُ دَارًا لِلْبَزِّ فاحترق البز ".(7/462)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أَرْضًا، فَزَرَعَهَا، ثُمَّ هَلَكَ الزَّرْعُ بِزِيَادَةِ مَاءٍ أَوْ لِشِدَّةِ بَرْدٍّ، أَوْ دَوَامِ ثَلْجٍ، أَوْ أَكْلِ جَرَادٍ، فَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهَا، لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا سَلِيمَةٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِهَا، وَإِنَّمَا حَدَثَتِ الْجَائِحَةُ فِي مَالِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ أَجَّرَهُ دُكَّانًا لِلْبَزِّ، فَاحْتَرَقَ الْبَزُّ لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ لِسَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلَوِ احْتَرَقَ الدُّكَّانُ بَطَلَتِ الإجارة لتلف المعقود عليه.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اكْتَرَاهَا لِيَزْرَعَهَا قَمْحًا فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا لَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ إِلَّا إِضْرَارَ الْقَمْحِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ الْحِنْطَةَ وَغَيْرَ الْحِنْطَةِ مِمَّا يَكُونُ ضَرَرُهُ مِثْلَ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا ضَرَرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: " لَا يَجُوزُ إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ، وَإِنْ كَانَ ضَرَرُهُ أَقَلَّ مِنْ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) ، فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَمَّا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ، قَالَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِذَا اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهَا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُدُولِ عَمَّا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ، كَذَلِكَ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ لَا يحوز أَنْ يَعْدِلَ فِيهَا عَنْ زَرْعِ الْحِنْطَةِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ إِنَّمَا هُوَ لِتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ لَا لِتَعْيِينِ استيفاءه، أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَسَلَّمَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَزْرَعْهَا لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ لَأَنَّ مَا تَقَدَّرَتْ بِهِ الْمَنْفَعَةُ المستحقة قد كان ممكناً من استيفاءه، وَلَوْ تَعَيَّنَ الِاسْتِيفَاءُ بِالْعَقْدِ مَا لَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ لِتَقْدِيرِ الْمَنْفَعَةِ فَهُوَ إِذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِمَا تَقَدَّرَتْ بِهِ فِي الْعَقْدِ وَبِغَيْرِهِ جَازَ، كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ لِحَمْلِ قَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ قَفِيزًا غَيْرَهُ وَكَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَ حِنْطَةً بِعَيْنِهَا فَزَرَعَ غَيْرَهَا، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَتَضَمَّنُ أُجْرَةً يَمْلِكُهَا الْمُؤَجِّرُ وَمَنْفَعَةً يَمْلِكُهَا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَمَّا جَازَ لِلْمُؤَجِّرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْأُجْرَةِ كَيْفَ شَاءَ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ وَبِمَنْ يُحِيلُهُ جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ كَيْفَ شَاءَ بِزَرْعِ الحنطة وغير الحنطة وبإعارتها لمن يزرعها ويتركها وَتَعْطِيلِهَا.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) {المائدة: 1) فَمِثْلُ الْحِنْطَةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ بِمَا دَلَّلْنَا:
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ تَعْيِينِ الْأَثْمَانِ بِالْعَقْدِ فَكَذَا فِي الْإِجَارَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي التَّعْيِينِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْعُدُولُ إِلَى جِنْسِهَا، وَالْحِنْطَةُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعْيِينِ جِنْسِهَا، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِزَرْعِ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا جَازَ لَهُ الْعُقُودُ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْحِنْطَةِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى غَيْرِ الْحِنْطَةِ.(7/463)
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَجُوزُ لَهُ - بِوِفَاقِ دَاوُدَ - أَنْ يَزْرَعَهَا الْحِنْطَةَ وَغَيْرَ الْحِنْطَةِ مِمَّا يَكُونُ ضَرَرُهُ مِثْلَ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلَّ إِلَّا أَنَّ دَاوُدَ يُجِيزُهُ بِالشَّرْطِ، وَنَحْنُ نُجِيزُهُ بِالْعَقْدِ وَالشَّرْطُ تَأْكِيدٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ، وَيُغْفِلَ ذِكْرَ مَا سِوَى الْحِنْطَةِ فَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ دَاوُدُ، فَمَنَعَهُ مِنْ زَرْعِ غَيْرِ الْحِنْطَةِ، وَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَنَا أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ مِمَّا ضَرَرُهُ كَضَرَرِ الْحِنْطَةِ أَوْ أَقَلُّ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ عَلَى أَنْ لَا يَزْرَعَ مَا سِوَاهَا، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهَا مَا يُنَافِي مُوجِبَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ، وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا الْحِنْطَةَ وَغَيْرَ الْحِنْطَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُؤَجِّرِ فَأُلْغِيَ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطَ لَازِمٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا غَيْرَ الْحِنْطَةِ، لِأَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إِنَّمَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا سُمِّيَ فِيهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْغَرْسُ فَكَذَلِكَ إِذَا استأجرها لنوع من الزرع.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهَا مِثْلَ عروقٍ تَبْقَى فِيهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَرَبُّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكِرَاءَ وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ عَمَّا يُنْقِصُهَا زَرْعُ الْقَمْحِ أَوْ يَأْخُذُ مِنْهُ كِرَاءَ مِثْلِهَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا اكْتَرَى وَزَادَ عَلَى الْمُكْرِي ضَرَرًا كَرَجُلٍ اكْتَرَى مَنْزِلًا يُدْخِلُ فِيهِ مَا يحمل سقفه فحمل فيه أكثر فأصر ذَلِكَ بِالْمَنْزِلِ فَقَدِ اسْتَوْفَى سُكْنَاهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ ضَرَرِهِ وَكَذَلِكَ لَوِ اكْتَرَى مَنْزِلًا سُفْلًا فَجَعَلَ فِيهِ الْقَصَّارِينَ أَوِ الْحَدَّادِينَ فَتَقَلَّعَ الْبِنَاءُ فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا اكْتَرَاهُ وَعَلَيْهِ بِالتَّعَدِّي مَا نَقَصَ بِالْمَنْزِلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِزَرْعِ الْحِنْطَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَغْرِسَهَا وَلَا أَنْ يَزْرَعَهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا مِنَ الْحِنْطَةِ كَالدَّخَنِ وَالْكَتَّانِ وَالذُّرَةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ تَعَدَّى، وَيُؤْخَذُ بِقَلْعِ زَرْعِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فيه فصار كَالْغَاصِبِ، وَهَلْ يَصِيرُ بِذَلِكَ ضَامِنًا لِرَقَبَةِ الْأَرْضِ حَتَّى يَضْمَنَ قِيمَتَهَا إِنْ غُصِبَتْ أَوْ تَلِفَتْ بِسَيْلٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: إِنَّهُ يَضْمَنُهَا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ - بِالْعُدُولِ عَمَّا اسْتَحَقَّهُ - غَاصِبًا وَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ.(7/464)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: - وَهُوَ الْأَصَحُّ - أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ رَقَبَةَ الْأَرْضِ، لِأَنَّ تَعَدِّيَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ لَا فِي الرَّقَبَةِ.
فَإِنْ تَمَادَى الْأَمْرُ بِمُسْتَأْجِرِهَا حَتَّى حَصَدَ زَرْعَهُ ثُمَّ طُولِبَ بِالْأُجْرَةِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَمَّى وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُخَرِّجُونَ تَخْيِيرَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ يَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى لِأَنَّ تَعَدِّيَ الزَّارِعِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْحِنْطَةِ إِلَى مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهَا كَتَعَدِّيهِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْأَرْضِ إِلَى غَيْرِهَا، فَلَمَّا كَانَ بِعُدُولِهِ إِلَى غَيْرِ الْأَرْضِ مُلْتَزِمًا لِأُجْرَةِ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى فَكَذَلِكَ بِعُدُولِهِ إِلَى غَيْرِ الْحِنْطَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ وَيَنْقُصُ الضَّرَرُ الزَّائِدُ عَلَى الْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى مَا اسْتَحَقَّهُ وَزَادَ، فَصَارَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَجَاوَزَ بِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الزِّيَادَةِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ وَأَبُو العباس بن سريج وأبو حامد المروروزي: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ التَّخْيِيرُ مِنْهُ اخْتِلَافًا لِلْقَوْلِ فِيهَا فَيَكُونُ رَبُّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُسَمَّى وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ بِالزِّيَادَةِ كَالْمُتَجَاوِزِ بِرُكُوبِ الدَّابَّةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَيَرْجِعَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ أَوِ الْفَسْخِ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُسَمَّى وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ، وَاسْتَدَلَّ بِمَسْأَلَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَسْتَأْجِرَ بَيْتًا لِحَمُولَةٍ مُسَمَّاةٍ فَيَعْدِلَ إِلَى غَيْرِهَا، فَهَذَا يُنْظَرُ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ سُفْلَ بَيْتٍ لِيُحْرِزَ فِيهِ مِائَةَ رطل حديد فأحرز منه مِائَةً وَخَمْسِينَ رِطْلًا أَوْ عَدَلَ عَنِ الْحَدِيدِ إِلَى الْقُطْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ سُفْلَ الْبَيْتِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَلَا الْعُدُولُ عَنِ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ عُلُوُّ بَيْتٍ تَكُونُ الْحَمُولَةُ عَلَى سَقْفِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْإِجَارَةُ لِمِائَةِ رِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ فَوَضَعَ عَلَيْهِ مِائَةً وَخَمْسِينَ رِطْلًا فَهَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى مِنَ الْأُجْرَةِ وَأُجْرَةُ مِثْلِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ قد استأجره مائة رِطْلٍ قُطْنًا فَوَضَعَ فِيهِ مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ فَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَتَمَيَّزُ لِأَنَّ الْقُطْنَ يَتَفَرَّقُ عَلَى السَّقْفِ، وَالْحَدِيدَ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، فَكَانَ أَضَرَّ، فَيَكُونُ رُجُوعُ الْمُؤَجِّرِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَوْلَيْنِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَلِيلِ الْمُزَنِيِّ عَلَى اخْتِيَارِهِ: أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارًا لِلسُّكْنَى فَيُسْكِنُ فِيهَا حَدَّادِينَ أَوْ قَصَّارِينَ، أَوْ يَنْصَبُّ فِيهَا رَحًى، فَهَذِهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَا يَتَمَيَّزُ، فَيَكُونُ رُجُوعُ الْمُؤَجِّرِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَوْلَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْمُزَنِيِّ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ دَلِيلٌ مِنْ مَذْهَبٍ وَلَا حِجَاجٍ.(7/465)
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ قَالَ لَهُ ازْرَعْهَا مَا شِئْتَ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ زَرْعِ مَا شَاءَ وَلَوْ أَرَادَ الْغِرَاسَ فَهُوَ غَيْرُ الزَّرْعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْرَعَهَا مَا شَاءَ صَحَّ الْكِرَاءُ وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا جَمِيعَ أَصْنَافِ الزَّرْعِ مِمَّا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ أَوْ يَقِلُّ، فَإِنْ زَرَعَهَا مَا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى جَمِيعَ حَقِّهِ، وَإِنْ زَرَعَ مَا يَقِلُّ ضَرَرُهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ وَسَامَحَ بِبَعْضِهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَا شَاءَ قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يَشَاءُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى الدَّابَّةِ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ فَتَهْلَكُ وَلَيْسَ يَشَاءُ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ لِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَزْرَعَ مَا تَضْعُفُ الْأَرْضُ عَنِ احْتِمَالِهِ هَلَكَ الزَّرْعُ دُونَ الْأَرْضِ.
فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلزَّرْعِ فَأَرَادَ الْغَرْسَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَاكَ لِأَنَّ ضَرَرَ الْغَرْسِ أَكْثَرُ مِنْ ضَرَرِ الزَّرْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَدْوَمُ بَقَاءً مِنَ الزَّرْعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَنْشَرُ عُرُوقًا فِي الْأَرْضِ مِنْ عُرُوقِ الزَّرْعِ.
وَلَكِنْ لَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلْغَرْسِ فَأَرَادَ الزَّرْعَ كَانَ لَهُ لِأَنَّ ضَرَرَ الزَّرْعِ أَقَلُّ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بَعْضَ حَقِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى حَقِّهِ.
فَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلْغَرْسِ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ ضَرَرَ الْبِنَاءِ قَدْ يَزِيدُ عَلَى ضرر الغرس من صَلَابَةِ الْأَرْضِ وَخُشُونَتِهَا، وَلَوِ اسْتَأْجَرَهَا لِلْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَزْرَعَ وَلَا يَغْرِسَ لِأَنَّ الزرع والغرس يفسدها ويرخيها.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ ازْرَعْهَا أَوِ اغْرِسْهَا مَا شِئْتَ فَالْكِرَاءُ جائزٌ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَوْلَى بِقَوْلِهِ أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي يَغْرِسُ أَكْثَرَ الْأَرْضِ فَيَكْثُرُ الضَّرَرُ عَلَى صَاحِبِهَا أَوْ لَا يَغْرِسُ فَتَسْلَمُ أَرْضُهُ مِنَ النُّقْصَانِ بِالْغَرْسِ فَهَذَا فِي مَعْنَى الْمَجْهُولِ وَمَا لَا يَجُوزُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا الفصل يشتمل على ثلاث مسائل:
إحداهن: أَنْ يَقُولَ قَدْ أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَهَا إِنْ شِئْتَ أَوْ تَغْرِسَهَا إِنْ شِئْتَ فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ زَرْعِهَا إِنْ شَاءَ، وَبَيْنَ غَرْسِهَا، فَإِنْ زَرَعَ بَعْضَهَا وَغَرَسَ بَعْضَهَا جَازَ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ غَرْسُ الْجَمِيعِ كَانَ غَرْسُ الْبَعْضِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ قَدْ أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَهَا أَوْ تَغْرِسَهَا فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا وَلَا أَحَدَهُمَا مُعَيَّنًا فَصَارَ مَا أَجَّرَهُ لَهُ مَجْهُولًا.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ قَدْ أَجَّرْتُكَهَا لِتَزْرَعَهَا وَتَغْرِسَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:(7/466)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ: إِنَّ الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُخَيِّرْهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا صَارَ مَا يَزْرَعُ مِنْهَا وَيَغْرِسُ مَجْهُولًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ، وَلَهُ أَنْ يَزْرَعَ النِّصْفَ، وَيَغْرِسَ النِّصْفَ لِأَنَّ جَمْعَهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ يَقْتَضِي التَّسْوِيةَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ زَرَعَ جَمِيعَهَا جَازَ، لِأَنَّ زَرْعَ النِّصْفِ الْمَأْذُونِ فِي غَرْسِهِ أَقَلُّ ضَرَرًا، وَلَوْ غَرَسَ جَمِيعَهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ غَرْسَ النِّصْفِ الْمَأْذُونِ فِي زَرْعِهِ أَكْثَرُ ضَرَرًا.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنِ انْقَضَتْ سِنُوهُ لَمْ يَكُنْ لِرَبّ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَ غَرْسَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ ثَمَرَتِهِ إِنْ كَانَتْ فِيهِ يَوْمَ يَقْلَعُهُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِرَبِّ الْغِرَاسِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْلَعَهُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ الْأَرْضَ وَالْغِرَاس كَالْبِنَاءِ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ مَالِكِ الأرض مطلقاً. (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِيَاسُ عِنْدِي وَبِاللَّهِ التوفيق أنه إذا أجل له أَجَّلَ لَهُ أَجَلًا يَغْرِسُ فِيهِ فَانْقَضَى الْأَجَلُ أَوْ أَذِنَ لَهُ ببناءٍ فِي عرصةٍ لَهُ سِنِينَ وَانْقَضَى الْأَجَلُ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْعَرْصَةَ مَرْدُودَتَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعِرْهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ عَلَى أَهْلِهِ وَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى غراسٍ وَلَا بناءٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَ يَقُولُ {إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} وَهَذَا قَدْ مَنَعَ مَالَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لَا يَرْضَى شِرَاءَهُ فَأَيْنَ التَّرَاضِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَصُورَتُهَا فِيمَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا وَيَغْرِسَ فَانْقَضَى الْأَجَلُ وَالْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ قَائِمٌ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ أَنْ يُحْدِثَ بِنَاءً وَلَا غَرْسًا، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَأَخَذَ بِقَلْعِ مَا أَحْدَثَهُ بَعْدَ الْأَجَلِ مِنْ غَرْسٍ وَبِنَاءٍ فَأَمَّا الْقَائِمُ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِيهِ عند العقد من ثلاثة أحوال:
أحدهما: أَنْ يَشْتَرِطَا قَلْعَهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَيُؤْخَذُ المستأجر بقلع غرسه وبناءه لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَرْطِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ مَا حَدَثَ مِنْ حَفْرِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَا تَرْكَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَيُقِرُّ وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهَذَا الشرط لأنه من موجباته فلو أَخَلَّ بِالشَّرْطِ وَيَصِيرُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ مُسْتَعِيرًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا تَلْزَمُهُ أُجْرَةٌ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ مَا لَمْ يُصَرَّحْ لَهُ بِالْعَارِيَةِ، فَإِنْ قَلَعَ الْمُسْتَأْجِرُ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ لَزِمَهُ تَسْوِيَةُ مَا حَدَثَ مِنْ حَفْرِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ بِالْمِلْكِ. وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَعْلِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَلَعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْوِيَةُ الْأَرْضِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُطْلِقَا الْعَقْدَ فَلَا يُشْتَرَطَانِ فِيهِ قَلْعَهُ وَلَا تَرْكَهُ فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَقْلُوعًا كَقِيمَتِهِ قَائِمًا أَخَذَ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ يَلْحَقُهُ فِيهِ، وَلَا نقص،(7/467)
وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ قَائِمًا - وَهُوَ الْأَغْلَبُ - نُظِرَ فَإِنْ بَذَلَ رَبُّ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ قَائِمًا أَوْ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ قَائِمًا أَوْ مَقْلُوعًا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ تَرْكُهُ، لِأَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ بِقَلْعِهِ يَزُولُ بِبَذْلِ الْقِيمَةِ أَوِ النَّقْصِ وَقِيلَ لَا نَجْبُرُكَ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ، وَلَكِنْ نُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَقْلَعَهُ أَوْ تَأْخُذَ قِيمَتَهُ وَلَيْسَ لَكَ إِقْرَارُهُ وَتَرْكُهُ.
وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ رَبُّ الْأَرْضِ قِيمَةَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَلَا قَدْرَ النَّقْصِ نُظِرَ فِي الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ بَذْلِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ بَعْدَ تَقَضِّي الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِقْرَارُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَأُخِذَ بِقَلْعِهِ، وَإِنْ بَذَلَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مَعَ امْتِنَاعِ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ بَذْلِ الْقِيمَةِ أَوِ النَّقْصِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ مَقَرٌّ لَا يُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِهِمَا، وَيُؤْخَذُ أُجْرَةُ مِثْلِهِمَا، وَقَالَ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ وَيُؤْخَذُ الْمُسْتَأْجِرُ بِقَلْعِهِمَا وَلَا يُجْبَرُ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ عَلَى تَرْكِهِمَا اسْتِدْلَالًا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) {النساء: 29) .
وَلَيْسَ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ رضي بِالتَّرْكِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ بِقَلْعِ زَرْعِهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَقَرَّ إِلَى أَوَانِ حَصَادِهِ مَعَ أَنَّ زَمَانَ حَصَادِهِ مَحْدُودٌ فَلِأَنْ يُؤْخَذَ بِقَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ مَعَ الْجَهْلِ بِزَمَانِهِمَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَمَا أَوْجَبَ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي إِحْدَاثِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ. وهذا المذهب أظهر حجاجاً وأصح اجتهاداً واستدل أَصْحَابنا عَلَى تَرْكِهِ وَإِقْرَارِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ لعرقٍ ظالمٍ حَقٌّ ".
فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُقُوعَ الْفَرْقِ بَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمُحِقِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَوي بَيْنَهُمَا فِي الْأَخْذِ بِالْقَلْعِ، قَالُوا وَلِأَنَّ مَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي إِحْدَاثِ حَقٍّ فِي مِلْكِهِ كَانَ مَحْمُولًا فِيهِ عَلَى الْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِي مِثْلِهِ كَمَنْ أَذِنَ لِجَارِهِ فِي وَضْعِ أَجْذَاعِهِ فِي جِدَارِهِ كَانَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ عَلَى الْأَبَدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ بِقَلْعِهَا لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِاسْتِدَامَةِ تَرْكِهَا، كَذَلِكَ الْغَرْسُ وَالْبِنَاءُ الْعَادَةُ فِيهِمَا جَارِيَةٌ بِالتَّرْكِ وَالِاسْتِيفَاءِ، دُونَ الْقَلْعِ وَالتَّنَاوُلِ فَحُمِلَا عَلَى الْعَادَةِ فِيهِمَا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَفْسُدُ بِالزَّرْعِ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَرْكِهِ إِلَى أَوَانِ حَصَادِهِ ثُمَّ هِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ حِينَ يُؤْخَذُ بِقَلْعِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً، فَبَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِيهَا وَغَرَسَ فَهُوَ فِي الْإِقْرَارِ وَالتَّرْكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ، لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ كُلِّ عَقْدٍ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ فِي الْأَمَانَةِ وَالضَّمَانِ.
فَصْلٌ
: وإذا أراد المستأجر بيع بناءه وَغَرْسِهِ قَائِمًا فِي الْأَرْضِ فَإِنْ بَاعَهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ جَاز، وَإِنْ بَاعَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مَتَى بَذَلَ لَهُ قِيمَتَهُ أُجْبِرَ عَلَى أَخْذِهَا أَوْ قَلْعِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَا يُخَافُ مِنْ زَوَالِ مِلْكِهِ فِي الثَّانِي لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ فِي الْحَالِ كَالْمَبِيعِ إِذَا اسْتُحِقَّتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ.(7/468)
وَهَكَذَا رَبُّ الْأَرْضِ إِذَا أَرَادَ بَيْعَهَا فَإِنْ بَاعَهَا عَلَى مَالِكِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ جَازَ، وَإِنْ بَاعَهَا عَلَى غَيْرِهِ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.
وَلَكِنْ لَوِ اجْتَمَعَ رَبُّ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الْبَيْعِ جَازَ وَكَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى الْقِيمَتَيْنِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْمُزَارِعُ بيع الأكارة وَالْعِمَارَةِ فَقَدْ قَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَتْ لَهُ إِثَارَةٌ جَازَ لَهُ بَيْعُهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِثَارَةٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِدْخَالُ يَدٍ بَدَلًا مِنْ يَدِهِ بِثَمَنٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَيُجْعَلُ الْأَكَّارُ شَرِيكًا لِرَبِّ الْأَرْضِ بِعِمَارَتِهِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعِمَارَةِ مَا لَمْ تَكُنْ أَعْيَانًا لِأَنَّ عِمَارَةَ الْأَرْضِ تَبَعٌ لَهَا.
فَصْلٌ
: وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ إِلَى رَجُلٍ لِيَبْنِيَ فِيهَا وَيَغْرِسَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَتِ الْأَرْضُ عَلَى مِلْكِ رَبِّهَا، وَالْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ عَلَى مِلْكِ رَبِّهِ، وَلَهُ إِقْرَارُهُ مَا بَقِيَ. وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ إِلَى رَجُلٍ لِيَغْرِسَهَا فسيلاً، فإذا صارت الفسيلة على ثلاث سعفان كَانَتِ الْأَرْضُ وَالنَّخْلُ بَيْنَهُمَا وَهَذَا مَذْهَبٌ يُغْنِي ظُهُورُ فَسَادِهِ عَنْ إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا وَقَفَ صَاحِبُ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ قَائِمًا صَحَّ لِلْوَقْفِ وَلَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَبْذُلَ لَهُ قِيمَةَ ذَلِكَ قَائِمًا لِأَنَّهُ وَقْفٌ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَاقِفُ بِقَلْعِهِ إِنْ بَذَلَ لَهُ أَرْشَ نَقْصِهِ، فَإِذَا قَلَعَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى يَكُونُ وَقْفًا فِيهَا جَارِيًا عَلَى سَبِيلِهِ.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وما اكترى فاسدا وقبضها ولم يزرع ولم يَسْكُنْ حَتَى انْقَضَتِ السَّنَةُ فَعَلَيْهِ كِرَاءُ الْمِثْلِ ".
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَنْ عَقْدٍ صَحِيحٍ فَمَنَافِعُهُ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ، فَأَمَّا مَا قَبَضَهُ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ فهو أيضاً ضامن لأجرة مِثْلِهَا سَوَاءٌ سَكَنَ وَتَصَرَّفَ أَوْ لَمْ يَسْكُنْ وَلَمْ يَتَصَرَّفْ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ تَصَرَّفَ ضَمِنَ الْأُجْرَةَ، وَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ لَمْ يَضْمَنْهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّسْلِيمَ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْعِوَضَ إِلَّا بِالِانْتِفَاعِ، كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ طَرْدًا، وَالصَّحِيح عَكَسًا.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا مَنَافِعُ يَضْمَنُهَا فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ تَصَرَّفَ، وَلِأَنَّ مَا ضَمِنَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ بِالتَّصَرُّفِ ضَمِنَهَا بِالتَّلَفِ عَلَى يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ كَالْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَعْيَانِ فِي الْمُعَاوَضَةِ وَالْإِبَاحَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا قَبَضَ مِنَ الْأَعْيَانِ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِتَصَرُّفِهِ أَوْ غَيْرِ تَصَرُّفِهِ كَالْعَقْدِ(7/469)
الصَّحِيحِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمَنَافِعُ إِذَا تَلِفَتْ مَضْمُونَةً فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَضَمَانِهَا فِي الْعَقْدِ الصَّحِيحِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْمَنْكُوحَةُ حُرَّةً فَالْحُرَّةُ لَمْ تَزَلْ يَدُهَا عَنْ نَفْسِهَا وَلَا عَنْ بُضْعِهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ مَهْرَ بُضْعِهَا إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَإِنَّهُ وَإِنِ اسْتَقَرَّ الْغَصْبُ عَلَى مَنَافِعِهَا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلَى بُضْعِهَا بَلْ يَدُهَا عَلَيْهِ أَثْبَتُ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهَا، اسْتَخْدَمَ أَوْ لَمْ يَسْتَخْدِمْ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا مَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا، وَلِذَلِكَ مَنَعَ سَيِّدُ الأمة من بيعها. إذا غصبت لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ حَائِلَةٌ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَزْوِيجِهَا إِذَا غُصِبَتْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ عَلَى الْبضْعِ يَدٌ حَائِلَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا اكْتَرَى دَارًا سَنَةً فَغَصَبَهَا رجلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كِرَاءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ له مَا اكْتَرَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا غُصِبَتِ الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فله افسخ وَهَلْ تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِالْغَصْبِ عَلَى قَوْلَيْنِ
أَصَحُّهُمَا: بَاطِلَةٌ، وَالْمُسْتَأْجِرُ بَرِيءٌ مِنْ أُجْرَةِ مُدَّةِ الْغَصْبِ، لا يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ خَصْمًا لِلْغَاصِبِ فِيهَا لِأَنَّ خَصْمَ الْغَاصِبِ إِنَّمَا هُوَ الْمَالِكُ أَوْ وَكِيلُهُ، وَلَيْسَ الْمُسْتَأْجِرُ مَالِكًا وَلَا وَكِيلًا، فَلَمْ يَكُنْ خَصْمًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّ غَاصِبَهَا ضَامِنٌ لِمَنَافِعِهَا، لَكِنْ يَكُونُ الْمُسْتَأْجِرُ بِحُدُوثِ الْغَصْبِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ، فَإِنْ فَسَخَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْأُجْرَةُ، وَلَمْ يَكُنْ خَصْمًا لِلْغَاصِبِ فِيهَا، وَإِنْ أَقَامَ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى، وَيَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ عَلَى الْغَاصِبِ، وَيَصِيرُ خَصْمًا لَهُ فِي الْأُجْرَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، إِلَّا أَنْ يَبْقَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ شَيْءٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ خَصْمًا فِي الرَّقَبَةِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا اكْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ أَوِ الْخَرَاجِ فَعَلَيْهِ فِيمَا أخْرِجَتِ الصَّدَقَةُ خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَهَذَا مَالُ مسلمٍ وَحَصَادُ مسلمٍ فَالزَّكَاةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ الْأَرَضِينَ ضَرْبَانِ: أَرْضُ عُشْرٍ، وَأَرْضُ خَرَاجٍ، فَأَمَّا أَرْضُ الْعُشْرِ فَهُوَ مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ أَوْ غَنِمُوهُ فَاقْتَسَمُوهُ، أَوْ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَمَلَكُوهُ، فَالْعُشْرُ فِي زَرْعِهَا وَاجِبٌ إِنْ زَرَعَهَا مُسْلِمٌ، وَلَا عُشْرَ فِيهِ إِنْ كَانَ الزَّرْعُ لِمُشْرِكٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ أَرْضَ عُشْرٍ صَارَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ وَلَا تَعُودُ إِلَى الْعُشْرِ أَبَدًا.(7/470)
وَقَالَ أبو يوسف وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ وَيَكُونُ فَيْئًا، فَإِنْ عَادَتْ إِلَى مُسْلِمٍ حُوِّلَتْ إِلَى الْعُشْرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُجْبَرُ الذِّمِّيُّ عَلَى بَيْعِهَا، وَلَا تَقَرُّ فِي يَدِهِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرٌ.
وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَرْضَ الْعُشْرِ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْخَرَاجِ أَبَدًا فَإِنْ مَلَكَهَا ذِمِّيٌّ أَقَرَّتْ فِي يَدِهِ وَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَلَكَهَا مُسْلِمٌ أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ عَنْ زَرْعِهَا.
فَلَوْ أَجَّرَهَا الْمَالِكُ وَزَرَعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ عُشْرُ زَرْعِهَا وَاجِبًا عَلَى الزَّارِعِ الْمُسْتَأْجِرِ دُونَ الْمُؤَجِّرِ الْمَالِكِ.
وَقَالَ أبو حنيفة الْعُشْرُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَاوَضَ عَلَى الْأَرْضِ فَانْتَقَلَ الْحَقُّ إِلَيْهِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فيما سقت السماء العشر ".
لأن مَنْ مَلَكَ زَرعًا الْتَزَمَ عُشْرَهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَلِأَنَّ اعْتِيَاضَ الْمُؤَجِّرِ عَنْ مَنَافِعِ الْأَرْضِ لَا يُوجِبُ الْتِزَامَ حُقُوقِ الزَّرْعِ كَالنَّفَقَةِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا أَرْضُ الْخَرَاجِ فَضَرْبَانِ خَرَاجٌ يَكُونُ جِزْيَةً، وَخَرَاجٌ يَكُونُ أُجْرَةً، فَالْخَرَاجُ الَّذِي يَكُونُ جِزْيَةً هُوَ مَا ضَرَبَهُ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَرْضِ أَهْلِ الْعَهْدِ مَعَ إِقْرَارِهَا عَلَى مِلْكِهِمْ فَهَذِهِ الْأَرْضُ إِنْ زَرَعَهَا أَهْلُ الْعَهْدِ وَجَبَ عَلَيْهِمِ الْخَرَاجُ دُونَ الْعُشْرِ، وَإِنْ أَسْلَمُوا أَوِ انْتَقَلَتْ عَنْهُمْ إِلَى مُسْلِمٍ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي زَرْعِهَا وَسَقَطَت الْخَرَاجُ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ وَجَبَ الْخَرَاجُ عَلَيْهِمْ لِبَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهَا، وَوَجَبَ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِمِلْكِهِ لِلزَّرْعِ، وَأَمَّا الْخَرَاجُ الذي يكون أجرة كأرض السواء الَّتِي ضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا خَرَاجًا جَعَلَهُ إِمَّا ثَمَنًا وَإِمَّا أُجْرَةً عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْ رِقَابِ الْأَرْضِ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا، فَإِنْ زَرَعَهَا مُسْلِمٌ هِيَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ الْحَقَّانِ الْخَرَاجُ عَنِ الرَّقَبَةِ وَالْعُشْرُ عَنِ الزَّرْعِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ الْخَرَاجُ وحده دون العشر لأن لا يَجْتَمِعَ فِيهَا حَقَّانِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي إِيجَابِ الْحَقَّيْنِ مَعًا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَلَوْ كَانَ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ بِالْآخَرِ لَكَانَ الْعُشْرُ الْمُسْتَحَقُّ بِالنَّصِّ أَثْبَتَ وُجُوبًا مِنَ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَنِ اجْتِهَادٍ.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي اكْتِرَاءِ دابةٍ إِلَى موضعٍ أَوْ فِي كِرَائِهَا أَوْ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ تَحَالَفَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوبِ وَالزَّرْعِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ كِرَاءُ الْمِثْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَكَارِيَانِ فِي قَدْرِ الْأُجْرَةِ أَوْ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ أَوْ فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ تَحَالَفَا كَمَا يَتَحَالَفُ الْمُتَبَايِعَانِ إِذَا اخْتَلَفَا، فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَيِّنَتِهِ تَعَارَضَتَا وَفِيهِمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ البينتان ويتحالفان.(7/471)
وَالثَّانِي: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا قَرَعَتْ يَحْكُمُ بِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ فَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ اكْتَرَيْتُهَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَالَ الرَّاكِبُ إِلَى بَغْدَادَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَوْ أَقَامَا على ذك بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الرَّاكِبِ لِأَنَّهَا أَزْيَدُ، وَلَوْ قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ اكْتَرَيْتُهَا بِعِشْرِينَ وَقَالَ الرَّاكِبُ بِعَشَرَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّابَّةِ لِأَنَّهَا أَزْيَدُ.
وَهَذَا مَرْدُودٌ بِاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِأَنَّهُمَا مَعًا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَا فِي التَّحَالُفِ.
فَإِذَا اخْتَلَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إِمَّا بِالتَّحَالُفِ أَوْ بِالْفَسْخِ الْوَاقِعِ بَعْدَ التَّحَالُفِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْبُيُوعِ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَمْضِ مِنَ الْمُدَّةِ شَيْءٌ تَرَادَّا الْكِرَاءَ وَالْمكري، وإن مضت المدى الْتَزَمَ الْمُكْتَرِي أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَاسْتَرْجَعَ الْمُسَمَّى، وَسَوَاءٌ كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَاهُ الْمُكْرِي أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهَا قِيمَةُ مُتْلِفٍ.
فَصْلٌ
: وَلَيْسَ لِمُؤَجّرِ الْأَرْضِ أَنْ يَحْتَبِسَ الْأَرْضَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى دَفْعِ الْأُجْرَةِ، وَلَا لِلْحَمَّالِ أَنْ يَحْبِسَ مَا اسْتُؤْجِرَ عَلَى حَمْلِهِ مِنَ الْمَتَاعِ لِيَأْخُذَ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ وَلَيْسَ بِرَهْنٍ، فَأَمَّا الصَّانِعُ الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى عَمَلٍ مِنْ خِيَاطَةٍ أَوْ صِيَاغَةٍ أَوْ صَبْغٍ هَلْ لَهُ احْتِبَاسُ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْعَمَلِ عَلَى أُجْرَتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَاكَ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: لَهُ ذَاكَ لِأَنَّ عَمَلَهُ مِلْكٌ لَهُ كَالْبَائِعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ بكراءٍ وَقَالَ الْمُزَارِعُ عاريةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ يَمِينِهِ وَيَقْلَعُ الزَّارِعُ زَرْعَهُ وَعَلَى الزَّارِعِ كِرَاءُ مِثْلِهِ إِلَى يَوْمِ قَلْعِ زَرْعِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي إِبَانِ الزَّرْعِ أَوْ غَيْرِهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ فِي رَاكِبِ الدَّابَّةِ يَقُولُ أَعَرْتَنِيهَا وَيَقُولُ بَلْ أَكْرَيْتُكَهَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ وَخِلَافُ قَوْلِهِ فِي الْغَسَّالِ يَقُولُ صَاحِبُ الثَّوْبِ يغر أجرةٍ وَيَقُولُ الْغسالُ بأجرةٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ وَأَوْلَى بِقَوْلِهِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ في كتاب المزارعة. وقد بينه فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ مُسْتَوْفَاةً وَلَكِنْ نُشِيرُ إِلَيْهَا لِمَكَانِ إِعَادَتِهَا، فَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْأَرْضِ وَزَارِعُهَا فَقَالَ رَبُّهَا بِأُجْرَةٍ وَقَالَ زَارِعُهَا عَارِيَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ دُونَ الزَّارِعِ وَقَالَ فِي الدَّابَّةِ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّهَا وَالرَّاكِبُ فَقَالَ رَبُّهَا بِأُجْرَةٍ وَقَالَ رَاكِبُهَا عَارِيَةٌ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ، دُونَ رَبِّهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا يَنْقُلُونَ جَوَابَ(7/472)
كُلِّ مَسْأَلَةٍ إِلَى الْأُخْرَى، وَيُخَرِّجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرْنَا تَوْجِيهها. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَحْمِلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَيَجْعَلُ الْقَوْلَ فِي الدَّابَّةِ قَوْلَ رَاكِبِهَا دُونَ رَبِّهَا، وَفِي الْأَرْضِ الْقَوْلَ قَوْلَ رَبِّهَا دُونَ زَارِعِهَا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي إِعَارَةِ الدَّوَابِّ وَإِجَارَةِ الْأَرَضِينَ.
فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ وَالدَّابَّةِ فَمَعَ يَمِينِهِ وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِيمَا مَضَى عَلَى أَصَحِّ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا، وَفِي الْآخَرِ الْمُسَمَّى، وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّارِعِ وَالرَّاكِبِ فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى، وَعَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَلَعَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّمَا قُبِلَ فِي الْمَاضِي دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ بَذَلَهَا أَقَرَّ زَرْعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(7/473)
كتاب إحياء الموات
من كتاب وضعه بخطه لا أعلمه سمع منه
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " بِلَادُ الْمُسْلِمِينَ شَيْئَانِ عامرٌ ومواتٌ فَالْعَامِرُ لِأَهْلِهِ وَكُلُّ مَا صَلَحَ بِهِ الْعَامِرُ مِنْ طريقٍ وفناءٍ وَمَسِيلِ ماءٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ كَالْعَامِرِ فِي أَنْ لَا يُمْلَكَ عَلَى أَهْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَالْمَوَاتُ شَيْئَانِ مَوَاتُ مَا قَدْ كَانَ عَامِرًا لِأَهْلِهِ مَعْرُوفًا فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ ذَهَبَتْ عِمَارَتُهُ فَصَارَ مَوَاتًا فَذَلِكَ كَالْعَامِرِ لِأَهْلِهِ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ. وَالْمَوَاتُ الثَّانِي مَا لَا يَمْلِكُهُ أحدٌ فِي الْإِسْلَامِ يُعْرَفْ وَلَا عِمَارَةَ مِلْكٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَمْ يُمْلَكْ فَذَلِكَ الْمَوَاتُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ بِالْإِحْيَاءِ رِوَايَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعَرَقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ.
وَرَوَى وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال من أحياء أَرْضًا مَيْتَةً فِيهَا أَجْرٌ وَمَا أَكَلَتِ الْعَوَافِي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَالْعَوَافِي: جَمْعُ عَافٍ وَهُوَ طَالِبُ الْفَضْلِ.
وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَى أَنَّ الْأَرْضَ أَرْضُ اللَّهِ وَالْعِبَادَ عِبَادُ اللَّهِ وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ جَاءَنَا بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ.
وَرَوَى شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فهي " له.(7/474)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " عِمَارَاتُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ فَيْءٌ وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجر عَلَيْهِ مِلْكٌ نَوْعَانِ: أَرْضٌ، وَحَيَوَانٌ، فَلَمَّا مَلَكَ الْحَيَوَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ بِالِاصْطِيَادِ مَلَكَ مَوَاتَ الْأَرْضِ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْإِحْيَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: بِلَادُ الْمُسْلِمِينَ شيئان عامر وموات ونما خَصَّ الشَّافِعِيُّ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِسْمَيِ الْعَامِرِ وَالْمَوَاتِ وَإِنْ كَانَتْ بِلَادُ الشِّرْكِ قِسْمَيْنِ: عَامِرٌ، وَمُوَاتٌ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ عَامِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ لِأَهْلِهِ لَا يُمْلَكُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَعَامِرَ بِلَادِ الشِّرْكِ قَدْ يُمْلَكُ عَلَيْهِمْ قَهْرًا وَغَلَبَةً بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَدَأْنَا بِذِكْرِ الْعَامِرِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بِمَوَاتِهِمْ أَمَّا الْعَامِرُ فَلِأَهْلِهِ الَّذِينَ قَدْ مَلَكُوا بِأَحَدِ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ:
أَحَدُهَا: الْمِيرَاثُ.
وَالثَّانِي: الْمُعَاوَضَاتُ.
وَالثَّالِثُ: الْهِبَاتُ.
وَالرَّابِعُ: الْوَصَايَا.
وَالْخَامِسُ: الْوَقْفُ.
وَالسَّادِسُ: الصَّدَقَاتُ.
وَالسَّابِعُ: الْغَنِيمَةُ.
وَالثَّامِنُ: الْإِحْيَاءُ.
فَإِذَا مَلَكَ عَامِرًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الثَّمَانِيَةِ صَارَ مَالِكًا لَهُ وَلِحَرِيمِهِ وَمَرَافِقِهِ مِنْ فِنَاءٍ وَطَرِيقٍ وَمَسِيلِ مَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَرَافِقِ الْعَامِرِ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي الْعَامِرُ عَنْهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْعَامِرِ بِإِحْيَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ فَمَنْ أَحْيَاهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: حَرِيمُ الْعَامِرِ كَسَائِرِ الْمَوَاتِ مَنْ أَحْيَاهُ فَقَدْ مَلَكَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا حِمَى إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: ثُلَّةِ الْبِئْرِ، وَطُولِ الْفَرَسِ، وَحَلْقَةِ الْقَوْمِ.(7/475)
وَثُلَّةُ الْبِئْرِ: هُوَ مَلْقَى طِينِهَا وَطُولُ الْفَرَسِ وَهُوَ مَا انْتَهَى الْفَرَسُ إِلَيْهِ بِحَبْلِهِ الَّذِي قَدْ رُبِطَ بِهِ وَحَلْقَةُ الْقَوْمِ فَإِنَّهُ نَهَى مِنْهُ عَنِ الْجُلُوسِ وَسَطَ الْحَلْقَةِ، وَلِأَنَّ حَرِيمَ الْعَامِرِ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم على عهد خلفاءه مقراً على أهله لم يتعرض أحد لإحياءه مَعَ مَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ عِنْدَ كَثْرَتِهِمْ مِنْ ضِيقِ الْعَامِرِ بِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إِحْيَاءُ حريم العامر ومنع أهله منه بالإحياء ليبطل الْعَامِرُ عَلَى أَهْلِهِ وَسَقَطَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَقْضِي إِلَى أَنْ يَبْنِيَ الرَّجُلُ دَارًا يَسُدُّ بِهَا بَابَ جَارِهِ فَلَا يَصِلُ الْجَارُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا مِنَ الضَّرَرِ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَلَيْسَ الْحَرِيمُ مَوَاتًا فَيَصِحُّ استدلال داود عليه.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْمَوَاتُ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يَزَلْ عَلَى قَدِيمِ الدَّهْرِ مَوَاتًا لَمْ يُعْمَرْ قَطُّ فَهَذَا هُوَ الْمَوَاتُ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ " فَمَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ مَلَكَهُ وَإِنْ أَحْيَاهُ ذِمِّيٌّ لَمْ يَمْلِكْهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَمْلِكُهُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسْلِمِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ " وَلِأَنَّهَا أَعْيَانٌ مُبَاحَةٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَمَلُّكِهَا الْمُسْلِم وَالذِّمِّيُّ كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَمْلِكَ بِالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ صَحَّ أَنْ يَمْلِكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ كَالْبَيْعِ.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ " فَوَاجَهَ الْمُسْلِمِينَ بِخِطَابِهِ وَأَضَافَ مِلْكَ الْمَوَاتِ إِلَيْهِمْ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " إِشَارَةً إِلَى إِجْلَائِهِمْ حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْحِجَازِ فَلَمَّا أَمَرَ بِإِزَالَةِ أَمْلَاكِهِمِ الثَّابِتَةِ فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ أَنْ يَسْتَبِيحُوا أَمْلَاكًا مُحْدَثَةً؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْمِلْكِ أَقْوَى مِنَ الِاسْتِحْدَاثِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْأَقْوَى فَالْأَضْعَفُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَقَرَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِجِزْيَةٍ مُنِعَ مِنَ الْإِحْيَاءِ كَالْمُعَاهِدِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْكَافِرُ قَبْلَ عَقْدِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدَ عَقْدِ الْجِزْيَةِ.
أَصْلُهُ: نِكَاحُ الْمُسْلِمَةِ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَمْلِيكٍ يُنَافِيهِ كُفْرُ الْحَرْبِيِّ فَوَجَبَ أَنْ يُنَافِيَهُ كُفْرُ الذِّمِّيِّ كَالْإِرْثِ مِنْ مُسْلِمٍ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أحيا أرضاً مواتاً فهي له " فهل أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَارِدٌ فِي بَيَانِ مَا يَقَعُ بِهِ الْمِلْكُ.
وَقَوْلُهُ: " ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي " وَارِدٌ فِي بَيَانِ مَنْ يَقَعُ لَهُ الْمِلْكُ فَصَارَ الْمَعْنَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ(7/476)
مِنْهُمَا فِيمَا قَصَدَ لَهُ قَاضِيًا عَلَى صَاحِبِهِ فَصَارَ الْخَبَرَانِ فِي التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ لَهُ ".
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْغَنِيمَةِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَوِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِيهَا مَعَ كَوْنِهَا أَعْيَانًا مُبَاحَةً ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنَ النَّقْصِ لَكَانَ الْمَعْنَى فِي الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ أَنْ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِيهِ إِذَا أَخَذَهُ الْكَافِرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِحْيَاءُ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعِ الْمُعَاهِدُ مِنَ الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ وَإِنْ مُنِعَ مِنَ الْإِحْيَاءِ فَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِي فرقوا به في المعاهد بين إحياءه وَاصْطِيَادِهِ هُوَ فَرْقَنَا فِي الذِّمِّيِّ بَيْنَ إِحْيَائِهِ وَاصْطِيَادِهِ وَهُوَ الْجَوَابَ عَنْ قِيَاسِهِم الثَّانِي، وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ فَضِيلَتُهُ بِدِينِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ مُبَايِنَةٍ لِصِغَارِ الذِّمَّةِ فَاسْتَعْلَى عَلَى مَنْ خَالَفَ الْمِلَّةَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسْلِمُ دُونَ الذِّمِّيِّ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْبَيْعِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْمُعَاهِدُ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الذِّمِّيُّ وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي الْإِحْيَاءِ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْمُعَاهِدُ لَمْ يَمْلِكْ بِهِ الذِّمِّيُّ.
فَصْلٌ
: وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ: مَا كَانَ عَامِرًا ثُمَّ خُرِّبَ فَصَارَ بِالْخَرَابِ مَوَاتًا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَاهِلِيًّا لَمْ يُعْمَرْ فِي الْإِسْلَامِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ خُرِّبَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا مُنْدَرِسًا كَأَرْضِ عَادٍ وَتُبَّعٍ فَهَذَا كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الأرض لله ورسوله ثم هي لكم مني ".
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ بَاقِيَ الْعِمَارَةِ إِلَى وَقْتِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ خُرِّبَ وَصَارَ مَوَاتًا قَبْلَ أن يصير من بلا الْإِسْلَامِ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَرْفَعَ أَرْبَابُهُ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ كَالَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ إِلَى حِينِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا يَكُونُ فِي حُكْمِ عَامِرِهِمْ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُجْهَلَ حَالُهُ فَلَا يُعْلَمُ هَلْ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ عَنْهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَفِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَجْهَانِ كَالَّذِي جُهِلَ حَالُهُ.
فَصْلٌ
: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ مَا كَانَ عَامِرًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ خُرِّبَ حَتَّى ذَهَبَتْ عِمَارَتُهُ، وَانْدَرَسَتْ آثَارُهُ فَصَارَ مَوَاتًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ، سَوَاءٌ عُرِفَ أَرْبَابُهُ أَوْ لم يعرفوا.(7/477)
وَقَالَ مَالِكٌ: يَصِيرُ كَالْمَوَاتِ الْجَاهِلِيِّ يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ سَوَاءٌ عُرِفَ أَرْبَابُهُ أَوْ لَمْ يُعْرَفُوا.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ عُرِفَ أَرْبَابُهُ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِمْ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا مُلِكَ بِالْإِحْيَاءِ؛ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ، وَحَقِيقَةُ الْمَوَاتِ: مَا صَارَ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ مَوَاتًا، وَمَا لَمْ يَزَلْ مَوَاتًا فَإِنَّمَا يُسَمَّى مَجَازًا، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا صَارَ مَوَاتًا مِنَ الْعَامِرِ زَالَ عن حكم العامر كَالْجَاهِلِيِّ، وَلِأَنَّهُ مَوَاتٌ فَجَازَ إِحْيَاؤُهُ كَسَائِرِ الْمَوَاتِ؛ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ.
وَرَوَى عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا فَجَعَلَ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنِ الْمَوَاتِ شَرْطًا فِي جَوَازِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ وَرَوَى أَسْمَرُ بْنُ مُضَرِّسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ مَالٌ " فَخَرَجَ النَّاسُ تَبَعًا يَتَخَاطُّونَ، وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِلْكُ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالَّذِي بَقِيَتْ آثَارُهَا مَعَ مَالِكٍ، وَكَالَّذِي تَعَيَّنَ أَرْبَابُهَا مَعَ أبي حنيفة، وَلِأَنَّ مَا صَارَ مَوَاتًا مِنْ عَامِرِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ كَالْأَوْقَافِ وَالْمَسَاجِدِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ فَهُوَ دليل عليهم، لأنه الْأَوَّلَ قَدْ أَحْيَاهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِهَا مِنَ النَّاسِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَسْبَقُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مِلْكَهُ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْجَاهِلِيِّ وَعَلَى الَّذِي لم ينزل مَوَاتًا فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَجر عَلَيْهِمَا ملك مسلم.
فصل
: فإذا تقرر أن إحياؤه لَا يَجُوزُ فَإِنْ عُرِفَ أَرْبَابُهُ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ وَلَهُمْ بَيْعُهُ إِنْ شَاءُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ أَرْبَابُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ يُعْمِّرُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا، لِقِيَامِهِ بِالنَّظَرِ الْعَامِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وعطيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَّةٌ لِمَنْ أَحْيَا الْمَوَاتَ أَثْبَتُ مِنْ عَطِيَّةِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ سُلْطَانٍ وَغَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهَذَا كَمَا قَالَ.
الْمَوَاتُ يُمْلَكُ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَإِقْطَاعِهِ وَبِهِ قَالَ أبو يوسف ومحمد.(7/478)
وَقَالَ أبو حنيفة: مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَمْلِكْهُ وَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ لِلْأَرْضِ ثَمَنٌ وَيُشَاعُ النَّاسُ عَلَيْهَا وَيَتَنَافَسُونَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ إِحْيَاؤُهَا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَتْ مُهْمَلَةً جَازَ إِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِحْيَاؤُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ إِحْيَائِهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ أُصُولُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ لَمْ يُمْلَكْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْمَعَادِنِ، وَلِأَنَّ وُجُوهَ الْمَصَالِحِ إِذَا كَانَ اجْتِهَادٌ لِلْإِمَامِ فِيهَا يَقْطَعُ الِاخْتِلَاف وَالتَّنَازُع فِيهَا كَانَ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهَا قِيَاسًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلِأَنَّ مَا يَبْتَدِئُ الْمُسْلِمُ بِمِلْكِهِ لَا يفتقر إلى إذن الإمام كالصيد، ولأن كل مَا لَا يَفْتَقِرُ بِمِلْكِ الصَّيْدِ إِلَيْهِ لَمْ يفتقر إلى إذن الإمام كالصيد، ولأن كل مَا لَا يَفْتَقِرُ بِمِلْكِ الصَّيْدِ إِلَيْهِ لَمْ يَفْتَقِرِ الْإِحْيَاءُ لَهُ كَإِذْنِ غَيْرِ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَلَى الْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيهِ لَمْ يَفْتَقِرِ الْإِحْيَاءُ لَهُ كَإِذْنِ غَيْرِ الْإِمَامِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْحَصِرُ عَلَى الْإِذْنُ فِيهِ لَمْ يَفْتَقِرْ تَمَلُّكُهُ إِلَى إِذْنِهِ كَالْمَاءِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يَمْلِكْهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَفْتَقِرِ الْمُسْلِمُ فِي تَمَلُّكِهِ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْغَنَائِمِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَمْلِيكٍ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التَّمْلِيكِ إِنَّمَا يُسْتَفَادُ بِهِ رَفْعُ الْحَجْرِ عَنِ الْمُتَمَلِّكِ وَالْمَوَاتُ مَرْفُوعُ الْحَجْرِ عَنْهُ فَلَمْ يُفِدْهُ الْإِذْنُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمامه " فمن وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا أَجَابَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ إِمَامُنَا وَإِمَامُ الْأَئِمَّةِ قَدْ طَابَتْ نَفْسُهُ لَنَا بِذَلِكَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَوَتَانُ الْأَرْضِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنِّي ".
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ فِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَأَنْوَاعِ الْغَنَائِمِ وَسَائِرِ الْمَصَالِحِ فَخَصَّ الْمَوَاتَ مِنْهُ، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أحيا أرضاً موات فَهِيَ لَهُ "، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمَعَادِنِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعَادِنَ أَمْوَالٌ فِي الْحَالِ يُتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِهَا بِالْعَمَلِ فَصَارَتْ كَأَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَوَاتُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي كَوْنِهِمَا مَالًا، لِأَنَّ الْمَوَاتَ قَدْ يَصِيرُ مَالًا لَكَانَ الْمَعْنَى في أموال البيت الْمَالِ أَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ فِيهَا مَحْصُورٌ، وَفِي الْمَوَاتِ غَيْرُ مَحْصُورٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَوَاتَ يَجُوزُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ أَحْيَاهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَقَدْ مَلَكَهُ وَمَلَكَ حَرِيمَهُ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، فَإِنْ خُرِّبَ بَعْدَ إِحْيَائِهِ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ مِلْكُ مَالِكِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِزَوَالِ الْعِمَارَةِ فَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا وقد مضى الكلام معه.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وسواءٌ كان إلى جنب قريةٍ عامرةٍ أو حَيْثُ كَانَ وَقَدْ أَقْطَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الدُّورَ فَقَالَ حَيٌّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ بْنِ زُهْرَةَ نَكَبَ عَنَّا ابْنُ أُمِّ عبدٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلِمَ ابْتَعَثَنِي اللَّهُ إِذَنْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ(7/479)
فِيهِمْ لِلضَّعِيفِ حَقُّهُ " وَفِي ذَلِكَ دِلَالَةٌ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْطَعَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالنَّخْلِ وَإِنَّ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْعَامِرِ ودلالةٌ عَلَى أَنَّ مَا قَارَبَ الْعَامِرَ يَكُونُ مِنْهُ مَوَاتٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي حَدِّ الْمَوَاتِ إِذَا اتَّصَلَ بِعَامِرٍ.
وَالثَّانِي: هَلْ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ أَوْ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْعَامِرِ، فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَدِّ الْمَوْتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمَوَاتَ كُلَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَامِرًا، وَلَا حَرِيمًا لِعَامِرٍ سَوَاءٌ قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ أَوْ بَعُدَ، وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَوَاتُ هُوَ كُلُّ أَرْضٍ لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ وَتَبْعُدُ مِنَ الْعَامِرِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا مِلْكٌ لِأَحَدٍ، وَقَالَ أبو يوسف: أَرْضُ الْمَوَاتِ كُلُّ أَرْضٍ إِذَا وُقِفَ عَلَى أَدْنَاهَا مِنَ الْعَامِرِ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يَسْمَعْهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي الْعَامِرِ، اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا دَعْوَةً مِنَ الْمِصْرِ أَوْ قَالَ فِيهِ مِنَ الْمِصْرِ فَهِيَ لَهُ.
وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْتَطَعَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ وَلِأَنَّ الْبِلَادَ الْمُحَيَّاةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم على عهد خلفاءه مُتَّصِلَةُ الْعِمَارَةِ مُتَلَاصِقَةُ الْجُذُورِ وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوهُ لَوَجَبَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ كُلِّ عِمَارَتَيْنِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّحْدِيدِ، وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فَحْوَاهُ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْمِصْرِ جَازَ إِحْيَاؤُهُ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْمَوَاتِ إِذَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ فَإِنَّ النَّاسَ كلم يَتَسَاوُونَ فِي إِحْيَائِهِ وَلَا يَكُونُ أَهْلُ الْعَامِرِ أَحَقَّ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: أَهْلُ الْعَامِرِ أَحَقُّ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِ اقْتَطَعَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ عِمَارَةِ الْأَنْصَارِ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَاقْتَطَعَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا، وَأَقْطَعَ للزبير بالبقيع رقض فَرَسِهِ، وَرَوَى عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَامَ بِفَنَاءِ دَارِهِ فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ وَقَالَ لِي سَنَامُ الْأَرْضِ أَنَّ لَهَا سَنَامًا زَعَمَ ابْنُ فَرْقَدٍ الْأَسْلَمِيُّ أَنِّي لَا أَعْرِفُ حَقِّي مِنْ حَقِّهِ، لِي بَيَاضُ الْمَرْوَةِ وَلَهُ سَوَادُهَا، وَلِي مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ إِلَّا مَا أَحَاطَتْ بِهِ جُدْرَانُهُ وَلَا يَمْلِكُ إِلَّا مَا حَفَرَ أَوْ زَرَعَ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُمَلَّكْ أهل العامل لَمْ يَكُنْ لَهُمُ الْمَنْعُ مِنْ إِحْيَائِهِ قِيَاسًا على البعيد من عامره.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْمَوَاتُ الَّذِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ يُعْمِرُهُ خَاصَّةً وَأَنْ يَحْمِيَ مِنْهُ مَا يَرَى أَنْ يَحْمِيَهُ عَامًّا لِمَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ وَالَّذِي عَرَفْنَا نَصًّا ودلالةً(7/480)
فِيمَا حَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه حمى النقيع وهو بلد ليس بالواسع الذي إذا حمى ضاقت البلاد على أهل المواشي حوله وأضر بهم وكانوا يجدون فيما سواه من البلاد سعةً لأنفسهم ومواشيهم وأنه قليلٌ من كثيرٍ مجاوزٍ للقدر وفيه صلاحٌ لعامة المسلمين بأن تكون الخيل المعدة لسبيل الله تبارك وتعالى وما فضل من سهمان أهل الصدقات وما فضل من النعم التي تؤخذ من الجزية ترعى جميعها فيه فأما الخيل فقوةٌ لجميع المسلمين ومسلك سبيلها أنها لأهل الفيء والمجاهدين وأما النعم التي تفضل عن سهمان أهل الصدقات فيعاد بها على أهلها وأما نعم الجزية فقوةٌ لأهل الفيء من المسلمين فلا يبقى مسلمٌ إلا دخل عليه من هذا خصلة صلاحٍ في دينه أو نفسه أو من يلزمه أمره من قريبٍ أو عامةٍ من مستحقي المسلمين فكان ما حمى عن خاصتهم أعظم منفعةً لعامتهم من أهل دينهم وقوةً على من خالف دين الله عز وجل من عدوهم قد حمى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى هذا المعنى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَلَّى عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ هُنَيُّ وقال له يا هنى ضم جناحك للناس وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مجابةٌ وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نخلٍ وزرعٍ وإن رب الغنيمة يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا؟ لا أبا لك والكلا أهون من الدرهم والدينار (قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ لِلْإِمَامُ أَنْ يحمي من الأرض إلا أقلها الذي لا يتبين ضرره على من حماه عليه وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا حمى إلا لله ورسول " (قال) وكان الرجل العزيز من العرب إذا انتجع بلداً مخصباً أوفى بكلبٍ على جبلٍ إن كان به أو نشز إن لم يكن ثم استعوى كلباً وأوقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء فحيث انتهى صوته حماه من كل ناحيةٍ لنفسه ويرعى مع العامة فيما سواه ويمنع هذا من غيره لضعفي ماشيته وما أراد معها فنرى أَنَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا حمى إلا لله ورسوله " لا حمى على هذا المعنى الخاص وأن قوله لله فلله كل محميٍّ وغيره ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنما يحمي لصلاح عامة المسلمين لا لما يحمي له غيره من خاصة نفسه وذلك أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يملك مالاً إلا ما لا غنى به وبعياله عنه ومصلحتهم حتى صير ما ملكه الله من خمس الخمس وماله إذا حبس قوت سنته مردوداً في مصلحتهم فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولأن نفسه وماله كان مفرغاً لطاعة الله تعالى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ يَخْتَصُّ بِالْمَوَاتِ، وَهِيَ الْإِحْيَاءُ، وَالْإِقْطَاعُ، وَالْحِمَى، فَأَمَّا الْإِحْيَاءُ فَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَهُ وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ وَسَنَذْكُرُ صِفَتَهُ، وَأَمَّا الْإِقْطَاعُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَوَاتٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ، وَعَلَى هَذَا كَانَتْ قَطَائِعُ(7/481)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ رَقْضَ فَرَسِهِ مِنْ مَوَاتِ الْبَقِيعِ فَأَجْرَاهُ ثُمَّ رَمَى بِسَوْطِهِ رَغْبَةً فِي الزِّيَادَةِ فَقَالَ أَعْطُوهُ مُنْتَهَى سَوْطِهِ وَأَقْطَعَ رَاشِدَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ السُّلَمِيَّ غَلْوَةً بِسَهْمٍ، وَغَلْوَةَ حَجَرٍ بِرُهَاطٍ، وَأَقْطَعَ الْعَدَّاءَ بْنَ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مَا يُقَالُ لَهُ سَوَاحُ الْوَخِيخِ، وَأَقْطَعَ الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ مَنْزِلَهُ بِالرَّشَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَى هَذَا كَانَتْ قَطَائِعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، فَإِنَّ تَمِيمًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُقْطِعَهُ عُيُونَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِالشَّامِ قَبْلَ فَتْحِهِ، وَأَبُو ثَعْلَبَةَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُقْطِعَهُ أَرْضًا كَانَتْ بِيَدِ الرُّومِ فَأَعْجَبَهُ الَّذِي قَالَ فَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِيَفْتَحَنَّ عَلَيْكَ، فَكَتَبْتُ له كتاباً فاحتمل ذلك من فعله أن يكون أقطعهما ذلك إقطاعاً تَقَيُدٍ لَا إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَخْصُوصَيْنِ بِذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِتَصْدِيقِ إِخْبَارٍ وَتَحْقِيقِ إِعْجَازٍ، وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَقْطَعَا إِلَّا مَوَاتًا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ وَاصْطَفَى عُمَرُ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ أَمْوَالَ كِسْرَى وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَا هَرَبَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ أَوْ هَلَكُوا فَكَانَ مَبْلَغُ تِسْعَةِ أَلْفِ أَلْفٍ فَكَانَ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْطَعَهَا، لِأَنَّهُ رَأَى اقْتِطَاعَهَا أَوْفَرَ لِغَلَّتِهَا مِنْ تَعْطِيلِهَا، وَشَرَطَ عَلَى مَنْ أَقْطَعَهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ حَقَّ الْفَيْءِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِقْطَاعَ إجازة لَا إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ وَقَدْ تَوَفَّرَتْ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ فَكَانَتْ مِنْهَا إِقْطَاعًا بِهِ وَصِلَاتِهِ ثُمَّ تَنَاقَلَهَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ فَلَمَّا كان عاد الْجَمَاجِمِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَفِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ لِحَرْقِ الدِّيوَانِ وَأَخْذِ كُلِّ قَوْمٍ مَا يَلِيهِمْ، وَإِذَا كَانَ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْمَوَاتِ دُونَ الْعَامِرِ فَالَّذِي يُؤْثِرُهُ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ الْمُقْطِعُ أَوْلَى النَّاسِ بِإِحْيَائِهِ مَنْ لَمْ يسبق إلى إحياءه لَمَّا كَانَ إِذْنُهُ وَفَضْلُ اجْتِهَادِهِ، فَلَوْ بَادَرَ بِإِحْيَائِهَا غَيْر الْمُقْتَطِعِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُحْيِي دُونَ الْمُقْطِعِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَحْيَاهَا قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ وَقْتِ الْإِقْطَاعِ فَهِيَ لِلْمُقْطِعِ، وَإِنْ أَحْيَاهَا بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَهِيَ لِلْمُحْيِي، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إِنْ أَحْيَاهَا عَالِمًا بِالْإِقْطَاعِ فَهِيَ لِلْمُقْطِعِ، وَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِالْإِقْطَاعِ خُيِّرَ الْمُقْطِعُ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ الْمُحْيِي نَفَقَةَ عِمَارَتِهِ وَتَكُونُ الْأَرْضُ لَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ عَلَيْهِ الْأَرْضَ وَيَأْخُذَ قِيمَتَهَا قَبْلَ الْعِمَارَةِ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَقْطَعَ أَقْوَاهَا أَرْضًا فَجَاءَ آخَرُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَحْيَوْهَا فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَرَغُوا إِلَيْهِ تَرَكْتُمُوهُمْ يَعْمَلُونَ وَيَأْكُلُونَ ثُمَّ جِئْتُمْ تُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ؟ لَوْلَا أَنَّهَا قَطِيعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَعْطَيْتُكُمْ شَيْئًا ثُمَّ قَوَّمَهَا عَامِرَةً وَقَوَّمَهَا غَيْرَ عَامِرَةٍ ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ الْأَصْلِ: إِنْ شِئْتُمْ فَرُدُّوا عَلَيْهِمْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَخُذُوا أَرْضَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ رَدُّوا عَلَيْكُمْ ثَمَنَ أَرْضِكُمْ ثم هلي لَهُمْ، وَدَلِيلُنَا عَلَى أَنَّهَا مِلْكُ الْمُحْيِي بِكُلِّ حَالٍ دُونَ الْمُقْطِعِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ "، وَلِأَنَّ الْإِقْطَاعَ لَا يُوجِبُ التَّمْلِيكَ وَالْإِحْيَاءَ يُوجِبُ التَّمْلِيكَ فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ مَا أَوْجَبَ التَّمْلِيكَ أَقْوَى حُكْمًا مِمَّا لَا يُوجِبُهُ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ فِي قَضِيَّتِهِ: لَوْلَا أَنَّهَا قَطِيعَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَعْطَيْتُكُمْ شَيْئًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهَا لِلْمُحْيِي وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ لِمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهَا مِنْ إِقْطَاعِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَرِهَ أَنْ يُبْطِلَهُ، فَاسْتَنْزَلَ الْخَصْمَيْنِ إِلَى مَا قضى به مَرْضَاةً لَا جَبْرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ قَدْ حَجَرَهَا وَجَمَعَ تُرَابَهَا حَتَّى تَمَيَّزَتْ عَنْ غيرها فجاء(7/482)
غَيْرُهُ فَعَمَرَهَا وَحَرَثَهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ مُقِيمًا عَلَى عِمَارَتِهَا حَتَّى تَغَلَّبَ عَلَيْهَا الثَّانِي فَعَمَرَهَا فَهِيَ لِلْأَوَّلِ وَيَكُونُ الثَّانِي مُتَطَوِّعًا بِعِمَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْطِعُ قَدْ تَرَكَ عِمَارَتَهَا فَعَمَرَهَا الثَّانِي فَهِيَ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ بَدَأَ بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ، فَهَذَا حُكْمُ الْإِقْطَاعِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْحِمَى فَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ لِيَتَوَفَّرَ فِيهِ الْكَلَأُ فَتَرْعَاهُ الْمَوَاشِي، لِأَنَّ الْحِمَى فِي كَلَامِهِمْ هُوَ الْمَنْعُ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: جَنْبُ الْمُؤْمِنِ مِنْ حِمَى، وَالْحِمَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَضَرْبٌ حَمَاهُ الْإِمَامُ بَعْدَهُ، وَضَرْبٌ حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ.
فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَبَلٍ بِالْبَقِيعِ يُقَالُ لَهُ يَعْمَلُ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا حِمَايَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْبِقَاعِ، وَهُوَ قَدْرُ مَيْلٍ فِي سِتَّةِ أَمْيَالٍ مَا بَيْنَ يَعْمَلَ إِلَى ثُلُثَيْنِ فَحَمَاهُ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ، ولأن اجتهاد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أمته أمضى وقضائه فِيهِمْ أَنْفَذُ، وَكَانَ مَا حَمَاهُ لِمَصَالِحِهِمْ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقَرًّا مِنْ إِحْيَائِهِمْ وَعِمَارَتِهِمْ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا حِمَى الْإِمَامِ بَعْدَهُ فَإِنْ أَرَادَ الْحِمَى لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِهِ أَوْ لِلْأَغْنِيَاءِ خُصُوصًا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ مَا حَمَاهُ مُبَاحًا لِمَنْ أَحْيَاهُ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِيَ لِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ وَالصَّدَقَةِ وَمَوَاشِي الْفُقَرَاءِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْحِمَى يَضُرُّ بِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَغْنِيَائِهِمْ لِضِيقِ الْكَلَأِ عَلَيْهِمْ بِحِمَى أَكْثَرِ مَوَاتِهِمْ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ يَكْتَفِي الْمُسْلِمُونَ بِمَا بَقِيَ مِنْ مَوَاتِهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يحْمى، لِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْكَلَأُ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ.
رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الله بن عباس عن الصعب عن جَثَّامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَمَى الْبَقِيعَ وَقَالَ لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ، لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَى بِالرَّبَذَةِ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ أَبُو أُسَامَةَ وَتَوَلَّاهُ عَلَيْهِ قُرْطُ بْنُ مَالِكٍ، وَحَمَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّرَفَ فَحَمَى مِنْهُ نَحْوَ مَا حَمَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالرَّبَذَةِ وَوَلَّى عَلَيْهِ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ هُنَيُّ وَقَالَ يَا هُنَيُّ اضم جَنَاحَكَ عَنِ النَّاسِ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَرَبَّ الْغَنِيمَةِ وَإِيَّاكَ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى نخل وزرع وإن سب(7/483)
الصَّرِيمَةِ وَالْغَنِيمَةِ يَأْتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَتَارِكُهُمْ أَنَا؟ لَا أَبَا لَكَ فَالْكَلَأُ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَايْمُ اللَّهِ نُودِيَ أَنِّي قَدْ طَلَحْتُهُمْ إِنَّمَا أَكْلَأُهُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْمَالُ الَّذِي أَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا حَمَيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: " الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاثٍ " فَهُوَ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْحِمَى عَلَى أَنَّ الْحِمَى يُشْرَكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، لِأَنَّ نَفْعَ الْحِمَى يَعُودُ عَلَى كَافَّتِهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، أَمَّا الْفُقَرَاءُ فَلِأَنَّهُ مَرْعَى صَدَقَاتِهِمْ، وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَلِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ عَنْهُمْ، وَأَمَّا قوله لا حمى إلا الله فَمَعْنَاهُ لَا حِمَى إِلَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيسلم فيما حماه للفقراء المسلمون وفي مصالحهم وخالفاً فِيهِ فِعْلَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْعَرَبِيَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كان إذا استولى على بلد أوفى بكلب فَجَعَلَهُ عَلَى جَبَلٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْوَاهُ فَحَيْثُ انْتَهَى عُوَاهُ حَمَاهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَرْعَى فِيهِ غَيْرُهُ وَيُشَارِكُ النَّاسَ فِيمَا سِوَاهُ، وَهَكَذَا كَانَ كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ إِذَا أعجبته روضة ألقى فيها كلباً وَحَمَى إِلَى مُنْتَهَى عُوَائِهِ، وَفِيهِ يَقُولُ مَعْبَدُ بْنُ شُعْبَةَ الضَّبِّيُّ كَفِعْلِ كُلَيْبٍ كُنْتُ أُنْبِئْتُ أَنَّهُ مُخَطَّطٌ أَكَلَأَ الْمِيَاهَ وَيَمْنَعُ وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ كَمَا بَغِيَهَا كُلَيْبٌ لِظُلْمَةٍ مِنَ الْعِزِّ حَتَّى ضَاعَ وَهُوَ قَتْلُهَا عَلَى وَائِلٍ أن يترك الكلب هائجاً وإذ يمنع الأكلأ مِنْهَا حَوْلَهَا.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا حِمَى الْوَاحِدِ مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فَمَحْظُورٌ وَحِمَاهُ مُبَاحٌ، لِأَنَّهُ إِنْ حَمَى لِنَفْسِهِ فَقَدْ تَحَكَّمُ وَتَعَدَّى بِمَنْعِهِ، وَإِنْ حَمَاهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِمْ وَلَا فِيمَنْ يُؤْثَرُ اجْتِهَادُهُ لَهُمْ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هَانِئٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تُمَانِعُوا فَضْلَ الْمَاءِ وَلَا فَضْلَ الكلأ فيعزل الْمَاء وَيَجُوعَ الْعِيَالُ " فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ حَمَى مَوَاتًا وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْهُ زَمَانًا رَعَاهُ وَحْدَهُ ثُمَّ ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ وَرَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَلَمْ يُغَرِّمْ مَا رَعَاهُ، لأنه ليس لمالك وَلَا يُعَزِّرُهُ لِأَنَّهُ أَحَدُ مُسْتَحِقِّيهِ وَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِ تَعَدِّيهِ، فَأَمَّا أَمِيرُ الْبَلَدِ وَوَالِي الْإِقْلِيمِ إِذَا رَأَى أَنْ يَحْمِيَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَالْإِمَامِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ أَعَمُّ، وَلَكِنْ لَوْ أَنَّ وَالِيَ الصَّدَقَاتِ اجْتَمَعَتْ مَعَهُ مَوَاشِي الصَّدَقَةِ وَقَلَّ الْمَرْعَى لها وخاف عليها التلف إن لم يحمي الْمَوَاتَ لَهَا فَإِنْ مَنَعَ الْإِمَامُ مِنَ الْحِمَى كَانَ وَالِي الصَّدَقَاتِ أَوْلَى، وَإِنْ جَوَّزَ الْإِمَامُ الْحِمَى فَفِي جَوَازِهِ لِوَالِي الصَّدَقَاتِ عِنْدَمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُدُوثِ الضَّرُورَةِ بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ الضَّرُورَةِ فَعَلَى هَذَا يَتَعَزَّرُ الْحِمَى بِزَمَانِ الضَّرُورَةِ وَلَا يَسْتَدِيمُ بِخِلَافِ حِمَى الْإِمَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يحمى، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ أَمْوَالِ الْفُقَرَاءِ(7/484)
بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَيَكُونُ الضَّرَرُ إِنْ كَانَ بِالْفَرِيقَيْنِ مَعًا، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ لأحدٍ أَنْ يُعْطِيَ وَلَا يَأْخُذَ مِنَ الَّذِي حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ أُعْطِيَهُ فَعَمَّرَهُ نُقِضَتْ عِمَارَتُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا حِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ أَحَدٌ مِنْ إِحْيَائِهِ، فَإِنْ أَحْيَاهُ إِنْسَانٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ السَّبَبِ الَّذِي حَمَاهُ مِنْ أَجْلِهِ مِنْ مَوَاشِي الْفُقَرَاءِ ونعم بعلاقات مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ زَائِلًا فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ بَاقِيًا وَالْحَاجَةُ إِلَيْهِ مَاسَّةً فَإِحْيَاؤُهُ مَرْدُودٌ وَعِمَارَتُهُ مَنْقُوضَةٌ وَهُوَ عَلَى مَا حَيَّاهُ بِمَنْعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ مِنْ إِحْيَائِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَعَقَّبَ بِنَقْضٍ، وَلَا أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِإِبْطَالٍ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ زَائِلًا وَحَاجَةُ الْفُقَرَاءِ إِلَيْهِ قَدِ ارْتَفَعَتْ وَنَعَمُ الصَّدَقَاتِ قَدْ تَحَوَّلَتْ فَفِي جَوَازِ إِحْيَائِهِ وَإِقْرَارِ عِمَارَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ: يَجُوزُ، لِأَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي زَوَالَ الْمُسَبِّبِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَإِنْ زَالَ سَبَبُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ السَّبَبُ بَعْدَ زَوَالِهِ كَمَا أَنَّ مَا خَرِبَ مِنَ الْمَسَاجِدِ بِخَرَابِ بِقَاعِهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِجَوَازٍ أَنْ تَعُودَ عِمَارَةُ الْبُقْعَةِ فَيُحْتَاجُ إلى مساجدها، ولأن في إحيائه نقض لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا حِمَى الْأَئِمَّةِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِحْيَاؤُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ حِمَى الْإِمَامِ جَائِزٌ كَحِمَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهَلْ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَتَمْلِيكُ مُحْيِيهِ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا لَا يَمْلِكُ حمى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا حِمًى مُحَرَّمٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ وَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ، لِأَنَّ حِمَى الْإِمَامِ اجْتِهَادٌ وَمِلْكَ الْمَوَاتِ بِالْإِحْيَاءِ نَصٌّ، وَالنَّصُّ أَثْبَتُ حُكْمًا مِنَ الِاجْتِهَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(7/485)
باب ما يكون إحياءٌ
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْإِحْيَاءُ مَا عَرَفَهُ النَّاسُ إحياءٌ لِمِثْلِ الْمُحَيَّا إِنْ كَانَ مَسْكَنًا فَبِأَنْ يَبْنِيَ بِمِثْلِ مَا يَكُونُ مِثْلُهُ بِنَاءً وَإِنْ كَانَ لِلدَّوَابِّ فَبِأَنْ يَبْنِيَ مَحْظَرَةً وَأَقَلُّ عِمَارَةِ الزَّرْعِ الَّتِي تُمْلَكُ بِهَا الْأَرْضُ أَنْ يَجْمَعَ تُرَابًا يُحِيطُ بِهَا تَتَبَيَّنُ بِهِ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِهَا وَيَجْمَعَ حَرْثَهَا وَزَرْعَهَا وَإِنْ كَانَ لَهُ عَيْنُ ماءٍ أَوْ بئرٌ حَفَرَهَا أَوْ سَاقَهُ مِنْ نهرٍ إِلَيْهَا فَقَدْ أَحْيَاهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذِكْرَ الْإِحْيَاءَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا، لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفًا وَكُلُّهُمْ إِلَيْهِ كَمَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الْحِرْزِ فِي قَطْعِ السَّارِقِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ، لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفًا لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ كَانَ تَقْدِيرُهُ مَأْخُوذًا مِنَ الْعُرْفِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَعُرْفُ النَّاسِ فِي الْإِحْيَاءِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُحَيَّا فَيُقَالُ لِلْمُحْيِي لِمَاذَا تريد إحياؤه؟ فإن قال أريد إحياؤه لِلسُّكْنَى قِيلَ فَأَقَلُّ الْإِحْيَاءِ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ مَالِكًا أَنْ تَبْنِيَ حِيطَانًا تَحْظُرُ، وَسَقْفًا يُورِي، فَإِذَا بَنَيْتَ الْحِيطَانَ وَالسَّقْفَ فَقَدْ أَحْيَيْتَهُ وَمَلَكْتَهُ، وَلَوْ بَنَيْتَ وَلَمْ تَسْقُفْ لَمْ يَكْمُلِ الْإِحْيَاءُ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْمِلْكُ، لِأَنَّ سُكْنَى مَا لَمْ يَسْقُفْ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الْعُرْفِ.
فَصْلٌ
: فَإِنْ قال أريد إحياؤه لِلدَّوَابِّ أَوِ الْغَنَمِ فَأَقَلُّ الْإِحْيَاءِ لِذَلِكَ أَنْ تَبْنِيَ حِيطَانًا فَتَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْيِيًا مَالِكًا، لِأَنَّ الدَّوَابَّ وَالْغَنَمَ قَدْ لَا تَحْتَاجُ فِي الْعُرْفِ إلى سقف، فلو لم يبني حِيطَانَهَا وَلَكِنْ عَبَّأَ الْأَحْجَارَ حَوْلَهَا فَذَلِكَ تَحْجِيرٌ يَصِيرُ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِإِحْيَاءٍ يَصِيرُ بِهِ مَالِكًا، وَهَكَذَا لَوْ حَظَرَ عَلَيْهَا بغصب إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكَانًا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِهِ أَنْ يَبْنُوا أَوْطَانَهُمْ بِالْقَصَبِ كَعَرِينٍ بَيْنَ آجَامِ الْبَطَائِحِ فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُحْيِيًا اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِيهِ، وَهَكَذَا فِي بِلَادِ جَبَلَانِ عُرْفُهُمْ أَنْ يَبْنُوا مَنَازِلَ أَوْطَانِهِمْ بِالْخَشَبِ فَيَصِيرُ بِنَاؤُهَا بِذَلِكَ إِحْيَاءً يَتِمُّ بِهِ الْمِلْكُ لِعُرْفِهِمْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِ بِلَادِهِمْ إِحْيَاءً.
فَصْلٌ
: فإن قال أريد إحيائها لِلزَّرْعِ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْمَعَ لَهَا تُرَابًا يُحِيطُ بِهَا وَيُمَيِّزُهَا عَنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ سَنَاهْ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَسُوقَ الْمَاءَ إِلَيْهَا إِنْ كَانَتْ يَبَسًا مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَطَائِحَ حُبِسَ الْمَاءُ عَنْهَا، لِأَنَّ إِحْيَاءَ الْبَطَائِحِ يَحْبِسُ الْمَاءَ عَلَى شُرُوطِهِ.(7/486)
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخَزِّنَهَا لِيُمْكِنَ زَرْعُهَا، وَالْحَرْثُ يجمع ويمسح ما استعلا مِنْ تَطْوِيلِ مَا انْخَفَضَ، فَإِنْ سَاقَ الْمَاءَ وَلَمْ يَحْرُثْ فَقَدْ مَلَكَ الْمَاءَ وَحَرِيمَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ مَا تَحَجَّرَ عَلَيْهِ فَإِذَا حَرَثَ بَعْدَ التَّحْجِيرِ وَسَوَّقَ الْمَاءَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَمَالِ الْإِحْيَاءِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ الْإِحْيَاءَ قَدْ كَمُلَ وَالْمِلْكَ قَدْ تَمَّ وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ وَلَمْ يَغْرِسْ، لِأَنَّ مَثَابَةَ الزَّرْعِ بَعْدَ الْعِمَارَةِ بِمَثَابَةِ السُّكْنَى بَعْدَ الْبِنَاءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْإِحْيَاءِ كَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالْغَرْسُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ الْإِحْيَاءُ وَلَا يَتِمُّ الْمِلْكُ إِلَّا بِالزَّرْعِ وَالْغَرْسِ بَعْدَ الْحَرْثِ، لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْعِمَارَةِ، وَمَثَابَةُ السُّكْنَى بَعْدَ الْبِنَاءِ بِمَثَابَةِ الْحَصَادِ بَعْدَ الزَّرْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا يَكْمُلُ الْإِحْيَاءُ وَلَا يَتِمُّ الْمِلْكُ إِلَّا بِالزَّرْعِ أَوِ الْغَرْسِ ثُمَّ بِالسَّقْيِ، فَمَا لَمْ يُسْقَ لَمْ يَكْمُلِ الْإِحْيَاءُ، لِأَنَّ الْعِمَارَةَ لَمْ تَكْمُلْ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّهَا، فَإِذَا كَمُلَ الْإِحْيَاءُ بِمَا وَصَفْنَا وَاسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمُحْيِي عَلَيْهَا بِمَا بَيَّنَّا فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ وَلَيْسَتْ أَرْضَ خَرَاجٍ، سَوَاءٌ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَوْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ.
وَقَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف: إِنْ سَاقَ إِلَيْهَا مَاءَ الْخَرَاجِ وَسَقَاهَا بِهِ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَإِنْ سَاقَ إِلَيْهَا مَاءَ الْعُشْرِ فَسَقَاهَا بِهِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، وَقَالَ محمد بن الحسن: إِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمُحَيَّاةُ عَلَى أَنْهَارٍ احْتَفَرَتْهَا الْأَعَاجِمُ فَهِيَ أَرْضُ خَرَاجٍ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنْهَارٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ وَالْبَحْرِ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَا أُحْيِيَ مِنْ مَوَاتِ الْبَصْرَةِ وَسِبَاخِهَا أَرْضُ عُشْرٍ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن فَلِأَنَّ دِجْلَةَ الْبَصْرَةِ مِمَّا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَنْهَارِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَنْهَارِ الْمُحْدَثَةِ فَهِيَ مُحَيَّاةٌ احْتَفَرَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَوَاتِ، وَأَمَّا أبو حنيفة قد اخْتَلَفَ فِي عِلَّةِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَاءَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ يَسْتَقِرُّ فِي الْبَطَائِحِ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُهُ وَيَذْهَبُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى دِجْلَةَ وَالْبَصْرَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَاءِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ الْبَطَائِحَ لَيْسَتْ مِنْ أَنْهَارِ الْخَرَاجِ وَهَذَا قَوْلُ طَلْحَةَ بْنَ آدَمَ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَاءَ الْخَرَاجِ يفبض إِلَى دِجْلَةِ الْبَصْرَةِ فِي حِرْزِهَا وَأَرْضُ الْبَصْرَةِ يَشْرَبُ مِنْ مَدِّهَا، وَالْمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ وَلَيْسَ مِنْ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ جَعَلُوهُ عُذْرًا لِمَذْهَبِهِمْ حِينَ شَاهَدُوا الصَّحَابَةَ وَمَنْ تَعَقَّبَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عِنْدَ إِحْيَاءِ الْبَصْرَةِ وَهِيَ أَوَّلُ مِصْرٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهَا خَرَاجٌ وَلَيْسَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ إِلَّا أَنَّهُ مَوَاتٌ اسْتُحْدِثَ إِحْيَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوَاتٍ أُحْيِيَ؛ ولأنه لو كان حكم الأرض معتبراً بماءها حَتَّى تَصِيرَ أَرْضُ الْعُشْرِ خَرَاجًا بِمَاءِ الْخَرَاجِ لَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ أَرْضُ الْخَرَاجِ عُشْرًا بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَفِي تَرْكِهِمْ لِلْقَوْلِ بِذَلِكَ فِي مَاءِ الْعُشْرِ إِبْطَالٌ لِمَا قَالُوهُ فِي مَاءِ الْخَرَاجِ، وَلِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْمَاءَ فَرْعٌ، لِأَمْرَيْنِ:(7/487)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ قَدْ يُصَرَّفُ عَنْ أَرْضٍ إِلَى أُخْرَى وَيُسَاقُ إِلَيْهَا مَاءُ أَرْضٍ أُخْرَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَرَاجَ مَضْرُوبٌ عَلَى الْأَرْضِ دُونَ الْمَاءِ، وَالْعُشْرَ مُسْتَحَقٌّ فِي الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ فَرْعًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحَدُ الْحَقَّيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ وَاحِدٌ مِنَ الْحَقَّيْنِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا أَرَادَ الرجل حفر بئر بالبادية فأحيائها يَكُونُ بِحَفْرِهَا حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَائِهَا فَمَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فَالْإِحْيَاءُ غَيْرُ تَامٍّ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَاءِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ صُلْبَةً لَا تَحْتَاجُ إِلَى طَيٍّ فَقَدْ كَمُلَ الْإِحْيَاءُ وَتَمَّ الْمِلْكُ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ رَخْوَةً لَا تَسْتَغْنِي عَنْ طَيٍّ صَارَ الطَّيُّ مِنْ كَمَالِ الْإِحْيَاءِ فَمَا لَمْ يُطْوَ فَالْإِحْيَاءُ لَمْ يَكْمُلْ، فَإِذَا كَمُلَ الْإِحْيَاءُ نُظِرَ فَإِنْ حَفَرَهَا للسابلة صارت سبيلاً على ذي كبد حرى مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ بَهِيمَةٍ، وَيَكُنْ حَافِرُهَا كَأَحَدِهِمْ، فَقَدْ وَقَفَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَدْمِهِ فَكَانَ يَغْتَرِفُ بِدَلْوِهِ مَعَ النَّاسِ، وَإِنْ حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ فَقَدْ مَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ فَضْلَ مَائِهَا، فَلَوْ أَرَادَ سَدَّهَا مُنِعَ مِنْهُ، لِمَا تَعَلَّقَ بِفَضْلِ مَائِهَا مِنْ حُقُوقِ السَّابِلَةِ، وَهَكَذَا لَوْ حَفَرَ نَهْرًا أَوْ سَاقَ عَيْنًا كَانَ فِي حُكْمِ الْبِئْرِ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَهُ مَرَافِقُهَا الَّتِي لَا يَكُونُ صَلَاحُهَا إِلَّا بِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَكَذَا كَمَا قَالَ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَقَدْ مَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى دَاوُدَ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ الْكَافَّةِ فِي إِبْطَالِ الْحَرِيمِ، فَإِذَا كَانَ حَرِيمُ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقِهَا فَهُوَ عِنْدَنَا مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ فِيمَا لَا تَسْتَغْنِي الْأَرْضُ عَنْهُ مِنْ مَرَافِقِهَا وَلَيْسَ بِحُدُودٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ الْمُحَيَّاةُ كَانَ حَرِيمُهَا طَرَفَهَا وَمَفِيضَ مَائِهَا وَيَبْدُرُ زَرْعُهَا وَمَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ مِنْ مَرَافِقِهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: حَرِيمُهَا مَا لَمْ يبلغه مائها وَبَعُدَ مِنْهَا.
وَقَالَ أبو يوسف: حَرِيمُهَا مَا انْتَهَى إِلَيْهَا صَوْتُ الْمُنَادِي مِنْ حُدُودِهَا، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ تَرْكِيبٌ لِقَدْرٍ لَمْ يَرْكَبْهُ شَرْعٌ وَلَا اقْتَضَاهُ مَعْهُودٌ وَلَا أَوْجَبَهُ قِيَاسٌ وَلَيْسَ لِمَا لَمْ يُوجِبْهُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ فِيمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ كَانَ الْمُحَيَّا دَارًا فَحَرِيمُهَا طَرِيقُهَا وَفِنَاؤُهَا، وَلما مُصِّرَتِ الْبَصْرَةُ وَجُعِلَتْ خُطَطًا لِقَبَائِلِ أَهْلِهَا جُعِلَ عَرْضُ كُلِّ شَارِعٍ مِنْ شوارعها عشرون زراعاً إِلَّا الْأَعْظَمَ مِنْ شَوَارِعِهَا فَإِنَّهُمْ جَعَلُوهُ سِتِّينَ ذراعاً، وجعلوا عرض كل زقاق تسع أزرع، وَجَعَلُوا فِي وَسَطِ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَحَبَةً فَسِيحَةً لِمَرَابِطِ خَيْلِهِمْ وَمَقَابِرِ مَوْتَاهُمْ، وَقَدْ رَوَى بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فِي طَرِيقٍ فَلْيُجْعَلْ سبعة أزرع، وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ اخْتِيَارًا لَا حَتْمًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَدًّا فِيمَا أَحْيَاهُ لِأَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْبِئْرُ وَالنَّهْرُ فَحَرِيمُهَا مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ وَهُوَ قَدْرُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فِيمَا حولها، وقال أبو حنيفة حريم العين خمس مائة ذراع، وحريم بئر الناضج خمسون ذراعاً.(7/488)
وَقَالَ أبو يوسف: حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِشَاؤُهُ أَبْعَدَ فَتَكُونَ لَهُ مُنْتَهَى رِشَائِهِ، وَحَرِيمُ النَّهْرِ مَلْقَى طِينَةٍ عِنْدَ حَفْرِهِ، وَحَرِيمُ الْفَنَاءِ مَا لَمْ يَسْمَحْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَكَانَ جَامِعًا لِلْمَاءِ، وَالْعُرْفُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَحْدِيدِ مَا لَمْ يَتَقَدَّرْ شَرْعًا وَلَا قِيَاسًا، فَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ فَمَلَكَهَا وَحَرِيمَهَا ثُمَّ حَفَرَ آخَر من بعد الحريم بئراً أخرى فنصب مَاءُ الْأُولَى إِلَيْهَا وَغَارَ فِيهَا قَالَ مَالِكٌ: يُمْنَعُ الثَّانِي وَيَطِمُّ عَلَيْهِ بِئْرُهُ، وَهَكَذَا لَوْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا طَهُورًا فَتَغَيَّرَ مَاءُ الْأُولَى طَمَّتِ الثَّانِيَةُ عَلَى صَاحِبِهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة إِلَى أَنَّ بِئْرَ الثَّانِي مُقَرَّةٌ وَإِنْ نَضَبَ بِهَا مَاءُ الْأُولَى أَوْ تَغَيَّرَ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْأَوَّلِ فِيمَا جَاوَزَ حَرِيمَ مِلْكِهِ وَلَوِ اسْتَحَقَّ الْمَنْعَ لِتَقْدِيرِ الْحَرِيمِ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا أَوْ تَحَجَّرَهَا فَلَمْ يُعْمِرْهَا رَأَيْتُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لَهُ إِنْ أَحْيَيْتَهَا وَإِلَّا خَلَّيْنَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ يُحْيِيهَا فَإِنْ تَأَجَّلَهُ رَأَيْتُ أَنْ يَفْعَلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَحَجَّرَ أَرْضٌ مَوَاتٌ بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ فَقَدْ صَارَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهَا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا، لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا، وَلَهُ بعد ذلك أربعة أحوال:
أحدها: أَنْ يَأْخُذَ فِي الْإِحْيَاءِ وَيَشْرَعَ فِي الْعِمَارَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهَا وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعِمَارَةَ وَيُتِمَّ الْإِحْيَاءَ، فَلَوْ غلب عليها وأكمل المتغلب إحيائها فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ الْمُحْيِي فِي عِمَارَتِهَا فَيَكُونُ مِلْكًا لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي دُونَ الْمُحْجِرِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ شَرَعَ الْمُحْجِرُ فِي عِمَارَتِهَا وَقَبْلَ اسْتِكْمَالِهَا فَأَكْمَلَ الْمُتَغَلِّبُ الْإِحْيَاءَ وَتَمَّمَ الْعِمَارَةَ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُحْجِرِ، لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ وَتَقَدُّمِ عِمَارَتِهِ، وَيَصِيرُ الْمُتَغَلِّبُ مُتَطَوِّعًا بِنَفَقَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي، لِأَنَّهُ أَحْدَثَ مَا بِهِ يَتِمُّ الْإِحْيَاءُ وَيَسْتَقِرُّ الملك.
فصل
: والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوَلِّيَهَا الْمُحْجِرُ لِغَيْرِهِ وَيُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ وَيَصِيرُ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ أَقَامَهُ فِيهَا مَقَامَ نَفْسِهِ وَلَيْسَتْ هِبَةً مِنْهُ وَإِنَّمَا هِيَ تَوْلِيَةٌ وَإِيثَارٌ، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُحْجِرُ كَانَ وَارِثُهُ قَائِمًا مَقَامَهُ فِي إِحْيَائِهَا وَأَحَقَّ النَّاسِ بَعْدَهُ، لِأَنَّ حُقُوقَهُ بِمَوْتِهِ تَصِيرُ مُنْتَقِلَةً إِلَى وَرَثَتِهِ فَأَمَّا إِنْ جُنَّ الْمُحْجِرُ فَلَا حَقَّ فيه لِوَرَثَتِهِ، لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُورَثُ وَلَكِنْ يَقُومُ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ فِي إِحْيَائِهَا لِلْمُحْجِرِ الْمَجْنُونِ لَا لِنَفْسِهِ فَإِنْ أَحْيَاهَا الْوَلِيُّ لِنَفَسِهِ صَارَ كَمَنْ غَلَبَ عَلَى أَرْضٍ مَوَاتٍ قَدْ حَجَرَهَا إِنْسَانٌ فَأَحْيَاهَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى.
فَصْلٌ
: وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَهَا الْمُحْجِرُ قَبْلَ الْعِمَارَةِ، فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَجْهَانِ:(7/489)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَطَائِفَةٍ إِنَّ بَيْعَهَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى بِهَا يَدًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بِهَا أَوْلَى بَيْعًا، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ إِلَى هَذَا فِي كِتَابِ السِّيَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي جُمْهُورِ كُتُبِهِ: أَنَّ بَيْعَهَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ بِالتَّحْجِيرِ لَمْ يَمْلِكْ وَإِنَّمَا مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ كَالشَّفِيعِ الَّذِي يَمْلِكُ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَ، فَإِذَا قُبِلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالثَّمَنُ لازم للمشتري أحيا أو لم يحيي، فَلَوْ أَحْيَاهَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي مُتَغَلِّبًا عَلَيْهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُتَغَلِّبِ الْمُحْيِي، وَفِي سُقُوطِ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُهُ أَنَّ الثَّمَنَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ أَتَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِلِ الْمَبِيعِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْأَرْضِ بِالْإِحْيَاءِ وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنْ أَحْيَاهَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي فَإِنْ؟ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا فَهِيَ مِلْكٌ لِلْمُحْيِي وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ أَحْيَاهَا الْمُشْتَرِي نُظِرَ فَإِنْ كَانَ بعد أن حكم يفسخ البيع فهي ملك للمشتري لمحيي، وإن كان قبل الحكم يفسخ الْبَيْعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، لِأَنَّ بِإِحْيَائِهَا صَارَتْ مِلْكًا كَمَا لَوْ كَانَ الْمُحْيِي مُتَغَلِّبًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مِلْكٌ لِلْبَائِعِ الْمُحْجِرِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ أَنْ يَمْلِكَهَا بِالثَّمَنِ دُونَ الْإِحْيَاءِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّمَنُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمِلْكُ.
فَصْلٌ: وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَمْسِكَهَا الْمُحْجِرُ بِيَدِهِ مَوَاتًا لَا يَأْخُذُ فِي عِمَارَتِهَا فَيُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ فِي تَرْكِ الْعِمَارَةِ مَعْذُورًا تُرِكَ وَلَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فِيهَا، وَإِنْ أَخَّرَ الْعِمَارَةَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِنْ أَحْيَيْتَهَا وَأَخَذْتَ فِي عِمَارَتِهَا وَإِلَّا رَفَعْتَ يَدَكَ عَنْهَا وخلينا بينها وبين من يحميها ويعمرها، لأن لا يَصِيرَ مُضِرًّا بِالْحِمَى وَتَعْطِيلِ الْعِمَارَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يؤجل ثلاثة سنين لا يخاطب فيها فإن لم يحمها حتى مضت السنين الثَّلَاث فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ أَجَلَ الْإِقْطَاعِ ثلاثة سِنِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ أَجَلًا شَرْعِيًّا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُقَدِّرْ فِيهَا أَجَلًا، فَلَوْ أَنَّ الْمُحْجِرَ حِينَ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِالْإِحْيَاءِ أَوْ رَفْعِ يَدِهِ سَأَلَ التَّأْجِيلَ وَالْإِنْظَارَ أَجَّلَهُ مُدَّةً قَرِيبَةً إِنْ ظَهَرَ لَهُ أَعْذَارٌ وَيُرْجَى قُرْبُ زَوَالِهَا مِنْ إِعْدَادِ آلَةٍ أَوْ جَمْعِ رِجَال أَوْ قدمِ مَالٍ قَرِيبِ الْغَيْبَةِ، وَلَا يُؤَجَّلُ مَا يَطُولُ زَمَانُهُ أَوْ مَا لَا تَظْهَرُ فِيهِ أَعْذَارُهُ وبالله التوفيق.(7/490)
بَابُ مَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ وَمَا لَا يجوز
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " مَا لَا يَمْلِكُهُ أحدُ مِنَ النَّاسِ يُعْرَفُ صِنْفَانِ أَحَدُهُمَا مَا مَضَى وَلَا يَمْلِكُهُ إِلَّا بِمَا يَسْتَحْدِثُهُ فِيهِ وَالثَّانِي مَا لَا تُطْلَبُ المنفعة فيه إلا بشيءٍ يجعل فيه غيره وَذَلِكَ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالتِّبْرِ وَالْكُحْلِ وَالْكِبْرِيتِ وَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ مِنَ الْأَرْضِ ضَرْبَانِ مَعَادِنُ وَمَوَاتٌ، فَأَمَّا الْمَوَاتُ فَقَدِ انْقَضَى حُكْمُهُ، وَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَوَاهِرَ الْأَرْضِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِإِقَامَةِ الْجَوَاهِرِ فيها كما قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} أَيْ جَنَّاتِ إِقَامَةٍ غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ أَخْطَأَ فِي نَقْلِهِ حِينَ نَقَلَ فَقَالَ مَا لَا يطلب المنفعة فيه إلا بشيء يجعل فيه غيره وَهَذِهِ صِفَةُ الْمَوَاتِ الَّتِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ غَرْسٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ بِنَاءٍ، فَأَمَّا الْمَعَادِنُ فَهِيَ الَّتِي بَطَلَتِ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا لَا بِشَيْءٍ يُجْعَلُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ غَرْسٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ بِنَاءٍ، لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ مَخْلُوقَةٌ فِيهِ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَصْلُ الْمَعَادِنِ صِنْفَانِ مَا كَانَ ظَاهِرًا كَالْمِلْحِ فِي الْجِبَالِ تَنْتَابُهُ النَّاسُ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لأحدٍ أَنْ يَقْطَعَهُ بحالٍ وَالنَّاسُ فِيهِ شرعٌ وَهَكَذَا النَّهْرُ وَالْمَاءُ الظَّاهِرُ وَالنَّبَاتُ فِيمَا لَا يُمْلَكُ لأحدٍ وَقَدْ سَأَلَ الْأَبْيَضُ بْنُ حمالٍ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُقْطِعَهُ مِلْحَ مأربٍ فَأَقْطَعَهُ إِيَّاهُ أَوْ أَرَادَهُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُ كَالْمَاءِ الْعَدِّ فَقَالَ " فَلَا إِذَنْ " قَالَ وَمِثْلُ هَذَا كُلُّ عينٍ ظاهرةً كنفطٍ أو قبرٍ أَوْ كبريتٍ أَوْ مُومِيَا أَوْ حجارةٍ ظاهرةٍ فِي غَيْرِ مِلْكِ أحدٍ فَهُوَ كَالْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّاسُ فِيهِ سواءُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْمَعَادِنُ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَيَأْتِي حُكْمُهَا فِيمَا بَعْدُ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ ظَاهِرًا فِي مَعْدِنِهِ يُؤْخَذُ عَفْوًا عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ كَالْمِلْحِ وَالنِّفْطِ، وَالْقَارِ وَالْكِبْرِيتِ والموهبا وَالْحِجَارَةِ فَهَذِهِ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ كُلُّهَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهَا وَلَا لأحدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهَا، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهَا شَرْعٌ يَتَسَاوُونَ فِيهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ، مُسَلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، رَوَى ثَابِتُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَبْيَضَ بْنَ حَمَّالٍ اسْتَقْطَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِلْحَ مَأْرِبٍ فَأَقْطَعَهُ ثُمَّ إِنَّ(7/491)
الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَرَدْتُ الْمِلْحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ فِيهَا مِلْحٍ، وَمَنْ وَرَدَهُ أَخَذَهُ، وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ بِأَرْضٍ، فَاسْتَقَالَ الْأَبْيَض مِنْ قَطِيعَتِهِ الْمِلْحِ، فَقَالَ الْأَبْيَضُ قَدْ أَقَلْتُكَ مِنْهُ عَلَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنِّي صَدَقَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: هُوَ مِنْكَ صَدَقَةٌ وَهُوَ مِثْلُ الْمَاءِ الْعِدِّ من ورده أخذه وروت نهيسة عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ الْمَاءُ، قَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ الْمِلْحُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرًا لَكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمَانِعُ بِأَحَقَّ مِنَ الْمَمْنُوعِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً، وَإِذَا اسْتَوَى النَّاسُ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فَإِنْ أَمْكَنَ اشْتِرَاكُ له النَّاسِ فِيهِ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ وَإِلَّا تقدم الْأَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ فَإِنْ تَسَاوَى مَجِيئُهُمْ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ تَقَدَّمَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَدِّمُ السُّلْطَانُ بِاجْتِهَادِهِ مَنْ رَأَى فَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ عَلَى الْمَعْدِنِ زَمَانًا يَتَفَرَّدُ بِهِ وَبِمَا فِيهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ مَعَ تَفَرُّدِهِ بِهِ يُمْنَعُ مِنْهُ فَمِنْهُ تَعَدَّى وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عَنْهُ وَقَدْ مَلَكَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ غَيْرُهُ مِنْهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِرَّ مَا لَمْ يَكُنْ فِي إِقْرَارِهِ إِدْخَالُ ضَرَرٍ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُ لَيْلًا بِطُولِ مُكْثِهِ ويدوم تَصَرُّفه فَيَنْتَقِلُ عَنْ حُكْمِ الْمُبَاحِ إِلَى أَحْكَامِ الْأَمْلَاكِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ لِلسُّلْطَانِ اسْتِحْقَاقُ نَظَرٍ فِيهَا أَمْ لَا؟ فَلَهُمْ فِيهَا وَجْهَانِ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ كَانَتْ بُقْعَةً مِنَ السَّاحِلِ يَرَى أَنَّهُ إِنْ حَفَرَ تُرَابًا مِنْ أَعْلَاهَا ثُمَّ دَخَّلَ عَلَيْهَا مَاءً ظَهَرَ لَهَا مِلْحٌ كَانَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهَا وَلِلْرَجُلِ أَنْ يُعْمِرَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَمْلِكَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْحَالِ مَعْدِنًا وَإِنَّمَا هِيَ مَوَاتٌ تَصِيرُ بِالْإِحْيَاءِ مَعْدِنًا فَجَازَ إِقْطَاعُهَا كَمَا يَجُوزُ إِقْطَاعُ الْمَوَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(7/492)
باب تفريق القطائع وغيرها
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْقَطَائِعُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا مَضَى. وَالثَّانِي إِقْطَاعُ إرفاقٍ لَا تمليكٍ مِثْلُ الْمَقَاعِدِ بِالْأَسْوَاقِ الَّتِي هِيَ طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا لِلْبَيْعِ كَانَ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْهَا مَا كَانَ مُقِيمًا فِيهِ فَإِذَا فَارَقَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَأَفْنِيَةِ الْعَرَبِ وَفَسَاطِيطِهِمْ فَإِذَا انْتَجَعُوا لَمْ يَمْلِكُوا بِهَا حَيْثُ تَرَكُوا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِقْطَاعَ السُّلْطَانِ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى مَا كَانَ مُبَاحًا مِنَ الْأَرْضِ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكُ مُسْلِمٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُعْطِيَ إِنْسَانًا مَا لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَوَاتٍ لَا مَالِكَ لَهُ وَالسُّلْطَانُ لَا يُحِلُّ لَهُ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَلَوْ أَعْطَى السُّلْطَانُ أَحَدًا شَيْئًا لَا يَحِلُّ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ مَعَ مَا قَدِ استقرت عليه أصول الشرع أن ما ستقر عَلَيْهِ مِلْكُ آدَمِيٍّ لَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ أَحَدًا وَإِنْ أَقْطَعهُ جَازَ لِلْمُقطعِ أَنْ يَمْلِكَهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَسْتَقِر عَلَيْهِ مِلْكٌ مِنْ سِبَاخِ الْأَرْضِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ، فَأَمَّا مَا لا يجوز إقاطعه فَالْمَاءُ وَالْكَلَأُ وَسَائِرُ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ فَهِيَ الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا، وَأَمَّا مَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُمْلَكُ بَعْدَ الْإِقْطَاعِ وَقِسْمٌ لَا يُمْلَكُ، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي تَمْلِيكِهِ، فَأَمَّا مَا يُمْلَكُ بَعْدَ الْإِقْطَاعِ فَهُوَ الْمَوَاتُ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا وَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا مَا يُمْلَكُ بِالْإِقْطَاعِ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ الِارْتِفَاقُ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَحَرِيمِ الْأَمْصَارِ، وَمَنَازِلِ الْأَسْفَارِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ الْبَاعَةُ وَأَنْ تُحَطَّ فِيهِ الرِّحَالُ فَهَذَا مُبَاحٌ، قَدْ أَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الناس عليه بمكة والمدنيه وَمَكَّنَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ فِي الْأَمْصَارِ كُلِّهَا فُتُوحَهَا وَمُحَيَّاهَا، وَلِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ مَاسَّةٌ وَضَرُورَتَهُمْ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ فَجَرَى مَجْرَى الِاسْتِطْرَاقِ وَالِارْتِفَاقِ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي تَمْلِيكِهِ فهو المعادن الباطنة.
فصل
: فإذا تقرر جواز الِارْتِفَاق بِمَا وَصَفْنَا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِي وَالْفَلَوَاتِ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الْمَنَازِلِ وَالْأَمْلَاكِ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارِي وَالْفَلَوَاتِ كَمَنَازِلِ الْمُسَافِرِينَ إِذَا حَلُّوا فِي أَسْفَارِهِمْ بِمَنْزِلٍ اسْتِرَاحَةً فَلَا نَظَرَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ فِيهِ، لِبُعْدِهِ عَنْهُمْ(7/493)
ويجوز لهم النزول حيث لا يضروا المجتاز ولا يمنعوا سَائِلًا ثُمَّ لَهُمُ الْمَاءُ وَالْمَرْعَى مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ وَلَا حِمًى، وَهَكَذَا الْبَادِيَةُ إِذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا طَلَبًا لِلْمَاءِ وَالْكَلَأِ مَكَثُوا فِيهَا وَلَمْ يَزَالُوا عَنْهَا وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَهُمْ مِن انْتِجَاعِهَا وَرَعْيِهَا إِلَّا أَنْ يَضِيقَ بِهِمْ فَيَكُونُ السَّابِقُونَ إِلَيْهَا أَوْلَى بِهَا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ رَوَى يُوسُفُ بْنُ مَاهِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَبْنِي لَكَ بِمِنًى بِنَاءً يُظَلِّلُكَ مِنَ الشَّمْسِ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا هو مناح مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ فَلَوْ ضَاقَ الْمَنْزِلُ عَنْ جميع ما وَرَدَ إِلَيْهِ نَزَلُوا فِيهِ بِحَسَبِ مَسِيرِهِمْ إِلَيْهِ يَتَرَتَّبُونَ النُّزُولَ كَمَا كَانُوا مُتَرَتِّبِينَ فِي الْمَسِيرِ فَمَنْ قَصُرَ عَنْهُمْ عَنْ لُحُوقِ الْمَنْزِلِ نَزَلَ حَيْثُ بَلَغَ، وَلَوْ ضَاقَ بِهِمُ الْمَاءُ فَإِنْ كَانُوا لَوْ تُوَاسَوْا بِهِ عَمَّهم لَزِمَهُمْ أَنْ يتواسوا فيه ومنعوا مِنْ أَنْ يَحُوزَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ، وَإِنْ ضَاقَ عَنْ مُوَاسَاتِهِمْ فِيهِ كَانَ الْأَسْبَقُ إِلَيْهِ أَحَقَّ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ عَنْهُمْ فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَسْبُوقُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ ملكه بالإجارة بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ جَاءُوا إِلَيْهِ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ يَسْبِقْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَهُوَ يَنْقُصُ عَنْ كِفَايَتِهِمِ اقْتَرَعُوا عَلَيْهِ فَأَيُّهُمْ قُرِعَ كَانَ أَحَقَّ بِمَا يُمْسِكُ رَمَقَهُ حَتَّى يَرْتَوِيَ الْآدَمِيُّونَ، وَلَيْسَ لِمَنْ قُرِعَ مِنْهُمْ أَنْ يُقَدِّمَ بَهَائِمَهُ عَلَى ارْتِوَاءِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِذَا ارْتَوَى الْآدَمِيُّونَ جَمِيعًا اسْتُؤْنِفَتِ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الْبَهَائِمِ وَلَمْ يُحْمَلُوا عَلَى الْقُرْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا، وَهَلْ تُسْتَأْنَفُ الْقُرْعَةُ عَلَى أَعْيَانِ الْبَهَائِمِ أَوْ عَلَى أَعْيَانِ أَرْبَابِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُسْتَأْنَفَ عَلَى أَعْيَانِ أَرْبَابِهَا تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْمِلْكِ، فعلى هذا إذا أقرع أَحَدُ أَرْبَابِ الْبَهَائِمِ يَسْقِي جَمِيعَ بَهَائِمِهِ ثُمَّ هَكَذَا مَنْ قُرِعَ بَعْدَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْقُرْعَةَ تُسْتَأْنَفُ عَلَى أَعْيَانِ الْبَهَائِمِ تَغْلِيبًا لِحُرْمَتِهَا وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لَا يُؤْكَلُ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ. لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمِلْكِ فَعَلَى هَذَا إِنْ قَرَعَتِ الْقَرْعَةُ مَالَ رَجُلٍ مَرَّ تَقْدِيمًا لِمَنْ قُرِعَ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الْمَنَازِلِ وَالْأَمْلَاكِ كَمَقَاعِدِ الْبَاعَةِ وَالسُّوقَةِ فِي أَقْنِيَةِ الدُّورِ فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَرْبَابِ الدُّورِ مُنِعُوا مِنَ الْجُلُوسِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِمْ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْجُلُوسُ عَلَى عَتَبَةِ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِ الدَّارِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِذْنِ مِنَ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَ فِي فِنَاءِ الدَّارِ وَحَرِيمِهَا الَّذِي لَا يَضُرُّ بِالدَّارِ وَلَا بِمَالِكِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمُ الْجُلُوسُ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهَا، لِأَنَّ حَرِيمَ الدَّارِ مِرْفَقٌ عَامٌّ كَالطَّرِيقِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ جَلَسَ وَلَا يُقَدِّمَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمُ الْجُلُوسُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهَا، لِأَنَّ مَالِكَ الدَّارِ أَحَقُّ بِحَرِيمِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِذْنِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ ثَمَنًا لِأَنَّهُ يَقَعُ لِلْمِلْكِ وَلَيْسَ بِمِلْكٍ، فَلَوْ كَانَ مَالِكُ الدَّارِ مَوْلًى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْجُلُوسِ فِيهِ، لأنه غير مستحق في الملك ولا معاوض عَلَيْهِ وَلَا مُنْتَفِعٍ بِهِ، وَسَوَاءٌ(7/494)
كَانَ مَالِكُ الدَّارِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَلِمَالِكِ الدَّارِ إِذَا أَجْلَسَ رَجُلًا أَنْ يُقِيمَهُ مِنْهُ إِذَا شَاءَ وَيُقَدِّمَ عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ، فَأَمَّا فِنَاءُ الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ فِي الْجُلُوسِ فِيهِ إِضْرَارٌ بِأَهْلِ الْمَسْجِدِ مُنِعُوا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ بِأَهْلِ الْمَسْجِدِ فَهَلْ يَلْزَمُ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ قِيلَ إِنَّ فنَاءَ الْمِلْكِ لَا يَلْزَمُ استئذان ربه فيه لم يلزم استئذان الإحمام فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَإِذْنُ الْإِمَامِ إِذن اجْتِهَادٍ فِي الْأَصْلَحِ، وَسَوَاءٌ فِي فِنَاءِ الْمَسْجِدِ جِيرَانُهُ وَالْأَبَاعِدُ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِالِارْتِفَاقِ فِيهِ بِأَقْنِيَةِ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقَاتِ أَنْ يَجْلِسَ فِيهَا السُّوقَةُ بِأَمْتِعَتِهِمْ لِيَبِيعُوا وَيَشْتَرُوا فَهَذَا مُبَاحٌ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ نَظَرِ الْإِمَامِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى كَفِّهِمْ عَنِ التَّعَدِّي وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْإِضْرَارِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ جَالِسًا وَلَا أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن نظره نظر مجتهد فيما يراه صلاحاً من إجلاس من يجلسه ومنع من يمنعه، وتقديم من يقدره، كما يجتهد في أموال بيت المال، فَإِذَا أَخَذَ الْبَاعَةُ مَقَاعِدَهُمْ فِي أَقْنِيَةِ الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ رُوعِيَ فِي جُلُوسِهِمْ أَلَّا يَضُرُّوا بمارٍ وَلَا يُضَيِّقُوا عَلَى سائلٍ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ أُجْرَةَ مَقَاعِدِهِمْ، فَلَوْ جَلَسَ رَجُلٌ بِمَتَاعِهِ فِي مَكَانٍ فَجَاءَ غَيْرُهُ لِيُقِيمَهُ مِنْهُ وَيَجْلِسَ مَكَانَهُ لَمْ يَجُزْ مَا كَانَ الْأَوَّلُ جَالِسًا بِمَتَاعِهِ، فَلَوْ قَامَ وَمَتَاعُهُ فِي الْمَكَانِ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ فِيهِ وَمَنَعَ غَيْرَهُ مِنْهُ، فَإِذَا قَامُوا مِنْ مَقَاعِدِهِمْ بِأَمْتِعَتِهِمْ عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ ثُمَّ غَدَوْا إِلَيْهَا مِنَ الْغَدِ كَانَ كُلُّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَكَانٍ أَحَقَّ بِهِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَوْدَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَعُرِفَ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا عُرِفَ أَحَدُهُمْ بِمَكَانِهِ طَالَ جُلُوسُهُ فِيهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ بِقَطْعِ التَّنَازُعِ وَوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ وَهَذَا عَنْهُ صَحِيحٌ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " منا مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ أَحَقَّ بِهِ لَصَارَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ وَلِحِمَاهُ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي مَقْعَدٍ وَلَمْ يُمْكِنْهُمَا الْجُلُوسُ بِنَاءً عَلَى نَظَرِ الْإِمَامِ فِيهِ.
أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا قُرِعَ كَانَ بِهِ أَحَقَّ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ نَظَرَ الْإِمَامِ مَقْصُورًا عَلَى مَنْعِ الضَّرَرِ وَقَطْعِ التَّنَازُعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِي إِجْلَاسِ مَنْ يَرَى مِنْهُمَا، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ نَظَرَ الْإِمَامِ نَظَرَ اجْتِهَادٍ وَمَصْلَحَةٍ، فَلَوْ أَقْطَعَ الْإِمَامُ رَجُلًا مَوْضِعًا مِنْ مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ لِيَبِيعَ فِيهِ مَتَاعَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمَكَانِ مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ، فَإِنْ سَبَقَ إِلَيْهِ كَانَ السَّابِقُ أَحَقَّ بِهِ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ نَظَرَهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْعِ الضَّرَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَحَقُّ مِنَ السَّابِقِ بِذَلِكَ الْمَكَانِ، وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ نَظَرَهُ اجْتِهَادٌ فِي الْأَصْلَحِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَلِفَ مَقْعَدًا فِي فِنَاءِ طَرِيقٍ حَتَّى تَقَادَمَ عَهْدُهُ فِيهِ وَعُرِفَ بِهِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:(7/495)
أَحَدُهُمَا: يَقَرُّ فِي مَكَانِهِ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَامُ عَنْهُ وَيُمْنَعُ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ زَرِيعَةً إِلَى تَمَلُّكِهِ وَادِّعَائِهِ، فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْنِيَ فِي مَقْعَدٍ مِنْ فَنَاءِ السُّوقِ بِنَاءً منعٍٍ، لِأَنَّ إِحْدَاثَ الْأَبْنِيَةِ يُسْتَحَقُّ فِي الْأَمْلَاكِ وَأَمَّا إِذَا حَلَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ حِلَقًا مُنِعَ النَّاسُ مِنَ اسْتِطْرَاقِهَا وَالِاجْتِيَازِ فِيهَا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا حِمَى إِلَّا فِي ثَلَاثٍ ثُلَّةِ الْبِئْرِ، وطول الغرس، وحلقة القوم فلو عرف فقه بِالْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْجَامِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ وَكَانَ السَّابِقُ أَحَقَّ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ قَدْ صَارَ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْفُقَهَاءِ والقراء أحق به، وله منع من سبق إِلَيْهِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ الْعَاكِفِ فِيهِ وَالْبَادِ} وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(7/496)
باب إقطاع المعادن وغيرها
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَفِي إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُخَالِفُ إِقْطَاعَ الْأَرْضِ لِأَنَّ مَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا فِيهَا مَعَادِنُ أَوْ عَمِلَهَا وَلَيْسَتْ لأحدٍ سواءٌ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ نُحَاسًا أَوْ مَا لَا يَخْلُصُ إِلَا بمؤنةٍ لِأَنَّهُ باطنٌ مستكنٌّ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ ترابٍ أَوْ حجارةٍ كَانَتْ هَذِهِ كَالْمَوَاتِ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يُقْطِعَهُ إِيَّاهَا ومخالفةٌ لِلْمَوَاتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ الْمَوَاتَ إِذَا أُحْيِيَتْ مَرَّةً ثَبَتَ إِحْيَاؤُهَا وَهَذِهِ فِي كُلِّ يومٍ يُبْتَدَأُ إِحْيَاؤُهَا لِبُطُونِ مَا فِيهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعَادِنَ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ وَذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَةَ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ وَهِيَ الَّتِي لَا شَيْءَ فِي ظَاهِرِهَا حَتَّى تُحْفَرَ أَوْ تُقْطَعَ فَيَظْهَرَ مَا فِيهَا بِالْحَفْرِ وَالْقَطْعِ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، سَوَاءٌ احْتَاجَ مَا فِيهَا إِلَى سَبْكٍ وَتَخْلِيصٍ كَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ كَالتِّبْرِ مِنَ الذَّهَبِ، فَفِي جَوَازِ إِقْطَاعِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِقْطَاعَهَا لَا يَجُوزُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهَا شَرْعٌ يَتَسَاوَى جَمِيعُهُمْ فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَتَسَاوَى النَّاسُ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهَا، لِأَنَّ مَا فِيهَا جَمِيعًا مَخْلُوقٌ يُوصَلُ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ وَيُمْلَكُ بِالْأَخْذِ، فَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي حَالُ الْمُقْطِعِ وَغَيْرِهِ فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا كَمَا لَوْ أَقْطَعَ الْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ وَلَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِهَا مَنْ لَمْ يَسْتَقْطِعْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ إِقْطَاعَهَا جَائِزٌ وَالْقَطْعُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقطع بلال بن الحرث الْمُزَنِيَّ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا وَحَيْثُ يَصْلُحُ الزرع من مدهن وَلَمْ يُعْطِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ إِنَّ جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ قول أبي عبيد وابن قتيبة أن الغور مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ تِهَامَةَ وَالْجَلْسَ مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ نَجْدٍ.
قَالَ الشَّمَّاخُ:(7/497)
(فَأضحت عَلَى مَاءِ الْعُذَيْبِ وَعَيْنُهَا ... كَوَقْبِ الصَّنْعَا جِلْسِيُّهَا قَدْ تَغَوَّرَا)
وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ الْبَاطِنَةَ تُخَالِفُ الظَّاهِرَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ تَوَافَقَ بَيْنَهُمَا الْمَوَاتُ.
أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَؤُونَةِ فِي الْبَاطِنَةِ حَتَّى رُبَّمَا سَاوَتْ مَؤُونَةَ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَزَادَتْ وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا فِي الْبَاطِنَةِ مَظْنُونٌ مُتَوَهَّمٌ فَشَابَهَ مَا يَظُنُّ مِنْ مَنَافِعِ الْمَوَاتِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ وَمَا فِي الظَّاهِرَةِ مُشَاهِدٌ مُتَيَقِّنٌ فَصَارَتِ الْبَاطِنَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُفَارَقَةً لِلظَّاهِرَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِقْطَاعِهَا، وَمُلْحَقَةً بِالْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهَا.
فَصْلٌ
: فَعَلَى هَذَا إِذَا أَقْطَعَهَا الْإِمَامُ رَجُلًا فَمَا لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِمَا بِالْعَمَلِ لَمْ يَمْلِكْهَا كَمَا لا يملك الموات بالإقطاع ما لم يحيه، فَإِذَا عَمِلَ فِيهَا صَارَ مَالِكَهَا، وَفِي مِلْكِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا مِلْكًا مُؤَبَّدًا، سَوَاءٌ أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ تَرَكَ كَمَا يَمَلِكُ الْمَوَاتَ بِالْإِحْيَاءِ سَوَاءٌ اسْتَدَامَ عِمَارَتَهُ أَوْ عَطَّلَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ فِي إِقْطَاعِهَا شَرْطًا فِي تَنَاوُلِ مَا فِيهَا، لِكَوْنِهِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ مِلْكَهُ لَهَا مُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ عَمَلِهِ فِيهَا فَمَا أَقَامَ عَلَى الْعَمَلِ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ، فَإِذَا فَارَقَ الْعَمَلَ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَعَادَ إِلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ آلَةٍ أَوْ هَرَبِ عَبْدٍ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ مَا كَانَ نَاوِيًا لِلْعَمَلِ حَتَّى يَقْطَعَ قَطْعَ تَرْكٍ فَيَزُولَ مِلْكُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُ يَكُونُ إِحْيَاءً لِلطَّبَقَةِ الَّتِي عَمِلَ فِيهَا فَصَارَ مَالِكًا لَهَا بِإِحْيَائِهِ وَعَمَلِهِ، فَأَمَّا مَا تَحْتَ تِلْكَ الطَّبَقَةِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا عَمَلٌ وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا إِحْيَاءٌ فَلَمْ يَمْلِكْهَا، فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي ثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا مُدَّةَ عَمَلِهِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أن إذنه شرطاً فِيهِ حَتَّى يَجُوزَ مَنْعُ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ بِتَأْيِيدِ مِلْكِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِذْنَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا لَمْ يَكُنْ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا يَخْتَصُّ بِمَا بَاشَرَ عَمَلَهُ، وَيَجُوزُ لَهُ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الْعَمَلِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعَهُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنَ الْعُذْرِ كَمَا لَا يَمْنَعُ بِشُرُوعِهِ فِي إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ مِنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ إِلَّا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَمِلَ فِيهِ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطِعَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَطَّلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَخَذَهُ وَمِنْ حُجَّتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ بَيْعَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْمَعَادِنِ وَأَنَّهَا كَالْبِئْرِ تُحْفَرُ بِالْبَادِيَةِ فَتَكُونُ لِحَافِرِهَا وَلَا يَكُونُ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ فَضْلَ مَائِهَا وَكَالْمَنْزِلِ بِالْبَادِيَةِ هُوَ أَحَقُّ بِهِ فَإِذَا تَرَكَهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَنْ نَزَلَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقْطَاعَ ضَرْبَانِ: إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ، وَإِقْطَاعُ تَمْلِيكٍ، فَأَمَّا إِقْطَاعُ(7/498)
الْإِرْفَاقِ فَهُوَ التَّمْكِينُ مِنَ الْمَعْدِنِ لِيَعْمَلَ فِيهِ وَلَا يَمْنَعَ غَيْرَهْ مِنْهُ فَهَذَا يَصِحُّ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ جَمِيعًا، وَأَمَّا إِقْطَاعُ التَّمْلِيكِ فَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْهُ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي جَوَازِهِ فِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ قَوْلَانِ مَضَيَا، فَإِذَا جَوَّزْنَاهُ فَلَا يَنْتَفِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ أَحَدًا مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَيَقْدِرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا أَقْطَعَهُ قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُهُ الْوَاحِدُ، وَإِنْ كَانُوا عَشَرَةً أَقْطَعَهُمْ قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ الْعَشَرَةَ، فَإِنِ اقْتَطَعَ أَحَدًا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فِيهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْقِيَامِ بِهِ لَمْ يَجُزْ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ منفعته على المقطع وغيره فصار أسوأ حال مِنَ الْحِمَى الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ حَمَاهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَطَّلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَخَذَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ بِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ الْإِرْفَاقِ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ التَّمْلِيكِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُهُ مُدَّةَ عَمَلِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ إِذَا عَطَّلَهُ، فَأَمَّا مَا ظَهَرَ بِالْعَمَلِ قَبْلَ التَّعْطِيلِ فَقَدْ صَارَ فِي مِلْكِهِ وَلَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أَرَادَ بِهِ إِقْطَاعَ التَّمْلِيكِ إِذَا قَدَّرَهُ بِمُدَّةِ الْعَمَلِ وَشَرَطَ فِيهِ زَوَالَ الْمِلْكِ عِنْدَ تَعْطِيلِ الْعَمَلِ فَلَا يَتَأَيَّدُ مِلْكُهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَقْطَعَ أَرْضًا فَأَحْيَاهَا ثُمَّ ظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنٌ مَلَّكَهُ مِلْكَ الْأَرْضِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَحْيَا الرَّجُلُ أَرْضًا مَوَاتًا بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ فَظَهَرَ فِيهَا بَعْدَ الْإِحْيَاءِ مَعْدِنٌ فَقَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا مُؤَبَّدًا قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْدِنُ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا؛ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بِالْإِحْيَاءِ فَصَارَ كَعَيْنٍ اسْتَنْبَطَهَا أَوْ بِئْرٍ احْتَفَرَهَا، وَلِأَنَّ الْمَعْدِنَ مِنْ أَرْضِهِ الَّتِي مَلَكَهَا بِإِحْيَائِهِ فَخَالَفَ الْمَعَادِنَ الَّتِي فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوْ أَحْيَا أَرْضًا فَظَهَرَ فِيهَا رِكَازٌ لَمْ يَمْلِكْهُ فَهَلَّا صَارَ الْمَعْدِنُ مِثْلَهُ لَا يَمْلِكُهُ قبل الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعْدِنَ خلقة فِي الْأَرْضِ فَمَالِكُهُ يَمْلِكُ الْأَرْضَ، وَالرِّكَازُ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يُمْلَكْ وَإِنّ مِلْكَ الْأَرْضِ لِمَا بَنَتْهُ لَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَرْضًا فَكَانَ فِيهَا حِجَارَةٌ مُسْتَوْدَعَةٌ لَمْ يَمْلِكْهَا وَلَوْ كَانَتِ الْحِجَارَةُ خِلْقَةً فِيهَا مَلَكَهَا.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ معدنٍ عَمِلَ فِيهِ جَاهِلِيٌّ ثُمَّ اسْتَقْطَعَهُ رجلٌ فَفِيهِ أَقَاوِيلُ أَحَدُهَا أَنْهُ كَالْبِئْرِ الْجَاهِلِيِّ وَالْمَاءِ الْعِدِّ فَلَا يُمْنَعُ أحدٌ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ فَإِذَا اسْتَبَقُوا إِلَيْهِ فَإِنْ وَسِعَهُمْ عَمِلُوا مَعًا وَإِنْ ضَاقَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَبْدَأُ ثم يتبع الآخر حَتَّى يَتَآسَوْا فِيهِ وَالثَّانِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَيْهِ وَلَا يَمْلِكَهُ إِذَا تَرَكَهُ وَالثَّالِثُ يَقْطَعُهُ فَيَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ إِذَا أحدث فيها عمارة ".
قال الماوردي:
أحدها: أنه كالسر الجاهلي والماء العد فلا يمنع أحد يَعْمَلَ فِيهِ فَإِذَا اسْتَبَقُوا إِلَيْهِ فَإِنْ وَسِعَهُمْ غلوا مَعًا وَإِنْ ضَاقَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَبْدَأُ ثم يتبع الآخر فالآخر فالآخر حتى يتساوو فيه.(7/499)
وَالثَّانِي: لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يعمل فَيْهِ وَلَا يَمْلِكَهُ إِذَا تَرَكَهُ وَالثَّالِثُ يَقْطَعُهُ فَيَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ إِذَا أَحْدَثَ فِيهَا عِمَارَةً.
اعْلَمْ أَنَّ الْمَعَادِنَ الْبَاطِنَةَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ، وَضَرْبٌ عَمِلَ فِيهِ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْمَلَ مِنْهُ بِمَا يُشَاهَدُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّهُ إِنْ عَمِلَ فِيهِ ظَهَرَ نَيْلُهُ وَأَجَابَ وَلَمْ يُخْلَفْ فَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَمَنْ لَمْ يُقْطَعْ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لِمَنْ وَرَدَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُعْلَمَ مِنْهُ ظهور نبله يَقِينًا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْلَفَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُخْلَفَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَتَأْيِيدِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ أَوْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَعَادِنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَوَاتِ فِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ وَتَأْيِيدِ مِلْكِهِ بِالْإِحْيَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاتِ مَا لَمْ يتقين كَوْنَهُ مَعْدِنًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمَعَادِنِ تَغْلِيبًا لِظَاهِرِ أَمْرِهَا مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ كَوْنَهُ مَوَاتًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا مَا عَمِلَ فِيهِ فَضَرْبَانِ:
أحدهما: أن يكون العمل منه إِسْلَامِيًّا فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَنْ إِقْطَاعِ إِمَامٍ.
وَالثَّانِي: عَنْ غَيْرِ إِقْطَاعٍ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ فِيهِ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ إِقْطَاعٍ فَإِنْ تَرَكَ الْعَمَلَ عَادَ إِلَى أَصْلِهِ فِي الْإِبَاحَةِ وَجَازَ لِلنَّاسِ الْعَمَلُ فِيهِ، وَفِي جَوَازِ إِقْطَاعِهِ قَوْلَانِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مُقِيمًا عَلَى الْعَمَلِ فِيهِ فَفِي جَوَازِ مُشَارِكَةِ النَّاسِ لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ مِن اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ يَكُونُ إِذْنُ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ أَمْ لَا؟
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ حَتَّى يَقْطَعَ الْعَمَلَ وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَجْعَلُ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِي مُدَّةِ عَمَلِهِ أَنْ يُقْطِعَهُ أَحَدًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِيهِ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ، وَلِمَنْ وَرَدَ إِلَيْهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْعَمَلِ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ هَذَا الْعَمَلُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي قَدْ عَمِلَ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطًا فِي تَمَلُّكِهِ مُدَّةَ الْعَمَلِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِي مُدَّةِ عَمَلِهِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ رَأَى وَيَتَوَجَّهُ إِقْطَاعُ الْإِمَامِ إِلَى مَا سِوَى مَوْضِعِ عَمَلِهِ مِنَ الْمَعْدِنِ، فَإِذَا قَطَعَ الْعَمَلَ جَازَ إِقْطَاعُ جَمِيعِهِ.
فَصْلٌ
: فَإِنْ كَانَ قَدْ عَمِلَ فِيهِ مُسْلِمٌ بِإِقْطَاعِ إِمَامٍ لَمْ يَجُزْ فِي مُدَّةِ الْعَمَلِ أَنْ يُشَارِكَ فِيهِ،(7/500)
فَأَمَّا بَعْدَ قَطْعِ الْعَمَلِ فَإِنْ قِيلَ قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا أَنْ يَجْعَلَهُ الْإِمَامُ إِقْطَاعًا لِغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَهَبَهُ، وَإِنْ مَاتَ وُرِّثَ عَنْهُ كَسَائِرِ أمواله، وإن قيل إن ملكه مقدراً بِمُدَّةِ الْعَمَلِ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا وَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ قَطْعِ الْعَمَلِ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا أَنْ يَهَبَهُ وَإِنْ مَاتَ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ فَأَمَّا فِي مُدَّةِ الْعَمَلِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ، لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ لَكِنْ تَرْتَفِعُ يَدُهُ بِالْهِبَةِ وَلَا تَرْتَفِعُ بِالْبَيْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ رَفْعَ يَدِهِ فِي الْبَيْعِ كَانَ مَشْرُوطًا بَعِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ وَلَمْ تَرْتَفِعْ يَدُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْهِبَةُ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَيَكُونُ لِوَارِثِهِ إِتْمَامُ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ وَهُوَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُهُ كَسَائِرِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، هَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ بَعْدَ تَقَضِّي مُدَّةِ الْإِقْطَاعِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
فَصْلٌ
: فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ فِيهِ جَاهِلِيًّا كَمَعْدِنٍ عَمِلَتِ الْجَاهِلِيَّةُ فيه ثم وصل المسلمون إليه فلا يخلوا حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الجاهلي قد تملكه بعمله أو بإحياءه فَهَذَا مَغْنُومٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ، وَلَا أَنْ يَسْتَبِيحَهُ النَّاسُ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُمْ مِنْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَاهِلِيُّ لَمْ يَتَمَلَّكْهُ بِعَمَلِهِ وَلَا بِإِحْيَائِهِ وَإِنَّمَا اسْتَمْتَعَ بِمَا فِيهِ وَفَارَقَهُ عَفْوًا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَعَادِنِ الْمُبَاحَةِ إِنْ كَانَ ظَاهِرًا مُنِعَ مِنْ إِقْطَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِنًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَامِرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ ولا استباحته.
والثاني: أنه في حكم الْمَعَادِنِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَفِي إِقْطَاعِهَا قَوْلَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَإِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّمَا عَنَيْتُهُ فِي عَفْوِ بِلَادِ الْعَرَبِ الَّذِي عَامِرُهُ عُشْرٌ وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّ جَمِيعَ مَا وَصَفَهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَإِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحِمَى فَإِنَّمَا هُوَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ إِنَّمَا عَنَيْتُهُ فِي عَفْوِ بِلَادِ الْعَرَبِ، يُرِيدُ بِالْعَفْوِ الْمَوَاتَ الَّذِي هُوَ عَفْوٌ مَتْرُوكٌ، وَيُرِيدُ بِبِلَادِ الْعَرَبِ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ بِلَادَ الْعَرَبِ هِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ وَمِنْهَا بَدَأَ وَفِيهَا نَشَأَ ثُمَّ قَالَ: الَّذِي عَامِرُهُ عُشْرٌ يَعْنِي لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا هِيَ أَرْضُ عُشْرٍ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ زَرْعِهَا، وَلَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنْ أَرْضِهَا، ثُمَّ قَالَ: وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ، وَرَوَى الرَّبِيعُ وَعَفْوُهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ يَنْسُبُونَ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْخَطَأِ فِي نَقْلِهِ حِينَ قَالَ: وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا مَا جَازَ إِحْيَاؤُهُ وَإِنَّ الصحيح ما نقله الربيع وإن عفوه غير مَمْلُوك لِيُمْلَكَ بِالْإِحْيَاءِ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ وطائفة يقولون: كلي النَّقْلَيْنِ صَحِيحٌ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا مُخْتَلِفٌ، فَقَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ يَعْنِي لِكَافَّةِ(7/501)
الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِمُشْرِكٍ أَنْ يُحْيِيَ مَوَاتًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُ الرَّبِيعِ وَعَفْوُهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ يَعْنِي لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ مَنْ أَحْيَاهُ مِنْهُمْ مَلَكَهُ، فَإِنْ قِيلَ فلما خَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِهَذَا التَّقْسِيمِ مِنَ الْحُكْمِ وَقَدْ تَكُونُ بِلَادُ الشِّرْكِ مِثْلَهَا وَعَلَى حُكْمِهَا فَعَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَصَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ أَحْكَامَنَا عَلَيْهَا جَارِيَةٌ بِخِلَافِ بِلَادِ الشِّرْكِ الَّذِي لَا تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ بِلَادَ الشِّرْكِ قَدْ يَكُونُ حُكْمُهَا كَبِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي عَامِرِهَا وَمَوَاتِهَا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ فُتُوحِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يجمعها في الحكم.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ عَنْوَةً مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ فَعَامِرُهُ كُلُّهُ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ بِلَادَ الشِّرْكِ إِذَا صَارَتْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَصِيرَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَفْوًا بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا طَوْعًا مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَلَا بِتَهْدِيدٍ وَإِرْهَابٍ فَحُكْمُ ذَلِكَ حُكْمُ مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْصَارِهِمْ فِي مِلْكِهِمْ لِرِقَابِ عَامِرِهَا وَاسْتِوَاءِ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي إِحْيَاءِ مَوْتَاهَا، وَجَمِيعُهَا أَرْضُ عُشْرٍ فِيمَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ عَامِرٍ وَمَا استأنفوا إحياؤه مِنْ مَوَاتٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْيَدِ وَالْغَلَبَةِ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا مُلِكَ عَنْوَةً.
وَالثَّانِي: مَا فُتِحَ صُلْحًا، فَأَمَّا الْمَمْلُوكُ عَنْوَةً فَعَامِرٌ مَغْنُومٌ يُقَسَّمُ خَمْسَةً عَلَى خَمْسَةٍ مِنْ أَهْلِ الْخُمْسِ، وَتَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ مقسومة بيه الغانمين، فأما مواته فلهم فيه حالان:
أحدهما أَنْ لَا يَذُبُّوا عَنْهُ وَلَا يَمْنَعُوا مِنْهُ، وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ عَنْهُ، فَهَذَا فِي حُكْمِ مَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ أَحْيَاهُ فَقَدْ مَلَكَهُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْغَانِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَذُبُّوا عَنْهُ وَيَمْنَعُوا مِنْهُ، وَيُقَاتِلُوا دُونَهُ، فَقَدْ صَارَ الْغَانِمُونَ أَوْلَى بِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ صَارُوا أَوْلَى بِهِ يَدًا أَوْ مِلْكًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ يَدًا كَالْمُحْجِرِ عَلَى الموات وهو أَوْلَى بِهِ، لِمَحْجَرِهِ وَيَدِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لم يصير ملكاً له فإن أخروا أحياؤه قَالَ لَهُمُ الْإِمَامُ: إِمَّا أَنْ تُحْيُوهُ أَوْ تَرْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْهُ لِيُحْيِيَهُ غَيْرُكُمْ كَمَا يَقُولُ لِمَنْ يَحْجُرُ مَوَاتًا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، لِأَنَّ مَنْعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْهُ تَحْجِيرٌ ثُمَّ انْتَقَلَتْ أَيْدِيهُمْ إِلَى الْغَانِمِينَ فَصَارُوا بِالْغَنِيمَةِ مُتَحَجِّرِينَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ بَدَرَ غَيْرُ الْغَانِمِينَ فَأَحْيَاهُ مَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ مِنْ مَوَاتِ مَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ.(7/502)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وأبي الفياض أن الغانمين أولىبالموات ملكاً، لأن قَدْ صَارَ بِالْمَنْعِ تَبَعًا لِلْعَامِرِ فَلَمَّا مَلَكَ الْغَانِمُونَ الْعَامِرَ مَلَكُوا مَا صَارَ تَبَعًا لَهُ مِنَ الْمَوَاتِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُمْ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ بِرَفْعِ الْيَدِ بِتَأْخِيرِ الْإِحْيَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَعَادِنِ هَذَا الْمَوَاتِ شَيْئًا لَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَجُوزُ فَهَذَا حُكْمُ مَا فُتِحَ عَنْوَةً، وَسَيَأْتِي حُكْمُ مَا فُتِحَ صُلْحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا كَانَ فِي قَسْمِ أَحَدِهِمْ مِنْ معدنٍ ظاهرٍ فَهُوَ لَهُ كَمَا يَقَعُ فِي قِسْمَةِ الْعَامِرِ بِقِيمَتِهِ فَيَكُونُ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قُسِمَ عَامِرُ بِلَادِ الْعَنْوَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَحَصَلَ فِي قَسْمِ أَحَدِهِمَا مِنَ الْعَامِرِ مَعْدِنٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا، فَهَذَا مِلْكٌ لِمَنْ قُسِمَ لَهُ مِنَ الْغَانِمِينَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَاطِنًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ عَرَفَ حَالَهُ وَقْتَ الْقَسْمِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ، فَإِنْ عَرَفَ حَالَهُ بَعْدَ مِلْكِهِ لِلْغَانِمِ بِالْقَسْمِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ مَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ.
وَالثَّانِي: لَا يَمْلِكُهُ لِجَهَالَةِ الْإِمَامِ بِهِ، وَإِن قَسْمَ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ، فَعَلَى هَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَعْدِنَ وَحْدَهُ وَيَمْلِكُ مَا سِوَاهُ مِمَّا قُسِمَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي إِفْرَادِهِ عَنْ مِلْكِهِ ضَرَرٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَلَا بَدَلَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِي إِفْرَادِهِ ضَرَرٌ فَلَا خِيَارَ لَهُ أَيْضًا، لِأَنَّ قَسْمَ الْإِمَامِ لا يتعلق به المقسوم لَهُ خِيَارٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ بَدَلَ النَّقْصِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ مَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْهُ أَوْ نَنْقُضُ الْقَسْمَ مَنْ يُعْطِيهِ غَيْرُهُ مما يفي بسهمه.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا كَانَ فِي بِلَادِ الْعَنْوَةِ مِمَّا عُمِّرَ مَرَّةً ثُمَّ تُرِكَ فَهُوَ كَالْعَامِرِ الْقَائِمِ الْعِمَارَةِ مِثْلُ مَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَنْهَارُ وَعُمِّرَ بِغِيَرِ ذَلِكَ عَلَى نُطَفِ السَّمَاءِ أَوْ بِالرِّشَاءِ وَكُلُّ مَا كَانَ لَمْ يُعَمَّرْ قَطُّ مِنْ بِلَادِهِمْ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا انْدَرَسَتْ عِمَارَتُهُ مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى صَارَ مَوَاتًا خَرَابًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي إِحْيَائِهَا بَاقِيَةً فِيهِ كَأَرْضِ الزِّرَاعَاتِ إِذَا كانت مسنياتها باقية وماؤها قائماً، وصارت بنيات الحشيش فيها خَرَابًا وَبِتَأْخِيرِ عِمَارَتِهَا مَوَاتًا فَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْعَامِرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فِي الْعَنْوَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي إِيجَابِهَا ذَاهِبَةً كَالدُّورِ وَالْمَنَازِلِ إِذَا ذَهَبَ آلَتُهَا وَانْدَرَسَتْ آثَارُهَا، فَحُكْمُ هَذَا عَلَى مَا اسْتَوْفَيْنَاهُ تَقْسِيمًا وَحُكْمًا فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ.(7/503)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَذْهَبَ بَعْضُ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِيجَابِهَا وَيَبْقَى بَعْضُهَا عَارِضَ الزَّرْعِ إِذَا ذَهَبَتْ مَسْنِيَّاتُهَا وَبَقِيَ مَاؤُهَا أَوْ ذَهَبَ مَاؤُهَا وَبَقِيَتْ مَسْنِيَّاتُهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ في حكم الموات ما لم يندرس جَمِيعُ آثَارِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوَاتِ ما لم يبقى جَمِيعُ آثَارِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِجَوَابِهَا صَارَتْ مَوَاتًا، وَإِنْ قَرُبَ الْعَهْدُ لِعِمَارَتِهَا فَهِيَ فِي حُكْمِ مَا كَانَ عَامِرًا.
مَسْأَلَةٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا كَانَ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ صُلْحًا فَمَا كَانَ لَهُمْ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ غَيْرُ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَرْضَ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا ثُمَّ عَامَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ فَالْأَرْضُ كُلُّهَا صلحٌ وَخُمْسُهَا لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِجَمَاعَةِ أَهْلِ الْفَيْءِ وَمَا كان فيها من مواتٍ فهو كالموات غير فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى عَامِرِهَا وَمَوَاتِهَا كَانَ الْمَوَاتُ مَمْلُوكًا لِمَنْ مَلَكَ الْعَامِرَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا حَازَهُ رجلٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا انْتَقَلَ إِلَيْنَا مِنْ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ: عَنْوَةً وَصُلْحًا، فَأَمَّا بِلَادُ الْعَنْوَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا، وَأَمَّا بِلَادُ الصُّلْحِ فَضَرْبَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْقَدَ الصُّلْحُ فِيهَا عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهَا وَأَنْ يُؤَدُّوا عَنْهَا خَرَاجًا فَهَذَا جِزْيَةٌ تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، وَهُوَ فِي الْعَامِرِ وَالْمَوَاتِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ الصُّلْحِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُعْقَدَ الصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ رِقَابَ أَرْضِهِمْ ملكاً للمسلمين وتقر في أيديهم بخراج بادوه عَنْهَا، فَهَذَا خَرَاجُ أُجْرَةٍ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، فَأَمَّا مَوَاتُهُمْ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُضَمَّ إِلَى الْعَامِرِ فِي الصُّلْحِ أَوْ بِعَقْلٍ، فَإِنْ أُعْقِلَ وَلَمْ يُذْكَرْ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَوَاتِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَرْضُهُمْ إِلَى الْعَامِرِ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ صَارَ فِي حُكْمِ مَا غُنِمَ مِنْ مَوَاتِهِمْ إِذَا مَنَعُوا مِنْهُ يكون أهل الفيء أولى به، وهل يكونوا أَوْلَى بِهِ يَدًا أَوْ مِلْكًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ يَدًا، فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ مِلْكًا فَإِنْ أَحْيَاهُ غَيْرُهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا، تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: كَانَ الْمَوَاتُ مَمْلُوكًا لِمَنْ مَلِكَ الْعَامِرَ، وَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِتَأْوِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي مَوَاتٍ كَانَ عَامِرًا ثُمَّ خُرِّبَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ تَقْسِيمِ حُكْمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِمَنْ مَلَكَ الْعَامِرَ مِنْ أهل الفيء، لأن في الفيء خمس لِأَهْلِ الْخُمْسِ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ لِأَهْلِ الْفَيْءِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ كَافَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوَاتِ من بلاد المسلمين إذا(7/504)
أجازه رَجُلٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيُجَوِّزُ بيع الموات بإحازة المسلم وإن لم يحييه، لأنه قد صار بالإجازة أَوْلَى بِهِ وَكَانَ غَيْرُهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الْمَوَاتِ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ، لِأَنَّ يَدَهُ قَدْ تُرْفَعُ إِنْ أَخَّرَ الْإِحْيَاءَ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ إِذَا أَحَازَهُ رَجُلٌ فعبر عن الإحياء بالإحازة
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ عَمِلَ فِي مَعْدِنٍ فِي الْأَرْضِ مَلَّكَهَا لِغَيْرِهِ فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَلِمَالِكِهَا وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْعَمَلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَلَكَ رجل معدناً ظاهراً أبو باطناً إما بإحياءه أَوْ بِمَغْنَمٍ حَصَلَ فِي سَهْمِهِ أَوْ بِإِقْطَاعٍ، وَقِيلَ يَجُوزُ إِقْطَاعُهُ وَاسْتِدَامَةُ مِلْكِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ وَلَا أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي حُكْمِ الْغَاصِبِ يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَيَغْرَمُ إِنْ كَانَ تَالِفًا بمثل ماله مِثْلٌ وَبِقِيمَةِ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ فِي عَمَلِهِ لِتَعَدِّيهِ بِهِ، وَمَنْ تَعَدَّى فِي عَمَلٍ لَهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ عِوَضًا، وَعَلَيْهِ غُرْمُ مَا أَفْسَدَ مِنَ الْمَعْدِنِ بِعَمَلِهِ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ يَرَى أَنْ لَا تعزيز عَلَيْهِ، تَعْلِيلًا بِأَنَّ أَصْلَ الْمَعْدِنِ قَدْ كَانَ مباحاً فصارت شبهة، والذي أرى أن يعزر وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مُبَاحًا قَبْلَ الْمِلْكِ كَمَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ وَإِنْ كَانَتْ عن أصول مباحة.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ عَمِلَ بِإِذْنِهِ أَوْ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ لَهُ فسواءٌ وَأَكْثَرُ هَذَا أَنْ يَكُونَ هِبَةً لَا يَعْرِفُهَا الْوَاهِبُ وَلَا الْمَوْهُوبُ لَهُ وَلَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَقْبِضْ وللإذن الخيار في أن يتم ذلك أَوْ يُرَدَّ وَلَيْسَ كَالدَّابَّةِ يَأْذَنُ فِي رُكُوبِهَا لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا أَعْطَاهُ وَقَبَّضَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَلَكَ مَعْدِنًا فِي أَرْضٍ أَحْيَاهَا أَوِ اشْتَرَاهَا فَظَهَرَ فِيهَا ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا عَمِلَ فِيهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ قِطَعًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَمِلَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَهُوَ متعدٍ بِذَلِكَ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَمَا أَخْرَجَهُ فَلِصَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُ الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُ لَهُ فَمَا يُخْرِجُهُ يَكُونُ له، وهل للعامل الأجرة أم لا يكون؟ يَحْكُمُ فِيهِ كَالْحَاكِمِ فِي الْغَسَّالِ إِذَا أَعْطَاهُ الثَّوْبَ لِيَغْسِلَهُ فَغَسَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ أُجْرَةً وَأَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ عَلَى أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ الْعَامِلُ فَلِنَفْسِهِ دُونَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهَا هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ، وَالْمَجْهُولُ لَا يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ وَكُلُّ مَا يُخْرِجُهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَعْدِنِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهُ هِبَةً بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَيُقْبِضَهُ إِيَّاهُ وَلَا أُجْرَةَ لِلْعَامِلِ، لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ الْأُجْرَةُ إِذَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ أَوْ فَاسِدَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ إِذَا قَارَضَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ فَعَمِلَ وَرَبِحَ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ وَأُجْرَةَ الْمِثْلِ لِلْمُقَارِضِ، وَهَا هُنَا قَدْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا عَمِلَ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ(7/505)
لِغَيْرِهِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ يَقَعُ لِغَيْرِهِ دُونَهُ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ الْعَمَلَ وَقَعَ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إِلَّا نَفْسَهُ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْدِنِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّتِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: تَحْفِرُ لِي كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا صَحَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً، فَأَمَّا إِذَا اسْتَأْجَرَهُ لِذَلِكَ وَجَعَلَ أُجْرَتَهُ جَزَاءً مِمَّا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَعْدِنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: ثُلُثُهُ أَوْ رُبْعُهُ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ، لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْجَهَالَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَخْرَجْتَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ نِصْفَهُ أَوْ ثُلُثَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَ لَهُ مَجْهُول الْقَدْرِ وَإِنْ جَعَلَ مَعْلُومًا فَقَالَ: إِنْ أَخْرَجْتَ مِنْهُ كَذَا فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، صَحَّ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي، أَوْ قَالَ: إِنْ جِئْتَ بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ صَحَّ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ مِنْ فَضْلِ مَائِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا يُسْقَى بِهِ الزَّرْعُ أَوِ الشَّجَرُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْآبَارُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَحْفِرُهُ فِي مِلْكِهِ، وَضَرْبٌ يَحْفِرُهُ فِي الْمَوَاتِ، لِتَمَلُّكِهِ، وَضَرْبٌ يُحْفَرُ فِي الْمَوَاتِ لَا لِلتَّمَلُّكِ.
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ فَإِنَّمَا نَقَلَ مِلْكَهُ مِنْ مِلْكِهِ، لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَحَلَّ قَبْلَ الْحَفْرِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَوَاتِ لِيَتَمَلَّكَهَا فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ، وَالْإِحْيَاءُ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى مَائِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ نَيْلُهَا، وَإِذَا بَلَغَ نَيْلَ مَا يُحْيِيهِ ملكه، وقيل: إن يبلغ الماء يكون ذَلِكَ تَحَجُّرًا وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي الْمَعْدِنِ الْبَاطِنِ إِنَّ تَحْجِيرَهُ مَا لَمْ يَبْلُغِ النَّيْلَ، وَإِذَا بَلَغَ النَّيْلَ كَانَ ذَلِكَ إِحْيَاءً وَيَمْلِكُهُ، وَيُفَارِقُ الْمَعْدِنَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَا يَنْتَهِي عِمَارَتُهُ وَالْبِئْرَ تَنْتَهِي عِمَارَتُهَا فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءَ تَكَرَّرَتْ مَنْفَعَتُهَا عَلَى صِنْفَيْهَا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ يَمْلِكُ الْمَاءَ الَّذِي يَحْصُلُ فِي هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ أَمْ لَا؟ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُ، لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْبِئْرِ لَوْ كان مملوكاً يستبح بِالْإِجَارَةِ، لأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمَا جَازَ بَيْعُ دارٍ فِي بِئْرِهَا مَاءٌ بدارٍ فِي بِئْرِهَا مَاءٌ، لِأَنَّ الرِّبَا يَجْرِي فِي الْمَاءِ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا، وَلَمَّا جَازَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَمْلُوكٌ أَنَّهُ نَمَاءٌ مَلَكَهُ فَهُوَ كَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْمَاءَ مَعْدِنٌ ظَهَرَ فِي أَرْضِهِ فَهُوَ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهَا إِذَا ظَهَرَتْ فِي أَرْضِهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَمْ يُسْتَبَحْ بِالْإِجَارَةِ فَهُوَ أَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تُسْتَبَاحُ بِالْإِجَارَةِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَمْلِكَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِرْضَاعِ عَيْنَ اللَّبَنِ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ الْمُسْتَأْجِرُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُكْرِي فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ فِي الْحَالِ، وَمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَلَيْسَ لَهُ منع(7/506)
الْغَيْرِ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ أَنْ يُسْتَظَلَّ بِحَائِطِهِ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِمُ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ، وَلَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَذَلِكَ صَحَّ الْبَيْعُ، إِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ وَإِنْ أَخَذَهُ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَتَخَطَّى فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ تَخَطَّى بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَاسْتَقَى مِنْ ذَلِكَ الْمَاءَ مَلَكَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهُ كَمَا إِذَا تَوَغَّلَ فِي أَرْضِهِ صَيْدٌ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ، لِأَنَّهُ يحتاج أن يتخطى ملك غير بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ خَالَفَ وتخطى فأخذوا مَلَكَهُ، وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ خَالَفَ قُلْنَا إِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَقِيَهُ وَيَحُوزَهُ فَيَمْلِكَهُ بِالْحِيَازَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَمْلُوكٌ جَازَ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْبِئْرِ إِذَا شَاهَدَ الْمُشْتَرِي كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَ مَا فِي الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِذَا كَانَ بِبَيْعٍ ويريد كلما استقى منه شيء فَلَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنَ الْآبَارِ وَهُوَ إِذَا نَزَلَ قومٌ مَوْضِعًا مِنَ الْمَوَاتِ فَحَفَرُوا فِيهِ بِئْرًا لِيَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا وَيَسْقُوا مِنْهُ مَوَاشِيَهُمْ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ وَلَمْ يَقْصِدُوا التَّمَلُّكَ بِالْإِحْيَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، لِأَنَّ الْمُحْيِيَ إِنَّمَا يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ مُدَّةَ مَا قَصَدَ بِهِ بِمِلْكِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فَإِذَا رَحَلَ فَكُلُّ مَنْ يَسْبِقُ إِلَيْهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا إِنَّهُ يَمْلِكُ الْبِئْرَ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِمَائِهَا بِقَدْرِ حَاجَتِهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَسَقْيِ زَرْعِهِ فَإِذَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِلَا عِوَضٍ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ مِنَ السَّائِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاءِ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ غَيْرُهُ مِنْ رَعْيِ الْكَلَأِ وَالَّذِي يَقْرُبُ ذَلِكَ الْمَاءَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِشُرْبِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ فَأَمَّا لِسَقْيِ زَرْعِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَسَقْيِ زَرْعِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ بِعِوَضٍ لِشُرْبِ الْمَاشِيَةِ وَسَقْيِ الزَّرْعِ فَأَمَّا بِلَا عِوَضٍ فَلَا، وَاحْتَجَّ أَبُو عُبَيْدٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَقَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَلَأً مَمْلُوكًا وَبِجَنْبِهِ بِئْرٌ وَلَا يُمْكِنُ سَقْيُ الْمَوَاشِي مِنْ تِلْكَ الْبِئْرِ إِلَّا بِالرَّعْيِ فِي ذَلِكَ الكلأ لم يلزمه بذل الفاضل من كلائه، فَإِنْ كَانَ مَنْعُهُ يُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْمَاءِ الْمُبَاحِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَاءُ لَهُ، وَكَانَ الْكَلَأُ مُبَاحًا لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ يُؤَدِّي إِلَى مَنْعِ الْكَلَأِ الْمُبَاحِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لِسَقْيِ زَرْعِهِ فَكَذَلِكَ لِمَوَاشِيهِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِيهِ أَدِلَّةٌ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَوَعَّدَ عَلَى الْمَنْعِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَذْلَ وَاجِبٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاضِلَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ بَذْلُهُ فَأَمَّا مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَاشِيَةُ وَنَفْسُهُ وَزَرْعُهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ وَهُوَ أَحَقُّ من غيره.(7/507)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَذْلُ بِلَا عِوَضٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّاسُ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ ".
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَامٌ وَخَبَرُنَا خَاصٌّ فَقَضَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْكَلَأِ فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَبَيْنَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أُخِذَ اسْتُخْلِفَ فِي الْحَالِ وَنَبَعَ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَشِيشُ فَإِنَّهُ إِذَا أُخِذَ لَا يُسْتَخْلَفُ بَدَلُهُ فِي الْحَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَشِيشَ يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ وَالْمَاءَ لَا يَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِ الْأَخِيرِ فَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ فَإِنَّ لَهُ حُرْمَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَطِشَ زَرْعُهُ فَلَمْ يَسْقِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ عَطِشَ حَيَوَانٌ أُجْبِرَ عَلَى سَقْيِهِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبَدل لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْذُلَ آلَتَهُ الَّتِي هِيَ الْبَكَرَةُ وَالدَّلْوُ وَالْحَبْلُ، لِأَنَّهَا تَبْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَا تُسْتَخْلَفُ، وَيُفَارِقُ الْمَاءَ، لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ فِي الْحَالِ بَدَلُهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الَّذِي قَدْ حَازَهُ وَجَمَعَهُ في جبة أو مركبه أو مصنعة فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَخْلَفُ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْبِئْرِ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ بَذْلُ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ لِزَرْعِ غَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: فِي الْمِيَاهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا مِنْ فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي مِلْكِهَا.
وَالْآخَرُ: فِي السَّقْيِ مِنْهَا.
فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي مِلْكِهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ مُبَاحٌ، وَمَمْلُوكٌ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَأَمَّا المباح كما الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ الْكَبِيرِ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ، وَمِثْلُ الْعُيُونِ النَّابِعَةِ فِي مَوَاتِ السَّهْلِ وَالْجَبَلِ فَكُلُّ هَذَا مُبَاحٌ، وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْهُ مَا أَرَادَ كَيْفَ شَاءَ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النَّاسُ شُرَكَاءٌ فِي ثَلَاثٍ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَأِ " وَلِأَنَّهُ حَادِثٌ فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَالْحَشِيشِ وَإِنْ زَادَ هَذَا الْمَاءُ وَدَخَلَ أَمْلَاكَ النَّاسِ وَاجْتَمَعَ فِيهَا لَمْ يَمْلِكُوهُ، لِأَنَّهُ لَوْ نَزَلَ مَطَرٌ وَاجْتَمَعَ فِي مِلْكِهِ فَمَكَثَ أَوْ فَرَّخَ طَائِرٌ فِي بُسْتَانِهِ أو توحل ظَبْيٌ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَكَانَ بِمَنْ حَازَهُ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَكُلُّ مَا حَازَهُ مِنَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ مِنْ قِرْبَةٍ أَوْ جَرَّةٍ أَوْ سَاقَهُ إِلَى بِرْكَةٍ فَجَمَعَهُ فِيهَا(7/508)
فَهَذَا مَمْلُوكٌ لَهُ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَمَتَى غَصَبَ غَاصِبٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ.
وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا فَهُوَ كُلُّ مَا نَبَعَ فِي مِلْكِهِ مِنْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِطُ بِهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا بَاعَ دَارًا فِيهَا بِئْرٌ مَا لَمْ يَدْخُلِ الْمَاءُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ فِي الْمَاءِ فِي الدَّارِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: يَدْخُلُ فِي الدَّارِ تَبَعًا، وَمَنْ قَالَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا قَالَ: إِذَا شَرَطَ صَحَّ الْبَيْعُ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قُلْتُمْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ جَمِيعِ مَا فِي الْبِئْرِ مِنَ الْمَاءِ وَأَجَزْتُمْ هَا هُنَا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْبِئْرَ مَعَ مَائِهَا فَمَا يَحْدُثُ مِنَ الْمَاءِ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي وَلَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا بَاعَ الْمَاءَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهُ إِلَى أَنْ يُسَلَّمَ قَدْ بِيعَ فِيهِ مَاءٌ آخَرُ فَاخْتَلَطَ بِهِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا السَّقْيُ مِنْهُ فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُبَاحَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: هُوَ مَاءُ نَهْرٍ عَظِيمٍ مِثْلِ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَغَيْرِهِمَا وَالنَّاسُ فِي السَّقْيِ مِنْهُ شَرْعٌ سَوَاءٌ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ لِكَثْرَتِهِ وَاتِّسَاعِهِ.
وَالثَّانِي: مَاءٌ مُبَاحٌ فِي نَهْرٍ صَغِيرٍ يَأْخُذُ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ وَلَا يَسْعُ جَمِيعَ الْأَرَاضِي إِذَا سُقِيَتْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيَقَعُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ نِزَاعٌ فَهَذَا يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ إِلَى أَوَّلِ النَّهْرِ الصَّغِيرِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي سَرَاحِ الْحُرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرَحُ الْمَاءِ يَمُرُّ عَلَيْهِ فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ " فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْجِدْرِ " قَالَ الزُّبَيْرُ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) {النساء: 65) الْآيَةَ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَقْرَبَ أَوْلَى فَإِذَا اسْتَكْفَى أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ إِلَى مَنْ يَلِيهِ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانَ لَهُ سَهْمٌ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَاصَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مُرُورِ السُّبُلِ الَّذِي يَقْتَسِمُونَ مَاءَهُ فَقَضَى بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَحْبِسُهُ الْأَعْلَى عَنِ الْأَسْفَلِ لِكِي يُرْسِلَهُ إِلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ بِمَنْزِلَةِ السَّابِقِ إِلَى الْمَشْرَعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى مِنَ الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ.
وَأَمَّا تَأْوِيلُ قِصَّةِ الْبِئْرِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْرَهُ أَوَّلًا بِأَنْ لَا يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حَقِّهِ، ويرسل(7/509)
الْمَاءَ إِلَى جَارِهِ فَلَمَّا أَسَاءَ جَارُهُ الْأَدَبَ أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَوْفِيَ فِي حَقِّهِ فَقَالَ: " احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجِدْرَ (وَهُوَ الْحَائِطُ) ".
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْحَقَّ بِأَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِذَلِكَ.
قُلْنَا: لَيْسَ فِيهِمَا خِلَافٌ لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ الْكَعْبَيْنِ وَكَانَتِ الْأَرْضُ مُسْتَوِيَةً رَجَعَ الْمَاءُ إِلَى الْجِدَارِ.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى الْفُرْهَةِ يَسْقِي وَيَحْبِسُ الْمَاءَ عَمَّنْ دُونَهُ فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ إِلَى جَارِهِ وَهَكَذَا الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ يَفْعَلُ كُلَّمَا حَبَسَ الْمَاءَ وَبَلَغَ فِي أَرْضِهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ أَرْسَلَهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ حَتَّى يَشْرَبَ الْأَرَاضِي كُلُّهَا فَإِنْ كَانَ زَرْعُ الْأَسْفَلِ يَهْلَكُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْمَاءُ إِلَيْهِ لَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِ فَإِذَا أَحْيَا عَلَى هَذَا النَّهْرِ الصَّغِيرِ رَجُلٌ أَرْضًا مَوَاتًا هِيَ أَقْرَبُ إِلَى فُرْهَةِ النَّهْرِ منْ أَرَاضِيهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ بِمَائِهِ فَإِذَا فَضَلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ سَقَى الْمُحْيِي مِنْهُ وَلَا يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْمَاءَ مِلْكٌ لَهُمْ كما إذا جازوه مَلَكُوهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مَرَافِقِ مِلْكِهِمْ فَكَانُوا أحق به من حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَمَا فَضَلَ مِنْهُمْ كَانَ لِمَنْ أَحْيَا عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ مَوَاتًا وَأَمَّا الَّذِي فِي نَهْرٍ مَمْلُوكٍ فَهُوَ أَنْ يَحْفِرُوا فِي الْمَوَاتِ نَهْرًا صَغِيرًا لِيُحْيُوا عَلَى مَائِهِ أَرْضًا، فإذا بدوا بِالْحَفْرِ فَقَدْ تَحَجَّرُوا إِلَى أَنْ يَصِلَ الْحَفْرُ بِالنَّهْرِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَأْخُذُونَ الْمَاءَ مِنْهُ فَإِذَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مَلَكُوهُ كَمَا إِذَا حَفَرُوا بِئْرًا فَوَصَلُوا إِلَى الْمَاءِ مَلَكُوهُ، وَإِذَا حَفَرُوا مَعْدِنًا مِنَ الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، وَقُلْنَا: يَمْلِكُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى النِّيلِ مَلَكُوهُ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ عَلَى قَدْرِ نَفَقَاتِهِمْ عَلَيْهِ فَإِنْ أَنْفَقُوا عَلَى السَّوَاءِ كَانَ النَّهْرُ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ وَإِنْ تَفَاضَلُوا كَانَ مِلْكُهُمْ عَلَى قَدْرِ مَا أَنْفَقُوا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ إِذَا جَرَى فِيهِ لَمْ يَمْلِكُوهُ كَمَا إِذَا جَرَى الْفَيْضُ إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ وَاجْتَمَعَ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَكِنْ يَكُونُ أَهْلُ النَّهْرِ أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّ يَدَهُمْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُزَاحِمَهُمْ فِيهِ، لِأَنَّ النَّهْرَ مِلْكٌ لَهُمْ وَلِكُلِّ واحدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لِأَجْلِ الْمِلْكِ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَبِيرًا يَسَعُهُمْ أَنْ يَسْقُوا مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ سَقَوْا مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَسَعْهُمْ فَإِنْ تَهَابَوْا وَتَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُمْ مَا تَرَاضَوْا بِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا نَصَبَ الْحَاكِمُ فِي مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ خَشَبَةً مُسْتَوِيَةَ الظَّهْرِ مُحْفَرَةً بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لقوم مائة جزيت ولآخر عشرة أجربة كانت الحفر إحدى عشر حُفْرَةً مُتَسَاوِيَةً فَيَكُونُ حُفْرَةً مِنْهَا لِسَاقِيَةِ مَنْ لَهُ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ وَالْبَوَاقِي لِأَصْحَابِ الْمِائَةِ جَرِيبٍ وَذَلِكَ قِسْمَةُ الْمَاءِ الْعَادِلَةُ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.(7/510)
كِتَابُ الْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ
وَالْحَبْسِ وَمَا دَخَلَ فِي ذلك من كتاب السائبة
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: يُجْمَعُ مَا يُعْطِي النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثَلَاثَةُ وجوهٍ ثُمَّ يَتَشَعَّبُ كُلُّ وجهٍ مِنْهَا فَفِي الْحَيَاةِ مِنْهَا وَجْهَانِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ مِنْهَا وَجْهٌ فَمِمَّا فِي الْحَيَاةِ الصَّدَقَاتُ وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَلَكَ مَائَةَ سهمٍ مِنْ خيبرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أُصِبْ مَالًا مِثْلَهُ قَطُّ وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حبس الأصل وسبل الثمرة " قال الشافعي رحمه الله تعالى فلما أجاز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن يحبس أصل المال وتسبل الثمرة دل ذلك على إخراجه الأصل من ملكه إلى أن يكون محبوساً لا يملك من سبلٍ عليه ثمره بيع أصله فصار هذا المال مباينا لما سواه ومجامعاً لأن يخرج العبد من ملكه بالعتق لله عز وجل إلى غير مالك فملكه بذلك منفعة نفسه لا رقبته كَمَا يَمْلِكُ الْمُحْبَسُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْمَالِ لَا رقبته ومحرم على المحبس أن يملك المال كما محرم على المعتق أن يملك العبد ويتم الحبس وإن لم يقبض لأن عمر رضي الله عنه هو المصدق بأمر النبي
ولم يزل يلبي صدقته فيما بلغنا حتى قبضه الله ولم يزل علي رضي الله عنه يلي صدقته حتى لقي الله تعالى ولم تزل فاطمة رضي الله عنها تلي صدقتها حتى لقيت الله وروى الشافعي رحمه الله حديثاً ذكر فيه أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تصدقت بمالها على بني هاشمٍ وبني المطلب وأن عليًّا كرم الله وجهه تصدق عليهم وأدخل معهم غيرهم ".
فَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَهُوَ الْوَصِيَّةُ وَلَهَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ نَذْكُرُهَا فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَمَّا اللَّذَانِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَهُمَا الْهِبَةُ، وَالْوَقْفُ، فَأَمَّا الْهِبَةُ فَلَهَا بَابٌ يَجِيءُ فِيمَا بَعْدُ، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَهَذَا مَوْضِعُهُ فَالْوَقْفُ يَحْبِسُ الْأَصْلَ وَيُسْبِلُ الْمَنْفَعَةَ، وَجَمْعُهُ وُقُوفٌ وَأَوْقَافٌ، فَإِذَا وَقَفَ شَيْئًا زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِنَفْسِ الْوَقْفِ وَلَزِمَ الْوَقْفُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ لُزُومُ الْقَبْضِ وَلَا حُكْم الْحَاكِمِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ أَجْمَعَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ ومحمد غَيْرَ أَنَّ محمدا يَقُولُ: مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ، وَرَوَى عِيسَى بْنُ أَبَان أَنَّ أبا يوسف لَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ كَانَ عَلَى قَوْلِ أبي حنيفة فِي بَيْعِ الْأَوْقَافِ حَتَّى حَدَّثَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: هذا لا يسع أحد خلافه.(7/511)
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْوَقْفِ لَزِمَ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ، وَكَانَ الْوَاقِفُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ، وَإِنْ مَاتَ وَرِثَهُ وَرَثَتُهُ، وَإِنْ أَوْصَى بِالْوَقْفِ يَلْزَمُ فِي الثُّلُثِ قَالَ الْقَاضِي، قَدْ نَاقَضَ أبو حنيفة فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَقْفَ لَازِمًا فِي ثُلُثِهِ فِي حَالِ مَرَضِهِ الْمَخُوفِ إِذَا أَنْجَزَهُ وَلَمْ يُؤَخِّرْهُ وَلَا لَازِمًا فِي جَمِيعِ مَالِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا لَزِمَ فِي الثُّلُثِ بِوَصِيَّةٍ لَزِمَ فِيهِ فِي مَرَضِهِ إِذَا أَنْجَزَهُ وَفِي جَمِيعِ مَالِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ مِثْلَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ إِذَا أَوْصَى بِهِ لَزِمَ فِي ثُلُثِهِ، وَإِذَا أَنْجَزَهُ فِي مَرَضِهِ لَزِمَ فِي ثُلُثِهِ، وَإِذَا أَنْجَزَهُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ لَزِمَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ وَاحْتَجَّ بِأَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَفُرِضَ فِيهَا الْفَرَائِضُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا حَبْسَ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءَ ".
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ صَاحِبَ الْأَذَانِ جَعَلَ حَائِطًا لَهُ صَدَقَةً وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَأَتَى أَبَوَاهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ لَنَا عيشٌ إِلَّا هَذَا الْحَائِطَ فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ مَاتَا فَوَرِثَهُمَا " فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ وَقْفَهُ إِيَّاهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ لَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ عَلَى أَبَوَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: جاء محمدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِطْلَاقِ الْحَبْسِ.
وَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا وَقَفَ وَقْفًا فَأَبْطَلَهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَوْ كَانَ قَدْ لَزِمَ لَمْ يَصِحَّ إِبْطَالُهُ وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ قَصَدَ إِخْرَاجَ مَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ لِمُجَدِّد الْقَوْل.
أَصْلُهُ: صَدَقَةُ التَّمْلِيكِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ بِهِ الْمِلْكُ عَنِ الرَّقَبَةِ قِيَاسًا عَلَى الْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ هَذِهِ الْأَرْضُ مُحَرَّمَةٌ لَا تُوَرَّثُ وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ لَمْ يَصِرْ وَقْفًا وَلَمْ يَزل مِلْكُهُ عَنْهَا وَقَدْ أَتَى بِصَرِيحِ مَعْنَى الْوَقْفِ فَإِذَا قَالَ وَقَفْتُهَا أَوْ حَبَسْتُهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهَا.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه ملك مائة سهمٍ من خَيْبَرَ اشْتَرَاهَا فَلَمَّا اسْتَجْمَعَهَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ مَالًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ مِثْلَهُ وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: " إِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ بِهَا وَحَبَسْتَ أَصْلَهَا " فَجَعَلَهَا عُمَرُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي الرِّقَابِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلَّاهَا إِنْ أَكَلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ وَيُطْعِمُ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ، وَأَوْصَى بِهَا إِلَى حَفْصَةَ، ثُمَّ إِلَى الْأَكَابِرِ مِنْ أَوْلَادِ عُمَرَ وَالتَّعَلُّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ:(7/512)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْبِسَ الْأُصُولَ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَقَعُ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ بِحَالٍ، فَإِنْ قِيلَ: بَلْ يَصِحُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَقِفُ وَيَرْفَعُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ لَزِمَ قِيلَ: فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اللُّزُومُ مِنْ جِهَتِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ بِالْحُكْمِ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ عُمَرَ رَفَعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَكَمَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ لَنُقِلَ، لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالنَّقْلِ مِنْ غَيْرِهِ.
وَالتَّعَلُّقُ الثَّانِي: بِالْخَبَرِ أَنَّ عُمَرَ جَعَلَهَا صَدَقَةً ثُمَّ ذَكَرَ أَحْكَامَهَا فَقَالَ: لَا تُبَاعُ، وَلَا تُوهَبُ، وَلَا تُورَثُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِهَا إِذَا صَارَتْ صَدَقَةً وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا الْحَاكِمُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَأَنَسًا، وَأَبَا الدَّرْدَاءِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَفَاطِمَةَ وَغَيْرَهُمْ وَقَفُوا دُورًا وَبَسَاتِينَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَجَعَ فِي وَقْفِهِ فَبَاعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِ هَمِّهِمْ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَنُقِلَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَلْزَمُ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ.
أَصْلُهُ: إِذَا بَنَى مَسْجِدًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمَ، وَقَدْ قَالَ أبو حنيفة: إِذَا أُذِنَ لِقَوْمٍ فَصَلّوا فِيهِ صَارَ مَحْبِسًا وَثَبَتَ وَقْفُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَمِلَ مَقْبَرَةً وَأَرَادَ أَنْ يَقِفَهَا فَأَذِنَ لِقَوْمٍ فَدَفَنُوا فِيهَا ثَبَتَ الْوَقْفُ، وَلِأَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ يَلْزَمُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ بِغَيْرِ حُكْمِهِ.
أَصْلُهُ: سَائِرُ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ الَّتِي تُزِيلُ الْمِلْكَ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ حَبْسَ الزَّانِيَةِ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعِلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) {النساء: 15) وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّبِيلَ فَقَالَ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مائةٍ وَتَغْرِيبُ عامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مائةٍ وَالرَّجْمُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا يُنَبِّهُ فِي آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إنَّ اللهَ أعْطَى كُلّ ذِي حِقٍ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ} فكأنه قَالَ: لَا يُحْبَسُ عَنْ وَارِثٍ شَيْءٌ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَائِطَ مَا كَانَ لَهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَبَوَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْخَبَرِ " مَاتَا فَوَرِثَهُمَا ".
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ شُرَيْحٍ فَهُوَ أَنْ نَقُولَ: هَذَا مُرْسَلٌ، لِأَنَّ شُرَيْحًا تَابِعِيٌّ، وَلَا(7/513)
نَقُولُ بِالْمَرَاسِيلِ أَوْ نَقُولُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْأَحْبَاسَ الَّتِي كَانَتْ تَفْعَلُهَا الْجَاهِلِيَّةُ، وَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) {المائدة: 13) .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَقْفُ مَا صَحَّ لِمَعْنًى عَرَضَ فِيهِ فَرَدَّهُ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ الرَّدُّ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْحَبْسِ كَمَا لَوْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ بَيْعًا فَرَدَّهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَبْسَ الْبَيْعِ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى صَدَقَةِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّا نَقْلِبُهُ، فَنَقُولُ: فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَعَدَمُهُ سَوَاءً.
أَصْلُهُ: مَا ذَكَرُوهُ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ إِذَا أَخْرَجَهُ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ، وَإِذَا أَخْرَجَهُ بِلَفْظِ الْوَقْفِ لَزِمَ أَلَا تَرَى أَنَّ هِبَةَ الْعَبْدِ لَا تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَعِتْقَهُ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَهُوَ إِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَقْدٌ عَلَى الرَّقَبَةِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ مُزِيلُ الْمِلْكِ عَنِ الرَّقَبَةِ فَهُوَ كَالْعِتْقِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمُ الْأَخِيرُ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَلْزَمَ إِذَا أَتَى بِصَرِيحِ الْمَعْنَى، وَيَلْزَمَ إِذَا أُتِيَ بِلَفْظَةٍ كَمَا إِذَا قَالَ عَنْ عَقْدِ النِّكَاحِ أَحْلَلْتُ لَكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَأَبَحْتُهَا لَكَ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ وَقَدْ صَرَّحَ بِمَعْنَاهُ وَلَوْ قَالَ زَوَّجْتُكَ أَوْ أَنَكَحْتُكَ جَازَ ذَلِكَ والله أعلم.
فَصْلٌ
: ذَكَرَ أَصْحَابنَا تَفْسِيرَ السَّائِبَةِ، وَالْبَحِيرَةِ، وَالْوَصِيلَةِ، وَالْحَامِ، فَأَمَّا السَّائِبَةُ فَهِيَ النَّاقَةُ تَلِدُ عَشرَةَ بُطُونٍ كُلُّهَا إِنَاثٌ فَتُسَيَّبُ تِلْكَ النَّاقَةُ فَلَا تُحْلَبُ إِلَّا لِلضَّيْفِ وَلَا تُرْكَبُ، وَالْبَحِيرَةُ: وَلَدُهَا الَّذِي يَجِيءُ بِهِ فِي الْبَطْنِ الْحَادِي عَشَرَ فَإِذَا كَانَ أُنْثَى فَهِيَ الْبَحِيرَةُ، وَإِنَّمَا سَمَّوْهَا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحَرُونَ أُذُنَهَا أَيْ يَشُقُّونَهَا، وَالنَّحْرُ الشَّقُّ، وَلِهَذَا سَمَّوُا الْبَحْرَ بَحْرًا لِأَنَّهُ شَقٌّ فِي الْأَرْضِ.
وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ فَهِيَ الشَّاةُ تلد خمسة بطن فِي كُلِّ بَطْنٍ عَنَاقَانِ فَإِذَا وَلَدَتْ بَطْنًا سَادِسًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى قَالُوا وَصَلَتْ أَخَاهَا فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ حَلَالًا لِلذُّكُورِ وَحَرَامًا لِلْإِنَاثِ وَأَمَّا الْحَامُ فَهُوَ الْفَحْلُ يَنْتِجُ مِنْ ظَهْرِهِ عَشَرَةَ بُطُونٍ فَيُسَيَّبُ وَيُقَالُ: حَمَي ظَهْرُهُ فَكَانَ لَا يُرْكَبُ.
فَصْلٌ
: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ لُزُومِ الْوَقْفِ عِنْدَنَا الْقَبْضُ وَقَالَ محمد بن الحسن: مِنْ شَرْطِ لُزُومِهِ الْقَبْضُ كَالْهِبَةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِقْبَاضِ وَلِأَنَّهُ جَعَلَ إِلَيْهِ التَّحْبِيسَ، وَعِنْدَ الْمُخَالِفِ لَا يَمْلِكُ الْوَاقِفُ التَّحْبِيسَ، لِأَنَّهُ لَا تَصِيرُ بِوَقْفِهِ لَازِمًا حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ سَبَبٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَقَفَ تِلْكَ السِّهَامَ الَّتِي مَلَكَهَا مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ فَكَانَ يَلِي صَدَقَتَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ وَقَفَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَلَمْ يَزَلْ يلي(7/514)
صَدَقَتَهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ تزل فاطمة عليهما السَّلَامُ تَلِي صَدَقَتَهَا حَتَّى لَقِيَتِ اللَّهَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ يَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عَطِيَّةٌ، لِأَنَّ الْوَقْفَ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ وَالْعَقْدُ لَا يُسَمَّى عَطِيَّةً، فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ، ثم المعنى في الأصل إن ذل تَمْلِيكٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَوْهُوبِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَقْفُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ.
فَصْلٌ
: إِذَا وَقَفَ أَرْضًا أَوْ دَارًا فَالْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّ مِلْكَ الْوَاقِفِ يَزُولُ عَنِ الْمَوْقُوفِ بالوقف كما يزول بالبيع وغيره وخرج أبو العباس فيه قولاً آخر أنه لا يزول ملكه، وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَتَحْبِيسُ الْأَصْلِ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْوَقْفَ سَبَبٌ بِقَطْعِ تَصَرُّفِ الْوَاقِفِ فِي الرَّقَبَةِ وَالْمُنَفِّعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُزِيلَ الْمِلْكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَالْعِتْقُ وَغَيْرُهُمَا.
وَإِنَّ الْجَوَابَ عَمَّا ذَكَرُوهُ فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّحْبِيسُ ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِلْكَ الْوَاقِفِ يَزُولُ عَنِ الْمَوْقُوفِ فَهَلْ يَزُولُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَيَمْلِكُهُ أَوْ يَنْتَقِلُ مِلْكُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ قَالَ: كَمَا يَمْلِكُ الْمُحْبَسُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْمَالِ لَا رَقَبَتَهُ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: إِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّ الرَّجُلَ إذا أوعى وَقْفًا عَلَيْهِ فَأَقَامَ شَاهِدًا أَوْ أَحَدًا حَلِفَ مَعَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ وَخَالَفَ ذَلِكَ الْعِتْقُ، لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ الْيَمِينُ وَالشَّاهِدُ، فَلَوِ ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدًا وَاحِدًا لَمْ يَحْلِفْ مَعَهُ فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قَالَ إِنَّهُ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُخْرِجُ الْمَوْقُوفَ عَنِ الْمَالِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَطْعَنُ بِالْغَصْبِ وَيُثْبِتُ عَلَيْهِ الْيَدَ وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا مَلَكَهُ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَبِيعُ أُمَّ الْوَلَدِ وَهِيَ مِلْكٌ لَهُ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجْهُهُ أَنَّهُ إِزَالَةُ مِلْكٍ عَنِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْمِلْكُ إِلَيْهِ كَالْعِتْقِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِحَصِيرِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهَا تُضْمَنُ بِالْيَدِ وَلَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ من الآدميين وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ قَبُولِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عَلَى الْوَقْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ مِلْكُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ انْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ دَارًا(7/515)
فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَأْخُذَ غَلَّتَهُ وَإِنْ كَانَ بُسْتَانًا فَالْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَأْخُذَ ثَمَرَتَهُ، وَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مَالٌ، وَكُلَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ مَالًا قُبِلَ فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ، وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَالَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْمَوْقُوفِ كَمَا لَا يَمْلِكُ العتق بيع رقبته.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ وَلَقَدْ حَفِظْنَا الصَّدَقَاتِ عَنْ عَدَدٍ كثيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَقَدْ حَكَى لِي عددٌ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَهَا حَتَى مَاتُوا يَنْقُلُ ذَلِكَ الْعَامَّةُ مِنْهُمْ عَنِ الْعَامَّةِ لا يختلفون فيه (قال الشافعي) رحمه الله: وإن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لعلي ما وصفت لم يزل من تصدق بها من المسلمين من السلف يلونها على من ماتوا وإن نقل الحديث فيها كالتكلف (قال) واحتج محتج بحديث شريحٍ أن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جاء بإطلاق الحبس فقال الشافعي الحبس الذي جاء بإطلاقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لو كان حديثاً ثابتاً كان على ما كانت العرب تحبس من البحيرة والوصيلة والحام لأنها كانت أحباسهم ولا نعلم جاهلياً حبس داراً على ولدٍ ولا في سبيل الله ولا على مساكين وأجاز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمر الحبس على ما روينا والذي جاء بإطلاقه غير الحبس الذي أجازه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال) واحتج محتج بقول شريح لا حبس عن فرائض الله (قال الشافعي) رحمه الله: لو جعل عرضةً له مسجداً لا تكون حبساً عن فرائض الله تعالى فكذلك ما أخرج من ماله فليس بحبسٍ عن فرائض الله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: جُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَسَائِرُ النَّاسِ.
فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَكَانَتِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِنَّا أَهْلَ بيتٍ لَا يَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ "، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى ثَمَرَةً مُلْقَاةً فَقَالَ: " لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا " وَلِأَنَّ الصَّدَقَاتِ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُنَزَّهٌ عَنْهُ.
وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَقْبَلُهَا وَرُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ حَمَلَ إليه تمراً في طبقٍ فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: صَدَقَةٌ فَرَدَّهُ، ثُمَّ حَمَلَ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا هَذَا قَالَ: هديةٌ فَقَبِلَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أكل من لحمٍ تصدق به على بريرة وَقَالَ: " هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هديةٌ " وَهَلْ كَانَ ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ لِأَجْلِ التَّحْرِيمِ أَوْ لِأَجْلِ الِاسْتِحْبَابِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَجْلِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ رَدَّ الصَّدَقَةَ عَلَى سَلْمَانَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ لَمَا رَدَّهَا وَلَكَانَ يَطِيبُ قَلْبُهُ بِقَبُولِهَا وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لِلصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ لَمَّا رَدَّ حِمَارَهُ الَّذِي أَهْدَاهُ إِلَيْهِ وَرَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ لَيْسَ بنا رد عليك وكلنا حُرُمٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ(7/516)
قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي اللَّحْمِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ " هُوَ لَهَا صدقةٌ وَلَنَا هديةُ " وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّا أَهْلَ بيتٍ لَا يَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ " وَهَذَا عَامٌّ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ الِامْتِنَاعَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ لَا التَّحْرِيمِ فَوَجْهُهُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّتْ لَهُ الْهَدِيَّةُ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ الْمُتَطَوَّعُ بها لغيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ وَتَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ الْمُتَطَوَّعُ بِهَا، وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَأَمَّا أَهْلُ بَيْتِهِ: فَالصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّا أَهْلَ بيتٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ " وَقَوْلِهِ لِلْفَضْلِ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمْ عَنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ أَخَذَ ثمرة مِنَ الصَّدَقَةِ فَأَكَلَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كخٍ كخٍ يَعْنِي ارْمِ بِهَا وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَكَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ السِّقَايَاتِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: " إِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ ".
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَعْنِي بِأَهْلِ الْبَيْتِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبِذَوِي الْقُرْبَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَهُمُ الَّذِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمِ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ وَهُمْ ذَوِي الْقُرْبَى فَأَمَّا آلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِينَ يُذْكَرُونَ فِي التَّشَهُّدِ فَقَدْ قِيلَ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَقِيلَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ فَآلُ الرَّجُلِ: أَتْبَاعُهُ وَأَشْيَاعُهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَدخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ) {غافر: 46) وَأَرَادَ بِهِ أَشْيَاعَ فِرْعَوْنَ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَتَحِلُّ الصَّدَقَاتُ كُلُّهَا عَلَيْهِمِ الْمَفْرُوضَةُ وَغَيْرُ المفروضة والله أعلم بالصواب.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَجُوزُ الْحَبْسُ فِي الرَّقِيقِ وَالْمَاشِيَةِ إِذَا عُرِفَتْ بِعَيْنِهَا قِيَاسًا عَلَى النَّخْلِ وَالدُّورِ وَالْأَرَضِينَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ وَالدُّورِ وَالْأَرْضِ وَالرَّقِيقِ وَالْمَاشِيَةِ وَالسِّلَاحِ وَكُلِّ عَيْنٍ تَبْقَى بَقَاءً مُتَّصِلًا وَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا.
وَقَالَ أبو يوسف: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْأَرَاضِي وَالدُّورِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْغِلْمَانِ فَأَمَّا وَقْفُ الْغِلْمَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَلَا تَصِحُّ وَاحْتَجَّ مَنْ نَصَرَهُ مَا عَدَا الْأَرْضَ وَالدُّورَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَلَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فَلَمْ يَصِحَّ وَقْفُهُ كَالْأَطْعِمَةِ وَالسَّمُومَاتِ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ مَعْقَلٍ جَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا مَعْقِلٍ جَعَلَ نَاضِحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ أَفَأَرْكَبُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ارْكَبِيهِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ عُمَرَ سَاعِيًا فَلَمَّا رَجَعَ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا إِنَّهُ قَدْ حَبَسَ أَذرعه وَأَعْبدَهُ وَمِنْ وجهه الْمَعْنَى أَنَّهَا عَيْنٌ تَجُوزُ بَيْعُهَا وَيُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا الْمُتَّصِلِ فَجَازَ وَقْفُهَا كَالدُّورِ. وقولنا: " عين " احترازها يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ حَيَوَانٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ غيره موقفه لَمْ يَصِحَّ. وَقَوْلُنَا: " يَجُوزُ بَيْعُهُ " احْتِرَازٌ مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْحُرِّ. وَقَوْلُنَا: " يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا " احْتِرَازٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا. وقولنا: " مع(7/517)
بَقَائِهَا الْمُتَّصِلِ " احْتِرَازٌ مِنَ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ بِالِانْتِفَاعِ. وَقَوْلُنَا " الْمُتَّصِلُ " احْتِرَازٌ مِنَ السَّمُومَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَتَّصِلُ بَقَاؤُهَا وَإِنَّمَا تَبْقَى يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً فَقَطْ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ وَقْفُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ جَازَ وَقْفُهُ مُنْفَرِدًا كَالشَّجَرَةِ لِأَنَّهَا وَقْفٌ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَتُوقَفُ مُنْفَرِدَةً عَنْهَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَقْفِ انْتِفَاعُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا عَدَا الْأَرْضَ وَالْعَقَارَ فَجَازَ وَقْفُهُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَيَصِحُّ وَقْفُهُ، ثُمَّ إِنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا اخْتَصَّتْ بِالْأَرْضِ وَالْعَقَارِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَثَبَّتَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُ الشَّرِيكَ عَلَى الدَّوَامِ، وَإِنَّمَا يَدُومُ الضَّرَرُ فِيمَا لَا يَنْفَكُّ وَمَا يَنْفَكُّ فَلَا يَدُومُ الضَّرَرُ فِيهِ فَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَقْفُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ الِانْتِفَاعُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا يَنْفَكُّ وَيُحَوَّلُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَجَازَ وَقْفُهُ إذا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا وَأَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَائِهَا الْمُتَّصِلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُهَا إِذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ مُطْلَقَةً وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وقفت فرساً أو عبد فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَوْبًا مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ وَالْإِخْبَارُ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا الْكَلْبُ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا قَالَ تَصَدَّقْتُ بِدَارِي عَلَى قومٍ أَوْ رجلٍ معروفٍ حيٍّ يَوْمَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ وَقَالَ صدقةٌ محرمةٌ أَوْ قَالَ موقوفةٌ أَوْ قَالَ صدقةٌ مسبلةٌ فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ فَلَا تَعُودُ مِيرَاثًا أَبَدًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَلْفَاظُ الْوَقْفِ سِتَّةٌ: تَصَدَّقْتُ وَوَقَفْتُ وَحَبَسْتُ لأن التصدق يَحْتَمِلُ الْوَقْفَ وَيَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّمْلِيكِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا وَيَحْتَمِلُ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ فَإِذَا قَرَنَهُ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْوَقْفِ انْصَرَفَ إِلَى الْوَقْفِ وَانْقَطَعَ الِاحْتِمَالُ وَالْقَرِينَةُ أَنْ يَقُولَ: تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً أَوْ مُحْبَسَةً أَوْ مُسْبلَةً أَوْ مُحَرَّمَةً أَوْ مُؤَبَّدَةً، أَوْ يَقُولُ صَدَقَةً لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُورَثُ، لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تُصْرَفُ إِلَى الْوَقْفِ وَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الْوَقْفَ انْصَرَفَ إِلَى الْوَقْفِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصِيرُ وَقْفًا مِنَ الْحُكْمِ، فَإِذَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ نَوَى الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا فِي الْحُكْمِ حِينَئِذٍ كَمَا قَالَ أَنْتِ حِلٌّ وَنَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا أَقَرَّتْ بِالنِّيَّةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحُكْمِ فَأَمَّا إِذَا قَالَ وَقَفْتُ كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِيهِ، لِأَنَّ الشرع قد ورد بها حيث قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعُمَرَ: " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَعُرْفُ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ عُرْفِ الْعَادَةِ فَأَمَّا إِذَا قَالَ حُرِّمَتْ وَبَدَتْ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ لِأَنَّهُ مَا وَرَدَ بِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَا يُسْتَعْمَلَانِ إِلَّا فِي الْوَقْفِ وَلَا يَحْتَمِلَانِ شَيْئًا آخَرَ فَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُمَا صَرِيحَانِ فِيهِ فَالْحَاكِمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِذَا قُلْنَا كِنَايَتَانِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَرِينَةِ أَوِ النِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا هُوَ كِنَايَةٌ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(7/518)
فَصْلٌ
: وَأَمَّا مَا اخْتُلِفَ فِيهِ فَلَفْظَانِ التَّحْرِيمُ وَالتَّأْبِيدُ، فَإِذَا قَالَ حَرَّمْتُهَا أَوْ أَبَدْتُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَكُونُ كِنَايَةً لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يُرِيدَ بِتَحْرِيمِ الْوَقْفِ أَوْ يُرِيدَ تَحْرِيمَ التَّصَرُّفِ.
والوجه الثاني: يكون صريح، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَقْفُ مِنَ الصَّرِيحِ.
فَصْلٌ
: وَقْفُ الْمُشَاعِ يَجُوزُ وَقَالَ محمد بن الحسن لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ مِنْ أَنَّ رَهْنَهُ وَإِحَازَتَهُ لَا تَجُوزُ.
وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أن عمر رضي الله عنه ملك مائة سهمٍ مِنْ خَيْبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " فَوَقَفَهَا بِأَمْرِهِ وَكَانَتْ مُشَاعًا، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ بَيْعُهُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَنَافِعِ الْبَاقِيَةِ صَحَّ وَقْفُهُ كَالْمَحُوزِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ صَحَّ آخِرُهُ وَالْمُشَاعُ كَالْبَيْعِ.
فَصْلٌ
: وَقْفُ الدِّرْهَمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ وَقْفُهَا لِاسْتِهْلَاكِهَا فَكَانَتْ كَالطَّعَامِ وَرَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَاز وَقْفِهَا وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى وَقْفِهَا عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِمَنَافِعِهَا لَا لِاسْتِهْلَاكِهَا بِأَعْيَانِهَا فَكَأَنَّهُ أَرَادَ وَقْفَ الْمَنَافِعِ وَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ وَقَفَهَا لِلْإِجَارَةِ وَالِانْتِفَاعِ الْبَاقِي فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجَارَةِ.
وَأَمَّا وَقْفُ الْحُلِيِّ فَجَائِزٌ لَا يَخْتَلِفُ لِجَوَازِ إِجَارَتِهِ أَوْ مَكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ.
فَصْلٌ
: أَرْضُ الْخَرَاجِ ضَرْبَانِ:
أحدهما: أن تكون مملوكة الدوار فَيَكُونُ خَرَاجُهَا جِزْيَةً تَسْقُطُ عَنْهَا بِالْإِسْلَامِ وَيَجُوزُ وَقْفُهَا لِكَوْنِهَا مِلْكًا تَامًّا لِوَقْفِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَمْلُوكَةِ الدوارِ كَأَرْضِ السَّوَادِ فَخَرَاجُهَا أُجْرَةٌ وَوَقْفُهَا لَا يَجُوزُ وَأَجَازَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا، وَهُوَ أَصْلُنَا فِي الْمَنْعِ مِنْ وَقْفِهَا، أَوْ لَا يجوز عندنا بيعها.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَّا إِلَى مَالِكِ منفعةٍ يَوْمَ يُخْرِجُهَا إِلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُسْبِلْهَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَبَدًا فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُتَصَدِّقُ بِهَا عَلَيْهِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً أَبَدًا وَرَدَدْنَاهَا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا يَوْمَ تَرْجِعُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَقْفَ مُلْحَقٌ بِالْهِبَاتِ فِي أَصْلِهِ، وَبِالْوَصَايَا فِي فَرْعِهِ، وَلَيْسَ كَالْهِبَاتِ الْمَحْضَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِيهَا مَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَلَا كَالْوَصَايَا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَصْلٍ مَوْجُودة، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صِحَّةَ الْوَقْفِ مَنْ يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا يَجُوزُ وَقْفُهُ مُعْتَبَرٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ السَّبِيلِ، لِيُعْلَمَ مَصْرِفُهُ وَجِهَةُ اسْتِحْقَاقِهِ فَإِنْ قَالَ: وَقَفْتُهُ عَلَى(7/519)
ما شاء زيد، وهكذا لو قَالَ وَقَفْتُهُ عَلَى مَا شَاءَ زَيْدٌ، كَانَ بَاطِلًا، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ وَقَفْتُهُ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ، كَانَ بَاطِلًا، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُهُ عَلَى مَنْ شِئْتُ، أَوْ فِيمَا شِئْتُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ لَهُ مَنْ شَاءَ، أَوْ مَا شَاءَ عِنْدَ وَقْفِهِ جَازَ، وَأَخَذَ بَيَانَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا تَعَيَّنُوا لَهُ عِنْدَ مَشِيئَتِهِ فَالسَّبِيلُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ وَاقِفِهِ يُؤْخَذُ بَيَانُهَا، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنُوا فَهِيَ مَجْهُولَةٌ كَوُرُودِ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَةِ غَيْرِهِ، فَهِيَ مَجْهُولَةٌ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً عِنْدَ غَيْرِهِ، فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَفِي الْوَقْفِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ وَهُوَ الْأَقْيَسُ لِلْجَهْلِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَصْرِفِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ وَفِي مَصْرِفِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهُمُ ابْنُ سريج.
أحدهما: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصْرِفُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَقْفِ الْقُرْبَى، وَمَقْصُودَ الْقُرْبَى فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ وَصَّى بِإِخْرَاجِ ثُلُثِ مَالِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي أَيِّ الْجِهَاتِ صَرَفَ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَيَكُونُ أَقْرَبُ النَّاسِ نَسَبًا وَدَارًا مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ أَحَقَّ بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصْرِفُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَالْبَرِّ لِعُمُومِ النَّفْعِ بِهَا.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبٌ لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ وَقْفٌ وَالْمَنْفَعَةُ لَهُ، وَلِوَرَثَتِهِ، وَوَرَثَةِ وَرَثَتِهِ مَا بَقَوْا، فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَكَأَنَّهُ وَقَفَ الْأَصْلَ وَاسْتَبْقَى الْمَنْفَعَةَ لِنَفْسِهِ وَلِوَرَثَتِهِ.
وَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ قَالَ وَقَفْتُهَا على من يولد لي وليس له ولداً يَجُوزُ.
قِيلَ لَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ مَعَ الْإِطْلَاقِ قَدْ يَحْمِلُ بِالْعُرْفِ عَلَى جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ وَمَعَ تَعْيِينِ الْحَمْلِ قَدْ حَمَلَهُ عَلَى جِهَةٍ غَيْرِ مَوْجُودَةٍ.
فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ جَمِيعِ الْخَلْقِ أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَهُوَ وَقْفٌ بَاطِلٌ لِعِلَّتَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَقْفَ مَا كَانَ سَبِيل مَخْصُوص الْجِهَاتِ لِتُعْرَفَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا.
وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ جَازَ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَقْفُهَا إِلَى جَمِيعِهِمْ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجِهَةَ مَخْصُوصَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ فِيهِمْ لَا يُوجِبُ اسْتِيعَابَ جَمِيعِهِمْ كَالزَّكَاوَاتِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى قَبِيلَةٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِهِمْ كَوَقْفِهِ إِيَّاهَا عَلَى رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرَ أَوْ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَقْفَ بَاطِلٌ تَعْلِيلًا بأن استيفاء جميعهم غير ممكن وليس في الشَّرْع لَهُمْ عُرْف.(7/520)
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ تَعْلِيلًا بِأَنَّ الْجِهَةَ مَخْصُوصَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَيَدْفَعُ إِلَى مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُسْبَلَةً مُؤَبَّدَةً لَا تَنْقَطِعُ، فَإِنْ قَدَّرَهُ بِمُدَّةٍ بِأَنْ قَالَ: وَقَفُتُ دَارِي عَلَى زَيْدٍ سَنَةً لم يجز، وأجازه ما ملك، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، فَقَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِكُلِّ مَالِهِ وَبِبَعْضِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ فِي كُلِّ الزَّمَانِ وَفِي بَعْضِهِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ عَارِيَةٌ وَلَيْسَتْ وَقْفًا.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعَارِيَةَ يَرْجِعُ فِيهَا وَهَذِهِ لَا رَجْعَةَ فِيهَا، أَوْ هَذَا خطأ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ " وَهَذَا أَصْلٌ غَيْرُ مُحْبَسٍ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَقَفَ إِلَى مُدَّةٍ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَتَقَ إِلَى مُدَّةٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَرَى مَجْرَى الْهِبَاتِ فَلَيْسَ فِي الْهِبَاتِ رُجُوعٌ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْوَصَايَا والصدقات فليس فيها. لزوال الْمِلْكِ رُجُوعٌ، وَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ أَنْ يَقِفَ بَعْضَ مَالِهِ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وَقْفِ بَعْضِ مَالِهِ رُجُوعٌ فِي الْوَقْفِ، وَفِي وَقْفِهِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ رُجُوعٌ فِي الْوَقْفِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْوَقْفَ إِلَى مُدَّةٍ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ الْمُتَقَطِّعُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّرْ بمدة لا يجوز.
مسألة
أَنْ يَقُولَ وَقَفْتُ بَعْدَهُ الدَّارَ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ يَذْكُرْ آخِرَهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ زَيْدًا يَمُوتُ فَيَصِيرُ الْوَقْفُ مُنْقَطِعًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَى زَيْدٍ وَأَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مَا تَنَاسَلُوا لِأَنَّهُ وَقْفٌ لَا يُعْلَمُ تَأْبِيدُهُ لِجَوَازِ انْقِرَاضِهِمْ فَصَارَ وَقْفًا مُنْقَطِعًا، وَهَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ نَفَرٍ لَأَنَّ الْمَسْجِدَ وَالرِّبَاطَ قَدْ يُخَرَّبَانِ وَيَبْطُلَانِ وَالثَّغْرَ قَدْ يُسَلَّمُ أَهْلَهُ فَصَارَ مُنْقَطِعًا حَتَّى يَقُولَ فَإِنْ بَطَلَ فَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَأَمَّا إِنْ وَقَفَهُ عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا، لِأَنَّهُمْ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِهِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَهَكَذَا لَوْ وَقَفَهُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ وَقْفًا بَاقِيًا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثَغْرٍ بِعَيْنِهِ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بِمَا وَصَفْنَا أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ مُقَدَّرًا وَلَا مُنْقَطِعًا فَفِيهِ قَوْلَانِ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ.
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ: لِأَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا، وَالْمُنْقَطِعُ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَلَمْ يَصِرْ وَقْفًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ مَوْجُودًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ مَنْ يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ كَالْوَصَايَا وَالْهِبَاتِ.
فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ كَانَ مِلْكُ الْوَاقِفِ وَلَا يَلْزَمُ فِي الْأَصْلِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ، وله التصرف فيه كسائر أملاكه.
وإذا قِيلَ: بِجَوَازِ الْوَقْفِ كَانَ عَلَى الْأَصْلِ الْمَوْجُودِ مَا كَانَ بَاقِيًا لَا حَقَّ لَوَاقِفِهِ فِيهِ فَإِذَا هَلَكَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ الْوَقْفُ فينقطع سبله فلا يخلوا حال الواقف في شرطه الواقفة من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يشترط تحريمها وتأبيدها.(7/521)
والثاني: أن يشترط رجوعها إليه.
والثالث: أن يطلق، وإن اشرط رُجُوعَهَا إِلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إِنَّهُمَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا لَهُمَا مِنَ الْآثَارِ لِمُوجِبِ الشَّرْطِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ تَغْلِيبًا لِلْحُكْمِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الشَّرْطِ، وَإِنِ اشْتَرَطَ تَأْبِيدَهَا أَوْ أَطْلَقَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الْأَصْلِ فيه أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَفِي مَصْرَفِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ لِأَنَّهَا أَعَمُّ.
وَالثَّانِي: فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُمْ مَقْصُودُ الصَّدَقَاتِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى أَقَارِبِ الْوَاقِفِ لَكِنْ أَطْلَقَ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ ذِكْرَ الْأَقَارِبِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وَرَوَى حَرْمَلَةُ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَرْجِعُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، وَهُوَ نَصُّ مَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ، وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَتِ الرِّوَايَةُ مُخْتَلِفَةً وَإِنَّمَا اخْتِلَافُ الْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْيِيدِ حَرْمَلَةَ وَيَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ أَقَارِبِهِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، لِأَنَّهُ مَصْرِفُ الْوَقْفِ الْمُنْقَطِعِ فِي ذَوِي الْحَاجَةِ وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَقَارِبَ صِلَةً لِلرَّحِمِ كَالزَّكَاةِ، وَإِذَا تقرر ما وصفنا فلا يخلوا حَالُ الْوَقْفِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُ الدَّارَ عَلَى زَيْدٍ فَإِذَا مَاتَ فَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَهَذَا جَائِزٌ، لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ زَيْدًا أَصْلًا وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَالْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ فَرْعًا وَهُمْ مَوْجُودُونَ، وَهَكَذَا إِذَا قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى زَيْدٍ وَأَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ مَا تَنَاسَلُوا ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ صَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَادُ زَيْدٍ مَوْجُودِينَ، لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لِمَوْجُودٍ وَيَتَعَقَّبُهُمْ فَرْعٌ مَوْجُودٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ الْوَقْفُ مُلْحَقًا بِالْوَصَايَا فِي فَرْعِهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَصْلٌ مَعْدُومٌ وَفَرْعٌ مَعْدُومٌ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُهَا(7/522)
عَلَى مَنْ يُولَدُ لِي ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا، فَهَذَا وَقْفٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ مَنْ يُولَدُ لَهُ مَعْدُومٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ مُلْحَقًا بِالْهِبَاتِ ثُمَّ يَكُونُ مَا وقفه على ملكه قولاً واحد بِخِلَافِ مَا وَقَفَهُ وَقْفًا مُرْسَلًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُقَدَّرِ وَالْمُنْقَطِعِ وَفِيهِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: هُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ وَفَرْعٍ مَوْجُودٍ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُهَا عَلَى مَنْ يُولَدُ لِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ، فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ.
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِعَدَمِ أَصْلِهِ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ لِوُجُودِ فَرْعِهِ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَجْعَلُ الْوَقْفَ بَاطِلًا قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَذَا هو الصحيح، والفرق بين هذا ويبن أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلٍ مَوْجُودٍ وَفَرْعٍ مَعْدُومٍ أَنَّ مَا عُدِمَ أَصْلُهُ فَلَيْسَ لَهُ مَصْرِفٌ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ لَهُ مَصْرِفٌ فِي ثَانِي حَالٍ، فَبَطَلَ وَمَا وُجِدَ، فَلَهُ مَصْرِفٌ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا مَا يُخَافُ عَدَمُ مَصْرِفِهِ فِي ثَانِي حَالٍ فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إِلَّا أَنْ يُولَدَ لِي وَلَدٌ فَيَكُونُ الْوَقْفُ لَهُ وَلِوَلَدِهِ وَأَوْلَادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا، وَإِذَا انْقَرَضُوا فَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، وَهَذَا وَقْفٌ جَائِزٌ، لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ فِيهِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ، وَإِنَّمَا جَعَلَ مَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَعْدُومًا، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الْوَقْفِ، كَمَا لَوْ وَقَفَهُ عَلَى وَلَدٍ لَهُ مَوْجُودٌ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ الَّذِينَ لَمْ يُولَدُوا بَعْدُ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَانَ الْوَقْفُ جَائِزًا فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الثَّانِي وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةٍ تَصِحُّ مِلْكُهَا أَوِ التَّمَلُّكُ لَهَا، لِأَنَّ غَلَّةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ، وَلَا تَصِحُّ إِلَّا فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَالِكًا.
قِيلَ: هَذَا وَقَفٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا عَيَّنَ مَصْرِفَهُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ فَصَارَ مَمْلُوكًا مَصْرُوفًا فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ مَصَالِحِهِمْ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُ دَارِي عَلَى دَابَّةِ زَيْدٍ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَا تُمَلَّكُ وَلَا يُصْرَفُ ذَلِكَ فِي نَفَقَتِهَا، لِأَنَّ نَفَقَتَهَا تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى دَارِ عَمْرٍو لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُمَلَّكُ فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى عِمَارَةِ دَارِ زَيْدٍ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ دَارُ زَيْدٍ وَقْفًا صَحَّ هَذَا الْوَقْفُ، لِأَنَّ الْوَقْفَ طَاعَةٌ وَحِفْظَ عِمَارَتِهِ قُرْبَةٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ وَقَفَهَا على مساجد أَوْ رِبَاطٍ أَوْ كَانَتْ دَارُ زَيْدٍ مِلْكًا طَلْقًا. بَطَلَ هَذَا الْوَقْفُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الدَّارَ لَا تُمَلَّكُ وَلَيْسَ اسْتِيفَاؤُهَا وَاجِبًا إِذْ لِزَيْدٍ بَيْعُهَا، وَلَيْسَ فِي حِفْظِ عِمَارَتِهَا طَاعَةٌ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى عَبْدِ زَيْدٍ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى نَفَقَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى سَيِّدِهِ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ مَالِكًا لِغَلَّتِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْعَبْدِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا؟ وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْمُكَاتِبِينَ أَوْ على(7/523)
مُكَاتِبٍ بِعَيْنِهِ كَانَ الْوَقْفُ جَائِزًا لِأَنَّ سِهَامَ الزَّكَوَاتِ أَغْلَظُ حُكْمًا، وَفِيهَا سَهْمُ الرِّقَابِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى مُدَبَّرٍ كَانَ كَالْعَبْدِ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ لَوْ وَقَفَهَا عَلَى عَبْدِهِ أَوْ مُدَبَّرِهِ أَوْ مَكَاتَبِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ.
فَصْلٌ
: وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَإِنْ كَانَ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْوَقْفَ طَاعَةٌ تُنَافِي الْمَعْصِيَةَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى الزُّنَاةِ أَوِ السُّرَّاقِ أَوْ شُرَّابِ الْخَمْرِ أَوِ الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الجهات باطلاً، لأنها معاصي يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَكَانَ الرَّجُلُ حِينَ وَقَفَهَا عَلَيْهِ مُرْتَدًّا فَعَلَى الْوَقْفِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ كَمَا لَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَنِ ارْتَدَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَائِزٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى مُرْتَدٍّ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى مَنِ ارْتَدَّ فَلَا يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ، وَقْفٌ عَلَى الرِّدَّةِ، وَالرِّدَّةُ مَعْصِيَةٌ، وَالْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ هُوَ مُرْتَدٌّ لَيْسَ بِوَقْفٍ عَلَى الرِّدَّةِ فَلَمْ يَكُنْ وَقْفًا عَلَى مَعْصِيَةٍ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: فِي الْوَقْفِ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ إِغْرَاءٌ بِالدُّخُولِ فِي الرِّدَّةِ، وَلَيْسَ فِي الْوَقْفِ عَلَى مُرْتَدٍّ إِغْرَاءٌ بِالدُّخُولِ فِي الرِّدَّةِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَوِ ارْتَدَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْوَقْفِ حَقٌّ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي الرِّدَّةِ إِنْ لَوْ صَحَّ الْوَقْفُ.
فَأَمَّا إِذَا وَقَفَهَا عَلَى مُسْلِمٍ وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ وَأَبْطَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ أَمْلَاكَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ فَصَارَ الْوَقْفُ عَلَى الْمُرْتَدِّ يَنْقَسِمُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ:
بَاطِلٌ: وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَهُ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ.
وَجَائِزٌ: وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَهُ عَلَى مُسْلِمٍ فَيَرْتَدُّ.
وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ: وَهُوَ أَنْ يَقِفَهُ عَلَى رَجُلٍ مُرْتَدٍّ.
فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَجَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ، وَإِنْ مُنِعُوا الْمَفْرُوضَ مِنْهَا، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ عَنْهُ وَلَا يَكُونُ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ غَلَّتِهِ، فَلَوِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصْرِفَ الْوَقْفَ وَالْحَجَّ عَنْهُ، لِأَنَّ الْحَجَّ عَنِ الْمُرْتَدِّ لَا يَصِحُّ وَصُرِفَ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أُعِيدَ الْوَقْفُ إِلَى الْحَجِّ عَنْهُ، وَلَوْ وَقَفَهَا فِي الْجِهَادِ عَنْهُ جَازَ، فَلَوِ ارْتَدَّ الْوَاقِفُ عَنِ الْإِسْلَامِ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى حَالِهِ مَصْرُوفًا فِي الْمُجَاهِدِينَ عَنْهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْحَجُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ الْجِهَادُ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ وَالْبَيْعِ فَبَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلَوْ وَقَفَ دَارًا لِيُسْكِنَهَا(7/524)
فَقُرَاءَ الْيَهُودِ وَمَسَاكِينَهُمْ، فَإِنْ جَعَلَ لِلْفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاكِينِهِمْ فِيهَا حَظًّا جَازَ الْوَقْفُ، وَإِنْ جَعَلَهَا مَخْصُوصَةً بِالْفُقَرَاءِ الْيَهُودِ فَفِي صِحَّةِ وَقْفِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ كَالْوَقْفِ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمْ إِذَا انْفَرَدُوا بِسُكْنَاهَا صَارَتْ كَبَيْعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، فَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى كُتُبِ التَّوْرَاةِ والإنجيل فباطل، لأنها مبدلة، فصار وقف عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُعَلِّلُ بُطْلَانَ الوقف عليها بأنها كتب قد نخست وهذا تعليل فاسد لأن تلاوة النسوخ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ خَطَأٌ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَنْسُوخًا يتلا وَيُكْتَبُ كَغَيْرِ الْمَنْسُوخِ، فَهَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الرَّابِعِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يَعُودَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، وَإِنْ وَقَفَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ أبو يوسف: يَجُوزُ وَقْفُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ شَرَطَ أَوَّلَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ جَازَ، وَإِنْ شَرَطَ جَمِيعَهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ حِينَ ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِهِ مَنْ يَشْتَرِيَ هَذِهِ الْبُقْعَةَ وَيَكُونُ فِيهَا كَالْمُسْلِمِينَ وَلَهُ فِي الْجَنَّةِ خيرٌ مِنْهَا فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ وَقَالَ فِي بِئْرِ رُومَةَ مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ مَالِهِ، وَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاشْتَرَطَ فِيهَا رِشًا كَرِشَا الْمُسْلِمِينَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ الزُّبَيْرِيُّ: كَيْفَ ذَهَبَ هَذَا عَلَى الشَّافِعِيِّ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لصاحب البدنة " اركبها إذا ألجئت إليها حتى تَجِدَ ظَهْرًا " فَجَعَلَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أعتق صفية، وجعل عتقها صدقها معاد إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ لِلَّهِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ دَارًا لَهُ فَسَكَنَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَأَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ جَعَلَ رِبَاعَهُ صَدَقَاتٍ مَوْقُوفَاتٍ فَسَكَنَ مَنْزِلًا مِنْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَلِأَنَّهُ لما استوى هو وغيره في الوقت الْعَامِّ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الْوَقْفِ الْخَاصِّ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ وَقْفَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَبِتَسْبِيلِ الثَّمَرَةِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَلِأَنَّ الْوَقْفَ صَدَقَةٌ، وَلَا تَصِحُّ صَدَقَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ عَقْدٌ يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَصِحَّ مُبَايَعَةُ نَفْسِهِ وَلَا الْهِبَةُ بِهَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ مَنَافِعِ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ كَاسْتِثْنَائِهِ فِي العتق أَحْكَامِ الرِّقِّ لِنَفْسِهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ هَذَا فِي الْعِتْقِ لَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْوَقْفِ، ولأن الوقف يوجب إزالة ملك استحداث غَيْرِهِ وَهُوَ إِذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يدل بِالْوَقْفِ مِلْكًا وَلَا اسْتَحْدَثَ بِهِ مِلْكًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ وَقْفًا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ عُثْمَانَ شَرَطَ فِي بِئْرِ رُومَةَ أَنْ يَكُونَ دَلْوُهُ كَدِلَاءِ الْمُسْلِمَيْنِ فَهُوَ أَنَّ المال عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا يُمْلَكُ بِالْإِجَازَةِ فَلَمْ يقف ما اشْتَرَطَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْبِئْرِ شَيْئًا وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَكَانَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْثِرْ بِهَا دُونَهُمْ وَأَنَّهُ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ.(7/525)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ لِصَاحِبِ الْبَدَنَةِ " ارْكَبْهَا إِذَا أُلْجِئْتَ إِلَيْهَا حَتَى تَجِدَ ظَهْرًا " فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَدَنَةِ مَنَافِعَهَا فَجَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَقْفِ مَنَافِعُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْبَدَنَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ مَنَافِعُهَا وَلَا يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ يُعْتَبَرُ شَرْطٌ، فَكَذَلِكَ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ بِالشَّرْطِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ عِتْقِهِ لِصَفِيَّةَ فَهُوَ أَنَّ الْعِتْقَ عَلَى عِوَضٍ جَائِزٌ وَالْوَقْفَ عَلَى عِوَضٍ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأَمَّا سُكْنَى عُمَرَ وَالزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وما وَقَفَاهُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُكْنَاهُمَا بَعْدَ اسْتِطَابَةِ نُفُوسِ أَرْبَابِهِ، لِأَنَّ نَفْسَ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ لَا يَأْتِي إِرْفَاقُ الْوَقْفِ بِهِ، وَلَوْ مَنَعَهُ لَامْتَنَعَ أَوْ يَكُونَ قَدِ اسْتَأْجَرَ ذَلِكَ مِنْ وَاقِفِهِ.
وَأَمَّا الْوَقْفُ الْعَامُّ فَسَنَذْكُرُ مِنْ حُكْمِهِ مَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْهُ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ وَقْفَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْوَاقِفِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَعَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ: وَقَفْتُهُ عَلَى نَفْسِي ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا لِنَفْسِهِ، وَهَلْ يَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ وَقْفًا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؟ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ لِأَصْلٍ بَاطِلٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِيهِ أَصْلًا عِنْدَ بُطْلَانِ الْأَصْلِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَسْتَحِقُّونَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ شَرْطِهِ وَيَكُونُ أَحَقَّ بِغَلَّتِهِ مِنْهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّوِنَ الْوَقْفَ فِي الْحَالِ وَإِلَّا صَارَ وَقْفًا بَعْدَ مُدَّةٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَارَتِ الْغَلَّةُ إِلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لَصَارَ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَعْمُولًا فِيهِ عَلَى شَرْطِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَامًّا فَعَلَى ضربين:
أحدهما: أن يكون مَنَافِعُهُ مُبَاحَةً كَمَرَافِقِ الْمَسْجِدِ وَمَاءِ الْبِئْرِ فَهَذَا يَكُونُ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ اسْتِدْلَالًا بِوَقْفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءٌ ثَلَاثٌ ".
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُهُ لَيْسَتْ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَثِمَارِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَا يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْهُ كَرَجُلٍ وَقَفَ نَخْلًا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَصَارَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، دَخَلَ فِيهِ وَجَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا كَأَحَدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ بِوَصْفِهِ لَا بِعَيْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَقْفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَوْصُوفَيْنِ لَا عَلَى مَعْنَيَيْنِ فَيُسَاوِي مَنْ شَارَكَهُ فِي حَقِّهِ.(7/526)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا كَانَ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالزُّبَيْرِيِّ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَهُ عَامًّا فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ بِعَيْنِهِ كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ بِوَصْفِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ بِعَيْنِهِ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْخَاصِّ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا قُلْنَا: يَجُوزُ دُخُولُهُ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حق قائم على التأييد يَخْلُفُهُ فِيهِ وَرَثَتُهُ وَوَرَثَةُ وَرَثَتِهِ مَا بَقُوا فَإِذَا انْقَرَضُوا عَادَ حِينَئِذٍ عَلَى جَمَاعَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ حَيَّاتِهِ فَإِذَا مَاتَ عَادَ إِلَى الْفُقَرَاءِ دُونَ وَرَثَتِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِيهِمْ بِعَيْنِهِ فَهَلْ يَكُونُ مَا جَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ أَمْ دَاخِلًا فِي عُمُومِ وَقْفِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ بَطَلَ فِيهِ وَصَحَّ فِيمَا سِوَاهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَخَلَ فِي عُمُومِ وَقْفِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ بَقِيَ فِي الْجَمِيعِ وَإِنَّمَا بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحُكْمِ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ عَلَى وَرَثَةِ وَلَدِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَمَاتَ الْوَلَدُ وَكَانَ الْأَبُ الْوَاقِفُ أَحَدَ وَرَثَتِهِ فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهِ قَدْرُ مِيرَاثِهِ مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالزُّبَيْرِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَرْجِعُ وَلَا عَلَى الْبَاقِينَ مِنْ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ قَدْرَ مَوَارِيثِهِمْ وَلَا يَأْخُذُونَ مِيرَاثَ غَيْرِهِمْ، وَيَرُدُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِيمَا جَعَلَهُ لِوَرَثَةِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ كَذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ فَيَكُونُ كَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالزَّوْجَةُ وَالْوَلَدُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ التَّسَاوِي فِي الْعَطَايَا فَلَمْ يَشْتَرَطِ التَّفَاضُلَ، فَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى وَرَثَةِ زَيْدٍ، وَكَانَ زَيْدٌ حَيًّا فَلَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَكُونُ مَوْرُوثًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى أَهْلُهُ وَرَثَةً عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ هَذَا وَقْفًا عَلَى أَصْلٍ مَعْدُومٍ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى، وَلَوْ كَانَ زَيْدٌ مَيِّتًا كَانَ ذَلِكَ وَقْفًا صَحِيحًا عَلَى وَرَثَتِهِ ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ فِي التَّسَاوِي وَالتَّفْضِيلِ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَهِيَ عَلَى مَا شَرَطَ مِنَ الْأَثَرَةِ وَالتَّقْدِمَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْوَقْفَ عَمَلِيَّةٌ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فَإِذَا وَقَفَ عَلَى(7/527)
أَوْلَادِهِ وَكَانُوا مَوْجُودِينَ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ الْوَقْفُ إِنْ كَانَ فِي الصِّحَّةِ وَبَطَلَ عَلَى أَوْلَادِهِ إِنْ كَانَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُمْ وَرَثَةٌ وَفِي بُطْلَانِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ قَوْلَانِ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْوَاقِفُ عَلَى أَوْلَادِهِ فِي الصِّحَّةِ فأمضياه دخل فيهم الذكور والإناث والخناثى؛ لأنه كُلَّهُمْ أَوْلَادُهُ؛ فَإِنْ فَضَّلَ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ أَوْ فَضَّلَ الْإِنَاثَ عَلَى الذُّكُورِ حُمِلُوا عَلَى تَفْضِيلِهِ وَهَكَذَا لَوْ فَضَّلَ الصِّغَارَ عَلَى الْكِبَارِ أَوِ الْكِبَارَ عَلَى الصِّغَارِ، وَإِنْ أَطْلَقَ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَلَا يُفَضَّلُ ذَكَرٌ عَلَى أُنْثَى وَلَا صَغِيرٌ عَلَى كَبِيرٍ وَلَا غَنِيٌّ عَلَى فَقِيرٍ ولا شيء لأولاده أَوْلَادِهِ إِذَا كَانَ وَقْفُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَيَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ.
وَقَالَ مَالِكٌ إِذَا وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ دَخَلَ فِيهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ وَإِنْ سَفَلُوا؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَخَرَّجَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ دُونَ مَجَازِهَا وَحَقِيقَةُ اسْمِ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ دُونَ وَلَدِ الْوَلَدِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ كَانَ ذَلِكَ لِلْبَطْنِ الْأَوَّلِ مِنْ أَوْلَادِ صُلْبِهِ وَلِلْبَطْنِ الثَّانِي وَهُمْ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِ يَشْتَرِكُ الْبَطْنُ الثَّانِي وَالْبَطْنُ الْأَوَّلُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِمْ أَوْ يَقُولَ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، وَلَا يَشْتَرِكُ الْبَطْنُ الثَّانِي وَالْبَطْنُ الْأَوَّلُ حَتَّى إِذَا انْقَرَضَ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ أَخَذَ الْبَطْنُ الثَّانِي حِينَئِذٍ فَإِذَا انْقَرَضَ الْبَطْنُ الثَّانِي فَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْبَطْنِ الثَّالِثِ وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ مِنَ الْبُطُونِ وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْفُقَرَاءِ إِلَّا بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ، وَإِنْ سَفَلُوا فَلَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِ أَوْلَادِي اسْتَحَقَّ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ مِنْ وَلَدِهِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ الْبَطْنِ الثَّالِثِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ثُمَّ يُشَارِكُ كُلُّ بَطْنٍ لِمَنْ بَعْدَهُ إِلَّا أَنْ يُرَتِّبَ فَيَكُونُ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَلَوْ قَالَ: عَلَى أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي أَبَدًا مَا بَقُوا وَتَنَاسَلُوا اسْتَحَقَّهُ كُلُّ بَطْنٍ يَحْدُثُ مِنْ وَلَدِهِ، فَإِنْ رَتَّبَ كَانَ عَلَى تَرْتِيبِهِ، وَإِنْ أَطْلَقَ شَارَكَ الْبَطْنُ الْأَعْلَى الْبَطْنَ الْأَسْفَلَ وَلَا حَقَّ لِلْفُقَرَاءِ فِيهِ مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ فَإِذَا انْقَرَضَ جَمِيعُهُمْ صَارَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ دَخَلَ فِيهِمْ وَلَدُ الْبَنِينَ مَعَ الْبَنَاتِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَدْخُلُ فِيهِمْ أَوْلَادُ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ؛ لِأَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ لَا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ وَلَدِهِ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
(بَنُونَا بنوا أَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ)
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ بَنَاتِهِ هُمْ خَيْرُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ، هُوَ أَنَّ الْبَنَاتَ لَمَّا كُنَّ مِنْ أَوْلَادِهِ كَانَ أَوْلَادُهُنَّ أَوْلَادَ أَوْلَادِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَسَنِ إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ فَسَمَّاهُ ابْنًا.
فَصْلٌ
: فَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى نَسْلِي، أَوْ قَالَ عَلَى عَقِبِي، أَوْ عَلَى ذُرِّيَّتِي، دَخَلَ فِيهِمْ أَوْلَادُ الْبَنِينَ وَأَوْلَادُ الْبَنَاتِ وَإِنْ بَعُدُوا، لِأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ وَذُرِّيَّتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(7/528)
{وَمِنْ ذُرِّيَتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ يُجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى) {الأنعام: 84) فَجَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَهُوَ إِنَّمَا نَسَبَ إِلَيْهِ بِأُمٍّ لَا بِأَبٍ، وَلَكِنْ لَوْ وَقَفَهَا عَلَى مُنَاسَبَةٍ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ أَوْلَادُ بَنَاتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى آبَائِهِمْ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ لَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِمِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْ أَوْلَادِ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ: عَلَى عَصَبَتِي لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ إِلَّا الذُّكُورُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ بَنِيهِ دُونَ الْإِنَاثِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى بَنِيَّ لَمْ يُشْرِكْهُمْ بَنَاتُهُ وَلَا الْخَنَاثَى، وَلَوْ قَالَ: عَلَى بَنَاتِي لَمْ يُشَارِكْهُمْ بَنُوهُ وَلَا الْخَنَاثَى، وَلَوْ قَالَ: عَلَى بَنِيَّ وَبَنَاتِي، دَخَلَ فِيهِ الْفَرِيقَانِ وَفِي دُخُولِ الْخَنَاثَى فِيهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَدْخُلُونَ فِيهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْبَنِينَ وَلَا فِي الْبَنَاتِ.
والثاني: يدخلون فيهم، لأنهم لا يخلوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْبَنِينَ أَوْ مِنَ الْبَنَاتِ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَنَا مُشْكَلِينَ فَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مُشْكَلِينَ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ قَالَ: وَقَفْتُهَا عَلَى بَنِي فُلَانٍ، فَإِنْ أَشَارَ إِلَى رَجُلٍ لَا إِلَى قَبِيلَةٍ اخْتَصَّ ذَلِكَ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَلَوْ أَشَارَ إِلَى قَبِيلَةٍ كَقَوْلِهِ: عَلَى بَنِي تَمِيمٍ فَفِي دُخُولِ الْبَنَاتِ فِيهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُونَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْقَبِيلَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَدْخُلُونَ تَغْلِيبًا لِحَقِيقَةِ الِاسْمِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى بَنَاتِ فُلَانٍ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمِ الذُّكُورُ سَوَاءٌ أَرَادَ رَجُلًا أَوْ قَبِيلَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ حَدٌّ يَجْمَعُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِاسْمِ الذُّكُورِ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِاسْمِ الْإِنَاثِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ فَفِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: مَنْ نَاسَبَهُ إِلَى الْجَدِّ.
وَالثَّانِي: مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي رَحِمٍ.
وَالثَّالِثُ: كُلُّ مَنِ اتصل منه ينسب أَوْ سَبَبٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ " وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى آلِهِ فَفِيهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَنْ دَانَ بِدِينِهِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِ فَهُمُ الْمَوْلُودُونَ، يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، يَسْتَوِي فِيهِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَأَوْلَادُ الذُّكُورِ وَأَوْلَادُ الْإِنَاثِ، ثُمَّ الْوَالِدُونَ، يَسْتَوِي فِيهِمُ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ ثُمَّ يَسْتَوِي بَعْدَهُمُ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْإِخْوَةِ عَلَى الْجَدِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقَدَّمُونَ.
وَالثَّانِي: يَسْتَوُونَ ثُمَّ يُقَدَّمُ بَنُو الْإِخْوَةِ عَلَى الْأَعْمَامِ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الْأَخْوَالِ وَالْأَعْمَامِ،(7/529)
وَيُسَوِّي بَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ وَوَلَدِ الْأُمِّ وَهَلْ يُفَضَّلُ عَلَيْهِمَا وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى قَوْلَيْنِ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ وَقَفَهَا عَلَى مَوَالِيهِ فَإِنْ ذَكَرَ مَوْلًى مِنْ أَعْلَى فَهِيَ لَهُ دُونَ مَنْ سَفَلَ، وَإِنْ ذَكَرَ مَوْلًى مِنْ أَسْفَلَ فَهِيَ لَهُ دُونَ مَنْ عَلَا، وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ ثلاثة أوجه حكاهما أبو سعيد الاصطخري.
أحدهما:: يَكُونُ لِمَنْ عَلَا وَهُوَ الْمُعْتِقُ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ لِمَنْ سَفَلَ وَعَلَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اسْمِ الْمَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَقْفَ بَاطِلٌ لِامْتِيَازِ الْفَرِيقَيْنِ وَاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى عِيَالِهِ فَهُمْ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ وَالِدٌ وَوَلَدٌ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى حَشَمِهِ فهم من في نفقة سِوَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى حَاشِيَتِهِ فهم المتصلون بخدمته.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْغِنَى وَالْحَاجَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا صحيح للواقف أن يشترك فِي وَقْفِهِ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ الْفُقَرَاءَ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ دُونَ الْفُقَرَاءِ، وَلَوْ قَالَ وقف دَارِي عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ دَفَعَ مَنْ عَلَيْهَا إِلَى كُلِّ مَنِ ادَّعَى الْفَقْرَ منهم فإن جهلت حاله ما لم يعل غِنَاهُ وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى فَقْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْعَدَمُ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَى مَنِ ادَّعَى الْغِنَى مِنْهُمْ عِنْدَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُ لَهُ بِالْغِنَى، لِأَنَّهُ يَدَّعِي حُدُوثَ مَا لَمْ يُعْلَمْ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَنِ اسْتَغْنَى مِنْهُمْ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا إِلَّا مَنْ كَانَ فَقِيرًا، ثُمَّ اسْتَغْنَى فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَزَلْ غَنِيًّا فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ يَقْتَضِي حُدُوثَ الْغِنَى، وَلَا يَدْفَعُ إِلَى مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَنِ افْتَقَرَ لَمْ يَسْتَحِقَّهَا إِلَّا مَنْ كَانَ غَنِيًّا ثُمَّ افْتَقَرَ وَلَا يَدْفَعُ إِلَى مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَقْرًا بَعْدَ غِنًى.
فَصْلٌ
: فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى فَقْرِ أَهْلِهِ فَكَانَ مِنْهُمْ صَبِيٌّ فَقِيرٌ لَهُ أَبٌ غَنِيٌّ أَوِ امْرَأَةٌ فَقِيرَةٌ لَهَا زَوْجٌ غَنِيٌّ أَوْ رَجُلٌ فَقِيرٌ لَهُ ابْنٌ غَنِيٌّ، فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ يَشْتَغِلُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ كَانَ مِنْ فُقَرَاءِ الْوَقْفِ، وإن لم يكونوا من فقراء الزكوة، ألا ترى أنهم يكفرون بالصيام تكفيرهم الفقراء.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمِنْ إِخْرَاجِ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا بصفةٍ وَرَدَّهُ إِلَيْهَا بِصِفَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخْرِجَ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا وَيُدْخِلَ مَنْ أَدْخُلُهُ فِيهَا بِصِفَةٍ فَيَشْتَرِطُهَا وَإِذَا وُجِدَتْ دَخَلَتْ فِيهَا بِوُجُودِ الصِّفَةِ، وَإِذَا عُدِمَتْ خَرَجَ مِنْهَا بِعَدَمِ الصِّفَةِ فَهَذَا جَائِزٌ وهو على شرطه فيه(7/530)
محمولة كَقَوْلِهِ: وَقَفْتُهَا عَلَى أَغْنِيَاءِ بَنِي تَمِيمٍ، فَمَنِ اسْتَغْنَى مِنَ الْفُقَرَاءِ أُدْخِلَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْهُ وَمَنِ افْتَقَرَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا بِاخْتِيَارِهِ وَيُدْخِلَ مَنْ أَدْخَلَ فِيهَا بِاخْتِيَارِهِ كَأَنَّهُ قَالَ قَدْ وَقَفْتُ دَارِي هَذِهِ عَلَى مَنْ شِئْتُ عَلَى أَنْ أُدْخِلَ فِي الْوَقْفِ مَنْ أَشَاءُ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ مَنْ أَشَاءُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ كَمَا لَوْ أَدْخَلَهُ بِصِفَةٍ وَأَخْرَجَهُ بِصِفَةٍ.
وَالثَّانِي: هُوَ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ الْوَقْفُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى مَوْصُوفٍ وَلَا مُعَيَّنٍ فَإِذَا قِيلَ: لَا يَجُوزُ كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ آخِرَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِهِ صَحَّ إِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى فِيهِ عند عقد الوقف قوماً، ثم له يُدْخِلَ مَنْ شَاءَ وَيُخْرِجَ مَنْ شَاءَ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَهَلْ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا شَاءَ، وَلَهُ شَرْطُهُ وَقَدِ اسْتَقَرَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا مَا عَاشَ وَبَقِيَ لِعُمُومِ الشَّرْطِ، فَإِذَا مَاتَ فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَى مَنْ فِيهِ عِنْدَ مَوْتِهِ مَنْ أَدْخَلَ فِيهِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ دُخُولُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ وَمَنْ أَخْرَجَ مِنْهُ فَقَدِ اسْتَقَرَّ خُرُوجُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ قَالَ وَقَفْتُهَا عَلَى الْأَرَامِلِ فَهُمُ النِّسَاءُ اللَّاتِي لَا أَزْوَاجَ لَهُنَّ، وَفِي اعْتِبَارِ فَقْرِهِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْيَتَامَى إِنْ خَصَّ أَرَامِلَ قَبِيلَةٍ لَمْ يراعي فَقْرُهُنَّ، وَإِنْ عَمَّ وَأَطْلَقَ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِمُ الرِّجَالُ الَّذِينَ لَا أَزْوَاجَ لَهُمْ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَدْخُلُونَ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ فِي الِاسْمِ.
وَالثَّانِي: يَدْخُلُونَ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ اللُّغَةِ، وَصَرِيحِ اللِّسَانِ وَأَنَّ الْأَرْمَلَ الَّذِي لَا زَوْجَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(كُلُّ الْأَرَامِلِ قَدْ قَضَيْتُ حَاجَتَهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ)
فَصْلٌ
: وَمَنْ وَقَفَهَا عَلَى الْغِلْمَانِ فَهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الذُّكُورِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْجَوَارِي فَهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الْإِنَاثِ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْفِتْيَانِ فَهُمْ مَنْ قَدْ بَلَغَ وَإِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَذَا لَوْ وَقَفَهَا عَلَى الشَّبَابِ فَهُمْ كَالْفِتْيَانِ مَا بَيْنَ الْبُلُوغِ وَالثَّلَاثِينَ، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْكُهُولِ فَهُمْ مَنْ لَهُ مِنْ بَيْنِ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ، وَقَدْ قِيلَ: فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَهْلاً وِمِنَ الصَّالِحينَ) {آل عمران: 46) أَنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَلَوْ وَقَفَهَا فَهُمْ مَنْ تَجَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى جِيرَانِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِيرَانِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ دَرْبٌ يُعَلَّقُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ صَلَّى مَعَكَ فِي مَسْجِدِكَ وَدَخَلَ مَعَكَ إلى(7/531)
حَمَّامِكَ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعُونَ دَارًا، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ مَنْ نَسَبُوا إِلَى سُكْنَى مَحَلَّتِكَ، وَسَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا وَيُسَوِّي بَيْنَ أَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَجْهًا وَاحِدًا مَا لَمْ يُمَيِّزْ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الشُّيُوعِ تَخْصِيصُ الْجَوَازِ بِالْفَقْرِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وقفها على قراء القرآن أعطي من قراءه كُلَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا وَلَا يُعْطَى مَنْ قَرَأَ بَعْضَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: مَنْ قَرَأَ قُرْآنًا فَيُعْطَى مِنْهُ مَنْ قَرَأَ وَلَوْ بَعْضَ آيَةٍ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يُمْنَعُ مِنَ الْجُنُبِ وَلَوْ وَقَفَهُ عَلَى حُفَّاظِ الْقُرْآنِ لَمْ يُعْطَ مَنْ نَسِيَهُ بَعْدَ حِفْظِهِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فَهُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ لِأَنَّهُمْ فِي الْعُرْفِ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْإِطْلَاقِ دُونَ الْقُرَّاءِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ مَا تَصَرَّفَ فِي مَعَانِيهِ لَا مَا كَانَ مَحْفُوظَ التِّلَاوَةِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وَقَفَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمُ الْغُزَاةُ، وَلَوْ وَقَفَهَا فِي سَبِيلِ الثَّوَابِ فَهُمُ الْقَرَابَاتُ فَقِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَدَقَتُكَ عَلَى ذِي رَحِمِكَ صدقةٌ وصلةٌ " وَلَوْ وَقَفَهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ فَهُمْ سَهْمَانِ لِلصَّدَقَاتِ وَقِيلَ يَدْخُلُ فِيهِمُ الضَّيْفُ وَالسَّائِلُ وَالْمُعِيرُ وَفِي الْحَجِّ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَنَّهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا بَاعَهَا أَوْ رَجَعَ فِيهَا أَوْ أَخَذَ غَلَّتَهَا فَهُوَ وَقْفٌ بَاطِلٌ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ " فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ وَكَتَبَ هَذَا مَا وَقَفَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَفَ عَيْنَ إِبَى ابْتِغَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَلِيَدْفَعَ اللَّهُ بِهَا عَنْ وَجْهِهِ حَرَّ جَهَنَّمَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى احْتَاجَ الْحَسَنُ أَوِ الْحُسَيْنُ إِلَى بَيْعِهَا بِدَيْنٍ أَوْ نِيَابَةٍ فَلَهُمَا بَيْعُ مَا رَأَيَاهُ مِنْهَا، فَاحْتَاجَ الْحَسَنُ إِلَى بَيْعِهَا لِدَيْنٍ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ " لِيَدْفَعَ اللَّهُ بِهَا عَنْ وَجْهِهِ حَرَّ جَهَنَّمَ " فَامْتَنَعَ وَالدَّلَالَةُ عَلَى بُطْلَانِ الْوَقْفِ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُنَافِيَةَ للعقود مبطلة لها إذا اقتربت بِهَا كَالشُّرُوطِ الْمُبْطِلَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يؤيد الْوَقْفَ وَلَا حَرَّمَهُ فَلَمْ يَصِحَّ كَالْقَدْرِ إِلَى وَقْتٍ بَلْ هَذَا أَفْسَدُ لِأَنَّهُ بِمَوْتِهِ أَجْهَلُ، فَأَمَّا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ صَحَّ ما ذكر فيه فمحول عَلَى بَيْعِ مَا رَأَيَاهُ مِنْ غَلَّتِهِ لَا مِنْ أَصْلِهِ وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ فِي هَذَا الْوَقْفِ وَجْهًا آخَرَ إِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ وَالْوَقْفَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ أَبَدًا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا وَقَفَهَا عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ مِنْهَا النِّصْفَ، وَلِعَمْرٍو مِنْهَا الثُّلُثَ كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَيَرْجِعُ السُّدُسُ الْفَاضِلُ عَلَيْهِمَا بالرد فيكون لزيد ثلاثة أخماسها ولعمرو خمسيها وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَهَا وَلِعَمْرٍو ثُلُثَهَا وَلَمْ يَقُلْ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ إِنَّهَا عَلَيْهِمَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا سُمِّيَ لَهُ وَكَانَ السُّدُسُ الْفَاضِلُ إِذَا صَحَّ الْوَقْفُ فِيهِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى أَنَّ لِزَيْدٍ نِصْفَهَا وَلِعَمْرٍو ثُلُثَهَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ لِزَيْدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِعَمْرٍو سَهْمٌ فَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى عَمْرٍو ثُمَّ عَلَى بَكْرٍ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ عَلَى شَرْطِهِ فَكَانَتْ لِزَيْدٍ فَإِذَا مَاتَ فَلِعَمْرٍو فَإِذَا مَاتَ فَلِبَكْرٍ فَإِذَا مَاتَ فَلِلْفُقَرَاءِ فَإِذَا مَاتَ عَمْرٌو قَبْلَ زَيْدٍ ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ فَلَا حَقَّ فِيهَا لِبَكْرٍ وَكَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّ بَكْرًا رُتِّبَ بَعْدَ عَمْرٍو، وَجُعِلَ لَهُ مَا كَانَ لِعَمْرٍو، وَعَمْرٌو بِمَوْتِهِ قَبْلَ زَيْدٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ شَيْئًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَ بَكْرٌ عَنْهُ شَيْئًا.(7/532)
فَصْلٌ
: الْوِلَايَةُ عَلَى الْوَقْفِ مُسْتَحَقَّةٌ فَإِنْ شَرَطَهَا الواقف في وقفها كَانَتْ لِمَنْ شَرَطَهَا لَهُ سَوَاءٌ شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَإِنْ أَعْقَلَ اشْتِرَاطَهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ذَكَرْنَاهَا مِنْ قَبْلُ.
أَحَدُهَا: أَنَّهَا لِلْوَاقِفِ اسْتِصْحَابًا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنِ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى ملكه واستشهاداً بولاء عقته.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لِلْمُوقَفِ عَلَيْهِ إِلْحَاقًا بِمِلْكِ الْمَنَافِعِ وَتَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْأَخَصِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا لِلْحَاكِمِ وَلَهُ رَدُّهَا إِلَى مَنْ شَاءَ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ وَلُزُومِ نَظَرِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْوَاقِفَ جعلها للأفضل والأفضل من بينه كَانَتْ لِأَفْضَلِهِمْ، فَلَوِ اسْتَقَرَّتْ لَهُ فَحَدَثَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ لَمْ يَنْتَقِلْ وَإِنَّمَا يُرَاعَى الْأَفْضَلُ فِيهِمْ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ الْفَاضِلِ فَيَصِيرَ مَفْضُولًا فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَلَوْ جَعَلَهَا لِلْأَفْضَلِ مِنْ وَلَدِهِ فَهَلْ يُرَاعَى الْأَفْضَلُ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ أَمْ يُرَاعَى الْأَفْضَلُ مِنَ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى أَفْضَلُ الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّهُمْ وَلَدٌ.
وَالثَّانِي: يُرَاعَى أَفْضَلُ الْبَنِينَ دُونَ الْبَنَاتِ لِأَنَّ الذُّكُورَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِنَاثِ فَلَوْ جَعَلَهَا لِابْنَيْنِ مِنْ أَفَاضِلِ وَلَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ هَذِهِ الصِّفَةُ إِلَّا وَاحِدًا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى نَظَرِهِ وَحْدَهُ وَضَمَّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا مِنْ غَيْرِ وَلَدِهِ، لِأَنَّ الْوَاقِفَ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُسْتَحِقٌّ لَهَا اخْتَارَ الحاكم أمينين يكونا وَالِيَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مِنْهُمْ فَاضِلَانِ فَلَمْ يَقْبَلَا الْوِلَايَةَ اخْتَارَ لِلْوِلَايَةِ غَيْرَهُمَا فَإِنْ طَلَبَا الْوِلَايَةَ بَعْدَ رَدِّهَا لَهُمَا فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُمَا بِالرَّدِّ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِمَا بِالطَّلَبِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوِلَايَةِ شَرْطٌ هَلْ يَكُونُ الْمُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْوِلَايَةِ أَحَقَّ.
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ وِلَايَتُهُمَا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ بِغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: هُمَا أَحَقُّ بِهَا إِذَا قِيلَ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ أَنَّهَا لَهُمَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا اخْتَلَفَ أَرْبَابُ الْوَقْفِ فِي شَرْطِهِ وَتَنَازَعُوا فِي تَرْتِيبٍ أَوْ تَفَاضُلٍ وَلَا بَيِّنَةٍ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ اشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِيهِ بِالسَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَلَا تَفَاضُلٍ وَإِنْ طَلَبَ بَعْضُهُمْ أَيْمَانَ بَعْضٍ لَزِمَتْ، فَلَوْ كَانَ الْوَاقِفُ حَيًّا كَانَ قَوْلُهُ فِيهِ مَقْبُولًا وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَلَوْ مَاتَ وَكَانَ وَارِثُهُ بَاقِيًا كَانَ قَوْلُ وَارِثِهِ فيه مقبولاً، فلو لم يكن واقف إلا وَارِثٌ، وَكَانَ والٍ عَلَيْهِ نُظِرَ فِي وِلَايَتِهِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ حَاكِمٍ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ فِي شُرَكَاءِ الْوَقْفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْوَاقِفِ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي شُرُوطِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ أَهْلِهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْوَالِي عَلَيْهِ وَالْوَارِثُ فَأَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْوَارِثُ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاقِفِ.
وَالثَّانِي: الْوَالِي لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِالنَّظَرِ فَلَوْ جَعَلَ الْوَاقِفُ لِلْوَالِي عَلَيْهِ جَعْلًا وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ صَحَّ، وَكَانَ لَهُ مَا سُمِّيَ مِنْ أَجْلِ الْعِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(7/533)
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (وَمِنْهَا) فِي الْحَيَاةِ الْهِبَاتُ وَالصَّدَقَاتُ غَيْرُ الْمُحَرَّمَاتِ وَلَهُ إِبْطَالُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ فَإِنْ قَبَضَهَا أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بِأَمْرِهِ فَهِيَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْأَوْقَافِ وَسَنَذْكُرُ أَحْكَامَ الْهِبَاتِ وَهِيَ مِنَ الْعَطَايَا الْجَائِزَةِ بِدَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) {المائدة: 2) وَالْهِبَةُ بِرٌّ وَقَالَ {وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ) {البقرة: 177) الْآيَةَ يَعْنِي بِهِ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كراعٍ لَأَجَبْتُ " وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَهَادُوا تَحَابُّوا " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِنَّنَا نَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَنُكَافِئُ عَلَيْهَا " وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَتِهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْهَدِيَّةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْهِدَايَةِ، لِأَنَّهُ اهْتَدَى بِهَا إِلَى الْخَيْرِ وَالتَّآلُفِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا تَقَرَّرَ إِبَاحَةُ الْهِبَةِ بِمَا ذَكَرْنَا فَتَكُونُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ بِمَوْهُوبٍ وَوَاهِبٍ وَمَوْهُوبٍ لَهُ وَعَقْدٍ وَقَبْضٍ.
وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ فَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ صَحَّ بَيْعُهُ جَازَتْ هِبَتُهُ، وَذَلِكَ مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ أَنْ يكون مملوكاً وإن كان غير مملوكاً مِنْ وَقْفٍ أَوْ طَلْقٍ لَمْ يَجُزْ وَأَنْ يكون معلوماً عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ مِنْ وَقْفٍ أَوْ طَلْقٍ لَمْ يَجُزْ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَمْ يَجُزْ، وَأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، فَإِنْ كان غائباً لم يجز لا يَمْنَعُ مِنْ نَقْلِ مِلْكِهِ مَانِعٌ، فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ كَالْمَرْهُونِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لَمْ يَجُزْ فَهَذَا حُكْمُ الْمَوْهُوبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَحُوزِ والمشاع سواء كان مما ينقسم ولا يَنْقَسِمُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: هِبَةُ الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يَنْقَسِمُ جَائِزَةٌ وَالْمُشَاعُ الَّذِي يَنْقَسِمُ بَاطِلَةٌ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) {النساء: 4) وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَتْ هِبَتُهُ كَالْمَحُوزِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْوَاهِبُ فَهُوَ كُلُّ مَالِكٍ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ كَالْغَاصِبِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مَالِكًا عَنْهُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ كَالسَّفِيهِ وَالْمُولَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِالْفَلَسِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَهُوَ مَنْ صَحَّ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِالْمِلْكِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَوْهُوبًا لَهُ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وَمَجْنُونٍ وَرَشِيدٍ فَأَمَّا مَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِالْمِلْكِ كالحمل والبهيمة ولا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَوْهُوبًا لَهُ، فَأَمَّا الْعَبْدُ ففي صحة كونه موهوباً قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ أَمْ لَا؟(7/534)
فصل
: فأما العقد فهو بدل مِنَ الْوَاهِبِ، وَقَبُولٌ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، أَوْ مَنْ يَقُومُ فِيهِ مِنْ وَلِيٍّ وَوَكِيلٍ، فَإِذَا قَالَ الْوَاهِبُ قَدْ وَهَبْتُ فَتَمَامُهُ أَنْ يَقُولَ: الموهوب عَلَى الْفَوْرِ: قَدْ قَبِلْتُ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ لَمْ يَتِمَّ الْعَقْدُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الْقَبُولُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ كَالْعِتْقِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَذَّ بِهِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَخَالَفَ بِهِ الْكَافَّةَ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْهَدَايَا فَلِلْهَدِيَّةِ فِي الْقَبُولِ حُكْمٌ يُخَالِفُ قَبُولَ الْهِبَاتِ نَحْنُ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهْدَى إِلَى النَّجَاشِيِّ مِسْكًا فَمَاتَ النَّجَاشِيُّ قَبْلَ وُصُولِ الْمِسْكِ إِلَيْهِ فَعَادَ الْمِسْكُ إِلَيْهِ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ نِسَائِهِ وَلَوْ صَارَ الْمِسْكُ لِلنَّجَاشِيِّ لَمَا اسْتَحَلَّ ذَلِكَ وَلَأَوْصَلَهُ إِلَى وَارِثِهِ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ تَامٌّ يَنْتَقِلُ عَنْ حَيٍّ فَافْتَقَرَ إِلَى قَبُولٍ كَالْبَيْعِ، وَفَارَقَ الْعِتْقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُعْتِقَ لو ورد العتق لم يبطل والموهوب له لو ورد الْهِبَةَ بَطَلَتْ فَلِذَلِكَ مَا افْتَقَرَتِ الْهِبَةُ إِلَى قَبُولٍ وَلَمْ يَفْتَقِرِ الْعِتْقُ إِلَى قَبُولٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: قَدْ وَهَبْتُ لَكَ عَبْدِي هَذَا إِنْ شِئْتَ فَقَالَ: قَدْ شِئْتُ، لَمْ يَكُنْ قَبُولًا حَتَّى يَقُولَ: قَدْ قَبِلْتُ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهِ، لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ هِبَةً لَهُ إِنْ شَاءَهَا، وَلَوْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: قَدْ قَبِلْتُهُ إِنْ شِئْتَ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى مَشِيئَةِ الْقَابِلِ دُونَ الْبَاذِلِ فَلَوِ ابْتَدَأَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقَالَ: هَبْ لِي عَبْدَكَ إِنْ شِئْتَ فقال: قد شئت لم يكن ذلك بدلاً حَتَّى يَقُولَ قَدْ وَهَبْتُ فَلَوْ قَالَ قَدْ وَهَبْتُ إِنْ شِئْتَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ بَذْلَ الْهِبَةِ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى مَشِيئَةِ الْوَاهِبِ دُونَ الْمَوْهُوبِ لَهُ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْقَبْضُ فَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْهِبَةِ لَا تَمَلُّكَ إِلَّا بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: الْهِبَةُ تَتِمُّ بِالْعَقْدِ وَيُؤْخَذُ الْوَاهِبُ جَبْرًا بِالْقَبْضِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) {المائدة: 1) وَبِمَا رَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ " قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْتَقِرَ إِلَى قَبْضٍ كَالْوَصِيَّةِ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ أَهْدَى إِلَى النَّجَاشِيِّ ثَلَاثِينَ أُوقِيَّةً مِسْكًا قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ إِنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ وَسَيُرَدُّ عَلَيَّ فَأُعْطِيكِ فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِ أَعْطَى كُلَّ واحدةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةً وَدَفَعَ بَاقِيهِ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَلَوْلَا أَنَّ بِالْقَبْضِ يَمْلِكُ لَمَا اسْتَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَتَمَلَّكَهُ وَيَتَصَرَّفَ فِيهِ، وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَبَاهَا نَحَلَهَا جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَلَسَ فَتَشَهَّدَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ غِنًى بَعْدِي لَأَنْتِ وَإِنَ أَعَزَّ النَّاسِ فَقْرًا بَعْدِي لَأَنْتِ، وَإِنِّي قَدْ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي وَوَدِدْتُ لَوْ كنت جزيته وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ وَإِنَّمَا هُوَ أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ، قَالَتْ: هَذَا أَخَوَايَ فَمَنْ أُخْتَايَ؟ قَالَ ذُو بَطْنٍ ابْنَةُ خَارِجَةَ فَإِنِّي أَظُنُّهَا جَارِيَةً قَالَتْ: لَوْ كُنَّ مَا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا لَرَدَدْتُهُ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ وَرُوِيَ أن عمر رضي الله عنه قال: مالي أَرَاكُمْ تُنْحِلُونَ لَا نَحْلِ إِلَّا مَا أَجَازَهُ الْمَنْحُولُ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى الْقَبْضِ كَالْقَرْضِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا(7/535)
يَلْزَمُ الْوَارِثَ إِلَّا بِالْقَبْضِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمَوْرُوثَ إِلَّا بِالْقَبْضِ كَالرَّهْنِ طَرْدًا وَالْبَيْعِ عَكْسًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) {المائدة: 1) فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَازِمُ الْعُقُودِ وَلُزُومُ الْهِبَةِ رُكُوبٌ بِالْقَبْضِ لَا بِالْعَقْدِ وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ " مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الْقَبْضِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَالْمَعْنَى فِي الْوَصِيَّةِ أَنَّهَا لَمَّا لَزِمَتِ الْوَارِثَ لَزِمَتِ الْمَوْرُوثَ، وَالْهِبَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا لَمْ تَلْزَمِ الْوَارِثَ لَمْ تَلْزَمِ الْمَوْرُوثَ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي لُزُومِ الْهِبَةِ فَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِحَسْبَ اخْتِلَافِ الْمَقْبُوضَاتِ فَكُلُّ مَا كَانَ قَبْضًا فِي الْبَيْعِ كَانَ قَبْضًا فِي الْهِبَةِ إِلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ لَوْ قَبَضَ مَا دَفَعَ ثَمَنَهُ بغير إذن بائعه صح في الهبة لو قبضها بغير إذن بائعه صح في الهبة لو قبضها بغير إذنه الواهب لم تصح والفرق بينهما أن الرضى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي قَبْضِ الْبَيْعِ فَصَحَّ وَإِنْ كان بغير إذنه والرضى معتبر في قبض البيع فصح وإن كان بغير إذنه والرضى معتبر في قبض البيع فصح وإن كان بغير إذنه والرضى مُعْتَبَرٌ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَلَوْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ عَقْدِ الْهِبَةِ زَمَانُ الْقَبْضِ، وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ أَمْ لَا؟ قَالَ الشافعي: تمت الهبة بِالْعَقْدِ وَمَضَى زَمَانُ الْقَبْضِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ وَقَالَ فِي الرَّهْنِ إِذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ فَكَانَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يَنْقُلُونَ جَوَابَ كُلٍّ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَيُخْرِجُونَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَحْتَاجُ فِيهِمَا إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ فِيهِمَا إِذْنًا بِقَبْضِهِمَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا بُدَّ فِيهِمَا مِنَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ بَلِ الْجَوَابُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَحْتَاجُ فِي الرَّهْنِ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْهِبَةِ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهِبَةَ تُزِيلُ الْمِلْكَ فَقَوِيَ أَمْرُهَا فَلَمْ تحتج فِي الْهِبَةِ إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ وَالرَّهْنُ أَضْعَفُ منها لأنه لا يزيل الملك وافتقر إِلَى إِذْنٍ بِالْقَبْضِ.
فَصْلٌ
: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقَبْضِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ إِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي وَلَوْ بَعْدَ طَوِيلِ الزَّمَانِ جَازَ، فَإِذَا قَبَضَ الْهِبَةَ فَفِيمَا اسْتَقَرَّ بِهِ مِلْكُهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَبْضَ هُوَ الْمِلْكُ فَعَلَى هَذَا لَوْ حَدَثَ مِنَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ نَمَاءٌ كَثَمَرَةِ نَخْلٍ وَنِتَاجِ وَمَاشِيَةٍ فَهُوَ لِلْوَاهِبِ دون الموهوب.
والقول الثاني: أن القبض يدل على ما تَقَدُّمِ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا حَدَثَ مِنَ النَّمَاءِ مِلْكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دُونَ الواهب فإن كان الْوَاهِبِ فَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ قَدِ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ(7/536)
تَسْلِيمِ الْأَصْلِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَيَكُونُ اسْتِهْلَاكُهُ رُجُوعًا فيه أن لَوْ كَانَ هِبَةً وَلَوِ اسْتَهْلَكَهُ وَقَدْ حَدَثَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْأَصْلِ ضَمِنَهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْهَدَايَا فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْهِبَاتِ فِي حُكْمِهَا لِأَنَّ فِي الْهِبَةِ عَقْدًا بِالْقَوْلِ يَفْتَقِرُ إِلَى بَدَلٍ وَقَبُولٍ وَلَيْسَ فِي الْهِبَةِ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إِلَى بَدَلٍ وَقَبُولٍ بَلْ إِذَا دَفَعَهَا الْمُهْدِي إِلَى الْمُهْدَى إليه فقبلها منه بالرضى وَالْعَقْدِ فَقَدْ مَلَكَهَا، وَهَكَذَا لَوْ أَرْسَلَهَا الْمُهْدِي مَعَ رَسُولِهِ جَازَ لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُ الرَّسُولِ أَنْ يَقْبَلَهَا فَإِذَا أَخَذَهَا مِنَ الرَّسُولِ أَوْ أَذِنَ لِغُلَامِهِ فِي أَخْذِهَا مِنَ الرَّسُولِ أَوْ قَالَ لِلرَّسُولِ ضَعْهَا مَوْضِعَهَا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الْمُهْدَى إِلَيْهِ الْهِبَةَ فَلَوْ قَالَ الْمُرْسِلُ لَمْ أُنْفِذْهَا هَدِيَّةً وَكَذَبَ الرَّسُولُ بَلْ أَنْفَذْتُهَا وَدِيعَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَالْهَدَايَا تَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَالْهِبَاتُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَالْعُرْفُ في ذلك قوى شَاهَدٍ وَأَظْهَرُ دَلِيلٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ فِي طرف فإن كان الطرف مما لم تجريه الْعَادَةُ بِاسْتِرْجَاعِهِ مِثْلَ قَوَاصِرِ التَّمْرِ وَالْفَوَاكِهِ وَقَوَارِيرِ مَاءِ الْوَرْدِ وَالْأَزْهَارِ إِذَا كَانَتْ سَقْفًا فَهِيَ مملوكة مع الهدية لأن العرف لم يجز باسترجاعها، وإن كانت الطروف كالطيافير المدهونة والفضار وَالزُّجَاجِ الْمُحْكَمِ وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا جَرَى الْعُرْفُ بِاسْتِرْجَاعِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ مَعَ الْهَدِيَّةِ وَلِلْمُهْدِي بَعْدَ إِرْسَالِ الْهَدِيَّةِ أَنْ يَسْتَرْجِعَهَا مَا لَمْ تَصِلْ إِلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَعَتْ إِلَيْهِ هَدِيَّتُهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ قَبْلَ وُصُولِهَا إليه فملكها.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَقْبِضُ لِلطِّفْلِ أَبُوهُ، نَحَلَ أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَمَّا مَرِضَ قَالَ وَدِدْتُ أَنَّكِ كُنْتِ قَبَضْتِيهِ وَهُوَ الْيَوْمَ مَالُ الْوَارِثِ (وَمِنْهَا) بَعْدَ الْوَفَاةِ الْوَصَايَا وَلَهُ إِبْطَالُهَا مَا لَمْ يَمُتْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا صحيح تجوز الهبة الكل مَنْ صَحَّ مِنْهُ الْمِلْكُ مِنْ طِفْلٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ سَفِيهٍ إِلَّا أَنَّ السَّفِيهَ يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ، وَالطِّفْلَ وَالْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ منهما قبول الهدية، لأن القول السَّفِيهِ حُكْمًا وَلَيْسَ لِقَوْلِ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ حُكْمٌ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَالْقَابِلُ لِلطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ وَلِيُّهُمَا مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ أَمِينٍ حَاكِمٍ وَهُوَ الْقَابِضُ لَهُمَا بَعْدَ الْقَبُولِ وَأَمَّا السَّفِيهُ فَهُوَ الْعَائِلُ وَوَلِيُّهُ هُوَ الْقَابِضُ فَإِنْ قَبَضَهَا السَّفِيهُ تَمَّتِ الْهِبَةُ أَيْضًا، وَلَوْ قَبَضَهَا الطِّفْلُ وَالْمَجْنُونُ لَمْ تَتِمَّ الْهِبَةُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ فإن كان الواهب للطفل أبوه فَهَلْ يَحْتَاجُ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ إِلَى لَفْظٍ بِالْبَدَلِ وَالْقَبُولِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُحْتَاجُ إليه بل ينو به، لأنه يكون مخاطب نَفْسَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُرِيدُ مَنْ عَقَدَ بِالْقَبُولِ فَيَبْذُلُ مِنْ نَفْسِهِ لِابْنِهِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ فِي الْبَذْلِ وَالْإِقْبَاضِ نَائِبًا عَنْ نَفْسِهِ وَفِي الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ نَائِبًا عَنِ ابْنِهِ فَأَمَّا أَمِينُ الْحَاكِمِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ قَابِلٌ وَيَقْبِضَهُ مِنْهُ قَابِضٌ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبِ وَهُمَا مَعًا بِخِلَافِ الْأَبِ كَمَا خَالَفَاهُ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ الْوَصَايَا وَلَهُ إِبْطَالُهَا مَا لَمْ يُثْبِتْ وَهَذَا(7/537)
صَحِيحٌ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَسَّمَ الْعَطَايَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي الْحَيَاةِ مِنْهَا قِسْمَانِ: الْوَقْفُ وَالْهِبَةُ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ قِسْمٌ وَهُوَ الْوَصَايَا قَدْ ذَكَرْنَا الْوَصَايَا وَإِنْ أَفْرَدَ لَهَا كِتَابًا لَاقْتَضَى التَّسْلِيمَ لَهَا وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْهِبَاتِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ وَإِنْ جاز بيعها في سائر الأحكام.
أحدهما: أَنَّ الْهِبَةَ عَطِيَّةٌ نَاجِزَةٌ، وَالْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ مُتَرَاخِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالثَّانِي: جَوَازُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ وَمَا لَمْ يَمْلِكْ وَبُطْلَانُ الْهِبَةِ بِذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ: جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ بِمَالِكٍ فِي الْحَالِ مِنْ خَمْلٍ وَمُتَبَطِّرٍ وَبُطْلَانُ الْهِبَةِ كَذَلِكَ.
وَالرَّابِعُ: تَمَامُ الْوَصِيَّةِ بِالْقَبُولِ دُونَ الْقَبْضِ وَتَمَامُ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةٌ.
وَخَامِسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ: وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ لَا تُسْتَحَقُّ فِي الْوَصِيَّةِ وَفِي اسْتِحْقَاقِهَا فِي الْهِبَةِ قَوْلَانِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ الله عز وجل.(7/538)
باب العمرى والرقبى من اختلاف مالك والشافعي رضي الله عنهما
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ حجرٍ الْمَدَرِيِّ عَنْ زيدٍ بْنِ ثابتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ وَمِنْ حَدِيثِ جابرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابتٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ عُمَرَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يسارٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم وبه أقول (قال المزني) رحمه الله: معنى قول الشافعي عندي في العمرى أن يقول الرجل قد جعلت داري هذه لك عمرك أو حياتك أو جعلتها لك عمري أو رقبي ويدفعها إليه فهي ملكٌ للمعمر تورث عنه إن مات ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى عَطِيَّتَانِ مِنْ عَطَايَا الْجَاهِلِيَّةِ وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِمَا بِأَمْرٍ ونهي، اختلف الْفُقَهَاءُ لِأَجَلِهِمَا وَفِي الَّذِي أُرِيدَ بِهِمَا، أَمَّا الْعُمْرَى فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لَكَ عُمْرِي أَوْ يَقُولُ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِكِ، فَيَكُونُ لَهُ مُدَّةُ حَيَاتِهِ وَعُمْرِهِ فَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ إِلَى الْمُعْمِرِ إِنْ كَانَ حَيًّا أَوْ إِلَى وَارِثِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا سُمِّيَتْ عُمْرَى لِتَمَلُّكِهِ إِيَّاهَا مُدَّةَ عُمْرِهِ وَحَيَاتِهِ، وَإِذَا مَاتَ رَجَعَتْ إِلَى الْمُعْمِرِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) {هود: 61) يَعْنِي أَسْكَنَكُمْ فِيهَا مُدَّةَ أَعْمَارِكُمْ فَصِرْتُمْ عُمَّارَهَا.
وَأَمَّا الرُّقْبَى فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لَكَ رُقْبَى، يعني: إنك ترقبي وَأَرْقُبُكَ وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَالدَّارُ لَكَ، فَسُمِّيَتْ رُقْبَى مِنْ مُرَاقَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى إِلَى أَنْ جَاءَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرُّقْبَى وَالْعُمْرَى، فَذَهَبَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إِلَى بُطْلَانِهَا اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ النَّهْيِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: إِلَى جَوَازِهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعُمْرَى جَائِزَةٌ ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ(7/539)
جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعُمْرَى لِمَنْ وَهَبَ " فَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا " فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إِلَى مَاذَا يُوَجَّهُ النَّهْيُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوَجَّهُ إِلَى الْحُكْمِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سبيل الميراث ".
والوجه الثاني: أن يُوَجَّهُ إِلَى اللَّفْظِ الْجَاهِلِيِّ وَالْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ عَلَى مَا سَنَشْرَحُهُ مِنْ بَعْدُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا صَحَّ فِي الْجُمْلَةِ جَوَازُ الْعُمْرَى فَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ يُتَوَجَّهُ التَّمْلِيكُ فِيهَا إِلَى الرَّقَبَةِ أَمِ الْمَنْفَعَةِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي يوسف: التَّمْلِيكُ فِيهَا يُتَوَجَّهُ إِلَى الرَّقَبَةِ كَالْهِبَاتِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: إَِنَّ التَّمْلِيكَ فِيهَا مُتَوَجَّهٌ إِلَى الْمَنْفَعَةِ وَالرَّقَبَةِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّ التَّمْلِيكَ فِي الْعُمْرَى يُتَوَجَّهُ إِلَى الرَّقَبَةِ وَفِي الْعُمْرَى مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَنْفَعَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِهِمَا مَعًا الرَّقَبَةُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا رجلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهُ لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا " لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ، وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جعل العمرى للوراث " وَلِأَنَّ لَفْظَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى فِي قَوْلِهِمْ قَدْ جَعَلْتُ دَارِي هَذِهِ لَكَ عُمْرَى أَوْ رُقْبَى مُتَوَجَّهٌ إِلَى الرُّقْبَى لِوُقُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا، وَتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَوَجَّهَ التَّمْلِيكُ إِلَيْهَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُمْرَى والرقبى يملك بهما الرقبى فَسَنَشْرَحُ الْمَذْهَبَ فِيهَا وَنَبْدَأُ بِالْعُمْرَى مِنْهُمَا وَلِلْمُعْمِرِ فِي الْعُمْرَى ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَى.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرِي أَنَا.
فَأَمَّا الْحَالُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ فَلَا يَخْلُو فِي ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَوْ لِوَرَثَتِكَ بَعْدَكَ، فَهَذِهِ(7/540)
عَطِيَّةٌ جَائِزَةٌ وَتَمْلِيكٌ صَحِيحٌ قَدْ مَلَكَهَا الْمُعْمَرُ مِلْكًا تَامًّا ثُمَّ صَارَتْ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ هِبَةً نَاجِزَةً وَمِلْكًا صَحِيحًا وَتَمَامُهَا بَعْدَ عَقْدِ الْعُمْرَى بِالْقَبْضِ الَّذِي بِهِ تَتِمُّ الْهِبَاتُ، وَلَيْسَ لِلْمُعْطِي بَعْدَ الْإِقْبَاضِ الرُّجُوعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ مُخَيَّرًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ عَلَى أَنَّكَ إِذَا مِتَّ عَادَتْ إِلَيَّ إِنْ كُنْتُ حَيًّا أَوْ إِلَى وَرَثَتِي إِنْ كُنْتُ مَيِّتًا، فَهَذِهِ عَطِيَّةٌ وَتَمْلِيكٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْأَعْيَانِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِمُدَّةٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى التَّأْبِيدِ لَمَّا كَانَ الشَّرْطُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا ثُمَّ هِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُعْطِي سَوَاءٌ أَقَبْضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُهَا وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُعْطَى، أَوْ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَجْرِهَا مُدَّةَ تَصَرُّفِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَهُ إِيَّاهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي وَلِأَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ رَوَاهُ الزَّعْفَرَانِيُّ عَنْهُ إِنَّهُ عَطِيَّةٌ بَاطِلَةٌ لِتَقْدِيرِهَا بِمُدَّةِ الْحَيَاةِ وَلِأَنَّ جابر رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أيما رجل أعمر لَهُ وَلِعَقِبِهِ " فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا، لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ فَجَعَلَ صَحِيحَ الْعَطِيَّةِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجْعَلْهَا لِعَقِبِهِ لَمْ يَصِحَّ، وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ عَيْنٍ قُدِّرَ بِمُدَّةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ عُمْرَكَ، وَلِأَنَّهَا عُمْرَى مُقَدَّرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً كَمَا لَوْ قَالَ: قَدْ أَعْمَرْتُكَهَا سَنَةً، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَهَا لَهُ مُدَّةَ عُمْرِهِ فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَبْطُلُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُورَثَ عَنْهُ فَيَصِحُّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الصِّحَّةِ مَعَ الِاحْتِمَالِ الْفَاسِدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَأَكْثَرِ الْقَدِيمِ إِنَّهَا عَطِيَّةٌ جَائِزَةٌ وَتَمْلِيكٌ صَحِيحٌ يَكُونُ لِلْمُعْطَى فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُعْمِرُوا وَلَا تُرْقِبُوا فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أو أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ " وَلِرِوَايَةِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْمَرَ أُمَّهُ عَبْدًا فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ نَازَعَهُ الْوَرَثَةُ فِيهِ فَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ مِيرَاثًا فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا جَعَلْتُهُ لَهَا عُمْرَهَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ " وَلِأَنَّ الْأَمْلَاكَ الْمُسْتَقِرَّةَ إِنَّمَا يَتَقَدَّرُ زَمَانُهَا بِحَيَاةِ الْمَالِكِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى وَرَثَةِ الْمَالِكِ فَلَمْ يَكُنْ مَا جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الْمِلْكِ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ مُنَافِيًا لحكم الأملاك وإذا لم تنافيه اقْتَضَى أَنْ يَصِحَّ وَإِذَا صَحَّ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا فَأَمَّا الْبَيْعُ إِذَا قَالَ: بِعْتُكَهَا مُدَّةَ حَيَاتِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وجهين:
أحدهما: وهو فرق ابن سريج على هذا الشرط يقضي فَسْخًا مُنْتَظَرًا، وَالْبَيْعُ إِذَا كَانَ فِيهِ فَسْخٌ مُنْتَظَرٌ بَطَلَ، وَالْهِبَةُ إِذَا كَانَ فِيهَا فَسْخٌ مُنْتَظَرٌ لَمْ تَبْطُلْ كَهِبَةِ الْأَبِ فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يَبْطُلِ الْعُمْرَى بِهَذَا الشرط.(7/541)
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: وَهُوَ فَرْقُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أن شروط البيع تقابل جزاء مِنَ الثَّمَنِ فَإِذَا بَطَلَتْ سَقَطَ مَا قَابَلَهَا منه فاقضى إِلَى جَهَالَةِ الثَّمَنِ فَلِذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَذَا الشَّرْطِ وَلَيْسَ فِي الْعُمْرَى ثَمَنٌ يَقْضِي هَذَا الشَّرْطُ إِلَى جَهَالَتِهِ فَلِذَلِكَ صَحَّتْ مَعَ الشُّرُوطِ.
فَأَمَّا رِوَايَةُ جَابِرٍ أَنَّهُ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ مَعَ بَاقِي الرِّوَايَاتِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى الْعُمُومِ إِذْ لَيْسَ تَتَنَافَى فِي ذَلِكَ فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ التَّمْلِيكَ لِلرَّقَبَةِ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْمِيرَاثَ فِيهَا لَا يُسْتَحَقُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هَلْ يَمْلِكُ الْمُعْمِرُ الْمُعْطِي الِانْتِفَاعَ بِهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ الِانْتِفَاعَ بِهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهَا، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مُتَوَجَّهٌ إِلَى الرَّقَبَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِذَا بَطَلَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَوْ تَصَرَّفَ فِيهَا الْمُعْطِي وَانْتَفَعَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أُجْرَةٌ، لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، وَلَكِنْ لَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِفِعْلِهِ ضَمِنَهَا، لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ لَهَا، فَهَذَا حُكْمُ قَوْلِهِ: (قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ) وَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْعَطِيَّةَ صَحِيحَةٌ وَأَنَّ الْعُمْرَى مَوْرُوثَةٌ فَلَا رَجْعَةَ لِلْمُعْمِرِ الْمُعْطِي فِيهَا بعد القبض.
فصل
: فأما الحالة الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَى إِشَارَةً إِلَى عَقْدِ الْعُمْرَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدِّرَ ذَلِكَ بِعُمْرِ أَحَدٍ، فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهَا بَاطِلَةٌ، لِلنَّهْيِ عَنْهَا وَلَا يَمْلِكُ بِهَا الْمُعْمِرِ الْمُعْطِي الْمَنْفَعَةَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ كَمَا لَا يَمْلِكُ لِرَقَبَتِهِ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّنَا قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ التَّمْلِيكَ بِالْعُمْرَى مُتَوَجَّهٌ إِلَى الرَّقَبَةِ فَإِذَا بَطَلَ لم يملك بها المقصود بها غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنِ الْأُجْرَةَ إِنْ سَكَنَ أَوْ تَصَرَّفَ فَلَوْ كَانَتِ الْعُمْرَى نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ لَمْ يَمْلِكِ الثَّمَرَةَ، وَلَوْ كَانَتْ شَاةً فَنَتَجَتْ لم يملك الولد، فإذا تَلِفَتِ الثَّمَرَةُ فِي يَدِهِ وَهَلَكَ الْوَلَدُ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَتْ بِفِعْلِهِ ضَمِنَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهَا جَائِزَةٌ، وَهِيَ مِلْكٌ لَهُ فِي حَيَاتِهِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِرِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُهُ مِنْ عَقَبِهِ ".
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ مُدَّةَ عُمْرِي أَوْ جَعَلْتُهَا عُمَرَ زَيْدٍ والحكم فِيهِمَا وَاحِدٌ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا عَطِيَّةٌ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يُمَلِّكُهُ إِيَّاهَا عُمْرَهُ فَيُورَثُ عَنْهُ وَلَا جَعَلَهَا عُمْرَى فَيَسْتَعْمِلُ فِيهَا الْخَبَرَ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ ذَلِكَ بِعُمْرِ نَفْسِهِ أَوْ عُمْرِ أَجْنَبِيٍّ فَاقْتَضَى لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِ الْأَصْلِ خُرُوجُهَا مِنْ حُكْمِ النَّفْيِ أَنْ تَبْطُلَ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ: قَدْ أَعْمَرْتُكَهَا(7/542)
سَنَةً أَوْ شَهْرًا كَانَتْ كَذَلِكَ فِي الْبُطْلَانِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُغَلِّبُ فِيهَا حُكْمَ الْعُمْرَى وَيُخَرِّجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَاهُ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الرُّقْبَى فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ ارْتِقَابَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَيَقُولُ قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ رُقْبَى تَرْقُبُنِي وَأَرْقُبُكَ فَإِنْ مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فَهِيَ لَكَ، فَهَذِهِ عَطِيَّةٌ بَاطِلَةٌ، لِمَا فِي هَذَا الشَّرْطِ مِنْ مُنَافَاةِ الْمِلْكِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يشترط ذلك بل يَقُولُ: قَدْ جَعَلْتُهَا لَكَ رُقْبَى فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّمْلِيكُ اعْتِبَارًا بِمَقْصُودِ اللَّفْظِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ إِنَّهَا عَطِيَّةٌ جَائِزَةٌ يَمْلِكُهَا الْمُعْطِي أَبَدًا مَا كَانَ حَيًّا ويورث عنه إن مات سواء كان المطي حَيًّا أَوْ مَيِّتًا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ سَبِيلُ الميراث ".(7/543)
باب عطية الرجل ولده
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مالكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَنْ مُحَمَدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يُحَدِّثَانِهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا؟ " قَالَ لَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أليس يَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا فِي الْبِرِّ إِلَيْكَ سَوَاءً؟ " فقال بلى قال " فارجعه " قال الشافعي رحمه الله تعالى وَبِهِ نَأْخُذُ وَفِيهِ دلالةٌ عَلَى أمورٍ مِنْهَا حُسْنُ الْأَدَبِ فِي أَنْ لَا يُفَضِّلَ فَيَعْرِضُ فِي قَلْبِ الْمَفْضُولِ شيءٌ يَمْنَعُهُ مِنْ بِرِّهِ فَإِنَّ الْقَرَابَةَ يَنْفَسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا لَا يَنْفَسُ الْعِدَى وَمِنْهَا أَنَّ إِعْطَاءَهُ بَعْضَهُمْ جائزٌ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَارْجِعْهُ " وَمِنْهَا أَنَّ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا أَعْطَى وَلَدَهُ وَقَدْ فَضَّلَ أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِنَخْلٍ وَفَضَّلَ عُمَرُ عَاصِمًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِشَيْءٍ أَعْطَاهُ إِيَاهُ وَفَضَّلَ عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: أَفْضَلُ الْهِبَاتِ صِلَةُ ذَوِي الْأَرْحَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الْأَرْحَامِ الْكَاشِحِ " فَإِذَا وَهَبَ لِوَلَدٍ فَيَخْتَارُ التَّسْوِيَةَ فِي الْهِبَةِ وَلَا يُفَضِّلُ ذَكَرًا عَلَى أُنْثَى وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَهُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق إلى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُعْطِيَ الذَّكَرَ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ اسْتِدْلَالًا بِقِسْمَتِهِ لِأَحَدِهِمْ سَهْمٌ فِي الْمَوَارِيثِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ وَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلًا لَفَضَّلْتُ الْبَنَاتَ " وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِمْ عَلَى الْمَوَارِيثِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يُسَوِّي بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ وكالأبوين مع الابن والله أعلم.
مسألة
فَإِنْ لَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمْ وَخَصَّ بِالْهِبَةِ بَعْضَهُمْ كَانَتِ الْهِبَةُ جَائِزَةً وَإِنْ أَسَاءَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَقَالَ طَاوُسٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُدُ الْهِبَةُ بَاطِلَةٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبشير " كل وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ " قَالَ: " فَأَرْجِعْهُ " وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ " فَأَشْهِدْ غَيْرِي عَلَى التَّبَرُّؤِ مِنْ فِعْلِهِ " ودل قوله(7/544)
هذا جورعلى ذمة فِعْلِهِ قَالُوا وَلِأَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ يُؤَدِّي إِلَى عُقُوقِ بَاقِيهِمْ وَمَا نُصِبَ عَلَى الْعُقُوقِ فَهُوَ عُقُوقٌ، وَالْعُقُوقُ حَرَامٌ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَأَرْجِعْهُ " فَلَوْلَا تَعُودُ الْهِبَةُ لَمَا أَمَرَهُ بِالِاسْتِرْجَاعِ ثُمَّ قَوْلُهُ: " أَشْهِدْ غَيْرِي " دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ وَإِنَّمَا أَمْرُهُ بِإِشْهَادِ غَيْرِهِ اسْتِئْنَافًا، وَهَذَا جَوَابٌ وَدَلِيلُ قَوْلِهِ هَذَا جَوَابٌ أَيْ مَيْلٌ يُقَالُ فَجَازَ السَّهْمُ إِذَا مَالَ عَنِ الرَّمْيَةِ فَقَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَالَ إِلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَصَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بنحل عِشْرِينَ وُسْقًا مِنْ تمرٍ وَقَالَ وَدِدْتُ أَنَّكِ قَدْ قَبَضْتِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ مِنْ مَالِ الْوَارِثِ وَفَضَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَاصِمًا بِنَخْلٍ وَخَصَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَلَدَ أُمِّ كُلْثُومٍ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَجْمَعَ جَمِيعَهُمْ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَهُمْ جَازَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِجَمِيعِهِمْ كَالْأَجَانِبِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ هِبَةُ بَعْضِ الْأَوْلَادِ لِلْأَبِ جَازَتْ هِبَةُ الأب لبعض الأولاد.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ اتَّصَلَ حَدِيثُ طَاوُسٍ " لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أن يرجع فيما وهب إلا والدٍ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ " لَقُلْتُ بِهِ وَلَمْ أُرِدْ واهباً غيره وهب ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ، وَلَيْسَ لِوَاهِبٍ أَقْبَضَ مَا وَهَبَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَالِدًا فَيَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ، فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لَهُ وَإِنْ وَهَبَ لِذِي غَيْرِ رَحِمٍ جَازَ الرُّجُوعُ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: جَوَازُ رُجُوعِ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ وأبو حنيفة يَمْنَعُ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: مَنْعُ الْأَجْنَبِيِّ من الرجوع في هبته، وأبو حنيفة فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ جَوَازُ رُجُوعِ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ فَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى الْمَنْعِ مِنْ رُجُوعِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امرئٍ مسلمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنْهُ " فَكَانَ عُمُومُ هَذَا يَمْنَعُ مِنْ رُجُوعِهِ فِيمَا مَلَكَ الِابْنُ عَنْهُ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِيهِ " وَبِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَهَبَ لِذِي رحمٍ لَمْ يَرْجِعْ وَمَنْ وَهَبَ لَغَيْرِ ذي رحمٍ رجع ما لم يبيت قَالَ: وَلِأَنَّ الْهِبَةَ لِذِي الرَّحِمِ صَدَقَةٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا ثَوَابُ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ(7/545)
الْمُكَافَأَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الصَّدَقَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ لِذِي الرَّحِمِ، وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عُقُوقًا وَعُقُوقُ ذِي الرَّحِمِ حَرَامٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ بِشَرْطِ الثَّوَابِ فَأُثِيبَ لَمْ يَرْجِعْ وَهَذَا قَدْ أُثِيبَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هِبَةِ الرَّحِمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ.
وَدَلِيلُنَا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لبشير في هبته للنعمان مِنْ بَيْنِ وَلَدِهِ " فَأَرْجِعْهُ " فَلَوْلَا أَنَّ رُجُوعَهُ جَائِزٌ لَمَا أَمَرَهُ بِهِ وَلَكَانَ الْأَوْلَى لَوْ فَعَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَجُوزُ لرجلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ وَيَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَ عَادَ فِي قَيْئِهِ "، وَهَذَا نَصٌّ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ ثَبَتَ اتِّصَالُهُ وَبِهَذَا يَخُصُّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَيُتَمِّمُ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْخَبَرِ الثَّانِي، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوْلَادُكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوا مِنْ طَيِّبِ كَسْبِكُمْ "، فَمَيَّزَ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ وَجَعَلَهُ كَسْبًا لِوَالِدِهِ فَكَانَ مَا كَسَبَهُ الْوَلَدُ مِنْهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ كَسْبِهِ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاعْتِلَالِ قِيَاسٌ فَيُقَالُ: لِأَنَّهُ وَهَبَ كَسْبَهُ لِكَسْبٍ غَيْرِ مُعْتَاضٍ عَنْهُ فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِهِ، وَلِأَنَّ مَا لِلْوَلَدِ فِي يَدِ وَالِدِهِ لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ إِذَا كَانَ صَغِيرًا وَأَخَذَ النَّفَقَةَ مِنْهُ إِذَا كَانَ كَبِيرًا فَصَارَتْ هِبَةً لَهُ وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ يَدِهِ فِي حُكْمِ مَا وَهَبَهُ وَهُوَ بَاقٍ فِي يَدِهِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَقْبِضْهُ لِبَقَائِهِ فِي يَدِهِ جَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ وَإِنْ أَقْبَضَهُ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَاقِي فِي يَدِهِ، وَتَحْرِيرُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسًا أَنَّهَا هِبَةٌ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَقْبِضْ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لِفَضْلِ حُنُوِّهِ تُبَايِنُ أَحْكَامُهُ أَحْكَامَ غَيْرِهِ فَلَا يُعَادِيهِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي يَدَيْهِ بِالتَّزْوِيجِ وَفِي مَالِهِ بِالْعُقُودِ لِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَانْتِفَاءِ التُّهَمِ فَجَازَ أَنْ يُخَالِفَ غَيْرَهُ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ التُّهْمَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ رُجُوعَهُ فِيهَا لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ مِنْهُ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّنَا وأبا حنيفة قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى الْفَرْقِ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَذِي الرَّحِمِ فَلِأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِيهَا مَعَ ذِي الرَّحِمِ الْمُبَاعِضِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ أَوْلَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ دُونَ ذِي الرَّحِمِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: النَّصُّ الْمُعَاضِدُ.
وَالثَّانِي: الْبَعْضِيَّةُ الْمُمَازَجَةُ.
وَالثَّالِثُ: التَّمْيِيزُ بِالْأَحْكَامِ الْمَخْصُوصَةِ، وَفِي هَذِهِ الْمَعَانِي جَوَابٌ، وَجَوَابُهُمْ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِالثَّوَابِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَثْبَتَ بِالْمَالِ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْبَدَلُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُبْدَلِ فَخَالَفَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْبَدَلُ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الْهِبَةِ غَيْرُ الرَّاجِعِ فِيهَا مِنَ الْآبَاءِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَنَّ غَيْرَ الْأَبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، وَأَجَازَ أبو حنيفة لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يرجع فيها، استدلالاً بحديث عمرو.
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَصَاصُ عَلَى واهبه(7/546)
لَمْ يَمْلِكْ وَاهِبُهُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ فِي هِبَتِهِ كَالْأَخِ طَرْدًا وَالْوَالِدِ عَكَسًا، وَلِأَنَّ انْتِفَاءَ الْقَرَابَةِ تَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ كَالزَّوْجَيْنِ، وَلِأَنَّهَا هِبَةٌ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِيهَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ كَالْهِبَةِ عَلَى الثَّوَابِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ لِغَيْرِ الْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، وَمَنَعَ مَالِكٌ الْأُمَّ وَالْجَدَّ أَنْ يَرْجِعَا فِي هِبَتِهِمَا تَعَلُّقًا بِحَقِيقَةِ الْأُمِّ فِي الولد فهذا ليس بصحيح، لأن كلهم والد فيه بعضية، فَأَمَّا الْوَلَدُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ لِلْوَالِدِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ وَفَضْلِ الْحُنُوِّ وَحَقِّ الْوِلَايَةِ وَجَوَازِ التَّصَرُّفِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالِدٌ وَوَالِدَةٌ أَوْ جَدٌّ أَوْ جَدَّةٌ وَهَبَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ سَوَاءٌ قَالَ الْأَبُ: قَصَدْتُ بِالْهِبَةِ بِرَّهُ فَعَقَّ وَلَمْ يَبِرَّ، أَوْ قَالَ لَمْ أَقْصِدْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَبُ فِي هِبَتِهِ إِذَا قَالَ قَصَدْتُ بِهَا بِرَّهُ وَظُهُورَ إِكْرَامِهِ وَلَمْ يَبِرَّ وَلَمْ يُكْرِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِنْ لَمْ يُقُلْ ذَلِكَ وَيَدَّعِيهِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُمُومُ الْخَبَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا جَازَ بِهِ الرُّجُوعُ فَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ كَمَا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بِهِ الرُّجُوعُ فَهَذَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا تَصَدَّقَ الْأَبُ عَلَى وَلَدِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْهِبَاتِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الصَّدَقَاتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا، مُسْلِمًا أَوْ كافراً.
فصل
: ولو تداعا رَجُلَانِ طِفْلًا وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ ابْنِي ثُمَّ وَهَبَا لَهُ هِبَةً لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يحكم لواحد منهما بأبوته، فإن انتفا عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَحِقَ بِالْآخَرِ فَهَلْ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ الرُّجُوعُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هِبَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ، لِثُبُوتِ أُبُوَّتِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ، لِأَنَّهُ حِينَ وَهَبَ كَانَ مِمَّنْ لَا يَرْجِعُ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لأولاده ثم أراد أن يرجع في نفسه لِبَعْضِهِمْ جَازَ وَفِي كَرَاهِيَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُكْرَهُ لَهُ اسْتِرْجَاعُ الْهِبَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَسْتَرْجِعَهَا مِنْ جَمِيعِهِمْ كَمَا يُكْرَهُ لَهُ الْهِبَةُ لِبَعْضِهِمْ حَتَّى يَهَبَ لِجَمِيعِهِمْ.
وَالثَّانِي: لَا يُكَرَهُ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ لَا فِي الْمَنْعِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا وَهَبَ لِابْنِهِ هِبَةً فَبَاعَهَا الِابْنُ أَوِ اسْتَهْلَكَهَا فَلَيْسَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهَا وإنما(7/547)
يَرْجِعُ لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ، وَهَكَذَا لَوْ رَهَنَهَا الِابْنُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا مَا كَانَتْ رَهْنًا، فَإِنِ افْتَكَّهَا الِابْنُ جَازَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا، وَلَوْ بَاعَهَا الِابْنُ ثُمَّ ابْتَاعَهَا أَوْ وَرِثَهَا فَهَلْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا، لِبَقَائِهَا فِي يَدِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا، لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِ الِابْنِ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ الِابْنِ ثُمَّ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِفَلَسِهِ فَفِي جَوَازِ رُجُوعِ الْأَبِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا، لِبَقَائِهَا فِي يَدِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَا يَرْجِعُ بِهَا، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهَا.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ هِبَةً ثُمَّ وَهَبَهَا الِابْنُ لِابْنِهِ جَازَ لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى ابْنِهِ وَهَلْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى ابْنِ ابْنِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ بِهَا، لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِهِبَتِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ بِهَا، لِأَنَّهُ غَيْرُ الْوَاهِبِ لَهُ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اسْتَرْجَعَهَا الِابْنُ مِنَ ابْنِهِ فَفِي رُجُوعِ الْأَبِ بِهَا وَجْهَانِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وَهَبَ لِابْنِهِ جَارِيَةً فَأَعْتَقَهَا الِابْنُ، أَوْ دَارًا فَوَقَفَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا وَلَا بِقِيمَتِهَا، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكَةِ، وَهَكَذَا لَوْ وَطِئَ الِابْنُ الْجَارِيَةَ فَأَحْبَلَهَا لَا يُمْكِنُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا وَلَا بِقِيمَتِهَا، لَأَنَّ مَنْ مَلَكَ أُمَّ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى مَالِكٍ آخَرَ وَلَكِنْ لَوْ لَمْ يُحَبِّلْهَا جَازَ للأب الرجوع بها ثم وطئها حَرَامٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مَنْ حَلَائِلِ أَبْنَائِهِ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ مُطَالَبَتُهُ بِأَرْشِ التَّحْرِيمِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْأَمَةُ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا الِابْنُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِأَرْشِ الْبَكَارَةِ، فَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا فِي يَدِ الِابْنِ جِنَايَةً أَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا لَمْ يَرْجِعْ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَى ابْنِهِ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا فَاتَ رُجُوعُ الْأَبِ بِهِ فَصَارَ أَرْشُ جِنَايَتِهَا كَثَمَنِهَا لَوْ بَاعَهَا، فَلَوْ كَانَ الِابْنُ كَاتَبَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ فَاسِدَةً فَيَرْجِعُ بِهَا، فَإِنْ عَجَزَتْ عَنِ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهَا، لَأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ، وَالْكِتَابَةَ تُوقِفُ الْمِلْكَ وَلَا تُزِيلُهُ فَلَوْ دَبَّرَهَا الِابْنُ أَوْ أَعْتَقَهَا بِصِفَةٍ لَوْ بَاتَ جَازَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ، وَلَمْ يَنْقُلْ مِلْكَهَا إِلَى غَيْرِهِ فَلَوْ كَانَ الِابْنُ قَدْ زَوَّجَهَا رَجَعَ الْأَبُ بِهَا وَالنِّكَاحُ عَلَى حَالِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَرَهَا الِابْنُ جَازَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ بِهَا وَالْإِجَارَةُ بِحَالِهَا إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا وَالْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ مَعًا لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ.
فَصْلٌ
: ولو كَانَتِ الْهِبَةُ شَاةً فَنَتَجَتْ ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا كَانَ النِّتَاجُ لِلِابْنِ دُونَ الْأَبِ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّاةُ عِنْدَ الْهِبَةِ حَامِلًا ثُمَّ وَلَدَتْ فِي يَدِ الِابْنِ ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِالشَّاةِ فَفِي وَلَدِهَا قَوْلَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الحمل، فلو كانت الشاة حائلاً ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِهَا حَامِلًا فَفِي وَلَدِهَا إذا(7/548)
وَضَعَتْهُ أَيْضًا قَوْلَانِ، وَلَوْ كَانَتِ الْهِبَةُ نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ فِي يَدِ الِابْنِ ثُمَّ رَجَعَ الْأَبُ بِالنَّخْلِ فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً عِنْدَ رُجُوعِ الْأَبِ فَهِيَ لِلِابْنِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا لِلِابْنِ أَيْضًا، لِأَنَّهَا مِمَّا تَتَمَيَّزُ.
وَالثَّانِي: لِلْأَبِ، لِأَنَّ مَا يُؤَبَّرُ مِنَ النخل تبع لأصل كَالْبَيْعِ.
فَصْلٌ
: وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ إِلَّا بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ، سَوَاءٌ كَانَ الِابْنُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بِخِلَافِ هِبَتِهِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ حَيْثُ جَوَّزْنَاهَا بِالنِّيَّةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ اسْتِرْجَاعُ مِلْكٍ فَكَانَ أَغْلَظَ ثُمَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ مُعَلَّقًا بِصِفَةٍ حَتَّى لَوْ قَالَ إِذَا دَخَلْتُ الدَّارَ فَقَدْ رَجَعْتُ فِي هِبَتِي لِابْنِي لَمْ يَجُزْ، وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ فِي الْوَصِيَّةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْهِبَةِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ بِالصِّفَةِ جَازَ الرُّجُوعُ فِيهَا بِالصِّفَةِ.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " لِمَنْ يَسْتَثِيبُ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ لَا يَسْتَثِيبُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْهِبَةَ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَةَ وَنَوْعٌ يَقْتَضِيهَا، فَأَمَّا مَا لَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَةَ فَمِنْ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: هِبَةُ الْإِنْسَانِ لِمَنْ دُونَهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّفَضُّلُ.
وَالثَّانِي: هِبَةُ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا النَّفْعُ.
وَالثَّالِثُ: هِبَةُ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ لِلصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّهَا مِمَّنْ لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ مِنْهَا.
وَالرَّابِعُ: الْهِبَةُ لِلْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ.
وَالْخَامِسُ: الْهِبَةُ لِلْمُنَافِرِ الْمُعَادِي، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّآلُفُ.
وَالسَّادِسُ: الْهِبَةُ لِلْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْقُرْبَةُ وَالتَّبَرُّرُ.
وَالسَّابِعُ: الهبة للأصدقاء والإخوان، لأن المقصود بها تأكيد الْمَوَدَّةِ.
وَالثَّامِنُ: الْهِبَةُ لِمَنْ أَعَانَ بِجَاهٍ أَوْ بِمَالٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْمُكَافَأَةُ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْهِبَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّمَانِيَةِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْمُكَافَأَةَ، وَإِذَا أَقْبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ فَقَدْ مَلَكَهَا مِلْكًا مُسْتَقِرًّا كَالَّذِي يملك بابتياع أو ميراث.
فصل
: وأما مَا يَقْتَضِي الْمُكَافَأَةَ فَهُوَ مَا سِوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مِمَّا يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا طَلَبُ الْمُكَافَأَةِ عَلَيْهَا فَفِي وُجُوبِ الْمُكَافَأَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَلْمَانَ إِنَّا نَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَنُكَافِئُ عَلَيْهَا، وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَاقَةً فَكَافَأَهُ فَلَمْ يَرْضَ فَكَافَأَهُ فَلَمْ يَرْضَ فَلَمْ يَزَلْ يُكَافِئُهُ حَتَى رَضِيَ ثُمَّ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ لَا أَتَّهِبَ إِلَّا مِنْ قرشيٍّ أَوْ أنصاريٍّ أَوْ ثقفيٍّ وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا، لأنهم(7/549)
مَشْهُورُونَ بِسَمَاحَةِ النُّفُوسِ وَقِلَّةِ الطَّمَعِ فَلَوْلَا وُجُوبُ الْمُكَافَأَةِ لَمَا صَبَرَ عَلَى طَمَعِ الْأَعْرَابِيِّ وَآذَاهُ، لِأَنَّ الْعُرْفَ الْجَارِيَ فِي النَّاسِ الْمُكَافَأَةُ بِهَا يَجْعَلُهُ كَالشَّرْطِ فِيهَا وَيَكُونُ قَبُولُ الْهِبَةِ رِضًى بِالْتِزَامِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حنيفة إِنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَحِلُّ مَالُ امرئٍ مسلمٍ إِلَّا بِطِيبِ نفسٍ مِنْهُ "، وَلِأَنَّ مَا صَحَّ تَمَلُّكُهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ بَدَلٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ الْبَدَلَ كَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّ الْعُقُودَ لَا يَخْتَلِفُ اسْتِحْقَاقُ الْبَدَلِ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْعَاقِدِينَ لَهَا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْعُقُودِ مِنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ، وَالْوَصِيَّةِ وَالْعَارِيَةِ فِي إِسْقَاطِهِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الثَّوَابَ لَا يَجِبُ فَإِنَّ الْمُكَافَأَةَ لَا تُسْتَحَقُّ فَأَثَابَ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَكَافَأَ فَهِيَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُ وَاحِدَةٍ مِنَ الْهِبَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، فَلَوِ اسْتُحِقَّتْ إِحْدَاهُمَا أَوْ ظَهَرَ بِهَا عَيْبٌ فَالْأُخْرَى عَلَى حَالِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَرْجَعَ فَإِنْ شَرَطَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ ثَوَابًا وَمُكَافَأَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ الَّذِي شَرَطَ مَجْهُولًا فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ، لِاشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزَةٌ، لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عَلَى بَدَلٍ مَعْلُومٍ كَالْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الثَّوَابِ مَعْلُومًا كَانَ أَوْ مَجْهُولًا فَالْمَوْهُوبُ لَهُ ضَامِنٌ لَهَا بِالْقَبْضِ، لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاوَضَةِ، وَعَلَيْهِ رَدُّهَا لِفَسَادِ الْعَقْدِ، فَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهَا كَالْمَقْبُوضِ مِنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِأَكْثَرَ مَا كَانَ قِيمَتُهُ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ عَلَى أَصَحِّ الْمَذْهَبَيْنِ فِي ضَمَانِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَوْ نَقَصَتْ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا ضَمِنَ قَدْرَ نَقْصِهَا، فَإِذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ الْهِبَةِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الثَّوَابِ الْمَعْلُومِ فَهِيَ كَالْبَيْعِ الْمَحْضِ يَسْتَحِقُّ فيه خيار المجلس بالعقد وخيار الثلث بِالشَّرْطِ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ، وَإِنِ اسْتُحِقَّتِ الْهِبَةُ وَجَبَ رَدُّ الثَّوَابِ، وَإِنِ اسْتُحِقَّ الثَّوَابُ وَجَبَ رَدُّ الْهِبَةِ وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ مُعَيَّنًا أَوْ غُرِمَ مِثْلُهُ مَعَ بَقَاءِ الْهِبَةِ إِنْ كَانَ الثَّوَابُ مَوْصُوفًا، وَإِنْ ظَهَرَ فِي الْهِبَةِ عَيْبٌ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالْفَسْخِ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الثَّوَابَ وَاجِبٌ وَالْمُكَافَأَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْتَرِطَ الثواب أولاً بشرطه، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ.
أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُثِيبَ وَيُكَافِئَ حَتَّى يَرْضَى الْوَاهِبُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَزَلْ يُكَافِئُ الْأَعْرَابِيَّ حَتَّى رَضِيَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ بِمَا يَكُونُ فِي الْعُرْفِ ثَوَابًا لِمِثْلِ تِلْكَ الْهِبَةِ، لِأَنَّ الرِّضَى لا ينحصر فكان العرف أولى أن يعتبره.(7/550)
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: عَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْهِبَةِ لَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَلَا يُجْزِئُهُ النُّقْصَانُ مِنْهَا، لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ فِيهِ الْبَدَلُ إِذَا عُدِمَ الْمُسَمَّى رَجَعَ إِلَى الْقِيمَةِ اعْتِبَارًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُكَافِئَ فِي مِقْدَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الثَّوَابِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْهِبَةَ، وَلَا خِيَارَ لِلْوَاهِبِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ رَدَّ الْهِبَةَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالثَّوَابِ، فَإِنْ رَدَّهَا نَاقِصَةً فَإِنْ كَانَ نَقْصُهَا بِفِعْلِهِ ضَمِنَهُ لِلْوَاهِبِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَفِي ضَمَانِهِ إِيَّاهُ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عَلَيْهِ ضَمَانُهُ.
وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ، وَإِنْ رَدَّهَا وَقَدْ زَادَتْ فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَا تَتَمَيَّزُ كَالطُّولِ وَالسَّمِنُ أَخَذَهَا الْوَاهِبُ زَائِدَةً، لِأَنَّ مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنَ الزِّيَادَاتِ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً فَهِيَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ كَالنِّتَاجِ وَالثَّمَرَةِ، لِحُدُوثِهَا عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إِلَى الْوَاهِبِ وَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ الْهِبَةَ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْهِبَةَ وَكَافَأَهُ عَلَيْهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الثَّوَابِ فِيهَا فَالْوَاهِبُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ الْمُكَافَأَةَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَقْبَلَ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي اسْتِرْجَاعِ الْهِبَةِ، فَإِنْ قَبِلَ الْمُكَافَأَةَ ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُكَافِئَهُ ثَانِيَةً وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْهِبَةَ، وَلَوِ اسْتُحِقَّتِ الْهِبَةُ دُونَ الْمُكَافَأَةِ كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمُكَافَأَةِ، فَلَوْ قَالَ الْوَاهِبُ أَنَا أَهَبُ لَكَ مِثْلَ تِلْكَ الْهِبَةِ وَلَا أَرُدُّ الْمُكَافَأَةَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ الْمُكَافَأَةِ، فَلَوْ لَمْ يُكَافَأْ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَكَافَأَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ جَازَ وَلَا رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ، لِوُصُولِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ، وَلَا رُجُوعَ لِلْمُكَافِئِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِمَا أَثَابَ عَنْهُ وَكَافَأَ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ إِلَّا أَنْ يكافئ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يُكَافِئْهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنِ الْهِبَةِ حَتَّى تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَفِي وُجُوبِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ وَيُثِيبَ فِي الْحَالِ الَّتِي إِنْ رَدَّ وَلَمْ يُثِبْ فَعَلَى هَذَا تتلف غير مضمونة عليه.
والقول الثَّانِي: أَنَّ الثَّوَابَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْعَقْدِ، فَإِنْ أَثَابَ وَإِلَّا ضَمِنَهَا بِالْقِيمَةِ لِتَلَفِهَا عَنْ بَدَلٍ فَائِتٍ.
فَصْلٌ
: وَإِنِ اشْتَرَطَ الْوَاهِبُ الثَّوَابَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْتَرِطَهُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا فَإِنِ اشْتَرَطَهُ مَجْهُولًا صَحَّتِ الْهِبَةُ وَلَزِمَ الشَّرْطُ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَقْدَ، ثُمَّ حُكْمُ هَذِهِ الْهِبَةِ وَالثَّوَابُ عَلَى مَا مَضَى، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ غَيْرَ أَنَّ الْهِبَةَ لَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ مِثْلَ الثَّوَابِ لَزِمَهُ أَنْ يُثِيبَ أَوْ يَضْمَنَ الْقِيمَةَ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنِ اشْتَرَطَ الثَّوَابَ مَعْلُومًا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ، لِأَنَّ مَا مُنِعَ عَنِ الْجَهَالَةِ كَانَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ وَلَهُ مَا اشْتَرَطَ، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّهُ فِي الْهِبَةِ: يَشْتَرِطُ الثَّوَابَ الْمَعْلُومَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ دَفْعِ الثَّوَابِ وَبَيْنَ رَدِّ الْهِبَةِ وَفِي الْبَيْعِ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الرَّدِّ مَا لَمْ يَكُنْ خِيَارٌ أَوْ عَيْبٌ، ثُمَّ هُمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى سَوَاءٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ إِنَّ الْهِبَةَ بَاطِلَةٌ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ الْهِبَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَالْبُيُوعِ اللَّازِمَةِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَضْمُونَةً ضَمَانَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَلَى مَا مَضَى.(7/551)
فَصْلٌ
: هِبَةُ الْمَرِيضِ فِي الثُّلُثِ، فَإِنِ احْتَمَلَهَا الثُّلُثُ أُمْضِيَتْ وَإِلَّا رُدَّتْ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ، وَإِنِ احْتَمَلَ الثُّلُثُ بَعْضَهَا أَمْضَى مِنْهَا قَدْرَ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَارِثُ فَيَصِحَّ فِي الْجَمِيعِ، فَلَوْ وَهَبَ فِي الصِّحَّةِ وَأُقْبِضَ فِي الْمَرَضِ فَهِيَ هِبَةٌ فِي الْمَرَضِ، لِأَنَّهَا بِالْقَبْضِ فِيهِ تَمَّتْ فَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ وَارِثُ الْوَاهِبِ هِيَ فِي الْمَرَضِ وَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الصِّحَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ مع يمينه، لأن الأصل فيها عدم الزوم، فَلَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَارِثَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِقْبَاضِهَا بِالْعَقْدِ الْمَاضِي أَوِ الْمَنْعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، فَإِنْ أَحَبَّ إِمْضَاءَ الْهِبَةِ استأنف عقداً وقبضاً.
فَصْلٌ
: وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَوَهَبَ لَهُ أَهْلُهَا هِبَةً قَبِلَهَا وَقَبَضَهَا، وَلَمْ يَغْنَمْهَا الْمُسْلِمُونَ إِنْ ظَفِرُوا بِهَا، وَفَرَّقَ أبو حنيفة بَيْنَ مَا يُنْقَلُ مِنْهَا وَمَا لَا يُنْقَلُ، فَجَعَلَ مَا يُنْقَلُ مَمْلُوكًا وَمَا لَا يُنْقَلُ مَغْنُومًا، اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَنَحَهُ الْمُشْرِكُونَ أَرْضًا فَلَا أَرْضَ لَهُ وَهَذَا إِنْ صَحَّ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَارِيَةِ دُونَ الْهِبَةِ.
فَصْلٌ
: هِبَةُ دُورِ مَكَّةَ وَعَقَارِهَا يَجُوزُ بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة بِنَاءً عَلَى الْبَيْعِ، فَأَمَّا إِجَارَتُهَا لِلْحُجَّاجِ فَيَجُوزُ هِبَتُهَا إِنْ جَازَ بَيْعُهَا، وَأُبْطِلَ إن لم يجز بيعها.
فَصْلٌ
: هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَلِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ يَجُوزُ، لِأَنَّ هِبَتَهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ إِبْرَاءٌ وَلِغَيْرِهِ تَمْلِيكٌ، وَهِبَةُ الْمَنَافِعِ عَارِيَةٌ لَا تَلْزَمُ، لِأَنَّ قَبْضَهَا قبل انقضائها لا يصح.
مسألة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " (قَالَ) وَتَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى كُلِّ أحدٍ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لَا يَأْخُذُهَا لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ مِنْ قَدْرِهِ وَأَبَانَهُ مِنْ خَلْقِهِ إِمَّا تَحْرِيمًا وَإِمَّا لِئَلَّا يَكُونَ لأحدٍ عَلَيْهِ يدٌ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّدَقَةِ لَا يُرَادُ ثَوَابُهَا وَمَعْنَى الْهَدِيَّةِ يُرَادُ ثَوَابُهَا وَكَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَرَأَى لَحْمًا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بُرَيْرَةَ فَقَالَ " هُوَ لَهَا صدقةٌ وَلَنَا هديةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ مَضَيَا.
أَحَدُهُمَا: تَحْرِيمُ الصَّدَقَاتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
وَالثَّانِي: إِبَاحَةٌ لِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَقَدْ بَيَّنَاهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِطَالَةِ بِتَكْرَارِهِمَا وَجْهٌ مَعَ مَا حَصَلَ مِنْ إِطَالَةِ الِاسْتِيفَاءِ، فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ فَتَحْرُمُ عَلَى الْغَنِيِّ وَإِنْ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ، رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا مِنْ فقرٍ مدقعٍ أَوْ غرمٍ مفظعٍ أَوْ دمٍ مولعٍ " وبالله التوفيق.(7/552)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب اللقطة
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: " اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُ ذَلِكَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فَبِهَذَا أَقُولُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّقَطَةِ وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ بِتَمَامِهِ وَأَنَّهُ سَأَلَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ فَشَأْنُكَ بِهَا عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ: لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ فَقَالَ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا أَمَّا قَوْلُهُ فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ هِيَ لَكَ يَعْنِي إِنْ أَخَذْتَهَا أَوْ لِأَخِيكَ إِنْ أَخَذَهَا غَيْرُكَ أَوْ لِلذِّئْبِ يَعْنِي إِنْ لَمْ تُؤْخَذْ أَكَلَهَا الذِّئْبُ، فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ مَا لَكَ وَلَهَا أَيْ لَا تَأْخُذْهَا وَقَوْلُهُ مَعَهَا سِقَاؤُهَا يَعْنِي أَعْنَاقُهَا الَّتِي تَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمَاءِ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى تَقْرِيبِ الرَّاعِي وَمَعُونَتِهِ وَقَوْلُهُ حِذَاؤُهَا يَعْنِي خِفَافَ أَرْجُلِهَا الَّتِي تَقْدِرُ بِهَا عَلَى السَّيْرِ وَطَلَبِ الْمَرْعَى وَتَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ فَخَالَفَتِ الْغَنَمَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ. وَرَوَى مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُصِيبُ هَوَامِّي الْإِبِلِ فَقَالَ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ وَهَوَامِّي الْإِبِلِ: هِيَ الْمُهْمَلَةُ الَّتِي لَا رَاعِيَ لَهَا، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلَّا ضَالٌّ " وروى الشافعي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ أَنَّهُ سَأَلَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن سوط وجده فقال: إن وَجَدْتُ صُرَّةً فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ فَذَكَرْتُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لِي: عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ وَجَدْتَ مَنْ يَعْرِفُهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا.(8/3)
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ وَجَدَ دِينَارًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَهُ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فَلَمْ يُعْرَفْ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْرُمَهُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا رَوَيْنَا فَاللُّقَطَةُ وَالضَّوَالُّ مُخْتَلِفَانِ فِي الْجِنْسِ وَالْحُكْمِ. فَالضَّوَالُّ الْحَيَوَانُ لِأَنَّهُ يَضِلُّ بِنَفْسِهِ وَسَنَذْكُرُ حُكْمَهُ، وَاللُّقَطَةُ غَيْرُ الْحَيَوَانِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِالْتِقَاطِ وَاجِدِهَا لَهَا وَلَهَا حَالَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَنْ تُوجَدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلَا يَجُوزُ لِوَاجِدِهَا التَّعَرُّضُ لِأَخْذِهَا وَهِيَ فِي الظَّاهِرِ لِمَالِكِ الْأَرْضِ إِذَا ادَّعَاهَا.
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ مَا كَانَ مِنْهَا فِي طَرِيقٍ مَيْتَاءَ فَعَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ خَرَابٍ فَفِيهَا وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ.
وَقَوْلُهُ فِي طَرِيقٍ مَيْتَاءَ يَعْنِي مَمْلُوكَةً قَدِيمَةً سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِتْيَانِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَرُوِيَ فِي طَرِيقٍ مَأْتَى سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِتْيَانِ النَّاسِ إِلَيْهَا.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تُوجَدَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ طَرِيقٍ أَوْ مَوَاتٍ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَكَّةَ أَوْ بِغَيْرِ مَكَّةَ فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ مَكَّةَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ ظَاهِرٍ وَمَدْفُونٍ فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَبْقَى كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ فَلَهُ حُكْمٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَبْقَى كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْقُمَاشِ فَهَذِهِ هِيَ اللُّقَطَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " فَعَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ لِشُرُوطِ تَعْرِيفِهَا ثُمَّ لَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ إِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فَضَرْبَانِ جَاهِلِيٌّ وَإِسْلَامِيٌّ فَإِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَلُقَطَةٌ أَيْضًا وَهِيَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كان جاهليا فهو ركاز يملكه واجده وعليه اخراج خمسه في مصارف الزكوات لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي الركاز الخمس وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَفِي السِّيُوبِ الْخُمُسُ " يَعْنِي الرِّكَازُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَلَا أَرَاهُ أُخِذَ إِلَّا مِنَ السَّيْبِ وَهُوَ الْعَطِيَّةُ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ بِمَكَّةَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاجِدِهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَعَلَيْهِ إِنْ أَخَذَهَا أَنْ يُقِيمَ بِتَعْرِيفِهَا أَبَدًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِلَادِ.(8/4)
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: مَكَّةُ وَغَيْرُهَا سَوَاءٌ فِي اللُّقَطَةِ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ الْخَبَرِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَا يختلى خلاءها وَلَا يُعَضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ " وَفِي الْمُنْشِدِ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ صَاحِبُهَا الطَّالِبُ وَالنَّاشِدُ هُوَ الْمُعَرِّفُ الْوَاجِدُ لَهَا قَالَ الشاعر:
(يصيح للنبأة أسماعه ... إصاحة النَّاشِدِ لِلْمُنْشِدِ)
فَكَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إِلَّا صَاحِبُهَا الَّتِي هِيَ لَهُ دُونَ الْوَاجِدِ، وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُنْشِدَ الْوَاجِدُ الْمُعَرِّفُ وَالنَّاشِدَ هُوَ الْمَالِكُ الطَّالِبُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُنْشِدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاشِدُ غَيْرُكَ الْوَاجِدُ " مَعْنَاهُ لَا وَجَدْتَ كَأَنَّهُ دَعَا عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ أَيْ لِمُعَرِّفٍ يُقِيمُ عَلَى تَعْرِيفِهَا وَلَا يَتَمَلَّكُهَا فَكَانَ فِي كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ تَمَلُّكِهَا وَلِأَنَّ مَكَّةَ لَمَّا بَايَنَتْ غَيْرَهَا فِي تَحْرِيمِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا تَغْلِيظًا لِحُرْمَتِهَا بَايَنَتْ غَيْرَهَا فِي مِلْكِ اللُّقَطَةِ وَلِأَنَّ مَكَّةَ لَا يَعُودُ الْخَارِجُ مِنْهَا غَالِبًا إِلَّا بَعْدَ حَوْلٍ إِنْ عَادَ فَلَمْ يَنْتَشِرْ إِنْشَادُهَا فِي الْبِلَادِ كُلِّهَا فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ إِدَامَةُ تَعْرِيفِهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَبَيْنَ سَائِرِ الْحَرَمِ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْحُرْمَةِ فَأَمَّا عَرَفَةُ وَمُصَلَّى إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ حِلٌّ تَحِلُّ لُقَطَتُهُ قِيَاسًا عَلَى جَمِيعِ الْحِلِّ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ كَالْحَرَمِ لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهُ إِلَّا لِمُنْشِدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مَجْمَعُ الْحَاجِّ وَيَنْصَرِفُ النِّفَارُ مِنْهُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ كَالْحَرَمِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إِنْشَادِهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ إِنْشَادِهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا جَوَازُهُ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ وَأَنَّهُ مَجْمَعُ الناس.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وبهذا أقول وَالْبَقَرُ كَالْإِبِلِ لِأَنَّهُمَا يَرِدَانِ الْمِيَاهَ وَإِنْ تَبَاعَدَتْ ويعيشان أكثر عيشهما بلا راع فليس له أن يعرض لواحد منهما والمال والشاة لا يدفعان عن أنفسهما فإن وجدهما في مهلكة فله أكلهما وغرمهما إذا جاء صاحبهما (وقال) فيما وضعه بخطه لا أعلمه بسمع منه والخيل والبغال والحمير كالبعير لأن كلها قوي ممتنع من صغار السباع بعيد الأثر في الأرض ومثلها الظبي للرجل والأرنب والطائر لبعده في الأرض وامتناعه في السرعة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ ضَوَالَّ الْحَيَوَانِ إِذَا وُجِدَتْ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أن توجد في مصر أو في صحراء فإن وجدت في مصر فيأتي وَإِنْ وُجِدَتْ فِي صَحْرَاءَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَصِلُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَاءِ وَالرَّعْيِ وَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ صِغَارَ السِّبَاعِ(8/5)
إِمَّا لِقُوَّةِ جِسْمِهِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ والحمير وأما لبعد أثره كالغزال والأرانب والطير فبهذا النَّوْعِ لَا يَجُوزُ لِوَاجِدِهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَخْذِهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَالِكَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ضوال الإبل مالك وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ ذَرْهَا حَتَّى تَلْقَى رَبَّهَا، وَلِأَنَّهَا تَحْفَظُ أَنْفُسَهَا فَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا حَظٌّ فِي أَخْذِهَا، فَإِنْ أَخَذَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا لُقَطَةً لِيَمْتَلِكَهَا إِنْ لَمْ يأتي صَاحِبُهَا فَهَذَا مُتَعَدٍّ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا فَإِنْ أَرْسَلَهَا لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ قَدْ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ بِنَاءً عَلَى مَنْ تَعَدَّى فِي وَدِيعَةٍ ثُمَّ كَفَّ عَنِ التَّعَدِّي فَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ وَعِنْدَنَا لَا يَسْقُطُ فَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهَا وَلَكِنْ دَفَعَهَا إِلَى مَالِكِهَا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهَا بِأَدَائِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا وَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَالِكِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ لِأَنَّ الْحَاكِمَ نَائِبٌ عَمَّنْ غَابَ وَالثَّانِي لَا يَسْقُطُ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ لِحَاضِرٍ لَا يولى عليه.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَلَّا يَأْخُذَهَا لُقَطَةً وَلَكِنْ يَأْخُذُهَا حِفْظًا عَلَى مَالِكِهَا فَإِنْ كَانَ عَارِفًا بِمَالِكِهَا لَمْ يَضْمَنْ وَيَدُهُ يَدُ أَمَانَةٍ حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ لِلْمَالِكِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ لِأَنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَائِبٍ فَإِنْ كَانَ وَالِيًا كَالْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ لَهُ حَظِيرَةٌ يَحْظُرُ فِيهَا ضَوَالَّ الْإِبِلِ فَهَذَا حُكْمُ أَحَدِ الضَّرْبَيْنِ.
فَصْلٌ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَعْجِزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاءِ وَالرَّعْيِ كَالْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ فَلَوْ أَخَذَهُ فَأَكَلَهُ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا فَعَلَيْهِ غُرْمُهُ لِمَالِكِهِ إِنْ وَجَدَهُ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ هُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَيَأْكُلُهُ أَكْلَ إِبَاحَةٍ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ فِي اسْتِهْلَاكِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا اسْتَهْلَكَهُ الذِّئْبُ هَدَرٌ لَا يُضْمَنُ وَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ حُكْمِ الْأَخْذِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ وَلِأَنَّ مَا اسْتَبَاحَ أَخْذَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْرِيفُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُهُ كَالدَّرَاهِمِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا مَعَ بقائها فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غُرْمُهَا عِنْدَ اسْتِهْلَاكِهَا قِيَاسًا عَلَى اللُّقَطَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَلِأَنَّهَا ضَالَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ تُضْمَنَ بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالْإِبِلِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ " فَهُوَ أَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَخْذِ وَجَوَازِ الْأَكْلِ دُونَ الْغُرْمِ وَأَمَّا الرِّكَازُ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ رَدُّهُ فَلِذَلِكَ سَقَطَ غُرْمُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّاةُ لِأَنَّ رَدَّهَا وَاجِبٌ فَصَارَ غُرْمُهَا وَاجِبًا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَخْذِ الشَّاةِ وَمَا لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِبَاحَةِ أَكْلِهِ وَوُجُوبِ غرمه(8/6)
فَكَذَلِكَ صِغَارُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ عَنْ أَنْفُسِهَا كَالْغَنَمِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ وَاجِدِ الشَّاةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْكُلَهَا فَيَلْزَمَهُ غُرْمُ ثَمَنِهَا قَبْلَ الذَّبْحِ عِنْدَ الْأَخْذِ فِي اسْتِهْلَاكِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مُبَاحًا لَا يَأْثَمُ بِهِ وَإِنْ غُرِمَ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لِيَسْتَبْقِيَهَا حَيَّةً لِدَرٍّ أَوْ نَسْلٍ فَذَلِكَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَبَاحَ تَمَلُّكَهَا مَعَ اسْتِهْلَاكِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَسْتَبِيحَ تَمَلُّكَهَا مَعَ اسْتِبْقَائِهَا ثُمَّ فِي صِحَّةِ ضَمَانِهَا وَجْهَانِ كَالْعَارِيَةِ مَخْرَجًا وَفِي اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي ضَمَانِ الصَّدَاقِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَمْلِكُهَا فِيهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا أكثر ما كانت من حين وقت التملك إِلَى وَقْتِ التَّلَفِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ وَقَدْ أَخَذَ الْوَاجِدُ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا كَانَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ لِلْوَاجِدِ لِحُدُوثِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَلِلْمَالِكِ أن يرجع بها دون قيمتها فإن بذلك لَهُ الْوَاجِدُ قِيمَتَهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَخْذِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ فَلَوْ كَانَتِ الشَّاةُ حِينَ رَجَعَ الْمَالِكُ بِهَا زَائِدَةً فِي بَدَنِهَا أَوْ قِيمَتِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاجِدِ حَقٌّ فِي الزِّيَادَةِ وَكَانَتْ لِلْمَالِكِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ وَلَوْ كَانَتْ نَاقِصَةً رَجَعَ الْمَالِكُ بِنَقْصِهَا عَلَى الْوَاجِدِ، لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالتَّلَفِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالنَّقْصِ.
فَصْلٌ:
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا فَذَلِكَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَأَوْلَى أَنْ يَحْفَظَهَا لِصَاحِبِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُهَا لِأَنَّ مَا جَازَ تَمَلُّكُهُ سَقَطَ تَعْرِيفُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ إِخْبَارُ الْحَاكِمِ بِهَا وَلَا الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا بَلْ إِذَا وَجَدَ صَاحِبَهَا سَلَّمَهَا إِلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مُدَّةَ إِمْسَاكِهَا لِصَاحِبِهَا لَوْ تَلَفَتَ أَوْ نَقَصَتْ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ كَالْمُعَرِّفِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَجْهًا آخَرَ إِنَّهُ يَضْمَنُهَا لِأَنَّ إِبَاحَةَ أَخْذِهَا مَقْصُورٌ عَلَى الْأَكْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ دُونَ الِائْتِمَانِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا حَدَثَ مَنْ دَرِّهَا وَلَبَنِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ لَا يَضْمَنُهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَضْمَنُهُ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مُؤْنَةِ عُلُوفَتِهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ حِمًى لِلْمُسْلِمِينَ تَرْعَى فِيهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالنَّفَقَةِ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ الْحِمَى فَإِنْ كَانَ عَنْ إِذْنِ الْحَاكِمِ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ، وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ أَشْهَدَ فَفِي رُجُوعِهِ بِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ لِلضَّرُورَةِ، وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِئَلَّا يَكُونَ حَاكِمَ نَفْسِهِ. فَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ إِمْسَاكِهَا أَمَانَةً أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَهُ ذَلِكَ كَالِابْتِدَاءِ وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَ دَرَّهَا وَنَسْلَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَصْلَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّهُ فَرْعٌ يَتْبَعُ أَصْلَهُ فَلَوْ أَرْسَلَهَا بَعْدَ إِمْسَاكِهَا أَمَانَةً لَزِمَهُ الضَّمَانُ إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى حَاكِمٍ فَلَا يَضْمَنُ وَلَوْ نَوَى تَمَلُّكَهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ مِلْكَهُ عَنْهَا لِتَكُونَ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهَا، وَفِي ارْتِفَاعِ مِلْكِهِ عَنْهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَرْتَفِعُ مِلْكُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَزُولُ إِلَّا بِقَبُولِ الْمُتَمَلِّكِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَالِكًا لِمَا حَدَثَ مِنْ دَرِّهَا وَلَبَنِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي يَرْتَفِعُ مِلْكُهُ عَنْهَا مَعَ بَقَاءِ ضَمَانِهَا وَذَلِكَ أَحْوَطُ لِمَالِكِهَا فَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أن(8/7)
يَتَمَلَّكَهَا مِنْ غَيْرِ بَذْلِ مَالِكِهَا جَازَ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ قَبُولِ مُتَمَلِّكِهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحَادِثُ مَنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا مِلْكًا لِرَبِّهَا تَبَعًا لِأَصْلِهَا وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ كَالْأَصْلِ.
فصل:
والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يُرِيدَ بَيْعَهَا فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، فَذَلِكَ لَهُ كَمَا لَوْ أَكَلَهَا وَيَكُونُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهَا دُونَ ثَمَنِهَا، لِأَنَّهُ بَاعَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ. فَلَوْ جَاءَ صَاحِبُهَا بَعْدَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي رَقَبَتِهَا حَقٌّ لِنُفُوذِ الْبَيْعِ وَرَجَعَ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْوَاجِدِ. فَلَوْ كَانَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ بَاقِيًا فَأَرَادَ الْمَالِكُ أَنْ يَفْسَخَ وَأَرَادَ الْبَائِعُ الْإِمْضَاءَ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الْفَسْخِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الرُّجُوعَ بِعَيْنِ مَالِهِ مَعَ بَقَائِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي الْإِمْضَاءِ لِأَنَّ خِيَارَ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّهُ الْعَاقِدُ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا أَمْضَى غَرِمَ الْقِيمَةَ دُونَ الثَّمَنِ وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهَا لِمَالِكِهَا جَازَ إِنْ كان البيع أحظ من الاستبقاء لِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ هُوَ الْمُتَوَلِّي لِبَيْعِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ بِخِلَافِ مَنْ أَرَادَ بَيْعَ مَالِ غَرِيمٍ جَاحِدٍ فَيَسْتَوْفِي مِنْهُ قَدْرَ دِينِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَبِيعُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَمُنِعَ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهَذَا يَبِيعُهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ فَجَازَ كَالْوَكِيلِ فَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكُ الْفَسْخَ فِي خِيَارِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّهُ وَجْهًا وَاحِدًا لِبَيْعِهَا فِي حَقِّهِ. فَلَوْ أَرَادَ بَعْدَ بَيْعِهَا لِمَالِكِهَا أَنْ يَتَمَلَّكَ ثَمَنَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَجْهًا وَاحِدًا: بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِعَيْنِهَا بَعْدَ إِمْسَاكِهَا أَمَانَةً فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ قَدْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الضَّوَالِّ وَلَمْ تَخْرُجْ هِيَ مَعَ بَقَائِهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ ضَالَّةً.
فَلَوْ كَانَتِ الضَّالَّةُ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَكَالْبَعِيرِ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَخْذِهِ وَإِنْ كان صغيرا كالشاة يأخذه ويملكه إِنْ شَاءَ وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً صَغِيرَةً فَفِي جَوَازِ تَمَلُّكِهِ لَهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ كَالْعَبْدِ الصَّغِيرِ وَالثَّانِي لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ قَرْضُ الْإِمَاءِ وَإِنْ جَازَ قَرْضُ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْجٍ فَكَانَ حُكْمُهَا أَغْلَظُ فَعَلَى هَذَا تُبَاعُ عَلَى مَالِكِهَا إِنْ كَانَ الْبَيْعُ أَحَظَّ. ثُمَّ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَتَمَلَّكَ ثَمَنَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْأَصْلِ وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَصْلِ مَفْقُودٌ فِي الثَّمَنِ. فَلَوْ كَانَ عَبْدًا فَبَاعَهُ الْوَاجِدُ لَهُ ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ قَالَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ إِنْ طَلَبَهَا الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي مِلْكٍ لَمْ يَزُلْ قَالَ الرَّبِيعُ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّ بَيْعَ الْوَاجِدِ كَبَيْعِهِ فِي اللُّزُومِ: فَعَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ يَكُونُ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَيَصِيرُ الْعَبْدُ حُرًّا وَيَلْزَمُ بَائِعُهُ الْوَاجِدُ أَنْ يَرُدَّ ثَمَنَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ بَاعَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ أَوْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِدُ قَدْ بَاعَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ وَضَاعَ الثَّمَنُ مِنْ يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَلَى الْوَاجِدِ الْقَابِضِ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ بِثَمَنِ مَا قَدْ حَكَمَ بِنُفُوذِ عِتْقِهِ، فَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي خَرَّجَهُ الرَّبِيعُ أَنَّ قَوْلَ الْمَالِكِ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ(8/8)
فَيَكُونُ الْبَيْعُ نَافِذًا إِنْ حَلَفَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ وَالْعَبْدُ عَلَى رِقِّهِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ قَدْ بَاعَهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ مَا لَمْ يَصْدُقِ المالك ولا يلزمه غرم القيمة لا دعاء الْمَالِكِ حُرِّيَّتَهُ الَّتِي يَسْقُطُ مَعَهَا اسْتِحْقَاقُ قِيمَتِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ قَدْ بَاعَهُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ كَانَ الثَّمَنُ مَوْقُوفًا فِي يَدَيْهِ بَيْنَ المشتري والمالك فإن عَادَ الْمُشْتَرِي فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأَقَرَّ بِالْعِتْقِ فَلَهُ اسْتِرْجَاعُ الثَّمَنِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ، وَإِنَّ عَادَ الْمَالِكُ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأَقَرَّ بِبَقَاءِ الرِّقِّ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي تَمَلُّكِ الثَّمَنِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي مِلْكِ الثَّمَنِ كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي اسْتِرْقَاقِ مَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي تَمَلُّكِ الثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي اسْتِرْقَاقِ مَا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ عَلَى الثَّمَنِ وَزَوَالِهِ عَنِ الْحُرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ: من ينتفع باللقطة.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَأْكُلُ اللُّقَطَةَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَمَنْ تَحِلُّ لَهُ الصدقة وتحرم عليه قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبي بن كعب رضي الله عنه وهو من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم وجد صرة فيها ثمانون دينارا أن يأكلها وأن عليا رضي الله عنه ذكر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه وجد دينارا فأمره أن يعرفه فلم يعرف فأمره النبي بأكله فلما جاء صاحبه أمره بدفعه إليه وعلي رضي الله عنه ممن تحرم عليه الصدقة لأنه من صلبية بني هاشم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ لِوَاجِدِ اللُّقَطَةِ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا حَوْلًا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَيَأْكُلَهَا غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فَقِيرًا وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ غَنِيًّا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِيهَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا أَبَدًا كَالْوَدِيعَةِ وَإِمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَأَمْضَى صَدَقَتَهُ فَلَهُ ثَوَابُهَا وَلَا غُرْمَ عَلَى الْوَاجِدِ وَإِنْ لَمْ يُمْضِ الصَّدَقَةَ فَثَوَابُهَا لِلْوَاجِدِ وَعَلَيْهِ غُرْمُهَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا " وَهَذَا نَصٌّ قَالَ وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ حَالُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ كَالزَّكَاةِ وَلِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَحِلَّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ اللُّقَطَةِ وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِوَاجِدِ اللُّقَطَةِ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَرُوِيَ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَجَدَ صُرَّةً فِيهَا ثَمَانُونَ دِينَارًا وَرُوِيَ مِائَةُ دِينَارٍ فَأَخْبَرَ بِهَا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا " قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأُبَيٌّ مِنْ أَيْسَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ كَانَ أَيْسَرَهُمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا لَصَارَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا(8/9)
مِنْهَا مُوسِرًا عَلَى قَوْلِ أبي حنيفة فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهَا وَأَنَّ الْغَنِيَّ لَا يُمْنَعُ مِنْهَا وَرَوَى عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه وَجَدَ دِينَارًا فَأَتَى بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَجَدْتُ هَذَا الدِّينَارَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرِّفْهُ ثَلَاثًا فَعَرَّفَهُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهُ فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: كُلْهُ أَوْ سَائِلْ بِهِ فَابْتَاعَ مِنْهُ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ شَعِيرًا وَبِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ تَمْرًا وَقَضَى عَنْهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَابْتَاعَ بِدِرْهَمٍ لَحْمَا وَبَدِرْهَمٍ زَيْتًا وَكَانَ الصَّرْفُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ حَتَّى إِذَا أَكَلَهُ جَاءَ صَاحِبُ الدِّينَارِ يَتَعَرَّفُهُ فَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَكْلِهِ فَانْطَلَقَ صَاحِبُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا جَاءَنَا شَيْءٌ أَدَّيْنَاهُ إِلَيْكَ " وَكَانَ صَاحِبُ الدِّينَارِ يَهُودِيًّا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَعَلِيٌّ مِمَّنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ لِأَنَّهُ مِنْ طِينَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَلَوْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ تُسْتَبَاحُ بِالْفَقْرِ دُونَ الْغِنَى لَحَظَرَهَا عَلَيْهِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِقَاطِ جَازَ أَنْ يَرْتَفِقَ بِالْأَكْلِ وَالتَّمَلُّكِ كَالْفَقِيرِ وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْفَقِيرِ فِي اللُّقَطَةِ ثَبَتَ لِلْغَنِيِّ كَالنُّسُكِ وَالصَّدَقَةِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا اسْتَبَاحَ الْفَقِيرُ إِتْلَافَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ اسْتَبَاحَ الْغَنِيُّ إِتْلَافَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ كَالْقَرْضِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ طَعَامُ الْمُضْطَرِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ وَقَدْ جَعَلَ الْمُضْطَرَّ أَصْلًا فَيَقُولُ كُلُّ ارْتِفَاقٍ بِمَالِ الْغَيْرِ إِذَا كَانَ مَضْمُونًا اسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ لِلْمُضْطَرِّ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتَبَاحَ إِتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ لِمَعْنًى فِي الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ كَالنَّحْلِ الصَّائِلِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا اسْتُبِيحَ تَنَاوُلُهُ عِنْدَ الْإِيَاسِ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ مَالِكِهِ اسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ كَالرِّكَازِ وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ اللُّقَطَةِ فِي يَدِ وَاجِدِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَغْصُوبِ فَيَجِبُ انْتِزَاعُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَهُ مِنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ أَوْ فِي حُكْمِ الْوَدَائِعِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَقِيرٌ وَلَا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا غَنِيٌّ أَوْ حُكْمِ الْكَسْبِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ. وَمَذْهَبُ أبي حنيفة فِيهَا مُخَالِفٌ لِأُصُولِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ فَاسِدًا.
ثُمَّ يُقَالُ لأبي حنيفة، الثَّوَابُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَقَاصِدِ بِالْأَعْمَالِ لَا عَلَى أَعْيَانِ الْأَفْعَالِ لِأَنَّ صُوَرَهَا فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى سَوَاءٍ كَالْمُرَائِي بِصَلَاتِهِ ثُمَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ الْعَمَلِ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِ الْعَامِلِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَإِحْبَاطِهِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَصَدَّقْ بِهَا " فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَذِنَ لَهُ فِيهِ.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَلَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللُّقَطَةِ لِأَنَّ الزكاة تملك غير مضمون ببدل واللقطة تأخذ مَضْمُونَةً بِبَدَلٍ فَكَانَ الْغَنِيُّ أَحَقَّ بِتَمَلُّكِهَا لِأَنَّهُ أَوْفَى ذِمَّةً وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُضْطَرِّ فَقَدْ جَعَلْنَاهُ أَصْلًا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ تَرْكَ لُقَطَةٍ وَجَدَهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ هَا هُنَا وَلَا أُحِبُّ تَرْكَ اللقطة يقتضي(8/10)
اسْتِحْبَابَ أَخْذِهَا دُونَ إِيجَابِهِ وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَرْكَ اللُّقَطَةِ إِذَا وَجَدَهَا فَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ يَدُلُّ عَلَى إيجاب أخذها فاختلف أصحابنا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَطَائِفَةٌ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَخْذَهَا اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى ظَاهِرِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهَا وَلَا مُسْتَوْدِعٌ لَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَخْذَهَا وَاجِبٌ وَتَرْكَهَا مَأْثَمٌ لِأَنَّهُ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ حِرَاسَةُ نَفْسِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَجَبَ عَلَيْهِ حِرَاسَةُ مَالِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَأْخُذُهَا إِذَا كَانَتْ تُؤْمَنُ عَلَيْهَا وَيَأْخُذُهَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهَا وَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَخْذَهَا إِذَا كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا وَيَأْخُذُهَا غَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التعاون وعلى كلا الحالتين لَا يُكْرَهُ لَهُ أَخْذُهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا أخذها وروي أن شريح مَرَّ بِدِرْهَمٍ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَفِي هَذَا الْقَوْلِ إِبْطَالُ التَّعَاوُنِ وَقَطْعُ الْمَعْرُوفِ وَقَدْ أَخَذَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الصُّرَّةَ الَّتِي وَجَدَهَا وَأَخَذَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الدِّينَارَ وَأَخْبَرَا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَلَا كَرِهَهُ لَهُمَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ فِيمَنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا أَوْ ضَعِيفًا عَنِ الْقِيَامِ بِهَا وَنَحْنُ نَكْرَهُ لِغَيْرِ الْأَمِينِ عَلَيْهَا وَلِلضَّعِيفِ عَنِ الْقِيَامِ بِهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِأَخْذِهَا وَإِنَّمَا نَأْمُرُ بِهِ مَنْ كَانَ أَمِينًا قَوِيًّا فَلَوْ تَرَكَهَا الْقَوِيُّ الْأَمِينُ حَتَّى هَلَكَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسَاءَ فَإِنْ أَخَذَهَا لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِهَا وَإِنْ تَرَكَهَا بَعْدَ الْأَخْذِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ وَلَوْ رَدَّهَا عَلَى الْحَاكِمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الضَّوَالِّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ الضَّوَالِّ فَضَمِنَهَا وَغَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ أَخْذِ اللُّقَطَةِ فَلَمْ يضمنها.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَعَرَّفَهَا سَنَةً عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ الْعَامَّةِ وَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ فِي الْجُمُعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهَا فَيَعْرِفُ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوَزْنَهَا وَحِلْيَتَهَا وَيَكْتُبُهَا وَيُشْهِدُ عَلَيْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَاجِدُ اللُّقَطَةِ وَإِنْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَخْذِهَا فَعَلَيْهِ بَعْدَ الْأَخْذِ الْقِيَامُ بِهَا وَالْتِزَامُ الشُّرُوطِ فِي حِفْظِهَا عَلَى مَالِكِهَا وَالشُّرُوطِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا أَخْذُ اللُّقَطَةِ سَبْعَةُ أَشْيَاءٍ جَاءَ النَّصُّ بِبَعْضِهَا وَالتَّنْبِيهُ عَلَى بَاقِيهَا.
أَحَدُهَا مَعْرِفَةُ عِفَاصِهَا وَهُوَ ظَرْفُهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ عند التقاطها.
والشرط التالي معرفة وكاءها وَهُوَ الْخَيْطُ الْمَشْدُودَةُ بِهِ وَبِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ جَاءَ النَّصُّ وَلِأَنَّهَا تَتَمَيَّزُ بِمَعْرِفَةِ هَذَيْنِ عَنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ فَيَأْمَنُ اخْتِلَاطَهَا بِهَا.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ مَعْرِفَةُ عَدَدِهَا تَنْبِيهًا بِالنَّصِّ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ عَدَدِهَا أَحْوَطُ مِنْ تَمَيُّزِهَا عَنِ الظَّرْفِ لِأَنَّ الظَّرْفَ قَدْ يشتبه.(8/11)
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ مَعْرِفَةُ وَزْنِهَا لِيَصِيرَ بِهِ مَعْلُومًا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِهِ أَنَّهُ وَجَبَ غُرْمُهَا.
وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ أَوْصَافِهَا كِتَابًا وَأَنَّهُ الْتَقَطَهَا مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ ذَكَرَ الْمَكَانَ وَالزَّمَانَ مِمَّا يَذْكُرُهُ الطَّالِبُ مِنْ أَوْصَافِهَا.
وَالشَّرْطُ السَّادِسُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَا شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ لِيَكُونَ وَثِيقَةً عَلَيْهِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ طَمَعِهِ فِيهَا وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا مَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ وَارِثُهُ بِهَا أَوْ غُرَمَاؤُهُ وَلِئَلَّا يَحْدُثَ مِنَ الْوَرَثَةِ طَمَعٌ. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ لِوَاجِدِ اللُّقَطَةِ وَأَشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ.
وَالشَّرْطُ السَّابِعُ أَنْ يُعَرِّفَهَا لِأَمْرِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - به لِوَاجِدِهَا وَلِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى عِلْمِ مَالِكِهَا إِلَّا بِالتَّعْرِيفِ لَهَا فَإِذَا أَكْمَلَ حَالَ هَذِهِ الشُّرُوطِ السَّبْعَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ صِفَةِ التَّعْرِيفِ فَقَدْ أَقَامَ بِحُقُوقِهَا. وَرُبَّمَا اسْتَغْنَى عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي بَعْضِ اللُّقَطَةِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَجَدَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا فَلَا يَكُونُ لَهُ عِفَاصٌ وَلَا وِكَاءٌ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ شَرْطَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِمَا تَمْيِيزُهَا عَنْ أَمْوَالِهِ كُلِّهَا بِأَيِّ وَجْهٍ تَمَيَّزَتْ بِهِ سَوَاءٌ احْتَاجَ مَعَهُ إِلَى مَعْرِفَةِ عِفَاصٍ وَوِكَاءٍ أَوْ لَمْ يَحْتَجْ وَالثَّانِي التَّعْرِيفُ الَّذِي بِهِ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَالِكِ وَإِعْلَامِهِ. وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَالْإِشْهَادُ عَلَيْهَا. وَلِأَصْحَابِنَا فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى اللُّقَطَةِ وَالْمَلْقُوطِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِمَا وَاجِبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَثِيقَةِ وَفِي تَرْكِهِ مِنَ التَّغْرِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِمَا مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّ الْوَاجِدَ مُؤْتَمَنٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ كَالْوَصِيِّ وَالْمُودِعِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ وَاجِبٌ وَالْإِشْهَادُ عَلَى أَخْذِ اللُّقَطَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللُّقَطَةَ كَسْبُ مَالٍ فَكَانَ أَمْرُهَا أَخَفَّ وَاللَّقِيطُ يَتَعَلَّقُ بِهِ نَسَبٌ وَإِثْبَاتُ حُرِّيَّةٍ فَكَانَ أَمْرُهُ أَغْلَظَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ لَمَّا كَانَ اكْتِسَابَ مَالٍ لَمْ يَجِبْ فيه الشهادة ولما كان النكاح مفضي إِلَى إِثْبَاتِ نَسَبٍ وَجَبَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ شُرُوطِهَا فَسَنَشْرَحُ حَالَ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ التَّعْرِيفُ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ.
وَالثَّانِي: فِي مَكَانِ التَّعْرِيفِ.
وَالثَّالِثُ: فِي صفة التَّعْرِيفِ. فَأَمَّا مُدَّةُ التَّعْرِيفِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وَمَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُعَرِّفُهَا حَوْلًا كاملا ولا يلزمه الزيادة عليه ولا يجز به النُّقْصَانُ عَنْهُ وَقَالَ شَاذٌّ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ لَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنْهَا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ وَاجِدَ اللُّقَطَةِ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلًا وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا شَهْرًا وَاحِدًا وَرَوَى فِي ذَلِكَ خَبَرًا. وَقَالَ آخَرُ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهَا ثَلَاثًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَعْرِيفِهَا حَوْلًا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا وَحَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهَا حَوْلًا.(8/12)
وَلِأَنَّ الْحَوْلَ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الزَّكَاةِ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي اللُّقَطَةِ وَلِأَنَّ الْحَوْلَ جَمِيعُ فُصُولِ الْأَزْمِنَةِ الْأَرْبَعَةِ وَيَنْتَهِي إِلَى مِثْلِ زَمَانِ وُجُودِهَا فَكَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ تَقْصِيرًا وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ. فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمره أن يعرفها حولا ثم حولا ثمحولا فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنِ اخْتَارَ ذَلِكَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْجَوَازِ دُونَ الْوُجُوبِ. وَالثَّانِي: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلًا فَكَانَ الْحَوْلُ وَاحِدًا وَالْأَمْرُ بِهِ ثَلَاثًا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَحْمَدَ عَلَى الشَّهْرِ بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهِ شَهْرٌ. وَأَمَّا مَنِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ أَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يُعَرِّفَهُ ثَلَاثًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ ثَلَاثًا بِالتَّعْرِيفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهِ بِنَفْسِهِ ثَلَاثًا لِيَسْتَكْمِلَ غَيْرُهُ مُدَّةَ التَّعْرِيفِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ مِنْ ضَرُورَتِهِ مَا أَبَاحَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِ أَجَلِهِ فَإِنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَسْتَبِيحَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ مَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرُورَةَ وَقْتِهِ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ حَيْثُ قَالَ:
(إِذَا صَادَفَ الْمَلِكَ دِينَارٌ ... وَقَدْ حَلَّتْ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ اللُّقَطْ)
(دِينَارُكَ اللَّهُ تَوَلَّى نَقْشَهُ ... كَذَلِكَ الْحِنْطَةُ مِنْ خَيْرِ الْحِنَطْ)
فَإِذَا وَجَبَ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا بِمَا ذَكَرْنَا فَأَوَّلُ وَقْتِ الْحَوْلِ مِنِ ابْتِدَاءِ التَّعْرِيفِ لَا مِنْ وَقْتِ الْوُجُودِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِيمَ تَعْرِيفَهَا فِي جَمِيعِ نَهَارِهِ وَلَكِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَشِيعَ أَمْرَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَا سِيَّمَا فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ وَأَوَّلِهِ ثُمَّ يَصِيرُ التَّعْرِيفُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى يَصِيرَ فِي الْأُسْبُوعِ مَرَّةً لَا يُقَصِّرُ عَنْهَا فَلَوْ عَرَّفَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْ تَعْرِيفِهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَوْفٍ لِمُدَّةِ التَّعْرِيفِ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى لِيَسْتَكْمِلَ الْحَوْلَ فِي تَعْرِيفِهَا ثُمَّ يَنْظُرَ حَالَهُ عِنْدَ إِمْسَاكِهِ لَهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ تَعْرِيفِهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى تَمَلُّكَهَا فَقَدْ ضَمِنَهَا وَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ تَمَلُّكَهَا فَهَلْ يَصِيرُ ضَامِنًا لَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَدْ ضَمِنَهَا لِأَنَّ إِمْسَاكَهُ عَنِ التَّعْرِيفِ تَقْصِيرٌ وَالثَّانِي: لَا يُضَمِّنُهَا لِأَنَّ إِتْيَانَهُ بِالتَّعْرِيفِ يُوجِبُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءَ جَمِيعِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَقْصِيرًا وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا مَكَانُ التَّعْرِيفِ فَفِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَمَحَافِلِهِمْ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ وَإِنْ وَجَدَهَا وَاجِدُهَا فِي صَحْرَاءَ قفرا أو على حادتها مِنَ الْبِلَادِ الْمُقَارِبَةِ لَهَا، وَلْيَكُنْ تَعْرِيفُهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فَقَدْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّتَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاشِدُ غَيْرُكَ الْوَاجِدُ وَلْيُكْثِرْ مِنْ تَعْرِيفِهَا فِي مَحَاطِّ الرِّجَالِ وَمُنَاخِ الْأَسْفَارِ وَفِي الْأَسْوَاقِ فَأَمَّا الضَّوَاحِي الْخَالِيَةُ فَلَا يَكُونُ إِنْشَادُهَا فِيهِ تَعْرِيفًا.
وَرَوَى الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ وَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهَا فِي الْجُمُعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهِ. وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنْ أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهَا فَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَنْسِبُ المزني(8/13)
إِلَى الْغَلَطِ فِي رِوَايَتِهِ وَأَنَّ الْأَصَحَّ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْأَيَّامِ فِي التَّعْرِيفِ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِتَعْرِيفِهَا فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَصَابَهَا فِيهِ لِأَنَّ مَنْ ضَاعَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي جَمَاعَةٍ فَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ يُلَازِمُ طَلَبَهُ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَةِ. وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِنَّ كلا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ وَلَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِ رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِكَثْرَةِ التَّعْرِيفِ فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْأَيَّامِ لِاجْتِمَاعِ الْأَبَاعِدِ فِيهِ وإشهار مَا يَكُونُ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ رِوَايَةَ الْمُزَنِيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِدَ أَصَابَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ لَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهَا رُبَّمَا سَقَطَتْ مِمَّنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ إِلَّا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ وَجَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ فَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ لَهَا فِي تِلْكَ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهَا الْأَغْلَبُ مِنْ بِقَاعِ طَالِبِهَا.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا صِفَةُ التَّعْرِيفِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إما أن يقول من ضاع من شَيْءٌ وَلَا يَذْكُرُ جِنْسَهُ وَهَذَا أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يُذْكَرَ الْجِنْسُ فَيَقُولُ مَنْ ضَاعَتْ مِنْهُ دَرَاهِمُ أَوْ مَنْ ضَاعَتْ مِنْهُ دَنَانِيرُ وَلَا يَصِفُهَا بِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا فَيُنَازَعُ فِيهَا فَإِنْ وَصَفَهَا بِجَمِيعِ أَوْصَافِهَا مِنَ الْعَدَدِ وَالْوَزْنِ وَذِكْرِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا لَا تُدْفَعُ إِلَى الطَّالِبِ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى دَفْعَهَا بِالصِّفَةِ فَإِذَا سَمِعَهَا بِالتَّعْرِيفِ مَنْ تَقِلُّ أَمَانَتَهُ أَسْرَعَ إِلَى ادِّعَائِهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُعَرِّفُ لَهَا مَأْمُونًا غَيْرَ مَشْهُورٍ بالخلاعة والمزاح حَتَّى لَا يُنْسَبَ عِنْدَ التَّعْرِيفِ إِلَى الْكَذِبِ وَالْمُجُونِ فَإِنْ وَجَدَ مُتَطَوِّعًا بِالتَّعْرِيفِ فَهُوَ أَوْلَى وإن لم يجد إلا مستجعلا فَإِنْ تَطَوَّعَ الْوَاجِدُ بِبَدَلٍ جَعَلَهُ مِنْ مَالِهِ كان محسنا وإن دفعه دينا عل صَاحِبِهَا اسْتَأْذَنَ فِيهِ حَاكِمًا لِيَصِحَّ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ وَأَشْهَدَ بِالرُّجُوعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ.
وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ ضَاعَتِ اللُّقَطَةُ مِنَ الْوَاجِدِ لَهَا فَالْتَقَطَهَا آخَرُ ثُمَّ عَلِمَ الواجد الأول بها فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَمَلَّكَهَا الْأَوَّلُ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ تَعْرِيفِهَا حَوْلًا فَالْمُلْتَقِطُ الْأَوَّلُ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الثَّانِي لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ الْأَوَّلِ لِتَعْرِيفِهَا حَوْلًا فَفِي أَحَقِّهِمَا بِهَا وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ:
أَحَدُهُمَا: الْأَوَّلُ لِتَقَدُّمِ يَدِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الثاني أحق بها لثبوت يده.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَهُ بَعْدَ سَنَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَتَى جَاءَ صَاحِبُهَا فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ غَرِيمٌ إِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اسْتَكْمَلَ تَعْرِيفَهَا حَوْلًا كَانَ بَعْدَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً وَبَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ لِيَحْفَظَهَا عَلَى مَالِكِهَا بِأَنْ يَضَعَهَا فِي بَيْتِ(8/14)
الْمَالِ أَوْ عَلَى يَدِ أَمِينٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَجُوزُ لِلْوَاجِدِ بَعْدَ تَعْرِيفِ الْحَوْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ غَنِيًّا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَمْ يَجُزْ لِعَجْزِ الْفَقِيرِ عَنِ الْغُرْمِ وَقُدْرَةِ الْغَنِيِّ عَلَيْهِ وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا دُونَ الْغَنِيِّ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ وَقَدْ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَتَمَلَّكَ الدِّينَارَ وَهُوَ لَا يَجِدُ غُرْمَهُ حَتَّى غَرِمَهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَذِنَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنْ يَتَمَلَّكَ الصُّرَّةَ وَهُوَ غَنِيٌّ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ أبي حنيفة، وَلِأَنَّ الْوَاجِدَ لَوْ مُنِعَ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ تَمَلُّكِهَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا يَرْغَبَ الْوَاجِدُ فِي أَخْذِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدْخُلَ الْمَشَقَّةُ عَلَيْهِ فِي اسْتِدَامَةِ إِمْسَاكِهَا فَكَانَ إِبَاحَةُ التَّمْلِيكِ لَهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَحَثُّ عَلَى أَخْذِهَا وَأَحْفَظُ عَلَى مَالِكِهَا لِثُبُوتِ غُرْمِهَا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَكُونُ مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ وَلِيَكُونَ ارْتِفَاقُ الْوَاجِدِ بِمَنْفَعَتِهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا عَانَاهُ فِي حِفْظِهَا وَتَعْرِيفِهَا وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَانٍ اسْتَوَى فِيهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ.
ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي أَخْذِهَا لِلتَّعْرِيفِ وَتَمَلُّكِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ لِأَنَّهَا كَسْبٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا حَقَّ لِلذِّمِّيِّ فِيهَا فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهَا وَتَمَلُّكِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّعْرِيفِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى مُسْلِمٍ وَلَا مِمَّنْ يَمْلِكُ مَرَافِقَ دَارِ الْإِسْلَامِ كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ تَمَلُّكِهَا بَعْدَ الْحَوْلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا يَصِيرُ مَالِكًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مَالِكًا لَهَا بِمُضِيِّ الْحَوْلِ وَحْدَهُ إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً فَلَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ كَسْبٌ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَأَشْبَهَ الرِّكَازَ وَالِاصْطِيَادَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنه يملكها بعض مُضِيِّ الْحَوْلِ بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ التَّمَلُّكَ لَمْ يَمْلِكْ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " فَرَدَّ أَمْرَهَا إِلَى اخْتِيَارِهِ وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّمَلُّكُ بَعْدَ الْحَوْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا فَاقْتَضَى أَلَّا يَنْتَقِلَ عَنْ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِ مَا أُبِيحَ لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ وَالتَّصَرُّفِ وَهُوَ مَا لَمْ يَتَصَرَّفْ غَيْرُ مَالِكٍ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ مِنْهُ كَالْقَبْضِ فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا صَارَ مَالِكُهَا كَمَا ذَكَرْنَا فَقَدْ ضَمِنَهَا لِصَاحِبِهَا فَمَنْ جَاءَ طَالِبًا لَهَا رَجَعَ بِهَا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً وَلَيْسَ لِلْمُتَمَلِّكِ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ مَعَ بَقَائِهَا إِلَى بَدَلِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً رَجَعَ بِبَدَلِهَا فَإِنْ كَانَتْ ذَا مَثَلٍ رَجَعَ بِمِثْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذِي مَثَلٍ رَجَعَ بِقِيمَتِهَا حِينَ تَمَلَّكَهَا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ صَارَ ضَامِنًا لَهَا فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُتَمَلِّكِهَا لِأَنَّهُ غَارِمٌ فَلَوْ كَانَتْ عِنْدَ مَجِيءِ صَاحِبِهَا بَاقِيَةً بِعَيْنِهَا لَكِنْ قَدْ حَدَثَ فِيهَا نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ رَجَعَ بِالْأَصْلِ دُونَ النَّمَاءِ لِحُدُوثِ النَّمَاءِ عَلَى مِلْكِ الْوَاجِدِ فَلَوْ عَرَفَ الْوَاجِدُ صَاحِبَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِعْلَامُهُ بِهَا ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَلُّكِهَا فَمُؤْنَةُ رَدِّهَا عَلَى صَاحِبِهَا دُونَ الْوَاجِدِ كَالْوَدِيعَةِ فَإِنْ كَانَ قَصَدَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْوَاجِدُ فمؤنة(8/15)
رَدِّهَا عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ مَا لَمْ تَصِلْ إِلَى يَدِ صَاحِبِهَا وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ إِذَا تَمَلَّكَ الْوَاجِدُ اللُّقَطَةَ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهَا وَلَكِنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا بَعْدَ التَّمَلُّكِ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بِعَيْنِهَا.
اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا " وروي " إلا فَهِيَ لَكَ " فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ بَدَلًا وَلِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ كَالرِّكَازِ فَلَمَّا مَلَكَ الرِّكَازَ بِغَيْرِ بَدَلٍ مَلَكَ اللُّقَطَةَ أَيْضًا بِغَيْرِ بَدَلٍ. وَهَذَا قَوْلٌ خَالَفَ فِيهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْغُرْمِ فَلَمَّا أَعْسَرَ غَرَمَهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ اللُّقَطَةِ حِفْظُهَا عَلَى مَالِكِهَا وَفِي إِسْقَاطِ الْغُرْمِ اسْتِهْلَاكٌ لَهَا. وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ لَا يُسْتَبَاحُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ إِلَّا بِبَدَلٍ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ فَأَمَّا الرِّكَازُ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ حِفْظَهُ عَلَى مَالِكِهِ وَلِذَلِكَ سَقَطَ تَعْرِيفُهُ وَصَارَ كَسْبًا مَحْضًا لِذَلِكَ وَجَبَ خمسه فافترقا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وسواء قليل اللقطة وكثيرها فيقول من ذهبت له دنانير إن كانت دنانير ومن ذهبت له دراهم إن كانت دراهم ومن ذهب له كذا ولا يصفها فينازع في صفتها أو يقول جملة إن في يدي لقطة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللُّقَطَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ وَإِذَا ضَاعَ مِنْ مَالِكِهِ طَلَبَهُ كَالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ فَهَذَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ عَلَى وَاجِدِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَ تَافِهًا حَقِيرًا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتَّمْرَةِ وَالْجَوْزَةِ فَهَذَا لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا يُعَرِّفُ فِي الطَّوَافِ زَبِيبَةً فَقَالَ إِنَّ مِنَ الْوَرَعِ مَا يَمْقُتُهُ اللَّهُ وَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْحَسَنِ تَمْرَةً وَجَدَهَا وَقَالَ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ لَتَرَكْتُهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لَا تَتْبَعُهُ نَفْسُ صَاحِبِهِ وَلَا يَطْلُبُهُ إِنْ ضَاعَ مِنْهُ كَالرَّغِيفِ وَالدَّانَقِ مِنَ الْفِضَّةِ فقد اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ تَعْرِيفِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجِبُ لِكَوْنِهِ ذَا قِيمَةٍ وَالثَّانِي لَا يَجِبُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَطْلُوبٍ ثُمَّ مَا وَجَبَ تَعْرِيفُهُ مِنْ قَلِيلِ ذَلِكَ أَوْ كَثِيرِهِ عَرَّفَهُ حولا كاملا لا يجز به أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْكَثِيرِ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ تَعْرِيفُ الْحَوْلِ يَلْزَمُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا وَمَا دُونُ الْعَشَرَةِ يُعَرِّفُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قال إسحاق بن راهويه ما دون الدنانير يُعَرِّفُهُ جُمُعَةً وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي الدِّرْهَمِ يُعَرِّفُهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَرِّفْهَا حَوْلًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلًا وَجَدَ سَوْطًا أَنْ يُعَرِّفَهُ حَوْلًا فَأَمَّا صِفَةُ التَّعْرِيفِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا وَاللَّهُ أعلم بالصواب.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن كان موليا عليه أو لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ ضَمَّهَا الْقَاضِيَ إِلَى وَلِيِّهِ وَفَعَلَ فِيهَا مَا يَفْعَلُ الْمُلْتَقِطُ ".(8/16)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وَجَدَ اللُّقَطَةَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهَا فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ مَنَعَهُ الْحَجْرُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ غَيْرِهِ.
وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ يَدِهِ لِيَقُومَ بِتَعْرِيفِهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا دَفَعَهَا الْوَلِيُّ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ مِنْ تَمَلُّكِهَا لَهُ أَوْ تَرْكِهَا أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا فَإِنْ رَأَى أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لَهُ جَازَ لِأَنَّهَا كَسْبٌ لَهُ بِوُجُودِهِ لَهَا وَلَيْسَتْ كَسْبًا لِوَلِيِّهِ فَإِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الَّذِي يَتَمَلَّكُهَا لَهُ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا قَبُولُ تَمَلُّكٍ وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُمَا قَبُولُ وَصِيَّةٍ وَلَا هِبَةٍ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا كَانَ هُوَ الْمُتَمَلِّكَ لَهَا عَنْ إِذْنِ الْوَلِيِّ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فِي أَنَّ أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ هُوَ التَّمَلُّكُ لِأَنَّ السَّفِيهَ لَا يُمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. ثُمَّ إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا فَغُرْمُهَا فِي مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِدُخُولِهَا فِي مِلْكِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ دُونَ الْوَلِيِّ وَإِنْ رَأَى الْوَلِيُّ أَنْ أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمُوَلّى عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا لَا يَكُونُ غُرْمُهَا مُسْتَحَقًّا فِي مَالِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَكَانَتْ عَلَى حَالِهَا أَمَانَةً مُقَرَّةً فِي يَدِ الْوَلِيِّ فَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوْ فُكَّ الْحَجْرُ عَنِ السَّفِيهِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَيَنْزِعَهَا مِنْ وَلِيِّهِ بَعْدَ أَنْ نَوَى الْأَمَانَةَ فِيهَا كَانَ ذَلِكَ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مِنِ اكْتِسَابِهِ وَهُوَ الْآنَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهِ فَهَذَا حُكْمُهَا إِنْ أَخْذَهَا الْوَلِيُّ مِنَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْوَلِيُّ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا فَقَدْ ضَمِنَهَا لِمَالِكِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ لَمْ يَخْلُ تَلَفُهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ بِجِنَايَةٍ مِنْهُ وَجَبَ غُرْمُهَا فِي مَالِهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ غُرْمُ سَائِرِ جِنَايَاتِهِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُ فَفِي وُجُوبِ غُرْمِهَا فِي مَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ وَيَكُونُ أَخْذُهُ لَهَا عُدْوَانَا مِنْهُ.
وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ الْغُرْمُ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ أَخَذَهَا مِنْهُ لَمَا وَجَبَ فِي مَالِهِ غُرْمُهَا فَلَوْ لَمْ تَتْلَفْ وَكَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ حَتَّى انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَصَارَ رَشِيدًا فَلَهُ تَعْرِيفُهَا وَهَلْ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا فِي مُدَّةِ التَّعْرِيفِ أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي غُرْمِهَا قَبْلَ فَكِّ الْحَجْرِ لَوْ تَلِفَتْ ثُمَّ لَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إِنْ شاء.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ كَانَ عَبْدًا أُمِرَ بِضَمِّهَا إِلَى سَيِّدِهِ فَإِنْ عَلِمَ بِهَا السَّيِّدُ فَأَقَرَّهَا فِي يَدَيْهِ فهو ضامن لها في رقبعة عَبْدِهِ (قَالَ) فِيمَا وَضَعَ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ لَا غُرْمَ عَلَى الْعَبْدِ حَتَى يعتق من قبل أن له أخذها " (قال المزني) " الأول أقيس إذا كانت في الذمة والعبد عندي ليس بذي ذمة " (قال الشافعي) رحمه الله فإن لم يعلم بها السيد فهي في رقبته إن استهلكها قبل السنة وبعدها دون مال السيد لأن أخذه اللقطة عدوان إنما يأخذ اللقطة من له ذمة " (قال المزني) " هذا أشبه بأصله ولا يخلو سيده من أن يكون علمه فإقراره(8/17)
إياها في يده يكون تعديا فكيف لا يضمنها في جميع ماله أو لا يكون تعديا فلا تعدو رقبة عبده ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ أَخَذَ لُقَطَةً فَلَا يَخْلُو حَالُهُ فِي أَخْذِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهَا لِسَيِّدِهِ أَوْ لِنَفْسِهِ فَإِنْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ جَازَ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَخْذِهِ لَهَا ضَمَانٌ لِأَنَّهُ مُكْتَسِبٌ لِسَيِّدِهِ وَيَدُهُ يَدُ سَيِّدِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ بِهَا سَيِّدُهُ لِيَضْمَنَهَا إِلَيْهِ: فَإِذَا عَلِمَ بِهَا أَخَذَهَا السَّيِّدُ مِنْ يَدِهِ وَعَرَّفَهَا حَوْلَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا.
وَإِنْ أَقَرَّهَا السَّيِّدُ بَعْدَ عِلْمِهِ فِي يَدِ عَبْدِهِ لِيَقُومَ بِهَا وَبِتَعْرِيفِهَا نُظِرَ حَالُ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ ثِقَةً عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا جَازَ وَلَا ضَمَانَ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَالسَّيِّدُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهَا فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ حِينَ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهَا حَتَّى تَلِفَتْ فَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةٍ مِنْهُ ضَمِنَهَا الْعَبْدُ فِي رَقَبَتِهِ كَسَائِرِ جِنَايَاتِهِ وَإِنْ كَانَ تَلَفُهَا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِعْلَامِ سَيِّدِهِ حَتَّى تَلِفَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَغُرْمُهَا هَدَرٌ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِعْلَامِهِ ضَمِنَهَا الْعَبْدُ فِي رَقَبَتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ بِتَرْكِ إِعْلَامِ سَيِّدِهِ بِهَا متعديا.
فصل:
فأما أَخْذُهَا الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ لَا لِسَيِّدِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُتَعَدِّيًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " ذَلِكَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ " فَجَعَلَهَا كَسْبًا فَلَمْ يُمْنَعِ الْعَبْدُ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُ مِنَ الِاصْطِيَادِ وَالْإِحْشَاشِ وَعَلَى هَذَا يُعَرِّفُهَا الْعَبْدُ حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَبْدِ وَالسَّيِّدِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْعَبْدُ وَجَبَ غُرْمُهَا فِي ذِمَّتِهِ كَالْقَرْضِ وَلِلسَّيِّدِ أَخْذُهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا مِنِ اكْتِسَابِهِ فَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ قَدْ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُ اللُّقَطَةِ فِيهِ لِأَنَّ دُيُونَ الْعَبْدِ مُسْتَحِقَّةٌ مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ عتقه وإن تملكها السيد كان السيد لَهُ صَرْفُ اللُّقَطَةِ فِيهِ لِأَنَّ دُيُونَ الْعَبْدِ مُسْتَحِقَّةٌ مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَإِنَّ تَمَلَّكَهَا السَّيِّدُ كَانَ السَّيِّدُ ضَامِنًا لِغُرْمِهَا فِي ذِمَّتِهِ دُونَ الْعَبْدِ وَإِنِ اتَّفَقَا أَنْ تَكُونَ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا فَلِلسَّيِّدِ الْخِيَارُ فِي أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ يَدِ عَبْدِهِ لِيَحْفَظَهَا فَلَوْ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْعَبْدِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَمْ يَضْمَنْ أَمَانَةً وَإِنِ اسْتَهْلَكَهَا الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ نُظِرَ فِي اسْتِهْلَاكِهِ لَهَا. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ ضَمِنَهَا فِي رَقَبَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عُدْوَانٌ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلِ ضَمِنَهَا فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ فَهَذَا حُكْمُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
فَصْلٌ:
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ اللُّقَطَةَ لِنَفْسِهِ وَيَكُونُ بِأَخْذِهَا مُتَعَدِّيًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي أَخْذِ اللُّقَطَةِ وِلَايَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَقْصُودَ اللُّقَطَةِ حِفْظُهَا عَلَى مَالِكِهَا بِالتَّعْرِيفِ فِي الْحَوْلِ وَبِالذِّمَّةِ الْمَرْضِيَّةِ إِنْ تَمَلَّكَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَيْسَ الْعَبْدُ مِنْ هَذَيْنِ لأنه مقطوع لخدمة السيد عن ملازمته التَّعْرِيفَ وَلَيْسَ بِذِي ذِمَّةٍ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغُرْمِ لِتَأْخِيرِهِ إِلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَارَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا فَعَلَى هَذَا لِلسَّيِّدِ حَالَتَانِ حَالَةٌ يَعْلَمُ بِهَا وَحَالَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ بِهَا فَالْعَبْدُ ضامن(8/18)
لِلُّقَطَةِ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ لِأَنَّ أَخْذَهُ لَهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ وَسَوَاءٌ كَانَ تَلَفُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَإِنْ عَلِمَ بِهَا السَّيِّدُ فَلَهُ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْ يَدِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَقَطَ ضَمَانُهَا عَنِ الْعَبْدِ وَكَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِ السَّيِّدِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ سَقَطَ ضَمَانُهَا عن العبد يدفعها إِلَى السَّيِّدِ وَلَيْسَ السَّيِّدُ مَالِكًا لَهَا وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ بِالْعُدْوَانِ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِرَدِّهَا عَلَى الْمَالِكِ قِيلَ لِأَنَّ السَّيِّدَ مُسْتَحِقٌّ لِأَخْذِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ.
فَإِذَا دَفَعَهَا إِلَى السَّيِّدِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ فَإِذَا صَحَّ أَنَّ ضَمَانَهَا قَدْ سَقَطَ عَنِ الْعَبْدِ بِأَخْذِ السَّيِّدِ لَهَا فَفِي يَدِ السَّيِّدِ حِينَئِذٍ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَدُ مُؤْتَمَنٍ لَا يَدُ مُلْتَقِطٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْوَاجِدِ لَهَا فَأَشْبَهَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ يَدَهُ مُلْتَقِطٌ فَيَجُوزُ لَهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لِأَنَّ يَدَ عَبْدِهِ كَيَدِهِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَأْخُذَهَا السَّيِّدُ مِنْ يَدِ عَبْدِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْمَرَهُ السَّيِّدُ بِإِقْرَارِهَا فِي يَدِهِ فَيَسْتَبْقِيهَا عَنْ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَإِنْ كَانَ كَذَا نُظِرَ فِي الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ ثِقَةً أَمِينًا سَقَطَ ضَمَانُهَا عَنِ الْعَبْدِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ لَهُ فِي التَّرْكِ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيَدِ سَيِّدِهِ وَصَارَ كَأَخْذِ السَّيِّدِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَأْمُونٍ ضَمِنَهَا السَّيِّدُ وَهَلْ يَسْقُطُ ضَمَانُهَا عَنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ أَمْ لا على وجهين:
أحدهما: سَقَطَ لِتَصَرُّفِهِ عَنْ إِذْنِ السَّيِّدِ وَصَارَ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنَ السَّيِّدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ضَمَانَهَا بَاقٍ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْيَدِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُقِرَّهَا السَّيِّدُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُ فِيهَا بَلْ يُمْسِكُ عَنْهَا عِنْدَ عِلْمِهِ لَهَا فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ هَا هُنَا أَنَّ السَّيِّدَ يَكُونُ ضَامِنًا لَهَا فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَنَقَلَ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ أَنَّ السَّيِّدَ يكون ضامنا لها في رقبته عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّقْلَيْنِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى سَهْوِ الْمُزَنِيِّ وَغَلَطِهِ وَجَعَلَهَا مَضْمُونَةً عَلَى السَّيِّدِ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ وَزَعَمَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَإِنْ كُنْتُ قَدْ قَرَأْتُهُ فَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِيهِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ اخْتِلَافَ هَذَا النَّقْلِ بَعْضُ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَحْدَهُ لِأَنَّ رُؤْيَةَ السَّيِّدِ لِجِنَايَةِ عَبْدِهِ وَتَرْكِهِ لِمَنْعِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ جِنَايَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ شَاهَدَ عَبْدَهُ يَقْتُلُ رَجُلًا أَوْ يَسْتَهْلِكُ مَالًا وَقَدِرَ عَلَى مَنْعِهِ فَلَمْ يَمْنَعْهُ لَمْ يَضْمَنِ السَّيِّدُ قَاتِلًا وَلَا مُسْتَهْلِكًا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ غرم ولا ضمان كذلك في اللقطة.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ عَلَى السَّيِّدِ في رقبة عبده وسائر أموال لِأَنَّ يَدَ السَّيِّدِ(8/19)
لَوْ عَادَتِ اللُّقَطَةُ إِلَيْهَا مُسْتَحِقَّةً لَهَا فَصَارَ تَرْكُهُ فِي يَدِهِ عُدْوَانًا مِنْهُ وَلَيْسَ كَالَّذِي يَجْنِي عَلَيْهِ عَبْدُهُ أَوْ يَسْتَهْلِكُ فَلِذَلِكَ ضَمِنَ اللُّقَطَةَ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ وَلَمْ يَضْمَنْ جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَإِنْ عَلِمَ بِهَا وَإِلَّا فَمَضْمُونَةٌ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ سَيِّدِهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى السَّيِّدِ فِي سَائِرِ مَالِهِ فَلِمَ خَصَصْتُمْ رَقَبَةَ الْعَبْدِ بِهَا وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ قُلْنَا لِأَنَّ تَعَلُّقَهَا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ مُعَيَّنٌ كَالْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى السَّيِّدِ دَيْنٌ كَانَ مَالِكُ اللُّقَطَةِ أَحَقُّ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَائِهِ كَمَا لَوْ جَنَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ أَمْوَالِهِ.
لِأَنَّ مِلْكَ اللُّقَطَةِ وَغَيْرِهَا فِي الْغُرْمِ فِيهَا سَوَاءٌ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَيْسَ اخْتِلَافُ هَذَا النَّقْلِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ حَالَيْهِ فَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدُ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ ضَمَانُهَا إِلَّا بِرَقَبَتِهِ وَرِوَايَةُ الرَّبِيعِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَسَائِرِ مَالِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ صَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا فَصَارَ فِعْلُهُ مَنْسُوبًا إِلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَهَذَا حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ واختار منه ما أخذه.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بِأَخْذِ اللُّقَطَةِ فَأَخَذَهَا عَنْ أَمْرِ سَيِّدِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ضَمَانُهَا قَوْلًا وَاحِدًا ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَاتِ لَمْ يَضْمَنْهَا السَّيِّدُ بِإِقْرَارِهَا فِي يَدِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ضَمِنَهَا فَأَمَّا إِذَا نَهَاهُ عَنْ أَخْذِهَا فَأَخَذَهَا بَعْدَ نَهْيِ السَّيِّدِ لَهُ فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ يَضْمَنُهَا الْعَبْدُ فِي رَقَبَتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ نَهْيَ السَّيِّدِ قَدْ قَطَعَ اجْتِهَادَهُ فِي أَخْذِهَا وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا بَلْ يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ كَمَا لَمْ يَنْهَهُ كَالْقَرْضِ الَّذِي لَوْ مَنَعَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ مِنْهُ لَمَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لَوْ فَعَلَهُ إِلَّا فِي ذِمَّتِهِ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ في الجنازة وَالْكَسْبِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ أَخْذُ اللُّقَطَةِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ إِذْنِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ دَاخَلَا فِيهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُهَا الْعَبْدُ إِنْ أَخَذَهَا قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي إِذْنِهِ فَعَلَى هَذَا فِي ضَمَانِهِ لَهَا إِنْ أَخَذَهَا قَوْلَانِ.
فَصْلٌ:
فَلَوِ الْتَقَطَ الْعَبْدُ لقطة ثم عتق قبل الحول أَنَّهَا تَكُونُ كَسْبًا لِسَيِّدِهِ وَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا دُونَهُ لِأَنَّ أَخْذَهُ لَهَا كَانَ وَهُوَ عَبْدٌ وَهِيَ تُمَلَّكُ بِالْأَخْذِ وَإِنَّمَا تَعْرِيفُ الْحَوْلِ شَرْطٌ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَكُونُ كَسْبًا لِلْعَبْدِ لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّعْرِيفِ أَمَانَةٌ وَبَعْدَ التَّعْرِيفِ كَسْبٌ. وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ حُرًّا غَيْرَ مَأْمُونٍ فِي دِينِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَأْمُرَ بِضَمِّهَا إِلَى مَأْمُونٍ وَيَأْمُرَ الْمَأْمُونَ وَالْمُلْتَقِطَ بِالْإِنْشَادِ بِهَا. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَنْزِعُهَا مِنْ يَدَيْهِ وَإِنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَرْضَهُ " (قال المزني) " فإذا امتنع من هذا القول لهذه العلة فلا قول له إلا الأول وهو أولى بالحق عندي وبالله التوفيق " (قال المزني) " رحمه الله وقد قطع في موضع آخر بأن على الإمام إخراجها من يده لا يجوز فيها غيره وهذا أولى به عندي ".(8/20)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ وَاجِدُ اللُّقَطَةِ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَسْبٌ لِوَاجِدِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ كَالرِّكَازِ فَتُقَرُّ فِي يَدِهِ وَلَا تُنْتَزَعُ مِنْهُ فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَضُمُّ إِلَيْهِ أَمِينٌ يُرَاعِيهَا مَعَهُ حِفْظًا لَهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهَا بِحَالٍ وَيَكُونُ هُوَ الْمُقِيمُ بِحِفْظِهَا وَتَعْرِيفِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ نَظَرٌ فِيهَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ الطَّبَرِيِّ فِي الْإِفْصَاحِ إِنَّ الْحَاكِمَ يَضُمُّ إِلَيْهِ أَمِينًا يُرَاعِي حِفْظَهَا فِي يَدِ الْوَاجِدِ اسْتِظْهَارًا لِلْمَالِكِ وَإِنْ لَمْ تُنْتَزَعْ لِمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ حَقِّ الْوَاجِدِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّ الْحَاكِمَ يَنْتَزِعُهَا مِنْ يَدِ الْوَاجِدِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا وَيَدْفَعُهَا إِلَى مَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْ أُمَنَائِهِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْدُوبٌ إِلَى حِفْظِ أَمْوَالِ مَنْ غَابَ وَلِأَنَّ مَالِكَهَا لَمْ يَرْضَ بِذِمَّةِ مَنْ هذه حالة ولأن الْوَصِيَّ لَمَّا وَجَبَ انْتِزَاعُ الْوَصِيَّةِ مِنْ يَدِهِ لِفِسْقِهِ مَعَ اخْتِيَارِ الْمَالِكِ لَهُ فَلِأَنْ يُخْرِجَ يَدَ الْوَاجِدِ الَّذِي لَمَّ يَخْتَرْهُ أَوْلَى. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ إِلَى أَمِينٍ يَقُومُ بِحِفْظِهَا فَفِي الَّذِي يَقُومُ بِتَعْرِيفِهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ الْأَمِينَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَعْرِيفِهَا خَوْفًا مِنْ جِنَايَةِ الْوَاجِدِ فِي تَعْرِيفِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْأُمِّ: إِنَّ الْوَاجِدَ هُوَ الْمُعَرِّفُ دُونَ الْأَمِينِ لِأَنَّ التعريف من حقوق التمليك وليس في تَقْرِيرٌ لِأَنَّهَا لَا تُدْفَعُ بِالصِّفَةِ فَإِذَا عَرَّفَهَا حَوْلًا وَلَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا فَإِنْ أَرَادَ الْوَاجِدُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا سُلِّمَتْ إِلَيْهِ وَأَشْهَدَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِغُرْمِهَا إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْأَمِينِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْوَاجِدُ لَهَا مَأْمُونًا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تُنْتَزَعُ مِنْ يَدِهِ وَلَكِنْ يَضُمُّ الْحَاكِمُ إِلَيْهِ أَمِينًا يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا ليقوى به على الحفظ والتعريف.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْمُكَاتَبُ فِي اللُّقَطَةِ كَالْحُرِّ لِأَنَّ مَالَهُ يُسَلَّمُ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي اللُّقَطَةِ كَالْحُرِّ فِي جَوَازِ أَخْذِهَا وَتَمَلُّكِهَا وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ إِنَّهُ كَالْعَبْدِ فِي أَنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ جَازَ وَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ فَبَعْضُهُمْ يُخْرِجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْحُرِّ فِي جَوَازِ أَخْذِهَا وَصِحَّةِ تَمَلُّكِهَا لِنُفُوذِ عُقُودِهِ وَتَمَلُّكِ هِبَاتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَالْعَبْدِ لِأَنَّ مَالِكَ اللُّقَطَةِ لَمْ يَرْضَ بِذِمَّةِ مَنْ لَهُ اسْتِرْقَاقٌ فِي نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ وَإِبْطَالِ ذِمَّتِهِ بِالْفَسْخِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ فِيهِ هُوَ كَالْحُرِّ إِذَا كَانَتْ كِتَابَتُهُ صَحِيحَةً وَالْمَوْضِعُ الَّذِي قَالَ هُوَ كَالْعَبْدِ إِذَا كَانَتْ كِتَابَتُهُ فَاسِدَةً وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ(8/21)
لِأَنَّهُ فِي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ كَالْحُرِّ فِي رَفْعِ يَدِ سَيِّدِهِ عَنْهُ وَفِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فِي تَصَرُّفِ سَيِّدِهِ فِيهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَهُوَ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ فِي اللُّقَطَةِ وَأَمَّا أم الوالد فَكَالْعَبْدِ فِي اللُّقَطَةِ إِنْ أَخَذْتَهَا لِلسَّيِّدِ جَازَ وَإِنْ أَخَذْتَهَا لِنَفْسِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا يَتَعَلَّقُ غُرْمُ اللُّقَطَةِ بِذِمَّتِهَا إِذَا أُعْتِقَتْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي. لَا يَجُوزُ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّيِّدُ بِهَا فَهَلْ يَتَعَلَّقُ غُرْمُهَا بِذِمَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ أَمْ بِرَقَبَتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِذِمَّتِهَا وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ غُرْمُهَا. وَالثَّانِي: بِرَقَبَتِهَا وَعَلَى السَّيِّدِ غُرْمُهَا وَافْتِكَاكُ رَقَبَتِهَا كَمَا يَفْعَلُ فِي جَنَابَتِهَا وَإِنْ عَلِمَ السَّيِّدُ بِهَا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: فِي ذِمَّتِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ. وَالثَّانِي: فِي رَقَبَتِهَا وَعَلَى السَّيِّدِ فكاكها بأقل الأمرين من قيمتها اللقطة أو قميتها. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا فِي ذِمَّةِ السَّيِّدِ يَغْرَمُهَا بِجَمِيعِ قيمتها.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْعَبْدُ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ فَإِنِ الْتَقَطَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مُخَلَّى لِنَفْسِهِ أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ وَكَانَتْ بَعْدَ السَّنَةِ لَهُ كَمَا لَوْ كَسَبَ فِيهِ مَالَا كَانَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فِي الْيَوْمِ الَذِي لِسَيِّدِهِ أَخَذَهَا مِنْهُ لِأَنَّ كَسْبَهُ فِيهِ لِسَيِّدِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي عَبْدٍ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ وَجَدَ لُقَطَةً فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُهَايَأَةً أَوْ غَيْرَ مُهَايَأَةٍ فَإِنْ كَانَ غير مهايأة فنصف أكسابه لَهُ بِحَقِّ حُرِّيَّتِهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ وَنِصْفُ أَكْسَابِهِ لِسَيِّدِهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ وَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَنِصْفُ اللُّقَطَةِ لَهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ يُقِيمُ عَلَى تَعْرِيفِهِ وَيَتَمَلَّكُهُ بَعْدَ حَوْلِهِ وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ فَهُوَ فِيهِ كَالْعَبْدِ فَإِنْ أَخَذَهُ لِسَيِّدِهِ جَازَ وَلَمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَلِلسَّيِّدِ أَخْذُ ذَلِكَ النِّصْفِ مِنْهُ دُونَ النِّصْفِ الَّذِي أخذه بحريته ثم يصيران شريكين فيما يُقِيمَانِ عَلَى تَعْرِيفِهَا وَيَتَمَلَّكَانِهَا بَعْدَ حَوْلِهَا وَإِنْ كَانَ مُهَايَأَةً وَالْمُهَايَأَةُ أَنْ يَكْتَسِبَ لِنَفْسِهِ يَوْمًا وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلِسَيِّدِهِ يَوْمًا مِثْلَهُ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فَيَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ الْأَكْسَابُ الْمَأْلُوفَةُ وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهَا مَا لَيْسَ بِمَأْلُوفٍ مِنَ الْأَكْسَابِ كَاللُّقَطَةِ والركاز أم عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ فِيهَا وَهُوَ أَظْهَرُهُمَا لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْكَسْبِ فَعَلَى هَذَا إِنْ وَجَدَهَا فِي يَوْمِ نَفْسِهِ فَهُوَ فِيهِ كَالْحُرِّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا وَيَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُهَا وَإِنْ وَجَدَهَا فِي يَوْمِ سَيِّدِهِ فَهُوَ فِيهَا كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ جَمِيعِهِ فَإِنْ أَخَذَهَا لِسَيِّدِهِ جَازَ وَإِنْ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا حُكْمُ دُخُولِهَا فِي الْمُهَايَأَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَأَةِ وَلَا الْمَكَاسِبِ النَّادِرَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تُوجَدُ فِي أَحَدِ الزَّمَانَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَصِيرُ أَحَدُهُمَا مُخْتَصًّا فِي زَمَانِهِ بِمَا لَا يُسَاوِيهِ الْآخَرُ فِي زَمَانِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي اللُّقَطَةِ كَغَيْرِ الْمُهَايَأَةِ عَلَى مَا مَضَى وَهَكَذَا حُكْمُهُ لَوْ كَانَ أَقَلَّهُ الحر أو أكثر مَمْلُوكًا فَأَمَّا الْمَمْلُوكُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فِيهِ مُهَايَأَةٌ اشْتَرَكَا فِي قِيمَةِ اللُّقَطَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِيهِ مُهَايَأَةٌ فَفِي دُخُولِ اللُّقَطَةِ فِي مُهَايَأَتِهِمَا قَوْلَانِ عَلَى مَا مضى.(8/22)
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُفْتِي الْمُلْتَقِطُ إِذَا عَرَفَ الرَّجُلُ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ وَالْعَدَدَ وَالْوَزْنَ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَنْ يُعْطِيَهُ وَلَا أُجْبِرُهُ عَلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ الصِّفَةَ بِأَنْ يَسْمَعَ الْمُلْتَقِطَ يصفها ومعنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اعرف عفاصها ووكاءها " والله أعلم لأن يؤدي عفاصها ووكاءها معها وليعلم إذا وضعها في ماله أنه لقطة وقد يكون ليستدل على صدق المعرف أَرَأَيْتَ لَوْ وَصَفَهَا عَشَرَةٌ أَيُعْطُونَهَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أن كلهم كاذب إلا واحدا بغير عينه فيمكن أن يكون صادقا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى لُقَطَةً فِي يَدِ وَاجِدِهَا فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ عَلَى مِلْكِهَا وَجَبَ تَسْلِيمُهَا لَهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً لَكِنْ وَصَفَهَا فَإِنْ أَخْطَأَ فِي وَصْفِهَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَإِنْ أَصَابَ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهَا مِنَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَالْجِنْسِ وَالنَّعْتِ وَالْعَدَدِ وَالْوَزْنِ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَيْهِ وَإِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَفْتَيْنَاهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ جَوَازًا لَا وَاجِبًا فَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ الدَّفْعِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَيْهِ بِالصِّفَةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا أَوْ قَالَ بَاغِيهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ. فَلَمَّا أَخْبَرَ بِمَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَالْبَيِّنَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
وَرَوَى سُوَيْدُ بْنُ غَفْلَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِنْ جَاءَ بَاغِيهَا فَعَرَّفَكَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ ". وَهَذَا نَصٌّ قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ أَمَارَةٍ غَلَبَ بِهَا فِي الشَّرْعِ صِدْقُ الْمُدَّعِي جَازَ أَنْ يُوجِبَ قَبُولَ قَوْلِهِ كَالْقَسَامَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ فِي الْأُصُولِ مُخْتَلِفَةٌ وَمَا تَعَذَّرَ مِنْهَا فِي الْغَائِبِ مُخَفَّفٌ كَالنِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِي الْوِلَادَةِ وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى اللُّقَطَةِ مُتَعَذِّرَةٌ لَا سِيَّمَا عَلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الَّتِي لَا تُضْبَطُ أَعْيَانُهَا فَجَازَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْأَحْوَالِ الْمُمْكِنَةِ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً فِيهَا ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ "، فَلَمْ يَجْعَلِ الدَّعْوَى حُجَّةً وَلَا جَعَلَ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ حُجَّةً بَيِّنَةً وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمَطْلُوبِ لَا تَكُونُ بَيِّنَةً لِلطَّالِبِ كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ وَلِأَنَّ صِفَةَ الْمَطْلُوبِ مِنْ تَمَامِ الدَّعْوَى فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةً لِلطَّالِبِ قِيَاسًا عَلَى الطَّلَبِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ: أَرَأَيْتَ لَوْ وَصَفَهَا عَشَرَةٌ أَيُعْطُونَهَا وَنَحْنُ نعلم أن كلهم كذبة إلا واحد بِعَيْنِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ دَاوُدَ فَقَالَ كَمَا لَوِ ادَّعَاهَا عَشَرَةٌ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَيْهَا بَيِّنَةً نُقَسِّمُهَا بَيْنَهُمْ وَإِنْ كَانَ صِدْقُ جَمِيعِهِمْ مُسْتَحِيلَا. كَذَلِكَ إِذَا وَصَفُوهَا كُلَّهُمْ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ:(8/23)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَذِبَ الْمُدَّعِي أَسْقَطُ لِلدَّعْوَى مِنْ كَذِبِ الشُّهُودِ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِكْذَابَ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ مُبْطِلًا لِلدَّعْوَى وَإِكْذَابَ الشُّهُودِ لِأَنْفُسِهِمْ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلدَّعْوَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ أَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي وَأَقْوَى مَا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ فَدَعَتْ ضَرُورَةُ الْحَاكِمِ فِي الْبَيِّنَةِ إِلَى مَا لَمْ تَدْعُهُ مِنَ الصِّفَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَا لِدَفْعِهَا بِصِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَوُجُوبِ رَدِّهِ مَعَهُ وَلَكِنْ لَمَعَانٍ هِيَ أَخَصُّ بِمَقْصُودِ اللَّفْظِ مِنْهَا أَنَّهُ نَبَّهَ بِحِفْظِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ وَوُجُوبِ رَدِّهِ مَعَ قِلَّتِهِ وَنَدَارَتِهِ عَلَى حِفْظِ مَا فِيهِ وَوُجُوبِ رَدِّهِ مَعَ كَثْرَتِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَتَمَيَّزَ بِذَلِكَ عَنْ مَالِهِ وَمِنْهَا جَوَازُ دَفْعِهَا بِالصِّفَةِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ وَعَلَى هَذَا حَمْلُ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ الذيَ جَعَلُوهُ نَصًّا وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ فَنَحْنُ مَا جَعَلْنَا الْأَمَارَةَ عَلَى الصِّدْقِ حُجَّةً فِي قَبُولِ الدَّعْوَى وَإِنَّمَا الْأَيْمَانُ بَعْدَهَا حُجَّةٌ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي اللُّقَطَةِ بَعْدَ الصِّفَةِ فَدَلَّ عَلَى اخْتِلَافِهَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ فِي الْأُصُولِ مُخْتَلِفَةٌ فَصَحِيحٌ وَلَيْسَ مِنْ جَمِيعِهَا بَيِّنَةٌ تَكُونُ بِمُجَرَّدِ الصِّفَةِ وَلَا يَكُونُ تَعَذُّرُ الْبَيِّنَةِ مُوجِبًا أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ بَيِّنَةً أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ تَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ صِفَةُ مَا بِيَدِهِ لِمُدَّعِي سَرِقَتِهِ حُجَّةً.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دَفْعَهَا بِالصِّفَةِ لَا يَجِبُ فَدَفَعَهَا بِالصِّفَةِ وَسِعَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقَعْ فِي نَفْسِهِ كَذِبُهُ فَإِنْ أَقَامَ غَيْرُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا بِشَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ كَانَ مُقِيمُ الْبَيِّنَةِ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْوَاصِفِ لَهَا انْتُزِعَتْ مِنْهُ لِمُقِيمِ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا نُظِرَ فِي الدَّافِعِ لَهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ رَأَى ذَلِكَ مَذْهَبًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّافِعِ وَرَجَعَ مُقِيمُ الْبَيِّنَةِ بِغُرْمِهَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَلِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ الْخِيَارُ فِي الرُّجُوعِ بِغُرْمِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنَ الدَّافِعِ الْمُلْتَقِطِ أَوِ الْآخِذِ الْوَاصِفِ فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ فَلَهُ ذَلِكَ لِضَمَانِهِ لَهَا بِالْيَدِ وَاسْتِحْقَاقِ غُرْمِهَا بِالْإِتْلَافِ وَقَدْ بَرِئَ الدَّافِعُ لَهَا مِنَ الضَّمَانِ لِوُصُولِ الْغُرْمِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَلَيْسَ لِلْغَارِمِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا غَرِمَهُ عَلَى الدَّافِعِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَتَّى لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا بِهِ فَالْمَظْلُومُ بِالشَّيْءِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ وَإِنْ رَجَعَ مُقِيمُ الْبَيِّنَةِ بِغُرْمِهَا عَلَى الدَّافِعِ الْمُلْتَقِطِ نُظِرَ فِي الدَّافِعِ فَإِنْ كَانَ قَدْ صَدَقَ الْوَاصِفَ لَهَا عَلَى مِلْكِهَا وَأَكْذَبَ الشُّهُودَ لِصَاحِبِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِغُرْمِهَا عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَدَقَ الْوَاصِفَ وَلَا أَكْذَبَ الشُّهُودَ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِالْغُرْمِ عَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالصِّفَةِ لِضَمَانِهِ لَهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ مُوجِبَةً عَلَيْهِ وَلَهُ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ طَعَامًا رَطْبًا لَا يَبْقَى فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ إِذَا خَافَ فَسَادَهُ وَيَغْرِمَهُ لِرَبِّهِ (وَقَالَ) فِيمَا وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ إِذَا خَافَ فَسَادَهُ(8/24)
أَحْبَبْتُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُقِيمَ عَلَى تَعْرِيفِهِ (قَالَ المزني) هذا أولى القولين بِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يقل للملتقط شأنك بها إلا بعد سنة إلا أن يكون في موضع مهلكة كالشاة فيكون له أكله ويغرمه إذا جاء صاحبه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الطَّعَامُ الرَّطْبُ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَيْبَسُ فَيَبْقَى كَالرُّطَبِ الَّذِي يَصِيرُ خَمْرًا وَالْعِنَبِ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِ الطَّعَامِ فِي وُجُوبِ تَعْرِيفِهِ وَاسْتِبْقَائِهِ فَإِنِ احْتَاجَ تَجْفِيفُهُ إِلَى مُؤْنَةٍ كَانَتْ عَلَى مَالِكِهِ وَيَفْعَلُ الْحَاكِمُ أَحَظَّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمَالِكِ مِنْ بَيْعِهِ أَوِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَبْقَى كَالطَّعَامِ الَّذِي يَفْسُدُ بِالْإِمْسَاكِ كَالْهَرِيسَةِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ الَّتِي لَا تبقى على الأيام فقد حكى عَنِ الشَّافِعِيِّ هَا هُنَا أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ يَأْكُلُهُ الْوَاجِدُ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَبِيعَهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُونَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ كَالشَّاةِ الَّتِي لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِبْقَاؤُهَا أُبِيحَ لِوَاجِدِهَا أَكْلُهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ بِخِلَافِ الشَّاةِ الَّتِي لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهَا فَأُبِيحَ لَهُ أَكْلُهَا وَالطَّعَامُ وَإِنْ كَانَ رَطْبًا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ فَلَمْ يَسْتَبِحْ وَاجِدُهُ أَكْلُهُ وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ إِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مَوْجُودًا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا جَازَ أَكْلُهُ وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ اخْتِلَافُ حَالَيْهِ فِي إِبَاحَةِ أَكْلِهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ وَاجِدِهِ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا مُحْتَاجًا اسْتَبَاحَ أَكْلَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَسْتَبِحْهُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ أَكْلِهِ فَأَكَلَهُ صَارَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُ الطَّعَامِ حَوْلًا وَهَلْ يَلْزَمُهُ عَزْلُ قِيمَتِهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَكْلِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ عَزْلُ الْقِيمَةِ لِئَلَّا يَصِيرَ مُتَمَلِّكًا لِلُقَطَةٍ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا قَبْلَ حَوْلِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَزْلُهَا لِأَنَّهُ لَوْ عَزَلَهَا فَهَلَكَتْ كَانَتْ مِنْ مَالِهِ فَكَانَتْ ذِمَّتُهُ أَحَظَّ لَهَا وَلَمْ يَكُنْ عَزْلُهَا مُفِيدًا وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ جَعَلَ فَائِدَةَ عَزْلِهَا لَوْ أَفْلَسَ بَعْدَ عَزْلِ قِيمَتِهَا ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ كَانَ أَوْلَى بِالْمَعْزُولِ مِنْ قِيمَتِهَا مِنْ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ وَزَعَمَ أَنَّ تَلَفَهَا مِنْ يَدِهِ بَعْدَ وُجُوبِ عَزْلِهَا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ غُرْمَهَا فَصَارَ فِي ضَمَانِهِ لِلثَّمَنِ إِنْ تَلَفَ بَعْدَ وُجُوبِ عَزْلِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَالثَّانِي وَهُوَ أَشْبَهُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَعَ وُجُوبِ عَزْلِهِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ مَعَ بَقَائِهِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ بِخِلَافِ الشَّاةِ إِذَا وَجَدَهَا وَأَرَادَ بَيْعَهَا لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى الشَّاةِ أَقْوَى لِمَا اسْتَحَقَّهُ عَاجِلًا مِنْ أَكْلِهَا وَيَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ أَضْعَفُ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ تَعْرِيفِهِ فَإِنْ أَعْوَزَهُ إِذْنُ الْحَاكِمِ جَازَ بَيْعُهُ لَهُ فَلَوْ بَاعَهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ كَانَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً(8/25)
وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُ الطَّعَامِ حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا الثَّمَنُ دُونَ الْقِيمَةِ وَلَوْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهُ فَلِلْوَاجِدِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ وَلَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَبْلَ التَّمَلُّكِ لَوْ كَانَ تَالِفًا مِنْ مَالِ رَبِّهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ وَهَكَذَا حُكْمُ الثَّمَنِ لَوْ كَانَ الْوَاجِدُ هُوَ الْبَائِعُ عِنْدَ إِعْوَازِ الْحَاكِمِ فَأَمَّا إِنْ بَاعَهُ مَعَ وُجُودِ الْحَاكِمِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ وَلِلْمَالِكِ الْقِيمَةُ دُونَ الثَّمَنِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ مِنْ يَدِ الْوَاجِدِ قَبْلَ الْحَوْلِ كَانَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ لِتَعَدِّيهِ بِقَبْضِهِ مَعَ فَسَادِ بَيْعِهِ فَإِنْ حَضَرَ الْمَالِكُ وَالثَّمَنُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ أَخَذَهُ وَهُوَ مُبَلِّغٌ حَقَّهُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِإِتْمَامِ الْقِيمَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا اشْتَرَى شراءا فَاسِدًا فَكَانَ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ دُونَ الْمُسَمَّى إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمَالِكُ أَنْ يُسَامِحَ بِفَاضِلِ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ مَرْدُودًا عَلَى الْمُشْتَرِي إِذْ ليس يلزمه إلا القيمة.
مسألة:
(وَقَالَ) فِيمَا وَضَعَ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ " إِذَا وَجَدَ الشَّاةَ أَوِ الْبَعِيرَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ مَا كَانَتْ بِالْمِصْرِ أَوْ فِي قَرْيَةٍ فَهِيَ لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهَا سَنَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى حُكْمُ ضَوَالِّ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ إِذَا وَجَدَهَا فِي الصَّحْرَاءِ فَأَمَّا إِذَا وَجَدَهَا فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي قَرْيَةٍ فَالَّذِي حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فيما وجد بِخَطِّهِ أَنَّهَا لُقَطَةٌ لَهُ أَخْذُهَا وَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " أَنَّهَا فِي الْمِصْرِ وَالصَّحْرَاءِ سَوَاءٌ يَأْكُلُ الْغَنَمَ وَلَا يَعْرِضُ لِلْإِبِلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِصْرَ كَالْبَادِيَةِ يَأْكُلُ الْغَنَمَ وَلَا يَعْرِضُ لِلْإِبِلِ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ فِي " الْأُمِّ " لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا لقطة يأخذ الغنم والإبل جميعها ويعرفها كَسَائِرِ اللُّقَطِ حَوْلًا كَامِلًا وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنْهُ وَفِيمَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ لِأَنَّ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ضَوَالِّ الْإِبِلِ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ يَخْتَصُّ بِالْبَادِيَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ وَالشَّجَرُ دُونَ الْمِصْرِ وَهِيَ تَمْنَعُ صِغَارَ السِّبَاعِ عَنْ أَنْفُسِهَا فِي الْبَادِيَةِ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى مَنْعِ النَّاسِ فِي الْمِصْرِ. وَالشَّاةُ تُؤْكَلُ فِي الْبَادِيَةِ لِأَنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُهَا وَهُوَ لَا يَأْكُلُهَا فِي الْمِصْرِ فَاخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا فِي الْبَادِيَةِ وَالْمِصْرِ فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ جَوَازَ أَخْذِهَا عَلَى تَسْلِيمِهَا إِلَى الْإِمَامِ وَحَمَلَ الْمَنْعَ مِنْ أَخْذِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ.
فصل:
فإذا قُلْنَا إِنَّ حُكْمَ الْبَادِيَةِ وَالْمِصْرِ سَوَاءٌ فَلَهُ أَخْذُ الْغَنَمِ وَأَكْلُهَا وَلَيْسَ يَتَعَرَّضُ لِلْإِبِلِ إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ مَالِكَهَا وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ حُكْمَ الْمِصْرِ يُخَالِفُ الْبَادِيَةَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فَلَهُ أَخْذُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ جَمِيعًا وَيَكُونَانِ لُقَطَةً يَلْزَمُ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا فَإِنْ تَطَوَّعَ الْوَاجِدُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ بِمَا يُنْفِقُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا أَتَى الْحَاكِمَ حَتَّى يَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ رَأْيَهُ فِي الْأَحَظِّ لِصَاحِبِهَا فِي أَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يَرَى الِاقْتِرَاضَ عَلَى صَاحِبِهَا فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا أَوْ يَرَى بَيْعَهَا لِصَاحِبِهَا لِيَكْفِيَ مُؤْنَةَ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا أَوْ يُرْسِلَهَا فِي الْحِمَى إِنْ كَانَ لِضَوَالِّ الْمُسْلِمِينَ حِمًى ثُمَّ يَقُومُ الْوَاجِدُ عَلَى تَعْرِيفِهَا إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ رَافِعًا لِيَدِهِ عَنْهَا فَيَسْقُطَ عَنْهُ حكم(8/26)
تَعْرِيفِهَا وَإِلَّا فَمَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْتِقَاطِهَا فَتَعْرِيفُهَا حَوْلًا وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا سُلِّمَتْ إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً بَعْدَ أَنْ يَدْفَعَ النَّفَقَةَ إِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ وَإِنْ بِيعَتْ سُلِّمَ إِلَيْهِ ثَمَنُهَا دُونَ الْقِيمَةِ إِنْ بَاعَهَا حَاكِمٌ أَوْ بِأَمْرِهِ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِدُ هُوَ الْبَائِعُ لَهَا فَلِصَاحِبِهَا قِيمَتُهَا دُونَ الثَّمَنِ لِفَسَادِ بَيْعِهِ إِلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى اسْتِئْذَانِ حَاكِمٍ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا بَعْدَ الْحَوْلِ فَهَلْ لِوَاجِدِهَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَى ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَحَدُهَا: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا اعْتِبَارًا بِحُكْمِ اللُّقَطَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ ".
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا وَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَأَرْفَقَ بِالْفَرِيقَيْنِ.
فَصْلٌ:
إِذَا تَرَكَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ أَوِ الْبَعِيرَ حَسْرًا فِي الصَّحْرَاءِ لِعَجْزِهِ عَنِ السَّيْرِ وَعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ حَمْلِهِ أَوِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَأَحْيَاهُ بِمُقَامِهِ عَلَيْهِ وَمُرَاعَاتِهِ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ فِي السَّيْرِ وَالْعَمَلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ. فَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ يَكُونُ لِآخِذِهِ وَمُحْيِيهِ دُونَ تَارِكِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَارِكُهُ تَرَكَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ فَيَكُونُ التَّارِكُ أَحَقَّ بِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ إِنَّ آخِذَهُ الْمُحْيِيَ لَهُ أَحَقُّ مِنْ تَارِكِهِ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ تَرَكَهُ ليعود إليه أم لا.
وقال مالك هُوَ عَلَى مِلْكِ تَارِكِهِ دُونَ آخِذِهِ لَكِنْ لآخذه الرجوع بما أنفق ومذهب الشافعي رضي الله عنه أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ تَارِكِهِ وَلَيْسَ لِوَاجِدِهِ الرُّجُوعُ بنفقته لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَلِأَنَّهُ لَوْ عَالَجَ عَبْدًا قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ بِالْمَرَضِ حَتَّى وَلَوِ اسْتَنْقَذَ مَالًا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ لَمْ يَمْلِكْهُ فَكَذَا الْبَهِيمَةُ.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مَتَاعًا قَدْ غَرِقَ مِنَ الْبَحْرِ فقد مَلَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَهَذَا شَاذٌّ مِنَ الْقَوْلِ مَدْفُوعٌ بِالْخَبَرِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنْ لَوْ وُجِدَ فِي الْبَحْرِ قِطْعَةُ عَنْبَرٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ كَانَتْ مِلْكًا لِوَاجِدِهَا فِي الْبَرِّ كَانَتْ لُقَطَةً لِعِلْمِنَا بِحُصُولِ الْيَدِ عَلَيْهَا قَبْلَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّاحِلِ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهَا، فَتَكُونُ مِلْكًا لِوَاجِدِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ قَدْ أَلْقَاهَا حِينَ نَضَبَ وَهَكَذَا لَوْ صَادَ سَمَكَةً مِنَ الْبَحْرِ فَوُجِدَ فِي جَوْفِهَا قِطْعَةُ عَنْبَرٍ كَانَتْ لِلصَّيَّادِ إِذَا كَانَ بَحْرًا قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ الْعَنْبَرُ فَأَمَّا الْأَنْهَارُ وَمَا لَا يَكُونُ مِنَ الْبِحَارِ فَإِنَّهَا تَكُونُ لُقَطَةً وَهَكَذَا الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَصْنُوعًا أَوْ مَثْقُوبًا فَيَكُونُ لُقَطَةً فَأَمَّا اللُّؤْلُؤُ فَلَا يَكُونُ فِي الْبَحْرِ إِلَّا مَعَ صَدَفِهِ فَإِنْ وُجِدَ فِيهِ كَانَ مِلْكًا لِوَاجِدِهِ وَإِنْ وُجِدَ خَارِجًا عَنْ صَدَفِهِ كَانَ لقطة.
مسالة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَوَالَّ الْإِبِلِ فَمَنْ أَخَذَهَا ثُمَّ أَرْسَلَهَا ضَمِنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَدْ مَضَى وَذَكَرْنَا أَنَّ ضَوَالَّ الْإِبِلِ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَجُوزُ لِوَاجِدِهَا(8/27)
أَخْذُهَا إِلَّا فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ نَدَبَهُ لِأَخْذِ الضَّوَالِّ حِفْظًا لَهَا عَلَى أَرْبَابِهَا كَمَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ فِي الْمَصَالِحِ مِنْ حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ عَارِفًا لِصَاحِبِهَا فَيَأْخُذُهَا لِيَرُدَّهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَعْرِيفٍ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْوَاجِدِ في هاتين الحالتين أن يأخذها. أما الحالة الأولى فما عليه إلا العمل فيما ندب إليه وأما الحالة الثَّانِيَةُ فَمُسْتَحَبٌّ لِمَا أُمِرَ النَّاسُ بِهِ مِنَ التَّعَاوُنِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ بِوُجُوبِ أَخْذِ اللُّقَطَةِ إِذَا خِيفَ هَلَاكُهَا فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ وَاجِبًا فَإِنْ أَخَذَهَا الْوَاجِدُ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَصَارَ لِذَلِكَ ضَامِنًا فَإِنْ تَلِفَتْ وَجَبَ غُرْمُهَا عَلَيْهِ وَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهَا فَلَهُ فِي رَفْعِ يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ، وَالْحَالُ الثاني أَنْ يُرْسِلَهَا مِنْ يَدِهِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ سَوَاءٌ أَرْسَلَهَا حَيْثُ وَجَدَهَا أَوْ فِي غَيْرِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة إِنْ أَرْسَلَهَا حَيْثُ وَجَدَهَا سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ وَلَا أَدْرِي مَا يَقُولَانِهِ فِي إِرْسَالِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ وُجُودِهَا وَبَنَيَا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهَا فِي ضَامِنَ الْوَدِيعَةِ بِالتَّقْصِيرِ إِذَا كَفَّ عَنْهُ زَالَ عَنْهُ ضَمَانُهَا.
وَاسْتِدْلَالًا بِأَنَّ ضَمَانَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ يَسْقُطُ بِإِرْسَالِهِ فَكَذَلِكَ ضَمَانُ الضَّوَالِّ بِالْأَخْذِ يَسْقُطُ بِالْإِرْسَالِ وَهَذَا جمع مفترق واستدلالا فاسدا وَأَصْلٌ مُنَازِعٌ لِأَنَّ الصَّيْدَ يُضْمَنُ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا أَرْسَلَهُ صَارَ كَعَوْدِهِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَلَيْسَ الضَّوَالُّ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا تُضْمَنُ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَلَمْ يَكُنْ إِرْسَالُهَا عود إِلَى مُسْتَحِقِّهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَوْ كَانَ مِلْكًا لِآدَمِيٍّ فَضَمِنَهُ الْمُحْرِمُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ سَقَطَ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْجَزَاءِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَقُّ الْآدَمِيِّ فِي الْغُرْمِ وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْإِمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فَفِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْقُطُ كَعَوْدِهَا إِلَى يَدِ النَّائِبِ عَنِ الْغَائِبِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَسْقُطُ لِتَعَدِّي الواجد والله أعلم.(8/28)
باب الجعالة
مسألة:
قال وَلَا جُعْلَ لِمَنْ جَاءَ بِآبِقٍ وَلَا ضَالَّةٍ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَسَوَاءٌ مَنْ عُرِفَ بِطَلَبِ الضَّوَالِّ وَمَنْ لَا يُعْرَفُ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَلَيْسَ يَخْلُو مَنْ رَدَّ آبِقًا أَوْ ضَالَّةً مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَرُدَّهَا بِأَمْرِ مَالِكِهَا أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَالِكِ فَقَدْ كَانَ ضَامِنًا بِالْيَدِ وَسَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالرَّدِّ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِطَلَبِ الضَّوَالِّ وَمَنْ لَا يُعْرَفُ.
وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِطَلَبِ الضَّوَالِّ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ الْمَرْدُودُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَلَهُ إن رد مِنْ مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَإِنْ رَدَّهُ مِنْ أَقَلِّ مِنْ مَسَافَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي رَدِّ الْبَهِيمَةِ وَسَوَاءٌ كَانَ بِرَدِّ الضَّوَالِّ مَعْرُوفًا أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ اسْتِدْلَالًا مِنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ مَذْهَبَيْهِمَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ رَدَّ آبِقَا مِنْ خَارِجِ الْحَرَّةِ دِينَارًا وَرَوَى أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ تَارَةً مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَتَارَةً هَكَذَا عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ رَدَّ آبِقَا فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمَا " وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَدَّ ضَالَّةً لِرَجُلٍ فَقَالَ النَّاسُ لَقَدْ حَازَ أَجْرًا عَظِيمًا فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَهُ مَعَ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَكَانَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا أَنَّهُمَا قَالَا مَنْ رَدَّ آبِقًا فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُمَا إِجْمَاعًا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ: قَالُوا وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ مَوْضُوعٌ عَلَى مَا أَدَّى إِلَى حِفْظِهَا وَرِفْقِ أَرْبَابِهَا فِيهَا فَلَوْ مُنِعَ الرَّادُّ لَهَا مِنْ جُعْلٍ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ رَدِّهَا وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَلَفِهَا وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ فِي طَلَبِهَا.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ بَلْ أَضْعَفُ فَلَمَّا كَانَ لَوِ اسْتَهْلَكَ أَعْيَانًا فِي رَدِّ ضَالَّةٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ عَلَفٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا فَإِذَا اسْتَهْلَكَ مَنَافِعَ نَفْسِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهَا عِوَضًا.(8/29)
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا تَطَوَّعَ بِاسْتِهْلَاكِهِ فِي الضَّوَالِّ لَمْ يَرْجِعْ بِعِوَضِهِ كَالْأَعْيَانِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَلَ الْمَالِكَ إِلَى مِلْكِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا فَكَذَلِكَ إِذَا أَوْصَلَ الْمِلْكَ إِلَى مَالِكِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا لِتَطَوُّعِهِ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَمِلْكِهِ تَطَوُّعًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِهِ عِوَضًا كَمَا لَوْ أَوْصَلَ الْمَالِكَ إِلَى مِلْكِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَالِكٍ خَاصَّةً أَنَّ مِنْ تَطَوَّعَ بِاصْطِنَاعِ مَعْرُوفٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ جُعْلًا كَغَيْرِ الْمَعْرُوفِ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أبي حنيفة خَاصَّةً أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجُعْلِ عَلَى رَدِّ الْعَبْدِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مِلْكًا أَوْ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا فَإِنْ كَانَ لِكَوْنِهِ مِلْكًا بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهُ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ مِلْكًا لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ بَهِيمَةً أَوْ لُقَطَةً لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ صَبِيًّا قَدْ ضَاعَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَبَطَلَ بِهَذَيْنِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِي رَدِّ الْعَبْدِ شَيْئًا قَالَ: أَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ ذَكَرُوهُ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مِنْهُ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ خَاصَّةً قَبْلَ الْمَجِيءِ لِيَصِيرَ مُسْتَحِقًّا لِلْجُعْلِ بِالشَّرْطِ وَإِمَّا لِتَقْرِيرٍ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْجَعَالَةِ الْفَاسِدَةِ وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِرْفَاقِ وَالْمَصْلَحَةِ فَمُنْتَقَضٌ بِالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا رَدُّ الضَّالَّةِ عَنْ أَمْرِ مَالِكِهَا فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِرَدِّهَا عِوَضًا فَذَلِكَ مُسْتَحِقٌّ فَإِنْ كَانَ عِوَضًا مَعْلُومًا وَعَقْدًا صَحِيحًا اسْتَحَقَّهُ وَإِنْ كَانَ عِوَضًا مَجْهُولًا وَعَقْدًا فَاسِدًا اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَكَانَ حِمْلُ الْبَعِيرِ عِنْدَهُمْ مَعْلُومًا كَالْوَسْقِ وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ لَا يُذْكَرَ مَعَ الْأَمْرِ بِالرَّدِّ عِوَضًا لَا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا بَلْ قَالَ لَهُ فُلَانٌ جِئْنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ أَمْ لَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذلك أولا لِتَرَدُّدِ الْأَمْرَيْنِ بَيْنَ احْتِمَالِ تَطَوُّعٍ وَاسْتِعْجَالٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ سَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ لِاسْتِهْلَاكِ مَنَافِعِهِ بِأَخْذِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ سُرَيْجٍ إِنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفٍ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ اعْتِبَارًا.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ إِنِ ابْتَدَأَهُ مَالِكُ الْعَبْدِ بِالْأَمْرِ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَإِنِ استئذنه الْجَانِي بِالضَّالَّةِ فَأَذِنَ لَهُ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ اقْتِصَارًا عَلَى حُكْمِ أَسْبَقِ الْحَالَيْنِ.
فَصْلٌ:
فَلَوِ اخْتَلَفَ مَالِكُ الضَّالَّةِ وَمَنْ رَدَّهَا فِي الْإِذْنِ فقال المالك ردها بِغَيْرِ إِذْنٍ فَأَنْتَ مُتَطَوِّعٌ بِغَيْرِ أَجْرٍ وَقَالَ مَنْ رَدَّهَا بَلْ رَدَدْتُهَا عَنْ أَمْرِكَ بِأَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ لِبَرَاءَةِ(8/30)
ذمته ولو اتفقنا عَلَى الْإِذْنِ بِالْأَجْرِ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِرَدِّهِ وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ عَبَدَهُ سَالِمًا وَادَّعَى الْآخَرُ نَفْيَهُ فَقَالَ الْمَالِكُ بَلْ فَعَلْتُ ذَلِكَ فِي عَبْدِي غَانِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْإِذْنَ فيه وإن اعترف به في غيره.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ كَذَا وَلَآخَرَ مِثْلُ ذَلِكَ وَلِثَالِثٍ مِثْلُ ذَلِكَ فَجَاءُوا بِهِ جَمِيعًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ مَا جَعَلَهُ لَهُ اتَّفَقَتِ الْأَجْعَالُ أَوِ اخْتَلَفَتْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجَعَالَةُ فَمِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ دُونَ اللَّازِمَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زعيم} وَهِيَ تُفَارِقُ الْإِجَارَةَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا جَوَازُ عَقْدِهَا عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ كَقَوْلِهِ مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَجْهُولَ الْمَكَانِ وَفَسَادُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْجَعَالَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَالْإِجَارَةَ لَازِمَةٌ وَالثَّالِثُ أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِهِ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ وَإِنْ لَمْ يُعَيَّنِ الْجَائِي بِهِ فَأَيُّ النَّاسِ جَاءَ بِهِ فَلَهُ الدِّينَارُ وَالْإِجَارَةُ لَا تَصِحُّ إِلَّا مَعَ مَنْ يَتَعَيَّنُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا فَارَقَتِ الْإِجَارَةَ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّعَاوُنِ وَالْإِرْفَاقِ فَكَانَتْ شُرُوطُهَا أَخَفَّ وَحُكْمُهَا أَضْعَفَ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ فَأَيُّ النَّاسِ جَاءَ بِهِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ حر أو عبد مسلم أو كافر صغيرا أو كبيرا عاقلا أو مجنونا إِذَا كَانَ قَدْ سَمِعَ النِّدَاءَ أَوْ عَلِمَ بِهِ لِدُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ مَنْ جَاءَنِي فَلَوْ جَاءَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ سَيِّدِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا لِأَنَّ الْجُعْلَ عَلَيْهِ لَا لَهُ فَلَوْ جَاءَ بِهِ مَنْ لَمْ يَسْمَعِ النِّدَاءَ وَلَا عَلِمَ بِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِحَمْلِهِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَلَوْ عَلِمَ بِالنِّدَاءِ بَعْدَ الْمَجِيءِ بِهِ وَقَبْلَ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ لِأَنَّ السَّامِعَ لِلنِّدَاءِ لَوْ جَاءَ بِهِ مِنْ أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ أو أبعدها استحقه فكذلك فَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْجَائِي بِهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا بِالنَّفَقَةِ وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ الدِّينَارِ فَلَوْ جَاءَ بِالْعَبْدِ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ فِي قَبْضَةِ حَيَاتِهِ اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ لِأَنَّهُ مَبْذُولٌ عَلَى حَمْلِهِ فَلَوِ اخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَحَامِلُهُ فَقَالَ الْعَبْدُ جِئْتُ بِنَفْسِي وَقَالَ حَامِلُهُ بَلْ أَنَا جِئْتُ بِهِ رَجَعَ إِلَى تَصْدِيقِ السَّيِّدِ فَإِنْ صَدَّقَ الْحَامِلَ لَمْ يُعْتَبَرْ إِنْكَارُ الْعَبْدِ وَاسْتَحَقَّ الدِّينَارَ وَإِنْ صَدَقَ الْعَبْدُ حَلَفَ السَّيِّدُ، دُونَ الْعَبْدِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَ السَّيِّدُ وَحَامِلُ الْعَبْدِ فَقَالَ السَّيِّدُ فَلَمَّا لَمْ تَسْمَعِ النِّدَاءَ فَلَا شَيْءَ لَكَ وَقَالَ الْحَامِلُ بَلْ سَمِعْتُهُ وَعَلِمْتُ بِهِ فَلِي الدِّينَارُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الحامل وله الدينار لأن علمه بالشي يَرْجِعُ فِيهِ إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ فَلَوْ قَالَ سَيِّدُ الْعَبْدِ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي مِنْ سَامِعِي نِدَائِي هَذَا فَلَهُ دِينَارٌ فَجَاءَ بِهِ مَنْ عَلِمَ بِنِدَائِهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَلَوْ قَالَ الْجَائِي بِهِ سَمِعْتُ النِّدَاءَ وَقَالَ السَّيِّدُ لَمْ تَسْمَعْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَائِي بِهِ أَيْضًا.
فَصْلٌ:
فَلَوْ أَمَرَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ فَنَادَى مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي فُلَانٍ فَلَهُ دِينَارٌ كَانَ نِدَاءُ الْمُنَادِي كَنِدَاءِ السَّيِّدِ فِي وُجُوبِ الدِّينَارِ عَلَيْهِ لِحَامِلِ عَبْدِهِ فَلَوْ أَنْكَرَ السَّيِّدُ أَمْرَ الْمُنَادِي بِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمُنَادِي فَإِنْ قَالَ فِي نِدَائِهِ إِنَّ فُلَانًا قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ فَلَا شَيْءَ(8/31)
عَلَى الْمُنَادِي لِأَنَّهُ جَاهِلٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ مَنْ جَاءَ بِعَبْدِي فُلَانٍ فَلَهُ دِينَارٌ فَعَلَى الْمُنَادِي دَفَعُ الدِّينَارِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْزِلَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَائِي بِالْعَبْدِ قَدْ صَدَّقَ الْمُنَادِي عَلَى أَمْرِ السَّيِّدِ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُنَادِي بِشَيْءٍ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ دِينَارٌ فَجَاءَ بِهِ نَفْسَانِ كَانَ الدِّينَارُ بَيْنَهُمَا لِحُصُولِ الْمَجِيءِ بِهِمَا وَلَوْ جَاءَ بِهِ عَشَرَةً كَانَ الدِّينَارُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ أُجُورُهُمْ أَوِ اخْتَلَفَتْ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْمَجِيءِ بِهِ فَلَوْ قَالَ يَا زَيْدُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ فَجَاءَ بِهِ غَيْرُهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الدِّينَارَ وَلَوْ جَاءَ بِهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، نُظِرَ فِي عَمْرٍو فَإِنْ قَالَ جِئْتُ بِهِ مُعَيَّنًا لِزَيْدٍ فَلِزَيْدٍ جَمِيعُ الدِّينَارِ وَلَا شَيْءَ لِعَمْرٍو لِأَنَّ لِزَيْدٍ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي حَمْلِهِ بمن شَاءَ وَإِنْ قَالَ عَمْرٌو جِئْتُ بِهِ لِنَفْسِي طَلَبًا لِأُجْرَتِهِ فَلِزَيْدٍ نِصْفُ الدِّينَارِ لِأَنَّ لَهُ نِصْفَ الْعَمَلِ وَلَا شَيْءَ لِعَمْرٍو لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ شَيْءٌ فَلَوِ اخْتَلَفَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَقَالَ زَيْدٌ جِئْتُ بِهِ مُعَيَّنًا لي وقال عمرو بل جئت به مستجعلا لِنَفْسِي رَجَعَ إِلَى السَّيِّدِ فَإِنْ صَدَّقَ زَيْدًا اسْتَحَقَّ الدِّينَارَ كُلَّهُ وَإِنْ صَدَّقَ عَمْرًا حَلَفَ السَّيِّدُ دُونَ عَمْرٍو لِأَنَّهُ الْغَارِمُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا نِصْفُ الدِّينَارِ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ قَالَ يَا زَيْدُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ وَيَا عَمْرُو إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ وَيَا بَكْرُ إِنْ جِئْتَنِي بِهِ فَلَكَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَإِنْ جَاءَ بِهِ غَيْرُهُمْ فَلَا شَيْءَ له وإن جاء به أحدهم فله ما جعل له فإن جاؤا بِهِ جَمِيعًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ مَا جَعَلَ لَهُ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الْعَمَلِ فَيَكُونُ لِزَيْدٌ ثُلُثُ الدِّينَارِ وَيَكُونُ لِعَمْرٍو ثُلُثُ الْخَمْسَةِ وَيَكُونُ لِبَكْرٍ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ فَلَوْ قَالَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَعَانَنَا بَكْرٌ فِي حَمْلِهِ فَلَهُ كُلُّ الْعَشَرَةِ فَقَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَقْبُولٌ لأن لهما أن يتركها الْعَمَلَ لِأَنْفُسِهِمَا وَيَتَطَوَّعَا بِهِ لِغَيْرِهِمَا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِعْلَانُ الْإِذْنِ فَمَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ الدِّينَارُ وَإِنْ أَعْلَنَهُ فَلَا شيء من جَاءَ بِهِ بَعْدَ إِعْلَانِ الْإِذْنِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِرُجُوعِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ إِذَا كَانَ قَدْ شَرَعَ فِي الْمَجِيءِ بِهِ لِأَنَّ إِعْلَامَ كُلِّ النَّاسِ بِرُجُوعِهِ مُتَعَذِّرٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الرُّجُوعِ أَكْثَرُ مِنَ الْإِعْلَانِ وَالْإِشَاعَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْجَائِي بِهِ شَرَعَ فِي حَمْلِهِ قَبْلَ الرُّجُوعِ فَلَهُ الدِّينَارُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِالرُّجُوعِ فَأَمَّا إِنْ قَالَ يَا زَيْدُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي فَلَكَ دِينَارٌ ثُمَّ رَجَعَ السَّيِّدُ فَعَلَيْهِ إِعْلَامُ زَيْدٍ بِرُجُوعِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي حَمْلِهِ فإن لم يعلم فهو على حَقُّهِ سَوَاءٌ أَعْلَنَ السَّيِّدُ الرُّجُوعَ أَوْ لَمْ يُعْلِنْهُ لِأَنَّ إِعْلَامَ زَيْدٍ بِالرُّجُوعِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ فَلَوْ شَرَعَ زَيْدٌ فِي حَمْلِهِ ثُمَّ أَعْلَمَهُ السَّيِّدُ بِرُجُوعِهِ قِيلَ لِلسَّيِّدِ أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْمَجِيءِ بِهِ فَيَسْتَحِقُّ كُلَّ الدينار أو تبذل له أجرة مثل ما فَوَّتَهُ مِنْ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ لَازِمٍ لَكَ فَلَيْسَ لَكَ إِبْطَالُ عَمَلِهِ عَلَيْهِ كَالْمُضَارَبَةِ إِذَا رَجَعَ فِيهَا رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ عَمَلِ الْعَامِلِ لَزِمَهُ تَمْكِينُ الْعَامِلِ مِنْ بَيْعِ مَا اشْتَرَاهُ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَلَيْهِ عَمَلَهُ بِالرُّجُوعِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ غَيْرَ لَازِمٍ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ جَاءَ زَيْدٌ بِالْعَبْدِ وَقَدْ مَاتَ السَّيِّدُ كَانَ لَهُ الدِّينَارُ فِي تَرِكَتِهِ إِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَلَوْ مَاتَ زَيْدٌ قَبْلَ وُصُولِ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدِهِ فَإِنْ تَمَّمَ وَارِثُ زَيْدٍ حَمْلَ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدِهِ فَلَهُ مِنَ الدِّينَارِ الْمُسْتَحَقِّ بِقِسْطِ عَمَلِ زَيْدٍ مِنْهُ لِأَنَّ عَمَلَهُ لَمْ يَفُتْ وَلَا شَيْءَ لِلْوَارِثِ مِنْهُ لِقِسْطِ عمل(8/32)
نَفْسِهِ لِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الْعُقُودِ يُبْطَلُ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَقُمْ عَمَلُ الْوَارِثِ مَقَامَ عَمَلِ الْمَوْرُوثِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْوَارِثُ بِالْعَبْدِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِوَارِثِ زَيْدٍ فِيمَا عمله من حمل العبد لأن زيد لَوْ كَانَ حَيًّا فَلَمْ يُتَمِّمْ حَمْلَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَلْزَمُ السَّيِّدُ مِنَ الدِّينَارِ بِقِسْطِ عَمَلِ زِيدٍ فِي حَمْلِهِ لِئَلَّا يُبْطِلَ عَمَلَهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ الَّذِي بِاخْتِيَارِهِ فَاتَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَهَذَا التَّعْلِيلُ غَيْرُ صَحِيحٍ لأن زيد لَوْ كَانَ عَلَى حَمْلِهِ فَهَرَبَ الْعَبْدُ مِنْهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ لِمَاضِي عَمَلِهِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ تَفْوِيتَ الْعَمَلِ عَلَيْهِ، فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى بَلَدِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي حَمْلِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَوْتِهِ وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى بَلَدِهِ وَقَبْلَ حُصُولِهِ فِي يَدِ سَيِّدِهِ وَهَذَا يُوَضِّحُ فَسَادَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ.
فَصْلٌ: وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ يَا زَيْدُ إِنْ جِئْتَنِي بِعَبْدِي مِنْ بَغْدَادَ فَلَكَ دِينَارٌ فَجَاءَ بِهِ مِنْهَا اسْتَحَقَّ وَلَوْ جَاءَ بِهِ مِنْ أَبْعَدِ مِنْهَا كَالْمَوْصِلِ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَكْثَرَ مِنَ الدِّينَارِ وَلَوْ جَاءَ بِهِ مَنْ أَقَلُّ مِنْهَا نَحْوَ وَاسِطٍ اسْتَحَقَّ مِنَ الدِّينَارِ بِقِسْطِهِ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَمَلِ الَّذِي جعل الدِّينَارَ فِي مُقَابَلَتِهِ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ إِنَّ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ دِينَارٌ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي فَلَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ كَانَ الْآخِرُ مِنْ قَوْلَيْهِ هُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ لِمَنْ جَاءَ بِهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَبِعَكْسِ مَنْ قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِهِ فَلَهُ عَشَرَةٌ ثُمَّ قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِهِ فَلَهُ دِينَارٌ كَانَ لِلْجَائِي بِهِ دِينَارٌ وَاحِدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.(8/33)
باب التقاط المنبوذ يوجد معه الشيء بما وضع بخطه لا أعلمه سمع منه، ومن مسائل شتى سمعتها منه لفظا
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى فيما وضع بخطه: " ما وُجِدَ تَحْتَ الْمَنْبُوذِ مِنْ شَيْءٍ مَدْفُونٍ مِنْ ضرب الإسلام أو كان قريبا منه فهو لُقَطَةٌ أَوْ كَانَتَ دَابَّةً فَهِيَ ضَالَّةٌ فَإِنْ وُجِدَ عَلَى دَابَّتِهِ أَوْ عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ مَالٌ فَهُوَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا الْمَنْبُوذُ فَهُوَ الطِّفْلُ يُلْقَى لِأَنَّ النَّبْذَ فِي كَلَامِهِمُ الْإِلْقَاءُ وَسُمِّيَ لَقِيطًا لِالْتِقَاطِ وَاجِدِهِ لَهُ وَقَدْ تَفْعَلُ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا لِأُمُورٍ: مِنْهَا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ مِنْ فَاحِشَةٍ فَتَخَافُ الْعَارَ فَتُلْقِيهِ أَوْ تَأْتِي بِهِ مِنْ زَوْجٍ فَتَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِهِ فَتُلْقِيهِ رَجَاءَ أَنْ يَأْخُذَهُ مَنْ يَقُومُ بِهِ. أَوْ تَمُوتُ الْأُمُّ فَيَبْقَى ضَائِعًا فَيَصِيرُ فَرْضَ كِفَايَةٍ وَالْقِيَامُ بِتَرْبِيَتِهِ عَلَى كَافَّةِ مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ حَتَّى يَقُومَ بِكَفَالَتِهِ مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ كَالْجَمَاعَةِ إِذَا رَأَوْا غَرِيقًا يَهْلِكُ أَوْ مَنْ ظَفِرَ بِهِ سَبْعٌ فَعَلَيْهِمْ خَلَاصُهُ وَاسْتِنْقَاذُهُ.
لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ شُكْرَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ أحياهم وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ نَابَ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ فِي إِحْيَائِهِ.
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّدْبِ عَلَى أَخْذِهِ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى حِرَاسَةِ نَفْسِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8] طَلَبًا لِحِفْظِ نَفْسِهِ وَرَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ مَنْبُوذًا وُجِدَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْتَأْجَرَ لَهُ امْرَأَةً تَكْفُلُهُ وَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِي النَّفَقَةِ فَأَشَارُوا أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبَى جَمِيلَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَخَذْتُ مَنْبُوذًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه فذكره عريفي عمر فَأَرْسَلَ إِلَيَّ فَدَعَانِي وَالْعَرِيفُ عِنْدَهُ قَالَ عَسَى الغوير أبو ساء فَقَالَ عَرِيفِي إِنَّهُ لَا يَفْهَمُ فَقَالَ عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ فَقُلْتُ وَجَدْتُ نَفْسًا مُضَيَّعَةً فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَأْجُرَنِي اللَّهُ عَزَ وَجَلَّ فِيهَا قَالَ هُوَ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ لَكَ وَعَلَيْنَا رَضَاعُهُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ لَقِيطًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَجِدَ مَعَهُ مَالًا أَوْ لَا يَجِدُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَعَهُ مَالًا تطوع بأخذه والنفقة عليه وَإِنْ أَبَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ تَطَوُّعًا إِمَّا لِعَجْزٍ أَوِ شُحٍّ رُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْحَاكِمِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَإِنْ وَجَدَ مَعَهُ مَالًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ بَاعِثًا عَلَى أخذه والقيام(8/34)
بِتَرْبِيَتِهِ فَذَلِكَ الْمَالُ مِلْكٌ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ وَإِنْ كَانَ طِفْلًا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا بميراث أو وصية وإنما بحكم ملكه فيما كان بيده لأن له يد توجب الملك كالكبير الذي ينسب إليه وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ مِلْكِهِ كُلَّمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ كَانَ تَحْتَهُ مِنْ فِرَاشٍ أَوْ حَصِيرٍ أَوْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ عِنَانِ فَرَسٍ أَوْ كَانَ رَاكِبًا لَهُ مِنْ بَعِيرٍ أَوْ فَرَسٍ فَكُلُّ ذَلِكَ مَنْسُوبٌ إِلَى يَدِهِ كَالْكَبِيرِ وَمَحْكُومٌ له به في ملكه.
فصل:
فما وُجِدَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْعُدَ عنه كالفرس المربو عَلَى بُعْدٍ أَوْ كِيسٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبٍ فَذَلِكَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى يَدِهِ كَمَا لَا يُنْسَبُ إِلَى يَدِ الْكَبِيرِ وَيَكُونُ لُقَطَةً.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ آهِلًا كَثِيرَ الْمَارَّةِ فَهَذَا يَكُونُ لُقَطَةً أَيْضًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مُنْقَطِعًا قَلِيلَ الْمَارَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ لُقَطَةً كَالْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ مَا يُقَارِبُهُ مِنَ الْمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا لِلَّقِيطِ اعْتِبَارًا بِالظَّاهِرِ مِنْ حَالِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَبِيرِ بِأَنَّ الْكَبِيرَ يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِ مَا يُقَارِبُهُ مِنْ مَالٍ أَوْ فَرَسٍ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُ ارْتَفَعَتْ يَدُهُ فَزَالَ الْمِلْكُ وَالصَّغِيرُ يَضْعُفُ عَنْ إِمْسَاكِ مَا يُقَارِبُهُ فَجَازَ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى مِلْكِهِ وَأَنَّهُ فِي حُكْمِ مَا فِي يَدِهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا مَا تَحْتَهُ مِنْ مَالٍ فَضَرْبَانِ مَدْفُونٌ وَغَيْرُ مَدْفُونٍ فَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فَلَيْسَ بِمِلْكٍ لِلَّقِيطِ لِأَنَّ الْكَبِيرَ لَوْ كَانَ جَالِسًا عَلَى أَرْضٍ تَحْتَهَا دَفِينٌ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِمِلْكِهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ لُقَطَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ رِكَازٌ يَمْلِكُهُ الْوَاجِدُ عليه خُمُسُهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَدْفُونٍ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَوْقَ بِسَاطِهِ وَتَحْتَ جَسَدِهِ فَهَذَا مِلْكٌ لِلَّقِيطِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ وَتَحْتَ جَسَدِهِ فهذا ملك للقيط لكونه في يده.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَحْتَ بِسَاطِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ كَالْبِسَاطِ إِذَا كَانَ تَحْتَهُ يَكُونُ مِلْكَهُ.
وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ مِلْكَهُ وَيَكُونُ لُقَطَةً بِخِلَافِ الْبِسَاطِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ أَنْ تَكُونَ مَبْسُوطَةً عَلَى الْأَرْضِ تَحْتَ مَالِكِهَا وَجَرَتْ عَادَةُ الْبِسَاطِ أَنْ يُبْسَطَ عَلَى الْأَرْضِ تَحْتَ مَالِكِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ مَنْبُوذٌ فِيهِ فَإِنْ كان مواتا أو مسجدا أو طريقا مايلا فهو(8/35)
عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَانَ مِلْكًا فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِسُكْنَاهُ كَالدُّورِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ فِيهَا كَالْكَبِيرِ يَمْلِكُ مَا هُوَ فِيهَا مِنْ دَارٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِسُكْنَاهُ كَالْبَسَاتِينِ وَالضَّيَاعِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْكُمُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ يَدٌ كَالدُّورِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَحْكُمُ لَهُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الدَّارِ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ تَصَرُّفٌ وَلَيْسَ الْحُصُولُ فِي الْبَسَاتِينِ سُكْنَى وَلَا تَصَرُّفٌ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ مُلْتَقِطُهُ غَيْرَ ثِقَةٍ نَزَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً وَجَبَ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا وُجِدَ لَهُ وَأَنَّهُ مَنْبُوذٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ مُلْتَقِطُ الْمَنْبُوذِ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ خَوْفًا مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ وَلَا عَلَى مَالِهِ خَوْفًا مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ نَزَعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ يَدِهِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ غَيْرَ الْمَأْمُونِ ليس من أهل الولايات والثاني أنه لَا حَظَّ لِلْمَنْبُوذِ فِي تَرْكِهِ تَحْتَ يَدِهِ فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ لَوْ كَانَ وَاجِدُ اللُّقَطَةِ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهَا أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ عَلَى أحد القولين فهلا كان اللقيط كذلك قبل الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللُّقَطَةَ اكْتِسَابٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْأَمِينُ وَغَيْرُهُ وَالْتِقَاطُ الْمَنْبُوذِ وِلَايَةٌ فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْأَمِينُ وَغَيْرُهُ.
وَالثَّانِي: مَا يُخَافُ عَلَى الْمَنْبُوذِ مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ وَإِضَاعَتِهِ أَغْلَظُ مِمَّا يُخَافُ عَلَى الْمَالِ مِنِ استهلاكه وتلفه لأن للمال بَدَلٌ وَلَيْسَ لِلْحُرِّيَّةِ بَدَلٌ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ مُلْتَقِطِ الْمَنْبُوذِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَأْمُونًا عَلَيْهِ وَعَلَى ما له فَيُقَرَّانِ مَعًا فِي يَدِهِ وَهَلْ يَكُونُ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ نَظَرٌ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ لَا نَظَرَ عليه لا اجتهاد له فيما إليه كَمَا أَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي اللُّقَطَةِ عَلَى وَاجِدِهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ إِنَّ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ فِي الْمَنْبُوذِ نَظَرٌ وَلَهُ فِي كَفَالَتِهِ اجْتِهَادٌ لِأَنَّهُ الْوَالِي عَلَى الْأَطْفَالِ وَخَالَفَ حَالَ اللُّقَطَةِ لِأَنَّهَا كَسْبٌ وَهَكَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْمُلْتَقِطُ خَصْمًا فِيمَا نُوزِعَ فِيهِ الْمَنْبُوذُ مِنْ أَمْوَالِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ نِيَابَةً عَنِ الْمَنْبُوذِ لِمَكَانِ نَظَرِهِ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ خَصْمًا إِلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُلْتَقِطُ غَيْرَ أَمِينٍ عَلَيْهِ فَوَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ انْتِزَاعُهَا مِنْ يَدِهِ وَيَرْتَضِي لَهُ مَنْ يَقُومُ بِكَفَالَتِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهِ فَلَا يُخَافُ مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ لَهُ لَكِنَّهُ غَيْرُ أَمِينٍ عَلَى مَالِهِ خَوْفًا مِنِ اسْتِهْلَاكِهِ لَهُ فَهَذَا يُقَرُّ الْمَنْبُوذُ فِي يَدِهِ وَيُنْتَزَعُ الْمَالُ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ بِالْتِقَاطِهِ حَقٌّ فِي(8/36)
كَفَالَتِهِ فَمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الْأَمَانَةِ فِيهِ كَانَ مُقَرًّا مَعَهُ وَلَيْسَ تُرَاعَى فِيهِ الْعَدَالَةُ فَيَكُونُ جَرْحُهُ فِي شَيْءٍ جَرْحًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ الْأَمَانَةُ وَقَدْ يَكُونُ أَمِينًا فِي شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْتَمَنٍ فِي غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا كَانَ الْمَالُ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا فِي يَدِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَاللُّقَطَةِ لِأَنَّهَا جَمِيعًا مال بخلاف المنبوذ قلنا لأن مال اللقطة كَسْبُ الْمُلْتَقِطِ وَلَيْسَ مَالُ الْمَنْبُوذِ كَسْبًا لِلْمُلْتَقِطِ، وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَى مَالِهِ غير أمين على نفسه ما مِنِ اسْتِرْقَاقِهِ وَإِمَّا لِأَنَّهَا ذَاتُ فَرْجٍ لَا يُؤْمَنُ غَيْرُهُ فَيُنْتَزَعُ الْمَنْبُوذُ مِنْهُ وَفِي إِقْرَارِ الْمَالِ مَعَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقَرُّ مَعَهُ وَإِنْ نُزِعَ الْمَنْبُوذُ مِنْهُ. كَمَا يُقَرُّ الْمَنْبُوذُ مَعَهُ وَإِنْ نُزِعَ الْمَالُ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُنْتَزَعُ الْمَالُ مِنْهُ مَعَ الْمَنْبُوذِ لِأَنَّ مَالَهُ تَبَعٌ لَهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْبُوذِ وَبَيْنَ مَالِهِ أَنَّ لملتقط المنبوذ حق فِي كَفَالَتِهِ وَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي حِفْظِ مَالِهِ وَإِنَّمَا الْحَقُّ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَلَهُ الْكَفَالَةُ فَافْتَرَقَا.
فَصْلٌ:
ثُمَّ الْحَاكِمُ مَنْدُوبٌ إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى مَنْ أَخَذَ الْمَنْبُوذَ وَمَالُهُ فِي يَدِهِ كَمَا كَانَ مَنْدُوبًا إِلَى الْإِشْهَادِ عَلَى مَنْ أَخَذَ الْمَنْبُوذَ وَمَالُهُ فِي يَدِ مُلْتَقِطِ الْمَالِ فَإِنْ كَانَ الْقَيِّمُ بِكَفَالَةِ الْمَنْبُوذِ وَحِفْظِ مَالِهِ غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ لَهُ لِتَسْلِيمِ الْحَاكِمِ لَهُ إِلَى مَنِ ارْتَضَاهُ لِأَمَانَتِهِ عِنْدَ حَيَاةِ مُلْتَقِطِهِ فَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْحَاكِمِ إِلَيْهِ ذَلِكَ حُكْمٌ يُغْنِي عَنِ الْإِشْهَادِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُلْتَقِطَ فَفِيهِ وَفِي اللُّقَطَةِ ثلاثة أوجه مضيا.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِشْهَادَ وَاجِبٌ فِي اللُّقَطَةِ وَالْمَنْبُوذِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْمَنْبُوذِ وَغَيْرُ وَاجِبٍ فِي اللُّقَطَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهُ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَمَا أَخَذَ ثَمَنَهُ الْمُلْتَقِطُ وَأَنْفَقَ مِنْهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ فَهُوَ ضَامِنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا وَجَدَ مَعَ اللَّقِيطِ مَالٌ كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ كَمَا يَجِبُ نَفَقَةُ الطِّفْلِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فِي مَالِهِ دُونَ مَالِ أَبِيهِ فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُلْتَقِطُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ مُحْسِنًا كَالْأَبِ إِذَا تطوع بالإنفاق على ولده الغني وإن أرد الْمُلْتَقِطُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُ الْحَاكِمِ فِيهِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ لِلْحَاكِمِ عليه نظر فِي اللَّقِيطِ أَوْ لَيْسَ لَهُ لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ نَظَرًا فِي مَالِهِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ فَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ أَوْ غَيْرَ قَادِرٍ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِئْذَانِهِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَ قَصْدًا أَوْ سَرَفًا لِأَنَّ الْحَاكِمَ هُوَ الْوَالِي عَلَى الْمَالِ دُونَهُ وَصَارَ ذَلِكَ وَإِنْ وَصَلَ إِلَى مَالِكِهِ كَمَنْ أَخَذَ عَلَفَ رَجُلٍ أَعَدَّهُ لِدَابَّتِهِ فَأَطْعَمَهَا إِيَّاهُ ضَمِنَهَا لَهُ وَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ.
كَالْجَمَّالِ إِذَا هَرَبَ مِنْ مُسْتَأْجِرِهِ فاكترى لنفسه عند إعواز الحاكم لِيَسْتَأْذِنَهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الْمُسْتَأْجِرُ وَلَا يَضْمَنُ الْمُلْتَقِطُ لِضَرُورَتِهَا وَالثَّانِي لَا يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ ويضمن(8/37)
الملتقط لأن لا يَكُونَا حَاكِمَيْ أَنْفُسِهِمَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَرَبِ الْجَمَّالِ وَبَيْنَ مُلْتَقِطِ الْمَنْبُوذِ فَجَعَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَرْجِعَ وَجَعَلَ الْمُلْتَقِطَ ضَامِنًا لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُضْطَرٌّ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَلَيْسَ الْمُلْتَقِطُ مضطر إِلَى الْتِقَاطِهِ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَجَدَهُ ضَائِعًا فِي مَهْلَكَةٍ فَلَزِمَهُ أَخْذُهُ لِنَفْسِهِ.
فَصْلٌ:
فَإِنِ اسْتَأْذَنَ الْحَاكِمُ فَهَلْ يَأْذَنُ لَهُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَتَوَلَّاهُ غَيْرُهُ مِنْ أُمَنَائِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَصَحُّ: أَنَّهُ يَأْذَنُ لَهُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ أَمِينًا إِمَّا بِتَقْدِيرِ مِثَالِهِ فَإِنْ زَادَ عَلَى الْقَدْرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ضَمِنَ وَإِمَّا بِأَنْ رَدَّ ذَلِكَ إِلَى اجْتِهَادِهِ فَمَا ادَّعَاهُ، فِيهَا عَنْ قَصْدٍ قُبِلَ مِنْهُ وَمَا تَجَاوَزَ الْقَصْدَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فِيهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْمُلْتَقِطِ مِنْ مَالِ الْمَنْبُوذِ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِي نَفَقَتِهِ حتى يتولى ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ أُمَنَاءِ الْحَاكِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الِاحْتِيَاطِ لَهُ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمِينَ يَتَوَلَّى شِرَاءَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَنْبُوذُ مِنْ طَعَامٍ وَكِسْوَةٍ ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَى الْمُلْتَقِطِ حَتَّى يُطْعِمَهُ وَيَكْسُوَهُ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَدْفَعُ قَدْرَ النَّفَقَةِ إِلَى الْمُلْتَقِطِ لِيَتَوَلَّى شِرَاءَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِمَا لَهُ حق الولاية عليه.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَرُمَ تَضْيِيعُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ حَتَّى يُقَامَ بِكَفَالَتِهِ فَيَخْرُجُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمَأْثَمِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. إِذَا الْتَقَطَ الْمَنْبُوذَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَلَمْ يَتَطَوَّعْ أَحَدٌ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ وَالٍ وَحَاكِمٍ أَنْ يَقُومَ بِنَفَقَتِهِ لِأَنَّهَا نَفْسٌ يَجِبُ حِرَاسَتُهَا وَيَحْرُمُ إِضَاعَتُهَا وَمِنْ أَيْنَ يُنْفِقُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الأصح: من بيت المال لأنه رصد لِلْمَصَالِحِ وَهَذَا مِنْهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: " لَئِنْ أَصَابَ النَّاسَ سَنَةٌ لِأُنْفِقَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ حَتَى لَا أَجِدَ دِرْهَمًا فَإِذَا لَمْ أَجِدْ دِرْهَمًا أَلْزَمْتُ كُلَّ رَجُلٍ رَجُلًا " وَقَدِ اسْتَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي النَّفَقَةِ عَلَى اللَّقِيطِ فَقَالُوا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا رُجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى اخْتِلَافِ مَا يَظْهَرُ مِنْ أَحْوَالِهِ لِوُجُوبِهَا فِيهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا فَتَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ أَوْ حُرًّا لَهُ أَبٌ غَنِيٌّ فَتَجِبُ عَلَى أَبِيهِ وَبَيْتُ الْمَالِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِلَّا مَا لَا وَجْهَ لَهُ سِوَاهُ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَقْتَرِضَ لَهُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ إِمَّا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ وَلَمْ يَنْفَرِدْ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ(8/38)
وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ ذَوِي الْمَكِنَةِ وَجَعَلَهَا مُقَسَّطَةً عَلَيْهِمْ عَلَى عَدَدِهِمْ جَبْرًا وَلَا يَخُصُّ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهَا وَاحِدًا قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَرُمَ تَضْيِيعُهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهُ حَتَّى يُقَامَ بِكَفَالَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ بَانَ عَبْدًا رَجَعَ بِهَا عَلَى سَيِّدِهِ وَإِنْ بَانَ لَهُ أَبٌ غَنِيٌّ أَخَذَهَا مِنْ أَبِيهِ فَإِنْ بَلَغَ وَلَا أَبَ لَهُ وَلَا سَيِّدَ فَإِنْ عَلِمَهُ مُكْتَسِبًا رَجَعَ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَيَقْضِي ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ يَرَاهُ فِيهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ أَوْ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ أَنْ يَسْتَسْلِفَ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ يَكُونُ عَلَيْهِ دَيْنًا فَمَا ادَّعَى قُبِلَ مِنْهُ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ قَصْدًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) لَا يَجُوزُ قَوْلُ أَحَدٍ فِيمَا يَتَمَلَّكُهُ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ دَعْوَى وَلَيْسَ كَالْأَمِينِ يَقُولُ فَيَبْرَأُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ فَقِيرٍ أَمَرَ الْحَاكِمُ مُلْتَقِطَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ فَهَذَا جَائِزٌ وَلَا يَأْخُذُ الْقَرْضَ جُمْلَةً وَلَكِنْ يَسْتَقْرِضُ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ قَدْرَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ فِي إِنْفَاقِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ غِذَاءٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَإِذَا مَرَّتْ بِهِ الْأَيَّامُ عَلَى سَلَامَةٍ وَهُوَ فِيهَا نَامِي الْجَسَدِ مُسْتَقِيمُ الْأَحْوَالِ كَانَ الْأَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ وَصُولُ النَّفَقَةِ إِلَيْهِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ نَفْسِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى إِنْفَاقَهُ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ نَصُّهُ هَا هُنَا: يَجُوزُ لِكَوْنِهِ أَمِينًا وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ مِثْلُهُ قَصْدًا قُبِلَ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَنَاءِ فَيُنْفِقَهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ أَحَدٍ فِيمَا يَدَّعِيهِ دَيْنًا عَلَى غَيْرِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ وَجَدَهُ رَجُلَانِ فَتَشَاحَّاهُ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ خَرَجَ سَهْمَهُ دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ خَيْرًا لَهُ لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا عَمَّا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا اشْتَرَكَ نَفْسَانِ فِي الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ لَهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْأَمَانَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَنَازَعَاهُ وَيَتَشَاحَنَا عَلَيْهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَشْتَرِكَ بَيْنَهُمَا كَانَتِ الْقُرْعَةُ بَيْنَهُمَا لِيَتَمَيَّزَ بِهَا الْأَحَقُّ مِنْ غَيْرِ تُهْمَةٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] الْآيَةَ ثُمَّ يَتَعَيَّنُ حَقُّ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا فِي كَفَالَتِهِ فَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ يَدِهِ عَنْهُ كَانَ لَهُ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إِمْسَاكِهِ وَيَتَسَلَّمُهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ وَهَلْ يَصِيرُ شَرِيكُهُ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْتِقَاطِهِ وَإِنْ تَقَدَّمَ الْآخَرُ بِالْقُرْعَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ بَطَلَتْ كَفَالَتُهُ لَمَّا قَرَعَهُ صَاحِبُهُ وَصَارَ غَيْرُهُ سَوَاءً فَيَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ(8/39)
فِيهِ رَأْيَهُ فَهَذَا حُكْمُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَنْ خَرَجَ بِالْقُرْعَةِ أَنَفَعَ لَهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الَّذِي خَرَجَ قُرْعَتُهُ مُقَصِّرًا أَوْ كَانَا سَوَاءً، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ لَا قُرْعَةَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ وَلَكِنْ يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا رَأْيَهُ فَأَيُّهُمَا رَآهُ أَحَظَّ لَهُ كَانَ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ وَإِنْ خَالَفَ نَصَّ الشَّافِعِيِّ غَيْرَ أَنَّ تَسَاوِيَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا إِلَّا بِالْقُرْعَةِ كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا.
فَصْلٌ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَنَازَعَا وَيَتَّفِقَا عَلَى تَسْلِيمِهِ لِأَحَدِهِمَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أحدهما: أن يسلمه قبل استقراره يَدِهِ عَلَيْهِ فَهَذَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَهُ بِمَثَابَةٍ مَنْ رَآهُ وَلَمْ يَلْتَقِطْهُ وَيَصِيرُ الْمُسْتَلِمُ أَوْلَى وَكَأَنَّهُ الْتَقَطَهُ وَحْدَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَسْتَقِرَّ أَيْدِيَهُمَا جَمِيعًا عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَلْقُوطُ مَعَهُمَا ثُمَّ يَتَسَلَّمُهُ أَحَدُهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَلَيْسَ يَتَجَاوَزُهُمَا كَالشَّقِيقَيْنِ إِذَا سَلَّمَ أَحَدَهُمَا لِصَاحِبِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ حَقَّ الْكَفَالَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّسْلِيمِ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْوَاجِدُ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَسْلِيمُهُ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى يَتَوَلَّى الْحَاكِمُ.
فَصْلٌ:
وَلَوِ الْتَقَطَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ كَانَا فِي كَفَالَتِهِ سَوَاءً فَيَقْتَرِعَانِ وَلَا تُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ كَتَقْدِيمِ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ فِي الْحَضَانَةِ لِأَنَّ فِي الِالْتِقَاطِ وِلَايَةً إِنْ لَمْ يَكُنِ الرَّجُلُ أَحَقَّ لَهَا لَمْ يَكُنْ أَنَقَصَ حضانة الأبوين.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُقِيمًا بِالْمِصْرِ وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ دُفِعَ إِلَى الْمُقِيمِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَجَدَ اللَّقِيطَ فِي الْمِصْرِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ وَالْآخَرُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ وَهُوَ غَرِيبٌ فِي هَذَا الْمِصْرِ فَالْوَاجِدُ لَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرِهِ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ مِنَ الْغَرِيبِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَنَّ قِيَامَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ أَشْهَرُ لِحَالِهِ وَأَقْرَبُ إِلَى ظُهُورِ نَسَبِهِ وَلَكِنْ لَوِ انْفَرَدَ الْغَرِيبُ بِالْتِقَاطِهِ وَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ إِلَى بَلَدِهِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ مَأْمُونٍ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا وَالطَّرِيقُ مَأْمُونٌ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ قَرِيبًا عَلَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ إِذَا تَسَاوَى الْبُلْدَانُ أو كان بلد الملتقط أصلح فأما إن كان بلد اللقيط مصر وَبَلَدُ الْمُلْتَقِطِ قَرْيَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِأَنَّ الْمِصْرَ أَنْفَعُ لَهُ مِنَ الْقَرْيَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ وَوُفُورِ الصَّنَائِعِ وَالِاكْتِسَابِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَحِقُّ كَفَالَتَهُ وَإِخْرَاجَهُ إِلَى قَرْيَتِهِ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ رُبَّمَا كَانَتْ أَعَفَّ وَكَانَ أَهْلُهَا أَسْلَمَ وَمَعَايِشُهُمْ أَطْيَبَ وَلِأَنَّ حَالَهُ فِي الْقَرْيَةِ أَيْسَرُ مِنْهَا فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ لِقِلَّةِ مَنْ فِيهَا وَكَثْرَةِ مَنْ فِي الْمِصْرِ وَقَلَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْعُرَ فِي الْقُرَى بِفَاحِشَةٍ تَخْفَى وَرِيبَةٍ تُكْتَمُ.(8/40)
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ بَعِيدًا وَأَخْبَارُهُ مُنْقَطِعَةً وَالطَّارِئُ إِلَيْهِ أَوْ مِنْهُ نَادِرٌ.
كَمَنْ بِالْعِرَاقِ إِذَا أَرَادَ نَقْلَهُ إِلَى الشَّرْقِ أَوِ الْغَرْبِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِإِضَاعَةِ نَسَبِهِ وَخَفَاءِ حَالِهِ فَلَوْ قَالَ الْغَرِيبُ أَنَا أَسْتَوْطِنُ بَلَدَ اللَّقِيطِ قُلْنَا أَنْتَ حِينَئِذٍ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ وَإِنَّمَا تُمْنَعُ مِنْهُ إِذَا أَرَدْتَ الْعَوْدَ إِلَى بَلَدِكَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ بَعِيدًا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَكِنَّ أَخْبَارَهُ مُتَّصِلَةٌ وَالْوَارِدُ مِنْهُ كَثِيرٌ كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِكَفَالَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِأَنَّ حَظَّ اللَّقِيطِ فِي بَلَدِهِ أَكْثَرُ وَحَالَهُ فِيهِ أَشْهَرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ لِتَسَاوِي الْبَلَدَيْنِ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ وَرُبَّمَا كَانَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ أَنْفَعَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَعَيَّنُ لِحَاكِمِ بَلَدِ اللَّقِيطِ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ الْمُلْتَقِطِ يَذْكُرُ حاله وإشهار أمره.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ قَرَوِيًّا وَبَدَوِيًّا دُفِعَ إِلَى الْقَرَوِيِّ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْبَادِيَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا الْتَقَطَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا قَرَوِيٌّ وَالْآخَرُ بَدَوِيٌّ فَالْقَرَوِيُّ أَوْلَى لَهُ مِنَ الْبَدَوِيِّ، سَوَاءٌ وَجَدَاهُ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَادِيَةٍ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ أَمْكَنُ فِي التَّعْلِيمِ وَأَبْلَغُ فِي التَّأْدِيبِ وَأَحْسَنُ فِي الْمَنْشَأِ وَقَدْ رَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ بَدَا جَفَا وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ وَمَنِ اقْتَرَبَ مِنْ أَبْوَابِ السَّلَاطِينِ افْتَتَنَ ".
مَعْنَى قَوْلِهِ مَنْ بَدَا جَفَا أَيْ مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ صَارَ فِيهِ جَفَاءُ الْأَعْرَابِ وَقَوْلُهُ من اتبع السيد غَفَلَ يُرِيدُ مَنْ يَشْتَغِلُ بِهِ وَيَنْقَطِعُ إِلَيْهِ تَصِيرُ فِيهِ غَفْلَةٌ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا انْفَرَدَ الْبَدَوِيُّ بِالْتِقَاطِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجِدَهُ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي نُزُولِ الْبَادِيَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجِدَهُ فِي الْبَادِيَةِ فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْكُنُ حُلَّةً مُقِيمًا فِيهَا وَلَا يَنْتَجِعُ عَنْهَا فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ لِأَنَّ وَجُودَهُ فِي الْبَادِيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَنْتَجِعُ وَلَا يَلْزَمُ حُلَّةً وَلَا يُقِيمُ فِي مَكَانٍ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِكَفَالَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ الْبَادِيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا لِأَنَّ مُدَاوَمَةَ النَّقْلَةِ وَمُلَازَمَةَ النُّجْعَةِ لَا يَشْتَهِرُ بِهَا حَالُهُ وَلَا يُعْرَفُ مَعَهَا مَكَانُهُ مما يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي بَدَنِهِ وَتَغَيُّرِ الْعَادَةِ في نقلته.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ عَبْدًا وَحُرًّا دُفِعَ إِلَى الْحُرِّ ".(8/41)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى الْتِقَاطِهِ حُرٌّ وَعَبْدٌ فَالْحُرُّ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ مِنَ الْعَبْدِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ مُوَلًّى عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ وَالِيًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ مَمْنُوعٌ مِنْ كَفَالَتِهِ لِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ، فَلَوِ انْفَرَدَ الْعَبْدُ بِالْتِقَاطِهِ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَالسَّيِّدُ هُوَ الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ يَدٌ لَهُ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَفَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ اللُّقَطَةَ كَسْبٌ وَهَذِهِ وِلَايَةٌ فَلَوْ أَخَذَهُ السَّيِّدُ مِنْ عَبْدِهِ وَقَدِ الْتَقَطَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى الْحَاكِمِ فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُقَرَّةً لَمْ يَكُنْ لَهَا حُكْمٌ وَصَارَ كَأَنَّ السَّيِّدَ هُوَ الْمُلْتَقِطُ لَهُ وَهَكَذَا حُكْمُ الْمُدَبَّرِ فِي الْتِقَاطِهِ كَالْعَبْدِ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنْ عَلَّلْنَا مَنْعَ الْعَبْدِ مِنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَالْمُكَاتَبُ مَمْنُوعٌ فِيهِ وَإِنْ عَلَّلْنَاهُ بِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِيهِ لِخِدْمَةِ السَّيِّدِ فَالْمُكَاتَبُ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ مِنَ السَّيِّدِ بِمَنَافِعِ نَفْسِهِ وَلَوْ شَارَكَهُ فِي الْتِقَاطِهِ حُرٌّ كَانَ الْحُرُّ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ عَلَى الْعِلَّتَيْنِ لِكَمَالِ الْحُرِّ وَنَقْصِ الْمُكَاتَبِ وَأَمَّا الَّذِي نَصِفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ فَلَهُ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُهَايَأَةٍ فَهُوَ كَالْعَبْدِ لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ لِرِقِّهِ لِإِشْرَاكِ حُكْمِهِ وَأَنَّ الشَّرِكَةَ فِيهِ مَانِعَةٌ عَنْ كَفَالَتِهِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُهَايَأَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ الْتِقَاطِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْتَقِطَهُ فِي زَمَانِ السَّيِّدِ فَيَكُونَ فِيهِ كَالْعَبْدِ لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَلْتَقِطَهُ فِي زَمَانِ نَفْسِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِكَفَالَتِهِ لِأَنَّهُ فِي زَمَانِهِ كَالْحُرِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا حَقَّ لَهُ فِي كَفَالَتِهِ لِنَقْصِهِ وَأَنَّهُ سَيَعُودُ إِلَى الْمَنْعِ في غير زمانه وعلى كلى الْوَجْهَيْنِ لَوْ شَارَكَهُ الْحُرُّ فِي الْتِقَاطِهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ لِكَمَالِهِ عَلَى مَنْ قَصَّرَ عن حريته.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَنَصْرَانِيًّا فِي مِصْرٍ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ الْأَقَلَّ دُفِعَ إِلَى الْمُسْلِمِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا اشْتَرَكَ فِي الْتِقَاطِ الْمَنْبُوذِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَنْبُوذِ مِنْ أَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَوْ حُكْمُ الْكُفْرِ عَلَى مَا سَنَصِفُهُ فَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَالْمُسْلِمُ أَحَقُّ بِكَفَالَتِهِ وَهَكَذَا لَوْ تَفَرَّدَ الْكَافِرُ بِالْتِقَاطِهِ نُزِعَ مِنْ يَدِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ فِي بَدَنِهِ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ وَفِي دِينِهِ أَنْ يَفْتِنَهُ وَفِي مَالِهِ أَنْ يُتْلِفَهُ لِأَنَّ عَدَاوَةَ الدِّينِ تَبْعَثُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ جَرَى عَلَى الْمَنْبُوذِ حُكْمُ الْكُفْرِ فَإِنِ انْفَرَدَ الْكَافِرُ بِالْتِقَاطِهِ أُقِرَّ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَلِي عَلَى الْكَافِرِ وَإِنِ اشْتَرَكَ فِي الْتِقَاطِهِ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَعَلَى الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي إِقْرَاعِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْتِقَاطِهِ يُقْرَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَيَكُونُ فِي يَدِ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ وعلى مذهب أبي علي بن خيران يُسَلَّمَ إِلَى الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْمُسْلِمِ أَصْلَحُ وَلِمَا يُرْجَى لَهُ بِاعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ.(8/42)
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَجَعَلْتُهُ مُسْلِمًا وَأَعْطَيْتُهُ مِنْ سُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْ نَفْسِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَعِلَّتُهُ أَنَّ حُكْمَ اللَّقِيطِ فِي إِسْلَامِهِ وَكُفْرِهِ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِحُكْمِ الدَّارِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا فَهِيَ ضَرْبَانِ: دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الشِّرْكِ. فَأَمَّا دَارُ الْإِسْلَامِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَفَرَّدَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا مُشْرِكٌ كَالْحَرَمِ فَالْمَنْبُوذُ إِذَا الْتُقِطَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّارِ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ فِي أَبَوَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ دَارُ الْإِسْلَامِ قَدْ تَخْلِطُهُمْ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ أَوْ مُعَاهَدُونَ كَأَمْصَارِ الثُّغُورِ فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهَا كَانَ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الدَّارِ وَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى " وَلَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ فِي الْبَاطِنِ قَطْعًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُعَاهَدٍ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ دَارُ الْإِسْلَامِ قَدْ تَفَرَّدَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِسُكْنَاهَا حَتَّى لَا يُسَاكِنَهُمْ فِيهَا مُسْلِمٌ وَلَا يَدْخُلَهَا مِثْلَ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً فَأَقَرُّوا أَهْلَهُ فِيهِ عَلَى أَنْ لَا يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهِ كَانَ كَافِرًا فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّ أَهْلَ الدَّارِ كُفَّارٌ وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ غَالِبَةً وَأَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ جَارِيَةً.
وَأَمَّا دَارُ الشِّرْكِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَيْضًا:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ بِلَادِهِمُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ مِنْهَا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الشِّرْكِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الدَّارِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ فِيهَا مُسْلِمُونَ وَلَوْ وَاحِدٌ كَبِلَادِ الرُّومِ فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُشْرِكٌ فِي الظَّاهِرِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الدَّارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: كَانَ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي غَلَبَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ حَتَّى صَارَتْ دَارَ شِرْكٍ كَطَرَسُوسَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَمَا جرى مجرى ذلك من الثغور والمملوكة عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا الْتُقِطَ الْمَنْبُوذُ فِيهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَ فِيهَا أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ وَاحِدًا جَرَى عَلَى الْمَلْقُوطِ فِيهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الشِّرْكِ فِي الظَّاهِرِ لِبُعْدِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا وَامْتِنَاعِ حُكْمِهِمْ فِيهَا.
فَصْلٌ:
فَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَيْنَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا وَهُوَ(8/43)
عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الشِّرْكِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا لِأَنَّ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ تَطَوَّعَ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ كَانَ مُحْسِنًا لِأَنَّهَا نَفْسٌ لَهَا حُرْمَةٌ وَإِنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ أَحَدٌ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ جَمَعَ الْإِمَامُ أَهْلَ الذِّمَّةِ الَّذِينَ كَانَ الْمَنْبُوذُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَجَعَلَ نَفَقَتَهُ مُقَسَّطَةً عَلَيْهِمْ لِيَكُونَ دَيْنًا لَهُمْ إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَبٌ رَجَعُوا بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ سَيِّدٌ رَجَعُوا بِهَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ يَرْجِعُونَ بِهَا فِي كَسْبِهِ إذا بلغ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْ نَفْسِهِ فَامْتَنَعَ مِنَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَبِنْ لِي أَنْ أَقْتُلَهُ وَلَا أُجْبِرَهُ على الإسلام وإن وجد في مدينة أهل الذمة لا مسلم فيهم فهو ذمي في الظاهر حتى يصف الإسلام بعد البلوغ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ قَبْلَ بُلُوغِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَنْ يَجْرِي حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ فَيَصِيرُ بِإِسْلَامِهِمَا مُسْلِمًا. وَرَوَى أَبُو الْيَزِيدِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ كَمَا تَنَاقَحُ الْإِبِلُ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ مِنْ جَدْعَاءَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ صَغِيرٌ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ " فَمَعْنَى قَوْلِهِ: " يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " يُرِيدُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ لِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ ثُمَّ يُهَوِّدُ الْيَهُودُ أَبْنَاءَهُمْ وَيُنَصِّرُ النَّصَارَى أَبْنَاءَهُمْ أَيْ يعلمونهم ذلك وضرب لهم مثلا بالإبل إِذَا نَتَجَتْ مِنْ بَهِيمَةٍ جَمْعَاءَ وَالْجَمْعَاءُ هِيَ السَّلِيمَةُ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ السَّلَامَةِ لَهَا فِي أَعْضَائِهَا فَتَجْدَعُ أُنُوفَ نِتَاجِهَا وَتَفْقَأُ عُيُونَهَا فَأَمَّا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مِنْهُمَا هُوَ الْمُسْلِمُ كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا لَهُ وَإِنْ أَسْلَمَتِ الْأُمُّ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة أَنَّ إِسْلَامَهَا إِسْلَامٌ لَهُ كَالْأَبِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ إِسْلَامُ الْأُمِّ إِسْلَامًا لَهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الإسلام يعلو لا يعلا " ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ " فَجَعَلَ اجْتِمَاعَهُمَا مُوجِبًا لِتَهَوُّدِهِ دُونَ انْفِرَادِهِمَا وَلِأَنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ وَهِيَ حَامِلٌ كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا لِحَمْلِهَا إِذَا وَضَعَتْ كَذَلِكَ إِذَا أَسْلَمَتْ بَعْدَ الْوَضْعِ وَلِأَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ فَصَارَ الطِّفْلُ بِهَا مُسْلِمًا كَالْأَبِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْحُرِّيَّةِ فَقَدْ يُعْتَبَرُ بِالْأَبِ كَمَا يُعْتَبَرُ بِالْأُمِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وُلِدَ مِنْهُ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِسْلَامَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ يَكُونُ إِسْلَامًا لِغَيْرِ الْبَالِغِ مِنْ أَوْلَادِهِمَا فَكَذَلِكَ يَكُونُ إِسْلَامًا لِمَنْ بَلَغَ مِنْهُمْ مَجْنُونًا لِأَنَّ الْمَجْنُونَ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ فَأَمَّا الْبَالِغُ الْعَاقِلُ فلا يَكُونُ إِسْلَامُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا إِسْلَامًا لَهُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَصِحُّ مِنْهُ وَأَمَّا إِذَا بَلَغَ الْكَافِرُ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فَهَلْ يَكُونُ إِسْلَامُ أَبَوَيْهِ إِسْلَامًا لَهُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ.(8/44)
أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِسْلَامًا لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الْكُفْرَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَاسْتَقَرَّ حكمه عليه.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ وَخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ التَّكْلِيفِ قَدْ صَارَ تَبَعًا فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ وَصَارَ الطِّفْلُ أَوِ الْمَجْنُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَإِنْ أَقَامَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَقَدِ اسْتَدَامَ حُكْمُ إِسْلَامِهِمَا وَإِنْ رَضِيَا الْكُفْرَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمَا وَصَارَا بِذَلِكَ مُرْتَدَّيْنِ يُقْتَلَانِ إِذَا أَقَامَا عَلَى الرِّدَّةِ سَوَاءٌ أَقَرَّا بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ أَوْ لَمْ يُقِرَّا بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنْ كَانَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ قَدْ أَقَرَّا بِالْإِسْلَامِ وَالْتَزَمَا حُكْمَهُ بِفِعْلِ عِبَادَتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ جَعَلْتُهُمَا مُرْتَدَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْهُمَا لَمْ أَحْكُمْ بِرِدَّتِهِمَا لِأَنَّ جَرَيَانَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمَا تَبَعًا أَضْعَفُ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِهِ عَلَيْهِمَا إِقْرَارًا وَعَمَلًا وَهَذَا خطأ لقوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم} [الطور: 21] فَأَخْبَرَ بِإِيمَانِ الذُّرِّيَّةِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَقِلَ حُكْمُ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ إِسْلَامَهُ أَوْجَبَ إِلْزَامَهُ كَالْإِقْرَارِ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يجري عليه حكم الإسم بِإِسْلَامِ السَّابِي لَهُ مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّبْيُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَكُونُ بِإِسْلَامِ سَابِيهِ مُسْلِمًا وَيَكُونُ حُكْمُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ جَارِيًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَبْيُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَسْبِيًّا مَعَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ سَابِيهِ لِأَنَّ إِلْحَاقَ حُكْمِهِ بِأَبَوَيْهِ أَقْوَى مِنْ إِلْحَاقِ حُكْمِهِ بِسَابِيهِ وَيَكُونُ عَلَى حُكْمِ الْكُفْرِ اسْتِصْحَابًا لِدِينِ أَبَوَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُسْبَى وَحْدَهُ دُونَ أَبَوَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يَتْبَعُ سَابِيَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَيَكُونُ حُكْمُهُ فِي الشِّرْكِ حُكْمَ أَبَوَيْهِ لِأَنَّ يَدَ السَّابِي يَدُ اسْتِرْقَاقٍ فَلَمْ تُوجِبْ إِسْلَامَهُ كَالسَّيِّدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتْبَعُ السَّابِيَ فِي إِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ تَبَعٌ لِغَيْرِهِ فَهُوَ أَخْرَجَهُ بِسَبْيِهِ عَنْ أَبَوَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لَهُمَا فَصَارَ تَبَعًا لِمَنْ صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَهُمَا فَعَلَى هَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَحْكَامُ السَّابِي فِي الْعِبَادَاتِ وَالِاقْتِصَاصِ مِنَ الْمُسْلِمِ إِذَا جَنَى عَلَيْهِ وَإِذَا مَاتَ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ بَلَغَ وَاسْتَصْحَبَ الْإِسْلَامَ قَوْلًا وَعَمَلًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ صَارَ بِرُجُوعِهِ مُرْتَدًّا وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ عِنْدَ بُلُوغِهِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَى تَوْجِيهُهُمَا فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي.
فَصْلٌ:
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِنَفْسِهِ إِقْرَارًا بِهِ وَاعْتِرَافًا بِشُرُوطِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:(8/45)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَهَذَا مُسْلِمٌ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي طُفُولَتِهِ وَعَدَمِ تَمْيِيزِهِ فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ وَلَا يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقٍّ مِنْ بَاطِلٍ وَلَا صَحِيحٍ مِنْ فَاسِدٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقًا مُمَيِّزًا يَصِلُ بِذِهْنِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ وَيُمَيِّزُ مَا بَيْنَ الشُّبْهَةِ وَالدَّلِيلِ فَفِي الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ إِذَا وَصَفَهُ عَلَى شُرُوطِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ " فَرُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ في جميع أحواله وجميع بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَجْنُونِ فِي سُقُوطِ تَكْلِيفِهِ وَلِأَنَّ عُقُودَ الْمُعَامَلَاتِ أَخَفُّ حَالًا مِنْ شُرُوطِ الْإِسْلَامِ فَلَمَّا امْتَنَعَ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَنْ تَصِحَّ مِنْهُ الْعُقُودُ فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ شُرُوطُ الْإِسْلَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنْ يَصِيرَ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ قَدْ يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ كَمَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْبَالِغُ وَخَالَفَ الطِّفْلَ وَالْمَجْنُونَ وَلِأَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَسْلَمَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَحُكِمَ بِصِحَّةِ إِسْلَامِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ بلغ فرجح عَنِ الْإِسْلَامِ صَارَ مُرْتَدًّا. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِسْلَامَهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا فَإِنِ اسْتَدَامَ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ عُلِمَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ وَإِنْ فَارَقَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَحْتَمِلُ إِسْلَامُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلٍ مِنْ إِسْلَامِهِ إِلَى مَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَأَنَّهُ لَمَّا اسْتَدَامَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عُلِمَ بِهِ صِحَّةُ مَا تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِالدَّارِ وَهَذَا هُوَ اللَّقِيطُ وَقَدْ قَسَّمْنَا أَحْوَالَهُ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهِ بِهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَوْ حُكْمُ الشِّرْكِ فَإِنْ أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ أَحْكَامَ الشِّرْكِ فَبَلَغَ وَوَصَفَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ بُلُوغِهِ اسْتَوْثَقَ بِهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ مِنْ حِينَئِذٍ وَإِنْ أَقَامَ عَلَى الشِّرْكِ أُقِرَّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَخْوِيفٍ وَلَا إِرْهَابٍ وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ نُجْرِيَهُ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنِ الْتِقَاطِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا مُشْرِكٌ فَهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَيَكُونُ إِنْ رَجَعَ عَنْهُ مُرْتَدًّا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَمَا لَمْ يَبْلُغْ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ جَارٍ عَلَيْهِ فَإِنْ مَاتَ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ دِيَةُ مُسْلِمٍ وَفِي وُجُوبِ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْتَصُّ مِنْهُ لِجَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ حَالِهِ وَأَنَّهُ رُبَّمَا وَصَفَ الْكُفْرَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَاقَ دَمٌ بِالشُّبْهَةِ فَإِنْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ قَوْلًا وَأَقَامَ عَلَيْهِ فِعْلًا اسْتَقَرَّ حُكْمُ إِسْلَامِهِ وَجَرَى الْقِصَاصُ عَلَى قَاتِلِهِ وَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى الشِّرْكِ أُرْهِبَ وَخُوِّفَ لِرُجُوعِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَبَى إلا(8/46)
أَنْ يَكُونَ مُشْرِكًا سُئِلَ عَنْ سَبَبِ شِرْكِهِ فإن قال لأن أبي مشركا وَصِرْتُ لِاتِّبَاعِ أَبِي مُشْرِكًا تُرِكَ لِمَا اخْتَارَهُ مِنَ الشِّرْكِ لِاحْتِمَالِهِ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشِّرْكِ لِأَنَّنَا لَمْ نَكُنْ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ قَطْعًا وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِهِ تَغْلِيبًا.
فَإِنْ قَالَ لَسْتُ أَعْرِفُ دِينَ أَبِي وَلَا أَعْلَمُهُ مُسْلِمًا وَلَا مُشْرِكًا وَلَكِنِّي أَخْتَارُ الشِّرْكَ مَيْلًا إِلَيْهِ وَرَغْبَةً فِيهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِإِسْلَامِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُجْعَلُ إِنْ أَقَامَ عَلَيْهِ مُرْتَدًّا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ شِرْكَ أَبِيهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ وَيُقَرُّ عَلَيْهِ لِيَكُونَ فِي الشِّرْكِ تبعا ولا يكون متبوعا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَرَادَ الَّذِي الْتَقَطَهُ الطَّعْنَ بِهِ فَإِنْ كَانَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ فَذَلِكَ لَهُ وَإِلَّا مَنْعُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا الْتَقَطَهُ مُقِيمٌ ثُمَّ أَرَادَ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي كفالته وإقراره في يده جَازَ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَدَّ بَدَنُهُ بِحَيْثُ يَقْوَى عَلَى السَّيْرِ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لَا يَحْتَمِلُ السَّيْرَ لَمْ يَجُزْ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مَأْمُونًا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَبَةِ مُسْتَرِقٍّ فَإِنْ خِيفَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسَافِرُ مَأْمُونًا عَلَيْهِ فَلَا يَسْتَرِقُّهُ وَلَا يُسِيءُ إِلَيْهِ فَإِنْ خِيفَ ذَلِكَ لَمْ يجز.
والرابع: أن يكون بينة الْعَوْدِ إِلَى بَلَدِهِ فَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْعَوْدَ وَسَافَرَ مُتَنَقِّلًا فَفِي تَمْكِينِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُمَكَّنُ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي اسْتِحْقَاقِ كَفَالَتِهِ كَالْأَبِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْأُمِّ فِي سَفَرٍ نَقَلَتْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِمَا فِي نَقْلِهِ مِنْ إِضَاعَةِ مَا كُنَّا نَرْجُوهُ مِنْ ظُهُورِ نَسَبِهِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَعَلْنَا الْمُقِيمَ إِذَا شَارَكَ فِي الْتِقَاطِهِ مسافرا أولى به.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وجنايته خَطَأً عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجِنَايَتُهُ ضَرْبَانِ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَالٍ فَهِيَ فِي مَالِهِ صَغِيرًا كَانَ اللَّقِيطُ أَوْ كَبِيرًا مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ دَفَعَ مِنْهُ غُرْمَ جِنَايَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ إِذَا أَيْسَرَ أَدَّاهُ فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِ آدَمِيٍّ فَضَرْبَانِ عَمْدٌ وَخَطَأٌ فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فَفِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ عَاقِلَتُهُ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ(8/47)
وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا يُوجِبُ الْقَوَدَ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا وَالْقَوَدُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي نَفْسٍ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَوْ فِي طَرَفٍ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ وَفِي مَحَلِّ الدِّيَةِ قَوْلَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ أَوْ مَجْرَى الْعَمْدِ الصَّحِيحِ وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُجْرَى مَجْرَى الْخَطَأِ كَانَتِ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مُؤَجَّلَةً كَدِيَةِ الْخَطَأِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَمْدٌ صَحِيحٌ وَإِنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ كَانَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ حَالَّةً فَإِنْ أَعْسَرَ بِهَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي فَإِنْ قُتِلَ عَمْدًا فَلِلْإِمَامِ الْقَوَدُ أَوِ الْعَقْلُ وَإِنْ كَانَ جُرْحًا حُبِسَ لَهُ الْجَارِحُ حَتَى يَبْلُغَ فَيَخْتَارَ الْقَوَدَ أَوِ الْأَرْشَ فَإِنْ كَانَ مَعْتُوهَا فَقِيرًا أَحْبَبْتُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ وَيُنْفِقَهُ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا يَخْلُو حَالُ الْجِنَايَةِ عَلَى اللَّقِيطِ مِنْ أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَهِيَ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي فِي نَفْسٍ كَانَتْ أَوْ طَرَفٍ وَدِيَتُهُ دِيَةُ حُرٍّ مُسْلِمٍ مَا كَانَ عَلَى حَالِهِ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حُكْمِ الدَّارِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ. وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَضَرْبَانِ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسٍ اسْتَحَقَّ فِيهَا دِيَةَ حُرٍّ مُسْلِمٍ وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ إِنْ كَانَ الْقَاتِلُ حُرًّا مُسْلِمًا قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا عَلَيْهِ الْقَوَدُ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهِ وَحَالِ الدِّيَةِ فِي قَتْلِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا قَوَدَ لِأَنَّهُ حَدٌّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ.
وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَحْمِلُ اخْتِلَافَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَيَقُولُ إِنْ كَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَى قَاتِلِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا يَجِبُ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ حَالِهِ وَهَذَا الْفَرْقُ مَسْلُوبُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ إِنِ اعْتَبَرَ حَالَ الشُّبْهَةِ فَفِي الْحَالَيْنِ وَإِنِ اعْتَبَرَ حَالَ الظَّاهِرِ فَفِي الْحَالَيْنِ فَلَمْ يَكُنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَجْهٌ فَإِنْ قُلْنَا بِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ أُخِذَتِ الدِّيَةُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَوَدِ كَانَ لِلْإِمَامِ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ مُخَيَّرًا فِيمَا يَرَاهُ أَصْلَحُ لِجَمَاعَتِهِمْ مِنَ الْقَوَدِ لِئَلَّا يُسْرِعَ النَّاسُ إِلَى قَتْلِ النُّفُوسِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ فِي طَرَفٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ أَوْ يَقْتَصَّ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَالِغٍ فَإِنْ قُلْنَا بِإِسْقَاطِ الْقَوَدِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا دِيَةُ الطَّرَفِ وَيَأْخُذُهَا الْإِمَامُ لَهُ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْهَا أَوْ يَضُمَّ إِلَى مَالِهِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَلِلَّقِيطِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا غَنِيًّا فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْبِسَ الْجَانِيَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ فَيَخْتَارَ الْقَوَدَ أَوِ الدِّيَةَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَاتَ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهَا كَمَا لَا يَجُوزُ لِأَبِ الطِّفْلِ أَنْ يَقْتَاتَ عَلَيْهِ فِيمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ قَوَدٍ أَوْ دِيَةٍ.(8/48)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعْتُوهًا فَقِيرًا فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْجَانِي لِيُنْفِقَ مِنْهَا عَلَيْهِ وَيَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ظُهُورُ الْمَصْلَحَةِ بَعْدَ حَاجَتِهِ بِالْفَقْرِ.
وَالثَّانِي: بَقَاؤُهُ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى عَتَهِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَقِيرًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْبِسُ قَاتِلَهُ لِيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ مَا شَاءَ مِنْ قَوَدٍ أَوْ دِيَةٍ تَعْلِيلًا بِظُهُورِ عَقْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ لَهُ الدِّيَةَ وَيَعْفُو عَنِ الْقَوَدِ تَعْلِيلًا بِحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ وَلَوْ بَلَغَ فَاخْتَارَ الْقَوَدَ وَرَدَّ الدِّيَةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَهُ ذَلِكَ وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ وَعَفْوُ الْإِمَامِ كَعَفْوِهِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى عَفْوِ الْوَلِيِّ عَنْ نَفَقَتِهِ هَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعْتُوهًا غَنِيًّا فَعَلَى وجهين: يَحْبِسُ قَاتِلَهُ لِيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَإِفَاقَتِهِ فَإِمَّا اعْتِبَارًا بِغِيَابِهِ عَنِ الدِّيَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ وَيَعْفُوَ عَنِ الْقَوَدِ اعْتِبَارًا بِعَتَهِهِ وَعَدَمِ إِفَاقَتِهِ فِي الْأَغْلَبِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحُرِّ حَتَّى يَبْلُغَ فَيُقِرَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا نَقْطَعُ بِحُرِّيَّةِ اللَّقِيطِ وَلَا نُغَلِّبُ فِيهِ أَحْكَامَ الْعَبْدِ أَمَّا عَدَمُ الْقَطْعِ بِحُرِّيَّتِهِ فَلِإِمْكَانِ مَا عَدَاهَا مِنَ الرِّقِّ. وَأَمَّا إِسْقَاطُهَا تَغْلِيبًا لِأَحْكَامِ الرِّقِّ فَلِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْحُرِّيَّةُ كَمَا كَانَ الْأَغْلَبُ فِيهَا الْإِسْلَامَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ظَاهِرِ أَمْرِهِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا كَمَا أَجْرَيْنَا عَلَيْهِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَلِأَنَّ الرِّقَّ طَارِئٌ وَالْحُرِّيَّةَ أَصْلٌ فَلِأَنْ يَجْرِيَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ أَوْلَى. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ لِإِمْكَانِ الْأَمْرَيْنِ وَإِنَّ الرِّقَّ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَحْكُمَ بِتَغْلِيبِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَالْكُفْرِ الَّذِي هُوَ بَاطِلٌ فَجَازَ تَغْلِيبُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَمِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خُرِّجَ الْقَوْلَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ من الحر.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ قَبِلْتُهُ وَرَجَعْتُ عَلَيْهِ بِمَا أَخَذَهُ وَجَعَلْتُ جِنَايَتَهُ فِي عُنُقِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِقْرَارُ اللَّقِيطِ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَغَيْرُ مَعْمُولٍ عَلَيْهِ لَا فِي حُرِّيَّةٍ وَلَا فِي رِقٍّ فَإِذَا بَلَغَ صَارَ إِقْرَارُهُ حِينَئِذٍ مُعْتَدًّا فَإِنِ ادَّعَى الْحُرِّيَّةَ وَأَنْكَرَ الرِّقَّ كَانَ قَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولًا وَصَارَ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ مَا لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِرِقِّهِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالرِّقِّ بَعْدَ ادِّعَاءِ الْحُرِيَّةِ كَمَا لَوْ بَلَغَ فَأَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْكُفْرِ فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَجْهُولَ الْأَصْلِ كَانَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ مَقْبُولًا وَإِنْ جَعَلْنَاهُ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فَفِي قَبُولِ إِقْرَارِهِ بِالرِّقِّ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلا أن تقوم بينة لأنه خلاف مَا أُجْرِيَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ أبو حامد المروروذي في جامعه.(8/49)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ إِقْرَارَهُ بِهِ مَقْبُولٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ كَمَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِالْكُفْرِ وَإِنْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ أَمْرِهِ إِنْ جَنَى أَوْ جُنِيَ عَلَيْهِ فَأَمَّا فِي الْمَاضِي مِنْ أَمْرِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا سِوَى الْجِنَايَةِ فِيمَا بَعْدُ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْجِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ أَمَّا الْجِنَايَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيمَا جُنِيَ عَلَيْهِ وَالثَّانِي فِيمَا جَنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ.
فَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ فَلَا يَخْلُو مَا أَخَذَهُ مِنْ أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَوِيَ أَرْشُهَا بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَلَا يُرَاجَعُ فَإِنْ كانت عمدا وعرفها الْجَانِي مِنْ مَالِهِ فَقَدْ غَرِمَ مَا لَزِمَهُ وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً تَحَمَّلَتْهَا عَاقِلَتُهُ فَفِي رُجُوعِ الْعَاقِلَةِ بِهَا قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا فِي الرِّقِّ أَقَلُّ مِنْ أَرْشِهَا فِي الْحُرِّيَّةِ كَأَنَّهَا فِي الْحُرِّيَّةِ أَلْفٌ وَفِي الرِّقِّ مِائَةٌ فَيَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا زاد على أرش الرق وذلك بتسعمائة فَإِنْ كَانَتْ بِعَيْنِهَا فِي يَدِهِ أَوْ كَانَ بدلها موجودا من كسبه ليسترجعه الْجَانِي أَوْ عَاقِلَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِي يَدِهِ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ كَسْبِهِ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ أَنْفَقَهَا عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ اسْتَحَقَّ الْجَانِي الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى سَيِّدِهِ كَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُنْفِقُ لَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى سَيِّدِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي نَفَقَتِهِ لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدَ غُرْمُهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ فِي يَدَيْهِ وَلَا انْصَرَفَتْ فِي وَاجِبٍ عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ أَخَذَ ذَلِكَ فِي صِغَرِهِ وَلَمْ تَصِرْ إِلَى يَدِهِ لِتَلَفِهِ لَمْ يَجِبْ غُرْمُهُ وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ هَدَرًا وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقَابِضُ لَهَا فِي كِبَرِهِ أَوْ دَفَعَهَا الْحَاكِمُ إِلَيْهِ بَعْدَ كِبَرِهِ تَعَلَّقَ غُرْمُهَا بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَيَسَارِهِ لِغُرُورِهِ وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا فِي الرِّقِّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِهَا فِي الْحُرِّيَّةِ بِأَنْ كَانَتْ فِي الْحُرِّيَّةِ مِائَةٌ وَفِي الرِّقِّ أَلْفٌ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الزِّيَادَةِ بِالرِّقِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقُّ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الْجَانِي بِهَا وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا مَعَ الْإِنْكَارِ لَهَا لِمَكَانِ التُّهْمَةِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ.
فصل:
وأما الجناية عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مَا دَفَعَهُ فِي أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَوِيَ أَرْشُهَا فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَّا مَا أَخَذَهُ ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كانت جنايته فَقَدْ أَدَّى أَرْشَهَا مِنْ مَالِهِ أَوْ كَسْبِهِ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً أُخِذَتْ مِنْ بَيْتِ المال وجب رَدُّهَا فِيهِ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي عُنُقِهِ دُونَ بَيْتِ الْمَالِ وَالسَّيِّدُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَغْرَمَهَا أَوْ يَبِيعَ رَقَبَتَهُ فِيهَا فَإِنْ ضَاقَتِ الرَّقَبَةُ عِنْدَ بَيْعِهَا عَنْ غُرْمِ جَمِيعِهَا لَمْ يَلْزَمِ السَّيِّدُ مَا بَقِيَ وَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا بِالرِّقِّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ تَتَّسِعُ لِلزِّيَادَةِ فَيَسْتَحِقُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ بِهَا فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ السيد منها.(8/50)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ رَقَبَةُ الْعَبْدِ تَضِيقُ عَنِ الزِّيَادَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تَكُونُ هَدَرًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ فَإِنْ فَدَاهُ السَّيِّدُ وَإِلَّا بِيعَ فِيهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَرْشُهَا بِالرِّقِّ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِهَا بِالْحُرِّيَّةِ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي اسْتِرْجَاعِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيَسْتَرْجِعُ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ مَجْهُولَ الْأَصْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا وَلَا يَسْتَرْجِعُ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا النَّفَقَةُ الَّتِي أَنْفَقَهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَمْ تَسْتَرْجِعْ مِنَ السَّيِّدِ لِأَنَّهَا دُفِعَتْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا فِيهِ وَإِنْ كَانَتْ قَرْضًا اقْتَرَضَهُ الْحَاكِمُ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ عَدَدٍ وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ غُرْمُهَا وَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ لِوُجُوبِهَا بِحَقِّ الْمِلْكِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تعالى: " وَلَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ لَمْ أَجِدْ لَهُ حَتَى أسأله فإن قال أنا حر حددت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ قَذَفَهُ قَاذِفٌ بِالزِّنَا فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ صَغِيرًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَمْ يَعْجَلْ إِلَى حَدِّ الْقَاذِفِ حَتَّى يَسْأَلَ اللَّقِيطَ الْمَقْذُوفَ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى " فَإِنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ وَلَمْ يَدَّعِ الْحُرِّيَّةَ فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ لِأَنَّ قَاذِفَ الْعَبْدِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فَإِنِ ادَّعَى الْحُرِّيَّةَ فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَيْهَا الْقَاذِفُ حُدَّ لَهُ حَدًّا كَامِلًا وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى رِقَّهُ فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُ فِيهِ اللَّقِيطَ مَجْهُولَ الْأَصْلِ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْقَاذِفِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُ اللَّقِيطُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ اللَّقِيطِ وَيُحَدُّ قَاذِفُهُ كَمَا يَقْتُلُ هَذَا الْقَوْلُ قَاتِلَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ قَاذِفِهِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ قُتِلَ قَاتِلُهُ وَفَرَّقَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقَذْفِ بِأَنَّ الْمَقْذُوفَ حَيٌّ يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا ضَعُفَ حَالُهُ وَالْمَقْتُولُ لَا يُقْدَرُ عَلَى إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ فَعَمِلَ فِيهِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ كَالدِّيَةِ؛ فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي الْقَوَدِ إِذَا كَانَ فِي طَرَفٍ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْقَذْفِ وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ اللَّقِيطِ فِيهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْقَتْلِ فِي النَّفْسِ وَقَبِلَ قَوْلَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْقَتْلِ الذي هو من جنسه.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " قاذفه وَإِنْ قَذَفَ حُرًّا حُدَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ قَذَفَ حُرًّا بِالزِّنَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ(8/51)
لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَمَا لَمْ يَدَّعِ الْمَقْذُوفُ حُرِّيَّتَهُ لَمْ يُكْمِلْ حَدَّهُ وَإِنِ ادَّعَى حُرِّيَّتَهُ فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ اللَّقِيطُ بِالْحُرِّيَّةِ حُدَّ لِقَذْفِهِ حَدًّا كَامِلًا ثَمَانِينَ وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُرِّيَّةَ وَادَّعَى الرِّقَّ فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ مَجْهُولَ الْأَصْلِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدُّ الْعَبِيدِ نِصْفُ الْحَدِّ وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَقْذُوفِ وَيُحَدُّ لَهُ اللَّقِيطُ حَدًّا كَامِلًا تَغْلِيبًا لِظَاهِرِ حَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ اللَّقِيطِ الْقَاذِفِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا حَدُّ الْعَبِيدِ نِصْفُ الْحَدِّ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ ادِّعَاءِ الرِّقِّ أَقَرَّ لِسَيِّدٍ بِعَيْنِهِ قُبِلَ قَوْلُهُ وَحُدَّ حَدَّ الْعَبِيدِ لِاسْتِقْرَارِ رِقِّهِ فَتَعَيَّنَ الْمَالِكُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ وَادَّعَى رِقًّا مُطْلَقًا لِغَيْرِ سَيِّدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَحُدَّ حَدَّ الْأَحْرَارِ ثمانين.
مسألة:
قال المزني رحمه الله تعالى: " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ اللَّقِيطُ حُرٌّ لِأَنَّ أَصْلَ الْآدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ إِلَّا مَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْعُبُودِيَّةُ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ كَمَا لَا أَبَ لَهُ فَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا كله يوجب أنه حر (قال المزني) رحمه الله وقوله المعروف أنه لا يحد القاذف إلا أن تقوم بينة للمقذوف أنه حر لأن الحدود تدرأ بالشبهات ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا وَلَاءَ عَلَى اللَّقِيطِ لِمُلْتَقِطِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ. وَقَالَ أبو حنيفة الْوَلَاءُ ثَابِتٌ عَلَيْهِ لِمُلْتَقِطِهِ دُونَ غَيْرِهِ. إِذَا حَكَمَ لَهُ الْإِمَامُ بِوِلَايَةٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَلَاؤُهُ ثَابِتٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " يجوز للمرأة ثلاثة مواريث عَتِيقِهَا وَمِيرَاثُ لَقِيطِهَا وَمِيرَاثُ وَلَدِهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ " وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ الْتَقَطَ مَنْبُوذًا لَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ قَالَ وَلِأَنَّهُ مُنْعِمٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْوَلَاءَ كَالْمُعْتَقِ. وَدَلِيلُنَا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " فَانْتَفَى الْوَلَاءُ بِذَلِكَ عَمَّنْ لَمْ يُعْتِقْ وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ لَمْ يَسْتَأْنِفْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ كَالْحُرِّ الْأَصْلِيِّ وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ بِالرِّقِّ انْتَفَى عَنْ غَيْرِ الرِّقِّ كَالْمِلْكِ وَلِأَنَّ مَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي أَصْلِهِ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْحُرِّيَّةِ فِي فَرْعِهِ كَالْمَعْرُوفِ بِالْحُرِّيَّةِ طَرْدًا وَبِالْعُبُودِيَّةِ حُكْمًا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبِرِ إِنْ صَحَّ فَحَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا عَلَى مِيرَاثِهِ إِذَا ادَّعَتْهُ وَلَدًا أَوْ عَلَى مِيرَاثِهِ إِذَا ادَّعَتْهُ عَبْدًا وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَكَ وَلَاؤُهُ وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْكَفَالَةِ وَالْوِلَايَةِ دُونَ الْوَلَاءِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ مُنْعِمٌ فَمُنْتَقِضٌ بِمَنِ اسْتَنْقَذَ غَرِيقًا أَوْ أَجَارَ مَظْلُومًا أَوْ مَنَحَ فَقِيرًا فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمِيرَاثُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَالْحُرِّ الذي ولا وارث له.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ ادَّعَاهُ الَذِي وَجَدَهُ أَلْحَقْتُهُ بِهِ فَإِنِ ادعاه(8/52)
آخَرُ أَرَيْتُهُ الْقَافَةَ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالْآخَرِ أَرَيْتُهُمُ الْأَوَّلَ فَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ ابْنُهُمَا لَمْ نَنْسِبْهُ إِلَى أَحَدِهِمَا حَتَّى يَبْلُغَ فَيَنْتَسِبَ إِلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يُلْحَقْ بِالْآخَرِ فَهُوَ ابْنُ الْأَوَّلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ وجد لقيطا فادعاه ولذا فَدَعْوَاهُ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ وَيُحْكَمُ لَهُ بِبُنُوَّتِهِ سَوَاءٌ ادَّعَاهُ مَعَ الْتِقَاطِهِ أَوْ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ لِيُمْنَعَ مِنْهُ وَيَنْبَغِيَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْحَاكِمُ اسْتِظْهَارًا مِنْ أَيْنَ صَارَ وَلَدَكَ أَمِنْ أَمَةٍ أَوْ زَوْجَةٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ فَإِنْ أَغْفَلَ كُلَّ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ مَقْبُولٌ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ بَعْدَ إِلْحَاقِهِ بِالْوَاجِدِ فَادَّعَاهُ وَلَدًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِادِّعَائِهِ لَهُ قَدْ صَارَ دَافِعًا لِدَعْوَاهُ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا لِاحْتِمَالِهَا وَأَنَّ إِلْحَاقَهُ بِالْأَوَّلِ إِنَّمَا كَانَ تَغْلِيبًا لِصِدْقِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُنَازِعِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَرَى الثَّانِي مَعَ الْوَلَدِ الْقَافَةُ لِأَنَّ فيها بيان عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْأَنْسَابِ فَإِنْ نَفَوْهُ عَنِ الثَّانِي اسْتَقَرَّ لُحُوقُهُ بِالْأَوَّلِ اسْتِصْحَابًا لِسَابِقِ الْحُكْمِ وَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِالثَّانِي عَرَضَ عَلَيْهِمُ الْوَلَدَ مَعَ الْأَوَّلِ فَإِنْ نَفَوْهُ عَنِ الْأَوَّلِ لَحِقَ بِالثَّانِي وَانْتَفَى عَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْقَافَةَ حُجَّةٌ فِي إِثْبَاتِ الْأَنْسَابِ وَكَالْبَيِّنَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِدَعْوَى الْأَوَّلِ فَإِنْ أَقَامَ الْأَوَّلُ بَعْدَ إِلْحَاقِ الْقَافَةِ لَهُ بِالثَّانِي بَيِّنَةً عَلَى الْفِرَاشِ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ عُدُولٍ يَشْهَدْنَ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ لَحِقَ بِالْأَوَّلِ بِبَيِّنَتِهِ وَكَانَ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِ الْقَافَةِ لَهُ بِالثَّانِي بِشَبَهِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّبَهِ يَسْقُطُ مَعَ ثُبُوتِ الْفِرَاشِ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ وَلَدًا عَلَى فِرَاشِ رَجُلٍ فَادَّعَاهُ آخَرُ وَأَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ لَمْ يَلْحَقْ وَكَانَ وَلَدَ صَاحِبِ الْفِرَاشِ لِتَقْدِيمِ الْفِرَاشِ عَلَى حُكْمِ الشَّبَهِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ قَالَتِ الْقَافَةُ حِينَ رَأَوْهُ مَعَ الثَّانِي يُشْبِهُهُ كَشَبَهِهِ بِالْأَوَّلِ لَمْ يَلْحَقْ بِهِمَا وَلَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعَدَمِ الْبَيَانِ فِي الْقَافَةِ وَوَجَبَ أَنْ يُوقَفَ أَمْرُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْوَلَدُ إِلَى زَمَانِ الِانْتِسَابِ فَيُنْسَبُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَفِي زَمَانِ انْتِسَابِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْبُلُوغُ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِلَى أَنْ يميز باستكمال السَّبْعَ أَوِ الثَّمَانِ وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ تَنَازُعِهِمَا فِي الْحَضَانَةِ فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا إِذَا عُدِمَ الْبَيَانُ فِي الْقَافَةِ أُقِرَّ عَلَى بُنُوَّةِ الْأَوَّلِ بِمَا تَقَدَّمَ من إِلْحَاقُهُ بِهِ إِذَا لَمْ يُقَابِلْ بِمَا يُوجِبُ لحوقه بغيره كالمال إِذَا نُوزِعَ صَاحِبُ الْيَدِ فِيهِ ثُمَّ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَأَسْقَطْنَا حُكْمَ تَمَلُّكِهِ لِصَاحِبِ الْيَدِ: قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فَجَازَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا وَلَا تَدُلُّ عَلَى النَّسَبِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا وَإِنَّمَا حُكْمُنَا بِمَا سَبَقَ مِنَ الدَّعْوَى دُونَ الْيَدِ وَهَذَا فَرْقُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ دَخَلٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فَهَلَّا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي النَّسَبِ كَالْيَدِ فِي الْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْحُجَجِ بِالتَّعَارُضِ كَالْيَدِ وَالْفَرْقُ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْوَالَ لَيْسَ لَهَا بَعْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ بَيَانٌ يُنْتَظَرُ فَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِالْيَدِ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْبَيَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ النَّسَبِ لِأَنَّ انْتِسَابَ الْوَلَدِ عِنْدَ بُلُوغِهِ حَالٌ مُنْتَظَرَةٌ يَقَعُ الْبَيَانُ بِهَا فَلَمْ يَحْكُمْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّعْوَى لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَهَذَا فَرْقُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ فَوْتُ الْبَيَانِ بِمَوْتِ الْوَلَدِ.(8/53)
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّسَبَ مَوْقُوفٌ عَلَى بلوغ الولد لينسب إلى أحدهما أخذ به الولد بعد البلوغ فَإِذَا انْتَسَبَ صَارَ لَاحِقًا بِمَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ مُنْتَفِيًا عَنِ الْآخَرِ فَلَوْ رَجَعَ فَانْتَسَبَ إِلَى الْآخَرِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِلُحُوقِهِ بِالْأَوَّلِ بِانْتِسَابِهِ الْأَوَّلِ فَلَوْ وَقَفَ عَلَى الِانْتِسَابِ إِلَى أَحَدِهِمَا فَانْتَسَبَ بَعْدَ الْبُلُوغِ إِلَى غَيْرِهِمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّ الْقَافَةَ قَدْ وَقَفَتْهُ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى غَيْرِهِمَا كَمَا لَوْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَسِبَ إِلَى غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْبَلُ مِنْهُ وَيَصِيرُ مُلْحَقًا بِمَنِ انْتَسَبَ إليه لأن وقفته بَيْنَهُمَا لَا يَمْنَعُ دَعْوَى غَيْرِهِمَا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا تداعيا بُنُوَّةَ اللَّقِيطِ رَجُلَانِ وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدَهُمَا بِدَعْوَاهُ فَيَلْحَقُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِوِلَادَتِهِ عَلَى فِرَاشِهِ رَجَعَ فِيهِ إِلَى بَيَانِ الْقَافَةِ فَإِذَا أَلْحَقُوهُ بِأَحَدِهِمَا لَحِقَ بِهِ دُونَ الْآخَرِ.
وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ وَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً غَامِضَةً فِي جَسَدِ الْمَوْلُودِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى ذَلِكَ غَيْرُ الْوَالِدِ وَلَا يَرَاهُ الْوَالِدُ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُدْفَعَ اللُّقَطَةُ بِالصِّفَةِ فَالنَّسَبُ أولى أن لا يثبت بالصفة.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوِ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلَانِ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ جَعَلْتُهُ لِلَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ أَوَّلًا وَلَيْسَ هَذَا كَمِثْلِ الْمَالِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا كَفَالَةَ اللَّقِيطِ دُونَ نَسَبِهِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْتَقَطَهُ دُونَ صَاحِبِهِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا ادَّعَاهُ بَيِّنَةً وَالْبَيِّنَةُ هَا هُنَا شَاهِدَانِ لَا غَيْرَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى مَالٍ وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ كَفَالَةٍ تَثْبُتُ بِهَا وِلَايَةٌ فَإِنْ شَهِدَتْ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ لِأَحَدِهِمَا بتقديم يده كان المتقدم إِلَيْهِ أَوْلَاهُمَا بِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَيْسَ كَالْمَالِ لِأَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْمَالِ إِذَا أَوْجَبَتْ بَيَّنَتَاهُمَا تقدم يد أحدهما كان فيه قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إِلَيْهِ أَوْلَى كَالْمُتَنَازِعِينَ فِي الْكَفَالَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَيُقَدَّمُ فِي الْكَفَالَةِ مَنْ تَقَدَّمَتْ يَدُهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَالَ قَدْ يَصِحُّ انْتِقَالُهُ بِحَقٍّ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ فَجَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ الْيَدُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْيَدُ الْمُتَأَخِّرَةُ وَالْكَفَالَةُ لَا يَصِحُّ انْتِقَالُ اللَّقِيطِ فِيهَا بِحَقٍّ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا لِمُتَقَدِّمِ الْيَدِ، فَإِنْ تَعَارَضَتْ بَيَّنَتَاهُمَا أَوْ أَشْكَلَتَا لِعَدَمِ الْمُنَازِعِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيَسْتَحِقُّهُ مَنْ قرع.
والثاني: يسقطان ويتحالفا فَإِنْ حَلَفَا أَوْ نَكَّلَا فَقَدِ اسْتَوَيَا وَصَارَا كَالْمُلْتَقِطَيْنِ لَهُ مَعًا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيَسْتَحِقُّهُ مَنْ قَرَعَ مِنْهُمَا وَالثَّانِي يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي أَحَظِّهِمَا.(8/54)
فَصْلٌ:
وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِيهِ أَنَّهُ وَلَدُهُ وَتَفَرَّدَ الْآخَرُ بِادِّعَاءِ الْكَفَالَةِ دُونَ الْوِلَادَةِ حُكِمَ بِهِ وَلَدًا لِمُدَّعِي نَسَبِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَازَعٍ فِي نَسَبِهِ وَصَارَ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ لِأَنَّ الْوَالِدَ أَحَقُّ بِالْكَفَالَةِ مِنَ الْمُلْتَقِطِ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَقَرَّتْ يَدُ الْمُلْتَقِطِ فِي الْكَفَالَةِ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَاهُ وَلَدًا لَحِقَ بِهِ وَنُزِعَ مِنْ يَدِ مُلْتَقِطِهِ وَصَارَ مَنْ جَعَلْنَاهُ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَدَعْوَةُ الْمُسْلِمِ وَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا تَدَاعَى نَسَبُ اللَّقِيطِ حر وعبد ومسلم ذمي فَهُمَا فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ سَوَاءٌ تَدَاعَى كَالْحُرَّيْنِ وَكَالْمُسْلِمَيْنِ، وَقَالَ أبو حنيفة يُقَدَّمُ الْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ عَلَى الْكَافِرِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَكَافَأَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي الدَّعْوَى قَالَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَجْرَى عَلَى اللَّقِيطِ حُكْمَ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ صَارَ الْحُرُّ وَالْمُسْلِمُ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْحُكْمِ وَاشْتِرَاكِهِمَا فِي الصِّفَةِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ " فَأَثْبَتَ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَدُونَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا لَمْ يُدْفَعْ عَنْهَا إِذَا كَانَ مُنَازِعًا كَالْحُرَّيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ وَلِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى لَا يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْهَا مَعَ الْبَيِّنَةِ لَمْ يَدْفَعِ الذِّمِّيُّ عَنْهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ كَالْمَالِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى " فَمِنْ عُلُوِّهِ الِانْقِيَادُ لِحُقُوقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَنَّ عُلُوَّهُ بِالْيَدِ وَنُفُوذِ الْحُكْمِ وَنَحْنُ نُجْرِي عَلَى الْوَلَدِ وَإِنْ لَحِقَ بِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ مُوَافِقٌ لِحَالِ الْحُرِّ وَالْمُسْلِمِ دُونَ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ فَهَذَا فَاسِدٌ بِتَفَرُّدِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ بِادِّعَائِهِ وَبِمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ تَنَازَعَا لَقِيطًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ وَلَا يَغْلِبُ الْكَافِرُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِحُكْمِ الدَّارِ كَذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَغْلِبُ الْمُسْلِمُ عَلَى الْكَافِرِ لِحُكْمِ الدَّارِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تعالى: " غَيْرَ أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا ادَّعَاهُ وَوُجِدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَلْحَقْتُهُ بِهِ أَحْبَبْتُ أَنْ أَجْعَلَهُ مُسْلِمًا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَأَنْ آمُرَهُ إِذَا بَلَغَ بِالْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ (وَقَالَ) فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إِنَّا نَجْعَلُهُ مُسْلِمًا لِأَنَّا لَا نعلمه كما قال قال المزني عندي هذا أولى بالحق لأن من ثبت له حق لم يزل حقه بالدعوى فقد ثبت للإسلام أنه من أهله وجرى حكمه عليه بالدار فلا يزول حق الإسلام بدعوى مشرك قال الشافعي رحمه الله تعالى فإن أقام بينة أنه ابنه بعد أن عقل ووصف الإسلام ألحقناه به ومنعناه أن ينصره فإذا بلغ فامتنع من الإسلام لم يكن مرتدا نقتله وأحبسه وأخيفه رجاء رجوعه قال المزني رحمه الله قياس من جعله مسلما أن لا يرده إلى النصرانية ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي ذِمِّيٍّ ادَّعَى لَقِيطًا وَلَدًا وَأَلْحَقْنَاهُ بِهِ نَسَبًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:(8/55)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْحَقَ بِهِ بَعْدَ مَا صَارَ مُسْلِمًا وَصَلَّى وَصَامَ وَالْتَزَمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ فَهَذَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَحِقَ نَسَبُهُ بِذِمِّيٍّ لِأَنَّ فِعْلَهُ لِلْإِسْلَامِ أَقْوَى مِنِ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِهِ فِي الْكُفْرِ فَهَلْ يَصِيرُ بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْبُلُوغِ مُسْلِمًا حَتَّى لَوْ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ صَارَ مُرْتَدًّا أَمْ لَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا وَسَوَاءٌ أُلْحِقَ بِالذِّمِّيِّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى أَوْ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ لَهُ بِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَلْحَقَ بِهِ فِي صِغَرِهِ وَطُفُولَتِهِ وَقَبْلَ صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْحَقَ بِهِ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ فَهَذَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكُفْرِ تَبَعًا لِأَبِيهِ لِأَنَّ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ لِوِلَادَتِهِ عَلَى فِرَاشِهِ تَأَصُّلٌ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي ظَاهِرِ الدَّارِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَلْحَقَ بِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُنْقَلُ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ إِلَى حُكْمِ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ صَارَ لَاحِقًا بِكَافِرٍ فَصَارَ الظَّاهِرُ غَيْرَ ذَلِكَ الظَّاهِرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ إِنَّهُ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُنْقَلُ عَنْهُ لِلُحُوقِهِ بِكَافِرٍ لِأَنَّ حُكْمَ الدَّارِ أَقْوَى مِنْ دَعْوَى مُحْتَمَلَةٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنِ افْتِتَانِهِ بِدِينِ أَبِيهِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَأُخِذَ بِنَفَقَتِهِ حَتَّى يَبْلُغَ فَإِنْ بَلَغَ وَوَصَفَ الْإِسْلَامَ تَحَقَّقَ حُكْمُهُ فِيهِ وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ وَمَالَ إِلَى دِينِ أَبِيهِ أُرْهِبَ وَخُوِّفَ رَجَاءَ عَوْدِهِ فَإِنْ أَبَى إِلَّا الْمُقَامَ عَلَى الْكُفْرِ فَبَعُدًا لَهُ وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا وَيُقِرُّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْكُفْرِ لِأَنَّ فِعْلَهُ أَقْوَى حُكْمًا مِنْ غَالِبِ الدَّارِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَبُوهُ يَهُودِيًّا فَقَالَ وَقَدْ بَلَغَ لَسْتُ يَهُودِيًّا وَلَا مُسْلِمًا وَإِنَّمَا عَلَى غَيْرِ الْيَهُودِيَّةِ مِنَ الْمِلَلِ كَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ مِنْهُ وَيُقَرُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا أَرَادَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَلَا يُعَادُ إلى دين أبيه لإقراره بأنه ليس إلى عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَبَاهُ صَارَ مُرْتَدًّا.
فَصْلٌ:
وَإِذَا لَحِقَ اللَّقِيطُ بِمُدَّعِيهِ عِنْدَ عَدَمِ مُنَازِعٍ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فَبَلَغَ وَأَنْكَرَ نَسَبَهُ وَادَّعَى نَسَبًا غَيْرَهُ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ بِوِلَادَتِهِ عَلَى فِرَاشِ غَيْرِهِ لِأَنَّ لحوق نسبه لم يراعي فِيهِ قَبُولُ الْوَالِدِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ إِنْكَارَهُ وَإِنَّمَا يُرَاعَى ذَلِكَ مِنْهُ فِي ادِّعَاءِ نَسَبِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلِذَلِكَ أَثَّرَ فِيهِ إِنْكَارُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ادَّعَى الْعَبْدُ لَقِيطًا وَلَدًا فَإِنْ صَدَقَهُ سَيِّدُهُ فِي ادِّعَائِهِ لَحِقَ بِهِ وَإِنْ كَذَبَهُ فِيهِ فَفِي قَبُولِ دَعَوَاهُ وَإِلْحَاقِ نَسَبِهِ بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ كَمَا لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بَأَبٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَاحَتِهِ عَنِ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَهُ.(8/56)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقْبَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ أَدْخَلَهُ تَحْتَ وِلَايَتِهِ بِخِلَافِ الْأَبِ وَإِذَا لَحِقَ اللَّقِيطُ بِالْعَبْدِ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ عَبْدًا لِأَنَّهُ فِي الفرق تَبَعًا لِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُ العبد أنه من أمه لأنه لاحق لَهُ فِي رِقِّهِ وَإِنَّمَا يُسْمَعُ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِ أَمَةٍ تَدَّعِيهِ وَلَدًا لَهَا لِيَصِيرَ لَهُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى عَبْدًا فَإِنْ حَضَرَ مَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّعْوَى كَانَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي ادِّعَاءِ رِقِّهِ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَدْ أُعْتِقَ فَادَّعَى بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَدًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا بَعْدَ عِتْقِهِ لَحِقَ بِهِ صَدَقَ السَّيِّدُ أَوْ كَذَبَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وِلَادَتُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ فَفِي لُحُوقِهِ بِهِ مَعَ تكذيب السيد وجهان مضيا.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا دعوى لِلْمَرْأَةِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَخِلَافُهُمْ فِيهَا قَدِيمٌ حَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُ.
فَأَحَدُ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ: أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهَا ادِّعَاءُ اللَّقِيطِ وَلَدًا لِنَفْسِهَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِوِلَادَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ بِخِلَافِ الرَّجُلِ الَّذِي يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى نَسَبِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بِبَيِّنَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنَّ لُحُوقَ الْوَلَدِ بِالْمَرْأَةِ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ يَقِينًا بِمُشَاهَدَتِهَا عِنْدَ وِلَادَتِهِ فَكَانَتْ دَعْوَاهَا أَضَعُفَ لِقُدْرَتِهَا عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى وَالرَّجُلُ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ فَجَازَ لِضَعْفِ أَسْبَابِهِ أن يصير ولدا لها بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لَمْ يَصِرْ وَلَدًا لَهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى حَتَّى تُقِيمَ بَيِّنَةً بِوِلَادَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ قُبِلَ مِنْهَا وَأُلْحِقَ بِهَا لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْجَبَ لُحُوقُهُ بِهَا أَنْ يَصِيرَ لَاحِقًا بِزَوْجِهَا لِأَنَّهَا لَهُ فِرَاشٌ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الْفِرَاشُ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ فَلُحُوقُهُ بِهَا لَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا كَالرَّجُلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَعْوَةَ لَهَا فِي إِلْحَاقِهِ بِزَوْجِهَا وَلَا فِي ادِّعَائِهِ لِنَفْسِهَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تُقِيمُهَا عَلَى وِلَادَتِهَا لَهُ رَدًّا عَلَى طَائِفَةٍ زَعَمَتْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا ادَّعَتْ وِلَادَةَ وَلَدٍ عَلَى فِرَاشِ الزَّوْجِ كَانَ قَوْلُهَا فِيهِ مَقْبُولًا وَصَارَ بِالزَّوْجِ لَاحِقًا فَأَمَّا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَدْعُوَهُ لِنَفْسِهَا وَلَدًا فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى كَالرَّجُلِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا لَحِقَ بِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَلْحَقْ بِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَصْدُقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ لَاحِقًا بِهِ بِتَصْدِيقِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ تُقِيمُهَا عَلَى وِلَادَتِهِ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ وَقَدْ أُلْحِقَ بِهَا الْوَلَدُ وَأَنْكَرَهَا الزَّوْجُ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ: أَنَا أُرِيهِ الْقَافَةَ مَعَكَ لِيُلْحِقُوهُ بِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَثْبُتُ بالقافة لإمكان البينة.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَقَامَتِ امْرَأَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ أنه ابنها لم أجعله ابن واحدة مِنْهُمَا حَتَّى أُرِيَهُ الْقَافَةَ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِوَاحِدِةٍ لَحِقَ بِزَوْجِهَا وَلَا يَنْفِيهِ إِلَّا بِاللِّعَانِ قَالَ المزني رحمه الله مخرج قول الشافعي في هذا أن الولد للفراش وهو الزوج(8/57)
فلما ألحقته القافة بالمرأة كان زوجها فراشا يلحقه ولدها ولا ينفيه إلا بلعان ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي امْرَأَتَيْنِ تَنَازَعَتَا فِي لَقِيطٍ وَادَّعَتْهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا مَعَ التَّنَازُعِ بَيِّنَةٌ فَفِي سَمَاعِ دَعْوَاهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنَ الثَّلَاثَةِ الْأَوْجُهِ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ سَوَاءٌ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ أَوْ مِنَ الْخَلَايَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا إِنْ كَانَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُمَا إِلَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ كَانَتَا مِنَ الْخَلَايَا سُمِعَتْ دَعْوَاهُمَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ذَاتَ زَوْجٍ وَالْأُخْرَى خَلِيَّةً كَانَتْ دَعْوَى الْخَلِيَّةِ مَسْمُوعَةً وَدَعْوَى ذَاتِ الزَّوْجِ مَدْفُوعَةً إِلَّا بِبَيِّنَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ دَعْوَاهُمَا مَعًا مسموعة سواء كانتا من ذوات الأزواج أو الْخَلَايَا فَعَلَى هَذَا إِذَا سُمِعَتْ دَعْوَاهُمَا وَأَقَامَتَا عَلَى تَنَازُعِهِمَا أَوْ عُدِمَتْ بَيِّنَتَاهُمَا فَفِي الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ فِيهِمَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا يَرَيَانِ الْقَافَةَ مَعَ الْوَلَدِ فَبِأَيِّهِمَا أَلْحَقُوهُ أُلْحِقَ بِهَا وَفِي لُحُوقِهِ بِزَوْجِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْحَقُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ لِأَنَّ الْقَافَةَ كَالْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ كَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ إِلَّا أَنْ يَصْدُقَهَا عَلَى وِلَادَتِهِ فَيَصِيرُ لَاحِقًا بِهِ فَإِنْ عُدِمَتِ الْقَافَةُ كَانَ الْوَلَدُ مَوْقُوفًا بَيْنَهُمَا إِلَى أَنْ يَنْتَسِبَ عِنْدَ بُلُوغِهِ زَمَانَ الِانْتِسَابِ إِلَى إِحْدَاهُمَا وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا فِيهِ كَحُكْمِ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَنَازَعَاهُ عَلَى العمل على القافة إن وجدوا أو انْتِسَابَ الْوَلَدِ إِنْ عَدِمُوا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا مَدْخَلَ للقافة في إلحاق الولد بأمه وإنما يَحْكُمُ بِهِمْ فِي إِلْحَاقِهِمْ بِالْأَبِ دُونَهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَلَدَ يَعْرِفُ أُمَّهُ يَقِينًا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ ولا يعرف أَبَاهُ ظَنًّا فَاحْتِيجَ إِلَى الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: وَهُوَ فَرْقُ اسْتِدْلَالٍ أَنَّ حُكْمَ الْقَافَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُبَايَنَةِ الْأُصُولِ فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْأَبِ دُونَ الْأُمِّ وَيَكُونُ تَنَازُعُ الْمَرْأَتَيْنِ فِيهِ يُوجِبُ وُقُوفَهُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَنْتَسِبَ عِنْدَ الْبُلُوغِ إِلَى إِحْدَاهُمَا، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] يَعْنِي أَخْلَاطًا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِاخْتِلَاطِ مَاءِ الرَّجُلِ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ وَقَالَ تَعَالَى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6، 7] يَعْنِي أَصْلَابَ الرِّجَالِ وَتَرَائِبَ النِّسَاءِ وَهِيَ الصُّدُورُ وَقِيلَ هِيَ الْأَضْلَاعُ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَ الشبه للخؤلة، وإذا(8/58)
سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ كَانَ الشَّبَهُ لِلْعُمُومَةِ " فَحَصَلَ لِلْأُمِّ فِي الْوَلَدِ شَبَهًا كَالْأَبِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ بِالْأُمِّ أَخَصُّ وَكَانَ بِالشَّبَهِ أَحَقُّ.
فَصْلٌ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُمَا عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيهِ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ عَلَى وِلَادَتِهِ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ عُدُولٍ فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ لِإِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى حُكِمَ بِهِ لِذَاتِ الْبَيِّنَةِ وَلَحِقَ بِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ وَإِنْ أَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى وِلَادَتِهِ قَالَ أبو حنيفة أَلْحَقْتُهُ بِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ وَأَجْعَلُهُ ابْنًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلِزَوْجِهَا وَأَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَزَوْجَهَا أَمَّا لَهُ وَأَبًا قَالَ وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمُمْتَنِعِينَ إِذَا لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِهِمَا كَاللِّعَانِ قَدِ امْتَنَعَ بِهِ صِدْقُهُمَا ثُمَّ حُكِمَ بِهِ بَيْنَهُمَا وَكَاخْتِلَافِ المتبايعين إذا تحالفا عليه وقد أَوْجَبَ فَسْخَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أنه لأحداهما فَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ خَطَئِهِ مُسْتَحِيلٌ وَمَعَ اسْتِحَالَتِهِ شَنِيعٌ وَاسْتِحَالَةُ لُحُوقِهِ بِالِاثْنَيْنِ أَعْظَمُ مِنِ اسْتِحَالَةِ لحوقه بالأبوين لأنه لا يمنع ماء الرجلين في رحم واحد ويمتنع خروق الْوَلَدِ الْوَاحِدِ فِي رَحِمَيْنِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] فَأَخْبَرَ أَنَّ أُمَّهُ هِيَ الَّتِي تَلِدُهُ، فَإِنْ لَحِقَ الْوَلَدُ بِهِمَا اقْتَضَى ذَلِكَ وِلَادَتَهَا وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا مِنَ الِاسْتِحَالَةِ مَا تَدْفَعُهُ بِذَاتِهِ العقول ويمنع منه الحسن الفطن وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ الْمُلَاحَظَةِ إِلَى دَلِيلٍ وَلَا مَعَ التَّصَوُّرِ إِلَى تَعْلِيلٍ وَحَسْبُ مَا هَذِهِ حالة اطرادا واستقباحا لا سيما مع ما يَقْضِي هَذَا الْقَوْلُ إِمَّا مَذْهَبًا وَإِمَّا إِلْزَامًا إِلَى أَنْ يَصِيرَ الْوَلَدُ الْوَاحِدُ مُلْحَقًا بِنِسَاءِ الْقَبِيلَةِ وَرِجَالِهَا ثُمَّ بِنِسَاءِ الْمَدِينَةِ وَرِجَالِهَا ثُمَّ بِنِسَاءِ الدُّنْيَا وَرِجَالِهَا وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ قَوْلٍ هَذِهِ نَتِيجَتُهُ وَمَذْهَبٍ هَذِهِ قَاعِدَتُهُ فَأَمَّا اللِّعَانُ فما حكمنا فيه بصدقها مُسْتَحِيلٌ وَإِنَّمَا عَلَّقْنَا عَلَيْهِ حُكْمًا قَدْ أَسْمَاهُ الصَّادِقُ مِنْهُمَا اقْتَضَى ذَلِكَ نَفْيَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَأَمَّا التَّحَالُفُ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعِينَ فَإِنَّمَا أَوْجَبَ إِبْطَالُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ دُونَ إِثْبَاتِهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِمَا مَعَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْأَمْلَاكِ هَلْ يُسْتَعْمَلَانِ أَوْ يَسْقُطَانِ وَلَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُسْتَعْمَلَانِ بِقِسْمَةِ الْمِلْكِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ.
وَالثَّانِي: يُسْتَعْمَلَانِ بِالْقُرْعَةِ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا بِاسْتِعْمَالِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الأملاك استعملناهما في الانتساب وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَسْتَعْمِلَهُمَا بِالْقِسْمَةِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي النَّسَبِ وَلَا بِالْقُرْعَةِ مَعَ وُجُودِ الْقَافَةِ لِأَنَّ الْقَافَةَ أَقْوَى وَأَوْكَدُ وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ استعمالهما بِتَمْيِيزِ الْقَافَةِ بَيْنَهُمَا فَيُنْظَرُ إِلَى الْوَلَدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِإِحْدَاهُمَا لَحِقَ بِهَا بِالْبَيِّنَةِ، وَكَانَ تَمْيِيزُ الْقَافَةِ تَرْجِيحًا فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ لَاحِقًا بِهَا وَبِزَوْجِهَا إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ وَإِنْ قُلْنَا بِإِسْقَاطِ الْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا فِي الْأَمْلَاكِ فَهَلْ يَسْقُطَانِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا فِي الْأَنْسَابِ أَمْ لَا فِيهِ وَجْهَانِ:(8/59)
أَحَدِهِمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُمَا يَسْقُطَانِ كَالْأَمْلَاكِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُمَا كَمَا لَوْ تَدَاعَتَاهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ إِذَا تَعَارَضَتَا فِي الْأَنْسَابِ وَإِنْ سَقَطَتَا بِتَعَارُضِهِمَا فِي الْأَمْلَاكِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا لَمَّا تَكَافَآ في الأملاك ولم يكن ما يترجح بِهِ إِحْدَاهُمَا جَازَ أَنْ يَسْقُطَا وَلَمَا أَمْكَنَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا فِي الْأَنْسَابِ بِالْقَافَةِ لَمْ يَسْقُطَا وَحُكِمَ لِمَنِ انْضَمَّ إِلَى بَيِّنَتِهِ بَيَانُ الْقَافَةِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَوَجُدِتِ الْقَافَةُ فَأَلْحَقَتِ الْوَلَدَ بِإِحْدَاهُمَا صَارَ لَاحِقًا بِهَا بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالدَّعْوَى فَإِنْ عُدِمَتِ الْقَافَةُ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنَ الْقُرْعَةِ وَهُوَ انْتِسَابُ الْوَلَدِ إِذَا بَلَغَ زَمَانَ الِانْتِسَابِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِلَى اسْتِكْمَالِ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ. والثاني: إلى بلوغ فَإِذَا انْتَسَبَ إِلَى إِحْدَاهُمَا لَحِقَ بِهَا وَبِزَوْجِهَا لِأَنَّهُ صَارَ لَاحِقًا بِهَا بِالِانْتِسَابِ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَصَارَ كَالْقَافَةِ مَعَ الْبَيِّنَةِ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا قَبْلَ انْتِسَابِ الْوَلَدِ إِلَى إِحْدَاهُمَا وُقِفَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتَةِ مِيرَاثُ ابْنٍ فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْمَيِّتَةِ أُخِذَ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ تَرِكَتِهَا وَهُوَ مِيرَاثُ ابْنٍ وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الثَّانِيَةِ مِنْهَا رُدَّ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتَةِ عَلَى وَرَثَتِهَا وَلَوْ مَاتَ زَوْجُ إِحْدَاهُمَا وُقِفَ مِنْ تَرِكَتِهِ مِيرَاثُ ابْنٍ لِجَوَازِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى زَوْجَتِهِ فَيَصِيرُ لَاحِقًا بِهَا فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى امْرَأَةِ الْمَيِّتِ أُخِذَ مَا وُقِفَ مِنْ تَرِكَةِ زَوْجِهَا وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْأُخْرَى رُدَّ مَا وُقِفَ لَهُ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ عَلَى وَرَثَتِهِ فَلَوْ مَاتَتْ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ وَزَوْجُ الْأُخْرَى وُقِفَ لَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتَةِ مِيرَاثُ ابْنٍ وَمِنْ تَرِكَةِ زَوْجِ الْأُخْرَى مِيرَاثُ ابْنٍ فَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْمَيِّتَةِ أُخِذَ مِيرَاثُهَا وَرُدَّ مِيرَاثُ زَوْجِ الْبَاقِيَةِ عَلَى وَرَثَتِهِ وَإِنِ انْتَسَبَ إِلَى الْبَاقِيَةِ أُخِذَ مِيرَاثُ زَوْجِهَا وَرُدَّ مِيرَاثُ الْمَيِّتَةِ عَلَى وَرَثَتِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ اللَّقِيطَ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَمْ أَقْبَلِ الْبَيِّنَةَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنَّهَا رَأَتْ أَمَةَ فلان ولدته وأقبل أربع نسوة وإنما منعني أن أقبل شهوده أنه عبده لأنه قد يرى في يده فيشهد أنه عبده " (وقال) في موضع آخر " إن أقام بينة أنه كان في يده قبل التقاط الملتقط أرفقته له " (قال المزني) " هذا خلاف قوله الأول وأولى بالحق عندي من الأول ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ ادَّعَى رِقَّ إِنْسَانٍ مَجْهُولِ الْحَالِ وَأَنَّهُ عَبْدُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ يد لسيده مُسْتَرِقٍّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَى بَالِغٍ فَيَرْجِعُ فِيهَا إِلَى الْمُدَّعِي بِالرِّقِّ فَإِنْ أَنْكَرَ حَلَفَ وَإِنْ أَقَرَّ صَارَ عَبْدًا لَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ بَالِغٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ لَقِيطٌ فَيَكُونُ قَوْلُ الْمُدَّعِي رِقَّهُ مَقْبُولًا وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ(8/60)
عَبْدُهُ مَا لَمْ تَكُنْ يَدٌ تَدْفَعُهُ أَوْ مُدَّعٍ يُقَابِلُهُ لِأَنَّ مَا جُهِلَ حَالُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُنَازِعٌ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ اعْتِرَاضٌ كَمَنْ وَجَدَ مَالًا فَادَّعَاهُ مِلْكًا أُقِرَّ عَلَى دَعْوَاهُ مَا لَمْ يُنَازَعْ فِيهِ فَلَوْ بَلَغَ هَذَا الطِّفْلُ الَّذِي حُكِمَ بِرِقِّهِ لِمُدَّعِيهِ وَأَنْكَرَ الرِّقَّ وَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِرِقِّهِ كَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِذَا أَنْكَرَ النَّسَبَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهِ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالْحُرِّيَّةِ حُكِمَ بِهَا وَرُفِعَ رِقُّ الْمُدَّعِي عَنْهُ فَإِنْ طَلَبَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ إِحْلَافَ الْمَحْكُومِ لَهُ بِرِقِّهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا دَعْوَى حُرِّيَّةٍ قَدِ اسْتَأْنَفَهَا عَلَى سَيِّدِهِ.
فَصْلٌ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِرِقِّ لَقِيطٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون قبل ذلك الْتِقَاطُهُ فَفِي قَبُولِ دَعْوَى الْمُدَّعِي لِرِقِّهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ كَمَا يُقْبَلُ مِنْهُ ادِّعَاءُ نَسَبِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ قَوْلَهُ لَا يُقْبَلُ فِي رِقِّهِ وَإِنْ قُبِلَ فِي نَسَبِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّقِّ وَالنَّسَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي دَعْوَى النَّسَبِ حَقًّا لَهُ وَحَقًّا عَلَيْهِ وَدَعْوَى الرِّقِّ حَقٌّ لَهُ لَا عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّسَبَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ ظَاهِرُ الدَّارِ بَلْ يَقْتَضِيهِ وَالرِّقُّ يَمْنَعُ مِنْهُ ظَاهِرُ الدَّارِ وَيُنَافِيهِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ قوليه فِي حُكْمِ اللَّقِيطِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِقِّهِ لِلْمُدَّعِي وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ مَجْهُولُ الْأَصْلِ حُكِمَ بِهِ.
فَصْلٌ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ دَعْوَى رِقِّهِ بَعْدَ الْتِقَاطِهِ فَلَا تُسْمَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ سَوَاءٌ ادَّعَاهُ مُلْتَقِطُهُ أَوْ غَيْرُهُ وَفَرْقُ مَا قَبْلَ الْتِقَاطِهِ وَبَعْدَهُ أن قَبْلَ الِالْتِقَاطِ لَمْ تَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ يَدٌ وَبَعْدَ الِالْتِقَاطِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ يَدٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُدَّعِي رِقِّهِ هُوَ الْمُلْتَقِطُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مِنَ الْأَجَانِبِ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الْمُلْتَقِطُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا تَكُونُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ كَانَتْ دَعْوَاهُ مَرْدُودَةً وَاللَّقِيطُ عَلَى ظَاهِرِ الْحُرِّيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ وَيُقَرُّ فِي يَدِهِ مَعَ مَالِهِ إِنْ كَانَ وَلَا يُنْزَعُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لَهُ لَمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ كَفَالَتِهِ بِالِالْتِقَاطِ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى أَنَّ انْتِزَاعَهُ مِنْ يَدِهِ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِدَعْوَى رِقِّهِ مِنَ الْأَمَانَةِ فِي كَفَالَتِهِ وَرُبَّمَا صَارَتْ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ يَدِهِ ذَرِيعَةً إِلَى تَحْقِيقِ رِقِّهِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْيَدِ فَلَا يُحْكَمُ بِهَا لِأَنَّ الْيَدَ شَاهِدَةٌ وَلَيْسَ يُحْكَمُ بِهَا لِلْعِلْمِ بِسَبَبِهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ بِهَا تَأْثِيرٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِالْمِلْكِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَصِفَ سَبَبَ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ إِمَّا ابْتِيَاعٌ مِنْ مَالِكٍ أَوْ هِبَةٌ قَبَضَهَا مِنْ مَالِكٍ أَوْ مِيرَاثٌ عَنْ مَالِكٍ أَوْ بِسَبْيٍ سَبَاهُ فَمَلَكَهُ أَوْ وَلَدَتْهُ(8/61)
أَمَتُهُ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ أَوِ الْمِيرَاثِ أَوِ السَّبْيِ حُكِمَ فِيهَا بِشَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى أَنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ سَمِعَ فِيهِ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ يَشْهَدْنَ عَلَى وِلَادَتِهَا فِي مِلْكِهِ وَتَكُونُ شَهَادَتَيْنِ بِمِلْكِ الْأُمِّ عِنْدَ الْوِلَادَةِ تَبَعًا لِلشَّهَادَةِ بِالْوِلَادَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِ الْأُمِّ نِزَاعٌ فَإِنْ نُوزِعَ فِي ملكه الأم لم تقبل شهادتين بِمِلْكِ الْأُمِّ حَتَّى يَشْهَدَ بِمِلْكِهَا شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ثُمَّ إِنْ شَهِدْنَ بَعْدَ ذَلِكَ بِوِلَادَتِهَا فِي مِلْكِهِ قُبِلْنَ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ بِالْمِلْكِ وَالْوِلَادَةِ فِيهِ قُبِلَ فَأَمَّا إِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِوِلَادَتِهِ مِنْ أَمَتِهِ وَلَمْ تَشْهَدْ بِأَنَّ الْوِلَادَةَ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ فَهَذَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَبَبُ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تكون أمه قَدْ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَشَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ حُكِمَ بِهَا وَصَارَ عَبْدًا لَهُ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ لَهُ بِالْمِلْكِ وَلَا تذكر سَبَبُ الْمِلْكِ فَفِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحْكَمُ بِهَا وَيُجْعَلُ اللَّقِيطُ عَبْدًا لَهُ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ سَبَبِ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِمِلْكِ مَالٍ لَمْ يَذْكُرُوا سَبَبَ مِلْكِهِ كَانَ جَائِزًا فَكَذَلِكَ فِي مِلْكِ اللَّقِيطِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُحْكَمَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي اللَّقِيطِ حَتَّى يَذْكُرُوا سَبَبَ مِلْكِهِ وَيُحْكَمَ بِهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا سَبَبَ مِلْكِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ اللَّقِيطِ أَغْلَظُ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْلِهِ عَنْ ظَاهِرِ حَالِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ إِلَى مَا تَشْهَدُ لَهُ الْبَيِّنَةُ مِنَ الرِّقِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْيَدَ فِي الْأَمْوَالِ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَفِي اللَّقِيطِ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ فَإِنْ قِيلَ فَيَجُوزُ لِلشُّهُودِ فِي الْأَمْوَالِ أَنْ يَشْهَدُوا فِيهَا بِالْمِلْكِ بِالْيَدِ وَحْدَهَا قِيلَ أَمَّا يَدٌ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا تَصَرُّفٌ كَامِلٌ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِهَا فِي الْمِلْكِ وَأَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا تَصَرُّفٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَحَكَى أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي إِفْصَاحِهِ وَجْهَيْنِ عَنْ غَيْرِهِ وَوَجْهًا ثَالِثًا عَنْ نَفْسِهِ.
أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ وَالْحُكْمُ أَوْكَدُ مِنَ الشَّهَادَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلشُّهُودِ وَإِنْ جَازَ لِلْحَاكِمِ لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَيْسَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَجْتَهِدُوا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: الَّذِي حَكَاهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنِ اقْتَرَنَ بِمُشَاهَدَةِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ سَمَاعٌ مِنَ النَّاسِ يَنْسِبُونَهُ إِلَى مِلْكِهِ جَازَ أَنْ يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا النَّاسَ يَنْسِبُونَهُ إِلَى مِلْكِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ وَشَهِدُوا بِالْيَدِ.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي لِرِقِّ اللَّقِيطِ أَجْنَبِيًّا غَيْرَ الْمُلْتَقِطِ فإن لم تكن له بينته رُدَّتْ دَعْوَاهُ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الشَّهَادَةِ لِلْمُلْتَقِطِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بِالْيَدِ قَبْلَ الْتِقَاطِهِ فَفِي الْحُكْمِ بِهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُحْكَمُ بِهَا لِغَيْرِ الْمُلْتَقِطِ كَمَا لَا يُحْكَمُ بِهَا لِلْمُلْتَقِطِ وَلَا تَكُونُ الْيَدُ عَلَيْهِ مُوجِبَةً لِمِلْكِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَغْلِيظِ حَالِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يُحْكَمُ بِهَا فِي مِلْكِهِ لِرِقِّهِ وَلَكِنْ يُحْكَمُ بِهَا فِي تَقَدُّمِ يَدِهِ وَاسْتِحْقَاقِ كَفَالَتِهِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَشْهَدُ بِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ يَدِ مُلْتَقِطِهِ فَعَلَى مَا حَكَاهُ(8/62)
الْمُزَنِيُّ يُنْتَزَعُ مِنَ الْمُلْتَقِطِ وَيُسَلَّمُ إِلَيْهِ لِيَكْفُلَهُ وَعَلَى مَا أُرَاهُ أَوْلَى يُمْنَعُ مِنْهُ لِئَلَّا يَصِيرَ ذَرِيعَةً إِلَى اسْتِرْقَاقِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ إِنَّا نَحْكُمُ لَهُ بِرِقِّهِ مَعَ الشَّهَادَةِ لَهُ بِالْيَدِ بِخِلَافِ يَدِ الْمُلْتَقِطِ لِأَنَّ فِي إِقْرَارِ الْمُلْتَقِطِ بِأَنَّهُ لَقِيطٌ تَكْذِيبٌ لِشُهُودِهِ بِأَنَّ الْيَدَ مُوجِبَةٌ لِمِلْكِهِ وَلَيْسَ مِنْ غَيْرِ الْمُلْتَقِطِ إِقْرَارٌ يُوجِبُ هَذَا إِلَّا أَنَّ الْمُزَنِيَّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ بِالْيَدِ وَيَحْلِفُ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ رَقِيقًا لَهُ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ أَرِقَّهُ لَهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِحْلَافِهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوِ اسْتِحْبَابٌ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ لِيَنْفِيَ بِهَا احْتِمَالَ الْيَدِ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ مِلْكٍ فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِرِقِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لِأَنَّ الْيَدَ إِنْ أَوْجَبَتِ الْمِلْكَ أَغْنَتْهُ عَنِ الْيَمِينِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُنَازِعٌ وَإِنْ لَمْ تُوجِبِ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّهَادَةِ بِهَا تَأْثِيرٌ وَلِأَنَّ فِي الْيَمِينِ مَعَ الْبَيِّنَةِ اعْتِلَالًا لِلشَّهَادَةِ.
فَصْلٌ:
فَلَوِ ادَّعَى الْمُلْتَقِطُ بُنُوَّةَ اللَّقِيطِ أُلْحِقَ بِهِ وَلَمْ يُكَلَّفْ بِبَيِّنَةٍ فَلَوِ ادَّعَى غَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رِقَّ اللَّقِيطِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّقِّ وَالنَّسَبِ وَإِذَا أَقَامَهَا صَارَ ابْنًا لِلْمُلْتَقِطِ وَعَبْدًا لِلْآخَرِ لِإِمْكَانِ الْأَمْرَيْنِ وَيَكُونُ السَّيِّدُ أَوْلَى بِكَفَالَتِهِ مِنَ الْأَبِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا بَلَغَ اللَّقِيطُ فَاشْتَرَى وَبَاعَ وَنَكَحَ وَأَصْدَقَ ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ أَلْزَمْتُهُ مَا يَلْزَمُهُ قبل إقراره وفي إلزامه الرق قولان أحدهما أَنَّ إِقْرَارَهُ يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْفَضْلِ من ماله عما لزمه ولا يصدق في حق غيره ومن قال أصدقه في الكل قال لأنه مجهول الأصل ومن قال القول الأول قاله في امرأة نكحت ثم أقرت بملك لرجل لا أصدقها على إفساد النكاح ولا ما يجب عليها للزوج وأجعل طلاقه إياها ثلاثا وعدتها ثلاث حيَض وفي الوفاة عدة أمة لأنه ليس عليها في الوفاة حق يلزمها له وأجعل ولده قبل الإقرار ولد حرة وله الخيار فإن أقام على النكاح كان ولده رقيقا وأجعل ملكها لمن أقرت له بأنها أمته " (قال المزني) رحمه الله " أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ ومن ادعاه لم يجب له بدعواه وقد لزمتها حقوق بإقرارها فليس لها إبطالها بدعواها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي لَقِيطٍ بَلَغَ فَجَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَحْرَارِ فِي عُقُودِهِ وَأَفْعَالِهِ اعْتِبَارًا بِظَاهِرِ حَالِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ بِالْإِشْكَالِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّهُ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ أَوْ مَجْهُولُ الْأَصْلِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَرَتْ أَحْكَامُ الْحُرِّيَّةِ عَلَيْهِ ظَاهِرًا ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَى رِقَّهُ وَأَنَّهُ عَبْدُهُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ لَهُ بِرِقِّهِ أَوْ لَا يَكُونُ فَإِنْ أَقَامَ بِرِقِّهِ بَيِّنَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَصْفِ الْبَيِّنَةِ حَكَمْنَا لَهُ بِرِقِّهِ وَأَجْرَيْنَا عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْعَبِيدِ فِي الْمَاضِي مِنْ حَالِهِ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا بَطَلَ مِنْ عُقُودِهِ الْمَاضِيَةِ بِالرِّقِّ أَبْطَلْنَاهُ وَمَا وَجَبَ(8/63)
اسْتِرْجَاعُهُ مَنْ غُرْمٍ أَوْ مَالٍ اسْتَرْجَعْنَاهُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا ضَرَّ غَيْرَهُ أَوْ نَفَعَهُ أَوْ نَفَعَ غَيْرَهُ وَضَرَّهُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُقِرَّ اللَّقِيطُ لَهُ بِالرِّقِّ أَوْ يُنْكِرَهُ فَإِنْ أَنْكَرَهُ حَلَفَ لَهُ وَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ حُرِّيَّتِهِ وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِالرِّقِّ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اعْتَرَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدِ اعْتَرَفَ بِالْحُرِّيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ لِأَنَّ اعْتِرَافَهُ بِالْحُرِّيَّةِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ تَضَمَّنَهُ حَقٌّ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اعْتَرَفَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ قُبِلَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ سَوَاءٌ قِيلَ بِجَهَالَةِ أَصْلِهِ أَوْ بِظَاهِرِ حُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الظَّاهِرِ وَلِأَنَّ الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى أَغْلَظُ مِنَ الرِّقِّ ثُمَّ كَانَ قَوْلُهُ لَوْ بَلَغَ مَقْبُولًا فِي الْكُفْرِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَقْبُولًا فِي الرِّقِّ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِقْرَارَهُ بِالرِّقِّ مَقْبُولٌ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَفِي إِجْرَائِهَا عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّقِّ فِي الْمَاضِي كَمَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ مَجْهُولَ الْأَصْلِ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّقَّ أَصْلٌ إِذَا ثَبَتَ تَعَلُّقٌ فِي فَرْعِهِ مِنْ أَحْكَامٍ فَإِذَا ثَبَتَ أَصْلُهُ فَأَوْلَى أَنْ تَثْبُتَ فُرُوعُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ مُوجِبًا لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الرِّقِّ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْبَيِّنَةِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِذَلِكَ فِي الْمَاضِي كَالْبَيِّنَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي أَضَرُّ الْأَمْرَيْنِ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ أَوِ الرِّقِّ فَمَا نَفَعَهُ وَضَرَّ غَيْرَهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَمَا ضَرَّهُ وَنَفَعَ غَيْرَهُ قُبِلَ مِنْهُ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ فِيهِ حُرًّا فِي الظَّاهِرِ وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِقْرَارَهُ فِيمَا ضر غيره متهوم فأمضى وإقراره فيما ينفعه متهوم فَرُدَّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَمَا لَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ مِنَ الْعُقُودِ بِغَيْرِ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ لُزُومَهَا يَمْنَعُ مِنْ تَمَلُّكِ فَسْخِهَا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ تَفَرَّعَ عَلَيْهِمَا مَا مَضَى فَمِنْ ذَلِكَ هِبَاتُهُ وَعَطَايَاهُ فَإِنْ قيل بنفوذ إقراره فيهما بطلت واستحق السيد استرجاعها وإن قيل برد إقراره فيهما بطلت واستحق السيد استرجاعها أُمْضِيَتْ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِحْلَافُ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُعْطَى إِنْ أَنْكَرَ.
فَصْلٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ بَيُوعُهُ وَإِجَارَاتُهُ إِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ فِيهِمَا بَطَلَتْ وَلَزِمَ التَّرَاجُعُ فِيهِمَا وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ فِيهِمَا أُمْضِيَتْ وَلَا يُرَاجَعُ فِيهِمَا وَمَا حَصَلَ بِيَدِهِ مِمَّا اشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ بَائِعِهِ وَلَهُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى أَخْذِ ثَمَنِهِ مِنْهُ فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ لَمْ يَمْلِكْهُ.
فَصْلٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ دُيُونُهُ الَّتِي لَزِمَتْهُ وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا وَجَبَ بِاسْتِهْلَاكٍ وَجِنَايَةٍ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِأَنَّ ذَلِكَ أضر(8/64)
بِهِ فَنَفَذَ إِقْرَارُهُ فِيهِ وَإِنْ ضَاقَتِ الرَّقَبَةُ عَنْ غُرْمِ جَمِيعِهِ فَفِي تَعَلُّقِ الْبَاقِي بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ قَوْلَانِ إِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ سَقَطَ وَلَمْ يَلْزَمْ وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ لَزِمَ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا وَجَبَ عَنْ مُعَامَلَةٍ مِنْ ثَمَنٍ أَوْ أُجْرَةٍ أَوْ صَدَاقٍ فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَكَانَ السَّيِّدُ أَحَقَّ بِمَا فِي يَدِهِ وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهِ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا فِيمَا بِيَدِهِ فَمَا كَانَ بِإِزَائِهِ دَفَعَ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ فِي دُيُونِهِ وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِسَيِّدِهِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهُ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْفَاضِلِ مِنْهُ لِسَيِّدِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ إِقْرَارَهُ يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْفَضْلِ مِنْ مَالِهِ عَمَّا لَزِمَهُ يَعْنِي مِنْ دُيُونِهِ.
فَصْلٌ:
وَمِنْ ذَلِكَ نِكَاحُهُ وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اللَّقِيطُ عَبْدًا فَيَنْكِحَ امْرَأَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً فَتَنْكِحَ رَجُلًا فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ عَبْدًا فَنَكَحَ امْرَأَةً فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَكْثَرُ فَلَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا الْمُسَمَّى لِأَنَّهَا تَدَّعِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إقراره انفسخ النكاح من وقته لإقرارها بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْفَسِخْ مِنْ أَصْلِهِ لِقَبُولِ إِقْرَارِهِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا جَمِيعُهُ وَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ أَمَةً فَنَكَحَتْ رَجُلًا فَإِنْ قِيلَ بِنُفُوذِ إِقْرَارِهَا بَطَلَ النِّكَاحُ لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهَا سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى وَكَانَ أَوْلَادُهَا مِنْهُ أَحْرَارًا لِأَنَّهُ أَصَابَهَا عَلَى حُرِّيَّةِ أَوْلَادِهَا فَصَارَتْ كَالْغَارَّةِ بَحُرِّيَّتِهَا لَكِنْ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَتُهُمْ لِسَيِّدِهَا وَفِي رُجُوعِ الزَّوْجِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا بَعْدَ عِتْقِهَا قَوْلَانِ كَالْمَغْرُورِ وَإِنْ قِيلَ بِرَدِّ إِقْرَارِهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ وَاجِدًا لِلطَّوْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ عَلَى حُرَّةٍ وَجَمِيعُ أَوْلَادِهَا مِنْهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ وَبَعْدَهُ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَحْرَارٌ لَا يَلْزَمُ الزَّوْجُ غُرْمَ قِيمَتِهِمْ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُقَامِ مَعَهَا لِمَا اسْتَقَرَّ مِنْ حُكْمِ رِقِّهَا فَإِنْ أَقَامَ عَلَيْهَا رُقَّ أَوْلَادُهُ مِنْهَا إِذَا وَضَعَتْهُمْ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ ثُمَّ إِنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي يَرُدُّ إِقْرَارَهَا فِيهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: طَلَاقٌ أَوْ وَفَاةٌ فَإِنْ كَانَتْ وَفَاةً فَعِدَّةُ أَمَةٍ شَهْرَانِ وَخَمْسِ لَيَالٍ لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تعالى فقيل قَوْلُهَا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَإِنْ كَانَتْ عِدَّةَ طَلَاقٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَمْلِكَ فِيهَا الرَّجْعَةَ فَيَلْزَمُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ مِنْهَا أَقْوَى لِثُبُوتِ رَجْعَتِهِ فِيهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَمْلِكَ فِيهَا الرَّجْعَةَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عِدَّةُ أَمَةٍ كَالْوَفَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا لِلزَّوْجِ حَقٌّ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ كَمَا لَوْ فِيهَا الرَّجْعَةُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ أَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ يَغْلِبُ فِيهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى صَغِيرَةٍ وَلَا غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الِاسْتِبْرَاءُ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ يَغْلِبُ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لوجوبها(8/65)
عَلَى الصَّغِيرَةِ وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّعَبُّدُ، فَأَمَّا الْجِنَايَةُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَفِيمَا اسْتَوْفَيْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا أَغْفَلْنَا، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَنْفُذَ إِقْرَارُهُ فِي الْمَاضِي وَإِنْ نَفَذَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَانَ مِنِ اسْتِدْلَالِهِ أَنْ قَالَ أَجْمَعَتِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لَزِمَهُ وَمَنِ ادَّعَاهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ بِدَعْوَاهُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ فَاسِدٌ لِأَنَّ اللَّقِيطَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِقْرَارٌ بِالْحُرِّيَّةِ فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ وَإِنَّمَا حَمَلَ أَمْرَهُ فِي الْحُرِّيَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى فَكَانَ الْحُكْمُ بِهِ أَوْلَى.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا أُقِرُّ اللَّقِيطَ بِأَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ وَقَالَ الفلان ما ملكته ثُمَّ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِالرِّقِّ بَعْدُ لَمْ أَقْبَلْ إِقْرَارَهُ وَكَانَ حُرًّا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي لَقِيطٍ بَالِغٍ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَأَقَرَّ بِرِقِّهِ لِزَيْدٍ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ أن يكون مالكه فَأَقَرَّ اللَّقِيطُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرِقِّهِ لِعَمْرٍو فَإِقْرَارُهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ حُرٌّ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِرِقِّهِ لِمَالِكٍ فَيَحْكُمُ بِهَا دُونَ الْإِقْرَارِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ إِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ لِلثَّانِي وَإِنْ رَدَّهُ الْأَوَّلُ كَمَا كَانَ إِقْرَارُهُ مَقْبُولًا لِلْأَوَّلِ وَهَكَذَا لَوْ أَنْكَرَهُ الثَّانِي فَأَقَرَّ الثَّالِثُ قُبِلَ مِنْهُ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِرَجُلٍ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِغَيْرِهِ جَازَ فَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ بِرِقِّهِ لِرَجُلٍ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِآخَرَ جَازَ وَهَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِدَارٍ فِي يَدِهِ لِرَجُلٍ فَرَدَّ إِقْرَارَهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِهِ نَفَذَ إِقْرَارُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الرِّقِّ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى النَّسَبِ وَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ مَجْرَى الْمَالِ وَقَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَهُ فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إِقْرَارَهُ بِالرِّقِّ لِلْأَوَّلِ إِقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا رِقَّ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْأَوَّلِ فَإِذَا رَدَّ الْأَوَّلُ الْإِقْرَارَ فَقَدْ رَفَعَ رِقَّهُ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ فَصَارَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ إِذَا رُدَّ كَالْعِتْقِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ الرِّقِّ وَالثَّانِي أَنْ فِي الْحُرِّيَّةِ حقا لله تعالى وحق لِلْآدَمِيِّ فَصَارَ أَغْلَظَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تَجَرَّدَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ إِذَا انْفَرَدَ فَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ جَرَى حُكْمُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ إِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَضِيقُ عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَيَجْعَلُ الْحُكْمَ فِيهِمَا سَوَاءً وَيَقُولُ إِذَا رَدَّ إِقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ لَمْ أقبله إذا أقر به من بعد كَمَا لَوْ رَدَّ فِي الْعِتْقِ لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ بَعْدُ وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي النَّسَبِ وَلَا يُقْبَلُ فِي الرِّقِّ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِنْكَارَهُ الرِّقَّ يَقْتَضِي أَنْ لَا رِقَّ وَلَيْسَ إِنْكَارُهُ لِلنَّسَبِ مُوجِبًا لِرَفْعِ النَّسَبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ أَنْكَرَ الرِّقَّ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالدَّارِ فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقِرُّ لَهُ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُ الْمُقِرِّ بِهَا لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهَا وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مِلْكٍ مِنْ مَالِكٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اللَّقِيطُ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ حُرًّا وَلَيْسَ لَهُ مالك.(8/66)
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا قِيلَ لِلثَّانِي إِنْ أَقَمْتَ الْبَيِّنَةَ عَلَى رِقِّهِ حُكِمَ لَكَ بِهِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تُوجِبُ رِقَّهُ وَإِنْ كَانَ معترفا بالحرية فكانت إثبات رِقِّهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَوْلَى.
فَصْلٌ:
وَلَوْ أَنَّ لَقِيطًا أَقَرَّ بِالْبُنُوَّةِ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ بَعْدَهُ لِآخَرَ قَبْلِنَا إِقْرَارَهُ لَهُمَا بِالْبُنُوَّةِ وَالرِّقِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لزيد وعبدا لعمر وَلَوِ ابْتَدَأَ فَأَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهُ بِالْبُنُوَّةِ لِآخَرَ نَفَذَ إِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ الْمُتَقَدِّمِ فلم يَنْفَذْ إِقْرَارُهُ بِالْبُنُوَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِأَبٍ إِلَّا بِتَصْدِيقِ السَّيِّدِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ الْإِرْثِ بِالْوَلَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قُدِّمَ الْإِقْرَارُ بِالْأَبِ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهُ بِالرِّقِّ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا تَنَازَعَ الرَّجُلَانِ طِفْلًا وَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنًا ثُمَّ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَاعْتَرَفَ لَهُ بِأُبُوَّتِهِ فَإِنْ كَانَ تَنَازُعُهُمَا فِي نَسَبِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْفِرَاشِ لَمْ يُقْبَلْ تَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْتِقَاطِهِ قُبِلَ وَصَارَ ابْنًا لِمَنْ سُلِّمَ إِلَيْهِ دُونَ مَنْ سَلَّمَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَادِثَ عَنِ الْفِرَاشِ مُلْحَقٌ بِغَيْرِ دَعْوَى وَاللَّقِيطُ لَا يُلْحَقُ إِلَّا بِالدَّعْوَى فَلَوْ رَجَعَ مَنْ سَلَّمَ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ ابْنًا لَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى غَيْرِهِ وَاعْتَرَفَ لَهُ بِأُبُوَّتِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ حَكَمَ لَهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِأُبُوَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ لِاعْتِرَافِهِ بِهِ وَهَكَذَا لَوْ تَفَرَّدَ رَجُلٌ بِالْتِقَاطِهِ وَادَّعَى بُنُوَّتَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ بَعْدَ ادِّعَاءِ الْبُنُوَّةِ إِلَى غَيْرِهِ وَلَدًا لَمْ يَجُزْ وَصَارَ لَازِمًا لِلْأَوَّلِ لِإِلْحَاقِهِ بِهِ فَلَوْ تَنَازَعَ نَسَبَهُ رَجُلَانِ ثُمَّ تَرَكَاهُ مَعًا رَاجِعَيْنِ عَنِ ادِّعَاءِ نَسَبِهِ لَمْ يَجُزْ وَأَرَيْنَا فِيمَا رَأَيَاهُ لِلْقَافَةِ وَأَلْحَقْنَاهُ بِمَنْ أَلْحَقُوهُ بِهِ وَلَوْ سَلَّمَهُ الْمُتَنَازِعَانِ إِلَى ثَالِثٍ اسْتُحْدِثَ دَعْوَى نَسَبِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمَا بِالتَّنَازُعِ الْأَوَّلِ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ نَسَبَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الثَّالِثِ فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ صَارَ بِإِلْحَاقِ القافة لاحقا به لا بالتسليم وإن تفوه عَنْهُ وَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ إِمَّا بِالْقَافَةِ أو بالتسليم والله أعلم.(8/67)
كتاب الفرائض
حقيق بمن علم أن الدنيا منقرضة، وأن الرزايا قبل الغايات معترضة، وأن المال متروك لوارث، أو مصاب بحادث، أن يكون زهده فيه أقوى من رغبته، وتركه له أكثر من طلبته، فإن النجاة منها فوز، والاسترسال فيها عجز، أعاننا الله على العمل بما نقول، ووفقنا لحسن القبول إن شاء الله.
وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ صَلَاحَ عِبَادِهِ فِيمَا اقْتَنَوْهُ مَعَ مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الضَّنِّ بِهِ وَالْأَسَفِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَصْرِفَهُ بَعْدَهُمْ مَعْرُوفًا، وَقَسْمَهُ مُقَدَّرًا مَفْرُوضًا؛ لِيَقْطَعَ بَيْنَهُمُ التَّنَازُعَ وَالِاخْتِلَافَ، وَيَدُومَ لَهُمُ التَّوَاصُلُ وَالِائْتِلَافُ، جَعْلَهُ لِمَنْ تَمَاسَّتْ أَنْسَابهُمْ وَتَوَاصَلَتْ أَسْبَابُهُمْ لِفَضْلِ الْحُنُوِّ عَلَيْهِمْ، وَشِدَّةِ الْمَيْلِ إِلَيْهِمْ، حَتَّى يَقِلَّ عَلَيْهِ الْأَسَفُ، وَيَسْتَقِلَّ بِهِ الْخَلَفُ، فَسُبْحَانَ مَنْ قدر وهدى، وَدَبَّرَ فَأَحْكَمَ، وَقَدْ كَانَتْ كُلُّ أُمَّةٍ تَجْرِي مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَادَتِهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهَا يَتَوَارَثُونَ بِالْحِلْفِ وَالتَّنَاصُرِ كَمَا يَتَوَارَثُونَ بِالْأَنْسَابِ؛ طَلَبًا لِلتَّوَاصُلِ بِهِ، فَإِذَا تَحَالَفَ الرَّجُلَانِ مِنْهُمْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي عَقْدِ حِلْفِهِ هَدْمِي هَدْمُكَ، وَدَمِي دَمُكَ، وَسِلْمِي سِلْمُكَ، وحربي حربك، وتنصرني وأنصرك. فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وِرِثَهُ الْآخَرُ، فَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ: قال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا حلفا في الإسلام وإنما حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلا شدة "، فجعل الحلف فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ لِلْأُمِّ فَأعطى السدس، ونزل فيه مَا حَكَاهُ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إن الله بكل شيء عليم} [الأحزاب: 6] .
فَصْلٌ:
وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ والأطفال، ولا يعطون المال إلا لمن حما وَغَزَا فَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أم كجة وبنت كجة وَثَعْلَبَةَ وَأَوْسَ بْنَ سُوَيْدٍ وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجَهَا وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا، فَمَاتَ زوجها فقالت أم كجة: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وبنيه فَلَمْ نُوَرَّثْ فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا يَا رَسُولَ الله إن ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكأ عَدُوًّا يَكْسِبُ عَلَيْهَا وَلَا تَكْتَسِبُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] .(8/68)
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32] على قولين:
أحدهما: يعني: للرجال نصيب مِمَّا اكْتَسَبُوا مِنْ مِيرَاثِ مَوْتَاهُمْ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ منه؛ لأن الجاهلية لم يكونوا يورثوا النِّسَاءَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالْعِقَابِ على معصية اللَّهِ، وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِثْل ذَلِكَ فِي أَنَّ لِلْمَرْأَةِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَلَا تجْزي بِالسَّيِّئَةِ إِلَّا مِثْلَهَا كَالرَّجُلِ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
فَصْلٌ:
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَيْفَ شَاءَ وَأَحَبَّ، مِيرَاثًا وَوَصِيَّةً، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي قَوْله تعالى: {آت ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26] عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ قَرَابَةُ الْمَيِّتِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَمِنْ قِبَلِ أُمِّهِ فِيمَا يُعْطِيهِمْ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَالْمِسْكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ فِيمَا يُعْطِيهِمْ من وصيته، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: إنَّهُمْ قَرَابَةُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ، ثُمَّ تَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ، فَكَانَ إِذَا تَرَكَ الْمُهَاجِرُ أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا مُهَاجِرٌ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُهَاجِرٍ كَانَ مِيرَاثُهُ لِلْمُهَاجِرِ دُونَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، وَلَوْ تَرَكَ عَمًّا مُهَاجِرًا وَأَخًا غَيْرَ مُهَاجِرٍ كَانَ مِيرَاثُهُ لِلْعَمِّ دُونَ الْأَخِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] يعني: أن لا تَتَوَارَثُوا بِالْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] يَعْنِي: الْوَصِيَّةَ لِمَنْ لَمْ يرث {كان ذلك في الكتاب مسطورا} [الأحزاب: 6] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: كَانَ تَوَارُثُكُمْ بِالْهِجْرَةِ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.
وَالثَّانِي: كَانَ نَسْخُهُ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.
فَصْلٌ:
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ المواريث وقدرها بين الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا فِي ثَلَاثِ آيٍ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، نَسَخَ بِهِنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَوَارِيثِ، فَرَوَى دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عن جابر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ امْرَأَةَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ سَعْدًا(8/69)
هَلَكَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَقَدْ أَخَذَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا إِلَّا أَخَذَهُ، فَمَا ترى يا رسول الله؟ فوالله لا يَنْكِحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ " فَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الْآيَةِ. فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ادعوا إلي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا فَقَالَ لِلْعَمِّ: " أعْطِهِمَا الثُّلْثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقِيَ فَلَكَ ". وَرَوَى ابْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعُودُنِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ مَاشِيَيْنِ وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَلَمْ أُكَلِّمْهُ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي وَلِي أَخَوَاتٌ قَالَ فَنَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] إِلَى آخر السورة وقال ابْنُ سِيرِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَسِيرُ وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَبَلَغَهَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُذَيْفَة، وَبَلَغَهَا حُذَيْفَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيِ الثَّلَاثِ مَا كَانَ مرسلا، وفسر فبين مَا كَانَ مُجْمَلًا، وَقَدَّرَتِ الْفُرُوضُ مَا كَانَ مُبْهَمًا، ثُمَّ بَيَّنَ بِسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا احْتِيجَ إِلَى بَيَانِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذلك " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهِ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "، رَوَاهُ شُرَحْبِيل بن مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ دَعَا إِلَى عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَحَثَّ عَلَيْهِ؛ لأنهم كانوا على قرب عهد بغيره، ولأن لا يقطعهم عنه التَّشَاغُلُ بِعِلْمِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ عِبَادَاتِهِمُ الْمُتَرَادِفَةِ أَوْ مُعَامَلَاتِهِمُ الْمُتَّصِلَةِ فَيَؤولُ ذَلِكَ إِلَى انْقِرَاضِ الْفَرَائِضِ، فَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ فَإِنَّهَا مِنْ دِينِكُمْ وَإِنَهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا يُنْتَزَعُ مِنْ أُمَّتِي، وَإِنَّهُ يُنْسَى ". وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الرَّجُلَانِ فِي الْفَرِيضَةِ لَا يَجِدَانِ مَنْ يُخْبِرُهُمَا بِهِ " وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَافِعٍ التَّنُوخِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ فضل آية محكمة أو سنة ماضية وفريضة عادلة ".(8/70)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفْرَضُكُمْ زَيْدٌ " فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حَثًّا لِجَمَاعَتِهِمْ عَلَى مُنَاقَشَتِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ كَرَغْبَتِهِ؛ لِأَنَّ زَيْدًا كان منقطعا إلى الْفَرَائِضِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ تَشْرِيفًا وَإِنْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ أَقْرَؤُكُمْ أُبَيٌّ، وَأَعْرَفُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذٌ، وَأَصْدَقُكُمْ لَهْجَةً أَبُو ذَرٍّ، وَأَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَعْرَفَ النَّاسِ هُوَ أَعْرَفُهُمْ بِالْفَرَائِضِ وَبِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَضَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كان أفرضهم زيد، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِ جَمَاعَتِهِمْ لَمَا اسْتَجَازَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُخَالَفَتَهُ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ أَرَادَ بذلك أنه أشد منهم عِنَايَةً بِهِ، وَحِرْصًا عَلَيْهِ، وَسُؤَالًا عَنْهُ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَصَحَّهُمْ حِسَابًا، وَأَسْرَعَهُمْ جَوَابًا، وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ المعاني أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي الْفَرَائِضِ بِقَوْلِ زَيْدٍ.
فَصْلٌ: إذا وضح مَا ذَكَرْنَا فَالْمِيرَاثُ مُسْتَحَقٌّ بِنَسَبٍ وَسَبَبٍ، فَالنَّسَبُ الأبوة والبنوة وما تفرع عليهما، ولسبب نِكَاح وَوَلَاء.
وَالْوَارِثُونَ مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةٌ: الِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، وَالْأَبُ وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا، وَالْأَخُ وَابْنُ الْأَخِ، وَالْعَمُّ وَابْنُ الْعَمِّ، وَالزَّوْجُ وَمَوْلَى النِّعْمَةِ، وَمَنْ لَا يَسْقُطُ مِنْهُمْ بحال ثلاثة: الابن والأب والزوج.
والوارثات مِنَ النِّسَاءِ سَبْعٌ: الْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَتْ، وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَتْ، وَالْأُخْتُ وَالزَّوْجَةُ وَمَوْلَاةُ النِّعْمَةِ، وَمَنْ لَا يَسْقُطُ مِنْهُنَّ بِحَالٍ ثلاث: الْأُمُّ وَالْبِنْتُ وَالزَّوْجَةُ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَرِثُ بِحَالٍ فَسَبْعَةٌ: الْعَبْدُ، وَالْمُدَبَّرُ، وَالْمُكَاتَبُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَقَاتِلُ الْعَمْدِ، وَالْمُرْتَدُّ، وَأَهْلُ مِلَّتَيْنِ وَسَنَذْكُرُ فِي نظم الكتاب ما يتعلق من خلاف وحكم.
فَصْلٌ:
وَالْوَرَثَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَنْ يَأْخُذُ بِالتَّعْصِيبِ وَحْدَهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ فَرْضٌ وَلَا يَتَقَدَّرُ لَهُمْ سَهْمٌ، وَهُمُ الْبَنُونَ وَبَنُوهُمْ، وَالْإِخْوَةُ وَبَنُوهُمْ، وَالْأَعْمَامُ وَبَنُوهُمْ، فَإِنِ انْفَرَدُوا بِالتَّرِكَةِ أخذوا جميعا، وَإِنْ شَارَكَهُمْ ذُو فَرْضٍ أَخَذُوا مَا بَقِيَ بَعْدَهُ، وَلَا تُعَوَّلُ فَرِيضَةٌ يَرِثُونَ فِيهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ وَحْدَهُ وَهُمْ خَمْسَةٌ: الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَالْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ تَارَةً وَبِالتَّعْصِيبِ أُخْرَى وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: بَنَاتُ(8/71)
الصُّلْبِ، وَبَنَاتُ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتُ، يَأْخُذْنَ بِالْفَرْضِ إِذَا انْفَرَدْنَ وَبِالتَّعْصِيبِ إِذَا شَارَكَهُمُ الْإِخْوَةُ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَنْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ تَارَةً، وَبِالتَّعْصِيبِ تَارَةً أُخْرَى، وَبِهِمَا فِي الثَّالِثَةِ وَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ يَأْخُذُونَ مَعَ ذُكُورِ الْأَوْلَادِ بِالْفَرْضِ، وَبِالتَّعْصِيبِ مَعَ عَدَمِهِمْ وَبِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ مَعَ إِنَاثِهِمْ.
فَصْلٌ:
أَرْبَعَةٌ مِنَ الذُّكُورِ يَعْصِبُونَ أَخَوَاتِهِمْ وَهُمُ الِابْنُ، وَابْنُ الِابْنِ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ، وَأَرْبَعَةٌ يُسْقِطُونَ أخواتهم: ابْنُ الْأَخِ، وَالْعَمُّ، وَابْنُ الْعَمِّ، وَابْنُ الْمَوْلَى، وأربعة ذكور يرثون نساء لا يرثنهم بفرض ولا تعصيب: ابْنُ الْأَخِ يَرِثُ عَمَّتَهُ وَلَا تَرِثُهُ، وَالْعَمُّ يَرِثُ ابْنَةَ أَخِيهِ وَلَا تَرِثُهُ، وَابْنُ الْعَمِّ يَرِثُ بِنْتَ عَمِّهِ وَلَا تَرِثُهُ، وَالْمَوْلَى يَرِثُ عتيقه ولا يرثه، وامرأتان ترثان ذكران ولا يرثانهما بفرض ولا تعصيب: أم الابن تَرِثُ ابْنَ ابْنَتِهَا وَلَا يَرِثُهَا، وَالْمَوْلَاةُ تَرِثُ عَتِيقَهَا وَلَا يَرِثُهَا، وَالرَّجُلُ يَرِثُ مِنَ النِّسَاءِ وَمِنَ الرِّجَالِ تِسْعَةً؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَرِثُهُ رَجُلٌ وَالْمَرْأَةُ تَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ عَشَرَةٌ وَمِنَ النساء ست؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَرِثُهَا امْرَأَةٌ.(8/72)
بَابُ مَنْ لَا يَرِثُ
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الْمُزَنِيُّ رحمه الله تعالى وهو من قول الشافعي: " لَا تَرِثُ الْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ وَبِنْتُ الْأَخِ وَبِنْتُ العم والجدة أم الأب الأم والخال وَابْنُ الْأَخِ لِلأُمّ وَالْعَمُّ أَخُو الْأَبِ لِلْأُمِّ وَالْجَدُّ أَبُو الْأُمَّ وَوَلَدُ الْبِنْتِ وَوَلَدُ الْأُخْتِ وَمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِذَوِي الْأَرْحَامِ، لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُ لَا يَرِثُونَ مَعَ وُجُودِ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَدَأَ بِهِمْ لِتَقْدِيمِهِ ذِكْرَ مَنْ لَا يَرِثُ مِنَ الْكَافِرِينَ والمملوكين وذوو الأرحام هم: من ليس بعصبة ولا ذي فَرْضٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ عَدَدِهِمْ وَتَفْصِيلِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالْفُقَهَاءُ فِي توزيعهم إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَوْجُودًا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلى أنه لَا مِيرَاثَ لَهُمْ وَأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أَوْلَى مِنْهُمْ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الشَّامِ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَقَالَ أبو حنيفة: ذَوُو الْأَرْحَامِ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَطَاوُسٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ غَيْرَ أَنَّ أبا حنيفة قَدَّمَ الْمَوْلَى عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وخالفه تَقَدّمهُ فَقَدَّمُوا ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى الْمَوْلَى، وَاسْتَدَلُّوا على توريث ذوي الأرحام بقوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُدْفَعُوا عَنِ الْمِيرَاثِ وقد جعلهم الله تعالى أولى به، ولرواية طاوس عن عائشة رضي الله عنهما وَأَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُمَرَ جَمِيعًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ له ". وبرواية المقداد بن(8/73)
معد يكرب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " الخال وارث من ولا وارث له ".
وَبِرِوَايَةِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ قَالَ: تُوُفِّيَ ثَابِتُ بن الدحداح وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا وَلَا عَصَبَةً فَرُفِعَ إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَ عَنْهُ عَاصِمَ بْنَ عَدِيٍّ هَلْ تَرَكَ مِنْ أَحَدٍ؟ فَقَالَ مَا نَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَرَكَ أَحَدًا فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَالَهُ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عبد المنذر، ورواية الزُّهْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعَمُّ وَالِدٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُ أَبٌ وَالْخَالَةُ وَالِدَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ " قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْلَى بِوَارِثٍ كَانَ وَارِثًا كَالْعَصَبَاتِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ اخْتِصَاصَ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِالرَّحِمِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ إِرْثِهِمْ كَالْجَدَّةِ، قالوا: ولأن ذوي الأرحام قد شَارَكُوا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَفَضَّلُوهُمْ بِالرَّحِمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَوْلَى مِنْهُمْ بِالْمِيرَاثِ كَالْمُعْتِقِ لَمَّا سَاوَى كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِالْعِتْقِ وَصَارَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِالْمِيرَاثِ وَكَالْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَمَّا سَاوَى الْأَخَ لِلْأَبِ وَفَضَّلَهُ بِالْأُمِّ كَانَ أَوْلَى بِالْإِرْثِ.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ شُرَحْبِيلَ بْنِ سلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهَ فَلَا وصية لوارث " فأشار إلى ما في القرآن من الْمَوَارِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ لِذَوِي الْأَرْحَامِ شَيْءٌ. وَرَوَى عطاء بن يسار أَتَى رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رَجُلًا هَلَكَ وَتَرَكَ عَمَّة وَخَالَة فَقَالَ اللَّهُمَّ رَجُلٌ تَرَكَ عَمَّة وَخَالَة ثُمَّ سَكَتَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ لَا أَرَى نزل علي شيء لا شَيْء لهما ".
وَرَوَى زِيدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ركب إلى قباء يستخير الله تعالى فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَنَزَلَ عَلَيْهِ أَنْ لَا ميراث لهما.
وروى عمران بن سليمان أَنَّ رَجُلًا مَاتَ فَأَتَتْ بِنْتُ أُخْتِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمِيرَاثِ فَقَالَ لَا شَيْءَ لَكِ اللَّهُمَّ مَنْ مَنَعْتَ مَمْنُوعٌ اللَّهُمَّ مَنْ مَنَعْتَ مَمْنُوعٌ.
ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ مشاركة الأنثى لأخيها أثبتت في الميراث في انْفِرَادِهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ بَنَاتَ الِابْنِ يَسْقُطْنَ مع البنين وإن شاركهن ذكورهن وصرن به عصبة فلما كان بنات الإخوة والأعمام يسقطون مَعَ إِخْوَتِهِنَّ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْقُطْنَ بِانْفِرَادِهِنَّ وتحريره(8/74)
قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ أُنْثَى أَسْقَطَهَا مَنْ فِي درجتها بالإدلاء سَقَطَتْ بِانْفِرَادِهَا كَابْنَةِ الْمَوْلَى؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَسْقَطَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَرِثْ بِانْفِرَادِهِ كَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ؛ ولأن كل ولادة لم يحجب بِهَا الزَّوْجَيْنِ إِلَى أَقَلِّ الْفَرْضَيْنِ لَمْ يُوَرثْ بِهَا كَالْوِلَادَةِ مِنْ زِنَا؛ وَلِأَنَّهُ وَارِثٌ فَوَجَبَ أن يكون من مناسبه مَنْ لَا يَرِثُ كَالْمَوْلَى يَرِثُ ابْنَهُ وَلَا يرث بِنْتَهُ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِمْ ذَوُو الْأَرْحَامِ كَالْمَوْلَى.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عن قوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ نَسْخُ التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ وَالْهِجْرَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِمَا أَعْيَانَ مَنْ يستحق الميراث من المناسبين لنزولهما قبل أي المواريث.
والثاني: أن قولهم: {بعضهم أولى ببعض} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ الْبَعْضِ لَيْسَ بِأَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِيعَابِ.
والثالث: أنه قال: {في كتاب الله} وكان ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَى مَا فِيهِ وَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ ذِكْرٌ فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ حَقٌّ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {أَوْلَى} محمول على ما سوى الميراث من الحصانة وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا دُونَ الْمِيرَاثِ إِذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ مَا هُمْ بِهِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ " فَمِنْ وجهين:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلسَّلْبِ وَالنَّفْيِ لَا لِلْإِثْبَاتِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الْخَالَ لَيْسَ بِوَارِثٍ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ الْجُوعُ طَعَامُ مَنْ لَا طَعَامَ لَهُ وَالدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لا حيلة له يعني أن ليس طعام وَلَا دَار وَلَا حِيلَة.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ جعل الميراث للحال الذي يعقل وإنما يَعْقِلُ إِذَا كَانَ عَصَبَةً وَنَحْنُ نُوَرِّثُ الْخَالَ إِذَا كَانَ عَصَبَةً وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي خَالٍ لَيْسَ بِعَصَبَةٍ فَكَانَ دَلِيلُ اللَّفْظِ يُوجِبُ سُقُوطَ ميراثه.
فأما الجواب عن دفعه ميراث أبي الدَّحْدَاحِ إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ فَهُوَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا لَا مِيرَاثًا، لِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَا وَارِثَ لَهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ عَلَى أنها قضية عين قد يجوز أَنْ يُخْفَى سَبَبُهَا فَلَا يَجُوزُ ادِّعَاءُ الْعُمُومِ فِيهَا وَكَانَ ذَلِكَ كَالَّذِي رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ عَوْسَجَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا غُلَامًا له كان أعتق فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَلْ لَهُ أَحَدٌ " قَالُوا: لَا إِلَّا غُلَامًا له كَانَ أَعْتَقَهُ فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ميراثه له ومعلوم أنه لا يستحق مِيرَاثًا لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ(8/75)
فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمِيرَاثِهِ فَقَالَ: " الْتَمِسُوا لَهُ وَارِثًا أَوْ ذَاتَ رَحِمٍ " فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ وَارِثًا وَلَا ذَاتَ رَحِمٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أعطوه الكبر من خزاعة " فميز - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْوَارِثِ وَذِي الرَّحِمِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غير وارث ثم دفع ميراثه إلى الكبر مِنْ قَوْمِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمِيرَاثٍ مُسْتَحِقٍّ وَهَكَذَا مَا دَفَعَهُ إِلَى ابْنِ الْأُخْتِ وَالْخَالِ لِأَنَّهُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي إِعْطَائِهِمْ أَظْهَرَ مِنْهَا فِي إِعْطَاءِ غَيْرِهِمْ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الخالة وَالِدَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا سِوَى الْمِيرَاثِ مِنَ الْحَضَانَةِ وَإِلَّا فَلَيْسَتِ الْخَالَةُ كَالْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهَا فِي الْمِيرَاثِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ وَارِثٌ فَعُلِمَ أن مراده به غير الميراث فأما قياسهم بِعِلَّةِ أَنَّهُ يُدْلِي بِوَارِثٍ فَمُنْتَقِضٌ بِبِنْتِ الْمَوْلَى ثم المعنى في العصبة تقديم عَلَى الْمَوْلَى.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجَدَّةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا لَمَّا شَارَكَتِ الْعَصَبَةَ كَانَتْ وَارِثَةً وليس ذووا الأرحام مثلها.
وأما الجواب عن قولهم إنهم سَاوَوْا جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَفَضَّلُوهُمْ بِالرَّحِمِ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَفْسُدُ بِبِنْتِ الْمَوْلَى، لِأَنَّهَا قَدْ فَضلتهُمْ مَعَ الْمُسَاوَاةِ ثُمَّ لَا تُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ عَلَى أن المسلمين فضلوهم بالتعصب لأنهم يعقلون وكانوا أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ وَرَثَتَهُ لِجَوَازِ وَصِيَّتِهِ لَهُمْ وَالْوَصِيَّةُ لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ بِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَرَثَتُهُ بِإِجْمَاعٍ وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ مُعَيَّنٍ وَلَيْسَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَتَعَيَّنُ فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهِ، لأنه معروف في مصالح جميعهم والله أعلم.
فصل:
القول في الرد
وَإِذْ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ فَالرَّدُّ مُلْحَقٌ بِهِ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ وكل مَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ بِالرَّدِّ وَكُلُّ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ مَنَعَ مِنَ الرَّدِّ.
وَالرَّدُّ: هُوَ أَنْ تَعْجِزَ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ عَنِ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ التَّرِكَةِ فَلَا يَكُونُ مَعَهُمْ عَصَبَةٌ كَالْبِنْتِ الَّتِي فَرْضُهَا النِّصْفُ إِذَا لَمْ يُشَارِكْهَا غَيْرُهَا وَقَدْ بَقِيَ النِّصْفُ بَعْدَ فَرْضِهَا فَهَلْ يُرَدُّ عَلَيْهَا أَمْ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُ فَرْضِهَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْبَاقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سِهَامِ ذَوِي الْفُرُوضِ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَوْجُودًا وَبِهِ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَدَاوُدَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُرَدُّ مَا فَضَلَ مِنْ سِهَامِ ذَوِي الْفُرُوضِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ بِهِ أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاء على خلاف بينهم في مستحقي الرد منهم، واستدلوا جميعا بوجوب الرَّدِّ وَتَقْدِيمِهِمْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِمَا تَقَدَّمَ من عموم قوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وَبِمَا رُوِيَ أن(8/76)
سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فترك أُمَّهُ فَوَرَّثَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالَهُ كُلَّهُ قَالُوا وَلِأَنَّ كُلَّ مُنَاسِبٍ وَرِثَ بَعْضَ الْمَالِ مَعَ غَيْرِهِ جَازَ أَنْ يَرِثَ جَمِيعَهُ إِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ كَالْعَصَبَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جاز أن ينفقوا من فروضهم بالعدل عِنْدَ زِيَادَةِ الْفُرُوضِ عَلَى التَّرِكَةِ جَازَ أَنْ يُزَادُوا بِالرَّدِّ عِنْدَ عَجْزِ الْفُرُوضِ عَنِ التَّرِكَةِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَسمَ فُرُوضَ ذَوِي الْفُرُوضِ سَمَّاهُ فِي ثَلَاثِ آيٍ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدْ أَعْطَى اللَّهُ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمَّى لَهُ فَرْضًا فَهُوَ قَدْرُ حَقِّهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُوَرَّثْ مَعَ غَيْرِهِ إِلَّا بِالْفَرْضِ لَمْ يُوَرَّثْ مَعَ عَدَمِ غَيْرِهِ إِلَّا ذَلِكَ الْفَرْضَ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمَا بِوفاقٍ وَلِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ حُجِبَ عَنْهُ الشَّخْصُ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ حُجِبَ عَنْهُ وَإِنِ انْفَرَدَ بِهِ كَالْمَالِ الْمُسْتَحَقِّ بِالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ ولأن كل من تجردت رحمه عن تعصيب لما يَأْخُذْ بِهَا مِنْ تَرِكَةٍ حَقَّيْنِ كَالْأُخْتِ لِلْأَبِ والأم لا تأخذ النصف لأنها أخت الأب والسدس لأنها أخت الأم فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ مَضَى.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى ميراث سالم إلى أمه فلمصلحة يراها مَنْ يَتَوَلَّى مَصَالِحَ بَيْتِ الْمَالِ كَمَا دَفَعَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ميراث الخزاعي إلى الكبر مِنْ خُزَاعَةَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَصَبَةِ فَالْمَعْنَى فيهم إنما يستحقونه غير مقدر وليس كذلك ذووا الْفُرُوضِ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا جاز أن ينفقوا بالعدل جاز أن يزادوا بالرد، فالجواب عنه للزيادة جهة يستحقها وَهِيَ بَيْتُ الْمَالِ فَلَمْ يَجُزْ رَدُّهَا وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلنَّقْصِ جِهَةَ تَمَامٍ جَازَ عَوْلُهَا أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الدَّيْنِ وَالْوَصَايَا إِذَا ضاق بِهِمْ دَخَلَ الْعَوْلُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ زَادَ عَنْهُمْ لَمْ يَجُزِ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أَحَقُّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وبالفاضل عن ذوي السهام وأنه يَصِيرُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِرْثًا لَا فَيْئًا وَهَكَذَا مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ صَارَ مَالُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا وَقَالَ بَعْضُ الناس يكون فيئا لا ميراثا لأمور.
منهما: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِيرَاثًا لَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ بَعْضِهِمْ وَلَوَجَبَ أَنْ يُفَضَّلَ فيه الذكر على الأنثى ولا يفرد بِهِ أَهْلُ عَصْرِ الْمَيِّتِ دُونَ مَنْ تَأَخَّرَ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فَيْءٌ لَا مِيرَاثٌ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] فَكَانَتِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمْ تَمْنَعُ مِنْ أَحْكَامِ مَنْ خَالَفَهُمْ، وَلِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَعْقِلُ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُ مَالِهِ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ مِيرَاثًا كَالْعَصَبَةِ، وَلِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُهُ إلى بيت المال فيئا كالزكاوات.
وأما الجواب عن استدلالهم فهو أن تعيين الْوَارِث يَقْتَضِي مَا ذَكَرُوهُ وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لم يقتضيه.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أَحَقُّ إذا كان موجودا يصرف الْإِمَامُ الْعَدْلُ أَمْوَالَهُ فِي(8/77)
حُقُوقِهَا فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مَعْدُومًا بِالْجَوْرِ مِنَ الْوُلَاةِ وَفَسَادِ الْوَقْتِ وَصَرْفِ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ حُقُوقِهَا وَالْعُدُولِ بِهَا عَنْ مُسْتَحِقِّيهَا يوجب توارث ذَوِي الْأَرْحَامِ وَرَدّ الْفَاضِل عَلَى ذَوِي السِّهَامِ وَهَذَا قَوْلٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُحَصِّلُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَتَفَرَّدَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَمَنْ جَذَبَهُ الْمَيْلُ إِلَى رَأْيِهِ فَأَقَامَ عَلَى مَنْعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَالْمَنْعُ مِنْ رَدِّ الْفَاضِلِ عَلَى ذَوِي السِّهَامِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا يَنْصَرِفُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَحِقٌّ فِي جِهَاتٍ بَاقِيَةٍ إِذَا عُدِمَ بَيْتُ المال لم يبطل استحقاق تلك الجهات ووجب صرف ذلك المال فيها كالزكوات الَّتِي لَمْ تَسْقُطْ بِعَدَمِ بَيْتِ الْمَالِ وَوَجَبَ صَرْفُهَا فِي جِهَاتِهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فَاسِدٌ من ثلاثة أوجه.
أحدها: مَا يَسْتَحِقُّ صَرْفُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فِي جِهَاتٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَإِذَا بَطَلَ التَّعْيِينُ سَقَطَ الِاسْتِحْقَاقُ وَإِنْ علمَ أَنَّ الْجِهَةَ لَا تُعْدَمُ كَالْعَرَبِيِّ إِذَا مَاتَ علمنا أن له عصبة ذكورا غَيْرَ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنُوا سَقَطَ حَقهم وَانْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ جهتهم وَكَذَلِكَ جِهَاتُ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ سَقَطَ حَقُّهَا وانصرف ذلك إلى غيرها وليس كذلك الزكوات لتعيين جِهَاتِهَا وَقَطْعِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا مَعَ التَّعْيِينِ وَإِنْ عُدِمَ مَنْ كَانَ يَقُومُ بِمَصْرِفِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِصَرْفِهِ مِنْ جِهَاتِهِ إِذَا عُدِمَ الْقَيِّمُ مِنَ الْوُلَاةِ وَهُمْ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فَلَزِمَهُمُ الْقِيَامُ بِذَلِكَ مَا كَانَ لَازِمًا لِلْوُلَاةِ وَلَيْسَ لِمَالِ الْمَيِّتِ مَنْ يَقُومُ بِصَرْفِهِ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ مَالٌ بِجِهَةٍ لَا تتعين بوصف ولا باجتهاد باطن لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ عَنْ جِهَتِهِ فَاعْلَمْهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إِنَّمَا كَانَ أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَعْقِلُ عَنْهُ فَصَارَ مِيرَاثُهُ لَهُ فَلَمَّا كان عدم بيت المال يسقط الْعَقْلَ عَنْهُ وَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ الْمِيرَاثَ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ ثَابِتًا وَكَانَ تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ عَدَمِ بَيْتِ الْمَالِ وَاجِبًا فَهَكَذَا رَدُّ الْفَاضِلِ عَنْ ذَوِي السِّهَامِ، وَسَنَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ تَوْرِيثِهِمْ وَالرَّدِّ عَلَى ذَوِي الْفُرُوضِ فِي بَابِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِي هَذَا الْكِتَابِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ دِقَّةً وَاسْتِصْعَابًا وَلَعَلَّهَا هِيَ الصَّارِفَةُ لِمَنْ مَنَعَهُمُ الْمِيرَاثُ عِنْدَ عُدْمِ بَيْتِ الْمَالِ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْكَافِرُونَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْكَافِرُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَحُكِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ وَلَا يرث الكافر المسلم وبه قال محمد ابن الْحَنَفِيَّةِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ وَمَسْرُوقٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: " الإسلام يزيد ولا ينقص " قال وكما يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَنْكِحَ الذِّمِّيَّةَ وَلَا يَجُوزَ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يَنْكِحَ الْمُسْلِمَةَ،(8/78)
وَلِأَنَّ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ إِلَى المسلمين فَهَذَا أَوْلَى أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِمْ إِرْثًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَصِيرَ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ قَهْرًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِمْ إِرْثًا.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ ".
وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ لَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا المسلم الكافر فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ رحمه الله تعالى وَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ حَتَّى قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَاجَعَ السُّنَّةَ الْأُولَى ثُمَّ أَخَذَ بِذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا قَامَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذَ بِسُّنَّةِ الْخُلَفَاءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مِلَّتَيْنِ امْتَنَعَ الْعَقْلُ بَيْنَهُمَا امْتَنَعَ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمَا كَالْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ التَّوَارُثَ مُسْتَحَقٌّ بِالْوِلَايَةِ وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِ التَّوَارُثَ وَلِأَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ فَلَمَّا لَمْ يَتَوَارَثِ الذِّمِّيُّ وَالْحَرْبِيُّ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَوَابٌ.
أَحَدُهُمَا: إنَّ الْإِسْلَامَ يَزِيدُ بِمَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَنْقُصُ بِالْمُرْتَدِّينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِسْلَامَ يَزِيدُ بِمَا يُفْتَحُ مِنَ الْبِلَادِ.
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْمِيرَاثِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْكِحُ الْحَرْبِيَّةَ وَلَا يَرِثُهَا، وَقَدْ يَنْكِحُ الْعَبْدُ الْحُرَّةَ وَلَا يَرِثُهَا، وَأَمَّا أَخْذُ أَمْوَالِهِمْ قَهْرًا فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ أَنْ تصير إِلَيْنَا إِرْثًا، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْحَرْبِيَّ وَإِنْ غَنِمَ مَالَهُ وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ يَرِثُ الذِّمِّيَّ وَلَا يَغْنَمُ مَالَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَبِرَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْكُفْرِ هَلْ يَكُونُ كُلُّهُ مِلَّةً وَاحِدَةً أَوْ يَكُونُ مِلَلًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَنَوَّعَ أَهْلُهُ وَبِهِ قَالَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مذهب أبي حنيفة وصاحبه.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْكُفْرُ مِلَلٌ فَالْيَهُودِيَّةُ مِلَّةٌ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مِلَّةٌ وَالْمَجُوسِيَّةُ مِلَّةٌ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَشُرَيْحٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ التَّقَاطُعِ(8/79)
بَيْنَهُمْ حَيْثُ يَقُولُ فِي حِكَايَتِهِ عَنْهُمْ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] وَتَقَاطُعُهُمْ يَمْنَعُ مِنْ تَوَارُثِهِمْ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ شَرَائِعِهِمْ يُوجِبُ اخْتِلَافَ مِلَلِهِمْ، وَلِأَنَّ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّبَايُنِ كَالَّذِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ مِنَ التَّبَايُنِ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مِلَلُهُمْ مُخْتَلِفَةً.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وقال الله تَعَالَى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] فَجَمَعَهُمَا وَرَوَى عَمْرُو بن مرة عن أبي البختري الطائي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " الناس خير وأنا وأصحابي خير " وَلِأَنَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الْكُفْرِ وَإِنْ تَنَوَّعُوا كَمَا أن المسلمون مُشْتَرِكُونَ فِي الْحَقِّ وَإِنْ تَنَوَّعُوا وَلَيْسَ التَّبَايُنُ بَيْنَهُمْ بِمَانِعٍ مِنْ تَوَارُثِهِمْ كَمَا يَتَبَايَن أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي مَذَاهِبِهِمْ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ اخْتِلَافَ تَوَارُثِهِمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِسْلَامٌ أَوْ كُفْرٌ لَا ثَالِثَ لَهُمَا.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَارُثِهِمْ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يتوارثون منهم وَأَهْل الْعَهْدِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ عَلَى اخْتِلَافِ دِيَارِهِمْ وَأَهْلَ الْحَرْبِ يَتَوَارَثُونَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وإن اختلفت ديارهم وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَوَارُثَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعَهْدِ لَا تَوَارُثَ بَيْنِهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلُ الْحَرْبِ يَتَوَارَثُونَ ما لم يختلف بِهِمُ الدَّارُ، وَاخْتِلَافُ دَارِهِمْ يَكُونُ بِاخْتِلَافِ مُلُوكِهِمْ وَمُعَادَاةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الدِّينِ كَالتُّرْكِ وَالرُّومِ فَلَا يُوَرَّثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
فَصْلٌ:
فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَذَاهِبِ إِذَا مَاتَ يَهُودِيٌّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَتَرَكَ أُمًّا مِثْلَهُ يَهُودِيَّةً وَابْنًا مُسْلِمًا وَأَرْبَعَةَ إِخْوَةٍ أَحَدُهُمْ يَهُودِيٌّ ذِمِّيٌّ وَالْآخَرُ نَصْرَانِيٌّ ذِمِّيٌّ وَالْآخَرُ مَجُوسِيٌّ مُعَاهَدٌ وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ حَرْبِيٌّ فَعَلَى قَوْلِ مُعَاذٍ لِأُمِّهِ الْيَهُودِيَّةِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِابْنِهِ الْمُسْلِمِ وَلَا شَيْءَ لِإِخْوَتِهِ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ لِأُمِّهِ الْيَهُودِيَّةِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ الْيَهُودِيِّ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي مِلَّتِهِ وَلَا يَحْجُبُ الْأُمَّ، لِأَنَّهُ وَاحِدٌ وَلَا شَيْءَ لِمَنْ سِوَاهُ، وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ أَخِيهِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ الْمَجُوسِيِّ، لِأَنَّهُ مُعَاهَدٌ وَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ الْوَثَنِيِّ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ إخوته الثلاثة اليهودي، والنصراني، والمجوسي المعاهد، لأنه أَهْلَ الْعَهْدِ يَرِثُونَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عِنْدَهُ وَلَا شَيْءَ لِأَخِيهِ الْوَثَنِيِّ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ مَاتَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَرَكَ زَوْجَةً وَثَنِيَّةً مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَأُمًّا يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَابْنًا مُسْلِمًا وَبِنْتَ ابْنِ وَثَنِيَّةٍ تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ وَأَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا مَجُوسِيٌّ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ(8/80)
وَالْآخَرُ وَثَنِيٌّ مَنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَعَمًّا نَصْرَانِيًّا منْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ فَعَلَى قَوْلِ مُعَاذٍ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ الْمُسْلِمِ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْعَمِّ النَّصْرَانِيِّ، وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَلِبِنْتِ ابْنِهِ النِّصْفُ، لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْجِزْيَةَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ الْمَجُوسِيِّ ولا شيء لزوجته ولا أخيه الوثني، لنه لَا يُوَرّثُ أَهْل الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِزَوْجَتِهِ الرُّبُعُ، لِأَنَّهَا مُعَاهَدَةٌ وَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِأَخِيهِ الْمَجُوسِيِّ وَأَخِيهِ الْوَثَنِيِّ الْمُعَاهَدِ، وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ ابْنِهِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ عنده من عبدة الأوثان.
فَصْلٌ:
فَلَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ وَتَرَكَ ابْنًا مُسْلِمًا وَابْنًا نَصْرَانِيًّا أَسْلَمَ فَإِنْ كَانَ إِسْلَامُ النَّصْرَانِيِّ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا وَهَذَا إِجْمَاعٌ وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ لَمْ يَرِثْهُ وَهَكَذَا لَوْ تَرَكَ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَالْآخَرُ عَبْدٌ أُعْتِقَ فَإِنْ كَانَ عِتْقُهُ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ وَرثَهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَمْ يَرِثْهُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُمْ وَرثوا مَنْ أَسْلَمَ أَوْ أُعْتِقَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَحُكِيَ عَنْ إِيَاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُمْ وَرَّثُوا مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَمْ يُوَرِّثُوا مَنْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ " وَرَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ قَسْمٍ قُسِمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى ما قسم له وَكُلُّ قَسْمٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَإِنَهُ عَلَى قَسْمِ الْإِسْلَامِ " وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ " وَلِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَنْتَقِلُ بالمورث إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ لَا بِالْقِسْمَةِ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الْقِسْمَةِ لَا يُوجِبُ تَوْرِيثَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَنْ هُوَ وَارِثٌ، وَلِأَنَّهُ إِنْ وُلِدَ لِلْمَيِّتِ إِخْوَةٌ قبل قسمة تركته لا يرثوه فهذا كما لَوْ أَسْلَمُوا لَمْ يَرِثُوهُ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ أَسْلَمَ وَلَهُ مَالٌ فَهُوَ لَهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ.
وَالثَّانِي: مَنْ أسلم قبل موت مورثه رَغْبَةً فِي الْمِيرَاثِ فَهُوَ لَهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِذَا وَرِثُوا مَيِّتَهُمْ ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ كَانَ عَلَى جاهليتهم، وَلَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ قِسْمَتِهِ اقْتَسَمُوهُ عَلَى قِسْمَةِ الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا مَاتَ ذِمِّيٌّ وَلَا وَارِثَ لَهُ كَانَ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا لَا مِيرَاثًا وَيُصْرَفُ مَصْرَفَ(8/81)
الْفَيْءِ فَلَوْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ مُسْلِمُونَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيمَا صَارَ مِنْهُ إِلَى بَيْتِ المال حق وهكذا إذا كَانَ عَصَبَةُ الذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ لَهُمْ عَهْدٌ فَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ مِنْهُ، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا وَلَوْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ اسْتَحَقُّوا مِيرَاثَهُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا تَحَاكَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَيْنَا فِي مِيرَاثِ مَيِّتٍ مِنْهُمْ وَلَهُ وَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَوَرَثَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يُوَرَّثْ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْهُمْ كَمَا لَا نُوَرِّثُهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَقَسَّمْنَا مِيرَاثَهُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الْعَهْدِ مع اتفاق دارهم واختلافا وتباين أناسهم واتفاقها كالروم والترك والهند وَالزِّنْجِ. وَقَطَعَ أبو حنيفة التَّوَارُثَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ أَجْنَاسِهِمْ وَالْمُتَبَايِنِينَ فِي دِيَارِهِمْ فَلَمْ يُوَرِّثِ التركي من الرومي ولا الزوجي مِنَ الْهِنْدِيِّ، وَهَذَا قَوْلٌ يَؤُولُ إِلَى أَنْ يُجْعَلَ الْكُفْر مِلَلًا وَهُوَ لَا يَقُولُهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْمَمْلُوكُونَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ الْعَبْدُ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ فَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ كَانَ مَالُهُ لِسَيِّدِهِ مِلْكًا وَلَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ وَهَذَا إِجْمَاعٌ فَأَمَّا إِذَا مَاتَ لِلْعَبْدِ أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ لَمْ يَرِثْهُ الْعَبْدُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَبُو الْعَبْدِ وأخوه اشْتَرَى الْعَبْدَ مِنْ تَرِكَتِهِ وَأَعْتَقَ وَجَعَلَ لَهُ ميراثه فاختلف أصحابنا هل قال ذلك استحبابا أو واجبا فقال بعضهم ذهبنا إلى استحبابه رأيا وقال آخرون: بل ذهبنا إِلَيْهِ وَاجِبًا وَقَالَاهُ مَذْهَبًا حَتْمًا، وَبِوُجُوبِ ذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَفِي هَذَا الْقَوْلِ إِجْمَاعٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُورثُ [فِي حَالِ رِقِّهِ وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ] لَا يَمْلِكُ إِذَا مَلَكَ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْمِيرَاثِ أَقْوَى مِنْهُ بِالتَّمْلِيكِ وَإِنَّمَا أَوْجَبُوا ابتياعه وعتقه، وهذا غير لازم مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ عَبْدِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ بِيعَ مِنْ سَيِّدِهِ لَكَانَ يَرِثُ مُعْتَقًا بَعْدَ الْمَوْتِ وهذا دليل عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَرِثُ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَكَالْعَبْدِ لَا يَرِثُ وَلَا يُورثُ وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ لَا تَرِثُ وَلَا تُورثُ فَأَمَّا الْمُكَاتِبُ فَهُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ لَا يَرْثِ وَلَا يُورثُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِذَا كُتِبَتْ صَحِيفَةُ الْمُكَاتِبِ عَتقَ وَصَارَ حُرًّا يرث ويورث(8/82)
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُعْتَقُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا أدى وَيَرِثُ بِهِ ويرق منه بقدر ما بقي ولا يرث به.
وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ عَتَقَ وَوَرِثَ وَإِلَّا فَهُوَ عَبْدٌ لَا يَرِثُ وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَإِنْ مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ لَمْ يَرِثْهُ.
قَالَ: وَإِنْ مَاتَ أَدَّى مِنْ مَالِهِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَتِهِ وَجَعَلَ الْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ إِلَّا أَنَّ أبا حنيفة يَجْعَلُ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ وَمَنْ كَانَ حُرًّا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ دُونَ مَنْ كَانَ حُرًّا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ درهم؛ وَلِأَنَّ مَنْ مَنَعَهُ الرِّقُّ مِنْ أَنْ يَرِثَ منعه الرق أَنْ يُوَرَّثَ كَالْعَبْدِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَرِثُ أَمْ لَا؟ فَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَرِثُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ منه ويحجب به، قَالَ الْمُزَنِيُّ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَرِثُ كُلَّ الْمَالِ كَالْأَحْرَارِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رحمة الله عليهما أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِحَالٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تُكْمَلْ حُرِّيَّتُهُ فَأَحْكَامُ الرِّقِّ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ حُرٌّ وَتَرَكَ ابْنًا حُرًّا وَابْنًا نَصْفُهُ حُرٌّ فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا؛ لِأَنَّهُ مَقْسُومٌ عَلَى حُرِّيَّةٍ وَنِصْفٍ فَيَكُونُ لِلْحُرِّ ثُلُثَاهُ وَلِلَّذِي نِصْفُهُ حُرٌّ ثُلُثُهُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حُكْمِ الْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَالُ لِلْحُرِّ وَحْدَهُ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَوْ تَرَكَ الْحُرُّ ابْنًا نِصْفُهُ حُرٌّ وَعَمًّا حُرًّا، على قَوْلِ الْمُزَنِيِّ لِلِابْنِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ، وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ كُلُّهُ لِلِابْنِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْعَمِّ، وَلَوْ تَرَكَ الْحُرُّ ابْنَيْنِ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حرا وَعَمًّا حُرًّا فَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ لِلِابْنَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَالُ لِلْعَمِّ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ الْمُزَنِيِّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَهُمَا النِّصْفَ؛ لِأَنَّ لَهُمَا نِصْفَ الحرية والنصف الآخر للعم.
والوجه الثاني: أن يَجْمَعَ حُرِّيَّتَهُمَا فَيَكُونُ حُرِّيَّةُ ابْنٍ تَامٍّ فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا وَلَا شَيْءَ لِلْعَمِّ، فَلَوْ تَرَكَ الْحُرُّ ابْنًا وَبِنْتًا نَصِفُهَا حُرٌّ، فَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْحُرِّ من الابنين، وفيه على قَوْلِ الْمُزَنِيِّ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلِابْنِ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ الْمَالِ، وَلِلْبِنْتِ السُّدُسُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبِنْتَ لَوْ كَانَتْ حُرَّةً لَكَانَ لِلِابْنِ الثُّلُثَانِ، وَلَهَا الثلث، ولو كانت أمة لكان لِلِابْنِ جَمِيعُ الْمَالِ، وَلَا شَيْءَ لَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِنِصْفِ الْحُرِّيَّةِ النِّصْفُ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ بِجَمِيعِ الْحُرِّيَّةِ، وَذَلِكَ السُّدُسُ وَيَرْجِعُ السُّدُسُ الْآخَرُ عَلَى الِابْنِ.(8/83)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِلِابْنِ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْمَالِ وَلِلْبِنْتِ الْخُمُسُ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّ حُرِّيَّةَ الْبِنْتِ لَوْ كَمُلَتْ قَابَلَتْ نِصْفَ حُرِّيَّةِ الِابْنِ فَصَارَ نِصْفَ حُرِّيَّتِهَا يُقَابِلُ رُبُعَ حُرِّيَّةِ الِابْنِ، فَيُقَسِّمُ الْمَالَ عَلَى حُرِّيَّةٍ وَرُبُعٍ فَيَصِيرُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِلِابْنِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا إِذَا مَاتَ هَذَا الْمُعْتَقُ نِصْفُهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِنَّهُ لَا يُوَرَّثُ، وَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرِثْ بِحُرِّيَّتِهِ لَمْ يرث بهما.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ يكون مورثا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ دُونَ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَكُونُ مَا كَانَ لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ مُنْتَقِلًا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ لَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ وَلَا يُوَرَّثُ عَنْهُ لِبَقَاءِ أَحْكَامِ رِقِّهِ فَكَانَ أَوْلَى الْجِهَاتِ بِهِ بَيْتَ الْمَالِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي وَجْهٌ أراه والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والقاتلون عمدا أو خطأ ومن عمي موته كل هؤلاء ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الأمة أن قاتل العمد لا يرث عن مَقْتُولِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنَ الدِّيَةِ وإن ورث غيره الْخَوَارِجُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ توريث القاتل عمدا استصحابا لحاله قَبْلَ الْقَتْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ.
وَرَوَى عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ والده أو ولده فليس لقاتل ميراث " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْقَاتِلُ عَمْدًا لَا يَرِثُ مِنْ أَخِيهِ وَلَا مِنْ ذِي قَرَابَتِهِ وَيَرِثُهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ نسبا بعد القاتل "؛ لأن اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ تَوَاصُلًا بَيْنَ الأحياء والأموات لاجتماعهم على المولاة والقاتل قاطع للموالاة عَادِلٌ عَنِ التَّوَاصُلِ فَصَارَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُرْتَدِّ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَرَّثَ الْقَاتِلَ لَصَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى قَتْلِ كُلِّ مُوَرِّثٍ رَغِبَ وَارِثُهُ فِي اسْتِعْجَالِ مِيرَاثِهِ، وَمَا أَفْضَى إِلَى مِثْلِ هَذَا فَالشَّرْعُ مَانِعٌ مِنْهُ.(8/84)
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْقَاتِلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَامِدًا فِي الْقَتْلِ قَاصِدًا لِلْإِرْثِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَقَالَ مَالِكٌ: قَاتِلُ الْخَطَأِ يَرِثُ مِنَ الْمَالِ وَلَا يَرِثُ مِنَ الدِّيَةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: قَاتِلُ الْخَطَأِ يَرِثُ مِنَ الْمَالِ وَالدِّيَةِ جَمِيعًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَيَرِثُ وَكَذَلِكَ الْعَادِلُ إِذَا قَتَلَ بَاغِيًا وَرِثَهُ وَلَا يَرِثُ الْبَاغِي إِذَا قَتَلَ عادلا، ومال أبو يوسف ومحمد بن الحسن [إلى] إرث الْبَاغِي الْعَادِل كَمَا يَرِثُ الْعَادِلُ الْبَاغِي إِذَا كانا متأولين.
وقال الشافعي: كل قاتل يطلق عَلَيْهِ اسْمُ الْقَتْلِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ عَاقِلٍ أَوْ مَجْنُونٍ عَامِدٍ أَوْ خَاطِئٍ مُحِقٍّ أَوْ مُبْطِلٍ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَاتِلَ الْخَطَأِ يَرِثُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " يرث الزوج زَوْجَته مَالَهَا وَدِيَتَهَا وَتَرِثُ مِنْ زَوْجِهَا مَالَهُ وديته ".
فإن قتله أحدهما عمدا لم يرثه وإن قتل خطأ ورث ماله دون ديته وَهَذَا نَصٌّ إِنْ صَحَّ، وَلِأَنَّ مَنْعَ الْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ وَالْخَاطِئُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ كَمَا لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عُمُومُ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ " وَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ قَالَ: " قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُوَرِّثْهُ مِنْهُ ".
وقال: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا قَتَلْتُهُ خَطَأً " قَالَ: " لَوْ قَتَلْتَهُ عَمْدًا لَأَقَدْنَاكَ بِهِ " وَرَوَى خِلَاسٌ " أَنَّ رَجُلًا قَذَفَ بِحَجَرٍ فَأَصَابَ أُمَّهُ فَقَتَلَهَا فَغَرَّمَهُ عَلِيُّ بِنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الدِّيَةَ وَنَفَاهُ مِنَ الْمِيرَاثِ " وَقَالَ: " إِنَّمَا حَظُّكَ مِنْ مِيرَاثِهَا ذَاكَ الْحَجَرُ " وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَقَطَ إِرْثُهُ عَنْ دِيَةِ مَقْتُولِهِ سَقَطَ عَنْ سائر ماله كالعامد لأن كُلَّ مَالٍ حُرِمَ إِرْثُهُ لَوْ كَانَ عَامِدًا حُرِمَ إِرْثُهُ وَإِنْ كَانَ خَاطِئًا كَالدِّيَةِ، فَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رفع عن أمتي الخطأ " فَمَعْنَاهُ مَأْثَمُ الْخَطَأِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شعيب فمرسل وراوية مُحَمَّد بْن سَعِيدٍ الْمَصْلُوب صُلِبَ فِي الزَّنْدَقَةِ عَلَى مَا قِيلَ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ لَحُمِلَ عَلَى إِرْثِ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ صَدَاقٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أنَّ الْخَاطِئَ لَا يُعَاقَبُ بِمَنْعِ الْمِيرَاثِ قُلْنَا هَلَّا أَنْكَرْتُمْ بِذَلِكَ وُجُوبَ الدِّيَةِ عَلَيْهِ وَالْكَفَّارَةِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا وَرِثَ وَهَكَذَا مَنْ قَتَلَ بِسَبَبٍ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يحتلم وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ " فَاقْتَضَى عُمُومُ ذَلِكَ رَفْعَ الْأَحْكَامِ عَنْهُ.(8/85)
قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عُقُوبَةٍ تَعَلَّقَتْ بِالْقَتْلِ سَقَطَتْ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْقَوَدِ وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ ".
وَلِأَنَّ مَوَانِعَ الْإِرْثِ يَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْمَجْنُونُ وَالْعَاقِلُ كَالْكُفْرِ وَالرِّقِّ، ولأنه قتل مضمون وجب أن يمنع الإرث كالبالغ العاقل ولأن كل فِعْل لَوْ صَدَرَ عَنِ الْكَبِيرِ قَطَعَ التَّوَارُثَ فَإِذَا صَدَرَ عَنِ الصَّغِيرِ وَجَبَ أَنْ يَقْطَعَ التَّوَارُثَ.
أَصْلُهُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ مَنْعَ الْقَاتِلِ من الإرث لا يخلو أن يكون بمكان الإرث فَهُوَ مَا يَقُولُهُ مَنْ مَنَعَ الْإِرْثَ لِكُلِّ مَنِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ أَوْ يَكُونُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ فَقَدْ يَخْفَى ذَلِكَ مِنَ الْخَاطِئِ وَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لِاحْتِمَالِ قَصْدِهِمْ وَتظَاهِرهمْ بِمَا يَنْفِي التُّهْمَةَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا خَفِيَ ذَلِكَ مِنْهُمْ صَارَ التَّحْرِيمُ عاما كالخمر التي حرمت ولأنها تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَحَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْبَابَ فِي تَحْرِيمِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وإن كان قليلا لا يصد لاشتباه الأمر بما يصد.
فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رفع القلم عن ثلاث " فإنما أراد به رفع المأثم، وليس رفع الْإِرْثِ مُتَعَلِّقًا بِرَفْعِ الْمَأْثَمِ كَالْخَاطِئِ وَالنَّائِمِ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِمَا وَلَوِ انْقَلَبَ نَائِمٌ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَرِثْهُ بِوِفَاقٍ مِنْ أبي حنيفة، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ مَنْعَ الْإِرْثِ عُقُوبَةٌ فَأَشْبَهَ الْقَوَدَ، لِأَنَّ الْخَاطِئَ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ يُمْنَعُ مِنْ مِيرَاثِ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعُقُوبَةَ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْقَتْلِ إِذَا حَدَثَ عَنِ الْوَارِثِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ سَبَبٍ أَوْ مُبَاشَرَةٍ فَإِنْ كَانَ عَنْ سَبَبٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُوجِبَ الضَّمَانَ، كرجل حفرا بئرا في ملكه فسقط فيه أَخُوهُ أَوْ سَقَطَ حَائِطُ دَارِهِ عَلَى ذِي قرابته أو وضع في داره حجر فَعَثَرَ بِهِ فَإِذَا مَاتَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَمْ يَسْقُطْ مِيرَاثُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى الْقَتْلِ لَا اسْمًا وَلَا حُكْمًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَوَضْعِهِ حَجَرًا فِي طَرِيقٍ أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ فِي غَيْرِ مِلْكٍ أَوْ سُقُوطِ جَنَاحٍ مِنْ دَارِهِ فَإِذَا هَلَكَ بِذَلِكَ ذُو قَرَابَتِهِ لم يرثه عند الشافعي وورثه أبو حنيفة.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: مَا كَانَ فِيهِ مُتَّهَمًا لَمْ يَرِثْهُ بِهِ وَمَا كان منه غير متهم فيه ورثه هذا يَنْكَسِرُ بِالْخَاطِئِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَة فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ مِنْ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فِي صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فِي عَقْلٍ أَوْ جُنُونٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ كَالْقِصَاصِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلًا هُوَ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ كالقود إذا أوجب لَهُ فَلَا يَرِثُ بِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يكون قتلا واجبا كالحاكم والإمام إِذَا قَتَلَ أَخَاهُ قَوَدًا لِغَيْرِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا مِيرَاثَ لَهُ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ.(8/86)
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ قَتَلَهُ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَرِثْهُ؛ لِأَنَّهُ متهومٌ فِي تَعْدِيلِهَا وإن قتله بإقراره ورثه لأنه غير متهوم.
فَصْلٌ:
فَمِنْ فُرُوعِ مَا مَهَّدْنَاهُ أَنَّ ثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ لَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمْ أَبَاهُمْ عَمْدًا كَانَ مِيرَاثُ الْأَبِ لِلْأَخَوَيْنِ سِوَى الْقَاتِلِ، وَلَهُمَا قَتْلُ الْقَاتِلِ فَإِنْ قَتَلَاهُ قَوَدًا لَمْ يَرِثَاهُ فَلَوْ لَمْ يَقْتُلَاهُ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ مِيرَاثُهُ بين القاتل والثاني مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ مَقْتُولَهُ، وَيَرِثُ غَيْرُهُ وَلَيْسَ لِلْأَخِ الْبَاقِي أَنْ يَقْتُلَ قَاتِلَ أَبِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرِثَ مِنْ أَخِيهِ نِصْفَ حق وَذَلِكَ رُبُعُ دَمِ نَفْسِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ بَعْضَ نَفْسِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ لِأَخِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دَمِ أبيه نصفه لميراثه عَنْ أَبِيهِ وَرُبُعُهُ بِمِيرَاثِهِ عَنْ أَخِيهِ.
فَصْلٌ:
وَمِنْ فُرُوعِهِ أَيْضًا لَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ قَتَلَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ أُمَّهُمْ عَمْدًا وَأَبُوهُمْ وَارِثُهَا كَانَ مِيرَاثُ الْأُمِّ بَيْنَ زَوْجِهَا وابنها وبنتها عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ لِأَبِيهِ وَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ فَلَوْ لَمْ يَقْتَصُّوا مِنْهُ حَتَّى مَاتَتِ الْأُخْتُ كَانَ لِلْأَبِ وَالْأَخِ غَيْرِ الْقَاتِلِ أَنْ يَقْتُلَاهُ لِأَنَّ مِيرَاثَ الْأُخْتِ صَارَ إِلَى الأب فلم يرث القاتل منه شَيْئًا فَلَوْ مَاتَ الْأَبُ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّ مِيرَاثَهُ صَارَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَخِيهِ، وَصَارَ لِلْأَخِ عَلَى الْقَاتِلِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دَمِ الأم، لأن الأب قد كان ورث منهما بالزوجية الربع وورث عن بِنْتِهِ الرُّبُعَ فَصَارَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ النِّصْفُ، وَلِلْأَخِ النِّصْفُ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ عَنِ النِّصْفِ فَصَارَ بين القاتل والأخ نصفين والله أعلم.
مسألة:
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ عَمِيَ مَوْتُهُ صنفان عرقى وَمَفْقُودُونَ. فَأَمَّا الْغَرْقَى وَمَنْ ضَارَعَهُمْ مِنَ الْمَوْتَى تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ فِي حَرِيقٍ فَلَا يَخْلُو حالهم من أربعة أقسام:
أحدهما: أن يعلم ويتيقن مَوْتهُمْ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَتَأَخَّرَ فَهَذَا يُوَرّثُ الْمُتَأَخِّر مِنَ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَا يُوَرّثُ الْمُتَقَدِّمَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ وَهَذَا إِجْمَاعٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ يَقِينُ مَوْتِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ بَعْضهم عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا يُقْطَعُ فِيهِ التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ بِإِجْمَاعٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يقطع أَيُّهُمْ مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ ثُمَّ يَطْرَأَ الْإِشْكَالُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَهَذَا يُوقِفُ مِنْ تَرِكَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِيرَاثَ مَنْ كَانَ مَعَهُ وَيُقَسَّمُ مَا سِوَاهُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَيَكُونُ الْمَوْقُوفُ مَوْضُوعًا حَتَّى يَزُولَ الشَّكُّ أَوْ يَقَعَ فِيهِ الصُّلْحُ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِيهِمْ فَلَا يُعْلَمُ هَلْ مَاتُوا مَعًا أَوْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَا يُعْلَمُ الْمُتَقَدِّمُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّوَارُثَ بَيْنَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ. وَيَدْفَعُ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى غَيْرِ مَنْ هَلَكَ مَعَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَالْحُسْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثابت(8/87)
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ وَالزُّهْرِيُّ.
وقال إياس بن عبد الرحمن أُوَرِّثُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ تِلَادِ أَمْوَالِهِمْ ولا أورث ميتا من ميت مما وَرِثَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَيِّتِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَمِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ إِشْكَالَ التَّوَارُثِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ كَالْخُنَاثَى.
وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ التوارث بينهم أن من أشكل استحقاقه لَمْ يُحْكُمْ لَهُ بِالْمِيرَاثِ كَالْجَنِينِ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مَاتَ أَخُوهُ وَأَشْكَلَ هَلْ كَانَ عتقه قبل موته أو بعده لم يرثه بِالْإِشْكَالِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرِثْ بَعْضَ الْمَالِ لم يرث باقيه كالأجانب فأما الخناثى فَإِنَّمَا وَقَفَ أَمْرُهُ مَعَ الْإِشْكَالِ، لِأَنَّ بَيَانَهُ مَرْجُوٌّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَرْقَى لِفَوَاتِ الْبَيَانِ.
فَصْلٌ:
وَعَلَى هَذَا لَوْ غَرِقَ أَخَوَانِ أَحَدهُمَا مَوْلَى هَاشِمٍ وَالْآخَرُ مَوْلَى تَمِيمٍ وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ يُقْطَعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَيُجْعَلُ ميراث الهاشمي لمولاه وميراث التميمي أولاه، وَعَلَى قَوْلِ إِيَاسٍ، وَمَنْ وَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ قَالَ: مِيرَاثُ الْهَاشِمِيِّ لِأَخِيهِ التَّمِيمِيِّ، ثُمَّ مات التميمي يورثه مولاه، وَمِيرَاثُ التَّمِيمِيِّ لِأَخِيهِ الْهَاشِمِيِّ ثُمَّ مَاتَ الْهَاشِمِيُّ فورثه مولاه ثم مات التميمي وورثه مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَوْلَى أَخِيهِ، فَلَوْ خَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجَةً وَبِنْتًا: فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ لَمْ يُوَرِّثْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ: يَجْعَلُ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِزَوْجَتِهِ مِنْهُ الثُّمُنَ، وَلَبِنَتِهِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي لِمَوْلَاهُ، وَعَلَى قَوْلِ إِيَاسٍ وَمَنْ وَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ جَعَلَ مِيرَاثَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَبِنْتِهِ وَأَخِيهِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ كل واحد منهما من زوجته وبنته وأخيه لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وللأخ ثلاثة أسهم ثم تقسم أَسْهُمُ الْأَخِ الثَّلَاثَة بَيْنَ الْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ وَهُمْ زَوْجَةٌ، وَبِنْتٌ، وَمَوْلَى فَتَكُونُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، وهي غير منقسمة عليهم وَلَا مُوَافِقَةٍ، فَاضْرِبْ ثَمَانِيَةً فِي ثَمَانِيَةٍ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ سَهْمًا، فَاقْسِمْ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ منهما على أربعة وستين، لزوجته ثمن ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ، وَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سَهْمًا، وَلِأَخِيهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا تُقَسَّمُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ من ورثته معهم زوجته وَبِنْتٌ وَمَوْلَى، فَيَكُونُ لِزَوْجَتِهِ مِنْهَا الثُّمُنُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلَبِنَتِهِ النِّصْفُ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا، وَلِمَوْلَاهُ مَا بَقِيَ وَهُوَ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَفْقُودُ إِذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَوْتٌ وَلَا حَيَاةٌ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الْحَيَاةِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ بَعْدَهَا، فَيُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِمَوْتِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّرَ ذلك بزمان محصور وهذا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أبي حنيفة وَمَالِكٍ.
وَقَالَ أبو يوسف: يوقف تمام مائة وعشرون سَنَةً مَعَ سِنِّهِ يَوْمَ فُقِدَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَبْلُغُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ مِنَ الْعُمُرِ.(8/88)
وقال عبد الملك بن الماحشون يُوقِفُ تَمَامَ تِسْعِينَ سَنَةً مَعَ سِنِّهِ يَوْمَ فُقِدَ ثُمَّ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يُوقِفُ تَمَامَ سَبْعِينَ سَنَةً مَعَ سِنِّهِ يَوْمَ فُقِدَ ثُمَّ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فِي التَّحْدِيدِ فَاسِدَةٌ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا وَإِمْكَانِ التَّجَاوُزِ لَهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مِلْكِهِ، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ إِلَيْهَا قَسَمَ مَالَهُ حِينَئِذٍ بَيْنَ مَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ وَرَثَتِهِ، وَلَوْ مَاتَ لِلْمَفْقُودِ مَيِّتٌ يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ وَجَبَ أَنْ يُوقِفَ مِنْ تَرِكَتِهِ مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ، فَإِنْ بَانَ حَيًّا كَانَ لَهُ وَارِثًا، وَإِنْ بَانَ مَوْتُهُ مِنْ قَبْلُ رُدَّ عَلَى الْبَاقِينَ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَشْكَلَ حَالُ مَوْتِهِ.
فَصْلٌ:
مِثَالُ ذَلِكَ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَزَوْجًا مفقودا، وعصبة، فقال إِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْمَفْقُودُ حَيًّا فَالتَّرِكَةُ مِنْ سَبْعَةِ أَسْهُمٍ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ الْمَفْقُودُ مَيِّتًا فَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلْثَانِ، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَتَصِحُّ مِنْ ثلاثة، فاضرب ثلاثة في سبعة تكن إحدى وَعِشْرِينَ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَيًّا فَلَهُ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْأُخْتَيْنِ اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا وَلَا شَيْءَ لِلْعَصَبَةِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَيِّتًا فَلِلْأُخْتَيْنِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَيُعْطى الْأُخْتَانِ أَقَلَّ الْفَرْضَيْنِ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ سهما، لأنه اليقين، ولا يدفع للعصبة شيئا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حَيًّا فَإِنْ بَانَ الزوج حيا فالتعسة كُلُّهَا لَهُ، وَإِنْ بَانَ مَيِّتًا ردَّ عَلَى الْأُخْتَيْنِ سَهْمَانِ تَمَامُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَدَفَعَ إِلَى الْعَصَبَةِ الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ.
فَلَوْ خلفت المرأة زوجا، وأما، وأختا لِأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَأَخًا لِأَبٍ مَفْقُودًا فَالْعَمَلُ أن نقول: إذا كَانَ الْأَخُ الْمَفْقُودُ حَيًّا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَتَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْأَخِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْت لِلْأَبِ النِّصْفُ وَتَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، وَالثَّمَانِيَةُ تُوَافِقُ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ بِالْإِنْصَافِ، فَاضْرِبْ نِصْفَ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى تَكُن اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ فَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ يَأْخُذُهُ فِي نِصْفِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَهُوَ تِسْعَةٌ، وَمِنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَأْخُذُهُ فِي نِصْفِ الثَّمَانِيَةِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَلِلزَّوْجِ مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ تِسْعَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَلَهُ مِنَ الثَّمَانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي تِسْعَةٍ تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ فَأَعْطِهِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ وَلِلْأُمِّ مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ثَلَاثَةٌ فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَهَا مِنَ الثَّمَانِيَةِ سَهْمٌ فِي تِسْعَةٍ فَأَعْطِهَا تِسْعَةَ أَسْهُمٍ، لِأَنَّهَا أَقَلُّ النصيبين وللأخ من الأم أَيْضًا تِسْعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْأُخْتِ مِنَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمٌ وَاحِدٌ فِي أَرْبَعَةٍ، وَلَهَا مِنَ الثَّمَانِيَةِ ثَلَاثَةٌ فِي تِسْعَةٍ تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ فَأَعْطِهَا أربعة، لأنها أقلها وَيُوقِفُ الْبَاقِي بَعْدَ هَذِهِ السِّهَامِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا، فَإِنْ كَانَ الْأَخُ الْمَفْقُودُ حَيًّا أخذ ثلاثة أَسْهُمٍ ضِعْفَ مَا أَخَذَتْهُ(8/89)
أُخْتُهُ وَأُعْطِيَ الزَّوْجُ تِسْعَةَ أَسْهُمٍ تَمَامَ النِّصْفِ، وَأُعْطِيَتِ الْأُمُّ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ تَمَامَ السُّدُسِ، وَأُعْطِيَ الْأَخُ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الْمَفْقُودُ مَيِّتًا دَفَعْتَ مَا وَقَفْتَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا إِلَى الْأُخْتِ حَتَّى يَتِمَّ لها تسعة وعشرون سهما هو تَمَامُ نَصِيبِهَا مِنْ مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَخَ إِنْ كَانَ حَيًّا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعِشْرِينَ الْمَوْقُوفَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، فَلَوِ اصْطَلَحَ الْوَرَثَةُ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ المفقود على ما بقي مِنَ السِّهَامِ الْمَوْقُوفَةِ بَعْدَ نَصِيبِ الْمَفْقُودِ وَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا جَازَ الصُّلْحُ، لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ لهم وإن اصطلح عَلَى الثَّمَانِيَةِ الْمَوْقُوفَةِ لِلْمَفْقُوِدِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهَا لِغَيْرِهِمْ وَلَوْ خَلَّفت زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَأَخًا لِأَبٍ مَفْقُودًا كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ، وَيُوقِفُ السُّبُعُ فَإِنْ ظَهَرَ الْمَفْقُودُ مَيِّتًا دُفِعَ إِلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ، وَإِنْ ظَهَرَ حَيًّا ردَّ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَيَجُوزُ لَهُمْ قَبْلَ ظُهُورِ حَالِ الْمَفْقُودِ أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى السَّهْمِ الْمَوْقُوفِ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِ للمفقود.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " لَا يَرِثُونَ وَلَا يَحْجُبُونَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَنْ لَمْ يَرِثْ بِرِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ قَتْلٍ لَمْ يَحْجُبْ، فَلَا يَرِثُونَ وَلَا يَحْجُبُونَ، وَبِهِ قَالَ الْجَمَاعَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: يَحْجُبُونَ ذَوِي الْفُرُوضِ إِلَى أَقَلِّ الْفَرْضَيْنِ، كَالزَّوْجِ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ، وَالزَّوْجَةِ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ، وَالْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَلَا يُسْقِطُونَ الْعَصَبَةَ كَالِابْنِ الكافر لا يسقط ابن الابن، واختلف الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي إِسْقَاطِ ذَوِي الْفُرُوضِ عَنْ كُلِّ الْفُرُوضِ، كَإِسْقَاطِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ بِالْبِنْتِ الْكَافِرَةِ، وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحَجْبَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْمِيرَاثِ، كَالْإِخْوَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ وَلَا يَرِثُونَ وَالدَّلِيلُ على إسقاط حجبهم قوله تعالى: {فإن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِي حُكْمِ الْعَطْفِ كَمَا كَانَ شَرْطًا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ سَقَطَ إرثه يعارض سَقَطَ حَجْبُهُ بِذَلِكَ الْعَارِضِ كَالْإِسْقَاطِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ ضَعُفَ بِوَصْفِهِ عَنْ حَجْبِ الْإِسْقَاطِ ضَعُفَ بِوَصْفِهِ عَنْ حَجْبِ النُّقْصَانِ، كَ " ذَوِي الْأَرْحَامِ "، وَلِأَنَّ كُلَّ وَارِثٍ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ يَحْجُبُ إِذَا وَرِثَ لِأَنَّ الِابْنَ إِذَا وَرِثَ مَعَ أَخِيهِ فَقَدْ حَجَبَهُ عَنِ الْكُلِّ إِلَى النِّصْفِ، فَلَمَّا ضَعُفَ الْكَافِرُ عَنْ حَجْبِ مَنْ يُساويهِ فِي النَّسَبِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْعُفَ عَنْ حَجْبِ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي النَّسَبِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَجْبِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ مَعَ الْأَبِ فَلَمْ يَسْقُطُوا لِأَنَّهُمْ غَيْرُ وَرَثَةٍ، لَكِنَّ الْأَبَ حَجَبَهُمْ عَنْهُ، أَلَا تَرَى لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ أَبٌ لَوَرِثُوا فَبَانَ الْفَرْقُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا ترث الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ مَعَ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا وَلَا مَعَ الْوَلَدِ وَلَا مَعَ وَلَدِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال الإخوة والأخوات ثلاثة أصناف: صِنْفٌ يَكُونُونَ لِأَبٍ وَأُمٍّ(8/90)
وَيُسَمُّونَ بَنِي الْأَعْيَانِ. سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ أَيْ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات " وَالصِّنْفُ الثَّانِي الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ يُسَمُّونَ بَنِي العلات، يسموا بِذَلِكَ، لِأَنَّ أُمَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ تعِلَّ الْأُخْرَى، أَيْ لَمْ تسْقِهِ لَبَنَ رَضَاعِهَا، وَالْعَلَلُ الشُّرْبُ الثَّانِي وَالنَّهَلُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ قَالَ الشاعر
(والناس أبناء علات فمن علموا ... أن قد أقل فمجفو ومحقور)
(وهم بنو أم من أمسى له نشب ... فذاك بالغيب محظوظ وَمَنْصُورُ)
(وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَقْرُونَانِ فِي قَرْنِ ... وَالْخَيْرُ متبع والشر محظور)
والصنف الثالث الإخوة والأخوات للأم يسمون بني الأخياف، والأخياف الأخلاط، لأنهم مِنْ أَخْلَاطِ الرِّجَالِ، وَلَيْسَ هُمْ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْخَيْفُ مِنْ منى لِاجْتِمَاعِ أخلاط الناس فيه، وقيل: اختلاط الألوان الخافية وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
(النَّاسُ أَخْيَافٌ وَشَتَّى فِي الشِّيَمِ ... وَكُلُّهُمْ يَجْمَعُهُمْ بَيْتُ الْأُدُمِ)
يَعْنِي: أَنَّهُمْ أَخْلَاطٌ مِنْهُمُ الْجَيِّدُ، وَمِنْهُمُ الرَّدِيءُ، كَبَيْتِ الْأَدَمِ الَّذِي يَجْمَعُ الْجِلْدَ كُلَّهُ، فَمِنْهُ الْكُرَاعُ وَمِنْهُ الظَّهْرُ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأُمِّ فَيَسْقُطُونَ مَعَ أَرْبَعَةٍ: مَعَ الْأَبِ، وَمَعَ الْجَدِّ، وَمَعَ الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَمَعَ وَلَدِ الِابْنِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ من ذلك فهم في شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَقَدْ كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ " وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ "، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ تَفْسِيرًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تِلَاوَةً، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأُمِّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ من ذلك منهم شركاء في الثلث} .
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْكَلَالَةُ فَقَدْ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهَا فَقَالَ تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ يَعْنِي: قَوْلَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَلَمْ يَفْهَمْهَا عُمَرُ وَقَالَ لِحَفْصَةَ رضي الله عنهما إِذَا رَأَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طيب نفسه فاسأليه، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها فَقَالَ لَهَا: أَبُوكِ كَتَبَ لَكِ هَذَا مَا أَرَى أَبَاكِ يَعْلَمُهَا أَبَدًا، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا أرَانِي أَعْلَمُهَا(8/91)
أَبَدًا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا قَالَ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ثلاث لأن يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَّنَهُنَّ أَحَبّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا الْكَلَالَةُ وَالْخِلَافَةُ وَالرِّبَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَزِدْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَيَانِ الْكَلَالَةِ، لِأَنَّ فِي الْآيَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ مَا يَكْتَفِي بِهِ الْمُجْتَهِدُ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ قَصرَ عَنْ إِدْرَاكِهِ لِعَارِضٍ، وَقَدِ اخْتلفَ فِي الْكَلَالَةِ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرُّوَايَتَيْنِ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا دُونَ الْوَلَدِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] وَقَالَ قَوْمٌ: الْكَلَالَةُ وَلَدُ الْأُمِّ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امرأة وله أخ أو أخت} [النساء: 12] يعني في أُمٍّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكَلَالَةَ.
وَقَالَ الجمهور: إن الكلالة ما عَدَا الْوَلَدِ وَالْوَالِدَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وعلي ويزيد وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَمَالِكٌ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ ولد الأم لما سقطوا مع الوالد لسقوطهم مَعَ الْوَلَدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ عدا الوالد والولد وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي شَرْحِهِ عن عمرو ابن شُعَيْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأَخُ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْلَى مِنَ الْكَلَالَةِ " وَلِأَنَّ الْكَلَالَةَ مَصْدَرٌ مِنْ تَكَلّلَ النَّسَب تَشبيهًا بِتَكَلُّلِ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ عَلَى عَمُودِهَا فَالْوَالِدُ أصلها والولد فرعها من سِوَاهُمَا مِنَ الْمُنَاسِبِينَ كَالْأَغْصَانِ الْمُتَكَلِّلَةِ عَلَيْهَا وَقِيلَ: إِنَّ الْكَلَالَةَ منْ تَكَلَّلَ طَرَفَاهُ فَخَلَا عَنِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ، وَقِيلَ إِنَّ الْكَلَالَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِحَاطَةِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْإِكْلِيلُ لِإِحَاطَتِهِ بِالرَّأْسِ فَسُمِّيَ هَؤُلَاءِ كَلَالَةً لِإِحَاطَتِهِمْ بِالطَّرَفَيْنِ، وَقَدْ قَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي وُصُولِ الْخِلَافَةِ إِلَيْهِمْ عَنْ آبَائِهِمْ لَا عَنْ غَيْرِهِمْ:
(ورثتم قناة الملك غير كلالة ... عن ابن مَنَافٍ عَبْد شَمْس وَهَاشِمِ)
وَقَالَ الْآخَرُ:
(فَإِنَّ أَبَا الْمَرْءِ أَحَمَى لَهُ ... وَمَوْلَى الْكَلَالَةِ لَا يَغْضَبُ)
يَعْنِي: مَوْلَى غَيْرِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِلْوَرَثَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: الْكَلَالَةُ اسْمُ الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وبه قال أبو بكر وعلي وزيد ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء: 12] فَجَعَلَ ذَلِكَ صِفَةً لِلْمَوْرُوثِ وَلَوْ كَانَتْ صِفَةً لِلْوَارِثِ لَقَالَ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يَرِثُهُ كَلَالَةً وَلِأَنَّهُ يُقَالُ عَقِيمٌ لِمَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَيَتِيمٌ لِمَنْ لَا وَالِدَ لَهُ، وَكَلَالَةٌ لِمَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْكَلَالَةُ اسْمٌ لِلْوَرَثَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا أَيْضًا صَحِيحٌ.(8/92)
وَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَتَعَدَّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قل: {يستفتونك قال اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فَكَانَتِ الْفُتْيَا عَنِ الْكَلَالَةِ مَا بَيَّنَهُ مِنَ الْحُكْمِ فِي وَلَدِ الْأَبِ.
وقال آخرون: الكلالة من الأسماء المشتركة تنطلق على الميت إذا لم يترك ولد ولا والد وَعَلَى الْوَرَثَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، لِاحْتِمَالِ الْأَمْرَيْنِ.
قَالُوا: فَالْكَلَالَةُ الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء: 12] اسْمٌ لِلْمَيِّتِ وَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} اسم للورثة والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا تَرِثُ الْإِخْوَةُ وَلَا الْأَخَوَاتُ مَنْ كَانُوا مَعَ الْأَبِ وَلَا مَعَ الِابْنِ وَلَا مَعَ ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَهَذَا صَحِيحٌ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ يَسْقُطُونَ مَعَ ثَلَاثَةٍ مَعَ الِابْنِ دُونَ الْبِنْتِ وَمَعَ ابْنِ الِابْنِ وَمَعَ الْأَبِ وَلَا يَسْقُطُونَ مَعَ الْجِدِّ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْجَدِّ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ تَشِذُّ عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ إِخْوَةٌ حَجَبُوا الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ وَاسْتَحَقُّوا السُّدُسَ الَّذِي حَجَبُوا الْأُمَّ عَنْهُ، لِأَنَّ الْأَبَ لا يستحقه مع عدم الإخوة، ووجب أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ بِوُجُودِ الْإِخْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11] فكالباقي بَعْدَهُ لِلْأَبِ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] فَدَلَّ الظَّاهِرُ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ أَيْضًا لِلْأَبِ.
وَلِأَنَّ الْإِخْوَةَ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ وَحْدَهُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَرِثُوا مَعَهُ وَمَعَ الْأُمِّ، وَلِأَنَّ مَنْ أَدْلَى بِعَصَبَةٍ لَمْ يَرِثْ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الْعَصَبَةِ كَابْنِ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ وَكَالْجَدِّ مَعَ الْأَبِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ يُدْلُونَ بِالْأُمِّ وَيَرِثُونَ مَعَهَا، فَهَلَّا كَانَ الْإِخْوَةُ مَعَ الْأَبِ وَإِنْ أَدْلَوْا بِهِ يَرِثُونَ مَعَهُ.
قِيلَ الفرق بينما مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأَبِ عَصَبَةٌ يُدْلُونَ بِعَصَبَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ حقه مع إدلائهم به، والإخوة للأم ذو فَرْضٍ لَا يَدْفَعُونَ الْأُمَّ عَنْ فَرْضِهَا فَجَازَ أَنْ يَرِثُوا مَعَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ لَا تَأْخُذُ الْأُمُّ فَرْضَهُمْ إِذَا عَدِمُوا فَلَمْ يدفعهم عَنْهُ إِذَا وَجَدُوا وَالْإِخْوَةَ لِلْأَبِ يَأْخُذُ الْأَبُ حقهم إذا عدموا فدفعهم عَنْهُ إِذَا وَجَدُوا.
فَأَمَّا حَجْبُهُمُ الْأُمَّ عَنِ السُّدُسِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ حَجَبَ عَنْ فَرْضٍ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الْحَجْبَ، أَلَا تَرَى أَنَّ فَرْضَ الْبِنْتِ النِّصْفُ لَوْ لَمْ تَحْجُبْ أَحَدًا وَلَوْ حَجَبَتِ الزَّوْجَ إِلَى الرُّبُعِ وَالزَّوْجَةَ إِلَى الثُّمُنِ وَالْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهَا مَا حَجَبَتْهُمْ عَنْهُ مِنَ الْفُرُوضِ وَكَذَلِكَ الْإِخْوَةُ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ فَيَسْقُطُونَ مَعَ مَنْ تَسْقُطُ مَعَهُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ(8/93)
لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مِنَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ وَالْأَبِ وَيَسْقُطُونَ أَيْضًا مِعِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَعْيَانُ بَنِي الْأُمَّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بني العلات ".
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَرِثُ مَعَ الْأَبِ أَبَوَاهُ وَلَا مَعَ الأم جدة وهذا كله قول الشافعي ومعناه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْجَدَّاتِ لَا يَرِثْنَ مَعَ الْأُمِّ سَوَاءٌ مَنْ كُنَّ مِنْهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لِأَنَّهُنَّ يَرِثْنَ بِالْوِلَادَةِ فَكَانَتِ الْأُمُّ أَوْلَى مِنْهُنَّ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُبَاشِرَةٌ لِلْوِلَادَةِ بِخِلَافِهِنَّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوِلَادَةَ فِيهَا مَعْلُومَةٌ وفي غيرها مظنونة فلفوتها بهذين أحجبت جَمِيعَ الْجَدَّاتِ.
وَأَمَّا الْأَبُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يَحْجُبُ أَبَاهُ وَهُوَ الْجَدُّ وَلَا يَحْجُبُ الْجَدَّةَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَاخْتَلَفُوا فِي حَجْبِهِ لِأُمِّهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْجَدَّةَ أُمَّ الْأَبِ تَسْقُطُ بِالْأَبِ كَالْجَدِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْجَدَّةُ أُمُّ الْأَبِ تَرِثُ مَعَ الْأَبِ كَمَا تَرِثُ مَعَ أُمِّ الْأُمِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود وعمران بن الحسين وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَشُرَيْحٌ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَدَّةِ مَعَ ابْنِهَا إِنَّهَا أَوَّلُ جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُدُسًا وَابْنُهَا حَيٌّ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ وَرَّثَ الْجَدَّةَ مَعَ ابْنِهَا وَروي أَنَّهُ ورث حسكة مَعَ ابْنِهَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا ضَعُفَ الْأَبُ عَنْ حَجْبِ أُمِّ الْأُمِّ وَهِيَ بِإِزَائِهَا ضَعُفَ أَيْضًا عَنْ حَجْبِهَا، وَلِأَنَّ الْجَدَّةَ وَإِنْ أَدْلَتْ بِالْأَبِ فَهِيَ غَيْرُ مُضِرَّةٍ بِهِ لِأَنَّهَا تُشَارِكُ أُمَّ الْأُمِّ فِي فَرْضِهَا فَجَرَى مَجْرَى الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ لَمَّا لَمْ يَضُرُّوا بِالْأُمِّ لَمْ يَسْقُطُوا مَعَ الْأُمِّ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْلَى إِلَى الْمَيِّتِ بِأَبٍ وَارِثٍ سَقَطَ بِهِ كَالْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ وَلِأَنَّ الْإِدْلَاءَ إِلَى الْمَيِّتِ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ يَمْنَعُ مِنْ مُشَارَكَتِهِ فِي الْمِيرَاثِ كَوَلَدِ الِابْنِ مَعَ الِابْنِ وَوَلَدِ الْإِخْوَةِ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَلِأَنَّهَا جَدَّةٌ تُدْلِي بِوَلَدِهَا فَلَمْ يُجِزْ أَنْ تُشَارِكَ وَلَدَهَا فِي الْمِيرَاثِ كَالْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ، وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ وَرَّثَ الْجَدَّةَ وَابْنُهَا حَيٌّ فَضَعِيفٌ لِأَنَّ صِحَّتَهُ تَمْنَعُ مِنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم فيه، ثم لو سلم لكان عليه ثلاثة أجوبة.
أحدهما: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ مَعَ ابْنِهَا الَّذِي هُوَ الْخَالُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى تَوْرِيثِ أُمِّ الْأَبِ مَعَ ابْنِهَا وهو العم.(8/94)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَبِ إِذَا كَانَ كَافِرًا أَوْ قَاتِلًا وَيُسْتَفَادُ بِذَلِكَ أن لا يسقط ميراثا بِسُقُوطِ مَنْ أَدْلَتْ بِهِ.
فَأَمَّا أُمُّ الْأُمِّ فَإِنَّمَا لَمْ يَحْجُبْهَا الْأَبُ لِإِدْلَائِهَا بِغَيْرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أُمُّهُ لِإِدْلَائِهَا بِهِ وَأَمَّا عَدَمُ إِضْرَارِهَا بالأب فقد تضر به، لأنها تأخذ فرضها من مال كان يستوعبه بالتعصب، ثُمَّ لَوْ لَمْ تَضُرَّ لِجَازَ أَنْ يُسْقِطَهَا كَمَا يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ وَإِنْ لَمْ يَضُرُّوهُ والله أعلم.(8/95)
باب المواريث
قال المزني رحمه الله: " وللزوج النصف فإن كان للميت ولد أو ولد ولد وَإِنْ سَفَلَ فَلَهُ الرُّبُعُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ المواريث نوعان:
أحدهما: ما جعله مُرْسَلًا وَهُوَ مَوَارِيثُ الْعَصَبَاتِ يَسْتَوْعِبُونَ الْمَالَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فَرْض وَيَأْخُذُونَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْفَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ قَبْلَ نُزُولِهَا بِالْوَصِيَّةِ وقال الله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: جَعْلُهُ فَرْضًا مُقَدَّرًا وَالْفُرُوضُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تعالى سنة نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فِي الْآيِ الثَّلَاثِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَهِيَ: النِّصْفُ وَالرُّبُعُ وَالثُّمُنُ والثلثان والثلث والسدس فكأنهما النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما.
فَأَمَّا النِّصْفُ فَفَرْضُ خَمْسَةٍ فَرْضُ الزَّوْجِ إِذَا لَمْ يُحْجَبْ، وَفَرْضُ الْبِنْتِ وَفَرْضُ بِنْتِ الِابْنِ وَفَرْضُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَفَرْضُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ.
وَأَمَّا الرُّبُعُ فَفَرْضُ اثْنَيْنِ فَرْضُ الزَّوْجِ مَعَ الْحَجْبِ وَفَرْضُ الزَّوْجَةِ أَوِ الزَّوْجَاتِ مَعَ عَدَمِ الحجبة.
وأما الثمن فهو فرض واحد وَهُوَ فَرْضُ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجَاتِ مَعَ الْحَجْبِ.
وَأَمَّا الثُّلُثَانِ فَفَرْضُ أَرْبَعَةٍ فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ فَصَاعِدًا وَفَرْضُ بنتي الابن فصاعدا وفرض الأخت مع الْأَبِ وَالْأُمِّ فَصَاعِدًا وَفَرْضُ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ فَصَاعِدًا فالثلثان فرض كل اثنين كَانَ فَرْضُ إِحْدَاهُمَا النِّصْفُ، وَأَمَّا الثُّلُثُ فَفَرْضُ فَرِيقَيْنِ فَرْضُ الْأُمِّ إِذَا لَمْ تُحْجَبْ وَفَرْضُ الابنين فصاعدا من ولد الأم.
وأما السدس فرض سَبْعَةٍ فَرْضُ الْأَبِ وَفَرْضُ الْجَدِّ وَفَرْضُ الْأُمِّ مَعَ الْحَجْبِ وَفَرْضُ الْجَدَّةِ أَوِ الْجَدَّاتِ وَفَرْضُ الواحد مع وَلَدِ الْأُمِّ، وَفَرْضُ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ، وَفَرْضُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ ثُلُثَانِ وَثُلُثَانِ وَلَا ثُلُثٌ وَثُلُثٌ وَلَا نِصْفٌ ولا نصف إِلَّا فِي زَوْجٍ وَأُخْتٍ، فَأَمَّا فِي بِنْتٍ وَأُخْتٍ فَلَيْسَ نِصْفُ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ فَرْضًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ رُبُعَانِ وَلَا رُبُعٌ وثمن.(8/96)
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفُرُوضِ فَقَدْ بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِفَرْضِ الزَّوْجِ وَفَرْضُهُ النِّصْفُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتَةِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ فَإِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ فَفَرْضُهُ الرُّبُعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بها أو دين} [النساء: 12] فصار فَرْضُ الزَّوْجِ النِّصْفَ وَقَدْ يَأْخُذُهُ تَارَةً كَامِلًا وتارة عائلا وأقل فرض الرُّبُعُ، وَقَدْ يَأْخُذُهُ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا وَلَا فَرْقَ فِي حَجْبِ الزَّوْجِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهَا دُونَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وهكذا ولد الابن يحجب الزوج ما يَحْجُبُهُ الْوَلَدُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَحْجُبُ بِالِاسْمِ أَوْ بِالْمَعْنَى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْجُبُ بِالِاسْمِ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى وَلَدًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَحْجُبُ بِالْمَعْنَى لَا بِالِاسْمِ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَى وَلَدِ الصلب، فلذلك قُلْنَا إِنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ وَلَدِهِ فِيهِ حَقٌّ فَأَمَّا فِي الْحَجْبِ فَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ يَقُومُ فِيهِ مَقَامَ الْوَلَدِ إِلَّا مَا يُحْكَى عَنْ مُجَاهِدٍ حِكَايَةً شَاذَّةً أَنَّ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ لَا يُحْجَبَانِ بِوَلَدِ الْوَلَدِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْنَى إِنْ نَازَعَ فِي الِاسْمِ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ في ولد الابن بين ذكورهم وإناثهم للواحد وَالْجَمَاعَةُ فِيهِ سَوَاءٌ.
فَأَمَّا وَلَدُ الْبِنْتِ فَلَا يَحْجُبُ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فإن كان للميت ولد أو ولد ولد إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَلَدَ الِابْنِ دُونَ وَلَدِ البنت، وليس كما جهل بعض الناس فعابه خطأه فيه.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ فَإِنْ كَانَ لَلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ ولد ولد وإن سفل فلها الثمن والمرأتان والثلاث والأربع شركاء في الربع إذا لم يكن ولد وفي الثمن إذا كان ولد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِلزَّوْجَةِ فَرْضَانِ أَعْلَى وَأَدْنَى فَأَمَّا الْأَعْلَى فَهُوَ الرُّبُعُ يُفْرَضُ لَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا ولد ابن فأعلى فرضها هو أدنى فرض الزَّوْجِ، لِأَنَّ مِيرَاثَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ مِيرَاثِ الرَّجُلِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْأَبَوَانِ معهم الِابْن.
وَالثَّانِي: الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأُمِّ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِمَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ وَيَتَفَاضَلُونَ فِيمَا سِوَاهُمَا.
ثُمَّ هَذَا الرُّبُعُ قَدْ تَأْخُذُهُ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابن وإن سفل منهما أو منه دونها فَلَهَا الثُّمُنُ ثُمَّ قَدْ تَأْخُذُ الثُّمُنَ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا ثُمَّ هَذَانِ الْفَرْضَانِ أُخِذَا من نص الكتاب قال الله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] فَإِنْ كُنَّ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ اشْتَرَكْنَ وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعًا فِي الرُّبُعِ، إِذَا لَمْ يُحْجَبْنَ.
وَفِي الثُّمُنِ إذا حجبن وصرن والجدات سواء يشتركن فِي الْفَرْضِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَثُرْنَ وَلَا يَزِيدُ بزيادتهن.(8/97)
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ أَوِ اثْنَانِ مِنَ الْإِخْوَةِ أَوِ الْأَخَوَاتِ فَصَاعِدًا فَلَهَا السُّدُسُ إِلَّا فِي فَرِيضَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَالْأُخْرَى امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي هَاتَيْنِ الْفَرِيضَتَيْنِ لِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا يَبْقَى بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَمَا بَقِيَ فَلِلْأَبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْأُمِّ فِي مِيرَاثِهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنْ يُفْرَضَ لَهَا الثُّلُثُ وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهَا وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ وَلَا اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَاقْتَضَى الْكَلَامُ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ ثُلُثِ الْأُمِّ للابن وهذا الثلث قد تأخذه تارة كاملا وقد تأخذه تارة عائلا.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يُفْرَضَ لَهَا السُّدُسُ وَذَلِكَ أَقَلُّ أَحْوَالِهَا إِذَا حُجِبَتْ عَنِ الثُّلُثِ وَحَجْبُهَا عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ يَكُونُ بِصِنْفَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْوَلَدُ أَوْ وَلَدُ الِابْنِ يَحْجُبُ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى كَمَا قُلْنَا فِي حَجْبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَسَوَاءٌ فِي ذلك الولد أو ولد الِابْنِ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا مَا خَالَفَ فِيهِ مُجَاهِدٌ وَحْدَهُ حَيْثُ لَمْ يَحْجُبْ بِوَلَدِ الِابْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] .
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: حَجْبُهَا بالإخوة والأخوات فالواحد منهم لا يحجها إِجْمَاعًا وَالثَّلَاثَةُ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يَحْجُبُونَهَا عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ إِجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أو أم وسواء كان الإخوة ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا أَحْجُبُ الْأُمَّ بِالْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] .
وَاسْمُ الْإِخْوَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَخَوَاتِ بِانْفِرَادِهِنَّ وإنما يتأولهن الْعُمُومُ إِذَا دَخَلْنَ مِعِ الْإِخْوَةِ تَبَعًا، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْجِنْسَ وَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ مُشْتَمِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ غَلَبَ فِي اللَّفْظِ حُكْمُ التَّذْكِيرِ، عَلَى أَنَّ الإجماع يدفع قول الْحَسَنِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ.
فَأَمَّا حَجْبُ الْأُمِّ بِالِاثْنَيْنِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا تَحْجُبُ بِهِمَا إِلَى السُّدُسِ وَهُوَ قَوْلُ عمرو وعلي وزيد بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وأبي حنيفة وجماعة الفقهاء وانفرد عبد الله ابن عَبَّاسٍ فَخَالَفَ الصَّحَابَةَ بِأَسْرِهِمْ فَلَمْ يَحْجُبْهَا إِلَّا بِالثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَصَاعِدًا وَهِيَ إِحْدَى مسائله الأربعة الَّتِي خَالَفَ فِيهَا جَمِيعَ الصَّحَابَةِ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ قوله تعالى: {فإن كن لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] فَذَكَرَ(8/98)
الْإِخْوَةَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ثَلَاثَةٌ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فقال ما بال الأخوات يحجبن الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا كُنْتُ لِأُغَيِّرَ شَيْئًا تَوَارَثَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَصَارَ فِي الْآفَاقِ فَدَلَّ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ عُثْمَانَ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَنْقَرِضِ الْعَصْرُ عَلَى أَنَّ الْأَخَوَيْنِ يَحْجُبَانِهَا، وَلَمْ يَأْخُذْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَدٌ مِمَّنْ تَأَخَّرَ إِلَّا دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إليه إِجْمَاعُ مَنْ حَجَبَهَا بِالِاثْنَيْنِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ هو أن كل عدد روعي في تغيير الْفَرْضِ فَالِاثْنَانِ مِنْهُمْ يَقُومَانِ مَقَامَ الْجَمْعِ كَالْأُخْتَيْنِ في الثلثين وكالأخوين من الأم في الثلث، فَكَذَلِكَ فِي الْحَجْبِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ " وَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعِبَارَةِ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] فَذَكَرَهُمْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَهُمُ اثْنَانِ وَقَالَ تعالى: {وداود وسليمان إذا يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَمْتَنِعْ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ الْإِخْوَةِ فِي الْحَجْبِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ حَجْبُهَا بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا سَوَاءٌ كَانَا أَخَوَيْنِ أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ أَخٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أو لأم.
فصل:
من فُرُوضِ الْأُمِّ أَنْ تَكُونَ الْفَرِيضَةُ زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ فيكون للأم الثلث مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَتَفَرَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِخِلَافِهِمْ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا، فَقَالَ لِلْأُمِّ ثلث جميع المال من الزوج والأبوين وفي الزوجة والأبوين استدلالا بقوله تعالى: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} [النساء: 11] فَلَمْ يُجِزْ أَنْ تَأْخُذَ أَقَلَّ مِنْهُ، وَحُكِيَ عن محمد بن سيرين مذهب خالف به القولين فقال أعطيها ثلث ما بقي من زوج وأبوين كقول الجماعة لأنها لا تفضل على الأب وأعطيها من زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهَا لَا تُفَضَّلُ بِذَلِكَ عَلَى الْأَبِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَهَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا ثُلُثَ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ قَوْله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَجُعِلَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ مِنْ مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ وَمِيرَاثُهُمَا هُوَ مَا سِوَى فَرْضِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ عَلَى ثُلُثِ مَا وَرِثَهُ الْأَبَوَانِ، وَلِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ إِذَا انْفَرَدَا كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِلْأُمِّ ثُلُثُهُ وَلِلْأَبِ ثُلُثَاهُ فَوَجَبَ إِذَا زاحمها ذوو فَرْضٍ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مِنْهُ بَيْنَهُمَا لِلْأُمِّ ثُلُثُهُ وَلِلْأَبِ ثُلُثَاهُ وَلِأَنَّ الْأَبَ أَقْوَى مِنَ الْأُمِّ لِأَنَّهُ يُسَاوِيهَا فِي الْفَرْضِ وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِالتَّعْصِيبِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ أَزْيَدَ سَهْمًا مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الرَّحِمِ.
فَإِنْ قِيلَ فَالْجَدُّ يُسَاوِي الْأَبَ إِذَا كَانَ مَعَ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ ثُمَّ لِلْأُمِّ مَعَ الزَّوْجِ وَالْجَدِّ ثُلُثُ جميع المال، وإن صارت فيه أقل من الجد كذلك مع الأب قبل الْأَبُ أَقْوَى مِنَ الْجَدِّ لِإِدْلَاءِ الْجَدِّ بِالْأَبِ، وَلِإِسْقَاطِ الْأَبِ مَنْ لَا يَسْقُطُ بِالْجَدِّ، وَلِأَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْأُمِّ فِي دَرَجَتِهِ مَعَ فَضْلِ(8/99)
التَّعْصِيبِ، وَالْجَدُّ أَبْعَدُ مِنْهَا فِي الدَّرَجَةِ وَإِنْ زاد الأب فِي التَّعْصِيبِ فَلِقُوَّةِ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا فِي التَّفْضِيلِ عَلَى الأم والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وللبنت النصف وللابنتين فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، أَمَّا الْبِنْتُ الْوَاحِدَةُ إِذَا انْفَرَدَتْ فَفَرْضُهَا النِّصْفُ بنص الكتاب قال الله تعالى: {فإن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فَإِنْ كُنَّ اثنتين فصاعدا ففرضها الثُّلُثَانِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ شَاذَّةٍ إِنَّ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ كَالْوَاحِدَةِ وَفَرْضَ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] فجعل الثلثين فرضا لمن زاد على الاثنين وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ فِي الْأَخَوَاتِ بِأَنَّ فَرْضَ الِاثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ وَقَالَ فِي الْبَنَاتِ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] فاحتمل أن يكون هذا العمل محمولا على ذلك التصريح الْمُقَيَّدِ فِي الْأَخَوَاتِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِهِ عَلَى مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ على ما قال ابن عباس لأمرين ترجيح واستدلال.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى فَرْضُ الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ فِي النِّصْفِ اقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ وَالْأُخْتَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَنَاتَ أَقْوَى فِي الْمِيرَاثِ مِنَ الْأَخَوَاتِ، لِأَنَّهُنَّ يَرِثْنَ مَعَ مَنْ يُسْقِطُ الْأَخَوَاتِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الْأُخْتَيْنِ مَعَ ضَعْفِهِنَّ الثُّلُثَيْنِ وَيَكُونُ فَرْضُ الْبِنْتَيْنِ مَعَ قُوَّتِهِنَّ النِّصْفُ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (فَوْقَ) صِلَةً زَائِدَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَى بِنْتَيْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ مَعَ أُمِّهِمَا وَعَمِّهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَالَأُمَّ الثُّمُنَ وَالْبَاقِيَ لِلْعَمِّ وَهَذَا نص قد رَوَيْنَا الْخَبَرَ بِكَمَالِهِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَرْضُ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ مَعَ بِنْتِ الابن الثلثين النصف والسدس، فلا يَكُونَ الثُّلُثَانِ فَرْضَ الْبِنْتَيْنِ أَوْلَى.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا اسْتَكْمَلَ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ فَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ ابْنُ ابْنٍ فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لَهُ وَلِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْهُ مِنْ بَنَاتِ الابن ما بقي لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَتَى اسْتَكْمَلَ بَنَاتُ الصُّلْبِ الثُّلُثَيْنِ فَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الِابْنِ إِذَا انْفَرَدْنَ عَنْ ذَكَرٍ فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ وَسَقَطْنَ إِجْمَاعًا، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فِي دَرَجَتِهِنَّ كبنت ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ أَبَوَيْنِ أَوْ كَانَ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ بِأَنْ يَكُونَ مَعَ بِنْتِ الِابْنِ ابْنُ ابْنٍ فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهُنَّ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ فَرْضَ الْبَنَاتِ بَيْنَ بَنَاتِ الِابْنِ(8/100)
وَابْنِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَتَفَرَّدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَجَعَلَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ لِابْنِ الِابْنِ دُونَ بَنَاتِ الِابْنِ وَهِيَ إِحْدَى مَسَائِلِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ فِيهَا بِمُخَالَفَةِ الصَّحَابَةِ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِدْنَ عَلَيْهِ فإذا استكمله بَنَاتُ الصُّلْبِ سَقَطَ بِهِنَّ بَنَاتُ الِابْنِ لِاسْتِيعَابِ الْفَرْضِ وَصَارَ الْفَاضِلُ عَنْهُ إِلَى ابْنِ الِابْنِ بِالتَّعْصِيبِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ الذَّكَرَ مِنَ الْوَلَدِ إِذَا كَانَ فِي دَرَجَتِهِ أُنْثَى عَصَّبَهَا وَلَمْ يُسْقِطْهَا كَأَوْلَادِ الصُّلْبِ، وَلِأَنَّ كُلَّ أُنْثَى تُشَارِكُ أَخَاهَا إذا لم يزاحمها ذو فرض تشاركه مَعَ مُزَاحَمَةِ ذِي الْفَرْضِ كَمُزَاحَمَةِ الزَّوْجِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَنَحْنُ لَمْ نُعْطِ بِنْتَ الِابْنِ فَرْضًا وَإِنَّمَا أعطيناها بالتعصيب والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن لم يكن للميت إلا ابنة واحدة وبنت ابن أو بنات ابن فللابنة النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ تكملة الثلثين وتسقط بنات ابن الابن إذا كُنَّ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ابْنُ ابْنٍ فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُنَّ فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لَهُ وَلِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَقْرَبَ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْهُ مِنْ بَنَاتِ الابن ممن لم يأخذ من الثلثين شيئا للذكر مثل حظ الأنثيين ويسقط من أسفل من الذكر فإن لم يكن إلا ابنة واحدة وكان مع بنت الابن أو بنات الابن ابن ابن في درجتهن فلا سدس لهن ولكن ما بقي له ولهن لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ لِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ هُذَيلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الْأَوْدِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَلْمَانَ بن ربيعة يسألهما عن ابنة وابنة ابن وأخت لأب وأم فقالا لابنته النصف وللأخت من الأب وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلَمْ يُوَرِّثَا بِنْتَ الِابْنِ شَيْئًا، وأما ابْن مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ سَيُتَابِعُنَا فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَسَأَلَهُ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمَا، فَقَالَ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أنا من المهتدين ولكن سَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لابنته النصف، ولابنة الابن سهم تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ بِنْتًا وَعَشْرَ بَنَاتِ ابْنٍ كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِعَشْرِ بَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ وَإِنْ كَثُرْنَ وَهَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ بِنْتًا وَعَشْرَ بَنَاتِ ابْنِ ابْنٍ أَسْفَلَ مِنْ بِنْتِ الصُّلْبِ بِثَلَاثِ دُرَجٍ كَانَ لَهُنَّ السُّدُسُ، كَمَا لَوْ عَلَوْنَ فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ سَقَطَ فَرْضُ السُّدُسِ لَهُنَّ، وَكَانَ الْبَاقِي بعد نصيب البنت بين بنات الابن وأختهن لِلذِّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، لِأَنَّهُ(8/101)
عَصَّبَهُنَّ وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاعَةِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وهي ثان مَسَائِلِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ إِنَّ لِبَنَاتِ الِابْنِ إِذَا شَارَكَهُنَّ ذَكَرٌ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ السُّدُسِ الْبَاقِي مِنْ فَرْضِ الْبَنَاتِ بَعْدَ نِصْفِ الْبِنْتِ أَوِ الْمُقَاسَمَةِ.
فَإِنْ كَانَتْ مُقَاسَمَةُ الذكر الذي في درجتهن أنقص لسهمين من السدس قاسمهن ثم مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُقَاسَمَةُ أَزْيَدَ مِنَ السُّدُسِ فُرِضَ لَهُنَّ السُّدُسُ، وَجُعِلَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ لِلذُّكُورِ مِنْ بَنِي الِابْنِ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَزِدْنَ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وجهين:
أحدهما: أن اشتراك البنتين وَالْبَنَاتِ فِي الْمِيرَاثِ يُوجِبُ الْمُقَاسَمَةَ دُونَ الْفَرْضِ قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الصُّلْبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الذَّكَرَ إِذَا دَفَعَ أُخْتَهُ عَنِ الْمُقَاسَمَةِ أَسْقَطَهَا كَوَلَدِ الإخوة وإذا لم يسقطها شاركته كالولد، وفي قول أبي مَسْعُودٍ دَفْعٌ لِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَقَوْلُهُ إِنَّ فَرْضَ الْبَنَاتِ لَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ غَيْرَ أَنَّنَا نُسْقِطُ مَعَ مُشَارَكَةِ الذكر فرضهن فيما يأخذنه بالتعصيب دُونَ الْفَرْضِ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ وَابْنَ ابْنِ ابْنٍ كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِابْنِ ابن الابن لا يُعَصِّبُ عَمَّتَهُ إِذَا كَانَ لَهَا فَرْضٌ كَمَا أَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَا يُعَصِّبُ الْبِنْتَ لِأَنَّهَا ذات فرض فلو كانت المسألة بحالها بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنِ ابْنٍ مَعَهَا أَخُوهَا كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبنت الِابْنِ السُّدُسُ تكملة الثلثين والباقي بين السلفي وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْهَا بِدَرَجَةٍ فَكَانَ ابْنَ ابْنَ ابْنِ ابْنِ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ نِصْفِ البنت وسدس بنت الابن مع بنت ابن الابن وبين ابن أَخِيهَا الَّذِي هُوَ ابْنُ ابْنِ ابْنٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَعَصَّبَهَا مَعَ نُزُولِهِ عَنْ درجتها لأنها ليست ذات فرض والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإن كَانَ مَعَ الْبِنْتِ أَوِ الْبَنَاتِ لِلصُّلْبِ ابْنٌ فلا نصف ولا ثلثين ولكن المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ويسقط جميع ولد الابن ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ مع البنت أو البنات اللاتي للصلب ابن سقط به فرض البنات وأخذنا الْمَالَ مَعَهُ بِالتَّعْصِيبِ لِلذِّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين} [النساء: 11] إلا شيئين فسَقَطَ بِالِابْنِ جَمِيعُ أَوْلَادِ الِابْنِ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا سَقَطَ بِالْإِخْوَةِ بنو الإخوة وبالأعمام بنو الأعمام لرواية بن طاوس عن أبيه عن بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اقْسِمِ الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ الله فما تركت الفرائض فللأولى رجل ذكر ".
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَوَلَدُ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الصُّلْبِ فِي كُلٍّ إذا لم يكن ولد صلب ".(8/102)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا مِمَّا قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ أَنَّ وَلَدَ الِابْنِ يَقُومُونَ مَقَامَ وَلَدِ الصُّلْبِ إِذَا عُدِمَ وَلَدُ الصُّلْبِ فِي فَرْضِ النِّصْفِ لِإِحْدَاهُنَّ وَالثُّلُثَيْنِ لِمَنْ زَادَ وَفِي مُقَاسَمَةِ إِخْوَتِهِنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَفِي حَجْبِ الْأُمِّ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ إِلَّا مُجَاهِدًا فَإِنَّهُ خَالَفَ فِي الْحَجْبِ بِهِمْ وَوَافَقَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ وَهُوَ مَعَ دَفْعِ قَوْلِهِ بِالْإِجْمَاعِ مَحْجُوجٌ بِمُوَافَقَتِهِ عَلَى مَا سِوَى الْحَجْبِ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ فِي الْحَجْبِ ثُمَّ إِذَا كَانَتْ بِنْتُ الِابْنِ تَقُومُ مَقَامَ بنت الصلب عند عدمها كانت بنت الِابْنِ مَعَهَا فِي اسْتِحْقَاقِ السُّدُسِ قَائِمَةً مَقَامَ بِنْتِ الِابْنِ مَعَ ابْنَةِ الصُّلْبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ ابْنُ بَعْضِهِنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ فَتَنْزِيلُهُنَّ أَنَّ الْعُلْيَا مِنْهُنَّ هِيَ بِنْتُ ابْنٍ وَالْوُسْطَى هِيَ بِنْتُ ابْنِ ابْنٍ وَالسُّفْلَى مِنْهُنَّ هِيَ بِنْتُ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلْوُسْطَى السُّدُسُ وَتَسْقُطُ السُّفْلَى فَإِنْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى أَخُوهَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ النِّصْفِ وَالسُّدُسِ بَيْنَ السُّفْلَى وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى ابْنُ عَمِّهَا كَانَ فِي دَرَجَتِهَا وَعَصَّبَهَا فَأَخَذَ الْبَاقِي مَعَهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ الْوُسْطَى ابْنُ أَخِيهَا فَهُوَ فِي دَرَجَةِ السُّفْلَى فَيُعَصِّبُهَا فِيمَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى ابْنُ أَخِيهَا وَكَانَ أَسْفَلَ مِنْهَا بِدَرَجَةٍ فَيُعَصِّبُهَا أَيْضًا فِيمَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ وَلَدَ الِابْنِ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَمَنْ عَلَا عَمَّاتِهِ اللَّاتِي لَيْسَ لَهُنَّ فَرْضٌ مُسَمًّى وَيُعَصِّبُ مَنْ كَانَ فِي دَرَجَتِهِ وَإِنْ كَانَ لَهَا فَرْضٌ مُسَمًّى فَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ مَعَ السُّفْلَى مِنْهُنَّ أَخُوهَا أَوِ ابْنُ عَمِّهَا أَوِ ابْنُ أَخِيهَا فَلِلْعُلْيَا النِّصْفُ وَلِلثَّانِيَةِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالذَّكَرُ الَّذِي فِي دَرَجَةِ السُّفْلَى أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ تَرَكَ بِنْتَيِ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنِ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ مَعَهَا أَخُوهَا كَانَ لِبِنْتَيِ الِابْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي بَيْنَ بِنْتِ ابْنِ الِابْنِ وَبَيْنَ بِنْتِ ابْنِ ابْنِ الِابْنِ وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ بِنْتَيِ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ يسقط فرض من بعدهما ويأخذ الْبَاقِي بِمُشَارَكَةِ الذَّكَرِ الَّذِي فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ بِالتَّعْصِيبِ فَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ صُّلْبٍ وَثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ كَانَ لِبِنْتِ الصُّلْبِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ الْعُلْيَا السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَسَقَطَتِ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ فَإِنْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى أَخُوهَا أَوِ ابْنُ عَمِّهَا أَوِ ابْنُ أَخِيهَا عَصَّبَهَا وَعَصَّبَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ أَعْلَى مِنْهَا وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ النِّصْفِ وَالسُّدُسِ بَيْنَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَأَخِيهَا أَوِ ابْنِ أَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين فلو ترك بنات ابن بعضهن أسفل من بعض مع كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَخُوهَا كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَ الْعُلْيَا وَأَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَسَقَطَ مَنْ بَعْدَهُمَا فَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ الثَّلَاثِ ابْنُ أَخِيهَا كَانَ لِلْعُلْيَا مِنْهُنَّ النِّصْفُ لِأَنَّ ابْنَ أَخِيهَا فِي دَرَجَةِ الْوُسْطَى وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ نِصْفِهَا لِلْوُسْطَى وَابْنِ أَخِي الْعُلْيَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ الثُّلَاثِ ابْنُ عَمِّهَا كَانَ كَالْأَخِ لِأَنَّهُ فِي دَرَجَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَيَكُونُ المال كله بين العليا وبين ابن عَمِّهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ كَانَ مع كل واحدة من بنات الابن الثلاث خَالُهَا فَخَالُ بَنَاتِ الِابْنِ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَلَوْ كَانَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَمُّ ابْنِ أَخِيهَا فَهُوَ أَخُوهَا فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَ العليا وعم(8/103)
ابْنِ أَخِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ كان مع العليا ثلاث بنات أعمام مفترقين ومع السفلى ثلاثة بنات أعمام متفرقين.
فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا كَانَ لِلْعُلْيَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا الثُّلُثَانِ وتسقط بنت عمها لأنها بنت أم الْمَيِّتِ وَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَ الْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَابْنِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَابْنِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَيَسْقُطُ ابْنُ عَمِّ السُّفْلَى لِأُمِّهَا وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً كَانَ الثُّلُثَانِ بَيْنَ الْعُلْيَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَبِنْتِ عَمِّهَا لِأُمِّهَا وَتَسْقُطُ بِنْتُ عَمِّهَا لِأَبِيهَا لِأَنَّهَا بِنْتُ زَوْجِ الْمَيِّتَةِ فَلَوْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا ثَلَاثُ عَمَّاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَمَعَ السُّفْلَى عَمٌّ وَعَمَّةُ ابن أخيها وخال وخالة ابن أخيها فإن كان الميت رجلا فلعمته الْعُلْيَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَعَمَّتِهَا لِأَبِيِهَا الثُّلُثَانِ لِأَنَّهَا بنت الميت ولا شيء لعمتها لِأُمِّهَا لِأَنَّهَا بِنْتُ امْرَأَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً فَلِعَمَّتِهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا وَعَمَّتِهَا لِأُمِّهَا الثُّلُثَانِ وَلَا شَيْءَ لِعَمَّتِهَا لِأَبِيهَا لِأَنَّهَا بِنْتُ زَوْجِ الْمَيِّتَةِ ثُمَّ يَكُونُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا بَيْنَ الْعُلْيَا وَالْوُسْطَى وَالسُّفْلَى وَعَمٍّ وَعَمَّةِ ابْنِ أَخِيهَا وَخَالٍ وَخَالَةِ ابْنِ أخيها لِأَنَّ كُلَّ هَؤُلَاءِ فِي دَرَجَتِهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا جَمِيعُ مسائل هذا الفصل.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَبَنُو الْإِخْوَةِ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنِ الثُلُثِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ بِخِلَافِ آبَائِهِمْ وَإِنْ حَجَبَهَا وَلَدُ الْوَلَدِ كَآبَائِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَنِي الْإِخْوَةِ وَبَيْنَ بَنِي الِابْنِ فِي الْحَجْبِ من ثلاثة أوجه.
أحدهما: أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْإِخْوَةِ وَبَنِي الِابْنِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمُ اسْمَ الِابْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَمَّا ضَعُفُوا عَنْ تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ بِخِلَافِ آبَائِهِمْ ضَعُفُوا عَنْ حَجْبِ الْأُمِّ بِخِلَافِ آبَائِهِمْ وَبَنُو الِابْنِ لَمَّا قَوُوا عَلَى تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ كَآبَائِهِمْ قَوُوا عَلَى حَجْبِ الْأُمِّ كَآبَائِهِمْ
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْوَلَدَ أَقْوَى فِي الحجب من الإخوة لأنهم يحجبون مع الأم الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ فَكَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ أقوى في الحجب من أولاد الإخوة والله تعالى أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَرِثُونَ مَعَ الْجَدِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ إِجْمَاعٌ لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْجَدِّ وإن ورث معه آبائهم لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَدَّ أَقْرَبُ إِلَى أَبِ الْمَيِّتِ مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِمِيرَاثِهِ مَنْ بَنِي الْإِخْوَةِ.(8/104)
وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَدَّ كَالْإِخْوَةِ فِي الْمُقَاسَمَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ مَعَهُ بَنُو الْإِخْوَةِ كَمَا يَسْقُطُونَ بالإخوة.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِوَاحِدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ السُّدُسُ وللاثنين فصاعدا الثلث ذكرهم وأنثاهم فيه سواء ".
قال المارودي: وَهَذَا كَمَا قَالَ: فَرْضُ الْوَاحِدِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَقْرَأُ وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ فَإِنْ كَانُوا اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَفَرْضُهُمُ الثُّلُثُ نَصًّا وَإِجْمَاعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] ثم يستوي فيه ذكورهم وإناثهم وروى ابن عباس رواية شاذة أنهم يقسمون الثُّلُثَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قِيَاسًا عَلَى وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ في الشيء يوجب التَّسَاوِي إِلَّا أَنْ يَرِدَ نَصٌّ بِالتَّفَاضُلِ وَلِأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمِّ يَرِثُونَ بِالرَّحِمِ وَالْأَبَوَانِ إِذَا وَرِثَا فَرْضًا بِالرَّحِمِ تَسَاوَيَا فِيهِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسًا مِثْلَ سُدُسِ صَاحِبِهِ كَذَلِكَ ولد الأم لميراثهم بالرحم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثلُثَانِ فإذا استوفى الأخوات للأب والأم الثلثين فلا شيء للأخوات للأب إلا أن يكون معهن أخ فيكون له ولهن ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين فإن لم يكن إلا أخت واحدة لأب وأم وأخت أو أخوات لأب فللأخت للأب والأم النصف وللأخت أو الأخوات للأب السدس تكملة الثلثين وإن كان مع الأخت أو الأخوات للأب والأم أخ لأب فلا سدس لهن ولهن وله مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ كان مع الأخوات للأب والأم أخ للأب والأم فلا نصف ولا ثلثين ولكن المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وتسقط الإخوة والأخوات للأب الإخوة وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ للأب والأم إلا في فريضة وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأب وأم فيكون للزوم النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ ويشاركهم الإخوة للأب والأم في ثلثهم ذكرهم وأنثاهم سواء فإن كان معهم إخوة لأب لم يرثوا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: حُكْمُ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ حُكْمُ بَنَاتِ الصُّلْبِ وَحُكْمُ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ حُكْمُ بَنَاتِ الِابْنِ فَفَرْضُ الْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَفَرْضُ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ إِجْمَاعًا وَوَافَقَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنْ خَالَفَ فِي الثلثين لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مما ترك} [النساء: 176] فإن كَانَ مَعَ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَخٌ لِأَبٍ وأم سقط به فرضهن وكان المال بينهن لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ(8/105)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ قَامَ الْأَخَوَاتُ مِنَ الأب مقامهن كما يقوم بنات الابن مقام بنات الصلب عند عدمهم فيكون للأخت الواحدة للأب النصف وللاثنين فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ سَقَطَ فَرْضُهُنَّ وَعَصَّبَهُنَّ فَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين.
فصل:
فإن كانت أُخْت لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْت لِأَبٍ أَوْ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ أَوِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ كبنت الصلب وبنت ابن فَلَوْ كَانَ مَعَ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ ذَكَرٌ لَمْ يُفْرَضْ لَهُنَّ السُّدُسُ وَكَانَ مَا بَعْدَ النِّصْفِ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُعْطِي الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ مَعَ الذَّكَرِ أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ السُّدُسِ أَوِ الْمُقَاسَمَةِ لأن لا يَزِيدَ فَرْضُ الْأَخَوَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ كَمَا قَالَ فِي بِنْتِ الِابْنِ إِذَا شَارَكَهَا أَخُوهَا مَعَ الْبِنْتِ وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا أَبُو ثَوْرٍ وَخَالَفَهُ دَاوُدُ فِي الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي بنات الابن وفيما قد بيناه عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُقْنِعٌ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ كَانَ لِلْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ إذا لم يكن معها ذكرا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُفْرَضُ لَهَا السُّدُسُ كَمَا يُفْرَضُ لَهَا إِذَا انْفَرَدَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وهذا يقول في بنت الابن مع بنت الصُّلْبِ يُفْرَضُ لَهَا السُّدُسُ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ فَرْضَ الْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ لَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَإِذَا انْفَرَدَتِ الْأُخْتُ الْوَاحِدَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِالنِّصْفِ فُرِضَ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ لِبَقَائِهِ مِنْ فَرْضِهِنَّ.
فَصْلٌ:
فَلَوْ كَانَ مَعَ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أُخْتٌ لِأَبٍ مَعَهَا أَخُوهَا كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ بَيْنَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأَخِ لِلْأَبِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَكُونُ الْبَاقِي لِلْأَخِ لِلْأَبِ دُونَ الْأُخْتِ كما يجعل الباقي بعد بنتي الصلب لأن الابن دون أخته لأن لا يَزِيدَ فَرْضُ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَقَدْ مضى الدليل.
فَصْلٌ:
فَلَوْ تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لأب وابن أخ لأب كان لِلْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ لِاسْتِكْمَالِ الثُّلُثَيْنِ بِالْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَلَا يُعَصِّبُ ابْنُ الْأَخِ فِيهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا فِي بَنَاتِ الِابْنِ لِأَنَّ ابْنَ الْأَخِ لَمَّا ضَعُفَ عَنْ تَعْصِيبِ أُخْتِهِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْعُفَ عَنْ تَعْصِيبِ عَمَّتِهِ وليس كذلك أولاد البنين لأن الذكور مِنْهُمْ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ فَجَازَ أَنْ يُعَصِّبَ عَمَّتَهُ والله أعلم.
فَصْلٌ:
وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ يَقُومُونَ مَقَامَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهِمْ إِلَّا فِي مسألة المشتركة وهي زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ وَأَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ يُشَارِكُهُمْ فِيهِ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْإِخْوَةِ للأب والأم إخوة لأب لَا يُشَارِكُونَ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ لِعَدَمِ إِدْلَائِهِمْ بِالْأُمِّ والله أعلم.
فصل:
ثلاث أخوات متفرقات مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَخٌ لِأَبٍ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ وَأَخُوهَا أَجْنَبِيٌّ، وَأَمَّا الْأُخْتُ مِنَ الأب فيحتمل أن يكون أخاها لِأَبِيهَا أَخَا الْمَيِّتِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ(8/106)
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ فَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فَإِنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ سُدُسِ الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَسَقَطَتِ الأخت من الأب وأخوا الأخت من الأب والأم النصف وكان الباقي بين الأخت وأخيها وأخي الأخت من الأب والأم وابنها للذكر مثل حظ الأنثيين لأن كلهم إخوة وأخوات لأب
فصل:
ثلاث أخوات متفرقات مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَخٌ لِأُمٍّ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ أَخُوهَا لِأُمِّهَا أَجْنَبِيٌّ وَالْأُخْتُ مِنَ الْأُمِّ أخوها لأمها يحتمل أن يكون أخا الميتة لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ فَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ كَانَ لِلْأُخْتِ من الأم وأخت الأخت من الأب والأم الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَأَخِي الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ لِأَنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ وَإِنْ كَانَ أَخًا لِأُمٍّ كَانَ الثُّلُثُ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ وَأَخِيهَا من أمها وأخي الأخت للأب والأم من الأمر أَثْلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ لِأُمٍّ وَكَانَ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ للأب السدس.
فصل:
ثلاث أخوات متفرقات مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ وَأَخِيهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَأَخِيهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَأَخُوهَا والله أعلم.
فَصْلٌ:
أُخْتٌ لِأَبٍ مَعَهَا ثَلَاثَةُ بَنِي إِخْوَةٍ متفرقين أَمَّا ابْنُ أَخِيهَا لِأُمِّهَا فَأَجْنَبِيٌّ وَأَمَّا ابن أخيها لأبيها وأمها فابن أخ لابن وَأَمَّا ابْنُ أَخِيهَا لِأَبِيهَا فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رجلا احتمل ثلاثة أوجه:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ ابْنَ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ الْمَالُ كُلُّهُ لَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيَكُونُ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لَهُ وَسَقَطَ ابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ فَيَكُونُ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بينه وبين ابن الأخ للأب لأن كلاهما وَلَدُ أَخٍ لِأَبٍ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ نِصْفِ الْأُخْتِ لَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ أَخٍ لِأَبٍ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ ابْنُ أَخٍ لِأَبٍ وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ الْمَيِّتَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ أُخْتِ الْمَيِّتَةِ ابْنُ أَخٍ وَلَيْسَ ابن أخت والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِلْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ مَا بَقِيَ إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ وَيُسَمَّيْنَ بِذَلِكَ عَصَبَةَ الْبَنَاتِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْأَخَوَاتُ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ لَا يُفْرَضُ لَهُنَّ وَيَرِثْنَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الْبَنَاتِ فَإِنْ كَانَ بِنْتٌ وَأُخْتٌ فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَإِنْ كَانَ بِنْتَانِ وَأُخْتٌ فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ وَلَوْ كَانَ مَعَ الْبِنْتَيْنِ عَشْرُ أَخَوَاتٍ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلَثَيْنِ بَيْنَ الْأَخَوَاتِ بِالسَّوِيَّةِ سَوَاءٌ كان لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ وَبِهَذَا قَالَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بِخِلَافِهِمْ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي تَفَرَّدَ بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيهَا فَأَسْقَطَ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا حَتَّى(8/107)
أَخْبَرَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ مُعَاذًا قَضَى بِالْيَمَنِ فِي بِنْتٍ وَأُخْتٍ جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَيٌّ فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِنْ كَانَ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ غَيْرُ الْأَخَوَاتِ كَالْأَعْمَامِ وَبَنِي الْإِخْوَةِ سَقَطَ الْأَخَوَاتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ غَيْرُ الْأَخَوَاتِ صِرْنَ إِذَا انْفَرَدْنَ مَعَهُنَّ عَصَبَةً يَأْخُذْنَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِهِنَّ وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الأخت مع البنت النصف فقال أأنتم أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لَهَا النِّصْفُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رجل ذَكَرٍ " وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ لَكَانَتْ عَصَبَةً تَسْتَوْجِبُ جَمِيعَ الْمَالِ فِي الِانْفِرَادِ كَالْإِخْوَةِ وَفِي إِبْطَالِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعْصِيبِهِنَّ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَوَرِثَ وَلَدُهَا كَمَا يَرِثُ وَلَدُ الْأَخِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَعُقِلَتْ وَزُوِّجَتْ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَمَاعَةُ قَوْله تَعَالَى: {للرجل نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 32] فَكَانَ عَلَى عمومه.
وروى الأعمش عن ابن قيس عن هذيل بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فَسَأَلَهُمَا عَنْ بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم فقالا للبنت النصف والباقي للأخت فأت ابْنَ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ سَيُوَافِقُنَا فَأَتَاهُ الرَّجُلُ فَسَأَلَهُ وَأَخْبَرَه بِقَوْلِهِمَا فَقَالَ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذَنْ وَمَا أنا من المهتدين ولكن سَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ " وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ الْأَخَوَاتِ لَمَّا أَخَذْنَ الْفَاضِلَ عَنْ فَرْضِ الزَّوْجِ وَتَقَدَّمْنَ بِهِ عَلَى بَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ كَالْإِخْوَةِ أَخَذْنَ الْفَاضِلَ عَنْ فَرْضِ الْبَنَاتِ وَتَقَدَّمْنَ بِهِ عَلَى بَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ كَالْإِخْوَةِ وَلِأَنَّ لِلْأَخَوَاتِ مُدْخَلًا فِي التَّعْصِيبِ مَعَ الْإِخْوَةِ فَكَانَ لَهُمْ مُدْخَلٌ فِي التَّعْصِيبِ مَعَ الْبَنَاتِ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ وَلِأَنَّ الْإِخْوَةَ أَقْوَى تَعْصِيبًا مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ فَلَمَّا لَمْ تَسْقُطِ الْأُخْتُ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْفَاضِلِ بَعْدَ فَرْضِ البنات فأولى أن لا يسقط مَعَ بَنِي الْإِخْوَةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ مَنَعَتْ مِنْ إِعْطَائِهَا فَرْضًا ونحن نعطيها تعصيبا وأما الخير فعموم خص مِنْهُ الْأَخَوَاتِ بِدَلِيلِ أَخْذِهِنَّ مَعَ عَدَمِ الْبَنَاتِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَأَخَذَتْ جَمِيعَ الْمَالِ إِذَا انْفَرَدَتْ وَلَكَانَ وَلَدُهَا وَارِثًا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً مَعَ الْإِخْوَةِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَصَبَةً لَعُقِلَتْ وَزُوِّجَتْ وَوَرِثَتْ فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْ مِيرَاثِهَا مَعَ الْبَنَاتِ لَمَنَعَ مِنْ مِيرَاثِهَا مَعَ عَدَمِ الْبَنَاتِ ثُمَّ قَدْ نجد الْعَصَبَاتِ يَنْقَسِمُونَ ثَلَاثَةَ(8/108)
أَقْسَامٍ قِسْمٌ يَعْقِلُونَ وَيُزَوِّجُونَ وَهُمُ الْأَعْمَامُ وَالْإِخْوَةُ وَقِسْمٌ لَا يُزَوِّجُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ وَهُمُ الْبَنُونَ وَقِسْمٌ يُزَوِّجُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ وَهُمُ الْآبَاءُ ثُمَّ جَمِيعُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَقْلِ وَالتَّزْوِيجِ وَارْثٌ بالتعصيب وكذلك الأخوات.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلِلْأَبِ مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ السُّدُسُ فَرِيضَةً وما بقي بعد أهل الْفَرِيضَةِ فَلَهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ فَإِنَّمَا هُوَ عَصَبَةٌ لَهُ الْمَالُ ".
قال الماوردي: وهذا كما قال: للأب في ميراثه ثلاثة أَحْوَالٍ:
حَالٌ يَرِثُ فِيهَا بِالتَّعْصِيبِ وَذَلِكَ مَعَ عدم الولد وولد الابن فإن لم يكن معه ذوو فَرْضٍ لَا يَسْقُطُ بِالْأَبِ كَالْأُمِّ أَخَذَتِ الْأُمُّ فَرْضَهَا كَامِلًا إِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا الْإِخْوَةُ وَهُوَ الثلث وكان الباقي للأب لقوله تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبَاقِي لِلْأَبِ وَإِنْ حَجَبَ الْأُمَّ إِخْوَةٌ كَانَ لَهَا السُّدُسُ وَكَانَ الْبَاقِي بعد سدس الأم للأب لقوله تعالى: {وإن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْهُ يَجْعَلُ السدس للذي حَجَبَهُ الْإِخْوَةُ عَنِ الْأُمِّ لَهُمْ وَلَا يَرُدُّهُ عَلَى الْأَبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ، فَلَوْ كَانَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ فَهَذِهِ حَالٌ.
فصل:
والحال الثانية: أن يرث الفرض وَحْدَهُ وَذَلِكَ مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ فيأخذ السُّدُس قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] وَإِنْ كَانَ مَعَهُ ابْنٌ لَمْ يَأْخُذِ السُّدُسَ إِلَّا كَامِلًا فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ والباقي للابن ولو كان معها زَوْجٌ كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْبَنَاتِ فَقَدْ يَأْخُذُ السُّدُسَ تَارَةً كَامِلًا وَتَارَةً عَائِلًا فَالْكَامِلُ يَأْخُذُهُ فِي أَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ فَيَكُونُ لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْعَائِلُ جَدَّةٌ وَزَوْجٌ وَأَبٌ وَبِنْتَانِ أَوْ زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَبِنْتَانِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَبِ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَتَعُولُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَفِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَتَعُولُ إلى سبعة وعشرين وهذه هي المسألة الْمِنْبَرِيَّةُ سُئِلَ عَنْهَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَبَدْأَهُ السَّائِلُ فَسَأَلَهُ عَنْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَبِنْتٍ فَقَالَ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى مِنْبَرِهِ فَعَادَ السَّائِلُ فَقَالَ: كَانَ مَعَ الْبِنْتِ أُخْرَى فَقَالَ: صَارَ ثُمُنُهَا تُسْعُهَا لِأَنَّهَا لَمَّا عَالَتْ صَارَ الثُّمُنُ ثَلَاثَةً مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَذَلِكَ التُّسْعُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الثُّمُنُ وَهَذَا مِنْ أحسن جواب صدر عن سرعة وإنجاز فسميت لأجل ذلك المنبرية فهذه حال ثَانِيَةٌ.
فَصْلٌ:
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرِثَ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ وَذَلِكَ مَعَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ كأبوين وبنت فللأبوين السُّدُسَانِ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ بِالتَّعْصِيبِ أَوْ أَبٌ وَبِنْتَانِ فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ أَوْ بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ وَأَبٍ فَيَكُونُ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي لِلْأَبِ وَالْجَدُّ أبو الأب(8/109)
يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا في ميراثه بالتعصيب تارة وبالفرض أخرى وَبِهِمَا مَعًا فِي أُخْرَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ اللذين يَحْجُبُهُمُ الْأَبُ إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ وَلِذَلِكَ بَابٌ يُسْتَوْفى فيه بعد.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وللجدة والجدتين السدس ".
قال الماوردي: الأصل فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ السُّنَّةُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا في كتاب الله عز وجل فَرْضٌ مُسَمًّى رَوَى عُثْمَانُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خَرَشَةَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ مَا لَكِ فِي كِتَابِ الله عز وجل شَيْءٌ وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئًا فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ فَسَأَلَ النَّاسَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ جَاءَتِ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى إِلَى عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلَّا لِغَيْرِكِ وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ في الفرائض ولكن هو ذلك السدس فإن اجتمعتما فيه فَهُوَ بَيْنَكُمَا وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فِهُوَ لَهَا وَحُكِيَ أَنَّ الْجَدَّةَ الَّتِي وَرَّثَهَا أَبُو بَكْرٍ أُمُّ الْأُمِّ وَالْجَدَّةَ الَّتِي جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ فَتَوَقَّفَ عَنْهَا أُمُّ الْأَبِ فَقَالَتْ أَوْ قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَّثْتُمُ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا وَلَا تُوَرِّثُونَ مَنْ لَوْ مَاتَتْ وَرِثَهَا فَحِينَئِذٍ وَرَّثَهَا عُمَرُ وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أم وأجمعوا عَلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّاتِ وَأَنَّ فَرْضَ الْوَاحِدَةِ وَالْجَمَاعَةِ منهن السدس لا ينقصن منه ولا يزيدن عَلَيْهِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْجَدَّةِ الثُّلُثَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرِثُ فِيهِ الْأُمُّ الثُّلُثَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْجَدَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ إِذَا لَمْ تَكُنْ أُمٌّ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذَا مَذْهَبًا لِابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَذْهَبًا وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ فِي الْمِيرَاثِ لَا فِي قَدْرِ الْفَرْضِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَّثَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ وَهُوَ لَا يُخَالِفُ مَا رَوَاهُ وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي إِعْطَائِهَا السُّدُسَ مَعَ سُؤَالِ النَّاسِ عَنْ فَرْضِهَا وَرِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَبُولِ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَعَ الْعَمَلِ بِهِ إِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ لَا يَسُوغُ خِلَافُهُ وَرَوَى قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: جَاءَتْ جَدَّتَانِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَعْطَى الَّتِي مِنْ قبل الأم السدس فقال عبد الله بن شرحبيل أَخُو بَنِي حَارِثَةَ: يَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ وَرَّثْتَ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا فجعله أبو بكر بينهما والله أعلم.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْضَ الْجَدَّةِ أَوِ الْجَدَّاتِ السُّدُسُ فَالْجَدَّةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ أُمُّ الْأُمِّ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ فِيهَا مُتَحَقِّقَةٌ وَالِاسْمُ فِي الْعُرْفِ عَلَيْهَا مُنْطَلِقٌ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ هَلْ هِيَ جَدَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْ بِالتَّقْيِيدِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ جَدَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْضًا كَأُمِّ الْأُمِّ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هِيَ جَدَّةٌ بِالتَّقْيِيدِ وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَنْ سَأَلَ عَنْ مِيرَاثِ جَدَّةٍ هَلْ يَسْأَلُ عَنْ أَيِّ(8/110)
الجدتين أراد أم لا فقال: من جعلهما جَدَّةً عَلَى الْإِطْلَاقِ إِنَّهُ لَا يُجَابُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ أَيِّ الْجَدَّتَيْنِ أَرَادَ وَقَالَ مَنْ جَعَلَهَا جَدَّةً بِالتَّقْيِيدِ إِنَّهُ يُجَابُ عَنْ أُمِّ الْأُمِّ حَتَّى يَذْكُرَ أَنَّهُ أَرَادَ أُمَّ الْأَبِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهَا يَخْتَلِفُ فِي الْفَرِيضَةِ بِوُجُودِ الْأَبِ الَّذِي يَحْجُبُ أُمَّهُ لَمْ يُجِبْ عَنْ سُؤَالِهِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ أي الجدتين سأل وإن كان ميراثها لَا يَخْتَلِفُ أُجِيبَ وَلَمْ يَسْأَلْ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدٍ مَنَ يَرِثُ مِنَ الْجَدَّاتِ فَقَالَ مَالِكٌ لَا أُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ جَدَّتَيْنِ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْأَبِ وَأُمَّهَاتِهِمَا وَإِنْ عَلَوْنَ وَلَا أُوَرِّثُ أُمَّ الْجَدِّ وَإِنِ انْفَرَدَتْ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَدَاوُدُ وَرَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ اسْتِدْلَالًا بِقَضِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَوْرِيثِ جَدَّتَيْنِ وَكَمَا لَا يَرِثُ أَكْثَرُ مِنْ أَبَوَيْنِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَا أُوَرِّثُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ جَدَّاتٍ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْعَمَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ قَالَ مَنْصُورٌ فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ مَنْ هُنَّ فَقَالَ جَدَّتَا الْأَبِ أُمُّ أَبِيهِ وَأُمُّ أُمِّهِ وَجَدَّةُ الْأُمِّ أُمُّ أُمِّهَا.
وَذَهَبُ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة إِلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ لِاشْتِرَاكِهِنَّ في الولادة ومحادتهن فِي الدَّرَجَةِ وَتَسَاوِيهِنَّ فِي الْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثُ تُوجَدُ فِيهِنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ.
فَأَمَّا تَوْرِيثُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا الْجَدَّتَيْنِ فَإِنَّمَا وَرَّثَا مَنْ حَضَرَهُمَا مِنَ الْجَدَّاتِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُمَا مَنْعُ مَنْ زَادَ عَلَيْهِمَا وَهَكَذَا الْمَرْوِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه أطعم ثلاث جدات ولا يَمْنَعُ مِنْ إِطْعَامِ مَنْ زَادَ عَلَيْهِنَّ وَلَيْسَ بممتنع أَنْ يُوَرِّثَ أَكْثَرَ مِنْ أَعْدَادِ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُنَّ يَكْثُرْنَ إِذَا عَلَوْنَ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُنَّ يَرِثْنَ وَإِنْ كَثُرْنَ فَلَا مِيرَاثَ مِنْهُنَّ لِأُمِّ أَبِي الْأُمِّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سيرين أم أبي الأم وراثة وإن أدلت بذكر لا يرث لِمَا فِيهَا مِنَ الْوِلَادَةِ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ بَلَغَهُ أَنَّ أربع جدات ترافعن إِلَى مَسْرُوقٍ فَوَرَّثَ ثَلَاثًا وَأَطْرَحَ وَاحِدَةً هِيَ أُمُّ أَبِي الْأُمِّ فَقَالَ أَخْطَأَ أَبُو عَائِشَةَ لها السُّدُسُ لِلْجَدَّاتِ طُعْمَةً وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة إِلَى أَنَّ أُمَّ أَبِي الْأُمِّ لَا تَرِثُ وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين لإدلائهما بِمَنْ لَا يَرِثُ وَقَدْ تَمَهَّدَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ حُكْمَ الْمُدْلَى بِهِ أَقْوَى فِي الْمِيرَاثِ مِنْ حُكْمِ الْمُدْلِي لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ يَرِثْنَ وَلَا يَرِثُ مَنْ أَدْلَى بِهِنَّ وَلَيْسَ يُوجَدُ وَارِثٌ يُدْلِي بِغَيْرِ وَارِثٍ فَلَمَّا كَانَ أَبُو الْأُمِّ غَيْرَ وَارِثٍ كَانَتْ أُمُّهُ الَّتِي أَدْلَتْ بِهِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ غَيْرَ وَارِثَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ قَرُبَ بَعْضُهُنَّ دُونَ بَعْضٍ فَكَانَتِ الْأَقْرَبَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فِهِيَ أَوْلَى وَإِنْ كَانَتِ الأبعد شاركت في السدس وأقرب اللائي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ تَحْجُبُ بُعْدَاهُنَّ وَكَذَلِكَ تَحْجُبُ أقرب اللائي من قبل الأم بعداهن ".(8/111)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَحَاذَى الجدات في الزوج ورث جميعهن إلا التي تدلى بأبي الْأُمِّ فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ دَرَجَتُهُنَّ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَوْرِيثِهِنَّ فَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ وَرَّثَ الْقُرْبَى دُونَ الْبُعْدَى، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وأبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ وَدَاوُدُ بن علي، وقد حكاه الكوفيون والشعبي وَالنَّخَعِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَرَّثَ الْقُرْبَى والبعدى إلا أن يكون إِحْدَاهُمَا أُمُّ الْأُخْرَى، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحَكَى الْحِجَازِيُّونَ عَنْ سَعِيدِ بن المسيب وعطاء وخارجة بن زيد عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَهُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ إِنْ كَانَتِ الَّتِي مِنْ قبل الأب أَقْرَبَ فَالسُّدُسُ لها وَسَقَطَتِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَإِنْ كَانَتِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَقْرَبَ فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ الْقُرْبَى دُونَ الْبُعْدَى بِأَنَّ اشْتِرَاكَ مَنْ تَسَاوَتْ دَرَجَتُهُمْ فِي الْمِيرَاثِ تُوجِبُ سُقُوطَ أَبْعَدِهِمْ عَنِ الْمِيرَاثِ كَالْعَصَبَاتِ وَاسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ الْقُرْبَى وَالْبُعْدَى بِأَنَّ الْجَدَّاتِ يَرِثْنَ بِالْوِلَادَةِ كَالْأَجْدَادِ فَلَمَّا كَانَ الْجَدُّ الْأَبْعَدُ مُشَارِكًا للجد الْأَقْرَبِ فِي مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ كَانَتِ الْجَدَّةُ الْبُعْدَى مُشَارِكَةً لِلْجَدَّةِ الْقُرْبَى فِي الْفَرْضِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هُوَ أَنَّ الجدات يرثن بالولادة كالأب فَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ تُسْقِطُ جَمِيعَ الْجَدَّاتِ وَإِنْ كُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لِقُرْبِهَا وَبُعْدِهِنَّ وَلَا يسقط الأب ومن بَعُدَ مِنْ جَدَّاتِ الْأُمِّ مَعَ قُرْبِهِ وَبُعْدِهِنَّ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْقُرْبَى مِنْ جَدَّاتِ الْأُمِّ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جَدَّاتِ الْأَبِ كَالْأُمِّ وَلَا تَكُونُ الْقُرْبَى مِنْ جَدَّاتِ الْأَبِ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جَدَّاتِ الْأُمِّ كَالْأَبِ وَهَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ.
فصل:
وإذا قَدْ وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ الْجَدَّاتِ فسنصف دَرَجَتَهُنَّ لِيُعْرَفَ بِهِ الْوَارِثَاتُ مِنْهُنَّ فَأَوَّلُ دَرَجَتِهِنَّ جدتان متحاذيتان وارثتان أحدهما أم الأم والأخرى أم الأب ثم جَدَّاتٌ وَارِثَاتٌ فُضَّلْنَ مِنْ أَرْبَعِ جَدَّاتٍ بَعْدَ ثَلَاثِ دُرَجٍ.
إِحْدَاهُنَّ: مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَهِيَ أُمُّ أُمِّ الْأُمِّ وَاثْنَتَانِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إحداهما أم أم الأب والأخرى أم أبي الْأَبِ وَتَسْقُطُ الرَّابِعَةَ وَهِيَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ لأنها أم أبي الْأُمِّ ثُمَّ أَرْبَعُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ يَرِثْنَ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِي جَدَّاتٍ بَعْدَ أَرْبَعِ دُرَجٍ وَاحِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَهِيَ أُمُّ أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَثَلَاثٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إِحْدَاهُنَّ أُمُّ أم أم الأب والأخرى أم أم أبي أب والأخرى أم أبي أبي الْأَبِ ثُمَّ خَمْسُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ يَرِثْنَ مِنْ جُمْلَةِ سِتَّ عَشْرَةَ جَدَّةً بَعْدَ خَمْسِ دُرَجٍ واحدة من قبل الأم وهي أم أم أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَأَرْبَعٍ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ إِحْدَاهُنَّ أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمِّ الْأَبِ وَالْأُخْرَى أم أم أب أبي الأب والأخرى أم أبي أبي أبي الْأَبِ ثُمَّ تَرِثُ سِتُّ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ مِنْ جملة اثنين وَثَلَاثِينَ جَدَّةً وَتَرِثُ سَبْعُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ جَدَّةً وَتَرِثُ ثَمَانِي جَدَّاتٍ متحاذيات من جملة مائة وثمانية وَعِشْرِينَ جَدَّةً وَلَيْسَ فِي الْوَارِثَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إِلَّا وَاحِدَةٌ وَالْبَاقِيَاتُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لِأَنَّ الْأُمَّ لَا يَخْلُصُ مِنْ جَدَّاتِهَا مَنْ لا يدلى بأبي أُمٍّ وَلَا يَكُونُ دُونَهَا أُمٌّ إِلَّا وَاحِدَةً فلذلك لم يرث مِنْ جَدَّاتِهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ وَتَكْثُرُ الْوَارِثَاتُ مِنْ قبل الأب لأنهن أمهات الأجداد اللائي لَيْسَ دُونَهُنَّ أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَزِيدَ فِي الْجَدَّاتِ الْوَارِثَاتِ وَاحِدَةً(8/112)
صعدت إلى درجة هي أعلى ليحصل لَكَ أُمُّ جَدٍّ أَعْلَى وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلا بتضاعيف أعدادهن لتزيد لك وَارِثَةٌ مِنْهُنَّ تَسْلَمُ مِنَ الشُّرُوطِ الْمَانِعَةِ مِنْ ميراثهن فإذا كانت الْوَارِثَاتُ سِتَّةً مُتَحَاذِيَاتٍ فَوَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إِلَى سِتِّ دُرَجٍ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَخَمْسٌ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَاحِدَةٍ هِيَ جَدَّةُ الْأَبِ إِلَى خَمْسِ دُرَجٍ مِنْ أُمَّهَاتِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: هِيَ جَدَّةُ الْجَدِّ إِلَى أَرْبَعِ دُرَجٍ مِنْ أُمَّهَاتِهِ.
والثالثة: هي جدة أبي الْجَدِّ إِلَى ثَلَاثِ دُرَجٍ مِنْ أُمَّهَاتِهِ.
وَالرَّابِعَةُ: هِيَ جَدَّةُ جَدِّ الْجَدِّ إِلَى دَرَجَتَيْنِ مِنْ أمهاته.
والخامسة: هي أم أبي جَدِّ الْجَدِّ بَعْدَ دَرَجَةٍ مِنْهُ فَتَصِيرُ الْخَمْسُ جَدَّاتٍ مُدْلِيَاتٍ بِخَمْسَةِ آبَاءٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّ أبي أُمٍّ فَتَصَوَّرْ ذَلِكَ تَجِدْهُ صَحِيحًا وَاعْتَبِرْهُ فِيمَا زَادَ تَجِدْهُ مُسْتَمِرًّا.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ دَرَجَتُهُنَّ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَوْرِيثِهِنَّ فعلى هذا أم أم وأم أم الأب فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ لِأُمِّ الْأُمِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ لَهُمَا ولو ترك أم أم أم وأم أم الأب وأم أب أبي الْأَبِ فَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَرِوَايَةِ الْكُوفِيِّينَ عَنْ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ لِأُمِّ أُمِّ الْأَبِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُهُنَّ دَرَجَةً وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ بَيْنَ ثَلَاثِهِنَّ وَعَلَى رِوَايَةِ الْحِجَازِيِّينَ عَنْ زَيْدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ هُوَ بَيْنَ أُمِّ أم الْأُمِّ وَأُمُّ أُمِّ الْأَبِ وَتَسْقُطُ أم أبي أبي الْأَبِ لِأَنَّهَا وَإِنْ سَاوَتِ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ فِي الدَّرَجَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْهَا أُمُّ أُمِّ الْأَبِ فَسَقَطَتْ بِهَا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ يَرِثْنَ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ إِذَا أَدْلَتْ بسببين وبولادة من جهتين كامرأة تزوج ابن ابنها بنت بِنْتِهَا فَإِذَا وُلِدَ لَهُمَا مَوْلُودٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ جدته من وجهين فكانت أم أبي أَبِيهِ وَأُمَّ أُمِّ أُمِّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مِنَ الْجَدَّاتِ غَيْرُهَا فَالسُّدُسُ لَهَا فَإِنْ كَانَتْ مَعَهَا جَدَّةٌ أُخْرَى هِيَ أُمُّ أُمِّ أَبٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ تَرِثُ بِالْوَجْهَيْنِ وَتَأْخُذُ سَهْمَ جَدَّتَيْنِ.
فَقَالَ محمد بن الحسن وزفر بن الهذيل وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: تَرِثُ بِالْوَجْهَيْنِ وَتَأْخُذُ سَهْمَ جَدَّتَيْنِ وَحَكَاهُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَاخْتَارَهُ مَذْهَبًا لِنَفْسِهِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وأبو يوسف ترث بأحد الجهتين وَتَأْخُذُ سَهْمَ جَدَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مذهب الشافعي ومالك رضي الله عنهما لأنها يد واحدة فَلَمْ تَكُنْ إِلَّا جَدَّةً وَاحِدَةٌ وَلِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ لَا يَرِثُ فَرْضَيْنِ مِنْ تَرِكَةٍ وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يَرِثَ بِفَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ كَزَوْجٍ هُوَ ابْنُ عَمٍّ وَرُبَّمَا أَدْلَتِ الْجَدَّةُ الْوَاحِدَةُ بِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ وَحَصَلَتْ لَهَا الْوِلَادَةُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ أُمِّ أُمِّ الْمَيِّتِ وأم أبي أبيه وأم أم أبي أَبِيهِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَهَا جَدَّةٌ أُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن تَرِثُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ السُّدُسِ كَأَنَّهَا ثَلَاثُ جَدَّاتٍ مِنْ أَرْبَعٍ وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَرِثُ نِصْفَ السُّدُسِ لِأَنَّهَا إِحْدَى جَدَّتَيْنِ والله أعلم بالصواب.(8/113)
باب أقرب العصبة
قال المزني رحمه الله وأقرب الْعَصَبَةِ الْبَنُونَ ثُمَّ بَنُو الْبَنِينَ ثُمَّ الْأَبُ ثم الإخوة للأب والأم إن لم يكن جد فإن كان جد شاركهم في باب الجد ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ والأم ثم بنو الإخوة للأب فإن لم يكن أحد من الإخوة ولا من بينهم ولا بني بنيهم وإن سفلوا فالعم للأب والأم ثم العم للأب ثم بنو العم للأب والأم ثم بنو العم للأب فإن لم يكن أحد من العمومة ولا بنيهم ولا بني بنيهم وإن سفلوا فعم الأب للأب والأم فإن لم يكن فعم الأب للأب فإن لم يكن فبنوهم وبنو بنيهم على ما وصفت من العمومة وبنيهم وبني بنيهم فإن لم يكونوا فعم الجد للأب والأم فإن لم يكن فعم الجد للأب فإن لم يكن فبنوهم وبنو بنيهم على ما وصفت عمومة الأب فإن لم يكونوا فأرفعهم بطنا وكذلك نفعل في العصبة إذا وجد أحد من ولد الميت وإن سفل لم يورث أحد من ولد ابنه وإن قرب وإن وجد أحد من ولد ابنه وإن سفل لم يورث أحد من ولد جده وإن قرب وإن وجد أحد من ولد جده وإن سفل لم يورث أحد من ولد أبي جده وإن قرب وإن كان بعض العصبة أقرب بأب فهو أولى لأب كان أو أم وإن كانوا في درجة واحدة إلا أن يكون بعضهم لأب وأم فالذي لأب وأم أولى فإذا استوت قرابتهم فهم شركاء في الميراث ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَصَبَةِ لِمَ سُمُّوا عَصَبَةً؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ سُمُّوا عَصَبَةً لِالْتِفَافِهِمْ عَلَيْهِ فِي نَسَبِهِ كَالْتِفَافِ الْعَصَائِبِ عَلَى يَدِهِ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ سُمُّوا عَصَبَةً لِقُوَّةِ نفسه بهم ولقوة جِسْمِهِ بِعَصَبِهِ فَأَقْرُبُ عَصِبَاتِ الْمَيِّتِ إِلَيْهِ بَنَوْهُ لِأَنَّهُمْ بَعْضُهُ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُمْ فِي الذِّكْرِ وَحَجَبَ بِهِمُ الْأَبَ عَنِ التَّعْصِيبِ حَتَّى صَارَ ذَا فَرْضٍ ثُمَّ بَنُو الْبَنِينَ لِأَنَّهُمْ بعض البنين لأن الْأَبَ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ كَهُوَ مَعَ الْبَنِينَ وَلِأَنَّهُمْ يَعْصِبُونَ أَخَوَاتِهِمْ كَالْبَنِينَ ثُمَّ بَنُو بَنِي الْبَنِينَ وَإِنْ سَفَلُوا فَإِنْ قِيلَ أَفَلَيْسَ الْأَبُ مُقَدَّمًا عَلَى الِابْنِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَالتَّزْوِيجِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ أَقْوَى الْعَصَبَاتِ فَهَلَّا كَانَ مُقَدَّمًا فِي الْمِيرَاثِ قِيلَ إِنَّمَا يُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّزْوِيجِ بِمَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالْوِلَايَةُ فِي الْآبَاءِ دُونَ الْأَبْنَاءِ وَفِي الْمِيرَاثِ يُقَدَّمُ بِقُوَّةِ التَّعْصِيبِ وَذَلِكَ فِي الْأَبْنَاءِ أَقْوَى مِنْهُ فِي الْآبَاءِ فَإِذَا عَدِمُوا فَلَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ وَلَدٍ وَإِنْ سَفَلَ فَالْأَبُ حِينَئِذٍ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ بَعْدَهُمْ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ بَعْضُهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنْ وَلَدِهِ الْمَيِّتِ كَانَ الْأَقْرَبَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ وَلِأَنَّ سَائِرَ الْعَصَبَاتِ بِالْأَبِ يُدْلُونَ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُونَ(8/114)
فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى جَمِيعِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْأَبِ إِخْوَةٌ فَالْجَدُّ وَإِنْ كَانَ إِخْوَةٌ فَعَلَى خِلَافٍ يُذْكَرُ فِي بِابِ الْجَدِّ ثُمَّ بَعْدَ الْجَدِّ أَبُو الْجَدِّ ثُمَّ جَدُّ الْجَدِّ ثُمَّ أَبُو جَدِّ الْجَدِّ ثُمَّ جَدُّ جَدِّ الْجَدِّ ثُمَّ هَكَذَا أَبَدًا حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ عَمُودِ الْآبَاءِ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْوِلَادَةِ وَالتَّعْصِيبِ، ثُمَّ الْإِخْوَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ جَدٌّ لِأَنَّهُمْ وَالْمَيِّتُ بَنُو أَبٍ قَدْ شَارَكُوهُمْ فِي الصُّلْبِ وَرَاكَضُوهُمْ فِي الرَّحِمِ وَلِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ شَبَهًا مِنَ الْبَنِينِ فِي تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ فَيُقَدَّمُ مِنْهُمُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ لقوته بالسببين على من تفرد بإحداهما وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " وأعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات " وأصل ميراثهما مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] فَيَكُونُ حُكْمُ الْإِخْوَةِ مَعَ الْأَخَوَاتِ كَحُكْمِ الْبَنِينَ مَعَ الْبَنَاتِ فِي اقْتِسَامِهِمُ الْمَالَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بَعْدَ فَرْضٍ إِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا ثُمَّ بَعْدَ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الْأَخُ لِلْأَبِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِقُرْبِ دَرَجَتِهِ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ وَهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى الْأَعْمَامِ وَإِنْ سَفَلُوا، لِأَنَّهُمْ من بني أبي الْمَيِّتِ وَالْأَعْمَامُ بَنُو جَدِّهِ فَيُقَدَّمُ مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ مَنْ كَانَ لِأَبٍ ثُمَّ بَنُو بَنِيهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الدَّرَجَةِ وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ عَلَى مَنْ بَعُدَ وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنِ اسْتَوَتْ دَرَجَتُهُمْ قُدِّمَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ ثُمَّ الْأَعْمَامُ لِأَنَّهُمْ بَنُو الْجَدِّ وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَّثَ عَمَّ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ مَا فَضَلَ عَنْ فَرْضِ زَوْجَتِهِ وَبِنْتَيْهِ فَيُقَدَّمُ الْعَمُّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْعَمِّ لِلْأَبِ لِإِدْلَائِهِ بِالسَّبَبَيْنِ ثُمَّ الْعَمُّ لِلْأَبِ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثم ابني الْعَمِّ لِلْأَبِ ثُمَّ بَنُو بَنِيهِمْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَإِنْ سَفَلُوا مُقَدَّمِينَ عَلَى أَعْمَامِ الْأَبِ ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ يُقَدَّمُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَبَنُو بَنِيهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي بَنِي الْأَعْمَامِ ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ ثُمَّ بَنُوهُمْ ثم أعمام ابن الْجَدِّ ثُمَّ بَنُوهُمْ ثُمَّ أَعْمَامُ جَدِّ الْجَدِّ ثم بنوهم ثم أعمام أبي جَدِّ الْجَدِّ ثُمَّ بَنُوهُمْ هَكَذَا أَبَدًا حَتَّى يستنفذ جَمِيعُ الْعَصَبَاتِ لَا يُقَدَّمُ بَنُو أَبٍ أَبْعَدَ على بنو أب هو أقرب وإن نزلت درجتهم وَإِذَا اسْتَوَوْا قُدِّمَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَلَيْسَ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ مِنَ الْعَصَبَةِ لِإِدْلَائِهِمْ بِالْأُمِّ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّعْصِيبِ وَلَا الْأَعْمَامُ لِلْأُمِّ من الورثة لأنهم ذوو أرحام والله أعلم.
فَصْلٌ:
وَلَيْسَ يَرِثُ مَعَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَصِبَاتِ أُخْتٌ لَهُ إِلَّا أَرْبَعَةٌ فَإِنَّهُمْ يُعَصِّبُونَ أخواتهم ويرثون معهم الِابْنُ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَتَرِثُ مَعَهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَابْنُ الِابْنِ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَإِنْ سَفَلَ وَيُعَصِّبُ مَنْ لَا فَرْضَ لَهُ مِنْ عَمَّاتِهِ فَيَشْتَرِكُونَ فِي الْمِيرَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَيُقَاسِمُهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْأَخُ لِلْأَبِ كَذَلِكَ أَيْضًا يُعَصِّبُهَا وَيُقَاسِمُهَا وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْعَصَبَاتِ كُلِّهِمْ يُسْقِطُونَ أَخَوَاتِهِمْ وَيَخْتَصُّونَ بِالْمِيرَاثِ كَبَنِي الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ مِنْ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ فَلِلَّذِي هُوَ أَخٌ لِلْأُمِّ السُّدُسُ فَرْضًا بِالْأُمِّ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالتَّعْصِيبِ وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَقَوْلِ أبي حنيفة وَمَالِكٍ وَالْفُقَهَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ(8/115)
أَخٌ لِأُمٍّ وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " وبنو الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ " وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأَبِ وَاخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِالْإِدْلَاءِ بالأم فصار كالأخوين أحدهما لأب وأم وآخر لِأَبٍ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ مَنْ زَادَ إِدْلَاءُهُ بِالْأُمِّ عَلَى مَنْ تَفَرَّدَ بِالْأَبِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] فَأَوْجَبَ هَذَا الظَّاهِرُ أَن لا يزاد بِهَذِهِ الْأُخوَّةِ عَلَى السُّدُسِ وَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمُسْتَحِقَّ بِهِ الْفَرْضَ لَا يُوجِبُ أَنْ يُقَوَّى بِهِ التَّعْصِيبُ بَعْدَ أَخْذِ الْفَرْضِ كَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ، وَلِأَنَّ وِلَادَةَ الْأُمِّ تُوجِبُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ إما استحقاقا بالفرض أو تقديما بالجميع ولا توجب كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنْ فَرْضٍ وَتَقْدِيمٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِخْوَةَ الْمُتَفَرِّقِينَ إِذَا اجْتَمَعُوا اخْتَصَّ الْإِخْوَةُ للأم بالفرض واختص الإخوة للأب والأم بالتقديم فِي الْبَاقِي عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَلَمْ يَجُزْ أن يشاركوا باقيهم الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْإِدْلَاءِ بالأم وكذلك ابن العم إذا كان أخا لأم لما استحق بأمه فرضا لم يستحق بها تقديمه عَلَى ابْنِ الْعَمِّ وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ الرَّحِمِ وَالتَّعْصِيبِ إِذَا كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أوجَبَ التَّقْدِيمُ كَالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فِي تَقْدِيمِهِمْ عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ لَمْ يُوجِبَا التَّقْدِيمَ وَالْأَخُ لِلْأُمِّ إِذَا كَانَ ابْنَ عَمٍّ فَيُعَصِّبُهُ مِنْ جِهَةِ الْإِدْلَاءِ بِالْجَدِّ وَرَحِمِهِ بِوِلَادَةِ الأم فلم يوجب التقدم، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ.
فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِخْوَةِ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ " أَعْيَانُ بَنِي الْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ " فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُمَا فِي الْبَاقِي بَعْدَ السدس سواء وإنما ذلك فِي الْمَالِ فَأَمَّا وَلَاءُ الْمَوَالِي فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أن ابن الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ يُقَدَّمُ بِهِ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرِثْ بِأُمِّهِ مِنَ الْوَلَاءِ فَرْضًا اسْتَحَقَّ بِهِ تَقْدِيمًا لِأَنَّ الْإِدْلَاءَ بِالْأُمِّ إِذَا انْضَمَّ إِلَى التَّعْصِيبِ أوجَبَ قُوَّةً عَلَى مُجَرَّدِ التَّعْصِيبِ إِمَّا فِي فَرْضٍ أَوْ تَقْدِيمٍ فَلَمَّا سَقَطَ الْفَرْضُ فِي الْوَلَاءِ ثَبَتَ التَّقْدِيمُ.
فَصْلٌ:
وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ أَحَدُهُمَا ابْنُ عَمٍّ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَالُ بَيْنَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وبين أخ الأم الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْصِيبِ وَالْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ وَلَا شَيْءَ لِلْأَخِ لِلْأُمِّ الَّذِي ليس بابن عم ولا ابن الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ وَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ الثُّلُثُ لِثَلَاثَةٍ لِلْأَخِ لِلْأُمِّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ وَلِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَلِلْأَخِ لِلْأُمِّ الَّذِي لَيْسَ بِابْنِ عَمٍّ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ إِخْوَةٌ لِأُمٍّ وَالْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثِ بين الثلاثة بَيْنَ ابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَالْأَخُ لِلْأُمِّ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَمٍّ وَابْنُ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَابْنَيْ عَمِّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ فَعَلَى قياس قول ابْنِ مَسْعُودٍ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ نِصْفِ الْبِنْتِ لِابْنِ الْعَمِّ الَّذِي لَيْسَ بِأَخٍ لِأُمٍّ لِأَنَّ الْأَخَ لِلْأُمِّ لَا يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْجَمَاعَةِ إِنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ البنت بينهما لأن البنت تسقط بورثته بالأم ولا تسقط ميراثه بِالتَّعْصِيبِ كَالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَلَوْ تَرَكَ ابْنَ عَمٍّ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنَ عَمٍّ لِأَبٍ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَالُ(8/116)
لابن العم للأب الذي هو أخ لأم وَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ لِابْنِ الْعَمِّ لِلْأَبِ الَّذِي هو أخ للأم السُّدُسُ بِأَنَّهُ أَخٌ لِأُمٍّ وَالْبَاقِي لِابْنِ الْعَمِّ للأب والأم والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً بِرَحِمٍ يَرِثُ فَالْمَوْلَى المعتق فإن لم تكن فَأَقْرَبُ عَصَبَةٍ مَوْلَاهُ الذُّكُورُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبَيْتُ الْمَالِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. وَالْوَلَاءُ يُورَثُ بِهِ كَالتَّعْصِيبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ "، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " من تولى إلى غير مواليه فقد خلع رقبة الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ". وَأَعْتَقَتْ بِنْتُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَبْدًا فَمَاتَ وَتَرَكَ بِنْتًا فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نِصْفَ مَالِهِ لِبِنْتِهِ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ حَمْزَةَ مُعْتِقَتِهِ فإذا بت هَذَا فَكُلُّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فَلَهُ وَلَاؤُهُ مُسْلِمًا كَانَ الْمُعْتِقُ أَوْ كَافِرًا وَقَالَ مَالِكٌ: لَا وَلَاءَ لِلْكَافِرِ إِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْلِمًا لِقَطْعِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِ الدِّينِ وهذا فاسد بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " فَلَمَّا كَانَ النَّسَبُ ثَابِتًا بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَثَا كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا ثَابِتًا وَلَا يَتَوَارَثَانِ بِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَرِثَ فَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ فَعَصَبَةُ النَّسَبِ تَتَقَدَّمُ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى عَصَبَةِ الْوَلَاءِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهَ عَصَبَةَ الْوَلَاءِ بِعَصَبَةِ النَّسَبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أُلْحِقَ بِأَصْلٍ فَإِنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَمَّا كَانَ فِي الْمِيرَاثِ مُلْحَقًا بِالِابْنِ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَالْجَدُّ لَمَّا كَانَ مُلْحَقًا بِالْأَبِ تَأَخَّرَ عَنْهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَتَى كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مُنَاسِبٌ كَانَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنَ الْمَوْلَى وَإِنْ لم يكن له عصبة وكان له ذو فرض تقدموا بفروضهم على الموالي لِأَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَ بِهَا عَلَى الْعَصَبَةِ فَكَانَ تَقْدِيمُهُمْ بِهَا عَلَى الْمَوْلَى أَوْلَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةُ نَسَبٍ وَلَا ذُو فَرْضٍ يَسْتَوْعِبُ بِفَرْضِهِ جميع التركة كانت للتركة أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا بَعْدَ فَرْضِ ذِي الْفَرْضِ لِلْمَوْلَى يَتَقَدَّمُ بِهِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ في قول من ورث ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدَّمُوا ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى الْمَوَالِي وَفِيمَا مَضَى مِنْ إسقاط ميراث ذوي الأرحام دليل كاف والله أعلم.
فَصْلٌ:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلًى فَعَصَبَةُ الْمَوْلَى يَقُومُونَ فِي الْمِيرَاثِ مَقَامَ الْمَوْلَى لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُ فِي مَالِهِ قَامُوا مَقَامَهُ فِي وَلَائِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَبْنَاءُ أَحَقُّ بِوَلَاءِ الْمَوَالِي مِنَ الْآبَاءِ فَإِذَا كَانَ أَبٌ مَوْلَى وَابْنٌ مَوْلَى فَابْنُ الْمَوْلَى أَوْلَى مِنْ أَبِ الْمَوْلَى وَكَذَلِكَ ابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ وَبِهَذَا قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.(8/117)
وقال أبو يوسف: لأب الْمَوْلَى سُدُسُ الْوَلَاءِ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ كَالْمَالِ وَهَكَذَا الْجَدُّ وَإِنْ عَلَا يَجْعَلُونَ لَهُ مَعَ الِابْنِ سُدُسَ الْوَلَاءِ وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وإسحاق وهذا خطأ لأن الولاء مستحق لمجرد التَّعْصِيبِ وَتَعْصِيبُ الِابْنِ أَقْوَى مِنْ تَعْصِيبِ الْأَبِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِالْوَلَاءِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَبْنَاءَ أَوْلَى بِالْوَلَاءِ مِنَ الْآبَاءِ فَهُوَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِنَاثِ فَيَكُونُ لِابْنِ الْمَوْلَى دُونَ بِنْتِ الْمَوْلَى وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ بَيْنَ الِابْنِ وَالْبِنْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ كَالْمَالِ وَهَكَذَا قَالَ فِي الْأَخِ وَالْأُخْتِ يَرِثَانِ الْوَلَاءَ لِلذكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَحُكِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ شُرَيْحٍ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النِّسَاءَ إِذَا تَرَاخَى نَسَبُهُنَّ لَمْ يَرِثْنَ بِتَعْصِيبِ النَّسَبِ كَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَتَعْصِيبُ الْوَلَاءِ أَبْعَدُ مِنْ تَعْصِيبِ النَّسَبِ فكان بسقوط ميراث النساء أحق.
فصل:
فإذا لَمْ يَكُنِ ابْنَ مَوْلًى فَأَبُو الْمَوْلَى بَعْدَهُ أَحَقُّ بِالْوَلَاءِ مِنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ لِإِدْلَائِهِمْ بِهِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ الْأَبِ فِي مُسْتَحِقِّ الْوَلَاءِ فَقَالَ أبو حنيفة: الْجَدُّ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْإِخْوَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْإِخْوَةُ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْجَدِّ.
وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: إِنَّهُ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لِلْإِخْوَةِ دُونَ الْجَدِّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ أَقْرَبُ إِلَى الْأَبِ مِنَ الْجَدِّ كَمَا أَنَّ ابْنَ الِابْنِ أَحَقُّ مِنَ الْأَبِ فَعَلَى هَذَا يُقَدَّمُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَلَا حَقَّ فِيهِ لِلْأَخِ لِلْأُمِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْجَدَّ وَالْإِخْوَةَ فِيهِ سَوَاءٌ كَقَوْلِ أبي يوسف؛ لِأَنَّهُ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ فِي الْمَالِ فَقَاسَمَهُمْ فِي الْوَلَاءِ فعَلَى هَذَا لَوْ نَقَصَتْهُ مُقَاسَمَةُ الْإِخْوَةِ مِنْ ثُلُثِ الْوَلَاءِ لَمْ يُفْرَضْ لَهُ الثُّلُثُ بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْفَرْضِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ الْمَحْضِ.
فَلَوْ كَانُوا خَمْسَةَ إِخْوَةٍ وَجَدًّا كَانَ الْوَلَاءُ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا عَلَى عَدَدِهِمْ لِلْجَدِّ منه السدس ولا يقاسم الجد الإخوة لِلْأَبِ مَعَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِخِلَافِ الْمَالِ ثم الإخوة مع أبي الجد وجد الجد وإن علا كلهم مع الجد الأخير فَأَمَّا بَنُو الْإِخْوَةِ وَالْجَدُّ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ أَحَقُّ بِالْوَلَاءِ مِنَ الْجَدِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْجَدَّ أَوْلَى مِنْ بَنِي الإخوة، لقرب درجته، ولا يحجب اشتراك بني الإخوة مع الجد، وَيُقَدَّمُ مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ مَنْ كَانَ لِأَبٍ ولأم عَلَى مَنْ كَانَ لِأَبٍ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَبَنُو بَنِيهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَتَقَدَّمُونَ عَلَى الْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ، وَيَتَقَدَّمُ الْجَدُّ بِالْوَلَاءِ عَلَى الْأَعْمَامِ لِأَنَّهُمْ بَنُوهُ فَأَمَّا أَبُو الْجَدِّ وَالْعَمِّ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إِنَّ أَبَا الْجَدِّ أَوْلَى بِالْوَلَاءِ لِوِلَادَتِهِ.(8/118)
وَالثَّانِي: إِنَّ الْعَمَّ أَوْلَى بِالْوَلَاءِ لِقُرْبِهِ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّ أَبَا الْجَدِّ وَالْعَمِّ سَوَاءٌ يَشْتَرِكَانِ فِي الْوَلَاءِ يَتَرَتَّبُونَ بَعْدَ ذَلِكَ تَرْتِيبَ الْعَصَبَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى عَصَبَةٌ فَمَوْلَى الْمَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَصَبَتُهُ ثُمَّ مَوْلَاهُ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا وُجِدُوا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا وَوُجِدَ مَوْلَى عَصَبَتِهِ: فَإِنْ كَانَ مَوْلَى آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ وَرَّثَ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ يَسْرِي إِلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وإن كان مولى أبنائه أو أخواته لَمْ يَرِثْ لِأَنَّ وَلَاءَ الِابْنِ لَا يَسْرِي إِلَى أَبِيهِ وَلَا إِلَى أَخِيهِ، فَإِنْ لَمْ يكن له إِلَّا مَوْلًى مِنْ أَسْفَلَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ لَمْ يَرِثْهُ فِي قَوْلِ الْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ طَاوُسٌ: لَهُ الْمِيرَاثُ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَوْسَجَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلَّا غُلَامًا لَهُ كَانَ أعتقَه فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هَلْ لَهُ أَحَدٌ " قَالُوا: لَا إِلَّا غُلَامًا له كَانَ أَعْتَقَهُ فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِيرَاثَهُ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أن لَا مِيرَاثَ لَهُ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ".
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن عمر كان يورث مَوَالِيَ عُمَرَ دُونَ بَنَاتِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى الْأَعْلَى وَرِثَ لِإِنْعَامِهِ فَصَارَ مِيرَاثُهُ كَالْجَزَاءِ، وَالْمَوْلَى الْأَسْفَلُ غَيْرُ مُنْعِمٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِيرَاثًا وَلَا جَزَاءً، فأما إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ لَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ طُعْمَةً مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوْلَى بِمَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَنْ يَضَعَهُ حَيْثُ يَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتَقِ فِي النَّسَبِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يُعْتِقَ الرَّجُلُ عَبْدًا ثُمَّ يَمُوتُ السَّيِّدُ وَيُخْلِفُ ابْنَيْنِ فَيَرِثَانِ مَالَهُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَمُوتُ أَحَدُ الِابْنَيْنِ ويخلف ابنا فينتقل ميراث ابنه عَنِ الْجَدِّ إِلَيْهِ فَإِذَا مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَرِثَهُ ابْنُ الْمَوْلَى دُونَ ابْنِ ابْنِهِ وَقَالَ شُرَيْحٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٌ يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ انْتِقَالَ الْمِيرَاثِ فَيَصِيرُ وَلَاءُ الْمُعْتَقِ بَيْنَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَ السَّيِّدِ الْمُعْتِقِ صَارَ إِلَيْهِمَا وَلَمْ يَجْعَلُوا الولاء للكبير اعْتِبَارًا بِمُسْتَحِقِّ الْوَلَاءِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى الْأَعْلَى ومن جعل الولاء للكبير اعْتُبِرَ مُسْتَحِقُّ الْوَلَاءِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ وبتوريث الكبير قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ " فَلَوْ جُعِلَ كَالْمَالِ صَارَ مَوْرُوثًا؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ يَنْتَقِلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ إِلَى عَصَبَةِ مَوْلَاهُ الْأَعْلَى وَلَيْسَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْلَى بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ كَالْمَالِ فَلِذَلِكَ صَارَ مُخَالِفًا لِلْمَالِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ المولى الأعلى فترك أَخًا لِأَبٍ وِأُمٍّ، وَأَخًا لِأَبٍ فَأَخَذَ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مِيرَاثَهُ دُونَ الْأَخِ لِلْأَبِ ثُمَّ مات الأخ للأب والأم فترك ابْنًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى الْمُعْتَقُ فَعَلَى مَذْهَبِ الشافعي ومن جعل الولاء للكبير فجعله لِلْأَخِ لِلْأَبِ دُونَ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ أَقْرَبُهُمَا إِلَى الْمَوْلَى الْأَعْلَى وَمَنْ جَعَلَهُ مَوْرُوثًا كَالْمَالِ جَعَلَهُ لِابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمِيرَاثِ الْمَوْلَى الْأَعْلَى، وَلِلْوَلَاءِ كِتَابٌ يَسْتَوْفِي فُرُوعَهُ فِيهِ مَعَ جَرِّ الْوَلَاءِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ وَصُورَتُهُ: فِي رَجُلٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ نَسَبٌ وَلَا وَلَاءٌ فَيُوَالِي رجلا يعاقده وَيُحَالِفُهُ وَيُنَاصِرُهُ فَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لَا يَتَوَارَثَانِ بِهِ.(8/119)
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَتَوَارَثَانِ بِهَذِهِ الْمُوَالَاةِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْضُهَا، وَقَالَ أبو حنيفة يَتَوَارَثَانِ بِهَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْضُهَا مَا لَمْ يعقل عنه صاحبه، فإن عقل له لم يكن له نقضها فاستدل عَلَى اسْتِحْقَاقِ التَّوَارُثِ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وَبِرِوَايَةِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ رَجُلًا وَالَى رَجُلًا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أنت أحق الناس بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ ".
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ " فَأَثْبَتَهُ لِلْمُعْتِقِ وَنَفَاهُ عَنْ غَيْرِ الْمُعْتِقِ.
وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً " وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لِمَالِهِ جِهَةٌ يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُلَهُ بِالْمُوَالَاةِ إِلَى غَيْرِهَا كَالَّذِي لَهُ نَسَبٌ أَوْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ لَا يَتَوَارَثُ بِهَا مَعَ النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ لَا يَتَوَارَثُ بِهَا مَعَ عَدَمِ النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَنْسُوخَةٌ حِينَ نُسِخَ التَّوَارُثُ بِالْحِلْفِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ.
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أنت أحق بمحياه ومماته " فمعناه أحق بنفسه دون ماله في نصرته فِي حَيَاتِهِ وَدَفْنِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ والله أعلم بالصواب.
آخر كتاب العصبة.(8/120)
باب ميراث الجد
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالْجَدُّ لَا يَرِثُ مَعَ الْأَبِ فَإِنْ لَمْ يكن أب فَالْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ تَرَكَ أَحَدًا مِنْ وَلَدِ أَبِيهِ الْأَدْنَيْنِ أَوْ أحدا من أمهات أبيه وَإِنْ عَالَتِ الْفَرِيضَةُ إِلَّا فِي فَرِيضَتَيْنِ زَوْجٍ وأبوين أو امرأة وأبوين فإنه إذا كال فِيهِمَا مَكَانَ الْأَبِ جَدٌّ صَارَ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ كَامِلًا وَمَا بَقِيَ فَلِلْجَدِّ بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَأُمَّهَاتُ الْأَبِ لَا يَرِثْنَ مَعَ الْأَبِ وَيَرِثْنَ مَعَ الْجَدِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الجد المطلق فهو أبو الأب لا غير، فأما أبي الْأُمِّ فَهُوَ جَدٌّ بِتَقْيِيدٍ، ثُمَّ الْجَدُّ يَجْمَعُ رَحِمًا وَتَعْصِيبًا كَالْأَبِ، فَيَرِثُ تَارَةً بِالرَّحِمِ فَرْضًا مُقَدَّرًا وَيَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ تَارَةً مُرْسَلًا، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ فِي مَوْضِعٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْأَبِ وَحْدَهُ، وَلَهُ في ميراثه ثلاثة أحوال أَجْمَعُوا أَنَّهُ فِيهَا كَالْأَبِ، وَحَال أَجْمَعُوا أَنَّهُ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَبِ، وَحَالٌ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ فِيهَا كَالْأَبِ أَمْ لَا؟ .
فَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي أجمعوا على أنه فيها كَالْأَبِ فَمَعَ الْبَنِينَ وَبَنِيهِمْ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ وَحْدَهُ وَمَعَ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ يَأْخُذُ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ إن بقي شيء كالأب ويسقط سَائِرُ الْعَصَبَاتِ سِوَى الْإِخْوَةِ مِنَ الْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ وَبَنِي الْإِخْوَةِ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ حَكَاهَا إسماعيل بن أبي خالد عن علي عليه السلام أنه قاسم الجد مع بني الإخوة وليست ثابتة، ويسقط الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ فَهَذِهِ حَالٌ هُوَ وَالْأَبُ فِيهَا سواء، وأما ما أجمعوا عليه على أنه فيه مخالف للأب ففي فَرِيضَتَيْنِ هُمَا زَوْجٌ وَأَبَوَانِ، أَوْ زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ، فَإِنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ مَا يَبْقَى بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ كَانَ مَكَانُ الْأَبِ جَدٌّ: فَلِلْأُمِّ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ فِي الْفَرِيضَتَيْنِ أَمَّا مَعَ الزَّوْجَةِ فَبِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا مَعَ الزَّوْجِ فَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ لِلْأُمِّ ثُلُثَ ما بقي والباقي للجد للأب، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ جَعَلَ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُمِّ نِصْفَيْنِ، وَهِيَ إحدى مربعاته؛ لأنه جعل المال أَرْبَاعًا، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مَا ذَكَرْنَا، وَالْجَدُّ يَحْجُبُ أُمَّ نَفْسِهِ دُونَ أُمَّهَاتِ الْأَبِ، فَهَذِهِ حَالٌ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ فِيهَا مُخَالِفٌ لِلْأَبِ، وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا هَلِ الْجَدُّ فِيهِ كَالْأَبِ أَمْ لَا؟ فَمَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ فِيهِ تَكْرَهُ الْقَوْلَ فِيهِ حَتَّى رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أجرأكم على قسم الجد أجرأكم على النار ".(8/121)
وقال علي عليه السلام: " من سره أن يقتحم جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقْضِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْجَدِّ ".
وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " سَلُونَا عَنْ عَضَلِكُمْ وَدَعُونَا مِنَ الْجَدِّ لَا حياه الله ". فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي سُقُوطِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ بِالْجَدِّ: فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْجَدَّ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ كَالْأَبِ، وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِثْلُهُ، ثُمَّ رَجَعُوا عَنْهُ بَلْ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَبِهَذَا قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَقَالَ بِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَدَاوُدُ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ وَلَا يُسْقِطُهُمْ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ كَيْفِيَّةِ مُقَاسَمَتِهِ لَهُمْ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وأبو يوسف ومحمد وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ بِالْجَدِّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 38] وَقَالَ تَعَالَى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فَسَمَّاهُ أَبًا وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْأَبِ مُنْطَلِقًا عَلَى الْجَدِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْحُكْمِ كَالْأَبِ وَلِأَنَّ لِلْمَيِّتِ طَرَفَيْنِ أَعْلَى وَأَدْنَى فَالْأَعْلَى الْأَبُ وَمَنْ عَلَا وَالْأَدْنَى الِابْنُ وَمَنْ سَفَلَ فَلَمَّا كَانَ ابْنُ الِابْنِ كَالِابْنِ في حجب الإخوة ووجب أَنْ يَكُونَ أَبُو الْأَبِ كَالْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ فَاسْتَوَى حكم أوله وآخره كالطرف الآخر قالوا وَلِأَنَّ الْجَدَّ عَصَبَةٌ لَا يَعْقِلُ فَوَجَبَ أَنْ يُسْقِطَ الْعَصَبَةَ الَّتِي تَعْقِلُ كَالِابْنِ، وَلِأَنَّ مَنْ جَمَعَ الْوِلَادَةَ وَالتَّعْصِيبَ أَسْقَطَ مَنْ عَدَم الْوِلَادَةِ وتفرد بالتعصيب كالابن؛ وَلِأَنَّ لِلْجَدِّ تَعْصِيبًا وَرَحِمًا يَرِثُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا فَكَانَ أَقْوَى مِنَ الْأَخِ الَّذِي ليس يدلي إلا بالتعصيب وحده قالوا: ولأن الجد يدلي بابن والأخ يدلي بالأب، وَالِابْنُ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ، فَكَانَ الْإِدْلَاءُ بِالِابْنِ أَقْوَى مِنَ الْإِدْلَاءِ بِالْأَبِ، وَلِأَنَّ لِلْجَدِّ وِلَايَةً يَسْتَحِقُّهَا بِقُوَّتِهِ فِي نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَعَلَى مَالِهَا وَيَضْعُفُ الْأَخُ بِمَا قَصَّرَ فِيهَا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَخَ لَوْ قَاسَمَ الْجَدَّ كَالْأَخَوَيْنِ لَوَجَبَ أَنْ يقتسمها فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ وَرِثَ فِيهَا جَدٌّ كَمَا يُقَاسِمُ الْأَخُ الْأَخَ فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ وَرِثَ فِيهَا أَخٌ، فَلَمَّا لَمْ يُقَاسِمْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يُقَاسِمْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الْجَدَّ فِي مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَالْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، أَوْ كَالْأَخِ لِلْأَبِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُمَا، وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَضْعَفَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِمَا، فَلَوْ كَانَ كَالْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَمْ يَرْثِ مَعَهُ الْأَخُ لِلْأَبِ وَلَوْ كَانَ كَالْأَخِ لِلْأَبِ لَمَا وَرِثَ مَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، وَإِذَا امْتَنَعَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنْ يَكُونَ كَأَحَدِهِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَقْوَى منهما. والله أعلم.(8/122)
فَصْلٌ:
وَاسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [النساء: 7] وبقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [النساء: 6] وَالْجَدُّ وَالْإِخْوَةُ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْآيَتَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخُصَّ الْجَدَّ بِالْمَالِ دُونَ الْإِخْوَةِ؛ وَلِأَنَّ الْأَخَ عَصَبَةٌ يُقَاسِمُ أُخْتَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ بالجد كَالِابْنِ طَرْدًا وَبَنِي الْإِخْوَةِ وَالْعَمِّ عَكْسًا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْأَخَ وَإِنْ عَصَّبَ أُخْتَهُ يَسْقُطُ بِالْأَبِ وَهُوَ لَا يُعَصِّبُ أخته فكذلك لا يمتنع أن تسقط بِالْجَدِّ الَّذِي لَا يُعَصِّبُ أُخْتَهُ.
قِيلَ: إِنَّمَا سَقَطُوا بِالْأَبِ لِمَعْنًى عُدِمَ فِي الْجَدِّ وَهُوَ إدلائهم بِالْأَبِ دُونَ الْجَدِّ، وَلِأَنَّ قُوَّةَ الْأَبْنَاءِ مُكْتَسَبَةٌ مِنْ قُوَّةِ الْآبَاءِ، فَلَمَّا كَانَ بَنُو الْإِخْوَةِ لَا يَسْقُطُونَ مَعَ بَنِي الْجَدِّ فَكَذَلِكَ الْإِخْوَةُ لَا يَسْقُطُونَ مَعَ الْجَدِّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الجمع يقضي أَنْ يَكُونَ الْإِخْوَةُ يُسْقِطُونَ الْجَدَّ كَمَا أَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ يُسْقِطُونَ بَنِي الْجَدِّ وَهُمُ الْأَعْمَامُ.
قِيلَ: إِنَّمَا اسْتَدْلَلْنَا بِهَذَا عَلَى مِيرَاثِ الْإِخْوَةِ لَا عَلَى مَنْ سَقَطَ بِالْإِخْوَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى مِيرَاثِهِمْ فَصَحَّ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَحْجُبُ الْأُمَّ إِلَى ثُلُثِ الْبَاقِي لَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ كَالْعَمِّ طَرْدًا وَكَالْأَبِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ سببين يدليان إلى الميت لشخص واحد لم يَسْقُطْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَالْأَخَوَيْنِ وَكَابْنَيِ الِابْنِ، لِأَنَّ الْأَخَ وَالْجَدَّ كِلَاهُمَا يُدْلِيَانِ بِالْأَبِ، وَلِأَنَّ تَعْصِيبَ الإخوة كتعصيب الأولاد، لأنهم يعصبون أخواتهم ويحجب الأم عن أعلى الوجهين، وَيَفْرِضُ النِّصْفَ لِلْأُنْثَى مِنْهُمْ وَالْجَدُّ فِي هَذِهِ الأحوال كُلِّهَا بِخِلَافِهِمْ فَكَانُوا بِمُقَاسَمَةِ الْجَدِّ أَوْلَى مِنْ سُقُوطِهِمْ بِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَ التعصيب والرحم والآخر يتفرد بالتعصيب دون الرحم: كان المتفرد بِالتَّعْصِيبِ وَحْدَهُ أَقْوَى كَالِابْنِ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْأَبِ فَلَمَّا كَانَ الْجَدُّ جَامِعًا لِلْأَمْرَيْنِ وَالْأَخُ مُخْتَصٌّ بِأَحَدِهِمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى، لِأَنَّ الْجَدَّ وَالْأَخَ كِلَاهُمَا يُدْلِيَانِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ يَقُولُ: أَنَا أَبُو أَبِي الْمَيِّتِ، وَالْأَخُ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ أَبِي الْمَيِّتِ فَصَارَ الْأَخُ أَقْوَى مِنَ الْجَدِّ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ مِنْهَا: أَنَّ الْأَخَ يُدْلِي بِالْبُنُوَّةِ وَالْجَدَّ يُدْلِي بِالْأُبُوَّةِ، وَالْإِدْلَاءُ بِالْبُنُوَّةِ أَقْوَى، وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ يُدْلِيَانِ بِهِ وَهُوَ الْأَبُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَيِّتُ لَكَانَ لِلْجَدِّ مِنْ تَرِكَتِهِ السُّدُسُ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا لِلِابْنِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَخَ قَدْ شَارَكَ الْمَيِّتَ فِي الصُّلْبِ وَرَاكَضَهُ فِي الرَّحِمِ، وَإِذَا كَانَ الْأَخُ أَقْوَى مِنَ الْجَدِّ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ كَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لَهُ فِي مِيرَاثِهِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَرَى مِنْ نَظَرِ الصَّحَابَةِ فِيهِ، فَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ فَرِيضَةً فِي الْجَدِّ حَتَّى صَارَ هُوَ جَدًّا وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَهُ عَاصِمًا مَاتَ وَتَرَكَ أَوْلَادًا ثُمَّ مَاتَ أحد الأولاد فترك جَدَّهُ عُمَرَ وَإِخْوَتَهُ فَعَلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ فِي الْجَدِّ شَيْئًا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسئل عَنْ فَرِيضَةِ الْجَدِّ فَأَعْطَاهُ السُّدُسَ فَقَالَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْوَرَثَةِ؟ فَقَالَ لَا أَدْرِي قَالَ لَا دَرَيْتَ ثُمَّ قَالَ آخَرُ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن فريضة(8/123)
الْجَدِّ فَأَعْطَاهُ الثُّلُثَ فَقَالَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْوَرَثَةِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي قَالَ: لَا دَرَيْتَ؟ ثُمَّ دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَقَالَ إِنَّهُ كَانَ مِنْ رَأْيِي وَرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ قبلي أن أجعل الْجَدَّ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ يا أمير المؤمنين لا يجعل شَجَرَةٌ خَرَجَ مِنْهَا غُصْنٌ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الغصن غصنان فيم تَجْعَلُ الْجَدَّ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ وَهُمَا خَرَجَا مِنَ الْغُصْنِ الَذِي خَرَجَ مِنْهُ الْجَدُّ؟ ثُمَّ دَعَا عَلِيَّ بْنَ أَبَى طَالِبٍ وَقَالَ: لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ لِزَيْدٍ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا أَمِيرَ المؤمنين لا تجعل واد سال فانشعبت منه شعبة ثم انشعبت مِنَ الشُّعْبَةِ شُعْبَتَانِ فَلَوْ رَجَعَ مَاءُ إِحْدَى الشعبتين دخل في الشعبتين جميعا فيم تَجْعَلُ الْجَدَّ أَوْلَى مِنَ الْأَخِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لولا رأيكما أجمع مَا رَأَيْتُ أَنْ يَكُونَ ابْنِي وَلَا أَنْ أَكُونَ أَبَاهُ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَجَعَلَ الْجَدَّ أَخًا مع الأخوين ومع الأخ والأخت فإذا كَثُرُوا تَرَكَ مُقَاسَمَتَهُمْ وَأَخَذَ الثُّلُثَ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلَ جَدٍّ وَرِثَ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْإِسْلَامِ، فَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَإِنْ طَالَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا تَجْمَعُ خَبَرًا، وَاحْتِجَاجًا، وَمَثَلًا، فَلِذَلِكَ اسْتَوْفَيْنَاهَا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْجَدَّ أَبًا فَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْأَبِ انْطَلَقَ عَلَيْهِ تَوَسُّعًا أَلَا تَرَى أَنَّ تَسْمِيَتَهُ بِالْجَدِّ أَخَصُّ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالْأَبِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا جَدٌّ وَلَيْسَ بِأَبٍ لَمْ يَكُنْ مُضِلًّا، وَالْأَحْكَامُ تَتَعَلَّقُ بِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ دُونَ مجازها، ولا يتعلق عليه حكم الْأَبِ، وَكَمَا تُسَمَّى الْجَدَّةُ أُمًّا وَلَا يَنْطَلِقُ عليها أحكام الْأُمِّ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ طَرَفَهُ الْأَدْنَى يَسْتَوِي حُكْمُ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ فَكَذَلِكَ طَرَفُهُ الْأَعْلَى فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَمَّا كَانَ كَالِابْنِ في الحجب الْأُمَّ كَانَ كَالِابْنِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ، وَلَمَّا كان الجد مخالفا للأب في حجب الأم إِلَى ثُلُثِ الْبَاقِي كَانَ مُخَالِفًا لِلْأَبِ فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فِي حجب الأم هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الِابْنِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ عَصَبَةٌ لَا يَعْقِلُ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَقْلِ دَلَّ عَلَى قُوَّةِ التَّعْصِيبِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى ضَعْفِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَقْرَبَ العصبات اختص بِتَحَمُّلِ الْعَقْلِ مِنَ الْأَبَاعِدِ، لِقُوَّةِ تَعْصِيبِهِمْ وَضَعْفِ الْأَبَاعِدِ، وَلَيْسَ خُرُوجُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ عَنِ الْعَقْلِ عَنْهُ لِمَعْنًى يَعُودُ إِلَى التَّعْصِيبِ فَيُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى الْقُوَّةِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى الضَّعْفِ وَذَلِكَ لِأَجْلِ التَّعْصِيبِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الِابْنِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ أَسْقَطَ الْإِخْوَةَ الْمُدْلِينَ بِالْأَبِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجَدُّ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ لَمْ يُسْقِطِ الْإِخْوَةَ الْمُدْلِينَ بِالْأَبِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْجَدَّ قَدْ جَمَعَ الْوِلَادَةَ وَالتَّعْصِيبَ كَالْأَبِ فَهُوَ أَنَّ الْأَبَ إِنَّمَا أَسْقَطَهُمْ لِإِدْلَائِهِمْ بِهِ لَا لِرَحِمِهِ وَعَصَبَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنِ وَإِنِ انْفَرَدَ بِالتَّعْصِيبِ وَحْدَهُ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ يَجْمَعُ تَعْصِيبًا وَرَحِمًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ إِدْلَاءَ الْجَدِّ بِابْنٍ وَإِدْلَاءَ الْأَخِ بِأَبٍ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ دَلِيلًا مِنْ أَنَّ إِدْلَاءَ الْأَخِ بِالْبُنُوَّةِ وَإِدْلَاءَ الْجَدِّ بِالْأُبُوَّةِ لِإِدْلَائِهِمَا جَمِيعًا بِالْأَبِ فَكَانَ إِدْلَاءُ الْأَخِ أَقْوَى.(8/124)
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوِلَايَةِ الْجَدِّ فِي الْمَالِ وَالتَّزْوِيجِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ الْقُوَّةِ فِي الْمِيرَاثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ لَا يَلِي وَلَا يُزَوِّجُ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الْأَبِ وَإِنْ وَلِيَ وَزَوَّجَ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ شَارَكَهُ فِي مَوْضِعٍ لَشَارَكَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أن كل موضع ورث الجد فيه بالتعصيب الذي شارك فيه فإنه يشاركه في ميراثه لا لميراثهما فِي نَسَبِهِ، وَإِنَّمَا لَا يُشَارِكُهُ فِي الْمَوْضِعِ الذي لا يَرِثُ الْجَدُّ فِيهِ بِالرَّحِمِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَخِ رَحِمٌ يُسَاوِيهِ فِيهَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْجَدَّ لا يخلو من أحوال ثلاثة: فالجواب عنه أن الجد والإخوة مجتمعون على الْإِدْلَاءِ بِالْأَبِ فَلَمْ يَضْعُفْ عَنْهُ الْأَخُ لِلْأَبِ بعد الْأُمِّ لِمُسَاوَاتِهِ فِيمَا أَدْلَى بِهِ، كَمَا لَمْ يَقْوَ عَلَيْهِ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِأُمِّهِ، وَلَيْسَ كذلك حال الإخوة حالهم بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِكُلِّ وَاحِدٍ من الأبوين فكان من جمعهما أقوى من انْفَرَدَ بِأَحَدِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وكل جد وإن علا فكالجد إِذَا لَمْ يَكُنْ جَدٌّ دُونَهُ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَجْبِ أُمَّهَاتِ الْجَدِّ وَإِنْ بَعُدْنَ فَالْجَدُّ يَحْجُبُ أُمَّهَاتِهِ وَإِنْ بَعُدْنَ وَلَا يحجب أمهات من هو أقرب منه اللاتي لَمْ يَلِدْنَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَدِّ الْأَدْنَى وَالْجَدِّ الْأَبْعَدِ في مقاسمة الإخوة والأخوات، فأبعدهم فيه كأقربهم، كما كان الْأَبْعَدُ فِي الْإِدْلَاءِ كَأَقْرَبِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَعَلْتُمُ الْجَدَّ الْأَعْلَى كَالْجَدِّ الْأَدْنَى فِي مُقَاسَمَةِ الإخوة فهلا جعلتم بني الإخوة معهم كَالْإِخْوَةِ؟ قِيلَ الْمَعْنى فِي تَوْرِيثِ الْجَدِّ مَا فِيهِ مِنَ التَّعْصِيبِ وَالْوِلَادَةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْبَعِيدِ كَوُجُودِهِ فِي الْقَرِيبِ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الِابْنِ فِي التَّعْصِيبِ وَالْحَجْبِ مَوْجُودٌ فِي ابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ، لِأَنَّ مُقَاسَمَةَ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ إِنَّمَا كَانَ بِقُوَّتِهِمْ عَلَى تَعْصِيبِ أَخَوَاتِهِمْ وَحَجْبِ أُمِّهِمْ، وَبَنُو الْإِخْوَةِ قَدْ عَدِمُوا هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَلَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ وَلَا يُعَصِّبُونَ الْأَخَوَاتِ، فَلِذَلِكَ قَصَّرُوا عَنِ الإخوة في مقاسمة الجد ولم يقصروا في الْجَدِّ عَنْ مُقَاسَمَةِ الْإِخْوَةِ كَالْجَدِّ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَحُكْمُ الْجَدِّ الْأَعْلَى فِي الْمِيرَاثِ وَالْحَجْبِ وَمُقَاسِمَةِ الْإِخْوَةِ كَالْجَدِّ الْأَدْنَى إِلَّا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْجَدَّ الْأَدْنَى يُسْقِطُ سَائِرَ أُمَّهَاتِ الْأَجْدَادِ، لِأَنَّهُنَّ وَلَدْنَهُ، وَالْجَدُّ الْأَعْلَى لَا يُسْقِطُ أُمَّهَاتِ الْجَدِّ الْأَدْنَى، لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَلِدْنَهُ، وإنما يسقط أمهات نفسه اللاتي وَلَدْنَهُ، ثُمَّ هُوَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ وَفِي حَجْبِ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ كَالْجَدِّ الْأَدْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا كان مع الجد أحد من الإخوة أو الأخوات لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَلَيْسَ مَعَهُنَّ مَنْ لَهُ فَرْضٌ مُسَمًّى قَاسَمَ أَخًا أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَخًا وَأُخْتًا فَإِنْ زَادُوا كَانَ لِلْجَدِّ ثُلُثُ الْمَالِ وَمَا بَقِيَ لَهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ(8/125)
وَلَا يُسْقِطُهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِهِ مَعَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ مُقَاسَمَتِهِ لَهُمْ، فَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ يُقَاسِمُهُمْ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ نَقَصَتْهُ فُرِضَ لَهُ الثُّلُثُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ قَاسَمَ بِالْجَدِّ إِلَى السُّدُسِ، فَإِنْ نَقَصَتْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ السُّدُسِ فُرِضَ لَهُ السُّدُسُ، فَيُقَاسِمُ بِهِ إِلَى خَمْسَةِ إِخْوَةٍ، وَيَفْرِضُ لَهُ مَعَ السِّتَّةِ السُّدُسَ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ.
وَحُكِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ قَاسَمَ بِالْجَدِّ إِلَى نِصْفِ السُّدُسِ، فَإِنْ نَقَصَتْهُ مِنْهُ فَرَضَ لَهُ نِصْفَ السُّدُسِ، فَكَأَنَّهُ قَاسَمَ بِهِ إِلَى أَحَدَ عَشَرَ أَخًا، وَفَرَضَ لَهُ نِصْفَ السُّدُسِ مَعَ الثَّانِيَ عَشَرَ، وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الْخَطَأِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ أَضْعَفَ مِنْهُ مَعَ الْبَنِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مَعَ الِابْنِ مِنَ السُّدُسِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مع الإخوة من السدس، وأما مُقَاسَمَةُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ إِلَى السُّدُسِ: فَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ بِأَقْوَى مِنَ الْأَبِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَبَ إِذَا فَرَضَ لَهُ لَمْ يَزِدْ فِي فَرْضِهِ عَلَى السُّدُسِ فكان الجد إذا فرض له أولى أن لا يُزَادَ عَلَى السُّدُسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ يُفْرَضُ لَهُ الثُّلُثُ مَعَ الْإِخْوَةِ إِنْ نَقَصَتْهُ المقاسمة هُوَ أَنَّ فِي الْجَدِّ رَحِمًا وَتَعْصِيبًا فَمِيرَاثُهُ مَعَ الِابْنِ بِرَحِمِهِ فَيَأْخُذُ بِهِ السُّدُسَ، وَمِيرَاثُهُ مَعَ الْإِخْوَةِ بِتَعْصِيبِهِ كَمَا أَنَّهُمْ بِالتَّعْصِيبِ يَرِثُونَ، فلو فرض له السدس لا يسقط تَعْصِيبُهُ وَوَرِثَ بِرَحِمِهِ، وَلَيْسَ فِي الْإِخْوَةِ مَا يَدْفَعُونَ الْجَدَّ عَنْ تَعْصِيبِهِ فَلِذَلِكَ فَرَضَ لَهُ الثُّلُثَ لِيَكُونَ السُّدُسُ بِالرَّحِمِ.
وَالسُّدُسُ بِالتَّعْصِيبِ الَّذِي أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالرَّحِمِ، وَلِأَنَّ الْجَدَّ يَحْجُبُهُ الْأَخَوَانِ إِلَى الثُّلُثِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي أصول الحجب أن الابنين إِذَا حَجَبَا إِلَى فَرْضٍ كَانَ مَنْ زَادَ عليهما في حكمها فِي اسْتِقْرَارٍ ذَلِكَ الْفَرْضِ بَعْدَ الْحَجْبِ، وَلَا يَحْجُبُ الثَّالِثُ زِيَادَةً عَلَى حَجْبِ الثَّانِي، كَالْأَخَوَيْنِ لَمَّا حَجَبَا الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ لَمْ يَزِدْهَا الثلث حجبا على الثاني حتى ينقص بِهِ مِنَ السُّدُسِ، كَذَلِكَ الْجَدُّ لَا يَنْقُصُهُ الثَّالِثُ مِنَ الثُّلُثِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَنْقُصَ الجد للإخوة فقال عمر لو كنت مستنقصا أحدا لأحد لأنقصت الإخوة للجد، أليس بنو عبد الله يرثون دون أخوتي فمالي لَا أَرِثُهُمْ دُونَ إِخْوَتِهِمْ، لَإِنْ أَصْبَحْتُ لَأَقُولَنَّ فِي الْجَدِّ قَوْلًا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْجَدِّ ذُو فَرْضٍ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ فَسَيَأْتِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ ذُو فَرْضٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ شَارَكَ الْجَدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا إِخْوَةً مُنْفَرِدِينَ، فَإِنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ أَخَوَيْنِ وَلَا يُقَاسِمُ مَنْ زَادَ، فَإِنْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ جَدًّا وَأَخًا: كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ جَدًّا وَأَخَوَيْنِ: كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَإِنْ كَانَتْ جَدًّا وَثَلَاثَةَ إِخْوَةٍ فُرِضَ لِلْجَدِّ الثُّلُثُ وَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ وَهَكَذَا يُفْرَضُ لَهُ الثُّلُثُ مَعَ مَنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ.(8/126)
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَدِّ أَخَوَاتٌ متفرقات فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنهما كانا يفرضان للأخوات المتفرقات مَعَ الْجِدِّ وَيَجْعَلَانِ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِهِنَّ لِلْجَدِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ السُّدُسِ فَيُفْرَضُ له السدس، ونحوه عنه عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ لَا يَفْرِضُ لِلْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ مَعَ الْجَدِّ إلا في الأكدرية ونحوها، وترك الفرض لهن مع الجد أولى كَالْأَخِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْرِضْ لَهُنَّ مَعَ الْأَخِ لم يفرض لهن مع الجد، لأن كُلَّ مَنْ قَاسَمَ الذُّكُورَ قَاسَمَ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنَ الْإِنَاثِ كَالِابْنِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ جَدًّا وَأُخْتًا فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا للذكر مثل حظ الأنثيين كالأخ والأخت، ولم كَانَتْ جَدًّا وَأُخْتَيْنِ: كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ، فَلَوْ كَانَتْ جَدًّا وَثَلَاثَ أَخَوَاتٍ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ، فَلَوْ كَانَتْ جَدًّا وَأَرْبَعَ أَخَوَاتٍ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ أُخْتٍ سهم وتستوي المقاسمة والثلث ولو كانت جدا وَخَمْسَ أَخَوَاتٍ فَرَضَ لِلْجَدِّ الثُّلُثَ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَنْقُصُهُ مِنَ الثُّلُثِ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ ثُلُثِ الْجَدِّ بَيْنَهُنَّ عَلَى أَعْدَادِهِنَّ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَدِّ إِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ فَيُقَاسِمُهُمْ إِلَى الثُّلُثِ ثُمَّ يَفْرِضُ لَهُ الثُّلُثَ إِنْ نَقَصَتْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ جَدًّا وَأَخًا وَأُخْتًا كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ وَلَوْ كَانَتْ جَدًّا وَأَخًا وَأُخْتَيْنِ: كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ، وللأختين سهمان، وَتَسْتَوِي الْمُقَاسَمَةُ وَالثُّلُثُ، وَلَوْ كَانَتْ جَدًّا، وَأَخَوَيْنِ، وَأُخْتًا فَرَضَ لَهُ الثُّلُثَ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَنْقُصُهُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهَا سَهْمَانِ مِنْ سَبْعَةٍ، فَلِذَلِكَ فَرَضَ لَهُ الثُّلُثَ، وَكَانَ الْبَاقِي بين الأخوين والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين، وَهَكَذَا يَفْرِضُ لَهُ الثُّلُثَ مَعَ أَخٍ وَثَلَاثِ أَخَوَاتٍ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَنْقُصُهُ مِنْهُ ثُمَّ هَكَذَا من زاد.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإن كان معهن مَنْ لَهُ فَرْضٌ مُسَمًّى زَوْجٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ أُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ أَوْ بَنَاتُ ابْنٍ وَكَانَ ذَلِكَ الْفَرْضُ الْمُسَمَّى النِّصْفَ أَوْ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ بَدَأْتُ بِأَهْلِ الْفَرَائِضِ ثُمَّ قَاسَمَ الجد ما يبقى أختا أَوْ أُخْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَخًا وَأُخْتًا وإن زادوا كان للجد ثلث ما يبقى وَمَا بَقِيَ فَلِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين وإن كَثُرَ الْفَرْضُ الْمُسَمَّى بِأَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ وَلَمْ يجاوز الثلثين قاسم أختا أو أختين فإن زادوا فللجد السدس وإن زَادَتِ الْفَرَائِضُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ لَمْ يُقَاسِمِ الْجَدُّ أَخًا وَلَا أُخْتًا وَكَانَ لَهُ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ فَلِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي تَفَرُّدِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ بِالْمِيرَاثِ، فَأَمَّا إِذَا شَارَكَهُمْ ذُو فَرْضٍ فَلِلْجَدِّ مَعَهُمْ عِنْدَ دُخُولِ ذَوِي الْفُرُوضِ عَلَيْهِمُ الْأَكْثَرُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا الْمُقَاسَمَةُ، أَوْ ثُلُثُ مَا بَقِيَ، أَوْ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُقَاسَمَةُ أَكْثَرَ قَاسَمَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مُقَاسَمَتِهِ لَهُمْ، فإن كان الثلث الْبَاقِي أَكْثَرَ فَرْضٍ لَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي(8/127)
لما ذكرناه من أنهم لا يحجبون إلى أقل من الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ السُّدُسُ أَكْثَرَ فَرَضَ لَهُ السُّدُسَ، لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ بِرَحِمِهِ عَنِ السُّدُسِ، فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا لَهُ الْأَكْثَرَ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ، أَوْ ثُلُثَ الْبَاقِي، أَوْ سُدُسَ الْجَمِيعِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ: فَيُعْطِي الْجَدَّ الْأَكْثَرَ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ، أَوْ ثُلُثَ الْبَاقِي، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ سُدُسِ الْجَمِيعِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ زَوْجَةً، وَأَخًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ أَوْفَرُ لَهُ، وَلَوْ تَرَكَ زَوْجَةً، وَجَدًّا، وَأَخًا، وأختا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ أوفر له، ولو ترك زوجة، وأخا، وجدا، وأختا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ والأخت على خمسة أسهم والْمُقَاسَمَةَ أَوْفَرُ وَلَوْ تَرَكَ أما، وَأَخًا، وأختين، وَجَدًّا، كَانَ للأم السدس، وَالْبَاقِي بَيْنِ الْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْأُخْتين عَلَى ستةِ أَسْهُمٍ، وَالْمُقَاسَمَةُ وَثُلُثُ الْبَاقِي سَوَاءٌ، وَلَوْ تَرَكَ أُمًّا، وَأَخَوَيْنِ، وَأُخْتًا، وَجَدًّا، كَانَ للأم السدس، وللجد ثلث ما بقي، لأنه أكثر الْمُقَاسَمَةِ وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَالْأُخْتِ لِلذّكرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَوْ تَرَكَ زَوْجَةً، وَأُمًّا، وَأَخًا، وَأُخْتًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ وَالْأُخْتِ عَلَى خمسة أسهم وَالْمُقَاسَمَةُ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ النِّصْفَ لَا غَيْرَ: وَذَلِكَ فَرْضَانِ: فَرْضُ الزَّوْجِ وَفَرْضُ الْبِنْتِ، فَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ فَكَانَتِ الْفَرِيضَةُ زَوْجًا، وَأَخًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ، وَالْمُقَاسَمَةُ أَوْفَرُ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجًا، وَأَخًا، وَأُخْتًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخِ وَالْجَدِّ وَالْأُخْتِ عَلَى خَمْسَةٍ، وَالْمُقَاسَمَةُ أَوْفَرُ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجًا، وَأَخَوَيْنِ، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخَوَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالْمُقَاسَمَةُ وَثُلُثُ الْبَاقِي وَسُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ سَوَاءٌ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجًا، وَأَخْوِيَنِ، وَأُخْتًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ مَا يَبْقَى، وَهُوَ سُدُسُ الْجَمِيعِ أَيْضًا وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَالْأُخْتِ لا يقاسمهم الجد، لتساويه بِالْمُقَاسِمَةِ عَنْ ثُلُثِ مَا يَبْقَى وَسُدُسِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ فَرْضَ الْبِنْتِ: فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ الْجَدُّ عَلَى السُّدُسِ مَعَ الْبِنْتِ، أَوْ بِنْتِ الِابْنِ، وَعَلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ إِنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ مَعَ الْبِنْتِ كَمَا يقاسم مَعَ غَيْرِ الْبِنْتِ، لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يَضْعُفُ عَنِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، فَلَمَّا اقْتَسَمَ الْأَخُ وَالْأُخْتُ مَا فَضَلَ عَنْ فَرْضِ الْبِنْتِ اقْتَسَمَهُ الْأَخُ وَالْجَدُّ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ بِنْتًا، وَأَخًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، والباقي بين الأخت والجد على ثلاثة، ولو ترك بنتا وأخوين، وأختا، وجدا، كان للبنت النصف، وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ مَا يَبْقَى وَهُوَ السُّدُسُ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ تَنْقُصُهُ عَنْهُ وَالْبَاقِيَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ وَالْأُخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَيَكُونُ لِلْجَدِّ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ أَوْ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ، لِأَنَّ ثُلُثَ الْبَاقِي أَقَلُّ مِنْهُ، فعلى هذا لو ترك(8/128)
زوجة، وأما، وأختا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ لَهُ مِنَ السُّدُسِ، وَتُفَضَّلُ الْأُمُّ بِسَهْمِهَا عَلَى الْجَدِّ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُفَضِّلَانِ أُمًّا عَلَى جَدٍّ، وَفَضَّلَهَا زَيْدٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ أَقْوَى وِلَادَةً وَأَقْرَبَ دَرَجَةً فَلَمْ يَمْتَنِعْ تَفْضِيلُهَا عَلَى الْجَدِّ، فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا، وَأُمًّا، وَأُخْتًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالْمُقَاسَمَةُ أَوْفَرُ، وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ، وَأَخًا، وَجَدًّا كَانَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ نِصْفَيْنِ، وَالْمُقَاسَمَةُ وَالسُّدُسُ سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ مَعَ الأخ أخت فرض للجد سدس، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ أَقَلُّ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الفرض أكثر من الثلثين: لِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَرُبَّمَا اسْتَوَى السُّدُسُ وَالْمُقَاسَمَةُ، فَإِذَا كَانَتِ الْفَرِيضَةُ زَوْجًا وَبِنْتًا وَأَخًا وَجَدًّا كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي للأخ سهم من اثني عشر، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةً، وَأَمًّا، وَبِنْتًا، وَأَخًا، وَجَدًّا، كَانَ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْأَخِ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وعشرين سهما فلو كانت زوجا، وبنتا، وأخا، وجدا، فللزوج الربع، وللبنت النصف، وسدس للجد وَالْمُقَاسَمَةُ سَوَاءٌ، فَيُقَاسِمُ بِهِ لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ مَا لَمْ تَنْقُصْهُ عَنْ فَرْضِهِ أَوْلَى فَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فإن عالت الفريضة فالسدس للجد والعول يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَا يَدْخُلُ عَلَى غَيْرِهِ ".
قال الماوردي: وأما الْعَوْلُ فَهُوَ زِيَادَةُ الْفُرُوضِ فِي التَّرِكَةِ حَتَّى تَعْجِزَ التَّرِكَةُ عَنْ جَمِيعِهَا فَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَى الْفُرُوضِ بِالْحِصَصِ، وَلَا يُخَصُّ بِهِ بَعْضُ ذَوِي الفروض من دُون بَعْضٍ، فَهَذَا هُوَ الْعَوْلُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِهِ عَنْ رَأْيِ جَمِيعِهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ عليه، وأشار بِهِ عَلَيْهِ عَلِيٌّ، وَالْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ اتَّفَقُوا جَمِيعًا عَلَيْهِ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ خَالَفَهُمْ فِي الْعَوْلِ، وَأَظْهَرَ خِلَافَهُ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي تَفَرَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ أكمل فرض من نقله الله تَعَالَى مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ والأم، وأدخل النقص على من نقله الله مِنْ فَرْضٍ إِلَى غَيْرِ فَرْضٍ كَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ لِانْتِقَالِهِنَّ مَعَ إِخْوَتِهِنَّ مِنْ فَرْضٍ إِلَى غَيْرِ فرض.
وروى عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَتَرَوْنَ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عددا لم يحصي في مال قسمه نصفا ونصفا وثلثا، فبهذان النصفان قد ذهبنا بِالْمَالِ فَأَيْنَ مَوْضِعُ الثُّلُثِ قَالَ عَطَاءٌ: فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ يَا أَبَا عَبَّاسٍ إِنَّ هَذَا لَا يُغْنِي عَنْكَ وَلَا عَنِّي شَيْئًا لَوْ مِتُّ أَوْ مِتَّ قُسِّمَ مِيرَاثُنَا عَلَى مَا قاله اليوم من خلاف رأيك قال فقال إن شاؤا فلندع أبناءنا وأبنائهم، ونسائنا ونسائهم، وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَهُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي مَالٍ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا.(8/129)
وَروي الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ أَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ أنا وزفر بن أوس وما كنت ألقى رجلا من العرب يحيك فِي صَدْرِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ زُفَرُ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ مَنْ أَوَّلُ مَنْ أَعَالَ الْفَرَائِضَ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ قَدَّمَ مَنْ قدم الله مَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ، قَالَ فَقَالَ لَهُ يا أبا العباس وَأَيُّهَا الَتِي قَدَّمَهَا اللَّهُ وَأَيُّهَا الَّتِي أَخَّرَ؟ فقال كل فريضة لم تزول عن فريضة إلا إلى فريضة هي التي قدمها الله، وكل فريضتين عالت عَنْ فَرِيضَتِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا مَا بَقِيَ فَهِيَ الَّتِي أَخَّرَ، فَأَمَّا الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ فَالزَّوْجُ فَلَهُ النِّصْفُ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مَنْ يُزِيلُهُ فَلَهُ الرُّبُعُ لَا يُزِيلُهُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَالْمَرْأَةُ لَهَا الرُّبُعُ فَإِذَا زَالَتْ عَنْهُ صَارَ لَهَا الثُّمُنُ لَا يُزِيلُهَا عَنْهُ شَيْءٌ، والأم لها الثلث فإذا زالت عنه صار لها السدس لَا يُزِيلُهَا عَنْهُ شَيْءٌ، فَهَذِهِ الْفَرَائِضُ الَّتِي قَدَّمَ اللَّهُ، وَالَّتِي أَخَّرَ فَرِيضَةُ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ النصف والثلثان، فإذا أزالتهما الفرائض عن ذلك لم يكن لهم إلا ما يبقى، فَإِذَا اجْتَمَعَ مَا قَدَّمَ اللَّهُ وَمَا أَخَّرَهُ بدئ بما قدمه الله ولم تعل فريضة، فقال له البصري فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَسِيرَ بِهَذَا الرَّأْيِ عَلَى عمر قال هبته وكان امرءا وَرِعًا فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ ابْنَ عَبَّاسٍ إِمَامٌ عَدْلٌ فَأَمْضَى أَمْرًا فَمَضَى وكان امرءا وَرِعًا لَمَا اخْتَلَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ في إسقاط العول واحتجاجه فيه فلم يُتَابِعْهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ علي عليهم السلام.
ومن الفقهاء داود بن علي دليل ذَلِكَ مَعَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الِاحْتِجَاجِ أَنَّهُ لَيْسَ الْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ بِأَقْوَى مِنَ الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ فَلَمَّا أَخَذَ الْبَنُونَ وَالْإِخْوَةُ ما بقي بعد ذوي الفروض وإن قيل كَانَ أَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ الْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ.
وَالدَّلِيلُ على استعمال العول وإدخال النقص على الْجَمَاعَةِ بِقَدْرِ فُرُوضِهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ألحقوا الفرائض بأهلها " وكان الْأَمْرُ لِجَمِيعِهِمْ عَلَى سَوَاءٍ فَامْتَنَعَ أَنْ يَخْتَصَّ بَعْضُهُمْ بِالنَّقْصِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قُصُورُ التَّرِكَةِ عَنِ الدَّيْنِ وَضِيقِ الثُّلُثِ عَنِ الوصية توجب توزيع ذلك بالحصص وإدخال النَّقْصِ عَلَى الْجَمِيعِ بِالْقِسْطِ وَلَا يُخَصُّ بِهِ الْبَعْضُ مَعَ تَسَاوِي الْكُلِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فرض التركة بمثابة في إدخال النقص على جميعها بالحصص، ولأن لَوْ جَازَ نَقْصُ بَعْضِهِمْ تَوْفِيرًا عَلَى الْبَاقِينَ لكان نقص الزوج والزوجة ولإدلائهما بِسَبَبٍ أَوْلَى مِنْ نَقْصِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ إدلائهما بنسب ولأن الزوج والزوجة والأم وإن أُعْطَوْا مَعَ كَثْرَةِ الْفُرُوضِ وَضِيقِ التَّرِكَةِ أَعْلَى الْفَرْضَيْنِ كَمَّلَا وَإِدْخَالُ النَّقْصِ عَلَى غَيْرِهِمْ ظُلْمٌ من شاركهم وجعلوا أعلى في الحالة الأدنى وَإِنْ أُعْطَوْا أَقَلَّ الْفَرْضَيْنِ فَقَدْ حُجِبُوا بِغَيْرِ مَنْ حَجَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ فاسد، وإذا فسد الأمران وجب العول.
فأما اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ ضَعْفَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُفَضَّلُوا عَلَى الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أنَّ فِي إِعْطَائِهِنَّ الْبَاقِي تَسْوِيَةً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فِيمَا قَدَّرَهُ لِأَحَدِهِمَا وَأَرْسَلَهُ لِلْآخَرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمُقَدَّرِ وَالْمُرْسَلِ.(8/130)
وأما ضيق المال عن نِصْفَيْنِ وَثُلُثٍ: فَلَعَمْرِي إِنَّهُ يَضِيقُ عَنْ ذَلِكَ مع عدم العول، ويتبع لَهُ مَعَ وُجُودِ الْعَوْلِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ يُقَدِّمُ مَنْ قَدَّمَ اللَّهُ فَكُلُّهُمْ مقدم لأمرين:
أحدهما: أنه لَيْسَ يَحْجُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِيمَا قَالَهُ ابْنُ عباس حجب بعضهم ببعض.
وَالثَّانِي: أَنَّ فَرْضَ جَمِيعِهِمْ مُقَدَّرٌ وَفِيمَا قَالَهُ ابن عباس إبطال التقدير فَرْضَهُمْ فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ يُعَالُ لِأَحَدٍ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ إِلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ وَجَدٌّ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُلُثُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ وَلَلْأُخْتِ النِّصْفُ يُعَالُ بِهِ ثُمَّ يُضَمُّ الْجَدُّ سُدُسُهُ إِلَى نِصْفِ الْأُخْتِ فَيُقْسَمَانِ ذَلِكَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ بِنِصْفِهَا وَتَصِحُّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلزَّوْجِ تِسْعَةٌ وَلِلْأُمِّ سِتَّةٌ وَلِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْأُخْتِ أَرْبَعَةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ ثَلَاثَةَ أُصُولٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَفْرِضُ لِلْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ مَعَ الْجَدِّ وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا فَرَضَا لِلْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ مَعَ الْجَدِّ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِيمَا تقدم.
والثاني: أنه يُفَضِّلَ أُمًّا عَلَى جَدٍّ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُفَضِّلَانِ أُمًّا عَلَى جَدٍّ وَقَدْ دَلَّلْنَا عليه.
والثالث: أنه لا يُعِيلَ مَسَائِلَ الْجَدِّ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُعِيلُونَ مَسَائِلَ الْجَدِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَعُولُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَدَّ يَرِثُ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ بِالتَّعْصِيبِ وَمَسَائِلُ الْعَصِبَاتِ لَا تَعُولُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ اجْتِمَاعُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يَمْنَعُ من عول مسائل الجد فإن انفراد الأخوات مانعا من العول فهذه ثلاثة أصول لزيد عَمِلَ عَلَيْهَا فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ وَلَمْ يُخَالِفْ شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ فَإِنَّهُ فَارَقَ فِيهَا أَصْلَيْنِ مِنْهَا، وَالْأَكْدَرِيَّةُ هِيَ: زَوْجٌ، وَأُمٌّ، وَأُخْتٌ، وَجَدٌّ، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ تَابَعَهُ، إنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسَ، وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ، وَقَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ عَنْ زَيْدٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسَ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسَ، لِأَنَّهُمَا لَا يُفَضِّلَانِ أُمًّا عَلَى جَدٍّ وَعَالَتْ بِثُلُثِهَا إلى ثمانية.
والقسم الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ للزوج النصف، وللأم(8/131)
الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس، وتعول بنصفها إلى تسعة وتقسيم بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ زيد بن ثابت والمشهور عنه للزوج النصف، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس، ويعول نصفها إِلَى تِسْعَةٍ ثُمَّ تَجْمَعُ سِهَامَ الْأُخْتِ وَالْجَدِّ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فَتَجْعَلُهَا بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ فَلَا تقسم فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي تِسْعَةٍ تَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فِي ثَلَاثَةٍ تِسْعَةٌ، وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ في ثلاثة ستة، ويبقى اثْنَا عَشَرَ لِلْأُخْتِ ثُلُثُهَا أَرْبَعَةٌ، وَلِلْجَدِّ ثُلُثَاهَا ثَمَانِيَةٌ، فَفَارَقَ زِيدٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَرَضَ لِلْأُخْتِ مَعَ الْجَدِّ وَهُوَ لَا يَرَى الْفَرْضَ لَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَعَالَ مُقَاسَمَة الْجَدِّ وَهُوَ لَا يُعِيلُهَا وَأَقَامَ عَلَى أَصْلِهِ الثَّالِثِ فِي جَوَازِ تَفْضِيلِ الْأُمِّ عَلَى الْجَدِّ، وَإِنَّمَا فَارَقَ فِيهَا أَصْلَيْهِ فِي الْفَرْضِ وَالْعَوْلِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالْأُمِّ السُّدُسُ فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَى الْجَدِّ أَسْقَطَ الْأُخْتَ وَهُوَ لَا يُسْقِطُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ عَصَّبَهَا وَالذَّكَرُ إِذَا عَصَّبَ أُنْثَى فَأَسْقَطَهَا سَقَطَ مَعَهَا كَالْأَخِ إِذَا عَصَّبَ أُخْتَهُ وَأَسْقَطَهَا سَقَطَ مَعَهَا، وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْأُخْتِ أَخٌ أَسْقَطَهُ الْجَدُّ، لِأَنَّهُ لم يتعصب بالجد كالأخت فجاز أن يسقطه الجد وَيَرِثَ دُونَهُ فَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَفْرِضْ لِلْجَدِّ وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْرِضَ لِلْأُخْتِ وَيَسْقُطُ الْجَدُّ لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يَسْقُطُ مَعَ الوالد الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الْأُخْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِالْأُخْتِ فَدَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَنْ فَرَضَ لَهُمَا وَأَعَالَ ثُمَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقِرَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا فَرَضَ لَهُ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْضِيلَ الْأُخْتِ عَلَى الْجَدِّ وَالْجَدُّ عِنْدَهُ كَالْأَخِ الَّذِي يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَكُلُّ ذَكَرٍ عَصَّبَ أُنْثَى قَاسَمَهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين فلذلك ما فَرَضَ زَيْدٌ وَأَعَالَ وَقَاسَمَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ واختلفوا في تسمية هذه المسألة بالأكدرية فَقَالَ الْأَعْمَشُ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ سَأَلَ عَنْهَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْأَكْدَرُ فَأَخْطَأَ فِيهَا فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَقَالَ آخَرُونَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْجَدَّ كَدَّرَ عَلَى الْأُخْتِ فَرْضَهَا، وَقَالَ آخَرُونَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا كَدَّرَتْ عَلَى زَيْدٍ مَذْهَبَهُ فِي أَنْ فَارَقَ فِيهَا أَصْلَيْنِ لَهُ وَقَدْ يُلْقِي الْفَرْضِيُّونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مُعَايَاةِ الْفَرَائِضِ فَيَقُولُونَ: أَرْبَعَةٌ وَرِثُوا تَرِكَةً فَجَاءَ أَحَدُهُمْ فَأَخَذَ ثُلُثَهَا، ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي فَأَخَذَ ثُلُثَ الْبَاقِي، ثُمَّ جَاءَ الثَّالِثُ فَأَخَذَ ثُلُثَ الْبَاقِي، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعُ فَأَخَذَ الْبَاقِي، لِأَنَّ الزَّوْجَ يَأْخُذُ ثُلُثَهَا ثُمَّ الْأُمُّ تَأْخُذُ ثُلُثَ الْبَاقِي ثُمَّ الْأُخْتُ تَأْخُذُ ثُلُثَ بَاقِيهَا.
فَصْلٌ:
فَلَوْ كَانَ فِي الْأَكْدَرِيَّةِ مَكَانَ الْأُخْتِ أَخًا سَقَطَ بِالْجَدِّ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ ما قدمناه من أن الأخت تعصيبها بِالْجَدِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْقِطَهَا وَلَا يَسْقُطَ مَعَهَا، وَالْأَخُ لَمْ يَتَعَصَّبْ بِالْجَدِّ بَلْ بِنَفْسِهِ فَجَازَ أَنْ يُسْقِطَهُ الْجَدُّ وَيَأْخُذَ بِالرَّحِمِ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجًا، وَأُمًّا، وَأَخًا، وَجَدًّا، وَأُخْتًا، كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ بَيْنَ الْأَخِ وَالْأُخْتِ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَلَوْ كَانَتْ زَوْجًا، وَأُمًّا، وَبِنْتًا، وَأُخْتًا، وَجَدًّا كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وللجد السدس، تعول إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَتَسْقُطُ الْأُخْتُ، لِأَنَّهَا تَعَصَّبَتْ بِالْبِنْتِ فَلَمْ يُوجِبْ سُقُوطَهَا سُقُوطَ الْجَدِّ مَعَهَا، ولم يمتنع(8/132)
عَوْلُهَا، لِأَنَّ الْجَدَّ لَمْ يَرِثْ فِيهَا بِالتَّعْصِيبِ، وَإِنَّمَا لَا تَعُولُ مَسَائِلُ الْجَدِّ الَّتِي يُقَاسِمُ فِيهَا الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى مَسَائِلِ الْجَدِّ، وَقَدْ تَعُولُ فِي غَيْرِهَا كَمَا تَعُولُ مَعَ الْأَبِ.
فَصْلٌ: فِي مُلَقَّبَاتِ الْجَدِّ
مِنْهَا الْخَرْقَاءُ وَهِيَ أُمٌّ، وَأُخْتٌ، وَجَدٌّ، وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله عنهم والفقهاء: أن للأم الثلث، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ لِلْأُمِّ السُّدُسَ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، لِأَنَّهُ لَا يُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى جَدٍّ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَلِلْأُخْتِ الثُّلُثَ، وَلِلْجَدِّ الثُّلُثَ.
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عليه السلام: أَنَّ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، لأنه لا يُفَضِّلُ أُمًّا عَلَى جَدٍّ.
وَالْخَامِسُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لِلْأُخْتِ النِّصْفَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ.
وَالسَّادِسُ: وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُخْتِ وَالْجَدِّ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ وَبِهَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ مَا يُوَضِّحُ هَذَا الْجَوَابَ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْخَرْقَاءَ، لِأَنَّ أقاويل الصحابة رضي الله عنهم تخرقها، وَسُمِّيَتْ مُثَلَّثَةَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَسُمِّيَتْ مُرَبَّعَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " والإخوة والأخوات للأب والأم يعادون الجد والأخوات بالإخوة للأب ولا يصير في أيدي الذين للأب شَيْءٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ أُخْتٌ وَاحِدَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَيُصِيبُهَا بَعْدَ الْمُقَاسَمَةِ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ فيرد مَا زَادَ عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمُّ مَعَ الْجَدِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ مَنْ قَاسَمَ الْجَدَّ بالإخوة والأخوات في أَنَّهُ مَتَى انْفَرَدَ مَعَهُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ قَاسَمُوهُ، وَإِذَا انْفَرَدَ مَعَهُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ قَاسَمُوهُ كَمُقَاسَمَةِ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي اجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ مَعَهُ فَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ وَلَدَ الْأَبِ يَسْقُطُونَ بِوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ أُنْثَى وَاحِدَةً وَوَلَدُ الْأَبِ إِنَاثًا وَلَا ذَكَرَ مَعَهُنَّ فَيُفْرَضُ لَهُنَّ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ سَقَطْنَ به مع ولد الأب والأم استدلالا بأنه وَلَد الْأَبِ لَمَّا سَقَطُوا بِوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ(8/133)
عَنِ الْمِيرَاثِ مَعَ الْجَدِّ سَقَطُوا فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ سَبَبٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَذَهَبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْأَبِ يُقَاسِمُونَ الْجَدَّ مَعَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ يَرُدُّونَ مَا حَصَلَ لَهُمْ عَلَى وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ أُنْثَى وَاحِدَةً فَلَا تُزَادُ فِيمَا يَرُدُّ عَلَيْهَا عَلَى النِّصْفِ، فَإِنْ وَصَلَ بَعْدَ النِّصْفِ شَيْءٌ تَقَاسَمَهُ وَلَدُ الْأَبِ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مثل حظ الأنثيين، وحكي نحوه عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ بِوَلَدِ الْأَبِ مَعَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ: هُوَ أَنَّ مُقَاسَمَةَ الْإِخْوَةِ لِلْجَدِّ إِنَّمَا كَانَ لِإِدْلَاءِ جَمِيعِهِمْ بِالْأَبِ فَلَمَّا ضَعُفَ الْجَدُّ عَنْ دَفْعِ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ بِانْفِرَادِهِمْ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَضْعُفَ عَنْ دَفْعِهِمْ إِذَا اجْتَمَعُوا مَعَ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُمْ فَلِذَلِكَ ما اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي مُقَاسَمَتِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَقْوَى سَبَبًا مِنَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ دَفَعُوهُمْ عَمَّا صَارَ إِلَيْهِمْ حِينَ ضَعُفَ الْجَدُّ عَنْ دَفْعِهِمْ فَلِذَلِكَ عَادَ مَا أَخَذَهُ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْجُبَ الأخوة شخصا ثم يَعُودُ مَا حَجَبُوهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، أَلَا تَرَى أن الأخ للأب يحجب الأم مع الخ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ يَعُودُ السُّدُسُ الَّذِي حَجَبَهَا عَنْهُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، فَهَكَذَا فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ، وَهَكَذَا الْأَخَوَانِ يَحْجُبَانِ الْأُمَّ مَعَ الْأَبَوَيْنِ ثُمَّ يَعُودُ الْحَجْبُ عَلَى الْأَبِ دُونَ الأخوين.
فأما الجواب عن الاستدلال بأن المقاسمة إنما تحجب الاستحقاق بِهَا فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ صَحِيحٌ وَقَدِ اسْتَحَقَّهُ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَصَارَتِ الْمُقَاسَمَةُ لِلِاسْتِحْقَاقِ لَا لِغَيْرِهِ.
فَصْلٌ:
فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخًا لِأَبٍ، وَجَدًّا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ يَرُدُّ الْأَخُ لِلْأَبِ سَهْمَهُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَيَصِيرُ لِلْأَخِ للأب والأم سهمين، وَلِلْجَدِّ سَهْمٌ، وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ، وَجَدًّا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أربعة، ثم ترد الأخت للأب سهما عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَيَصِيرُ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ سَهْمَانِ، وَلِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلَوْ تَرَكَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتًا لِأَبٍ وَجَدًّا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ ثُمَّ تَرُدُّ الْأُخْتُ لِلْأَبِ على الأخ للأب والأم سهما فيصير للأخ للأب وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلَوْ تَرَكَ أَخًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَجَدًّا، كان المال بينهم على ستة ثم ترد الأختان سهما عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ فَيَصِيرُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْجَدِّ سَهْمَانِ، وَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخًا لِأَبٍ وَجَدًّا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، ثُمَّ يَرُدُّ الْأَخُ لِلْأَبِ مِنْ سَهْمِهِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ تَمَامَ النِّصْفِ سَهْمًا وَنِصْفًا فَيَصِيرُ مَعَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ، وَمَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ نِصْفُ سَهْمٍ، وَمَعَ الْجَدِّ سَهْمَانِ، وَتَصِحُّ مِنْ عَشَرَةٍ، فَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ، وَجَدًّا، كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ ثُمَّ تَرُدُّ الْأُخْتَانِ مِنَ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ والأم تمام النصف لينتقل إِلَى عَشَرَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ عِشْرِينَ، فَلَوْ تَرَكَ أُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَثَلَاثَ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ، وَجَدًّا، كان المال بينهم على ستة هم تَرُدُّ الْأَخَوَاتُ لِلْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ تمام النصف سهمين ويقتسمون السهم الباقي وتصح من ثمانية عشر.(8/134)
فلو تَرَكَ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ، وَجَدًّا، كان المال بينهم على ستة ثم ترد الْأُخْتَانِ لِلْأَبِ سَهْمَيْهِمَا عَلَى الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ فَيَصِيرُ مَعَ الْأُخْتَيْنِ أربعة ومع الجد سهمان، ويرجع إلى ثلاثة وَلَوْ تَرَكَ أُمًّا، وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأَخَوَيْنِ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَجَدًّا، كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ مَا يَبْقَى، لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمُقَاسَمَةِ وَمِنْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سُدُسُهَا لِلْأُمِّ ثلاثة، والباقي لِلْجَدِّ خَمْسَةٌ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ تَمَامُ النِّصْفِ تِسْعَةٌ، وَيَبْقَى سَهْمٌ وَاحِدٌ لِوَلَدِ الْأَبِ عَلَى خَمْسَةٍ فَاضْرِبْهَا فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَكُنْ تِسْعِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُسَمِّيهَا الْفَرْضِيُّونَ تِسْعِينِيَّةَ زيد، ولو ترك أما، وأختا لأب ولأم، وَأَخًا، وَأُخْتًا لِأَبٍ وَجَدًّا، كَانَ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ وَثُلُثَ الباقي سواء فإن عملها عَلَى الْمُقَاسَمَةِ كَمَّلَتْ لِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفَ، وَجَعَلَتِ الْبَاقِيَ بَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَيَصِحُّ عَمَلُهَا مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ، وَإِنْ عَمِلْتَهَا على إعطاء الجد ثلث الباقي أخذنا عَدَدًا تَصِحُّ مِنْهُ مَخْرَجَ السُّدُسِ وَثُلُثَ الْبَاقِي وأصله ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلْأُمِّ مِنْهَا السُّدُسُ وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ الْبَاقِي خَمْسَةٌ، وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ تِسْعَةٌ، وَالْبَاقِي وَهُوَ سَهْمٌ بَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَاضْرِبْهَا فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ فَتَصِحُّ مِنْهَا عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْمُخْتَصَرِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُسَمِّيهَا الْفَرْضِيُّونَ مُخْتَصَرَةَ زَيْدٍ.
وَالْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلِّهَا عَلَى قَوْلِ زَيْدٍ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ وَقَدْ حَذَفْنَا الجواب على قول من سِوَاهُ كَرَاهَةَ الْإِطَالَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَكْثَرُ مَا تَعُولُ بِهِ الْفَرِيضَةُ ثُلُثَاهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَقْصُورٌ عَلَى فِقْهِ الْفَرَائِضِ دُونَ الْعَمَلِ، غَيْرَ أَنَّنَا لَا نُحِبُّ أَنْ نُخْلِهِ مِنْ فُصُولٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أُصُولِ الْحِسَابِ وَطَرِيقِ الْعَمَلِ لِيَكُونَ الْكِتَابُ كَافِيًا، وَلِمَا قَصَدْنَا حَاوِيًا.
فَأَوَّلُ الْفُصُولِ أُصُولُ الْمَسَائِلِ: قد ذَكَرْنَا جَمْعًا وَتَفْصِيلًا أَنَّ الْفُرُوضَ سِتَّةٌ، النِّصْفُ، وَالرُّبُعُ، وَالثُّمُنُ، وَالثُّلُثَانِ، وَالثُّلُثُ، وَالسُّدُسُ، وَمَخْرَجُ حِسَابِهَا مِنْ سَبْعَةِ أُصُولٍ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لَا تَعُولُ، وَثَلَاثَةٌ تَعُولُ، فَالْأَرْبَعَةُ الَّتِي لَا تَعُولُ مَا أَصْلُهُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَمِنْ ثَلَاثَةٍ، وَمِنْ أَرْبَعَةٍ، وَمِنْ ثَمَانِيَةٍ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نِصْفٌ وَمَا بَقِيَ أَوْ نِصْفَانِ فَأَصِلُهَا مِنِ اثْنَيْنِ وَلَا تَعُولُ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فيها عصبة إلا في فريضة واحدة وهي زَوْجٌ وَأُخْتٌ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُلُثٌ أو ثلثان أقرهما فَأَصْلُهَا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَلَا تَعُولُ، لِأَنَّهُ لَا بد أن ترث فيها عصبة الأخ فَرِيضَة وَاحِدَة وَهِيَ أُخْتَانِ لِأَبٍ وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ وإذا كان في المسألة ربع أو نصف وربع فَأَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَلَا تَعُولُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا عَصَبَةٌ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمُنٌ أَوْ كَانَ مَعَ الثُّمُنِ نِصْفٌ فَأَصْلُهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَلَا تَعُولُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا عَصَبَةٌ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُصُولٍ لَا تَعُولُ.
وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَعُولُ فَمَا أَصْلُهُ مِنْ سِتَّةٍ وَمِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَمِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ سُدُسٌ أَوْ كَانَ مَعَ السُّدُسِ ثُلُثٌ أَوْ نِصْفٌ فَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَإِلَى ثَمَانِيَةٍ وَإِلَى تِسْعَةٍ وَإِلَى عَشَرَةٍ وَهُوَ أَكْثَرُ الْعَوْلِ وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ وَأَكْثَرُ مَا تَعُولُ بِهِ(8/135)
الْفَرِيضَةُ ثُلُثَاهَا لِأَنَّهَا عَالَتْ بِأَرْبَعَةٍ هِيَ ثُلُثَا السِّتَّةِ فَانْتَهَى عَوْلُهَا إِلَى عَشَرَةٍ وَكُلُّ فَرِيضَةٍ عَالَتْ إِلَى عَشَرَةٍ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ إِلَّا امْرَأَةٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا زَوْجٌ وَلَا يَرِثَ فِيهَا أَبٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا أَخَوَاتٌ وَلَا يَرِثَ فِيهَا جَدٌّ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا وَلَدُ الْأُمِّ وَهَذِهِ الْفَرِيضَةُ الَّتِي تَعُولُ إلى عشرة يسميها الفرضيون أم القروح وَمَا تَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ فَلَا يَكُونُ الْمَيِّتُ إِلَّا امْرَأَةً وَلَا يَرِثُ فِيهَا أَبٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَرِثَ فِيهَا جَدٌّ وَهُوَ أَكْثَرُ مَا تَعُولُ إِلَيْهِ مَسَائِلُ الْجَدِّ وَيُسَمِّيهَا الْفَرْضِيُّونَ الْغَرَّاءَ وَمَا تَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ فَلَا يَكُونُ الْمَيِّتُ إلا امْرَأَةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرِثَ فِيهَا أَبٌ وَلَا جَدٌّ وَيُسَمِّيهَا الْفَرْضِيُّونَ الْمُبَاهَلَةَ فَهَذَا أَحَدُ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تَعُولُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رُبُعٌ مَعَ سُدُسٍ أَوْ ثُلُثٍ وثلثين فأصلها من اثني عشرة وَلَا تَعُولُ إِلَى الْأفْرَادِ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَإِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَإِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ وَلَا تَعُولُ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا إِلَى الأزواج فيما ذَلِكَ وَمَا عَالَ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ لَمْ يَكُنِ الْمَيِّتُ فِيهِ إِلَّا رَجُلًا وَلَا يَرِثُ فِيهِ أَبٌ وَلَا جَدٌّ وَمَا عَالَ إِلَى خمسة وَإِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَجَازَ أَنْ يَرِثَ فِيهِ أَبٌ أَوْ جَدٌّ فَهَذَا ثَانِي الْأُصُولِ الَّتِي تَعُولُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمُنٌ مع سدس أو ثلث أو ثلثين فأصلها مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَهِيَ الْمِنْبَرِيَّةُ وَلَا يَكُونُ الْمَيِّتُ فِيهَا إِلَّا رَجُلًا وَلَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ فِيهَا الْأَبَوَانِ مَعَ الْبَنَاتِ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ عَالَتْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُورَثَ فِيهَا بِالتَّعْصِيبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ.
وَوَجْهُ تَصْحِيحِهَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي سِهَامِ الْفَرِيضَةِ عَدَدَانِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا أو أجناسا فإن كان جِنْسًا وَاحِدًا لَمْ تَخْلُ سِهَامُ فَرِيضَتِهِمُ الْمَقْسُومَةُ عَلَى أَعْدَادِ رُؤُوسِهِمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أن تكون منقسمة على عدد رؤوسهم عَلَيْهِمْ أَوْ مُوَافِقَةً لِعَدَدِهِمْ أَوْ غَيْرَ مُنْقَسِمَةٍ وَلَا مُوَافِقَةٍ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ سِهَامُ فَرِيضَتِهِمْ مُنْقَسِمَةً عَلَى عَدَدِ رُؤُوسِهِمْ فَالْمَسْأَلَةُ تَصِحُّ مِنْ أَصْلِهَا.
مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ سَهْمٌ وَمَا بَقِيَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ.
وَهَكَذَا زَوْجَةٌ وَابْنَانِ وَثَلَاثُ بَنَاتٍ أَصْلُهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ سَهْمٌ وَمَا بَقِيَ وَهُوَ سَبْعَةُ أسهم بين البنين وَالْبَنَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَيْهِمْ لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ بِنْتٍ سَهْمٌ فَهَذَا قِسْمٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أن لا تنقسم سهامهم عليهم ولا يوافق عَدَدُ رُؤُوسِهِمْ لِعَدَدِ سِهَامِهِمْ إِمَّا لِزِيَادَةِ عَدَدِ الرُّؤُوسِ عَلَى عَدَدِ السِّهَامِ وَإِمَّا لِزِيَادَةِ السِّهَامِ عَلَى عَدَدِ الرؤوس فَتَضْرِبُ عَدَدَ الرؤوس فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَمَا خَرَجَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ.(8/136)
مِثَالُهُ: أُمٌّ وَثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ لِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَالْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ بين الإخوة الثلاثة لا ينقسم عَلَيْهِمْ وَلَا تُوَافِقُ عَدَدَهُمْ فَاضْرِبْ عَدَدَ رؤوسهِمْ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَتَصِحُّ مِنْهَا فَهَذَا قِسْمٌ ثَانٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أن لا تَنْقَسِمَ سِهَامُهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ وَلَكِنْ يُوَافِقُ عَدَدَ سِهَامِهِمْ لِعَدَدِ رؤوسهم والموافقة أن يناسب أحد الفردين الْآخَرَ بِجُزْءٍ صَحِيحٍ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ خُمُسٍ أَوْ سُدُسٍ أَوْ سُبُعٍ أَوْ ثُمُنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأجزاء الصحيحة على ما سنذكره من الطريق إِلَى مَعْرِفَتِكَ لِمَا يُوَافِقُ بِهِ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ الْآخَرَ فَرُدَّ عَدَدَ الرؤوس إِلَى مَا يُوَافِقُ بِهِ عَدَدَ سِهَامِهَا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ ثُمَّ تَضْرِبُ وَفْقَ عَدَدِهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ فَتَصِحُّ مِنْهُ ويجعل مَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مَضْرُوبًا فِي وَفْقِ الْعَدَدِ الَّذِي ضَرَبْتَهُ فِي أصل المسألة.
مثاله: زوج وستة بنين أصلها من أربعة للزوج منها الربع سهم والباقي ثلاثة على ستة لا ينقسم وَلَكِنَّ السِّتَّةَ تُوَافِقُ الثَّلَاثَةَ بِالْأَثْلَاثِ لِأَنَّ لِكُلِّ واحد منهما ثُلُثٌ صَحِيحٌ فَتَرُدُّ السِّتَّةَ إِلَى وَفْقِهَا وَهُوَ اثْنَانِ ثُمَّ تَضْرِبُ الِاثْنَيْنِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَمِنْهُ تَصِحُّ فَهَذَا إِذَا كَانَتِ السِّهَامُ الْمُنْكَسِرَةُ عَلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إِذَا انْكَسَرَتِ السِّهَامُ عَلَى أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَأَكْثَرَ مَا تَنْكِسِرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ فَإِنْ كَانَ الْمُنْكَسِرُ عَلَى جِنْسَيْنِ فَلَا يَخْلُو عَدَدُ الْجِنْسَيْنِ الَّذِينَ قَدِ انْكَسَرَ عَلَيْهِمَا سِهَامُهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا؛ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ.
وَالثَّانِي: أن لا يُسَاوِيَهُ وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ؛ أن لا يُسَاوِيَهُ وَلَا يَدْخُلَ فِيهِ وَلَكِنْ يُوَافِقُهُ.
وَالرَّابِعُ: أن لا يُسَاوِيَهُ وَلَا يَدْخُلَ فِيهِ وَلَا يُوَافِقَهُ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ العددين مساويا للآخر فتقتصر عَلَى أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ وَتَضْرِبُهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا فَتَصِحُّ مِنْهُ وَيَنُوبُ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ عَنِ الْآخَرِ.
مِثَالُهُ: أُمٌّ وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ لِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ وَلِلْخَمْسِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ لَا تَنْقَسِمُ عليهن ولأولاد الأم الثلث سهمان لا ينقسمان عَلَيْهِنَّ فَاضْرِبْ أَحَدَ الْجِنْسَيْنِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا وَهُوَ سَبْعَةٌ تَكُنْ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ وَمِنْهُ تَصِحُّ لِلْأُمِّ سَهْمٌ مِنْ سَبْعَةٍ مَضْرُوبٌ لَهَا فِي خَمْسَةٍ وَلِلْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَرْبَعَةٌ من سبعة مضروب لهن في خمسة يكن عشرين وللأخوات من الأم سهمان مضروبان فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ عَشَرَةً.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يكون أحد العددين لا يساوي الآخر ولكن يَدْخُلُ فِيهِ كَدُخُولِ الِاثْنَيْنِ فِي الْأَرْبَعَةِ وَالسِّتَّةِ وَكَدُخُولِ الثَّلَاثَةِ فِي السِّتَّةِ وَالتِّسْعَةِ وَكَدُخُولِ الْعَشَرَةِ في العشرين والثلاثين ومعرفتك بِدُخُولِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ يَصِحُّ مِنْ أَحَدِ ثلاثة أوجه:(8/137)
أحدها: إما أن تقسم الأكثر على الأقل فتصح القسمة.
والثاني: إما أن تضاعف الأقل فيفنى به الأكثر.
والثالث: إما أَنْ يَنْقُصَ الْأَقَلُّ مِنَ الْأَكْثَرِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الْأَكْثَرِ فَإِذَا دَخَلَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ فِي الْآخَرِ كَانَ الْأَقَلُّ مُوَافِقًا لِلْأَكْثَرِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ كَدُخُولِ الثَّمَانِيَةِ فِي السِّتَّةَ عَشَرَ تُوَافِقُهَا بِالْأَثْمَانِ وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَنْصَافِ وَكَدُخُولِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فِي الستة والثلاثين توافقها بأجزاء اثني عشر وبالأسداس والأثلاث والأنصاف فيجعل ذلك ويقاس عَدَدُ الرؤوس وَعَدَدُ السِّهَامِ بِأَقَلِّ الْأَجْزَاءِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْجِنْسَيْنِ مِنْ رؤوس الْوَرَثَةِ لِأَنَّ دُخُولَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ يُغْنِيكَ عَنِ الْوَفْقِ بَيْنَهُمَا فَاقْتَصِرْ عَلَى ضَرْبِ الْعَدَدِ الْأَكْثَرِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ.
مِثَالُهُ: زوجتان وأربعة إخوة للزوجتين الربع سهم ولا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ بَيْنَ الْإِخْوَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمْ وَالِاثْنَانِ يَدْخُلَانِ فِي الْأَرْبَعَةِ فَاضْرِبِ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي هِيَ عَدَدُ الْإِخْوَةِ فِي الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ وَمِنْهَا تَصِحُّ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ لَا يُسَاوِي الْآخَرَ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَكِنْ يُوَافِقُهُ بِجُزْءٍ صَحِيحٍ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ وَمَعْرِفَتُكَ لِمَا بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ مِنَ الْمُوَافَقَةِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ دُخُولِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَيَصِيرُ الْعَدَدَانِ مُتَّفِقِينَ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَقَلِّ منها غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَسْتَعْمِلُهُ فِي وَفْقِ مَا بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اسْتِغْنَائِكَ عَنْهُ بالاقتصار على ضرب الأكثر في الأقل.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن لا يَدْخُلَ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَعُدَّ بِهِ الْأَكْثَرَ ثُمَّ تنظر به الْبَاقِي مِنَ الْأَكْثَرِ فَتَعُدُّ بِهِ الْأَقَلَّ فَإِنْ عَدَّهُ عَدًّا صَحِيحًا حَتَّى صَارَ دَاخِلًا فِيهِ والباقي مِنْ عَدَدِ الْأَكْثَرِ هُوَ الْوَفْقُ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ فَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةً كَانَ اتِّفَاقُهُمَا بِالْأَثْلَاثِ وَإِنْ كان أربعة فبالأرباع وإن كان خَمْسَةً فَبِالْأَخْمَاسِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ ثَمَانِيَةً وَالْآخَرُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَإِذَا عَدَدْتَ الثَّمَانِيَةَ وَالْعِشْرِينَ بِالثَّمَانِيَةِ بَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ فَإِذَا عَدَدْتَ الثمانية بالأربعة استوفتها ودخلت فيها فيعلم أَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ بِالْأَرْبَاعِ فَإِنْ كَانَ بَقِيَّةُ الْأَكْثَرِ لا تعد الأقل عددا صحيحا يستوفيه وَبَقِيَتْ بَقِيَّةٌ عَدَدْتَ بِهَا بَقِيَّةَ الْأَكْثَرِ فَإِنْ عدتها عدا صحيحا واستوفتها ففيه أقاويل هو وفق العددين وإن تَجِدَ عَدَدًا يُعَدُّ مَا قَبْلَهُ وَيَسْتَوْفِيهِ عَدَدًا صَحِيحًا فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَدَدُ هُوَ الْوَفْقُ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي وَاحِدًا فَرْدًا فَيُعْلَمُ بِهِ أَنَّ الْعَدَدَيْنِ لَا يَتَّفِقَانِ بِشَيْءٍ فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ سِتَّةً وَخَمْسِينَ وَالْآخَرُ سَبْعَةً وَسَبْعِينَ فَيَبْقَى بَعْدَ إِسْقَاطِ الأقل من الأكثر أحد وعشرين فنعد بها الأقل يبقى أربعة عشر فنعد الْأَحَدَ وَالْعِشْرِينَ بِالْأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَبْقَى سَبْعَةٌ فَتَعُدُّ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ بِالسَّبْعَةِ تَعُدُّ بِهَا وَتَسْتَوْفِيهَا فَيُعْلَمُ أن العددين يَتَّفِقَانِ بِالْأَسْبَاعِ وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَالْآخرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ فَإِذَا أَسْقَطْتَ الْأَحَدَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ بَقِيَتْ أَرْبَعَةً فَتَعُدُّ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَحَدَ وَالْعِشْرِينَ يَبْقَى وَاحِدٌ فَتَعْلَمُ أَنَّ الْعَدَدَيْنِ لَا يَتَّفِقَانِ فَهَذَا أَصْلٌ(8/138)
فَافْهَمْهُ ثُمَّ عُدْنَا إِلَى جَوَابِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ مُوَافِقًا لِلْآخَرِ ضَرَبْتَ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ وفق الأقل في الأكثر وإن شئت ضرب وفق الأكثر في الأقل قل فَهُمَا سَوَاءٌ ثُمَّ ضَرَبْتَ مَا حَصَلَ بِيَدِكَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ.
مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَسِتُّ جَدَّاتٍ وَتِسْعُ أَخَوَاتٍ تَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ سَهْمٌ على ستة لا ينقسم وَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ عَلَى تِسْعَةٍ لَا تَنْقَسِمُ عليها ولا توافقها وعدد الجدات وهو ست يوافق عدد الأخوات وهو تسع بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ وَفْقَ السِّتَّةِ وَهُوَ اثْنَانِ فِي التسعة يكن ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَإِنْ شِئْتَ ضَرَبْتَ وَفْقَ التِّسْعَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي السِّتَّةِ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ تَكُنْ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الرؤوس وَالسِّهَامِ مُوَافَقَةٌ وَبَيْنَ عَدَدِ الْجِنْسَيْنِ مُوَافَقَةٌ رَدَدْتُ عَدَدَ كُلِّ جِنْسٍ إلى وفق سهامه بما وَافَقْتَ بَيْنَ وَفْقِ الْعَدَدَيْنِ ثُمَّ ضَرَبْتَ مَا حَصَلَ مِنْ وَفْقِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ثُمَّ مَا اجْتَمَعَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مِثَالُهُ: أُمٌّ وستة عشر أختا لأب وأم واثنتا عَشْرَةَ أُخْتًا لِأُمٍّ تَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ لِلْأُمِّ مِنْهَا السُّدُسُ سَهْمٌ وَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ عَلَى سِتَّة عَشَرَ لَا تَنْقَسِمُ وَلَكِنْ تَوَافِقُ بِالْأَرْبَاعِ ترد الأخوات إلى الأربعة وللأخوات من الأم الثُّلُثُ سَهْمَانِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ لَا تَنْقَسِمُ ولكن توافق بالأنصاف إلى ستة ثم أربعة توافق الستة بالأنصاف فاضرب نصف أحدهما في الْآخَرِ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ اضْرِبْ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا وَهُوَ سَبْعَةٌ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ ثُمَّ تَضْرِبُ كُلَّ مَنْ لَهُ شيء من سبعة فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ لِلْأُمِّ اثْنَا عَشَرَ وَلِلْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَلَى ستة عشر ينقسم لكل واحدة منهن ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ يَنْقَسِمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ سَهْمَانِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ لَا يُسَاوِي الْآخَرَ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَا يُوَافِقُهُ فَتَضْرِبُ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ ثُمَّ مَا اجْتَمَعَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إِنْ عَالَتْ مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَخَمْسُ بَنَاتٍ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ عَلَى خَمْسَةٍ لَا تَنْقَسِمُ وَلَا تُوَافِقُ وللأخوات ما بقي وَهُوَ سَهْمٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَاضْرِبْ خَمْسَةً هِيَ عدد البنات في ثلاثة لأنهما لا يتفقان يكن خمسة عشرة ثُمَّ اضْرِبِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ هي أصل المسألة يكن مِائَةً وَثَمَانِينَ فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا لكل واحد من الجنس ضربت سِهَامَ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي عَدَدِ رؤوس الْجِنْسِ الآخر فما خرج فهو مال كل وَاحِدٍ.
مِثَالُهُ: إِذَا أَرَدْتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أن تعرف ما لكل بنت ضَرَبْتَ عَدَدَ سِهَامِ الْبَنَاتِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ فِي رؤوس الْأَخَوَاتِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَيَكُونُ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ كُلُّ بِنْتٍ وَهُنَّ خَمْسٌ فَيَكُونُ لَهُنَّ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا لِكُلِّ أُخْتٍ ضربت عدد سهامهم وَهُوَ وَاحِدٌ فِي عَدَدِ رؤوس الْبَنَاتِ وَهُوَ خمسة تكن خمسة فيكون هذا الْقَدْرُ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ كُلُّ أُخْتٍ وَهُنَّ ثَلَاثٌ فَيَكُونُ لَهُنَّ خَمْسَةَ عَشَرَ فَهَذَا حُكْمُ الْجِنْسَيْنِ إذا كان الحيز من كل جنس لا ينقسم عليهم سهامهم فإذا كَانَ ثَلَاثَةَ أَجْنَاسٍ وَكَانَ كُلُّ جِنْسٍ لَا تنقسم(8/139)
عَلَيْهِمْ سِهَامُهُمْ فَإِنْ كَانَ عَدَدُ كُلِّ جِنْسٍ مُسَاوِيًا لِعَدَدِ الْجِنْسِ الْآخَرِ اقْتَصَرْتَ عَلَى ضَرْبِ أَحَدِ الْأَعْدَادِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فَمَا خَرَجَ فَمِنْهُ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ.
مِثَالُهُ: ثَلَاثُ جَدَّاتٍ وَثَلَاثُ بَنَاتٍ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ فَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَمِنْهَا تَصِحُّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَعْدَادِ يَدْخُلُ فِي بَعْضٍ اقْتَصَرْتَ عَلَى ضَرْبِ الْأَكْثَرِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ.
مِثَالُهُ: زَوْجَتَانِ وَسِتُّ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ واثنتا عشر أختا لأب فيكون عدد الزوجتين داخلا فِي عَدَدِ الْإِخْوَةِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ يَدْخُلَانِ فِي السِّتَّةِ وَفِي الِاثْنَيْ عَشَرَ وَالسِّتَّةُ تَدْخُلُ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ فَاضْرِبْ عَدَدَ الْإِخْوَةِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ تَكُنْ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ وَمِنْهُ تَصِحُّ، فَإِنْ كان بعض الرؤوس كل يوافق بعضا وقفت أحدهما ثم رددت إليه من رؤوس كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسَيْنِ ثُمَّ ضَرَبْتَ أحد الوقفين فِي الْآخَرِ ثُمَّ ضَرَبْتَ مَا اجْتَمَعَ فِي عَدَدِ الْجِنْسِ الْمَوْقُوفِ فَمَا اجْتَمَعَ ضَرَبْتَهُ فِي أصل المسألة.
ومثاله: أحد وَعِشْرُونَ جَدَّةً وَخَمْسٌ وَثَلَاثُونَ بِنْتًا وَثَلَاثُونَ أُخْتًا لأب أصلها من ستة سهام الجميع لا ينقسم عليهن ولا يوافقهن لأن للجدات سهما على أحد وَعِشْرِينَ وَلِلْبَنَاتِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ وَلِلْأَخَوَاتِ الْبَاقِي وَهُوَ سَهْمٌ عَلَى ثَلَاثِينَ لَكِنَّ أعداد الرؤوس يوافق بعضها بعضا فإن وفقت عَدَدُ الْجَدَّاتِ وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ كَانَ عَدَدُ البنات وهو خمس وثلاثون موافقا له بالأسباع فيردها إِلَى خَمْسَةٍ وَعَدَدُ الْأَخَوَاتِ وَهُوَ ثَلَاثُونَ مُوَافِقًا له بالأثلاث فيرده إِلَى عَشَرَةٍ وَالْخَمْسَةُ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ وَفْقِ الْبَنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي الْعَشَرَةِ الَّتِي رَجَعَتْ مِنْ وَفْقِ الْأَخَوَاتِ فَاضْرِبِ الْعَشَرَةَ فِي الْوَاحِدِ وَالْعِشْرِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً ثُمَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وهو ستة تكن ألفا ومائتين وستين فمن لَهُ شَيْءٌ مِنْ سِتَّةٍ أَخَذَهُ مَضْرُوبًا لَهُ في مائتين وعشرة وإن وفقت عدد البنات وهو خمسة وَثَلَاثُونَ وَافَقَهَا عَدَدُ الْأَخَوَاتِ وَهُوَ ثَلَاثُونَ بِالْأَخْمَاسِ إِلَى سِتَّةٍ وَوَافَقَهَا عَدَدُ الْجَدَّاتِ وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ بِالْأَسْبَاعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَالثَّلَاثَةُ الرَّاجِعَةُ مَنْ وَفْقِ الْجَدَّاتِ تَدْخُلُ فِي السِّتَّةِ فَاضْرِبْ سِتَّةً فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةٍ ثُمَّ فِي سِتَّةٍ هِيَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ تَكُنْ أَلْفًا ومائتين وستين فإن وفقت عدد الأخوات وهي ثَلَاثُونَ وَافَقَهَا عَدَدُ الْجَدَّاتِ وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ بِالْأَثْلَاثِ إِلَى سَبْعَةٍ وَوَافَقَهَا عَدَدُ الْبَنَاتِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ بِالْأَخْمَاسِ إِلَى سَبْعَةٍ وَإِحْدَى السَّبْعَتَيْنِ تنوب عن الأخرى فاضرب إحداهما فِي ثَلَاثِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً ثُمَّ فِي سِتَّةٍ هِيَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ تَكُنْ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ فَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ مَا لِكُلِّ جِنْسٍ ضَرَبْتَ عَدَدَ سِهَامِهِ فِي مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةٍ وَإِذَا أردت أن تعرف ما لكل واحد من كُلِّ جِنْسٍ ضَرَبْتَ
سَهْمَهُ فِيمَا عَادَ مِنْ وفق الجنس الْمَضْرُوبِ فِي عَدَدِ جِنْسِهِ فَمَا خَرَجَ فَهُوَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِكُلِّ جَدَّةٍ عَشَرَةٌ، لِأَنَّ سَهْمَ الْجَدَّاتِ وَاحِدٌ وَمَا رَجَعَ مِنْ وَفْقِ عَدَدِ الْجِنْسَيْنِ الْمَضْرُوبِ فِي عَدَدِهِنَّ عَشَرَةٌ فَلِكُلِّ بِنْتٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ لِأَنَّ سِهَامَ الْبَنَاتِ أَرْبَعَةٌ وَمَا رَجَعَ مِنْ وَفْقِ عَدَدِ الْجِنْسَيْنِ الْمَضْرُوبِ فِي عَدَدِهِنَّ سِتَّةٌ وَإِذَا ضُرِبَتِ الْأَرْبَعَةُ فِي السِّتَّةِ كَانَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فلكل أُخْتٍ سَبْعَةٌ لِأَنَّ سَهْمَ الْأَخَوَاتِ وَاحِدٌ وَمَا رَجَعَ مِنْ وَفْقِ عَدَدِ الْجِنْسَيْنِ(8/140)
الْمَضْرُوبِ فِي عَدَدِهِنَّ سَبْعَةٌ فَصَارَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَبْعَةً وَلَوِ اتَّفَقَتِ الرؤوس مَعَ السهام رَدَدْتَ الرؤوس إِلَى وَفْقِ سِهَامِهَا ثُمَّ وَافَقْتَ بين وفق الرؤوس بعضا لِبَعْضٍ ثُمَّ ضَرَبْتَ وَفْقَ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ فَمَا اجْتَمَعَ ضَرَبْتَهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا.
مثاله: اثنا عشر جدة واثنتان وثلاثون أختا لأب وعشرون أختا لِأُمٍّ تَعُولُ بِسُدُسِهَا إِلَى سَبْعَةٍ لِلْجَدَّاتِ سَهْمٌ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مُنْكَسِرٌ وَلِلْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ أَرْبَعَةٌ على اثنتين وثلاثين يوافق بالأرباع إلى ثَمَانِيَةٍ وَلِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ سَهْمَانِ عَلَى عِشْرِينَ يُوَافِقُهُ بالأنصاف إلى عشرة فإن وفقت عدد الجدات وهو انثا عَشَرَ كَانَ وَفْقَ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ مُوَافِقًا لَهَا بِالْأَرْبَاعِ إِلَى اثْنَيْنِ وَكَانَ وَفْقُ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ وَهُوَ عَشَرَةٌ يُوَافِقُهَا بِالْأَنْصَافِ إِلَى خمسة فاضرب اثنتين فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ عَشَرَةً ثُمَّ اضْرِبِ الْعَشَرَةَ في اثني عَشَرَ تَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ فِي أَصْلِ المسألة وعولها وهو سبعة تكن ثماني مائة وأربعين ومنه تصح وإن وافقت وَفْقَ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَافَقَهَا عَدَدُ الْجَدَّاتِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ بِالْأَرْبَاعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَوَافَقَهَا وَفْقَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ وَهُوَ عَشَرَةٌ بِالْأَنْصَافِ إِلَى خَمْسَةٍ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ فِي ثَمَانِيَةٍ وَفْقَ الْأَخَوَاتِ تَكُنْ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ فِي سَبْعَةٍ هي أصل المسألة وعولها تكن ثمان مائة وأربعين وإن وفقت وَفْقَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ وَهُوَ عَشَرَةٌ وَافَقَهَا عَدَدُ الْجَدَّاتِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ بِالْأَنْصَافِ إِلَى سِتَّةٍ وَوَافَقَهَا وَفْقَ الْأَخَوَاتِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ بِالْأَنْصَافِ إلى أربعة والأربعة توافق لستة بِالْأَنْصَافِ فَاضْرِبْ نِصْفَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ تَكُنِ اثنا عشر ثم في عشرة وهي الموافقة من وفق الإخوة تكن مائة وعشرين فِي سَبْعَةٍ هِيَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلُهَا تَكُنْ ثمان مائة وَأَرْبَعِينَ وَمَتَى وَقَفْتَ أَحَدَ الْأَعْدَادِ فَصَحَّتِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ عَدَدٍ ثُمَّ وَقَفْتَ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَدَدِ فَصَحَّتْ مِنْ عَدَدٍ آخَرَ فَالْعَمَلُ خَطَأٌ حَتَّى يَصِحَّ الْعَمَلَانِ مَنْ عَدَدٍ وَاحِدٍ فَإِذَا أَرَدْتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَدَّاتِ فَاضْرِبْ سَهْمَ الْجَدَّاتِ وَهُوَ وَاحِدٌ فِيمَا ضَرَبْتَهُ مِنْ وَفْقِ الْجِنْسَيْنِ لِوَفْقِ لعددهن حِينَ وَقَفْتَهُ وَهُوَ عَشَرَةٌ تَكُنْ عَشَرَةٌ وَهُوَ مَا تَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا لِكُلِّ أُخْتٍ ضَرَبْتَ وَفْقَ سِهَامِهِنَّ لِرؤوسهِنَّ وَهُوَ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا بِالْأَرْبَاعِ فِيمَا ضربته من وفق الجنسين بوفق عددهن حين وقفته وهو خمسة عشر يكن خَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ مَا تَسْتَحِقُّهُ كُلُّ أُخْتٍ وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا لِكُلِّ أَخٍ ضَرَبْتَ وَفْقَ سِهَامِهِمْ لِرؤوسهِمْ وَهُوَ وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا بِالْأَنْصَافِ فِيمَا ضَرَبْتَهُ مِنْ وَفْقِ الْجِنْسَيْنِ لوفق عددهم وهو اثنا عشر تكن اثنا عَشَرَ وَهُوَ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ أَخٍ، فَهَذَا أَصْلٌ قَدْ أَوْضَحْتُ لَكَ فِيهِ مَا يَسْهُلُ العمل عليه إن شاء الله.
فصل: في المناسخات
وَإِنَّمَا قِيلَ مُنَاسَخَةً، لِأَنَّ الْمَيِّتَ الثَّانِي لَمَّا مَاتَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَ مَوْتُهُ نَاسِخًا لَمَّا صَحَّتْ مِنْهُ مَسْأَلَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ فَإِذَا مَاتَ فلم يقسم وَرَثَتُهُ تَرِكَتَهُ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمْ وَخَلَّفَ وَرَثَةً فَلَا يَخْلُو حَالُ وَرَثَتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا شركاء فِي الْمِيرَاثِ أَوْ غَيْرَ شُرَكَائِهِ فِيهِ فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ شُرَكَائِهِ فِيهِ عَمِلْتَ مَسْأَلَةَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ وَنَظَرْتَ سِهَامَ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْهَا ثُمَّ عَمِلْتَ مَسْأَلَةَ الْمَيِّتِ الثَّانِي وَقَسَمْتَهَا عَلَى سِهَامِهِ فَسَتَجِدُهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.(8/141)
إما أن تقسم عليها أو توافقها أو لا تقسم عَلَيْهَا وَلَا تُوَافِقُهَا فَإِنِ انْقَسَمَتْ عَلَيْهَا صَحَّتِ الْمَسْأَلَتَانِ بِمَا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى.
مِثَالُهُ: زوج وثلاث أخوات متفرقات لَمْ تُقَسَّمِ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ حَتَّى مَاتَتِ الْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَخَلَّفَتِ ابْنًا وَبِنْتًا فَمَسْأَلَةُ الْمَيِّتِ الْأول مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ لِعَوْلِهَا بِثُلُثِهَا لِلْأُخْتِ للأب والأم منها ثلاثة أسهم بين ابنا وبنتها على ثلاثة فتقسم فصحت المسألتان من ثمانية فإن كَانَتْ مَسْأَلَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي لَا تَنْقَسِمُ عَلَى سِهَامِهِ وَلَكِنْ تُوَافِقُهَا وَافَقَتْ بَيْنَهُمَا ثُمَّ ضَرَبْتَ وَفْقَ مَسْأَلَتِهِ فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَمَا اجْتَمَعَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَتَانِ فَمَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ضَرَبْتَهُ فِي وَفْقِ الثَّانِيَةِ لِسِهَامِهَا وَمِنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ضَرَبْتَهُ فِيمَا رَجَعَ مِنْ وَفْقِ سِهَامِهَا مِثَالُهُ ابْنَانِ وَبِنْتَانِ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَخَلَّفَ زَوْجَةً وَبِنْتًا وَثَلَاثَةً بَنِي ابْنٍ فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى من ستة لكل ابن سهمان ولكل ميت سَهْمٌ وَمَسْأَلَةُ الِابْنِ مِنْ ثَمَانِيَةٍ تُوَافِقُ سَهْمَيْهِ بِالْأَنْصَافِ إِلَى أَرْبَعَةٍ فَاضْرِبْهَا فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ الأولة وَهِيَ سِتَّةٌ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ فَمَنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى شَيْءٌ ضَرَبْتَهُ لَهُ فِي أَرْبَعَةٍ هِيَ الرَّاجِعَةُ من دفعه الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ لِسِهَامِ مَيِّتِهَا وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ من المسألة الثانية ضربته فِي وَاحِدٍ هُوَ الرَّاجِعُ مِنْ وَفْقِ سَهْمِ الْمَيِّتِ الثَّانِي لِسِهَامِ مَسْأَلَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي لَا تَنْقَسِمُ عَلَى سِهَامِهِ وَلَا تُوَافِقُهَا ضَرَبْتَ سِهَامَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَمَا اجْتَمَعَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَتَانِ فمن كان له شيء من المسألة الأولة ضَرَبْتَهُ لَهُ فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَمَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ضَرَبْتَهُ لَهُ فِي سِهَامِ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ الأولة.
مِثَالُهُ: زَوْجَةٌ، وَبِنْتٌ، وَأُخْتٌ، مَاتَتِ الْأُخْتُ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا، وَبِنْتَا، وَعَمًّا، الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ ثَمَانِيَةٍ، ماتت الأخت عن ثلاثة أسهم منها ومثلها مِنْ أَرْبَعَةٍ لَا تَنْقَسِمُ عَلَيْهَا وَلَا تُوَافِقُهَا، فَاضْرِبْهَا فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَكُنِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ضَرَبْتَهُ لَهُ فِي أربعة هي سهام المسألة الثانية، ومن كان له شيء مِنَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ضَرَبْتَهُ لَهُ فِي ثَلَاثَةٍ هي سِهَامُ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَهَكَذَا لَوْ مَاتَ ثَالِثٌ قَسَّمَتْ مَسْأَلَتَهُ عَلَى سِهَامِهِ، فَإِنِ انْقَسَمَتْ صَحَّتِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مِمَّا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَتَانِ، وَإِنْ لَمْ تَنْقَسِمْ وَوَافَقَتْ ضَرَبْتَ وَفْقَهَا فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ثُمَّ مَا اجْتَمَعَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ، وَإِنْ لَمْ تُوَافِقْ ضَرَبْتَ سِهَامَهَا فِي سِهَامِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَمَا اجْتَمَعَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ، ثُمَّ هَكَذَا لَوْ مَاتَ رَابِعٌ وَخَامِسٌ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ وَرَثَةُ الميت الثاني هم شركاءه فِي التَّرِكَةِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا عَصَبَةً لَيْسَ فِيهِمْ ذُو فَرْضٍ فَتَجْعَلُ التَّرِكَةَ مَقْسُومَةً عَلَى سِهَامِ الْبَاقِينَ وَلَا تَعْمَلُ مَسْأَلَةُ الثاني، وهكذا لو مات ثالث ورابع.
ومثاله: أَرْبَعَةُ بَنِينَ، وَأَرْبَعُ بَنَاتٍ، مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ وَخَلَّفَ إِخْوَتَهُ، وَأَخَوَاتِهِ، كَانَتْ مَسْأَلَةَ الْأُولَى بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْبَنِينَ عَنْ سَهْمَيْنِ فَعَادَ سَهْمَاهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ فَصَارَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى(8/142)
عَشَرَةِ أَسْهُمٍ، فَإِنْ مَاتَتْ بِنْتٌ عَنْ سَهْمٍ مِنْ عَشَرَةٍ وَخَلَّفَتْ إِخْوَتَهَا الْبَاقِينَ صَارَ سَهْمُهَا بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى تِسْعَةٍ فَصَارَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، فَإِنْ مَاتَ ابْنٌ آخَرُ عَنْ سَهْمَيْنِ مِنْ تِسْعَةٍ صَارَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَبْعَةٍ، وَإِنْ مَاتَتْ بِنْتٌ أُخْرَى عَنْ سَهْمٍ مِنْ سَبْعَةٍ صَارَ الْمَالُ كُلُّهُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ، فإن مات بعد ذلك ابْنٌ آخَرُ عَنْ سَهْمَيْنِ مِنْ سِتَّةٍ صَارَ المال مقسوما بَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ، وَهَكَذَا أَبَدًا حَتَّى إِنْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا ابْنٌ وَبِنْتٌ صَارَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ إِلَيْهِمَا مِنَ الْجَمَاعَةِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّ الَّذِينَ مَاتُوا لَمْ يَكُونُوا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ذُو فَرْضٍ: فَإِنْ كَانَ فرض ذي الفرض من الميت الأول لفرضه من الميت الثاني كالأم والجدة إذا ورث كل واحد مِنْهُمَا السُّدُسَ بِأَنَّهَا أُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ: فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ مِنَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ مُخَالِفًا لِلْفَرْضِ مِنَ الْمَيِّتِ الثَّانِي كَالزَّوْجَةِ تَرِثُ من الأول بأنها زوجة وترث من الثَّانِي إِذَا كَانَ ابْنًا بِأَنَّهَا أُمٌّ فَإِنَّكَ تُعْطِيهَا فَرْضَهَا مِنَ التَّرِكَتَيْنِ ثُمَّ تُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْعَصَبَةِ إِذَا كَانُوا لِلْأَوَّلِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ وَلِلثَّانِي إِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ مِيرَاثِهِمْ مِنَ التَّرِكَتَيْنِ وَاحِدٌ وَرُبَّمَا كَانَتْ مَسَائِلُ الْمُنَاسِخَاتِ بَعْدَ التَّصْحِيحِ تَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلى أقل من عددها الموافق بعض السهام لبعض فسقطت وَفْقَهَا مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ فَتَرُدُّ سِهَامَ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا إِلَى ذَلِكَ الْوَفْقِ وَتَرُدُّ سِهَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ إِلَى مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَفْقُ نِصْفًا رَدَدْتَ الْجَمِيعَ إِلَى النِّصْفِ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثًا رَدَدْتَ الْجَمِيعَ إِلَى الثُّلُثِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ: فِي قِسْمَةِ التركات
وإذا أردت قسمة التركة لم تخل حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ كَالْعَقَارِ وَالضَّيَاعِ، فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ مَا قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ نَظَرْتَ مَبْلَغَ التَّرِكَةِ وَسِهَامَ الْفَرِيضَةِ وَلَكَ في قسمتها عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ تُقَسِّمَ عَدَدَ التركة على سهام الفريضة مما خَرَجَ لِكُلِّ سَهْمٍ ضَرَبْتَهُ فِي سِهَامِ كُلِّ وَارِثٍ فَيَكُونَ ذَلِكَ مَبْلَغَ حَقِّهِ مِنْهَا.
مِثَالُهُ: زَوْجٌ، وَأَبَوَانِ، وَبِنْتَانِ، وَالتَّرِكَةُ خَمْسُونَ دِينَارًا فَالْفَرِيضَةُ تصح مع عَوْلِهَا بِالرُّبُعِ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَتُقَسِّمُ الخمسين عليها يخرج لكل منهم سَهْمٌ مِنْ سِهَامِهَا ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ، فَتَضْرِبُ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ فَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ تَكُنْ عَشَرَةً، وَهُوَ حَقُّهُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ سَهْمَانِ فِي ثَلَاثَةٍ وَثُلُثٍ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَهُوَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهَذَا وَجْهٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَضْرِبَ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ فِي عَدَدِ التَّرِكَةِ فَمَا اجْتَمَعَ قَسَمْتَهُ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ فَمَا خَرَجَ بِالْقَسْمِ فَهُوَ نَصِيبُهُ، مِثَالُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ تَأْخُذَ سِهَامَ الزَّوْجِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَتَضْرِبُهَا فِي عَدَدِ التَّرِكَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ تَكُنْ مِائَةً وَخَمْسِينَ، ثُمَّ تُقَسِّمُهَا عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ تَكُنْ عشرة، وهي حَقُّ الزَّوْجِ، ثُمَّ تَضْرِبُ سِهَامَ كُلِّ وَاحِدٍ من(8/143)
الْأَبَوَيْنِ وَهِيَ سَهْمَانِ فِي الْخَمْسِينَ تَكُنْ مِائَةً، ثُمَّ تُقَسِّمُهَا عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ تَضْرِبُ سِهَامَ كُلِّ بِنْتٍ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فِي الْخَمْسِينَ تَكُنْ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ تُقَسِّمُهَا على الخمسة عشر يكن ثلاثة عشر وثلثا فهذا وجه ثاني.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْسُبَ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ مِنْ عَدَدِ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ فَمَا خَرَجَ بِالنِّسْبَةِ جَعَلْتَهُ لَهُ مِنْ عَدَدِ التَّرِكَةِ.
مِثَالُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ تَنْسُبَ سِهَامَ الزَّوْجِ مِنْ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ تكن خمسها، فَأعْطِهِ بِهِ خُمُسَ التَّرِكَةِ وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ سَهْمَانِ هُمَا ثُلُثَا خُمُسِهَا فَتُعْطِيهِ ثُلْثَيْ خُمُسِ التَّرِكَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ أَرْبَعَةٌ هِيَ خُمُسٌ وَثُلُثُ خُمُسٍ فَتُعْطِيهَا خُمُسَ التَّرِكَةِ وَثُلُثَ خُمُسِهَا تَكُنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا، فَهَذَا وَجْهٌ ثَالِثٌ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أن توافق بَيْنَ سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَعَدَدِ التَّرِكَةِ ثُمَّ تَضْرِبَ سهام كل وارث في وفق التركة، ويقسم مَا اجْتَمَعَ عَلَى وَفْقِ الْفَرِيضَةِ فَمَا خَرَجَ فَهُوَ حَقُّهُ.
مِثَالُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سِهَامَ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ فِيهَا وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ تُوَافِقُ عَدَدَ التَّرِكَةِ الَّتِي هِيَ خَمْسُونَ بِالْأَخْمَاسِ فَارْدُدْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى وَفْقه تَجِدُ الْخَمْسِينَ تَرْجِعُ بِالْأَخْمَاسِ إِلَى عَشَرَةٍ، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى ثَلَاثَةٍ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُقَسِّمَ لِلزَّوْجِ فَاضْرِبْ عَدَدَ سِهَامِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ وَهُوَ عَشَرَةٌ تَكُنْ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ اقْسِمِ الثَّلَاثِينَ عَلَى وَفْقِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ يَكُنِ الْخَارِجُ بِالْقَسْمِ عَشَرَةً وَهُوَ حَقُّ الزَّوْجِ، وَلِكُلِّ واحد من الأبوين سهمان تَضْرِب فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ وَهِيَ عَشَرَةٌ تَكُنْ عشرين، ثم يقسم عَلَى وَفْقِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ وَهُوَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ أَرْبَعَةٌ تُضْرَبُ فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ وَهُوَ عَشَرَةٌ تَكُنْ أَرْبَعِينَ ثُمَّ تُقَسَّمُ عَلَى وَفْقِ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ تَكُنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا؛ وَهُوَ حَقُّ كُلِّ بِنْتٍ فَهَذَا وَجْهٌ رَابِعٌ، وَقَدْ لَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الْأَوْجُهُ الْأَرْبَعَةُ فِي كُلِّ تَرِكَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا تُوَافِقُ سهام الْفَرِيضَة لِعَدَدِ التَّرِكَةِ فَيَسْقُطُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ، وَقَدْ لا تتناسب سهام كل وارث لسهام الفريضة فيسقط الْوَجْهُ الثَّالِثُ.
وَأَمَّا الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ فَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِمَا فِي كُلِّ تَرِكَةٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ عَقَارًا أَوْ ضَيَاعًا فَلَكَ فِي قِسْمَةِ ذَلِكَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ إِمَّا أَنْ تَجْعَلَهُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ فَتَسْتَغْنِي عَنْ ضَرْبٍ وقسم وَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا قَلَّتْ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تَجْرِيَ السِّهَامُ عَلَى أَجْزَاءِ الدراهم وذلك أولى من أجزاء الدنانير لِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى قَرَارِيطِهِ وَحَبَّاتِهِ، فَتُقَسَّمُ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ عَلَى دَوَانِيقِ الدِّرْهَمِ وَهِيَ سِتَّةٌ، ثُمَّ عَلَى قَرَارِيطِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، ثُمَّ عَلَى حَبَّاتِهِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ، ثُمَّ عَلَى أَجْزَاءِ حَبَّاتِهِ بِمَا تَجَزَّأَتْ وَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا كَثُرَتْ سِهَامُ الْفَرِيضَةِ فِيهِ عِنْدَ الْمُنَاسَخَاتِ فَإِذَا كَانَتِ الْفَرِيضَةُ أَلْفًا وَمِائَتَيْ سَهْمٍ كَانَ النِّصْفُ ست مائة سهم، والثلث أربع مائة سهم، والربع ثلثمائة سَهْمٍ وَالسُّدُسُ مِائَتَيْ سَهْمٍ، وَنِصْفُ السُّدُسِ مِائَةَ سَهْمٍ وَالْقِيرَاطُ خَمْسُونَ سَهْمًا، وَالْحَبَّةُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا؛ لِأَنَّ قِيرَاطَ الدِّرْهَمِ حَبَّتَانِ ثُمَّ تَتَجَزَّأُ الْخَمْسَةُ وَالْعِشْرُونَ عَلَى الْحَبَّةِ فَالْوَاحِدُ خُمُسُ خُمُسِهَا ثم تتضاعف إلى أن تستكملها، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ نَظَرْتَ إِلَى سِهَامِ الْوَاحِدِ مِنَ الْوَرَثَةِ وَقِسْطِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الدِّرْهَمِ فَأَوْجَبْتَهُ له وبالله التوفيق.(8/144)
باب ميراث المرتد
(قال) وميراث المرتد لبيت مال المسلمين ولا يرث المسلم الكافر واحتج الشافعي في المرتد بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ " واحتج على من ورث ورثته المسلمين ماله ولم يورثه منهم فقال هل رأيت أحدا لا يرث ولده إلا أن يكون قاتلا ويرثه ولده وإنما أثبت الله الْمَوَارِيثَ لِلْأَبْنَاءِ مِنَ الْآبَاءِ حَيْثُ أَثْبَتَ الْمَوَارِيثَ للأباء من الأبناء ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُورَثُ أَمْ لَا عَلَى سِتَّةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُورَثُ وَيَكُونُ جَمِيعُ مَالِهِ فَيْئًا لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ الزِّنْدِيقُ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي ليلى وأبي ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ يَكُونُ فَيْئًا في بيت مال المسلمين إِلَّا الزِّنْدِيقَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يقصد بردته إزواء وَرَثَتِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَيَكُونُ مَالُهُ مِيرَاثًا لَهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ الَّذِي كَسَبَهُ فِي إِسْلَامِهِ وَبَعْدَ رِدَّتِهِ يَكُونُ مَوْرُوثًا لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَا كَسَبَهُ قَبْلَ رِدَّتِهِ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَسَبَهُ بَعْدَ رِدَّتِهِ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَالِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَدُّ امْرَأَةً فَيَكُونُ جَمِيعُهُ مَوْرُوثًا، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وزفر بن الهذيل.
وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ الَّذِينَ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ دُونَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْمَذْهَبُ السَّادِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَلْقَمَةَ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عروبة وأن مَالَهُ يَنْتَقِلُ إِلَى أَهْلِ الدِّينِ الَّذِينَ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ مَالَهُ مَوْرُوثًا عَلَى اختلاف مذاهبهم بقوله تعالى: {وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُتِيَ بِالْمُسْتَوْرِدِ الْعِجْلِيِّ وَقَدِ ارْتَدَّ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَجَعَلَ مِيرَاثَهُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ(8/145)
عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ رُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ أَنْ أُقَسِّمَ أَمْوَالَهُمْ بَيْنَ وَرَثَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، قَالُوا وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَرِثُهُ وَارِثُهُ الْمُشْرِكُ وَرِثَهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ كَالْمُسْلِمِ طَرْدًا وَكَالْمُشْرِكِ عَكْسًا، قَالُوا وَلِأَنَّهُ مَالٌ كَسَبَهُ مُسْلِمٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يكون فيئا كمال المسلمين، قَالُوا وَلِأَنَّهُ مَالٌ كَسَبَهُ فِي حَالِ حَقْنِ دَمِهِ فَلَمْ يَصِرْ فَيْئًا بِإِبَاحَةِ دَمِهِ كَمَالِ الْقَاتِلِ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ وَرَثَتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ سَاوَوْا بِإِسْلَامِهِمْ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَفَضَّلُوهُمْ بِالرَّحِمِ وَالتَّعْصِيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا أَوْلَى مِنْهُمْ لقوة شبههم، وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ مَالَهُ لِأَهْلِ الدِّينِ الَّذِي ارتد إليه بقول تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُورَثُ وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا رِوَايَةُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ " فإن منعوا من إطلاق اسْمِ الْكُفْرِ عَلَى الْمُرْتَدِّ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا يحل مال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ " وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ أَبَاهُ جَدَّ مُعَاوِيَةَ إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بامرأة أبيه فأمرني بضرب عنقه وخمس مَاله فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - باستحلال ما نص الله تعالى عَلَى تَحْرِيمِهِ مُرْتَدًّا، وَجَعَلَ مَالَهُ بِتَخْمِيسِهِ إِيَّاهُ فَيْئًا، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فإن خمسها لله وللرسول ثُمَّ هِيَ لَكُمْ " وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى مَنْ حَدَثَ عِصْيَانُهَا بِالْكُفْرِ بَعْدَ تَقَدُّمِ طَاعَتِهَا بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ مَنْ لَمْ يَزَلْ كَافِرًا مُسْتَفَادٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَرِثْ بحال لم يورث كالكاتب؛ ولأنه كُلّ مَنْ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ مَا مَلَكَهُ فِي إِبَاحَةِ دَمِهِ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ مَا ملك فِي حَقْنِ دَمِهِ كَالذِّمِّيِّ طَرْدًا وَالْقَاتِلِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ مَلَكَهُ بِعَوْدِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ بِقَتْلِهِ عَلَى الرِّدَّةِ قِيَاسًا عَلَى مَا كَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرْتَدُّ أَوْلَى بِالْمُسْلِمِ يقطع الْمُوَالَاة بِالرِّدَّةِ لَمْ يَصِرِ الْمُسْلِمُ أَوْلَى بِالْمُرْتَدِّ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَمَّا دَفْعُ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عليه مال المستورد إلى ورثته إنما كان لما رأى الْمَصْلَحَة بِاجْتِهَادِهِ وَهُوَ إِمَامٌ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِرَأْيِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذلك تمليكا منه ابتداء عَطِيَّة لَا عَلَى جِهَةِ الْإِرْثِ.
وَأَمَّا تَوْرِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَدَفْعِ أَمْوَالِ الْمُرْتَدِّينَ إِلَى ورثتهم: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مِثْلِ مَا فَعَلَهُ علي عليه السلام فِي مَالِ الْمُسْتَوْرِدِ عَلَى طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ بحمل على المرتدين عن بدل الزكاة حين لم يحكم بكفرهم بالمتع لِتَأَوُّلِهِمْ وَمَقَامِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ الْمُشْرِكُ: فَمُنْتَقِضٌ بِالْمُكَاتَبِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُسْلِمِ بَقَاءُ الْوِلَايَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَاتِلِ فَهُوَ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ لما كان ما ملك في إباحة دمه موروثا كان(8/146)
ما ملك فِي حَقْنِ دَمِهِ مَوْرُوثًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُرْتَدُّ عنه ما ملك فِي إِبَاحَةِ دَمِهِ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ مَا ملك فِي حَقْنِ دَمِهِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ وَرَثَتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ جَمَعُوا الْإِسْلَامَ وَالْقَرَابَةَ فَكَانُوا أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الْمُنْفَرِدِ بِالْإِسْلَامِ فَفَاسِدٌ بِالذِّمِّيِّ لَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ وَإِنْ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ أَوْلَى بِمَالِهِ ثُمَّ لَيْسَ يَصِيرُ مَالُ الْمُرْتَدِّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا فَيُجْعَلَ وَرَثَتُهُ أَوْلَى وَإِنَّمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ فَيْئًا كَمَا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا كَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فَيْئًا وَلَا يَجْعَلُونَ وَرَثَتَهُ أَوْلَى بِهِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أن ماله يصير فَيْئًا غَيْرَ مَوْرُوثٍ فَهُوَ مُقِرٌّ عَلَى مِلْكِهِ مَا لَمْ يَمُتْ أَوْ يُقْتَلْ سَوَاءٌ أَقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَقَالَ أبو حنيفة إِذَا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ قَسَّمَ الْحَاكِمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْتَقَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ وَقَضَى بِحُلُولِ دُيُونِهِ الْمُؤَجَّلَةِ فَإِنْ رَجَعَ مُسْلِمًا رَجَعَ بِمَا وَجَدَ من أعيان ماله على ورثته ولم يرجع بما استملكوه وَلَا يَرْجِعُ فِي عِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبِّرِيهِ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: " أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ فِي أَسِيرٍ تَنَصَّرَ في أرض الرُّومِ فَكَتَبَ إِنْ جَاءَ بِذَلِكَ الثَّبْتُ فَاقْسِمْ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ "؛ وَلِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ قَدْ صَارَ غيره أملك بالتصرف فِي مَالِهِ فَجَرَى مَجْرَى الْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ أَوْجَبَ انْتِقَالَهُ كَالْمَوْتِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ قِيَاسًا جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ فِي الْأَمْوَالِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمُرْتَدِّ وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ بِحَالِ الْمُشْرِكِ وَلَيْسَ يحكم بموت واحد منهما في حياته وكذلك الْمُرْتَدُّ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَيِّتَ مَوْرُوثًا وَالْحَيَّ وَارِثًا فَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ الْحَيُّ مَوْرُوثًا لَجَازَ أَنْ يَصِيرَ الْمَيِّتُ وَارِثًا وَلِأَنَّ كل ما أَوْجَبَ إِبَاحَةَ الدَّمِ لَمْ يُحْكَمْ فِيهِ بِالْمَوْتِ مَعَ بَقَاءِ الْحَيَاةِ كَالْقَتْلِ وَلِأَنَّ حُدُوثَ الرِّدَّةِ لَا تُوجِبُ أَحْكَامَ الْمَوْتِ كَالْمُقِيمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدُخُولُ دَارِ الْحَرْبِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ كَالْمُسَافِرِ إِلَيْهَا فَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَحْكِيُّ عَنْ عُمَرَ بن عبد العزيز فليس فيه أنه كَانَ مُسْلِمًا فَتَنَصَّرَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ لِيَتَوَلَّوْا حِفْظَهُ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ أَمْرَهُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لَهُ وليس يلزمنا قبوله.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ انْتِقَالِ مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِ غَيْرِهِ فيه مع أن في انتقال ملكه اختلاف وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ ثُمَّ لَيْسَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ بِمُوجِبٍ لِحُكْمِ الْمَوْتِ لِأَنَّ مَالَ الْحَيِّ قد تنقل بأسباب غير الموت.
فصل:
قال المزني رحمه الله تعالى: " قد زعم الشافعي أَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ إِذَا كَانَ حُرًّا يَرِثُهُ أَبُوهُ إِذَا مَاتَ وَلَا يَرِثُ هَذَا النِّصْفَ مِنْ أَبِيهِ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ فَلَمْ يُورِثْهُ مِنْ حَيْثُ وَرِثَ مِنْهُ وَالْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ يَرِثُ مِنْ حَيْثُ يُورَثُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَعْلِيلِهِ إِبْطَالَ مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ الْمَوَارِيثَ لِلْأَبْنَاءِ مِنَ الْآبَاءِ حَيْثُ أَثْبَتَ الْمَوَارِيثَ لِلْآبَاءِ مِنَ الْأَبْنَاءِ فَأَبْطَلَ الْمُزَنِيُّ هَذَا التَّعْلِيلَ عَلَيْهِ بِالْعَبْدِ إِذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا أنه يورث عنده بِنِصْفِهِ الْحُرِّ وَلَا يَرِثُ(8/147)
هُوَ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ فَجَعَلَ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِتَعْلِيلِهِ وَاحْتِجَاجًا لِنَفْسِهِ فِي أَنَّهُ يَرِثُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ كَمَا يُورَثُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وجهين:
أحدهما: رد لاعتراضه.
وَالثَّانِي: فَسَادُ اسْتِدْلَالِهِ، فَأَمَّا رَدُّ اعْتِرَاضِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ نِصْفَهُ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُورَثُ كَمَا لَا يَرِثُ فَعَلَى هَذَا يَسْلَمُ الِاسْتِدْلَالُ وَيَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ.
وَالثَّانِي: أن تعليل الشافعي كلما تَوَجَّهَ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوَارِثُ وَالْمَوْرُوثُ إِذَا مَنَعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا مَنَعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا كَالْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي قَطْعِ التَّوَارُثِ بِهِ قَطْعُ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا وَهَذَا مَعْنَى يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوَارِثُ وَالْمَوْرُوثُ.
فَأَمَّا الْمَعْنَى الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْمَوْرُوثُ وَحْدَهُ فَلَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ وَهُوَ يُورَثُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَهُ من الميراث خص بِهِ وَغَيْرُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَارِثِهِ وَهَكَذَا الَّذِي نِصْفُهُ حُرٌّ قَدِ اخْتَصَّ بِالْمَعْنَى الْمَانِعِ دُونَ وَارِثِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْرُوثًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا.
وَأَمَّا فَسَادُ اسْتِدْلَالِهِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَرِثَ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ كَمَا يُورَثُ بِقَدْرِ حُرِّيَّتِهِ فَهُوَ أَنَّ الْكَمَالَ يَجِبُ أن يكون مراعا فِي الْوَارِثِ دُونَ الْمَوْرُوثِ فَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مَوْرُوثًا لِأَنَّ وَارِثَهُ كَامِلٌ وَلَمْ نَجْعَلْهُ وَارِثًا لِأَنَّهُ ليس بكامل والله أعلم بالصواب.
مسألة:
(وقال) في المرأة إذا طلقها زَوْجُهَا ثَلَاثًا مَرِيضًا فِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا تَرِثُهُ وَالْآخَرُ لَا تَرِثُهُ وَالَّذِي يَلْزَمُهُ أن لَا يورثها لأنه لا يرثها بإجماع لانقطاع النِّكَاحِ الَّذِي بِهِ يَتَوَارَثَانِ فَكَذَلِكَ لَا تَرِثُهُ كما لا يرثها لأن الناس عنده يَرِثُونَ مِنْ حَيْثُ يُورَثُونَ وَلَا يَرِثُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يُورَثُونَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْرَدَهَا الْمُزَنِيُّ فِي جُمْلَةِ اعْتِرَاضِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي مِيرَاثِ الْمُرْتَدِّ وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَقْتَضِي شَرْحَهَا وذكر ما تفرع عليها وَالِانْفِصَالَ عَنِ اعْتِرَاضِ الْمُزَنِيِّ بِهَا مَا قَدَّمْنَاهُ في اعتراض بمن نصفه حر ونصفه مملوك وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى ضَرْبَيْنِ طَلَاقٌ فِي الصِّحَّةِ وَطَلَاقٌ فِي الْمَرَضِ فَأَمَّا الطَّلَاقُ فِي الصِّحَّةِ فَضَرْبَانِ بَائِنٌ وَرَجْعِيٌّ فَأَمَّا الْبَائِنُ فَلَا تَوَارُثَ فِيهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا أَوْ دُونَ الثَّلَاثِ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَهَذَا إِجْمَاعٌ.
وَأَمَّا الرَّجْعِيُّ فَهُوَ دُونَ الثَّلَاثِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ فِي الْعِدَّةِ فَإِنْ مَاتَ وَرِثَتْهُ واعتدت عدة الوفاة وإن ماتت ورثها فإن كَانَ الْمَوْتُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَوْ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ لَمْ يَتَوَارَثَا وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه تَرِثُهُ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَلَيْسَ يَخْلُو قَوْلُهُمَا ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَجْعَلَ الْغُسْلَ مِنْ بَقَايَا الْعِدَّةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُمَا فِي الْعِدَّةِ دُونَ الْمِيرَاثِ وَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ اسْتِبْرَاءٌ وَلَيْسَ الْغُسْلُ مِمَّا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَإِمَّا أن يجعلاه انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِانْقِضَاءِ الْحَيْضِ وَيُوجِبَا الْمِيرَاثَ مَعَ بقاء الغسل(8/148)
فَيَكُونُ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ دُونَ الْعِدَّةِ وَلَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يوجب انقضاء علق النكاح والميراث منهما فارتفع بارتفاعها ولو جاز اعتبار ذلك لصار الميراث موقوفا على خيارها إن شاءت تَأْخِيرَ الْغُسْلِ فَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْبَاقِي مِنْهُمَا وَوَارِثُ الميت فقال وارث الميت بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا تَوَارُثَ وَقَالَ الْبَاقِي مِنْهُمَا بَلْ كَانَ الْمَوْتُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلِيَ الْمِيرَاثُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَاقِي مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَعَ يَمِينِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ حَتَّى يُعْلَمَ سُقُوطُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّنَا عَلَى يَقِينٍ مِنْ بَقَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى يعلم تقضيها.
فَصْلٌ:
وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُخَوِّفٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُخَوِّفًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَقَّبَهُ صِحَّةٌ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ.
وَقَالَ زُفَرُ بن الهذيل: هو طلاق في المرض يرث فيه وهذا خطأ لأن ما يتعقبه الصِّحَّةُ فَلَيْسَ بِمُخَوِّفٍ وَإِنَّمَا ظُنَّ بِهِ الْخَوْفُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن لَا يَتَعَقَّبَهُ الصِّحَّةُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ حَادِثًا عن طريق غيره كمريض غرق أو أحرق أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ حَائِطٌ أَوِ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ فهذا حكم الطلاق فيه كحكم الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وقال مالك: هو طلاق في المرض يرث فِيهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِهِ يَرْفَعُ حُكْمَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْمَوْتِ مِنْهُ فَهُوَ الطَّلَاقُ فِي الْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا تَوَارَثَا فِي الْعِدَّةِ سَوَاءٌ مَاتَ الزَّوْجُ أَوِ الزَّوْجَةُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَإِنْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ لَمْ يَرِثْهَا إِجْمَاعًا، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِهَا عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى حَكَى الشَّافِعِيُّ مِنْهَا أَرْبَعَةَ مَذَاهِبَ جَعَلَهَا أَصْحَابُنَا أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ لَهُ قَوْلَانِ مِنْهَا نَصًّا، وَقَوْلَانِ مِنْهَا تَخْرِيجًا.
أَحَدُهُمَا: لَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ كَمَا لَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُزَنِيُّ وَدَاوُدُ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا فَإِنِ انْقَضَتْ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ وَشُرَيْحٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أبو حنيفة وصاحباه وسفيان الثوري وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ قَالَهُ نَصًّا.(8/149)
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَإِنِ انْقَضَتْ عَدَّتُهَا فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَعَلَهُ أَصْحَابُنَا قَوْلًا ثَالِثًا لِلشَّافَعِيِّ تَخْرِيجًا.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ أَبَدًا وَإِنْ تَزَوَّجَتْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَجَعَلَهُ أَصْحَابُنَا قَوْلًا رَابِعًا لِلشَّافِعِيِّ تَخْرِيجًا، فَإِذَا قِيلَ: لَا تَرِثُ فَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا البغداديون عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ أَمَالِيهِ فِي كِتَابِ الرَّجْعَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَرِثُ مَبْتُوتَةٌ " وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنْ كَانَ ثَابِتًا سَقَطَ بِهِ الْخِلَافُ وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ تمنع من الميراث في حال الصِّحَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَمْنَعَ مِنَ الْمِيرَاثِ فِي حال المرض كاللعان، ولأن كل طلاق يمنع مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجِ مَنَعَ مِنْ مِيرَاثِ الزَّوْجَةِ كَالطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ فَرْعٌ عَلَى ثُبُوتِ الْعَقْدِ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِطَلَاقِ الْمَرِيضِ كَانَ سُقُوطُ الْمِيرَاثِ أَوْلَى وَإِذَا قِيلَ: تَرِثُ، فَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الكلابية فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ فورثها عثمان بن عفان.
وروى إبراهيم التميمي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُكْمِلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَكَانَ بِهِ الْفَالِجُ فَمَاتَ بَعْدَ سَنَةٍ فَوَرِثَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَاتَانِ القضيتان مِنْ عُثْمَانَ عَنِ ارْتِيَاءِ وَاسْتِشَارَةِ الصَّحَابَةِ لَا سيما زوجة عبد الرحمن مع إشهار أَمْرِهَا وَمُنَاظَرَةِ الصَّحَابَةِ فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَرَى أَنْ تُورِثَ مَبْتُوتَةً قُلْنَا: مَا ادَّعَيْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ إِجْمَاعًا فَيَرْتَفِعُ بِخِلَافِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَإِنَّمَا قُلْنَا: هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَرِيضُ مَمْنُوعًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضْرَارِ الْوَارِثِ فكان أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ إِسْقَاطِ الْوَارِثِ وَلِأَنَّ التُّهْمَةَ فِي الْمِيرَاثِ تُهْمَتَانِ تُهْمَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَتُهْمَةٌ فِي إِسْقَاطِهِ فَلَمَّا كَانَتِ التُّهْمَةُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ وَهِيَ تُهْمَةُ الْقَاتِلِ رَافِعَةً لِاسْتِحْقَاقِهِ الْمِيرَاثَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ التُّهْمَةُ فِي إِسْقَاطِهِ بِالطَّلَاقِ رَافِعَةً لِإِسْقَاطِ الْمِيرَاثِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي صِحَّتِهِ لَمْ تَرِثْهُ وَكَانَ إِقْرَارًا فِي الْمَرَضِ لَا طَلَاقًا، وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: هُوَ طَلَاقٌ فِي الْمَرَضِ وَتَرِثُ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعَقْدِ لَا يَكُونُ عَقْدًا، وَإِنْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ لَازِمًا فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَإِنْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ لَازِمًا وَلَوْ أَنَّهُ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُهَا فَأَقَرَّ بِتَقْدِيمِ طَلَاقِهَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِهِ فِي الْمَرَضِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فِي الْمَرَضِ فَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ فَقَالَ فِي صِحَّتِهِ إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ بَيَّنَ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُمَا فِي مَرَضِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ عَيَّنَ الطَّلَاقَ عِنْدَ لَفْظِهِ فَلَا تَرِثُ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ فِي الْمَرَضِ بِطَلَاقٍ وَقَعَ فِي الصِّحَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قد أتم الطَّلَاقَ عِنْدَ لَفْظِهِ ثُمَّ عَيَّنَهُ عِنْدَ بَيَانِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي المعينة بالطلاق عند البيان هل يقتضي وقوع الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَقْتَ(8/150)
اللَّفْظِ أَوْ وَقْتَ الْبَيَانِ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا عِنْدَ وَقْتِ لَفْظِهِ وَمِنْهُ تَبْتَدِئُ بِالْعِدَّةِ فَعَلَى هَذَا لَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ فِي وَقْتِ لَفْظِهِ كَانَ صَحِيحًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهَا وَقْتَ الْبَيَانِ فَعَلَى هَذَا تَرِثُ لِأَنَّهُ عِنْدَ بَيَانِهِ مَرِيضٌ.
فصل:
فإما إذا طلقها في الصحة لصفة وُجِدَتْ فِي الْمَرَضِ كَقَوْلِهِ فِي صِحَّتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَقَدِمَ زَيْدٌ وَالزَّوْجُ مَرِيضٌ، أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ شَهْرٍ فَجَاءَ الشَّهْرُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَهَا الْمِيرَاثُ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ وَقَعَ فِي الْمَرَضِ وهذا غير صحيح؛ لأنه التُّهْمَةَ عَنْهُ فِي هَذَا الطَّلَاقِ مُرْتَفِعَةٌ، وَإِنَّمَا وجب لها الميراث للتهمة في إزوائها.
فَأَمَّا إِذَا قَالَ فِي صِحَّتِهِ: إِنْ دَخَلْتُ أَنَا هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ دَخَلَهَا فِي مَرَضِهِ كَانَ كَالطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّهُ دَخَلَهَا بِاخْتِيَارِهِ فِي مَرَضِهِ فصار متهوما في إزوائها عَنِ الْمِيرَاثِ وَلَكِنْ لَوْ وَكَّلَ فِي صِحَّتِهِ وَكِيلًا فِي طَلَاقِهَا فَلَمْ يُطَلِّقْهَا الْوَكِيلُ حَتَّى مَرِضَ الزَّوْجُ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الطَّلَاقِ هَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ أَوْ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ فِي الصِّحَّةِ لِأَنَّ عَقْدَ الْوِكَالَةِ كَانَ فِي الصِّحَّةِ فَصَارَتِ التُّهْمَةُ عَنْهُ عِنْدَ عَقْدِهِ مُرْتَفِعَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى فَسْخِ وَكَالَتِهِ فِي مَرَضِهِ فَصَارَ بِتَرْكِ الْفَسْخِ متهوما.
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي صِحَّتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَرَضِ مَوْتِي وَقَعَ طَلَاقُهَا فِيهِ وكان لها الميراث؛ لأنه متهوم بعقد يمينه ولو كان قَالَ لَهَا: إِنْ مِتُّ مِنْ مَرَضٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ تُطَلَّقْ لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ بِمَوْتِهِ فَلَمْ يَلْحَقْهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْعَقْدِ طَلَاقٌ، وَلَوْ قَالَ لَهَا وَهُوَ فِي الصِّحَّةِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ صِحَّتِي الْمُتَّصِلِ بِأَوَّلِ أَسْبَابِ مَوْتِي ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ وُقُوعَ طَلَاقِهِ كَانَ قَبْلَ مَرَضِهِ فَصَارَ طَلَاقًا في الصحة ألا ترى لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ صِحَّتِي الْمُتَّصِلِ بِأَوَّلِ أَسْبَابِ مَوْتِي كَانَ عِتْقُهُ إِنْ مَاتَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ الثلث.
فصل:
وإذا طلقها في مرضه باختيارها مثل أن يخالعها، أو تسأله الطلاق فيطلقها، أو يعلق طلاقها بِمَشِيئَتِهَا، فَتَشَاءُ الطَّلَاقَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حنيفة وقال مالك لها الميراث إن اخْتَارَتِ الطَّلَاقُ، لِأَنَّهُ طَلَاقٌ فِي الْمَرَضِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهَا إِنَّمَا كَانَ لِاتِّهَامِهِ فِي حِرْمَانِهَا، وَقَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مُرْتَفِعٌ باختيارها وسؤالها، فلو علق طلاقها في مرضه بصفة من صفة أفعالها ففعلت ذلك وطلقت، نَظَرَتْ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ كَقَوْلِهِ لَهَا: إِنْ أَكَلْتِ أو شربت فأنت طالق، فلا تَجِدُ بُدًّا مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَإِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى اخْتِيَارِهَا الطَّلَاقُ فَيَكُونُ لَهَا الْمِيرَاثُ، وَهَكَذَا لَوْ(8/151)
قال لها: أنت طالق إن صليت الفرائض أَوْ صُمْتِ شَهْرَ رَمَضَانَ فَصَلَّتْ وَصَامَتْ، كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِدُ بُدًّا مِنَ الصلاة والصيام، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ أَكَلْتِ هَذَا الطَّعَامَ أَوْ لَبِسْتِ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ كَلَّمْتِ هَذَا الرَّجُلَ، أَوْ دَخَلْتِ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ تَطَوَّعْتِ بِصَلَاةٍ أَوْ صِيَامٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ طُلِّقَتْ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بُدًّا فَصَارَتْ مُخْتَارَةً لِوُقُوعِ الطلاق إلا أن لا تعلم يمينه فَتَرِثُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخْتَارَةٍ لِلطَّلَاقِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ زَوْجَتَهُ وَكَانَتْ ذِمِّيَّةً فَأَسْلَمَتْ أَوْ أَمَةً فَأُعْتِقَتْ لَمْ تَرِثْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَقْتَ طَلَاقِهَا لَمْ تَرِثْ فَصَارَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ إِسْلَامِهَا وَعِتْقِهَا وَرِثَتْ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ إِلَّا أَنْ لَا يَعْلَمَ بِإِسْلَامِهَا وَلَا بِعِتْقِهَا حِينَ طَلَّقَهَا فَلَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ، فَلَوْ قَالَ لَهَا السَّيِّدُ: أَنْتِ حُرَّةٌ في غد وطلقها الزوج في يومه ورثت؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ حِينَ عَلِمَ بِعِتْقِهَا فَإِنْ لَمْ يعلم فلا ميراث، وَلَوْ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ فَأَعْتَقَهَا السَّيِّدُ فِي يَوْمِهِ فَلَا مِيرَاثَ لها وَلَوْ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ أَنْتِ طَالِقٌ؛ لأنه غير متهم حين طلقها فَلَوْ قَالَ لَهَا السَّيِّدُ أَنْتِ حُرَّةٌ فِي غَدٍ فَلَمَّا عَلِمَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَهَا الْمِيرَاثُ لِاتِّهَامِهِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: لَا مِيرَاثَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ يَقَعَانِ مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ الْمِيرَاثَ بِطَلَاقٍ لَمْ يتقدم عَلَيْهِ الْحُرِّيَّةُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَارْتَدَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ لَمْ تَرِثْهُ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة.
وَقَالَ مَالِكٌ: تَرِثُهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ اخْتِيَارَهَا لِلطَّلَاقِ مَانِعٌ مِنْ مِيرَاثِهَا وَهِيَ بِالرِّدَّةِ مُخْتَارَةٌ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا بِالرِّدَّةِ قَدْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ لَوْ مَاتَ لَمْ تَرِثْهُ.
فَأَمَّا إِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجُ دُونَهَا بَعْدَ طلاقه وفي مَرَضِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا تَرِثُهُ وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ تَرِثُهُ، وَفَرَّقَ أبو حنيفة بَيْنَ رِدَّتِهَا وَرِدَّتِهِ، بِأَنَّ رِدَّتَهَا اخْتِيَارٌ مِنْهَا لِلْفُرْقَةِ وليس ردته اختيار فيها لِذَلِكَ، وَهَذَا الْفَرْقُ فَاسِدٌ؛ لِاسْتِوَاءِ الرِّدَّتَيْنِ فِي إفضائهما إِلَى حَال لَوْ مَاتَ فِيهَا لَمْ تَرِثْهُ فَاسْتَوَتْ رِدَّتُهَا فِي ذَلِكَ وَرِدَّتُهُ، وَلَوِ ارْتَدَتِ الزَّوْجَةُ فِي مَرَضِهَا ثُمَّ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا الزَّوْجُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَرِثُهَا؛ لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ بذلك في إزوائه عَنِ الْمِيرَاثِ كَمَا يُتَّهَمُ الزَّوْجُ فِي الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُورَثُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْسُبُ الْعَاقِلُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالرِّدَّةِ إزواء وَارِثٍ وَضَرَرُهُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِهِ عَلَى الْوَارِثِ ولَيْسَ كَالطَّلَاقِ الَّذِي لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فيه.(8/152)
فَصْلٌ:
وَلَوْ قَالَ لَهَا فِي صِحَّتِهِ إِنْ لَمْ أَدْفَعْ إِلَيْكَ مَهْرَكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِالْحِنْثِ وَلَوْ ماتت قَبْلَهَا وَرِثَتْهُ؛ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ فِي الْمَرَضِ، وَلَوْ مَاتَتْ فَاخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَوَارِثُهَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ كُنْتُ دَفَعْتُ إِلَيْهَا مَهْرَهَا فِي حَيَاتِهَا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ، وَلِيَ الْمِيرَاثُ، وَقَالَ وَارِثُهَا: مَا دفعت إِلَيْهَا وَهُوَ بَاقٍ عَلَيْكَ وَلَا مِيرَاثَ لَكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي أن لا يَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ فِي بَقَاءِ الْمَهْرِ، فَإِذَا حَلَفَ الزَّوْجُ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْمَهْرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أن لا طَلَاقَ، وَإِذَا حَلَفَ الْوَارِثُ حُكِمَ لَهُ بِالْمَهْرِ؛ لأن الأصل بقاء المهر.
فصل:
وإذا لا عن الزَّوْجُ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مَرَضِهِ لَمْ تَرِثْهُ سَوَاءٌ كَانَ لِعَانُهُ عَنْ قَذْفٍ فِي الصِّحَّةِ أَوْ عَنْ قَذْفٍ فِي الْمَرَضِ، وَقَالَ أبو يوسف: تَرِثُهُ كَالْمُطَلَّقَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ قَذْفٍ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ، وَقَالَ الحسن بن زياد اللؤلؤي إِنْ كَانَ عَنْ قَذْفٍ فِي الصِّحَّةِ لَمْ تَرِثْهُ، وَإِنْ كَانَ عَنْ قَذْفٍ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْهُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفُرْقَةَ فِي اللِّعَانِ تَبَعٌ لنفي النسب وسقوط الحد وذاك مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ حَالُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالْفُرْقَةُ فِي الطَّلَاقِ مَقْصُودَةٌ فَجَازَ أَنْ يَفْتَرِقَ حُكْمُهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ سُقُوطَ الْمِيرَاثِ بِنَفْيِ النَّسَبِ أَغْلَظُ مِنْ سُقُوطِهِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فلما كان في نَفْي النَّسَبِ بِاللِّعَانِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءً فِي سُقُوطِ الْمِيرَاثِ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ سَوَاءً في سقوط الميراث.
فإن قيل: فلم لا كَانَ نَفْيُ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ فِي حَالِ الْمَرَضِ مانعا من الميراث كالطلاق فِي الْمَرَضِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ اللِّعَانِ مَا يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ الطَّلَاقِ مَا يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ فَافْتَرَقَا.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ لِأَجْلِ إِيلَائِهِ وَرِثَتْ كَمَا تَرِثُ بِالطَّلَاقِ فِي غير الإيلاء بِخِلَافِ اللِّعَانِ وَلَوْ كَانَ آلَى مِنْهَا فِي الصحة ثم طلقها في المرض لم يتقدم مِنْ إِيلَائِهِ فِي الصِّحَّةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَمُطَالَبَتُهُ بِحُكْمِ الْإِيلَاءِ مِنْ فَيْئِهِ أَوْ طلاق فهذه لا تَرِثُ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا مُخْتَارًا فَصَارَ مُتَّهَمًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مُطَالَبَةِ الزَّوْجَةِ لَهُ بِالْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ فَهَذِهِ تَرِثُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَصَارَ مُتَّهَمًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ بَعْدَ مطالبته بالفيئة أو الطلاق ففيها إِذَا وَرِثَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْمَرَضِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْموْلي إِذَا امْتَنَعَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْفَيْئَةِ أَوِ الطَّلَاقِ هَلْ يُطَلَّقُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ جَبْرًا أَمْ لَا؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يُطَلَّقُ عَلَيْهِ جَبْرًا فَعَلَى هَذَا لا ميراث لها؛ لأنه طَلَاقَهَا كَانَ وَاجِبًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لأوجبه الحاكم جبرا.(8/153)
وَالثَّانِي: لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا لَهَا الْمِيرَاثُ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ مُخْتَارًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
فصل:
وإذا فسح الزوج نكاح امرأته في مرضه بإحدى العيوب التي توجب فسخ نكاح لم ترثه بخلاف الطلاق، ولأن الْفَسْخَ بِالْعُيُوبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْفَوْرِ، وَفِي تَأْخِيرِهِ إِسْقَاطُهُ فَلَمْ يُتَّهَمْ وَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ لَا يُسْقِطُهُ، وَلَوْ أَرْضَعَتْ أُمُّ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ الصغيرة خمس رضعات في الحولين يفسخ نِكَاحُهَا وَلَمْ تَرِثْهُ سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهَا بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ تَبَعٌ لِتَحْرِيمِ الرضاع وَثُبُوتِ الْمَحْرَمِ وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ وَطِئَ أُمَّ زَوْجَتِهِ بِشُبْهَةٍ وَهُوَ مَرِيضٌ بَطَلَ نكاحها ولم يرث.
فَصْلٌ:
وَإِذَا طَلَّقَ الْمَرِيضُ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ لَهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهُنَّ ثُمَّ مات، فإن قيل: بمذهبه الْجَدِيدِ إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ لَا تَرِثُ فَالْمِيرَاثُ لِلْأَرْبَعِ اللَّاتِي تَزَوَّجَهُنَّ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ تَرِثُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ الْمُطَلَّقَاتِ وَالْأَرْبَعِ الْمَنْكُوحَاتِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ؛ لِأَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَارِثٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْأَرْبَعِ الْمُطَلَّقَاتِ دُونَ الْمَنْكُوحَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِسْقَاطُ مِيرَاثِهِنَّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ إِدْخَالُ النَّقْصِ عَلَيْهِنَّ، وليس يمتنع بثبوت النِّكَاحِ مَعَ عَدَمِ الْإِرْثِ كَالْأَمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَقَالَ فِي مَرَضِهِ إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَ خَامِسَةً وَمَاتَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْمَنْكُوحَةِ رُبُعَ الْمِيرَاثِ وَيُوقِفُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بَيْنَ الْأَرْبَعِ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ عَلَيْهِ وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ لَا تَرِثُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُنَّ أَخْمَاسًا وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ تَرِثُ مَعَ الْمَنْكُوحَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمِيرَاثَ لِلْأَرْبَعِ أَرْبَاعًا دُونَ الْمَنْكُوحَةِ الْخَامِسَةِ وَهَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُطَلَّقَاتِ يَدْفَعْنَ الْمَنْكُوحَاتِ عَنِ الْمِيرَاثِ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا وَرِثَتِ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْمَرَضِ اعْتَدَّتْ بِالْأَقْرَاءِ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ أبو حنيفة تعتد بأكثر الأجلين من عدة الطلاق أو الأقراء أَوْ عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُغَيِّرُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ شَيْئًا إِلَّا الْمِيرَاثَ الَّذِي هُوَ فِيهِ مُتَّهَمٌ وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ عَلَى حُكْمِهِ فِي الصِّحَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(8/154)
باب ميراث المشتركة
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " قلنا في المشتركة زوج وأم وأخوين لأم وأخوين لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ للأم الثلث ويشركهم بَنُو الْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَنَّ الْأَبَ لَمَّا سَقَطَ حكمه وصار كأن لم يكن وصاروا بني أم معا (قال) وقال محمد بن الحسن هل وجدت الرجل مستعملا في حال ثم تأتي حالة أخرى فلا يكون مستعملا؟ (قلت) نعم ما قلنا نحن وأنت وخالفنا فيه صاحبك من أن الزوج ينكح المرأة بعد ثلاث تطليقات ثم يطلقها فتحل للزوج قبله ويكون مبتدئا لنكاحها وتكون عنده على ثلاث ولو نكحها بعد طلقة لم تنهدم كما تنهدم الثلاث لأنه لما كان له معنى في إحلال المرأة هدم الطلاق الذي تقدمه إذا كانت لا تحل إلا به ولما لم يكن له معنى في الواحدة والثنتين وكانت تحل لزوجها بنكاح قبل زوج لم يكن له معنى فنستعمله (قال) إنا لنقول بهذا فهل تجد مثله في الفرائض؟ (قلت) نعم الأب يموت ابنه وللابن إخوة فلا يرثون مع الأب فإن كان الأب قاتلا ورثوا ولم يرث الأب من قبل أن حكم الأب قد زال ومن زال حكمه فكمن لم يكن ".
قال الماوردي: وهذه المسألة تسمى المشتركة لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي التَّشْرِيكِ فِيهَا بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ وَوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَتُسَمَّى الْحِمَارِيَّةَ لِأَنَّ رجلا قال لعلي عليه السلام حِينَ مَنَعَ مِنَ التَّشْرِيكِ أَعْطِهِمْ بِأُمِّهِمْ وَهَبْ أن أباهم كان حمارا.
وشروط المشتركة أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ زَوْجٍ وَأُمٍّ أو يكون مَكَانَ الْأُمِّ جَدَّةٌ وَوَلَدُ الْأُمِّ أَقَلُّهُمُ اثْنَانِ أَخَوَانِ أَوْ أُخْتَانِ أَوْ أَخٌ وَأُخْتٌ ذُو فَرْضٍ، وَمَنْ لَا فَرْضَ لَهُ مِنْ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَخٌ أَوْ أَخَوَانِ أَوْ أَخٌ وَأُخْتٌ فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ شُرُوطَهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ أَوِ الْجَدَّةِ السُّدُسُ وَلِلْأَخَوَيْنِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُشَارِكُهُمْ فيه الأخوان من الْأَبِ وَالْأُمِّ أَمْ لَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ وَلَدَ الْأَبِ وَالْأُمِّ يُشَارِكُونَ وَلَدَ الْأُمِّ فِي ثُلُثِهِمْ وَيَقْتَسِمُونَهُ بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَشُرَيْحٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَطَاوُسٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالنَّخَعِيٌّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ أبو حنيفة: وَلَدُ الْأُمِّ يَخْتَصُّونَ بِالثُّلُثِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وأبو(8/155)
يوسف ومحمد وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَرُوِيَ عَنْ زَيْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْقَوْلَانِ مَعًا أَمَّا زَيْدٌ فَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُشَرِّكْ وَرَوَى النَّخَعِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ شَرَّكَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ: مَا أَجِدُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَّا وقد اختلف عنه في المشتركة إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُشَرِّكْ وَأتي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يُشَرِّكْ وَأتي فِي الثَّانِي فَشَرَّكَ وَقَالَ تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى ما تقضى، فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنَ التَّشْرِيكِ فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النبِيِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " اقْسِمِ الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ " فمنع من مشاركة العصبة لذوي الفروض وإعطائهم مَا فَضَلَ عَنْهَا إِنْ فَضَلَ وَلَيْسَ فِي الْمُشْتَرِكَةِ بَعْدَ الْفُرُوضِ فَضْلٌ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ مشاركة ذي فرض لأنهم عَصَبَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَارِكُوا ذَوِي الْفُرُوضِ كَالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ عَصَبَةً سَقَطَ عِنْدَ اسْتِيعَابِ الْفُرُوضِ لِلتَّرِكَةِ قِيَاسًا عَلَى زَوْجٍ وأم وجد وأخ جاز لَمَّا اسْتَوْعَبَ الزَّوْجُ وَالْأُمُّ وَالْجَدُّ الْمَالَ فَرْضًا سَقَطَ الْأَخُ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَخٍ حَازَ جَمِيعَ المال إذا انفرد جاز أن يكون بعصبته موجبا لحرمانه قياسا على زوج وأخت للأب وَأُمٍّ لَوْ كَانَ مَعَهَا أَخٌ لِأَبٍ سَقَطَ ولو كان مكانه أخت للأب كَانَ لَهَا السُّدُسُ فَكَانَ تَعْصِيبُ الْأَخِ مُوجِبًا لِحِرْمَانِهِ سُدُسَ الْأُخْتِ كَذَلِكَ تَعْصِيبُ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ يَمْنَعُهُمْ مِنْ مُشَارَكَةِ وَلَدِ الْأُمِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفَضَّلَ وَلَدُ الْأُمِّ عَلَى وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ إِدْلَاءِ جَمِيعِهِمْ بِالْأُمِّ جاز أن يختصوا بِالْفَرْضِ دُونَهُمْ وَإِنْ أَدْلَى جَمِيعُهُمْ بِالْأُمِّ، أَلَا تَرَى لَوْ كَانَتِ الْفَرِيضَةُ زَوْجًا وَأُمًّا وَأَخًا لأم وعشرة إخوة لأب وأم أن الأخ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسَ وَلِجَمِيعِ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَهُمْ عَشَرَةُ السُّدُسَ فَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْإِرْثِ دُونَهُمْ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ يُشَارِكُوا وَلَدَ الْأُمِّ فِي فَرْضِهِمْ إِذَا لَمْ يَرِثُوا بِأَنْفُسِهِمْ لِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ لَجَازَ إِذَا كَانَتِ الْفَرِيضَةُ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ أَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَيَكُونَ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأخت لِلْأَبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الإدلاء بالأم، ولا يفضل ذلك بِالْأُمِّ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأُمِّ لَا يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى إِسْقَاطِ هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى إِسْقَاطِ التَّشْرِيكِ بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ وَوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أن يكون وَلَدَ الْأَبِ وَالْأُمِّ يُشَارِكُونَ وَلَدَ الْأُمِّ فِي فَرْضِهِمْ إِذَا لَمْ يَرِثُوا بِأَنْفُسِهِمْ لِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْأُمِّ لَجَازَ إِذَا كَانَتِ الْفَرِيضَةُ بِنْتًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ أَنْ يَكُونَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَيَكُونَ النِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَ الأخت للأب والأم والأخت للأب لاشتراكها في الإدلاء بالأب ولا يفضل تلك بِالْأُمِّ لِأَنَّ وَلَدَ الْأُمِّ لَا يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَفِي الْإِجْمَاعِ عَلَى إِسْقَاطِ هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى إِسْقَاطِ التَّشْرِيكِ بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ وَوَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يرث وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ بالفرض إِذَا لَمْ يَرِثُوا بِالتَّعْصِيبِ لَجَازَ أَنْ(8/156)
يَجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ فَيُشَارِكُوا وَلَدَ الأم في فرضهم ويأخذون الباقي بعد الفرض بتعصيبهم وفي إبطال هذا إبطال لفرضهم.
وَدَلِيلُنَا عَلَى التَّشْرِيكِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] فَاقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ اسْتِحْقَاقَ الْجَمِيعِ إِلَّا مِنْ حصة الدَّلِيل وَلِأَنَّهُمْ سَاوَوْا وَلَدَ الْأُمِّ فِي رَحِمِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِي مِيرَاثِهِمْ قِيَاسًا عَلَى مُشَارَكَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَلِأَنَّهُمْ بَنُو أُمٍّ وَاحِدَةٍ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي الثُّلُثِ قِيَاسًا عَلَيْهِمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَلَدُ أَبٍ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْلَى بِسَبَبَيْنِ يَرِثُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ جَازَ إِذَا لَمْ يَرِثْ بِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرِثَ بِالْآخَرِ قِيَاسًا عَلَى ابْنِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَخًا لِأُمٍّ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ فِيهِ مَعْنَى التَّعْصِيبِ وَالْفَرْضِ جَازَ إِذَا لَمْ يَرِثْ بِالتَّعْصِيبِ أَنْ يَرِثَ بِالْفَرْضِ قِيَاسًا عَلَى الْأَبِ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الْمَوَارِيثِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ، وَأَدْنَى الْأَحْوَالِ مُشَارَكَةُ الْأَقْوَى لِلْأَضْعَفِ، وَلَيْسَ فِي أُصُولِ الْمَوَارِيثِ سُقُوطٌ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ، وَوَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ أَقْوَى مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ لِمُشَارَكَتِهِمْ فِي الْأُمِّ وَزِيَادَتِهِمْ بِالْأَبِ، فَإِذَا لَمْ يَزِدْهُمُ الْأَبُ قُوَّةً لَمْ يَزِدْهُمْ ضَعْفًا وَأَسْوَأُ حَالِهِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ كَمَا قَالَ السَّائِلُ: هَبْ أَنَّ أَبَاهُمْ كَانَ حِمَارًا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبقت الفرائض فلأولى ذَكَرٍ فَهُوَ أَنَّ وَلَدَ الْأَبِ وَالْأُمِّ يَأْخُذُونَ بِالْفَرْضِ لَا بِالتَّعْصِيبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِهِمْ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ بِالْفَرْضِ لِعَدَمِ إِدْلَائِهِمْ بِالْأُمِّ، وَخَالَفَهُمْ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ مَنْ كَانَ عَصَبَةً سَقَطَ عِنْدَ اسْتِيعَابِ الْفُرُوضِ لِجَمِيعِ التَّرِكَةِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: إِنَّ تَعْصِيبَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ قَدْ سَقَطَ وَلَيْسَ سُقُوطُ تَعْصِيبِهِمْ يُوجِبُ سُقُوطَ رَحِمِهِمْ كَالْأَبِ إِذَا سَقَطَ أَنْ يَأْخُذَ بِالتَّعْصِيبِ لَمْ يُوجِبْ سُقُوطَ أَخْذِهِ بِالْفَرْضِ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ زَوْجًا وأما وجدا وأخا سقط الأخ؛ لأنه الْجَدّ يَأْخُذُ فَرْضَهُ بِرَحِمِ الْوِلَادَةِ فَجَازَ أَنْ يسقط مع الْأَخِ لِفَقْدِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ وَخَالَفَ وَلَدُ الأم لمشاركته له من جهة الْأُمِّ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ مَنْ حَازَ جَمِيعَ المال بالتعصيب جاز أن يكون بعصبته سَبَبًا لِحِرْمَانِهِ كَزَوْجٍ، وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَأُخْتٍ لِأَبٍ لَوْ كَانَ مَكَانَهَا أَخٌ لِأَبٍ سَقَطَ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَخَ لِلْأَبِ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ يَرِثُ بِهِ إِلَّا بِالتَّعْصِيبِ وَحْدَهُ فَلَمْ يَجُزْ أن يدخل بمجرد التعصيب على ذوي الفرض.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ الْأُخْتِ لِلْأَبِ الْأَخُ لِلْأَبِ أَسْقَطَهَا؛ لِأَنَّهُ نَقَلَهَا عَنِ الْفَرْضِ إِلَى التَّعْصِيبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّ لَهُمْ رَحِمًا بالأم يجوز أن يشاركونها وَلَدَ الْأُمِّ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوِ اجْتَمَعُوا مَعَهُمْ لَمْ يُسْقِطُوهُمْ فَكَذَلِكَ لَمْ يَسْقُطُوا بِهِمْ.(8/157)
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفَضَّلَ وَلَدُ الْأُمِّ عَلَى وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ جَازَ أَنْ يَسْقُطُوا بِهِمْ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُفَضَّلُوا عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ وَرِثُوا بِتَعْصِيبِهِمْ دُونَ أُمِّهِمْ وَمِيرَاثِهِمْ بِالتَّعْصِيبِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَأْخُذُونَ بِهِ الْأَكْثَرَ، فَجَازَ أَنْ يَأْخُذُوا بِهِ الْأَقَلَّ، فَإِذَا سَقَطَ تَعْصِيبُهُمْ لَمْ يَسْقُطُوا بِرَحِمِهِمْ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ حَالَتِهِمْ فَلِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَفْضُلُوهُمْ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْقِطُوهُمْ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْبِنْتَ إِنَّمَا تُسْقِطُ مِنَ الْإِخْوَةِ والأخوات من تفرد إدلائه بِالْأُمِّ فَإِذَا اجْتَمَعَ الْأَمْرَانِ فِي وَاحِدٍ لَمْ يُسْقِطْ، ثُمَّ رَأَيْنَا مَنْ جَمَعَ الْإِدْلَاءَ بِالْأَبَوَيْنِ أَقْوَى فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِكَةِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِيهَا جَعَلَ الْأَضْعَفَ أَقْوَى وأحق فأين وجه الجمع بين الْمُضَادَّةِ وَكَيْفَ طَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ مَعَ التَّبَايُنِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَوْ وَرِثُوا بِالْفَرْضِ لَجَمَعُوا بَيْنَ التَّعْصِيبِ وَالْفَرْضِ كَالْأَبِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفَرْضَ منهم أضعف من التعصيب؛ لأن الميراث به اجتهاد عَنْ نَصٍّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ التَّعْصِيبِ الْأَقْوَى وَالْفَرْضِ الْأَضْعَفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَرَضُ الْأَبِ لِقُوَّتِهِ وَمُسَاوَاتِهِ التَّعْصِيبَ الَّذِي فِيهِ فجاز أن يجتمع له الميراثان.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ التَّشْرِيكِ بَيْنَ وَلَدِ الْأُمِّ وَبَيْنَ وَلَدِ الْأَبِ وَالْأُمِّ في المشتركة وَجَبَ أَنْ يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأُمِّ لَا يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى إناثهم.
فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ كَانَ الثُّلُثُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ من الأم والأخوين للأب وَالْأُمِّ بِالسَّوِيَّةِ فَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْأَخَوَيْنِ لِلْأَبِ والأم أختان لأب وأم لم تكن مشتركة لِأَنَّ لِلْأَخَوَاتِ فَرْضًا فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السدس وللأخوين مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ الثلثان وتعول إِلَى عَشَرَةٍ وَلَوْ كَانَ مَعَ الْأُخْتَيْنِ لِلْأَبِ والأم أخ صارت مشتركة؛ لأن مشاركة الأخ لهما أسقط فرضهما ويأخذون جَمِيعًا بِالتَّشْرِيكِ فَلَوْ كَانَ وَلَدُ الْأُمِّ وَاحِدًا سَقَطَ التَّشْرِيكُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مِنَ الْفُرُوضِ سُدُسٌ يَأْخُذُهُ وَلَدُ الْأَبِ وَالْأُمِّ بِالتَّعْصِيبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.(8/158)
باب ميراث ولد الملاعنة
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وقلنا إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ وَوَلَدُ الزِّنَا وَرِثَتْ أُمُّهُ حَقَّهَا وَإِخْوَتُهُ لِأُمِّهِ حُقُوقَهُمْ وَنَظَرْنَا مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ مَوْلَاةَ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ كان ما بقي ميراثا لموالي أمه وإن كانت عَرَبِيَّةً أَوْ لَا وَلَاءَ لَهَا كَانَ مَا بقي لجماعة المسلمين وقال بعض الناس فيها بقولنا إلا في خصلة إذا كانت عربية أو لا ولاء لها فعصبته عصبة أمه واحتجوا برواية لا تثبت وقالوا كيف لم تجعلوا عصبته عصبة أمه كما جعلتم مواليه موالي أمه؟ (قلنا) بالأمر الذي لم نختلف فيه نحن ولا أنتم ثم تركتم فيه قولكم أليس المولاة المعتقة تلد من مملوك؟ أليس ولدها تبعا لولائها كأنهم أعتقوهم يعقل عنهم موالي أمهم ويكونون أولياء في التزويج لهم؟ قالوا نعم قلنا فإن كانت عربية أتكون عصبتها عصبة ولدها يعقلون عنهم أو يزوجون البنات منهم؟ قالوا لا قلنا فإذا كان موالي الأم يقومون مقام العصبة في ولد مواليهم وكان الأخوال لا يقومون ذلك المقام في بني أختهم فكيف أنكرت ما قلنا والأصل الذي ذهبنا إليه واحد؟ ".
قال الماوردي: وهذا كَمَا قَالَ: وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ ينْتَفى عَنْ أَبِيهِ وَيَلْحَقُ بِأُمِّهِ لِرِوَايَةِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ألحق ابن الْمُلَاعَنَةِ بِأُمِّهِ وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْيِهِ عَنْ أَبِيهِ بِمَاذَا يَكُونُ مِنَ اللِّعَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وحده يقع الفرق وَينْتَفى عَنْهُ الْوَلَدُ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنْ بِلِعَانِهِمَا جَمِيعًا تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَينْتَفى عَنْهُ الْوَلَد.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ بلعانها وحكم الحاكم يقع الْفُرْقَةُ وَينْتَفى عَنْهُ الْوَلَدُ وَحِجَاجُ هَذَا الْخِلَافِ يَأْتِي فِي كتَابِ اللِّعَانِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.(8/159)
فَإِذَا انْتَفَى الْوَلَدُ بِاللِّعَانِ عَنِ الزَّوْجِ وَلَحِقَ بالأم انتفى تَعْصِيبُ النَّسَبِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ تَصِيرُ الْمُلَاعَنَةُ أَوْ عَصَبَتُهَا عَصَبَةً لَهُ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشافعي أنها لَا تَكُونُ لَهُ عَصَبَةً وَلَا تَصِيرُ أُمُّهُ وَلَا عَصَبَتُهَا لَهُ عَصَبَةً، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَقَالَ أبو حنيفة: تَصِيرُ أُمُّهُ عَصَبَةً لَهُ ثُمَّ عَصَبَتُهَا مِنْ بَعْدِهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: تَصِيرُ عَصَبَةُ الْأُمِّ عَصَبَةً لَهُ، وَلِلْأُمِّ فَرْضُهَا وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السلام.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ أُمَّهُ وَعَصَبَتَهَا عَصَبَةً لَهُ بِمَا رَوَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمِّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بعدها.
وما رواه عبد الواحد بن عبد الله البصري عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: المرأة تحوز ثلث مَوَارِيثِ عَتِيقِهَا وَلَقِيطِهَا وَوَلَدِهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ.
وروي عن دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عبيد بن عمر الأنصاري قَالَ كَتَبْتُ إِلَى صَدِيقٍ لِي مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ أَسْأَلُهُ عَنْ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ لِمَنْ قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكتب إليه إِنِّي سَأَلْتُ فَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ قَضَى بِهِ لِأُمِّهِ هِيَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ بَعَثَ أَهْلُ الْكُوفَةِ رَجُلًا إِلَى الْحِجَازِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه ما بعثوه إلا في ميراث الْمُلَاعَنَةِ يَسْأَلُ عَنْهُ فَجَاءَهُمُ الرَّسُولُ أَنَّهُ لِأُمِّهِ وَعَصَبَتِهَا، وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ فِي التَّعْصِيبِ وَالْعَقْلِ فَلَمَّا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ مِنْ جِهَةِ الأب جاز أن يثبت له بالتعصيب مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بالتعصيب من جهة الأب ويتحرر من قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ جِهَةٍ جَازَ أَنْ يثبت عليها الولاء فيها جَازَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ التَّعْصِيبُ مِنْهَا كَالْأَبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا حِيزَ بِهِ الْمِيرَاثُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ جَازَ أَنْ يُحَازَ بِهِ مِنْ جهة الأم كالولادة.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتِ الفرائض فلأولى رجل ذَكَرٍ وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأُمِّ الثُّلُثُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عن شريك بن سحماء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَكَانَتْ حَامِلًا فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَكَانَ يُدْعَى إِلَيْهَا ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ أَنْ يَرِثَهَا وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أدلى بِمَنْ لَا تَعْصِيبَ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ تعصيب كابن العم للأم؛ لأنها قرابة بعتق يُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْمُعْتَقُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَا الْإِرْثَ كَالرَّضَاعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَحْرَزَ مَعَهُ الْمَوْلَى الْمُعْتَقُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْإِرْثَ بِالْقَرَابَةِ كالعبد الكافر، وَلِأَنَّ التَّعْصِيبَ قَدْ يُعْدَمُ بِالْمَوْتِ مَعَ مَعْرِفَةِ النسب(8/160)
كَمَا يُعْدَمُ بِاللِّعَانِ لِلْجَهْلِ بِالنَّسَبِ فَلَمَّا كَانَ عَدَمُهُ بِالْمَوْتِ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَهُ إِلَى الْأُمِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ بِاللِّعَانِ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَهُ إِلَى الْأُمِّ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ عَدَمَ التعصيب من جهة لَا يُوجِبُ انْتِقَالَهُ إِلَى غَيْرِ جِهَتِهِ كَالْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْأُمَّ لَوْ صَارَتْ عَصَبَةً كَالْأَبِ لَوَجَبَ أَنْ تَحْجُبَ الْإِخْوَةَ كَمَا يَحْجُبُهُمُ الْأَبُ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ مَعَهَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعْصِيبِهَا، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَصَبَةِ لِلْمِيرَاثِ فِي مُقَابَلَةٍ تَحْمِلُهُمْ لِلْعَقْلِ وَوِلَايَةِ النِّكَاحِ فَلَمَّا لَمْ تَعْقِلْ عَصَبَةُ الْأُمِّ وَلَمْ يُزَوِّجُوا لَمْ يَرِثُوا.
وتحريره قياسا أن ما تفرع من النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِثُبُوتِ النَّسَبِ قِيَاسًا عَلَى الْعَقْلِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَهُوَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ لَهُ جَدَّيْنِ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا تَابِعِيٌّ، وَالثَّانِي صَحَابِيٌّ، فَإِذَا لم يعين أحدهما لحق بالمرسل فَلَمْ يُلْزِمِ الِاحْتِجَاجَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ أَنَّهُ جَعَلَ مِيرَاثَهُ لِأُمِّهِ إِذَا كَانَ لَهَا عليه ولاء ثم لورثته وَلَائهَا مِنْ بَعْدِهَا وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا تَحُوزُ مِيرَاثَهُ وَهُوَ قَدْرُ فَرْضِهَا، وَيُسْتَفَادُ بِهِ أَنَّ لِعَانَهَا عَلَيْهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي سُقُوطِ ميراثها منه.
أما حَدِيثُ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ فَمُرْسَلٌ ثُمَّ لَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ وَلَدِ الملاعنة لمن قضى به قالوا: قَضَى بِهِ لِأُمِّهِ هِيَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ في كفالته والقيام بحضانته؛ لأنه لم يجز لِلْمِيرَاثِ فِيهِ ذِكْرٌ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَلَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ كَثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ أَقْوَى وَخَالَفَ النَّسَبَ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فَكَذَا مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ مِنَ التَّعْصِيبِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ ما وصفنا ومات ابن الملاعنة فترك أُمَّهُ وَخَالًا فَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة وَهُوَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَالُ كُلُّهُ لِأُمِّهِ وَعَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْخَالِ؛ لِأَنَّهُ عَصَبَةُ الْأُمِّ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِمَوَالِيهَا إِنْ كَانَ عَلَى الْأُمِّ وَلَاءٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ دَاخِلٌ فِي وَلَاءِ أُمِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأُمِّ وَلَاءٌ فَالْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهَا لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَوْ تَرَكَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ أُمًّا وَأَخًا وَأُخْتًا فَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْأُمِّ، وَعَلَى قول أحمد بن حنبل وهو قول علي عليه السلام لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَلِأَخِيهِ وَأُخْتِهِ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأَخِ وَالْأُخْتِ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِبَيْتِ الْمَالِ فَلَوْ كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ تَوْأَمَيْنِ ابْنَيْنِ فَمَاتَ أحدهما فترك أُمَّهُ وَأَخَاهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَخِيهِ هَلْ يَرِثُهُ مِيرَاثَ أَخٍ لِأُمٍّ أَوْ مِيرَاثَ لِأَبٍ وَأُمٍّ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الأكثرين من أصحابنا أنه يرث ميراث أخ لأم، لأنهما لم عَدِمَا الْأَبَ عَدِمَا الْإِدْلَاءَ بِالْأَبِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَلِأَخِيهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى إِنْ كَانَ أَوْ لِبَيْتِ الْمَالِ.(8/161)
والوجه الثاني: حكي عن أبي إسحاق المروزي وأبو الحسن بْنِ الْقَطَّانِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَرِثُهُ مِيرَاثَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّ التَّوْأَمَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ، وَالْحَمْلُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَيَّهُمَا اعْتَرَفَ بِهِ الْمُلَاعِنُ تَبِعَهُ الْآخَرُ فِي اللُّحُوقِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ؛ لِأَنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَكَانَ أَوْلَى مِنَ المولى وَبَيْتِ الْمَالِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا وَلَدُ الزِّنَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فِي نَفْيِهِ عَنِ الزَّانِي ولحوقه بالأم وعلى مَا مَضَى مِنَ الِاخْتِلَافِ هَلْ تَصِيرُ الْأُمُّ وَعَصَبَتُهَا عَصَبَةً لَهُ أَمْ لَا؟ غَيْرَ أَنَّ تَوْأَمَ الزَّانِيَةِ لَا يَرِثُ إِلَّا مِيرَاثَ أَخٍ لِأُمٍّ بِإِجْمَاعِ أَصْحَابِنَا وَوِفَاقِ مَالِكٍ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَوْأَمِ الْمُلَاعَنَةِ فَإِنِ ادَّعَى الزَّانِي الْوَلَدَ الَّذِي وَلَّدَتْهُ الزَّانِيَةُ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّانِيَةُ فِرَاشًا لِرَجُلٍ كَانَ الْوَلَدُ فِي الظَّاهِرِ لَاحِقًا بِمَنْ لَهُ الْفِرَاشُ، وَلَا يَلْحَقُ بِالزَّانِي لِادِّعَائِهِ له لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ".
فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الزانية خلية وليست فراشا لأحد يلحقها ولدها فمذهب الشافعي أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ بِالزَّانِي، وَإِنِ ادَّعَاهُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ إِذَا ادَّعَاهُ بعد قيام البنية وبه قال ابن سيرين وإسحاق ابن رَاهَوَيْهِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ إِذَا ادعاه بعد الحد ويلحقه إذا ملك الموطوة وَإِنْ لَمْ يَدِّعِهِ وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ وَضْعِهَا وَلَوْ بِيَوْمٍ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا لَمْ يَلْحَقْ بِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلُّوا جَمِيعًا مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَلِيطُ أَوْلَادَ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَعْنَى يَلِيطُ أَيْ يلحق.
قالوا: ولأن لَمَّا كَانَ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ عَنِ الْوَاطِئِ بِاللِّعَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ لُحُوقِهِ بِهِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ فكذلك وَلَدُ الزِّنَا، وَهَذَا خَطَأٌ فَاسِدٌ لِمَا رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَذْكُرَ فأتاه رجل فقال يا رسول الله إني عَاهَرْتُ بأمه فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا اعْتِهَارَ فِي الْإِسْلَامِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَأَيُّمَا رَجُلٍ عَاهَرَ بِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا أَوِ امْرَأَةٍ لا يملكها فَادَّعَى الْوَلَدَ فَلَيْسَ بِوَلَدِهِ وَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَوْ لَحِقَ بِادِّعَاءِ الزاني إياه لَلَحِقَ بِهِ إِذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا، وَإِنْ لَمْ يدعيه كولد الموطؤة يشبه في إِجْمَاعِهِمْ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالزِّنَا دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ مَعَ ادِّعَائِهِ لَهُ ولأنه لو لحق بِالِاعْتِرَافِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِرَافُ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اعْتَرَفَ بِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَلِيطُ أَوْلَادَ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ أَنَّ ذلك منه فِي عِهَارِ الْبَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دُونَ عِهَارِ(8/162)
الْإِسْلَامِ، وَالْعِهَارُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْعِهَارِ فِي الْإِسْلَامِ، فَصَارَتِ الشُّبْهَةُ لَاحِقَةً بِهِ وَمَعَ الشُّبْهَةِ يَجُوزُ لُحُوقُ الْوَلَدِ، وَخَالَفَ حُكْمَهُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا ولد الملاعنة مخالف لِوَلَدِ الزِّنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ لَمَّا كَانَ لَاحِقًا بِالْوَاطِئِ قَبْلَ اللِّعَانِ جَازَ أَنْ يَصِيرَ لَاحِقًا بِهِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ؛ لِأَنَّ الأصل فيه اللحوق والبغاء طَارِئٌ وَوَلَدُ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ لَاحِقًا بِهِ فِي حَالٍ فَيَرْجِعُ حُكْمُهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ إِلَى تلك الحال.(8/163)
باب ميراث المجوس
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إذا مات المجوسي وَبِنْتُهُ امْرَأَتُهُ أَوْ أُخْتُهُ أُمُّهُ نَظَرْنَا إِلَى أعظم السببين فورثناها به وألقينا الْآخَرَ وَأَعْظَمُهُمَا أَثْبَتُهُمَا بِكُلِّ حَالٍ فَإِذَا كَانَتْ أم أختا ورثناها بأنها أم وذلك لِأَنَّ الْأُمَّ تَثْبُتُ فِي كُلِّ حَالٍ وَالْأُخْتُ قد تزول وهكذا جميع فرائضهم على هذه المسألة (وقال) بعض الناس أورثها من الوجهين معا قلنا فإذا كان معها أخت وهي أم؟ (قال) أحجبها من الثلث بأن معها أختين وأورثها من وجه آخر بإنها أخت (قلنا) أوليس إنما حجبها الله تعالى بغيرها لا بنفسها؟ (قال) بلى قلنا وغيرها خلافها؟ قال: نعم قلنا فإذا نقصتها بنفسها فهذا خلاف ما نقصها الله تعالى به أورأيت ما إذا كانت أما على الكمال كيف يجوز أن تعطيها ببعضها دون الكمال؟ تعطيها أما كاملة وأختا كاملة وهما بدنان وهذا بدن واحد؟ قال: فقد عطلت أحد الحقين. قلنا لما لم يكن سبيل إلى استعمالهما معا إلا بخلاف الكتاب والمعقول، لم يجز إلا تعطيل أصغرهما لأكبرهما ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُمَّهُ فَأَوْلَدَهَا ابْنًا كَانَ الْوَلَدُ مِنْهَا ابْنَهَا وَابْنَ ابْنِهَا وَكَانَتْ لَهُ أُمًّا وَجَدَّةَ أُمّ أَبٍ، وَكَانَ للأب ابنا أخا لأم كان الْأَبُ لَهُ أَبًا وَأَخًا لِأُمٍّ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ المجوسي بنته فأولدها ابنا فكان الْوَلَدُ مِنْهُ ابْنًا وَابْنَ بِنْتٍ وَكَانَ الْأَبُ أبا وجدا أب أُمٍّ وَكَانَ الِابْنُ لِلْبِنْتِ ابْنًا وَأَخًا لِأَبٍ وَكَانَتْ لَهُ أُمًّا وَأُخْتًا لِأَبٍ.
وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَجُوسِيُّ أُخْتَهُ فَأَوْلَدَهَا ابْنًا كَانَ الْأَبُ أَبَاهُ وَخَالَهُ، وَكَانَ الِابْنُ لَهُ ابْنًا وَابْنَ أُخْتٍ، وَكَانَ لِلْأُخْتِ ابْنًا وَابْنَ أَخٍ، وَكَانَتْ لَهُ أما وعمة، وقد تتفق هاتان المسألتان في وَطْءِ الشُّبْهَةِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي المجوسي وَقَدْ أَسْلَمُوا أَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فِي مَوَارِيثِهِمْ أَوْ كَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَعَ الشُّبْهَةِ فَإِنِ اجْتَمَعَ فِيهِ عَقْدُ نِكَاحٍ وَقَرَابَةٌ سَقَطَ التَّوْرِيثُ بِالنِّكَاحِ لِفَسَادِهِ وَتَوَارَثُوا بِالْقَرَابَةِ الْمُفْرَدَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنِ اجْتَمَعَ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ قَرَابَتَانِ بِنَسَبٍ تُوجِبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْمِيرَاثَ فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا تُسْقِطُ الْأُخْرَى كَأُمٍّ هِيَ جَدَّةٌ أَوْ بنت هي أخت لأم، ورثت بابنتها وألغيت المحجوبة منهما إجماعا، وإن كان إِحْدَاهُمَا لَا تُسْقِطُ الْأُخْرَى كَأُمٍّ هِيَ أُخْتٌ أَوْ أُخْتٌ هِيَ بِنْتٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ تُورَثُ بِالْقَرَابَتَيْنِ مَعًا أَمْ لَا فَقَالَ أبو حنيفة أَوَرِّثُهَا بِالْقَرَابَتَيْنِ مَعًا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ(8/164)
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَكْحُولٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أُوَرِّثُهَا بِأَثْبَتِ الْقَرَابَتَيْنِ، وَأُسْقِطُ الْأُخْرَى، وَلَا أَجْمَعُ لَهَا بَيْنَ الْمِيرَاثَيْنِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَحَمَّادٌ وَاسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ بها بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى التَّوْرِيثِ بِالْقَرَابَاتِ، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا " فَلَمْ يَجُزْ مَعَ النَّصِّ إِسْقَاطُ بَعْضِهَا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ السَّبَبَيْنِ مِنْ أسباب الإرث عند انفصالها لَا يَمْنَعُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْإِرْثِ بِهِمَا كَابْنَيِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِأُمٍّ.
قَالُوا: لأن اجْتِمَاعَ الْقَرَابَتَيْنِ يُفِيدُ فِي الشَّرْعِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ إما التقديم كأخ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ مَعَ الْأَخِ لِلْأَبِ وَإِمَّا التَّفْضِيلُ كَابْنَيِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَخًا لِأُمٍّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اجْتِمَاعُهُمَا لَغْوًا لَا يُفِيدُ تَقْدِيمًا وَلَا تَفْضِيلًا لِمَا فِيهِ مِنْ هَدْمِ الْأُصُولِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الْمَوَارِيثِ وَلِذَلِكَ لَمَّ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى إِحْدَى الْقَرَابَتَيْنِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فَلَمْ يَزِدِ اللَّهُ تَعَالَى الْبِنْتَ عَلَى النِّصْفِ وَهُمْ يَجْعَلُونَ لِلْبِنْتِ إِذَا كَانَتْ بِنْتَ ابْنٍ النِّصْفَ وَالسُّدُسَ، وَالنَّصُّ يَدْفَعُ هَذَا، وَلِأَنَّ الشَّخْصَ الواحد لا يجتمع لَهُ فَرْضَانِ مُقَدَّرَانِ مِنْ مَيِّتٍ وَاحِدٍ كَالْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَا تَأْخُذُ النِّصْفَ بِأَنَّهَا أُخْتٌ لِأَبٍ وَالسُّدُسَ بِأَنَّهَا أُخْتٌ لِأُمٍّ وَلِأَنَّ كُلَّ نسب أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ التَّوَارُثَ جَعَلَ إِلَيْهِ طَرِيقًا كَالْبُنُوَّةِ وَالْمُصَاهَرَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجْعَلْ إِلَى اجْتِمَاعِ هَاتَيْنِ الْقَرَابَتَيْنِ وَجْهًا مُبَاحًا دَلَّ عَلَى أنه لم يرد اجتماع التوارث منهما وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْهُ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي بَدَنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجْتَمِعِ التَّوَارُثُ بِهِمَا كَالْخُنْثَى لَا يَرِثُ بأنه ذكر وأنثى.
وَالثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ إِذَا حَدَثَ عَنْ مَحْظُورٍ لَمْ يَجُزِ التَّوَارُثُ بِهِ كَالْأُخْتِ إِذَا صَارَتْ زَوْجَةً وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ مَجُوسِيًّا لَوْ ترك أختا وأما هي أخته لم يخل أن تحجب الأم إلى السدس أو لا تحجب، فإن لم تحجب فقد كمل فرض الأم مع الميراث الْأُخْتَيْنِ وَإِنْ حَجَبَتْ وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَجَبَهَا بِغَيْرِهَا وَهُمْ قَدْ حَجَبُوهَا بِنَفْسِهَا وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِحَجْبِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمِ الشَّرْعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالظَّاهِرِ فَهُوَ حَمْلُ الْمَقْصُودِ بِهَا عَلَى انْفِرَادِ الْأَسْبَابِ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمُعْتَادِ دُونَ النادر الشاذ وليس يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ وَمَنَعَ الْعُرْفُ دُونَ مَا جَاءَ الشَّرْعُ بِهِ وَاسْتَقَرَّ الْعُرْفُ عَلَيْهِ وَقُرَابَاتُ الْمَجُوسِ الْحَادِثَةِ عَنْ مَنَاكِحِهِمْ لَمْ يَرِدْ بِهَا شَرْعٌ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهَا عُرْفٌ، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى ابْنَيْ أَحَدِهِمَا أَخٌ لِأُمٍّ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَبَاحَهُ وَالْعُرْفَ اسْتَمَرَّ فِيهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْقَرَابَتَيْنِ يُفِيدُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ مِنْ تَقْدِيمٍ أَوْ تَفْضِيلٍ ففاسد(8/165)
بالأخت من الأب والأم مع الزوج يأخذ النِّصْفَ الَّذِي تَأْخُذُهُ الْأُخْتُ لِلْأَبِ عَلَى أَنَّ جَمْعَهَا بَيْنَ الْقَرَابَتَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ مُسَاوَاةِ الْأَمْرَيْنِ.
فصل:
فإذا ثبت توريث ذي القرابتين من المجوس أو من وطء الشبهة بِأَقْوَاهُمَا، نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا تُسْقِطُ الْأُخْرَى فَالْمُسْقِطَةُ هِيَ الْأَقْوَى وَالتَّوْرِيثُ بِهَا أَحَقُّ، وَإِنْ كانت إحداهما لا تسقط الأخرى فالتوارث يَكُونُ بِأَقْوَاهُمَا وَاجْتِمَاعِ الْقَرَابَتَيْنِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ التَّوَارُثُ بكل واحدة منها فِي مَنَاكَحِ الْمَجُوسِ يَكُونُ فِي سِتِّ مَسَائِلَ:
أحدهما: أَبٌ هُوَ أَخٌ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا أخا لأم فهذا يرث لكونه أَبًا، لِأَنَّ الْأَخَ يَسْقُطُ مَعَ الْأَبِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ابْنٌ هُوَ ابْنُ ابْنٍ فَهَذَا يَرِثُ بأنه ابن.
والثالثة: بَنْتٌ هِيَ بِنْتُ ابْنٍ فَهَذِهِ تَرِثُ بِأَنَّهَا بِنْتٌ.
وَالرَّابِعَةُ: أُمٌّ هِيَ أُخْتٌ وَهَذِهِ لَا تَكُونُ إِلَّا أُخْتًا لِأَبٍ فَتَرِثُ بِأَنَّهَا أُمٌّ، لِأَنَّ مِيرَاثَ الْأُمِّ أَقْوَى مِنْ مِيرَاثِ الْأُخْتِ لِأَنَّهَا تَرِثُ مَعَ الْأَبِ، وَالِابْنِ وَالْأُخْتُ تَسْقُطُ مَعَهُمَا.
وَالْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: بِنْتٌ هِيَ أُخْتٌ فَإِنْ كان الميت رجلا فهي أخت لأب، [وإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَهِيَ أُخْتٌ لِأَبٍ] فَتَرِثُ بِأَنَّهَا بِنْتٌ.
وَالْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: جَدَّةٌ هِيَ أُخْتٌ فَإِنْ كَانَتِ الْجَدَّةُ أُمَّ الْأُمِّ فَإِنَّ الْأُخْتَ لا تكون إلا الأم وَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ وُجِدَ مِنْ وَرَثَةِ الميت في هذه المسألة أَنْ يُورَثَ مَعَهُمْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ القرابتين أم لا، فإن كانوا ممن يرث مَعَهُمُ الْأُخْتُ وَالْجَدَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تَرِثُ هَذِهِ بِأَنَّهَا جَدَّةٌ أَمْ بِأَنَّهَا أُخْتٌ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرِثُ بِأَنَّهَا جَدَّةٌ؛ لِأَنَّ الْجَدَّةَ تَرِثُ مَعَ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالْأُخْتُ تَسْقُطُ مَعَ الْأَبِ وَالِابْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أنها تَرِثُ بأنها أخت لِأَنَّ مِيرَاثَ الْجَدَّةِ طُعْمَةٌ وَمِيرَاثَ الْأُخْتِ نَصٌّ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجَدَّةِ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْجَدَّاتِ وَفَرْضَ الْأُخْتِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَخَوَاتِ، وَلِأَنَّ الْأَخَوَاتِ يَرِثْنَ بِالْفَرْضِ تَارَةً، وَبِالتَّعْصِيبِ أُخْرَى، وَالْجَدَّاتِ لَا يرثن إلا بالفرض فلهذه المعاني الثلاث صَارَتِ الْأُخْتُ أَقْوَى مِنَ الْجَدَّةِ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ مِمَّنْ يُورَثُ مَعَهُمْ بِإِحْدَى هَاتَيْنِ الْقَرَابَتَيْنِ فَهَذَا يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ التَّوَارُثُ مَعَهُمْ يَكُونُ بِالَّتِي جَعَلْنَاهَا أَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَغْلِبَ تَوْرِيثُهَا بِأَنَّهَا جَدَّةٌ وَهُمْ مِمَّنْ تَرِثُ مَعَهُمُ الْجَدَّةُ دُونَ الْأُخْتِ أَوْ يَغْلِبُ تَوْرِيثُهَا بِأَنَّهَا أُخْتٌ وَهُمْ مِمَّنْ تَرِثُ مَعَهُمُ الْأُخْتُ دُونَ الْجَدَّةِ فَهَذِهِ تَرِثُ مَعَهُمْ بِالْقَرَابَةِ الَّتِي غَلَبْنَاهَا وَجَعَلْنَاهَا أَقْوَى وَإِنْ كَانَ التَّوَارُثُ مَعَهُمْ بالقرابة(8/166)
الَّتِي جَعَلْنَاهَا أَضْعَفَ مِثْلَ أَنْ يَغْلِبَ تَوْرِيثُهَا بِأَنَّهَا جَدَّةٌ وَهُمْ مِمَّنْ تَرِثُ مَعَهُمُ الْأُخْتُ دُونَ الْجَدَّةِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ أَوْ يَغْلِبُ تَوْرِيثُهَا بِأَنَّهَا أُخْتٌ وَهُمْ مِمَّنْ تَرِثُ مَعَهُمُ الْجَدَّةُ دُونَ الْأُخْتِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تُورَثُ مَعَهُمْ بِالْقَرَابَةِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ مَعَهُمْ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْأُخْرَى إِنْ لَمْ تَزِدْهَا خَيْرًا لَمْ تَزِدْهَا شَرًّا، وَلَا يُرَاعَى حُكْمُ الأقوى في هذا الموضع كالمشاركة.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْقُطُ تَوْرِيثُهَا بِأَضْعَفِهِمَا إِذَا لَمْ تَرِثْ بِالْأَقْوَى؛ لِأَنَّ أَقْوَاهُمَا قَدْ أَسْقَطَ حُكْمَ أَضْعَفِهِمَا حَتَّى كَانَ الْإِدْلَاءُ بِالْأَضْعَفِ مَعْدُومًا والله أعلم بالصواب.(8/167)
باب ميراث الخنثى
مسألة:
قال الشافعي: الْخُنْثَى هُوَ الَّذِي لَهُ ذَكَرٌ كَالرِّجَالِ وَفَرْجٌ كَالنِّسَاءِ أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ ذَكَرٌ وَلَا فرج ويكون له ثُقْبٌ يَبُولُ مِنْهُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُشْكَلُ الْحَالِ فَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ أَحَدِ فَرْجَيْهِ فَالْحُكْمُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بَوْلُهُ مِنْ ذَكَرِهِ فَهُوَ ذَكَرٌ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الذُّكُورِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَيَكُونُ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا وَإِنْ كَانَ بَوْلُهُ مِنْ فرجه فهو أنثى يجري عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِنَاثِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَيَكُونُ الْذكر عُضْوًا زَائِدًا لِرِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ وُلِدَ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَمَا لِلنِّسَاءِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشام مات فترك أَوْلَادًا رِجَالًا وَنِسَاءً فِيهِمْ خُنْثَى فَسَأَلُوا مُعَاوِيَةَ فقال ما أدري اتئوا عَلِيًّا بِالْعِرَاقِ قَالَ: فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: مَنْ أَرْسَلَكُمْ، فَقَالُوا: مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: يَرْضَى بِحُكْمِنَا وَيَنْقِمُ عَلَيْنَا بَوِّلُوهُ فَمِنْ أَيِّهِمَا بَالَ فَوَرِّثُوهُ.
فَإِنْ بال منهما فقد اختلف الناس منه فَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: أَعْتَبِرُ أَسْبَقَهُمَا وَأَجْعَلُ الحكم له قال أبو الحسن بْنُ اللَّبَّانِ الْفَرْضِيُّ: وَقَدْ حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَمْ أَرَ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُزَنِيِّ، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ، وَمَذْهَبُهُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِأَسْبَقِهِمَا، وَلَوِ اعْتَبَرَ السَّبْقَ كَمَا قَالُوا لَاعْتَبَرَ الْكَثْرَةَ كَمَا قَالَ أبو يوسف وَقَدْ قَالَ أبو حنيفة لأبي يوسف حِينَ قَالَ أُرَاعِي أَكْثَرَهُمَا أَفَتكيلُهُ؟ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الْخُنْثَى إِذَا أَشْكَلَ حَالُهُ اعْتُبِرَتْ أَضْلَاعُهُ فَإِنَّ أضلاع الرجال ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَأَضْلَاعَ الْمَرْأَةِ سَبْعَةَ عَشَرَ وَهَذَا لا أصل له لإجماعهم على تقديم المال على غيره فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُشْكِلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يعطي الخنثى أقل نصيبه مِنْ مِيرَاثِ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَتُعْطى الْوَرَثَةُ المشاركون له أقل ما يصيبهم من ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَيُوقِفُ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهُ، وَبِهِ قَالَ دَاوُدُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أبو حنيفة أُعْطِيهِ أَقَلَّ مَا يُصِيبُهُ مِنْ مِيرَاثِ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَأُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الورثة، ولا أوقف شَيْئًا، وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْخُنْثَى فَقَالَ لَا أعرفه إما ذكرا أَوْ أُنْثَى، وَرُوِيَ عَنْهُ(8/168)
أَنَّهُ جَعَلَهُ ذَكَرًا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَخِيرُ مِنْ قَوْلِ أبي يوسف.
فَإِنْ تَرَكَ خنثيين: قال أبو يوسف إن لهما حَالَيْنِ حَالًا يَكُونَانِ ذَكَرَيْنِ وَحَالًا يَكُونَانِ أُنْثَيَيْنِ وأعطيه نِصْفَ الْأَمْرَيْنِ، وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الثَّلَاثَةِ وَمَا زَادُوا، وَقَالَ محمد بن الحسن: أُنَزِّلُ الْخُنْثَيَيْنِ أربعة أَحْوَالٍ: ذَكَرَيْنِ وَأُنْثَيَيْنِ وَالْأَكْبَرُ ذَكَر وَالْأَصْغَرُ أُنْثَى، أو الأكبر أنثى والأصغر ذكرا، وأنزل الثلاثة ثمانية أحوال والأربعة ستة عشر حالا، والخمسة اثنين وَثَلَاثِينَ حَالًا.
وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ دَفْعِ الْأَقَلِّ إِلَيْهِ وَدَفْعِ الْأَقَلِّ إِلَى شُرَكَائِهِ، وَإِيقَافِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِيرَاثَ لا يستحق إلا بالتعيين دون الشك وما قاله الشافعي يعين وَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ شَكٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَائِرُ أَحْكَامِهِ سِوَى الْمِيرَاثِ لَا يُعْمَلُ فِيهَا إِلَّا عَلَى الْيَقِينِ، فَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنًا وَوَلَدًا خُنْثَى فعلى قول الشافعي للابن النصف إن كان خنثى رجلا، وللخنثى الثلث كأنه أنثى ويوقفوا السُّدُسَ فَإِنْ بَانَ ذَكَرًا رُدَّ عَلَى الْخُنْثَى، وَإِنْ بَانَ أُنْثَى رُدَّ عَلَى الِابْنِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أبي حنيفة يَكُونُ لِلْخُنْثَى الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَلَا يُوقَفُ شَيْءٌ، وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف ومحمد وَمَنْ قَالَ بِتَنْزِيلِ الْأَحْوَالِ لَوْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا كَانَ لَهُ النِّصْفُ وَلَوْ كَانَ أُنْثَى كَانَ لَهُ الثُّلُثُ فَصَارَ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ، فَكَانَ لَهُ فِي إحداهما أنثى سُدُسَانِ وَنِصْفٌ وَلِلِابْنِ لَوْ كَانَ الْخُنْثَى أُنْثَى الثلثان، ولو كان ذكرا النِّصْفُ فَصَارَ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ سَبْعَةَ أَسْدَاسٍ فَكَانَ لَهُ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْفٌ وَنِصْفُ سُدُسٍ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلِابْنِ سَبْعَةٌ وَلِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ.
وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَتَرَكَ وَلَدًا خُنْثَى وَعَمًّا، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِلْبِنْتِ الثُّلُثِ وللخنثى الثلث، لأنه أقل وَالثُّلُثُ الْبَاقِي مَوْقُوفٌ لَا يُدْفَعُ إِلَى الْعَمِّ فَإِنْ بَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا رُدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَانَ أُنْثَى دُفِعَ إِلَى الْعَمِّ.
وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة يُدْفَعُ الثُّلُثُ الْبَاقِي إِلَى الْعَمِّ، وَلَا يُوقَفُ.
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ نَزَّلَ حَالَيْنِ قَالَ لِلْبِنْتِ الثُّلُثُ فِي الْحَالَيْنِ فَيُدْفَعُ إِلَيْهَا، وللخنثى السدس إِنْ كَانَ ذَكَرًا الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى الثلث، فصار له في الحالتين الكل، وكان له في أحدهما النِّصْفُ، فَيَأْخُذُهُ وَلِلْعَمِّ إِنْ كَانَ الْخُنْثَى أُنْثَى الثُّلُثُ وَلَيْسَ لَهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا شَيْءٌ، فَصَارَ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ الثُّلُثُ، فَكَانَ لَهُ فِي إِحْدَاهُمَا السُّدُسُ، وَيُقَسَّمُ مِنْ سِتَّةٍ لِلْبِنْتِ سَهْمَانِ وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْعَمِّ سَهْمٌ، وَلَوْ ترك ابنا وبنتا وخنثى فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ هُوَ مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا؛ لأن الخنثى إن كان ذكرا فهو مِنْ خَمْسَةٍ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَمِنْ أَرْبَعَةٍ، فصار مجموع الْفَرِيضَتَيْنِ مِنْ عِشْرِينَ، وَهُوَ مَضْرُوبٌ خَمْسَةً فِي أَرْبَعَةٍ، لِلِابْنِ الْخُمُسَانِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ،(8/169)
وَلِلْبِنْتِ الْخَمُسُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْخُنْثَى الرُّبُعُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَيُوقَفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ بَانَ الْخُنْثَى رُدَّ عَلَيْهِ فَصَارَ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ كَالِابْنِ، وإن كان أُنْثَى رُدَّ مِنْهَا عَلَى الِابْنِ سَهْمَانِ، وَعَلَى الْبِنْتِ سَهْمٌ.
وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة هِيَ من أربعة أسهم لِلِابْنِ سَهْمَانِ وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ وَلِلْخُنْثَى سَهْمٌ وَلَا يُوقَفُ شَيْءٌ.
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ نَزَّلَ حَالَيْنِ يَقُولُ هِيَ مِنْ عِشْرِينَ لِلِابْنِ إِنْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا ثَمَانِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى عَشَرَةٌ فَصَارَ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، فَكَانَ لَهُ فِي إِحْدَاهُمَا تِسْعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْبِنْتِ إِنْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا أَرْبَعَةٌ وَإِنْ كَانَ أنثى خمسة فصار له في الحالين تسعة فكان له فِي إِحْدَاهُمَا أَرْبَعَةٌ وَنِصْفٌ وَلِلْخُنْثَى إِنْ كَانَ ذَكَرًا ثَمَانِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى خَمْسَةٌ، فَصَارَ له في الحالين ثلاثة عشر فَكَانَ لَهُ فِي إِحْدَاهُمَا سِتَّةٌ وَنِصْفٌ وَتَصِحُّ من أربعين لنزول الكسر فلو ترك ولدا خنثى ولد ابن خنثى وعم فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِلْوَلَدِ النِّصْفُ وَيُوقِفُ السُّدُسَ بين الابن وابن الابن والخنثيين لِأَنَّهُ لِأَحَدِهِمَا وَيُوقِفُ الثُّلُثَ بَيْنَ الْعَمِّ وَالْخُنْثَيَيْنِ.
وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة لِلْوَلَدِ النِّصْفُ وَلِوَلَدِ الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ.
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ نَزَّلَ حَالَيْنِ يَقُولُ إِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ فَالْمَالُ للولد، وإن كانا أنثيين فللولد النصف ولولد الِابْنِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ، فَيَأْخُذُ الْوَلَدُ نِصْفَ الْحَالَيْنِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَيَأْخُذُ وَلَدُ الِابْنِ نِصْفَ الْحَالَيْنِ وَهُوَ نِصْفُ السُّدُسِ وَيَأْخُذُ الْعَمُّ نِصْفَ الْحَالَيْنِ وَهُوَ السُّدُسُ.
وَعَلَى قَوْلِ من ينزل بجميع الأحوال ينزلها أربعة أَحْوَالٍ فَيَقُولُ إِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ فَالْمَالُ لِلْوَلَدِ وإن كانا أنثيين فللولد النصف ولولد الابن السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا وولد الابن أنثى، فالمال للولد وإن كانا الْوَلَدُ أُنْثَى وَوَلَدُ الِابْنِ ذَكَرًا فَلِلْوَلَدِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لَوَلَدِ الِابْنِ، فَصَارَ لِلْوَلَدِ فِي الْأَرْبَعَةِ الأحوال ثلاثة أموال فكان له في كل حالة رُبُعُهَا وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَالٍ، وَلِوَلَدِ الِابْنِ في الأربعة الأحوال ثلث الْمَالِ فَكَانَ لَهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ رُبُعُ ذَلِكَ وَهُوَ نصف السُّدُس ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَصْلٌ: فِي مِيرَاثِ الْحَمْلِ
إِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ حَمْلًا يَرِثُهُ، نُظِرَ حَال وَرَثَتِهِ فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ يَحْجُبُهُمْ فَلَا مِيرَاثَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْجُبُهُمْ وَلَكِنْ يُشَارِكُهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ مَا يُوقَفُ لِلْحَمْلِ فَحُكِيَ عَنْ أبي يوسف أنه يوقف للحمل نصيب غلام، ويؤخذ منه للورثة ضَمِينٌ وَحُكِيَ عَنْ محمد بن الحسن أَنَّهُ يوقف له نصيب أنثى وحكي عن أبي حنيفة أنه يوقف له نَصِيبُ أَرْبَعَةٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ مَنْ وَجَدَ مِنْ حمل واحد وروى يحيى بن آدم فقال سألت شريكا فقال يوقف نصيبا أربعة فإني قد رأيت بني ابن إِسْمَاعِيلَ أَرْبَعَةً وُلِدُوا فِي بَطْنٍ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ وَعُمَرُ قَالَ يَحْيَى وَأَظُنُّ الرَّابِعَ إِسْمَاعِيلَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُوقَفُ(8/170)
سَهْمُ مَنْ يُشَارِكُ الْحَمْلَ فِي مِيرَاثِهِ حَتَّى يُوضَعَ فَيَتَبَيَّنَ حُكْمُهُ، وَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ إذا لم يتقدر أقل من فرضهم، لِأَنَّ عَدَدَ الْحَمْلِ غَيْرُ مَعْلُومٍ عَلَى الْيَقِينِ وَالْمِيرَاثُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشَّكِّ، وَلَا بِالْغَالِبِ الْمَعْهُودِ، وليس لما ذكروه من تقدير بِالْوَاحِدِ أَوْ بِالِاثْنَيْنِ أَوْ بِالْأَرْبَعَةِ وَجْهٌ لِجَوَازِ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ وَقَدْ أَخْبَرَنِي رَجُلٌ وَرَدَ عَلَيَّ مِنَ الْيَمَنِ طَالِبًا لِلْعِلْمِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ أَنَّ امْرَأَةً بِالْيَمَنِ وضعت حملا كالكرشي وَظَنَّ أن لَا وَلَدَ فِيهِ فَأُلْقِيَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَلَمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَحَمَى بِهَا تَحَرَّكَ فَأَخَذَ وَشَقَّ فَخَرَجَ مِنْهُ سَبْعَةُ أولاد ذكورا عَاشُوا جَمِيعًا، وَكَانُوا خُلُقًا سَوِيًّا إِلَّا أَنَّهُ قال فِي أَعْضَائِهِمْ قَصْرٌ قَالَ: وَصَارَعَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَصَرَعَنِي فَكُنْتُ أُعَيَّرُ بِالْيَمَنِ، فَيُقَالُ لِي: صَرَعَكَ سُبُعُ رَجُلٍ وَإِذَا كَانَ هَذَا مُجَوَّزًا، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا جَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ ابْنًا وَزَوْجَةً حَامِلًا فَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ لَا يَنْقُصُهَا الْحَمْلُ مِنْهُ، وَلَا يَدْفَعُهَا عَنْهُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الِابْنِ فَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف لَهُ النِّصْفُ، وَيُوقَفُ النِّصْفُ وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن لَهُ الثُّلُثُ وَيُوقَفُ الثُّلُثَانِ وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة لَهُ الْخَمُسُ وَتُوقَفُ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يُوقَفُ الْجَمِيعُ حَتَّى يُوضَعَ الْحَمْلُ وَلَوْ تَرَكَتِ الأم زوجا وابن عم وأما حاملا، وطلبت الورثة أنصبائهم نُظِرَ فِي حَمْلِ الْأُمِّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غير أب أعطى الزوج النصف والأم السدس؛ لأنها ما تَلِدُ اثْنَيْنِ فَيَحْجُبَانِهَا وَيُوقَفُ الثُّلُثُ فَإِنْ وَلَدَتِ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ دُفِعَ الثُّلُثُ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ وَلَدَتْ واحدا دفع إليه السدس ورد السدس الباقي على الأم لتستكمل الثلث فإن وضعت ميتا كمل للأب الثُّلُثَ وَدُفِعَ السُّدُسُ إِلَى ابْنِ الْعَمِّ وَيَنْبَغِي لِزَوْجِ الْأُمِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يمسك عن وطئها ليعلم تَقَدُّمَ حَمْلِهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَوَطِئَهَا نُظِرَ فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حين الوفاة كان الولد وارثا لِتَقَدُّمِ الْعُلُوقِ بِهِ عَلَى الْوَفَاةِ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لستة أشهر فأكثر لم ترث لِإِمْكَانِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الْوَرَثَةُ بِتَقَدُّمِهِ فَيَرِثُ هَذَا إِذَا كَانَ حَمْلُهَا مِنْ غَيْرِ الْأَبِ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْأُمُّ حَامِلًا مِنْ أَبِي الْمَيِّتَةِ دُفِعَ إِلَى الزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْمَالِ وَإِلَى الْأُمِّ الثُّمُنُ وَوُقِفَ أربعة أثمانه؛ لأنها قد تلد بنتين فيكونا أُخْتَيْنِ مِنْ أَبٍ فَتَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، فَإِنْ وضعت اثنين بنين أخذ الْمَوْقُوفَ وَإِنْ وَضَعَتْ بِنْتًا وَاحِدَةً دُفِعَ إِلَيْهَا من الموقوف بثلاثة أَثْمَانِ الْمَالِ وَرُدَّ الثُّمُنُ الْبَاقِي عَلَى الْأُمِّ، وَإِنْ وَضَعَتِ ابْنًا كُمِّلَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَدُفِعَ الْبَاقِي إِلَى الِابْنِ.
وَإِنْ وَضَعَتِ ابنتين كُمِّلَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَدُفِعَ الْبَاقِي إلى الابنتين.
وَلَوْ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَزَوْجَةَ أَبٍ حَامِلًا مِنْهُ أُعْطِيَ الزَّوْجُ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ الْمَالِ وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ وَوُقِفَ السُّبُعُ الْبَاقِي فَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا لَمْ يَرِثْ وَلَمْ تَرِثْ أُخْتُهُ وَرُدَّ السُّبُعُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْأُخْتِ نِصْفَيْنِ فَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى أَوْ إِنَاثًا دُفِعَ السُّبُعُ الْمَوْقُوفُ إِلَى الْمَوْلُودَةِ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ لِأَبٍ وَاللَّهُ أعلم بالصواب.
فصل: باب فِي الِاسْتِهْلَالِ
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا رَكَضَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ(8/171)
ركضته إلا عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام ثُمَّ قَرَأَ {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] فَمَتَى اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صَارِخًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَرِثُ ويورث.
روى محمد بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِنِ اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ وَالِاسْتِهْلَالُ هُوَ الصُّرَاخُ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِهْلَالُ الحج لرفع الصوت فيه بالتلبية، وسمي الْهِلَالُ هِلَالًا لِاسْتِهْلَالِ النَّاسِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ رُؤْيَتِهِ.
فَأَمَّا مَا سِوَى الِاسْتِهْلَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ فَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ صَارِخًا وَلَا يَقُومُ غَيْرُ الِاسْتِهْلَالِ مَقَامَ الِاسْتِهْلَالِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُطَاسُ اسْتِهْلَالٌ ويورث بِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَقَالَ القاسم بن محمد البكاء وَالْعُطَاسُ اسْتِهْلَالٌ وَيَرِثُ بِالثَّلَاثَةِ لَا غَيْرَ.
وَقَالَ الشافعي وأبو حنيفة والصحابة بِأَيِّ وَجْهٍ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ صياح أو بكاء أو عطاس ورث وورث؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ عِلَّةُ الْمِيرَاثِ فَبِأَيِّ وَجْهٍ عُلِمَتْ فَقَدْ وَجُدِتْ، وَوُجُودُهَا مُوجِبٌ لِتَعَلُّقِ الْإِرْثِ بِهَا ثُمَّ اخْتَلَفُوا إِذَا اسْتَهَلَّ قَبْلَ انْفِصَالِهِ ثُمَّ خَرَجَ مَيِّتًا فَقَالَ أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ إِذَا اسْتَهَلَّ بَعْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ وَرِثَ وَوُرِثَ وَإِنْ خَرَجَ بَاقِيهِ مَيِّتًا، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرِثُ إِلَّا أَنْ يَسْتَهِلَّ بَعْدَ انْفِصَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَمْلِ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِهِ وزكاة الفطر لا تجب عليه إِلَّا بَعْدَ انْفِصَالِهِ، وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَمَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ وَزَوْجَةً حَامِلًا فَوُلِدَت ابْنًا وَبِنْتًا فَاسْتَهَلَّ الِابْنُ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ اسْتَهَلَّتِ الْبِنْتُ بَعْدَهُ ثُمَّ مَاتَتْ فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ ثَمَانِيَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهَا زَوْجَةً وثلاثة بنين وبنت ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ الْمُسْتَهِلُّ عَنْ سَهْمَيْنِ مِنْهَا.
والمسألة مِنْ سِتَّةٍ لِأَنَّ فِيهَا أُمًّا وَأَخَوَيْنِ وَأُخْتًا فَعَادَتِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى بِالِاخْتِصَارِ إِلَى سِتَّةٍ؛ لِأَنَّ الباقي سِتَّةٌ ثُمَّ مَاتَتِ الْبِنْتُ الْمُسْتَهِلَّةُ عَنْ سَهْمٍ مِنْهَا وَمَسْأَلَتُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِأَنَّ فِيهَا أُمًّا وَأَخَوَيْنِ فَاضْرِبْهَا فِي السِّتَّةِ الَّتِي رَجَعَتِ المسألة إليها يكن اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَمِنْهَا تَصِحُّ الْمَسَائِلُ فَمَنْ كَانَ له شيء من اثني عشر أخذه مَضْرُوبٌ لَهُ فِي وَاحِدٍ، وَمَنْ كَانَ لَهُ شيء من ستة فهو مَضْرُوبٌ لَهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ، فَلَوْ كَانَتِ الْبِنْتُ هِيَ الْمُسْتَهِلَّةُ أَوَّلًا وَمَاتَتْ ثُمَّ اسْتَهَلَّ الِابْنُ بَعْدَهَا وَمَاتَ فَقَدْ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ سهم من ثمانية ومسئلتها مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ فِيهَا أُمًّا وَثَلَاثَةَ إخوة فاضرب الثمانية عشر في الثمانية يكن مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ مَضْرُوبٌ لَهُ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَمِنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَضْرُوبٌ لَهُ فِي وَاحِدٍ هُوَ تَرِكَةُ الْبِنْتُ الْمُسْتَهِلَّةُ.
فَعَلَى هَذَا كَانَ لِلِابْنِ الْمُسْتَهِلِّ بَعْدَهَا سَهْمَانِ مِنْ ثمانية في ثمانية عشر يكن سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، وَلَهُ خَمْسَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِي وَاحِدٍ فَصَارَ مَالُهُ مِنْهَا أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ مِنْ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَمَسْأَلَتُهُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِأَنَّ فِيهَا أُمًّا وأخوين وهي لا توقف تَرِكَتَهُ بِشَيْءٍ فَاضْرِبِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي مِائَةٍ وأربعة وأربعين تكن ألفا وسبع مائة وثمانية وعشرين سهما ومنها(8/172)
يصح لَهُ شَيْءٌ مِنْ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَأَرْبَعِينَ مَضْرُوبٌ لَهُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ مَضْرُوبٌ لَهُ فِي أَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ، فَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ أُمًّا وَأَخًا وَأُمَّ وَلَدٍ حَامِلًا مِنْهُ فَوَلَدَتِ ابْنًا وَبِنْتًا تَوْأَمَيْنِ فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا وَوُجِدَا مَيِّتَيْنِ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمَا كَانَ الْمُسْتَهِلُّ فَالْعَمَلُ فِي مَسَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ عَمَلِ الْمُنَاسَخَاتِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ الْمُسْتَهِلَّ قَدْ صَارَ مَوْرُوثًا وَبَيْنَ عَمَلِ مَسَائِلِ المعقود لِاسْتِخْرَاجِ أَقَلِّ الْأَنْصِبَاءِ فَنَقُولُ إِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الْمُسْتَهِلُّ فَلِلِأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَمَسْأَلَتُهُ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِأَنَّ فِيهَا أُمًّا وَعَمًّا فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلْأُمِّ مِنْهَا سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنْ ثَلَاثَةً ولأم الولد سهم من ثلاثة في خمس تكن خمسة وللعم سهمين مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي خَمْسَةٍ تَكُنْ عَشَرَةً.
وَإِنْ كَانَتِ الْبِنْتُ هِيَ الْمُسْتَهِلَّةُ فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْأَخِ هِيَ مِنْ سِتَّةٍ، ثُمَّ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَمَسْأَلَتُهَا مِنْ ثلاثة لأن فيها أما وعما فينقسم سهامها عليهما الستة تَدْخُلُ فِي الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَهِيَ تُوَافِقُهَا بِالْأَسْدَاسِ، مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ مَضْرُوبٌ لَهُ فِي سُدُسِ الْأُخْرَى فَلِلْأُمِّ السُّدُسُ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَهُوَ لَهَا؛ لِأَنَّ لَهَا مِنَ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةً مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَضْرُوبٌ فِي سُدُسِ السِّتَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ تَكُنْ ثَلَاثَةً وَلَهَا مِنَ السِّتَّةِ وَاحِدٌ مَضْرُوبٌ فِي سُدُسِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ تَكُنْ ثَلَاثَةً فَاسْتَوَى سَهْمُهَا فِي المسألتين فأخذته ولأم الولد الْأُولَى خَمْسَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَضْرُوبَةٌ فِي سُدُسِ السِّتَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ يَكُنْ خَمْسَةً وَلَهَا من الستة سَهْمٌ مِنْ سِتَّةٍ مَضْرُوبٌ فِي سُدُسِ الثَّمَانِيَةَ عشر وهو ثلاثة يكن ثلاثة فتعطى ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ، وَلِلْأَخِ مِنَ الْأُولَى عَشَرَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي وَاحِدٍ تَكُنْ عَشَرَةً وَلَهُ مِنَ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ مَضْرُوبَةٌ فِي ثلاثة تكن اثني عشر فيعطى عشر أسهم؛ لأنه أقل النصيبين، ويوقف سهمان من الْعَمِّ وَأُمِّ الْوَلَدِ حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ لِلْأُمِّ ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(8/173)
باب ذوي الأرحام
قال المزني رحمه الله تعالى: " احتجاج الشافعي فيمن يؤول الآية في ذوي الأرحام قال لهم الشافعي لو كان تأويلها كما زعمتم كُنْتُمْ قَدْ خَالَفْتُمُوهَا قَالُوا فَمَا مَعْنَاهَا؟ قُلْنَا تَوَارَثَ النَّاسُ بِالْحِلْفِ وَالنُّصْرَةِ ثُمَّ تَوَارَثُوا بِالْإِسْلَامِ والهجرة ثم نسخ الله تبارك وتعالى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] عَلَى مَا فَرَضَ الله لَا مُطْلَقًا أَلَا تَرَى أن الزَّوْجَ يَأْخُذُ أكثر مما يأخذ ذوو الأرحام ولا رحم له؟ أو لا ترى أنكم تعطون ابن العم المال كله دون الخال وأعطيتم مواليه جميع المال دون الأخوال فتركتم الأرحام وأعطيتم من لا رحم لَهُ؟ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ مَعَ وُجُودِ بَيْتِ الْمَالِ وَأَنَّ لَهُمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ عَدَمِهِ لِعُدُولِ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ حَقِّهِ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً وَإِنْ بَعُدَتْ وَلَا ذُو فَرْضٍ بِرَحِمٍ وَلَا مَوْلًى معتق فيصير حينئذ ذوو الْأَرْحَامِ مَعَ وُجُودِ بَيْتِ الْمَالِ وَأَنَّ لَهُمُ الميراث مع عدمه وورثته وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَدَدْنَا قَوْلَهُ وَأَوْضَحْنَا فَسَادَهُ وَإِذَا صَحَّ تَوْرِيثُهُمْ فَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَتَفَرَّعُونَ.
وَهُمُ الْجَدُّ أَبُو الْأُمِّ وَأُمُّ أَبِي الْأُمِّ وَالْخَالُ وَأَوْلَادُهُ وَالْخَالَةُ وَأَوْلَادُهَا وَالْعَمَّةُ وَأَوْلَادُهَا وَوَلَدُ الْبَنَاتِ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَوَلَدُ الْأَخَوَاتِ وَوَلَدُ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمُّ للأم وأولادهم فاختلف مُوَرِّثُوهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ فَذَهَبَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى تَوْرِيثِهِمْ بِالْقَرَابَةِ عَلَى ترتيب العصبات فأولاهم من كان ولد مِنْ وَلَدِ الْمَيِّتِ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا ثُمَّ وَلَدُ أَبَوَيِ الْأَبَوَيْنِ يَجْعَلُونَ وَلَدَ كُلِّ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَقْرَبَ أَوْلَى مِنْ وَلَدِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَبْعَدَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ فِي الْخَالَاتِ المفترقات والعمات المفترقات إذا أَحَقَّهُنَّ مَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَنْ كَانَ لِأَبٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَنْ كَانَ لِأُمٍّ وَذَهَبَ جُمْهُورُ مُوَرِّثِيهِمْ إِلَى التنزيل فيقولون كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَدْلَى بِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ مِنْ عَصَبَةٍ أَوْ ذِي فَرْضٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مسعود رضي الله عنهم وعلقمة وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَشَرِيكٍ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ واللؤلؤي وَأَبِي عُبَيْدٍ وَعَنْ أبي يوسف نَحْوُهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَيَجْعَلُونَ وَلَدَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ بِمَنْزِلَةِ أُمَّهَاتِهِمْ وَبَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ بِمَنْزِلَةِ آبَائِهِمْ وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ وَآبَاءَ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَخَالَ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ وَخَالَ الْأَبِ بِمَنْزِلَةٍ أُمِّ الْأَبِ وَالْعَمَّ للأم بمنزلة الأب.(8/174)
فأما العمات فاختلف المنزلون فيهن فنزلهم عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الأب وهي إحدى الروايتين عن علي عليه السلام وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالرِّوَايَةُ المشهورة عن علي عليه السلام أَنَّهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْعَمِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَيَحْيَى بن آدم وضرار بن صرد وكأنهم ذَكَّرُوهُنَّ وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ أَنَّهُمْ نَزَّلُوا الْعَمَّةَ مَنْزِلَةَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ وَوَلَدَ الْأَخَوَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْجَدِّ وَنُزُولُهَا مَعَ غَيْرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَاخْتَلَفَ الْمُنَزِّلُونَ فِي تَوْرِيثِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ فَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ الجمهور أن أقربهم أولى بِوَارِثٍ أَوْلَاهُمْ بِالْمِيرَاثِ فَإِنِ اسْتَوَوْا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَصِيبَ مَنْ أَدْلَى بِهِ وَذَهَبَ قوم إلى أن كل ذي رحم بنزلة سَبَبِهِ، وَإِنْ بَعُدَ فَوَرَّثُوا الْبَعِيدَ مَعَ الْقَرِيبِ إذا كانا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بن صالح وأبي عبيد ومحمد بن مسلم، وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ فَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَرَّثُوا الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّنْزِيلِ فِي تَنْزِيلِ وَارِثِ الْأُمِّ مِثْلَ ابْنِ أَخِيهَا وعمها وابن عمها وابن أَبِيهَا وَأُمِّ جَدِّهَا هَلْ يُنَزِّلُونَ فِي أَوَّلِ دَرَجَةٍ بِمَنْزِلَتِهَا وَإِنْ بَعُدُوا مِنْهَا أَوْ يُنَزِّلُونَ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ يُنَزِّلُونَ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الأم ثم أجعلها لِوَرَثَتِهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إِلَّا وَلَدَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ مِنَ الْأُمِّ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ مِنَ الأم فإنه يستوي فيه ذكورهم وإناثهم، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَبِالْجُمْهُورِ مِنْ قَوْلِ الْمُنَزِّلِينَ يفتي وعليه يعمل؛ لِأَنَّهُ أَجْرَى عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِ أَهْل القرابة فلذلك ذهبنا إليه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَصْلٌ: فِي وَلَدِ الْبَنَاتِ
إِذَا تَرَكَ بِنْتَ بِنْتٍ وَثَلَاثَةَ بَنَاتِ بِنْتٍ ثَانِيَةٍ وَأَرْبَعَ بَنَاتِ بِنْتٍ ثَالِثَةٍ فَالْمَالُ فِي الأصل مقسوم بينهم عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ بِعَدَدٍ مَنْ أَدْلَيْنَ بِهِ مِنَ الْأُمَّهَاتِ ثُمَّ يَجْعَلُ كُلَّ سَهْمٍ لِوَلَدِهَا وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا الثُّلُثُ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا لِبِنْتِ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ وَاثْنَا عَشَرَ سَهْمًا لِثَلَاثِ بَنَاتٍ الْبِنْتُ الثَّانِيَةُ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَاثْنَا عَشَرَ سَهْمًا لِأَرْبَعِ بَنَاتٍ الْبِنْتُ الثَّالِثَةُ أَرْبَاعًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: يقسم بينهن على عدد رؤسهم أثمانا لكل واحدة سهم، كما يقسم بَيْنَ الْعَصَبَاتِ عَلَى أَعْدَادِهِمْ وَلَا يُعْتَبَرُ أَعْدَادُ آبَائِهِمْ كَمَا لَوْ تَرَكَ ابْنَ ابْنٍ وَخَمْسَةَ بَنِي ابْنٍ آخَرَ قَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا على أعدادهم ولم يقسم نصفين على أعداد آبَائِهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْعَصَبَاتِ يَرِثُونَ بِأَنْفُسِهِمْ فَلِذَلِكَ قَسَّمَ عَلَى عَدَدِهِمْ، وَذَوُو الْأَرْحَامِ يُدْلُونَ بِغَيْرِهِمْ فَقَسَّمَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ مَنْ أَدْلَوْا بِهِ، فَلَوْ تَرَكَ ابْنَ بِنْتٍ مَعَ أُخْتِهِ وَبِنْتَ بِنْتٍ أُخْرَى كَانَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِابْنِ الْبِنْتِ مَعَ أُخْتِهِ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مثل حظ الأنثيين، وتصح من ستة على قَوْلِ أَبِي عَبِيدٍ وَإِسْحَاقَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة الْمَالُ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ بِنْتٍ وَبِنْتَ بِنْتِ ابْنٍ كَانَ لِبِنْتِ الْبِنْتِ النِّصْفُ سَهْمُ أُمِّهَا وَلِبِنْتِ الابن السدس سهم أبيها(8/175)
والباقي رد عليها فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة: الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْبِنْتِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ فَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنِ بِنْتٍ وَبِنْتَ بِنْتِ ابْنٍ فَالْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ.
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ فَلِأَنَّهَا بَعْدَ دَرَجَةِ بِنْتِ ابْنِ وَارِثَةٍ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أبي حنيفة فَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْبُعْدِ وَهَذِهِ تُدْلِي بِوَارِثٍ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ مَعَ اسْتِوَاءِ الدُّرَجِ يُقَدَّمُ مَنْ أَدْلَى بِوَارِثٍ، فَلَوْ تَرَكَ ابْنَ ابْنِ بِنْتِ بِنْتٍ وَابْنَ ابْنِ بِنْتِ ابْنٍ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ ابْنِ بِنْتِ الِابْنِ فِي قَوْلِ الجميع؛ لأنه مع استواء الدرج أقرب إدلاء بوارث.
فصل: في ولد الأخوات
وَإِذَا تَرَكَ بِنْتَ أُخْتٍ وَابْنَيْ أُخْتٍ أُخْرَى كَانَ النِّصْفُ لِبِنْتِ الْأُخْتِ وَالنِّصْفُ لِابْنَيِ الْأُخْتِ الْأُخْرَى، وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنَ أُخْتٍ لِأَبٍ كَانَ لِابْنِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِابْنِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ والباقي رد عليهم وَتَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَهُوَ قَوْلُ محمد بن الحسن وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة.
وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ كُلُّهُ لِابْنِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة.
فلو ترك بنت أخت لأب مع أخيها وابن أخت لأم مع أُخْتِهِ كَانَ لِوَلَدِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ ثَلَاثَةُ أرباع بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلِوَلَدِ الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ الرُّبُعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَتَصِحُّ مِنْ ثمانية.
فلو ترك ثلاثة بنين وثلاثة بنات أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ فِي الْأَصْلِ على خمسة أسهم سهم لابن وبنت الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَسَهْمٌ لِابْنِ وَبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين وثلاثة أسهم للابن وَبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثِينَ سَهْمًا.
فصل: في بنات الإخوة
وَإِذَا تَرَكَ بِنْتَيْ أَخٍ وَخَمْسَ بَنَاتِ أَخٍ آخَرَ كَانَ النِّصْفُ بَيْنَ بِنْتَيِ الْأَخِ نِصْفَيْنِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ خَمْسِ بَنَاتِ الْأَخِ الْآخَرِ عَلَى خَمْسَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ عِشْرِينَ سَهْمًا وَعَلَى قول أبي حنيفة المال بينهم عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ عَلَى أَعْدَادِهِنَّ فَلَوْ تَرَكَ ثلاث بنات إخوة متفرقين كَانَ لِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ الأخ للأب لأن أباها مع أخويها غَيْرُ وَارِثٍ وَهُوَ قَوْلُ محمد وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْأَخِيرِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أبي حنيفة الْمَالُ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ.
وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أَخٍ لِأُمٍّ مَعَ أُخْتِهِ وَبِنْتَ أَخٍ لِأَبٍ كان السدس بين ابن الأخ وَبِنْتِ الْأَخِ مِنَ(8/176)
الْأُمِّ نِصْفَيْنِ وَلِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ الْبَاقِي، وعلى قول محمد بن الحسن لابن الأخ وَبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ كَأَنَّهُمَا أَخٌ وَأُخْتٌ مِنْ أُمٍّ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأخ مِنَ الْأَبِ.
وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ.
وَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ أَخٍ لأم وابن أخت لِأُمٍّ وَبِنْتَ أَخٍ لِأَبٍ كَانَ لِبِنْتِ الأخ للأم السدس ولابن الْأُخْتِ لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ.
وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن لِوَلَدِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى عَدَدِهِمْ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ: في ولد الأخوات مع بنات الإخوة
وَإِذَا تَرَكَ بِنْتَيْ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَابْنِ أخت لأب وأم كان المال بينهما عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِابْنِ الْأخت لِلْأَبِ وَالْأُمِّ سَهْمٌ نَصِيبُ أَبِيهِ وَلِابْنَتَيِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ سَهْمَانِ نَصِيبُ أَبِيهِمَا، وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن هِيَ مِنْ خَمْسَةٍ لِبِنْتِي الْأَخِ أَرْبَعَةٌ كَأَنَّهُمَا أَخَوَانِ، وَلِابْنِ الْأُخْتِ سَهْمٌ كَأَنَّهُ أُخْتٌ.
وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف لِابْنِ الْأُخْتِ سَهْمَانِ وَلِبِنْتَيِ الْأَخِ سَهْمَانِ يُقَسَّمُ عَلَى رؤوسهِمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
فَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبِنْتَ أَخٍ لِأَبٍ كَانَ لِابْنَيِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن لِابْنَيِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ لِلْأَبِ وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف الْمَالُ لِابْنَيِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ.
وَلَوْ تَرَكَ ابْنَ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَهُ أُخْتُهُ وَبِنْتَيْ أَخٍ لِأَبٍ وَبِنْتَ أُخْتٍ لِأَبٍ كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِابْنِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلِبِنْتَيِ الْأَخِ لِلْأَبِ ثُلُثَا مَا بَقِيَ، وَهُوَ سَهْمَانِ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ ثُلُثُ الْبَاقِي وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى قَوْلِ محمد بن الحسن لِوَلَدِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ الثُّلُثَانِ، وَلِابْنَتَيِ الْأَخِ لِلْأَبِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْبَاقِي، وَالْخُمُسُ الْبَاقِي لِبِنْتِ الْأُخْتِ.
وَلَوْ تَرَكَ بِنْتَ ابْنِ أُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبِنْتَ ابْنِ أَخٍ لِأَبٍ كَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ لِلْأَبِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ.
وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَبِنْتَ ابْنِ أَخٍ لِأَبٍ كَانَ لِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ النِّصْفُ وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ ابْنِ الْأَخِ وَفِي قَوْلِ محمد بن الحسن الْمَالُ بَيْنَ بَنَاتِ الْأَخَوَاتِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَعَلَى قَوْلِ أبي يوسف هُوَ لِبِنْتِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ.
فَصْلٌ: فِي العمات والخالات
خَالَةٌ مِنْ أُمٍّ وَعَمَّةٌ مِنْ أَبٍ وَأُمٌّ لِلْخَالَةِ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْعَمَّةِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وكذلك إن(8/177)
كانت الخالة من أب عَمَّة لِأُمٍّ وَبِنْتُ خَالَةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ الْمَالُ لِلْعَمَّةِ لِلْأُمِّ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ خَالَةٍ لِأُمٍّ وَبِنْتُ عَمَّةٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ الْمَالُ لِلْخَالَةِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ.
ثَلَاثُ خَالَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَثَلَاثُ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ الثُّلُثُ بَيْنِ الْخَالَاتِ عَلَى خَمْسَةٍ وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْعَمَّاتِ عَلَى خَمْسَةٍ، لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ مُفْتَرِقَاتٌ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الثُّلُثُ لِلْخَالَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ لِلْعَمَّةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ. عَمَّةٌ لِأَبٍ وَخَالَتَانِ لِأَبٍ وأم وخال وخالة لأب للعمة الثلث وللخالتين للأب والأم ثلث الثلث وباقي الثلث للخال، والخال مِنَ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَتَصِحُّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ عَمَّتَانِ مِنْ أَبٍ وَعَمٍّ وَعَمَّةٍ مِنْ أُمٍّ وَخَالَةٍ مِنْ أُمٍّ وَخَالَةٍ مِنْ أَبٍ تصح من ستة وثلاثين سهما لِلْخَالَةِ مِنَ الْأُمِّ رُبُعُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْخَالَةِ مِنَ الْأَبِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ وباقي الثلث للخال وَلِلْعَمَّتَيْنِ مِنَ الْأَبِ ثُلُثَا الثُّلُثَيْنِ سِتَّةَ عَشَرَ أسهم وَلِلْعَمِّ وَالْعَمَّةِ مِنَ الْأُمِّ ثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ.
خَالٌ وَخَالَةٌ مِنْ أَبٍ وَخَالٌ وَخَالَةٌ مِنْ أُمٍّ وَعَمَّةٍ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ وَعَمَّةٍ مِنْ أَبٍ تَصِحُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ سَهْمًا للخال والخالة من الأم ثلث الثلث اثْنَا عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلِلْعَمَّةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثَيْنِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ سَهْمًا، وَلِلْعَمَّةِ مِنَ الْأَبِ رُبُعُ الثُّلُثَيْنِ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ.
خَالٌ وَخَالَةٌ مِنْ أُمٍّ وَبِنْتُ عَمٍّ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِلْخَالِ وَالْخَالَةِ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْعَمِّ وَفِي قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْخَالِ وَالْخَالَةِ مِنَ الْأُمِّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّهُمَا أبعد وَأَقْرَبُ وَيُورِثُونَ كُلَّ ذَكَرٍ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إلا ولد الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأُمِّ.
فَصْلٌ: فِي وَلَدِ الأخوال والخالات
ثَلَاثُ بَنَاتِ ثَلَاثِ خَالَاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ وَثَلَاثُ بَنَاتِ ثَلَاثِ عَمَّاتٍ مُفْتَرِقَاتٍ الثُّلُثُ بَيْنَ ثَلَاثِ بَنَاتِ الْخَالَاتِ عَلَى خَمْسَةٍ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ بَنَاتِ الْعَمَّاتِ الْمُفْتَرِقَاتِ عَلَى خَمْسَةٍ كَأُمَّهَاتِهِنَّ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الثُّلُثُ لِبِنْتِ الْخَالَةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ لِبِنْتِ الْعَمَّةِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ.
ثَلَاثُ بَنَاتِ ثَلَاثَةِ أَخْوَالٍ مُفْتَرِقِينَ وَبِنْتُ عَمَّةٍ مِنْ أَبٍ وَبِنْتُ عمة من أم سدس الثلث لبنات الْخَالِ مِنَ الْأُمِّ وَبَاقِيهِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ لِبِنْتِ الْخَالِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَسْقُطُ مَعَهَا بِنْتُ الخال من الأب لسقوط أبيها مع أبويها وَيَكُونُ الثُّلُثَانِ بَيْنَ بِنْتَيِ الْعَمَّتَيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ ثَلَاثَة مِنْهَا لِبِنْتِ الْعَمَّةِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَسَهْمٍ لِبِنْتِ الْعَمَّةِ مِنَ الْأُمِّ وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ.
ابْنٌ وَبِنْتُ خَالٍ مِنْ أُمٍّ وَخَمْسُ بَنَاتِ خَالَةٍ مِنْ أُمٍّ وَبِنْتُ عَمٍّ وَابْنَا عَمَّةٍ مِنْ أُمٍّ نِصْفُ الثُّلُثِ بَيْنِ الابن وابنة الْخَالِ مِنَ الْأُمِّ نِصْفَيْنِ وَنِصْفُهُ الْآخَرُ بَيْنَ بَنَاتِ الْخَالَةِ مِنَ الْأُمِّ عَلَى أَعْدَادِهِنَّ أَخْمَاسًا ولبنت العم من الأم نصف الثلثين ونصف الْآخَرُ بَيْنَ ابْنَيِ الْعَمَّةِ مِنَ الْأُمِّ فَيَأْخُذُ كُلُّ فَرِيقٍ نَصِيبَ منْ يُدْلِي بِهِ وَتَصِحُّ مِنْ سِتِّينَ سَهْمًا ابْنُ خَالٍ مِنْ أُمٍّ وَبِنْتُ خَالَةٍ مِنْ أَبٍ وَبِنْتُ عَمَّةٍ لِأَبٍ وأم وابن عم لأب فَلِابْنِ الْخَالِ مِنَ الْأُمِّ رُبُعُ الثُّلُثِ وَلِبِنْتِ الْخَالَةِ مِنَ الْأَبِ(8/178)
ثلاثة أرباع الثلث ولابن العم من الأب ربع الثلثين ولبنت العمة من الأب ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثُّلُثَيْنِ وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا.
فَصْلٌ: فِي خَالَاتِ الْأُمِّ وَعَمَّاتِهَا
وَخَالَاتِ الأب وعماته
خَالَةُ أُمٍّ وَخَالَةُ أَبٍ فَخَالَةُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ وَخَالَةُ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأَبِ فَصَارَتَا جَدَّتَيْنِ فَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَعَلَى قَوْل أَهْل الْقَرَابَةِ لِخَالَةِ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِخَالَةِ الأب الثلثان.
وعمة أُمٍّ وَعَمَّةُ أَبٍ فَعَمَّةُ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ أَبِي الْأَبِ وَهُوَ وَارِثٌ وَعَمَّةُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ أَبِي الْأُمِّ وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ فَكَانَ الْمَالُ كُلُّهُ لِعَمَّةِ الْأَبِ.
وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ لِعَمَّةِ الأم الثلث ولعمة الأب الثلثان.
وخالة أُمٍّ وَعَمَّةُ أَبٍ لِخَالَةِ الْأُمِّ السُّدُسُ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةٍ أُمِّ الْأُمِّ وَالْبَاقِي لِعَمَّةِ الْأَبِ لِأَنَّهَا بمنزلة أب الْأَبِ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ.
خَالَةُ أُمٍّ وَعَمَّةُ أُمٍّ وَخَالَةُ أَبٍ وَعَمَّةُ أَبٍ لِخَالَةِ الْأُمِّ وَخَالَةُ الْأَبِ السُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ جَدَّتَيْنِ، وَالْبَاقِي لِعَمَّةِ الْأَبِ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَب الْأَبِ وَلَا شَيْءَ لِعَمَّةِ الْأُمِّ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَبِ الْأُمِّ.
ثَلَاثُ خَالَاتٍ وَثَلَاثُ عَمَّاتِ أَبٍ كُلِّهِنَّ مُفْتَرِقَاتٍ وَثَلَاثُ عَمَّاتٍ وثلاثة أعمام وثلاث خالات أم كلهن مفترقين فَنِصْفُ السُّدُسِ بَيْنَ خَالَاتِ الْأُمِّ عَلَى خَمْسَةٍ وَنِصْفُ السُّدُسِ بَيْنَ خَالَاتِ الْأَبِ عَلَى خَمْسَةٍ؛ لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْزِلَةِ جَدَّتَيْنِ وَالْبَاقِيَ بَعْدَ السُّدُسِ بين عمات الأب على ثمانية لأنهن بمنزلة أب الأب وتسقط أَعْمَامُ الْأُمِّ وَعَمَّاتُهَا لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَبِي الْأُمِّ.
ابن عم معه أخته وبنت خال وبنت خال أم مع أخيها وَابْنُ خَالِ أَبٍ مَعَهُ أُخْتُهُ فَالنِّصْفُ بَيْنَ بنت خال الأم وأختها أَثْلَاثًا لِأَنَّهُمَا بَعْدَ دَرَجَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأُمِّ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ ابْنِ خَالِ الْأَبِ وَأُخْتِهِ أَثْلَاثًا لِأَنَّهُمَا بَعْدَ دَرَجَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْأَبِ وَلَا شَيْءَ لِابْنِ عَمِّ الْأُمِّ وَأُخْتِهِ لِأَنَّهُمَا بَعْدَ دَرَجَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ أَبِي الْأُمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
فصل: في الأجداد والجدات الذين يرثون برحم
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " إذا ورث الجد مع الإخوة للأب والأم أو للأب قاسمهم ما كانت المقاسمة خيرا له من الثلث فإذا كان الثلث خيرا له منها أعطيه وهذا قول زيد وعنه قبلنا أكثر الفرائض وقد روي هذا القول عن عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا فيه مثل قول زيد بن ثابت وهو قول الأكثر من فقهاء البلدان فإن قال قائل: فإنا نزعم أن الجد أب لخصال، منها أن الله تبارك وتعالى قال: {ملة أبيكم إبراهيم} فأسمى الجد في النسب أبا ولم ينقصه المسلمون من السدس وهذا حكمهم للأب وحجبوا بالجد بني الأم وهكذا حكمهم في(8/179)
الأب فكيف جاز أن تفرقوا بين أحكامه وأحكام الأب فيما سواها؟ قلنا إنهم لم يجمعوا بين أحكامهما فيها قياسا منهم للجد على الأب لأنه لو كان إنما يرث باسم الأبوة لورث ودونه أب أو كان قاتلا أو مملوكا أو كافرا فالأبوة تلزمه وهو غير وارث وإنما ورثناه بالخبر في بعض المواضع دون بعض لا باسم الأبوة ونحن لا ننقص الجدة من السدس أفترى ذلك قياسا على الأب يحجبون بها الإخوة للأم وقد حجبتم الإخوة من الأم بابنة ابن متسفله أفتحكمون لها بحكم الأب؟ وهذا يبين أن الفرائض تجتمع في بعض الأمور دون بعض؟ وقلنا أليس إنما يدلي الجد بقرابة أب الميت بأن يقول الجد أنا أبو أب الميت والأخ أنا ابن أبي الميت فكلاهما يدلي بقرابة أبي الميت؟ قلنا أفرأيتم لو كان أبوه الميت في تلك الساعة أيهما كان أولى بميراثه؟ قالوا يكون لأخيه خمسة أسداس ولجده سدس قلنا فإذا كان الأخ أولى بكثرة الميراث ممن يدليان بقرابته فكيف جاز أن يحجب الذي هو أولى بالأب الذي يدليان بقرابته بالذي هو أبعد؟ ولولا الخبر كان القياس أن يعطى الأخ خمسة أسهم والجد سهما كما ورثناهما حين مات ابن الجد وأبو الأخ ".
قال الماوردي: أَبُو أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ لِأَبِي أُمِّ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ يُدْلِي بِوَارِثٍ وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْقَرَابَةِ: لِأَبِي أَبِي الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِأَبِي أُمِّ الْأَبِ الثُّلُثَانِ.
أَبُو أُمِّ أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّ أُمٍّ وَأُمِّ أَبٍ.
[جَدُّ أُمِّ أُمٍّ، وَجَدُّ أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ بَيْنَ أَبِي أُمِّ أُمِّ الْأُمِّ، وَأَبِي أُمِّ أُمِّ الْأَبِ نِصْفَيْنِ.
أَبُو أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ لِأَبِي أُمِّ الْأَبِ.
أَبُو أَبِي أُمُّ أُمٍّ، وَأَبُو أَبِي أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أَبِي أُمِّ أَبٍ] نِصْفُ الْمَالِ بَيْنَ أَبَوَيْ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَالنِّصْفُ بَيْنِ أَبَوَيْ أَبِي أُمِّ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّكَ إِذَا نزلت أبوي أبي أم الأم صار في أول درجته بِمَنْزِلَةِ أَبِي أُمِّ أُمٍّ هِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ أُمٍّ وَهِيَ وَارِثَةٌ، وَإِذَا نَزَّلَتْ أَبَوَيْ أَبِي أم الأب صار في أول درجته بِمَنْزِلَةِ أَبِي أُمِّ أَبٍ ثُمَّ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ أَبٍ وَهِيَ وَارِثَةٌ، فَهَاتَانِ جَدَّتَانِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نصفان نَصِفٌ لِأُمِّ الْأُمِّ يَرِثُهُ عَنْهَا أَبُوهَا ثُمَّ يرث عن ابنها أَبَوَاهُ، وَكَذَلِكَ النِّصْفُ الَّذِي لِأُمِّ الْأَبِ يَرِثُهُ عنها أبوها ثم يرث عن أبيها أبواه، وَأَمَّا أَبُو أَبِي أَبِي الْأُمِّ فَبَعْدَ دَرَجَتَيْنِ يَصِيرُ أَبَا أُمٍّ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِثْهَا، فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ الْمُنَزِّلِينَ، والصحيح من مذاهبهم.
أم أَبِي أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أُمِّ أَبِي أُمٍّ، وَأَبُو أَبِي أُمِّ أَبٍ، وَأَبُو أَبِي أُمٍّ أم، النِّصْفُ بَيْنَ أَبَوَيْ أَبِي أُمِّ الْأُمِّ على ثلاثة، والنصف بين أبوي أبي أَبِي أُمِّ الْأَبِ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ أَبَوَيْ أبي أم(8/180)
الأم في أول درجته بِمَنْزِلَةِ أَبِي أُمِّ أُمٍّ ثُمَّ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ أُمٍّ وَهِيَ وَارِثَةٌ وَأَبُو أَبِي أُمِّ الْأَبِ في أول درجة بمنزلة أم أب وهي وارثة. فصار معك بعد درجتين جدتان: أُمُّ أُمٍّ، وَأُمُّ أَبٍ وَأَمَّا أَبُو أَبِي أَبِي أُمٍّ فَبَعْدَ دَرَجَتَيْنِ أَبُو أُمٍّ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ، وَأَمَّا أَبُو أُمِّ أَبِي أُمٍّ فَبَعْدَ دَرَجَتَيْنِ أَيْضًا أَبُو أُمٍّ وَلَيْسَ بِوَارِثٍ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَمَاتَ السَّبَبَ فَجَعَلَ كُلَّ نِصْفٍ عَلَى سِتَّةٍ السُّدُسُ وَمَا بَقِيَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَصْلٌ: فِي توريث الزوج والزوجين مَعَ ذَوِي الْأَرْحَامِ
اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِتَوْرِيثِ ذوي الأرحام فيهم إذا دخل مَعَهُمْ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ هَلْ يُعْتَبَرُ إِدْخَالُهُمَا مَعَ مَنْ يُدْلِي بِذَوِي الْفُرُوضِ مِنْهُمْ وَالْعَصَبَاتِ أَمْ لَا؟ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ كَتَرِكَةٍ تَسْتَأْنِفُ قِسْمَتَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ ما يدلون من ذي فَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ محمد بن الحسن، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبو عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ: أَنَّ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ يُعْطَيَانِ فَرْضَهُمَا وَيَخْرُجَانِ وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى قَدْرِ فُرُوضِهِمْ كَأَنْ لَا زَوْجَ مَعَهُمْ وَلَا زَوْجَةَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَضِرَارِ بْنِ صُرَدٍ وَمَنْ تَابَعَهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ يَدْخُلَانِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ عَلَى قَدْرِ سِهَامِ مَنْ يُدْلُونَ بِهِ مَعَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ.
مِثَالُهُ: زَوْجٌ، وَبِنْتُ بِنْتٍ، وَخَالَةٌ، وبنت أخت، فعلى قول من قاله بِالْإِخْرَاجِ، يَأْخُذُ الزَّوْجُ النِّصْفَ، وَيُقْسِمُ الْبَاقِي عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ: لِبِنْتِ الْبِنْتِ النِّصْفُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْخَالَةِ السُّدُسُ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَالْبَاقِي وَهُوَ سَهْمَانِ لِبِنْتِ الْأُخْتِ، وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ أَنَّهم بَعْدَ التَّنْزِيلِ يَصِيرُونَ زَوْجًا، وَأُمًّا، وَبِنْتًا وَأُخْتًا فَتَكُونُ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمَانِ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ وَهُوَ سَهْمٌ ثُمَّ اجْمَعْ سِهَامَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ وَهِيَ تِسْعَةٌ وَأَعْطِ الزَّوْجَ النِّصْفَ سَهْمًا مِنِ اثْنَيْنِ ثُمَّ اقْسِمِ الْبَاقِيَ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ لَا تَنْقَسِمُ فَاضْرِبْ تِسْعَةً فِي اثْنَيْنِ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ، وَلِبِنْتِ الْبِنْتِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ، وَلِلْخَالَةِ سَهْمَانِ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ سَهْمٌ وَالْفَرْقُ إِنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ فِيمَا يُورَثُ فِيهِ بِفَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ بِفَرْضٍ وَحْدَهُ أَوْ تَعْصِيبٍ وَحْدَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِدْخَالِ والإخراج.
زَوْجَةٌ وَبِنْتُ بِنْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ، وَبِنْتُ عَمٍّ. فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِخْرَاجِ: لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ لِبِنْتِ الْبِنْتِ نِصْفُهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِبِنْتِ بِنْتِ الِابْنِ سُدُسُهُ سَهْمٌ وَلِبِنْتِ الْعَمِّ بَاقِيهِ وَهُوَ سَهْمَانِ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْإِدْخَالِ جَعَلَهُمْ بَعْدَ التَّنْزِيلِ زَوْجَةً، وَبِنْتًا وَبِنْتَ ابْنٍ، وَعَمًّا فَتَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلزَّوْجَةِ الثمن ثلاثة، وللبنت النصف اثني عَشَرَ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْعَمِّ وَهُوَ خَمْسَةٌ فَاجْمَعْ(8/181)