اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِيمَنِ اقْتَرَضَ حَيَوَانًا هل يجب عليه رد مثله، أورد قِيمَتِهِ، أَحَدُهُمَا أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَرْجِعَ قِيمَتَهُ:
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ فَلِلدَّافِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا، وَعَلَيْهِ صَرْفُهَا فِي أَهْلِهَا وَمُسْتَحِقِّيهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ دَفْعُهَا فِي الزَّكَاةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أحدهما: يدفعها بعينها ليعينها بِالتَّعْجِيلِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ دَفْعِهَا أَوْ دَفْعِ غَيْرِهَا: لِأَنَّهَا بَعْدَ الِاسْتِرْجَاعِ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا استرجع منه مثلها وجهاً واحداً.
والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عليه الزكاة والمدفوع إليه ممن يسحق الزكاة، فللدافع أن يرجع بها على المدفوع إليه، فإذا رَجَعَ بِهَا كَانَ لَهُ تَمَلُّكُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْقِسْمِ الثَّانِي، وَخَالَفَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي يَكُونُ اسْتِرْجَاعُهُ لَهَا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ بَاقِيَةً فِي يَدِ الْوَالِي فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ مَا لَمْ يُفَرِّقْهَا الْوَالِي، فَإِنْ فَرَّقَهَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ، أَوْ حَالُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى الْوَالِي قَبْلَ الْحَوْلِ مَا لَمْ يُفَرِّقْهَا، لِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الْوَالِي تَعْجِيلَهَا فَالْوَالِي نَائِبٌ عَنْهُ، فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ فِي اسْتِنَابَتِهِ وَإِنْ تَلِفَتِ الزَّكَاةُ مِنْ يَدِ الوالي فلا ضمان على رب الْمَالِ إِلَّا بِتَفْرِيطٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ وَاسْتَنَابَهُ صار أمينه، الأمين غَيْرُ ضَامِنٍ مَا لَمْ يُفَرِّطْ، وَعَلَى رَبِّ المال إخراج الزكاة عند وُجُوبِهَا، لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَا إِلَى مَنِ اسْتَنَابَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ، فَإِنْ كَانَ الْوَالِي قَدْ تَعَدَّى فِيهَا أَوْ فَرَّطَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا فِي حَقِّ رَبِّ المال، ويضمن قيمة الحيوان وجهاً واحد، لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ غَصْبٍ فَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ سَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنْ يَتَعَجَّلَ لَهُمْ دُونَ رَبِّ الْمَالِ فَعَلَى الْأَقْسَامِ الْمَاضِيَةِ، لِأَنَّ الْأَقْسَامَ فِيهَا مُتَمَاثِلَةٌ وَإِنَّمَا الْأَجْوِبَةُ مُخْتَلِفَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِعَادَةِ الْأَقْسَامِ وَإِنْ تَكَرَّرَتْ لِيَصِحَّ تَقْسِيمُ الْمَسْأَلَةِ، وَيَبِينُ جَوَابُ كُلِّ قِسْمٍ، فَأَحَدُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: أَنْ يَكُونَ الْوَالِي قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ.(3/165)
والثالث: أن تكون قد تلفت من يَدِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلِلدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ عَلَى مَا مَضَى، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا مَعًا مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَلَا يَرْجِعُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا مَعًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزكاة فلرب المال أن يرجع بها على الْوَالِي، وَيَرْجِعَ بِهَا الْوَالِي عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ، بِخِلَافِ مَا مَضَى قَبْلُ؛ لِأَنَّ الْوَالِي هُوَ الْآخِذُ وَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ رَبِّ الْمَالِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً فَإِنْ كَانَتْ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَالْقَرْضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلزَّكَاةِ فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، وَصَرْفُهَا فِي غَيْرِهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ اسْتِرْجَاعُهَا، لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا الْوَالِي بِعَيْنِهَا وَصَرَفَهَا فِي مُسْتَحِقِّيهَا مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً اسْتَرْجَعَ مِثْلَهَا وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مَا يُصْرَفُ مَصْرَفَ الزَّكَاةِ وَهُوَ الْعَيْنُ دُونَ الْقِيمَةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ، فَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، وَلِلْوَالِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ وَهِيَ حَيَوَانٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ كَالْقَرْضِ، لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُهَا فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ لَا فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
أَحَدُهُمَا: يَسْتَرْجِعُ الْقِيمَةَ.
وَالثَّانِي: يَسْتَرْجِعُ الْمِثْلَ، وَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ فِي يَدِ الْوَالِي فَعَلَيْهِ صَرْفُهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَهَا إلا أن يتغير حاله عند الحول، لأن يد الوالي هاهنا يَدٌ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، وَهُنَاكَ يَدٌ لِرَبِّ الْمَالِ، وإن كانت الزكاة قد تلفت من يَدِ الْوَالِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُفَرِّطْ، وَهِيَ تَالِفَةٌ مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، لأنه نائب عنهم، وقد أدى ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ رَبِّ المال عند الحلول كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، وَيَرْجِعَ بِهَا الْوَالِي فِي مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً وَهِيَ حَيَوَانٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بها في حق نفسه لا في ق أهل السهمان فهذا الكلام فيه إِذَا سَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ، وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ بِأَطْفَالِ الْمَسَاكِينِ حَاجَةً إِلَى التَّعْجِيلِ وَكَانُوا أَيْتَامًا فَاسْتَسْلَفَ لَهُمْ فَتَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِسْلَافِهِ وَضَمَانِهِ على وجهين:(3/166)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَيْسَ لِلْوَالِي أَنْ يَسْتَسْلِفَ لِغَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ ضَامِنًا، لِأَنَّ لَهُمْ حقاً في خمس الخمس وسهماً فيه ليستغنون بِهِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة: ليس لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِفَ لَهُمْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ تَلِفَ، لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ أَخْذَ الزَّكَاةِ عند وجوبها فجاز تعجيلها فيهم قَبْلَ وُجُوبِهَا كَالْبَالِغِينَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلْوَالِي النظر على الْبَالِغِينَ مِنْهُمْ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ النَّظَرُ عَلَى أَيْتَامِهِمْ أَوْلَى، وَيَقُومُ نَظَرُهُ لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَقَامَ إِذْنِهِمْ فِي التَّعْجِيلِ وَمَسْأَلَتِهِمْ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَتَعَجَّلَ مِنْهُ وَسَأَلَهُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنْ يَتَعَجَّلَ لَهُمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ مَسْأَلَةُ رَبِّ الْمَالِ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدَ بِمَسْأَلَتِهِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، لَأَنَّ التَّعْجِيلَ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ تُغَلِّبَ فِيهِ مَسْأَلَتَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ مَسْأَلَةُ أَهْلِ السُّهْمَانِ، كَمَا لَوْ تَفَرَّدُوا بِالْمَسْأَلَةِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، لِأَنَّهُمَا قد يتناوبا بِالْمَسْأَلَةِ وَانْفَرَدَ أَهْلُ السُّهْمَانِ بِالِارْتِفَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يغلب فيه مسألتهم والله أعلم
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اسْتَسْلَفَ لِرَجُلَيْنِ بَعِيرًا فَأَتْلَفَاهُ وَمَاتَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمَا لِأَهْلِ السُّهْمَانِ لِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَبْلُغَا الْحَوْلَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِي صدقةٍ قَدْ حَلَّتْ فِي حَوْلٍ لَمْ يَبْلُغَاهُ وَلَوْ مَاتَا بَعْدَ الْحَوْلِ كَانَا قَدِ اسْتَوْفَيَا الصَّدَقَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: " لَوِ اسْتَسْلَفَ لِرَجُلَيْنِ بَعِيرًا " فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، بَلْ لا فرق بين أن يستسلف لرجلين أو رجل أَوْ أَكْثَرَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ شَاةً، وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ الْوَالِيَ إِذَا تَعَجَّلَ مِنْ رَجُلٍ بَعِيرًا، وَدَفَعَهُ إِلَى فَقِيرٍ، لِمَا رأى من حاجته وشدة خلته، ثُمَّ مَاتَ الْفَقِيرُ، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.(3/167)
إما أن يكون قبل موته أو بعده، أو شك هَلْ كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا تَرَاجُعَ، وَالزَّكَاةُ مجزئة، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ مُسْتَحِقِّي الزَّكَاةِ عِنْدَ وُجُوبِهَا، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَوْلِ: وَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ مَوْقُوفٌ بَيْنَ الإجزاء والاسترجاع، وذلك لا يجزي رَبَّ الْمَالِ، فَكَانَ لَهُ الِاسْتِرْجَاعُ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، بَلْ تَكُونُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ، فَجَعَلَهَا مَوْقُوفَةً بَيْنَ الْإِجْزَاءِ عَنِ الفرض أو التطوع، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ، فَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا، كَمَنْ دَفَعَهَا إِلَى رَجُلٍ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامُ فَبَانَ كَافِرًا، كَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا، لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْفَرْضِ الْمَقْصُودِ بِالدَّفْعِ لَمْ يَحْصُلْ، كَذَلِكَ فِيمَا عَجَّلَ وَإِنْ شَكَّ فِي مَوْتِهِ هَلْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِرْجَاعِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي التَّعْجِيلِ، لِأَنَّهُ متردد بين أن يموت بعد الحول فتجزي، وقبل الحول فلا تجزي، وَفَرْضُ الزَّكَاةِ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تُسْتَرْجَعُ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ فِي الِاسْتِرْجَاعِ، لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْحَوْلِ فَتُسْتَرْجَعُ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا تُسْتَرْجَعُ، وَمَا قَدْ ملك بالقبض فلا يجوز استرجاعها بالشك، فعلى هذا يجزي ذلك رب المال، لأنه الاسترجاع إذا لم يجب بالإخراج ثانية لا يَجِبْ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِرْجَاعِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِرْجَاعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا تَعَجَّلَهُ لِلْفَقِيرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا، فَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا قال الشافعي: يعود بمثله، فأطلق هذا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِمِثْلِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ مُسْتَحَقٌّ بِمَا يَنْصَرِفُ فِي الزكاة والزكاة لا تنصرف فيها إلا غير الْحَيَوَانِ دُونَ قِيمَتِهِ، فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ إِلَّا بِالْحَيَوَانِ دُونَ قِيمَتِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَعُودُ بِمِثْلِهِ حَيَوَانًا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ الرِّفْقُ وَالْمُوَاسَاةُ، فَجَرَى مَجْرَى فَرْضِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يُرْجَعُ فِيهِ بِالْمِثْلِ لَا بِالْقِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: وهو أقيس يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ، وَحَمَلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ يعود بمثله على ماله مِثْلٌ، فَإِذَا وَجَبَتِ الْقِيمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَفِي اعْتِبَارِ زَمَانِ الْقِيمَةِ وَجْهَانِ:(3/168)
أَصَحُّهُمَا: وَقْتُ الدَّفْعِ وَالتَّعْجِيلُ لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ مَلَكَ.
وَالثَّانِي: وَقْتُ التَّلَفِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا بعد الدفع لرجع بِهِ، فَإِذَا كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا تَعَجَّلَهُ الْفَقِيرُ مَوْجُودًا بَعْدَ مَوْتِهِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَائِدًا، أَوْ نَاقِصًا، أَوْ بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ، فَإِنْ كَانَ بِحَالِهِ اسْتُرْجِعَ مِنْهُ، فَإِنْ رَأَى الْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى وَارِثِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ جَازَ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فَالزِّيَادَةُ ضَرْبَانِ: مُتَمَيِّزَةٌ، وَغَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ، فإنه يرجع به وزيادته؛ لأن الزيادة تميزت بمنع الْعَيْنَ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةٌ كَاللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ، رَجَعَ بِهِ دُونَ زِيَادَتِهِ، وَتَكُونُ الزِّيَادَةُ لِوَارِثِهِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالدَّفْعِ، فَكَانَتِ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً عَنْ مِلْكِهِ، فَكَانَ أَمْلَكَ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمَبِيعِ إِذَا رُدَّ بِعَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا، فَالنُّقْصَانُ ضَرْبَانِ: مُتَمَيِّزٌ، وَغَيْرُ مُتَمَيِّزٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ كَالْمَرَضِ وَالْهُزَالِ، رَجَعَ بِهِ نَاقِصًا، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَرْشَ نُقْصَانِهِ، لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِتَعْجِيلِهِ، فَإِنْ رَأَى الْوَالِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى وَارِثِهِ لَمْ يَجُزْ لِنَقْصِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ النَّقْصِ عَلَى وَصْفِ مَالِ الدَّافِعِ، وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مُتَمَيِّزًا كَبَعِيرَيْنِ تَلِفَ أَحَدُهُمَا وَبَقِيَ الْآخَرُ، رَجَعَ بِالْبَاقِي وَبِمِثْلِ التَّالِفِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَبِقِيمَتِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَفِي اعتبار قيمة زمانه وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَيْسَرَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَإِنْ كَانَ يُسْرُهُمَا مما دفع إليهما فإنما بُورِكَ لَهُمَا فِي حَقِّهِمَا فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمَا وإن كان يسرهما من غير ما أُخِذَ مِنْهُمَا مَا دُفِعَ إِلَيْهِمَا لِأَنَّ الْحَوْلَ لَمْ يَأْتِ إِلَّا وَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الصَّدَقَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْوَالِي الصَّدَقَةَ لَأَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيَدْفَعَهَا إِلَى فَقِيرٍ أَوْ فَقِيرَيْنِ، فيستغني من تعجيلها، فَلَا يَخْلُو حَالُ اسْتِغْنَائِهِ وَيَسَارِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَا يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا تَعَجَّلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَعَجَّلَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ لَمْ يَسْتَرْجِعْ مِنْهُ لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ الْحَوْلِ فَقِيرًا، جَازَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ، فَإِذَا كَانَ غَنِيًّا بِهِ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِرْجَاعِهِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ إِذَا اسْتَرْجَعَ مِنْهُ صَارَ فَقِيرًا يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ، فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِهَا مِنْهُ وَرَدِّهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَسَارُهُ مِنْ غَيْرِ مَا تَعَجَّلَهُ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَهُ، بِخِلَافِ قَوْلِ أبي(3/169)
حنيفة؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الزَّكَاةَ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِهَا، وَيَسَارُهُ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لَهَا، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ يَسَارُهُ مِمَّا تَعَجَّلَهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، الْمَعْنَيَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا قَبْلُ، فلو تعجلها وهو فقير فاستغنى عن غَيْرِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَفِي اسْتِرْجَاعِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ حَالَ الدَّفْعِ وَحَالَ الْوُجُوبِ.
وَالثَّانِي: تُسْتَرْجَعُ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ بِاسْتِغْنَائِهِ فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهَا فِي يَدِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَلَكِنْ لَوْ تَعَجَّلَهَا وَهُوَ غَنِيٌّ وَشَرَطَ أَنَّهُ إِنِ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَهِيَ لَهُ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ فَقِيرٌ لَمْ يَجُزْ وَوَجَبَ اسْتِرْجَاعُهَا مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ الارتفاق بأخذها، والغني لا ترتفق بِهَا فَلَمْ تَقَعِ الزَّكَاةُ مَوْقِعَهَا، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ فَلَمْ يَمُتِ الْمُوصِي حَتَّى صَارَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ وَارِثٍ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، اعتباراً بحال الوجوب، فهلا قلتم لمن عَجَّلَ زَكَاتَهُ لِغَنِيٍّ ثُمَّ افْتَقَرَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ بِجَوَازِ التَّعْجِيلِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوُجُوبِ، قِيلَ هُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمَلَّكُ بِالْمَوْتِ، فَاعْتُبِرَ حَالُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالتَّعْجِيلُ يُمَلَّكُ بِالدَّفْعِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ بِالْحَوْلِ، فَاعْتُبِرَ حَالُهُ وقت الدفع والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو عجل رب المال زكاة مائتي درهم قبل الحول وهلك ماله قبل الحول فوجد عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمُعْطِي لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ لِأَنَّهُ أَعْطَى مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا لِغَيْرِ ثوابٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَجُمْلَةُ مَا يَتَعَجَّلُهُ الْفُقَرَاءُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَجَّلَهُ الْوَالِي لَهُمْ، فَقَوْلُهُ فِي التَّعْجِيلِ مَقْبُولٌ عَلَيْهِمْ سَوَاءٌ شَرَطَ التَّعْجِيلَ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْوَالِي أَمِينٌ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا عَلَيْهِمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَوَلَّى رَبُّ الْمَالِ تَعْجِيلَهُ إِلَيْهِمْ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ تَعْجِيلٌ، فَيَقُولُ هَذَا تَعْجِيلُ زَكَاتِي، فَمَتَى تَلِفَ مَالُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَجَّلَهُ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمُ الرُّجُوعَ بِهِ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ أَمْ لَا لِأَنَّ حُكْمَ التَّعْجِيلِ وَمُوجِبُهُ الرُّجُوعُ بِهِ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى اشْتِرَاطِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ تَعْجِيلٌ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ إِذَا تَلِفَ مَالُهُ، إِلَّا أَنْ يصدقه الفقير المدفوع إليه وأن ذَلِكَ تَعْجِيلٌ، فَيَسْتَحِقَّ الرُّجُوعَ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَقْبُولًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ عَطِيَّتِهِ التَّمْلِيكُ، لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ: هَذِهِ زَكَاتِي فَظَاهِرُ الزَّكَاةِ مَا وَجَبَتْ، وَإِنْ قَالَ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ فبالدفع قد ملكت، فإن أطلق فوجه إِطْلَاقُهُ إِلَى أَحَدِ هَذَيْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ(3/170)
الْقَوْلَ قَوْلُ الْفَقِيرِ إِنْ كَانَ حَيًّا أَوْ قَوْلُ وَارِثِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِهِ، أَوْ مَعَ يَمِينِهِ بِاللَّهِ تَعَالَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ الدَّفْعِ لَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلدَّعْوَى، فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا يَمِينٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى مُحْتَمَلَةٌ وَمَا فِي يَدِهِ مُدَّعًى، فَافْتَقَرَ إِلَى دَفْعِ الدَّعْوَى بِيَمِينٍ، فَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، لَا عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَشْتَرَطِ التَّعْجِيلَ، إِمَّا مَعَ يَمِينِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، أَوْ بِلَا يَمِينٍ في الْوَجْهِ الثَّانِي، فَاخْتَلَفَا فِي الشَّرْطِ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ التَّعْجِيلَ فَلِيَ الرُّجُوعُ، وَقَالَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ لَمْ تَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَكَ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ، لِأَنَّهُ عَلَى أَصْلِ مِلْكِهِ مَا لَمْ يُقِرَّ بِمَا يُزِيلُهُ عَنْهُ، والمدفوع إليه منفرد بالملك مدعي لِمَا يُزِيلُهُ عَنْهُ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْبَتِّ، وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ قَدْ ملك بالأخذ، وادعى عليه الاستحقاق، فكان ذلك على أصل تملكه مَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَتْلَفَ قَبْلَ الْحَوْلِ دِرْهَمًا، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَالَهُ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ عِنْدَ الْحَوْلِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرَطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ لِنُقْصَانِ مَالِهِ عَنِ النِّصَابِ.
وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي إِتْلَافِ دِرْهَمٍ لاسترجاع خمسة والله أعلم بالصواب.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو مات المعطي قبل الحول وفي يدي رَبِّ الْمَالِ مِائَتَا دِرْهَمٍ إِلَّا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فلا زكاة عليه وما أعطى كما تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ أَنْفَقَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا كَانَ مع رجل نصاب فعجل زَكَاتَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ وَدَفَعَهَا إِلَى فَقِيرٍ فَمَاتَ الْفَقِيرُ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَمَعَ رَبِّ الْمَالِ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْمَالِ فِيمَا عَجَّلَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا(3/171)
أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْجِيلَ، أَوْ لَا يَشْتَرِطَ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ مَعَهُ دُونَ النِّصَابِ، وَيَكُونُ مَا عَجَّلَهُ كَالَّذِي وَهَبَهُ أَوْ أَنْفَقَهُ، فإن شَرَطَ التَّعْجِيلَ رَجَعَ بِمَا عَجَّلَهُ فِي تَرِكَةِ الْفَقِيرِ، وَصَارَ مَالُهُ مَعَ مَا اسْتَرْجَعَهُ نِصَابًا كَامِلًا، فَإِنْ كَانَ مَا اسْتَرْجَعَهُ دَرَاهِمَ عَنْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَنَانِيرَ عَنْ دَنَانِيرَ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ اسْتَرْجَعَ عَيْنَ مَالِهِ أَوْ مِثْلَهُ، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ صَارَ قَرْضًا فِي ذِمَّةِ الْفَقِيرِ، وَالْقَرْضُ دَيْنٌ يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى الْمَالِ النَّاضِّ، وَيُزَكَّيَانِ، وَإِنْ كَانَ مَا اسْتَرْجَعَهُ مَاشِيَةً عَنْ مَاشِيَةٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يسترجع الذي عجله نفسه.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِثْلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوجَبُ فِيهِ الرُّجُوعُ بِمِثْلِ الْحَيَوَانِ الْمُعَجَّلِ، فَإِنِ اسْتَرْجَعَ مِثْلَهُ وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهُ بِعَيْنِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ فِيمَا يَأْتِي بعد استرجاع ما عجل، لا الْبَدَلَ الْمَأْخُوذَ عَنِ التَّعْجِيلِ، كَالْبَدَلِ الْمَأْخُوذِ عَنِ الْبَيْعِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَبَاعَ مِنْهَا شَاةً بِشَاةٍ اسْتَأْنَفَ الحول، فكذلك فيما عجل، فإن اسْتَرْجَعَ مَا عَجَّلَهُ بِعَيْنِهِ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ما عجله مضموم إلى ما بعده، وحكم الحول جاز عَلَيْهِمَا، أَلَا تَرَاهُ لَوْ عَجَّلَ شَاةً مِنْ أربعين فحال الْحَوْلُ عَلَى تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ، وَالشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ، وَكَانَتِ الشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ مَضْمُومَةً إِلَى الْمَالِ الْبَاقِي، كَذَلِكَ إِذَا وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ ضُمَّتْ إِلَى الْمَالِ الْبَاقِي.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ حِينَ تَمَّ النِّصَابُ بِمَا اسْتَرْجَعَهُ، لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ زَكَاةً لَا تُرْتَجَعُ أَوْ قَرْضًا يُرْتَجَعُ، فَلَمَّا بَطَلَ كَوْنُهُ زَكَاةً ثَبَتَ كَوْنُهُ قَرْضًا، وَمَنْ أَقْرَضَ حَيَوَانًا لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ، ولو أقرض دراهم أو دنانير لزمه زَكَاتُهَا، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ مَا ارْتَجَعَهُ دَرَاهِمَ عَنْ دَرَاهِمَ ضُمَّ وَزُكِّيَ، وَلَوْ كَانَ حَيَوَانًا عَنْ حَيَوَانٍ لَمْ يُضَمَّ وَلَمْ يزك.
والفرق بينهما: أن زكاة المواشي لَا تَجِبُ إِلَّا بِالسَّوْمِ، وَالسَّوْمُ لَا يَتَوَجَّهُ إلا بما فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ السَّوْمُ مُعْتَبَرًا فِي الدَّرَاهِمِ، فَصَحَّ إِيجَابُ زَكَاةِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي الذِّمَّةِ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْتِ آخِذِ التَّعْجِيلِ قبل الحول وَهُوَ الْفَقِيرُ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا إِذَا مَاتَ دَافِعُ التعجيل قبل الحول وَهُوَ رَبُّ الْمَالِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَلْ يَبْنِي وَرَثَتُهُ عَلَى حَوْلِهِ أَمْ يَسْتَأْنِفُونَ الْحَوْلَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَبْنُونَ عَلَى حَوْلِهِ، لِأَنَّ كل من ملك مالاً بالإرث فإنه بملكه بِحُقُوقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَلَهُ شِقْصٌ قَدِ اسْتَحَقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يَمْلِكُونَ الشِّقْصَ مَعَ حَقِّهِ مِنَ الشُّفْعَةِ، وَلَوْ مَاتَ وَلَهُ دَيْنٌ بِرَهْنٍ انْتَقَلَ الدَّيْنُ إِلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ مَعَ(3/172)
حَقِّهِ مِنَ الرَّهْنِ، فَكَذَلِكَ الْحَوْلُ مِنْ حُقُوقِ مِلْكِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ بِحَقِّهِ وَهُوَ الْحَوْلُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُمْ يستأنفون الحول ولا يبنون، لأن الحول ثبت مع بقاء المالك، ويرتفع بانتقال الْمِلْكِ، وَلَا يَبْنِي مَنِ اسْتَفَادَ مِلْكًا عَلَى حول من كان مالكاً، كمن اتهب مَالًا أَوِ ابْتَاعَهُ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا أَجَابَ عَنِ احْتِجَاجِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنْ قَالَ حُقُوقُ الْمِلْكِ ضَرْبَانِ: حَقٌّ لِلْمَالِكِ كَالشُّفْعَةِ وَالرَّهْنِ، وَحَقٌّ على الملك كالحول، فما كان حقاً للمالك انتقل للوارث مَعَ حَقِّهِ، وَمَا كَانَ حَقًّا عَلَى الْمِلْكِ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَى الْوَارِثِ دُونَ حَقِّهِ.
يُوَضِّحُ ذلك أن من مات من عَبْدٍ جُنِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَخْذِ أَرْشِهِ انْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ مَعَ اسْتِحْقَاقِ أَرْشِهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ هُوَ لَهُ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِصِفَةٍ فَقَالَ: إِنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ وُجُودِ الصِّفَةِ فَانْتَقَلَ الْعَبْدُ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ ثُمَّ وُجِدَتِ الصِّفَةُ لَمْ يُعْتَقْ، لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ الْحَوْلُ هُوَ حق على المالك فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الْوَرَثَةِ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فَلِلْوَرَثَةِ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَسِمُوا الْمَالَ قَبْلَ حَوْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ شَائِعًا بَيْنَهُمْ إِلَى انْقِضَاءِ حَوْلِهِ، فَإِنِ اقْتَسَمُوهُ قَبْلَ الْحَوْلِ نَظَرْتَ فَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ، فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ التَّعْجِيلَ كَانَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ وَالِاقْتِسَامُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ التَّعْجِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَأَكْثَرَ لَزِمَتْهُمُ الزَّكَاةُ، فَإِنْ قيل إنهم يَبْنُونَ عَلَى حَوْلِ مَيِّتِهِمْ، كَانَ مَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ مُجْزِئًا عَنْ زَكَاتِهِمْ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ يستأنفون الحول فهل يجزيهم تَعْجِيلُ مَيِّتِهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " أَنَّ ذَلِكَ يجزئهم، لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَامُوا مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ واقتضاءه قَامُوا مَقَامَهُ فِي تَعْجِيلِ زَكَاتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أِنَّهُ لا يجزئهم، لِأَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَأْنَفُوا الْحَوْلَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يُجْزِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْجِيلِ قَبْلَ الْمَوْتِ، لأنه يصير تعجيلاً قبل وجوب النِّصَابِ وَالْحَوْلِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ شَرَطَ التَّعْجِيلَ كَانَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ وَالِاقْتِسَامُ به، وإن لم يشترط التَّعْجِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ، هَذَا إِذَا اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ الْمَالَ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْتَسِمُوهُ حَتَّى حَالَ حَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَعَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، وَيَكُونُ الْإِجْزَاءُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ عَلَى مَا مَضَى، إِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ يَبْنُونَ أَجْزَأَهُمْ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمْ يَسْتَأْنِفُونَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وإنما المال(3/173)
الْمُشَاعُ بَيْنَهُمْ نِصَابٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُمْ خُلَطَاءُ فِي نِصَابٍ فَيَكُونَ الْإِجْزَاءُ فِيمَا عَجَّلَهُ الْمَيِّتُ عَلَى مَا مَضَى إِنْ بَنَوْا أَجْزَأَهُمْ، وَإِنِ اسْتَأْنَفُوا فَعَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَيْرَ مَاشِيَةٍ فَهَلْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ شَرَطَ التَّعْجِيلَ اسْتَرْجَعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يشترط التعجيل لَمْ يَسْتَرْجِعُوهُ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، وَيَكُونُ الْإِجْزَاءُ فِي التَّعْجِيلِ عَلَى مَا مَضَى إن قيل إنهم يبنون أجزأهم، فإن قيل إنهم يستأنفون فعلى وجهين.
أحدهما: يجزئهم.
والثاني: لا يجزئهم فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَلَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطِ التَّعْجِيلَ فَلَيْسَ لَهُمُ اسْتِرْجَاعُهُ. والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان رجلٌ لَهُ مالٌ لَا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ فأخرج خمسة دراهم فقال إِنْ أَفَدْتُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهَذِهِ زَكَاتُهَا لَمْ يجز عنه لِأَنَّهُ دَفَعَهَا بِلَا سَبَبِ مالٍ تَجِبُ فِي مثله الزكاة فيكون قد عجل شيئاً ليس عليه إن حال عليه فيه حول ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا مَلَكَ أَقَلَّ من نصاب فعجل زكاة نصاب، كأن مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَجَّلَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ زَكَاةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ فَأَخْرَجَ شَاةً زَكَاةَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ، ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَ التَّعْجِيلِ تَمَامَ النِّصَابِ لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ عَنْ زَكَاتِهِ، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ يُجْزِئُ إِذَا كَانَ أَحَدُ سَبَبَيْ وُجُوبِهَا مَوْجُودًا وَهُوَ النِّصَابُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يُجْزِهِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ كَفَّارَةَ يَمِينِهِ قَبْلَ حِنْثِهِ وَيَمِينِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صار أصلاً مقرراً تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ جَمِيعُ فُرُوعِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَجَّلَ زَكَاةَ أَلْفٍ عَنْهَا وَعَنْ رِبْحِهَا فَبَاعَهَا عِنْدَ الْحَوْلِ بِأَلْفٍ أَجْزَأَهُ مَا عَجَّلَهُ عَنِ الْأَلْفِ، لِأَنَّ أَحَدَ السَّبَبَيْنِ وَهُوَ النِّصَابُ مَوْجُودٌ، وَالرِّبْحُ الزَّائِدُ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ فِي حَوْلِهِ فَجَازَ مَا عَجَّلَهُ عَنِ النِّصَابِ وَعَنْ رِبْحِهِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ بَاعَ السِّلْعَةَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بِأَلْفٍ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِالرِّبْحِ الْحَوْلَ لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ عَنِ الرِّبْحِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَبَعًا وَإِنْ قال يبني على حول المائتين أجزأه التعجيل الأول عَنِ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا فَلَوْ مَلَكَ أَلْفًا فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا ثُمَّ تَلِفَتْ فَمَلَكَ بَعْدَهَا أَلْفًا لَمْ يُجْزِهِ التَّعْجِيلُ الْأَوَّلُ عَنِ الْأَلْفِ الثاني،(3/174)
لأنه تعجيل قبل الملك، ولو كَانَ مَعَهُ أَلْفٌ ثُمَّ مَلَكَ أَلْفًا، وَعَجَّلَ زَكَاةَ أَلْفٍ، ثُمَّ تَلِفَ أَحَدُ الْأَلْفَيْنِ أَجْزَأَهُ مَا عَجَّلَهُ عَنِ الْأَلِفِ الْبَاقِيَةِ، لِوُجُودِهَا قَبْلَ التعجيل.
فَصْلٌ
: وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، رَجُلٌ مَعَهُ مِائَتَا شَاةٍ، فَعَجَّلَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ عَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ شاتين منهما عن هاتين المائتين وشاتين عَنْ نِتَاجِهَا، إِنْ بَلَغَ مِائَتَيْنِ، فَحَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ نَتَجَتْ مِائَتَيْنِ، تَمَامَ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَقَدْ أَجْزَأَتْهُ الشاتان عن المائتين المأخوذة، وهل يجزيه الشَّاتَانِ الْأُخْرَيَانِ عَنِ الْمِائَتَيْنِ النِّتَاجِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ لِأَنَّ السِّخَالَ إِذَا نُتِجَتْ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ كَانَتْ كَالْمَوْجُودَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْأَرْبَعَمِائَةٍ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْحَوْلِ أَجْزَأَهُ تَعْجِيلُ أَرْبَعِ شِيَاهٍ، فَكَذَلِكَ إِذَا نُتِجَتْ في أثناء الحول.
والوجه الثاني: لا يجزئه، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ عَنْهَا سَابِقٌ لِوُجُودِهَا، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَعَجَّلَ شَاةً مِنْهَا ثُمَّ تَمَّتْ أَرْبَعِينَ بِنِتَاجِهَا لَمْ يُجْزِهِ كَذَلِكَ هذا لا يجزئه، لِأَنَّ التَّعْجِيلَ عَنْهَا سَابِقٌ لِوُجُودِهَا كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَعَجَّلَ شَاةً مِنْهَا ثم تمت أربعين بنتاجها لم يجزه هكذا فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ النِّتَاجِ وَالرِّبْحِ، حَيْثُ جَوَّزْتُمْ تَعْجِيلَ الرِّبْحِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَمَنَعْتُمْ من تعجيل النتاج قبل وجودها، وَكِلَاهُمَا تَبَعٌ لِأَصْلِهُ فِي حَوْلِهِ؟
قِيلَ: هُمَا مستويان فِي الْحَوْلِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي التَّعْجِيلِ.
وَوَجْهُ افْتِرَاقِهِمَا فِيهِ أَنَّ النِّصَابَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَوْلِ لَا فِيمَا قَبْلُ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ قِيمَةُ السِّلْعَةِ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنِ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ، لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنِ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاشِيَةُ لِأَنَّ النصاب فيها معين فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَلَا تَرَى لَوْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ نِصَابًا عِنْدَ الْحَوْلِ كَانَ النَّقْصُ الْمُتَقَدِّمُ مَانِعًا مِنْ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي التَّعْجِيلِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا شَاةً، ثُمَّ نَتَجَتْ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ وبقي النتاج، فإن قيل فيما قِيلَ بِجَوَازِ التَّعْجِيلِ عَنِ الْأَصْلِ وَالنِّتَاجِ، كَانَتِ الشاة التي عجلها عن الأمهات مجزئة عن النتاج، فإن قِيلَ بِإِبْطَالِ التَّعْجِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ لَمْ تَكُنِ الشَّاةُ الَّتِي عَجَّلَهَا عَنِ الْأُمَّهَاتِ مُجْزِيَةً عَنِ النِّتَاجِ، وَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَنَتَجَتْ أَرْبَعِينَ سَخْلًا فَعَجَّلَ مِنْهَا شَاةً ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ وَبَقِيَتِ السِّخَالُ أَجْزَأَتْهُ الشَّاةُ الْمُعَجَّلَةُ عَنِ السِّخَالِ الْبَاقِيَةِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِوُجُودِهَا قَبْلَ التَّعْجِيلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(3/175)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا عجل شاتين من مِائَتَيْ شَاةٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ زَادَتْ شَاةً ٍ أخذ منها شاةً ثالثةً فيجزي عنه ما أعطى منه ولا يَسْقُطُ تَقْدِيمُهُ الشَّاتَيْنِ الْحَقَّ عَلَيْهِ فِي الشَّاةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ الْحَقَّ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ كَمَا لَوْ أَخَذَ مِنْهَا شَاتَيْنِ فَحَالَ الْحَوْلُ وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا شَاةٌ رَدَّ عَلَيْهِ شَاةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا عَجَّلَ بزكاة مَالِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَقَدْ مَلَكَهَا الْمَسَاكِينُ بِالْأَخْذِ وَيَسْتَقِرُّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهَا بِالْوُجُوبِ، لَكِنَّهَا فِي حُكْمِ مِلْكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ حَتَّى يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ ضَمَّ مَا عَجَّلَ إِلَى مَا بِيَدِهِ وَزَكَّاهُمَا مَعًا، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عَجَّلَ مِنْهَا شَاةً ثُمَّ حَالَ الحول عليه تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ وَالشَّاةِ الْمُعَجَّلَةِ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ وَلَوْ كان معه مائتا شاة فعجل زكاتها شاتي ظَنًّا مِنْهُ بِأَنَّهُمَا قَدْرُ زَكَاتِهِ فَلَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ حَتَّى نُتِجَتْ شَاةً وَصَارَتْ مَعَ التَّعْجِيلِ مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةً كَانَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ ثَانِيَةٍ اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا ثَلَاثَ شِيَاهٍ فَلَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ حَتَّى تَلِفَ مِنْ غَنَمِهِ شَاةٌ وَبَقِيَ مَعَهُ مَعَ مَا عَجَّلَهُ مِائَتَا شَاةٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَ مِنَ التَّعْجِيلِ شَاةً، اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: مَا عَجَّلَهُ كَالتَّالِفِ لَا يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى مَا فِي يَدِهِ وَلَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً أَنْ يُعَجِّلَ مِنْهَا شَاةً، لِأَنَّ الْبَاقِيَ يَقِلُّ عَنِ النِّصَابِ، فَإِنْ عَجَّلَ مِنْهَا شَاةً كَانَتْ كالتالفة ولا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا بَقِيَ لِنَقْصِهِ عَنِ النِّصَابِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ شَاةً، جَازَ أَنْ يُعَجِّلَ مِنْهَا شَاةً، لِأَنَّ الْبَاقِيَ نِصَابٌ، وَكَذَا نَقُولُ فِي نُصُبِ الزَّكَوَاتِ كُلِّهَا، احْتِجَاجًا بِأَنَّ التَّعْجِيلَ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِهِ دَاخِلٌ فِي مِلْكِ آخِذِهِ، لِجَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ وَانْتِفَاعِهِ بِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْزَمَهُ زَكَاةُ مَالٍ هُوَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ يُضَمَّ إِلَى جُمْلَةِ مَالِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ هَلِ الْبَاقِي بَعْدَ التَّعْجِيلِ نِصَابٌ، أَوْ دُونَ النِّصَابِ فَدَلَّ عَلَى تَسَاوِي الْحُكْمِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كالأموال المتلفة فلا يلزمه زكاتها، أو الموجودة فِي مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ زَكَاتُهَا، فَلَمَّا أَجْزَأَهُ التَّعْجِيلُ عَنْ زَكَاتِهِ ثَبَتَ أَنَّهَا كَالْمَوْجُودَةِ فِي مِلْكِهِ، لأن ما أتلفه غير مجزي فِي الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تُعَجَّلُ لِلْمَسَاكِينِ رفقاً لهم وَنَظَرًا لَهُمْ، وَفِي إِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمُعَجَّلِ مِنَ الزَّكَاةِ إِضْرَارٌ بِهِمْ، لِأَنَّهُ إِذَا عَجَّلَ شَاةً عَنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ(3/176)
ثُمَّ نُتِجَتْ شَاةٌ، فَقَدَ أَسْقَطَ عَلَيْهِمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ شَاةً، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَجِّلْ لَزِمَتْهُ شَاتَانِ، وَإِذَا عَجَّلَ لَزِمَتْهُ شَاةٌ، فَيَصِيرُ إِضْرَارُهُ بِالنَّقْصِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ بِالتَّعْجِيلِ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْمَوْضُوعِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مِنْ خُرُوجِ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: التَّعْجِيلُ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ مِلْكِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ، لِإِجْزَائِهِ عَنْ فَرْضِهِ، وَقَدْ يَلْتَزِمُ زَكَاةَ مَا فِي مِلْكِهِ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ قَبْضًا كَالدَّيْنِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الذِّمَمِ الْمَلِيَّةِ، هُوَ فِي مِلْكِهِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ، وَزَكَاتُهُ لَازِمَةٌ له كذلك فيهما عَجَّلَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ -.(3/177)
باب النية في إخراج الصدقة
قال الشافعي رضي الله عنه: " إِذَا وَلِيَ إِخْرَاجَ زَكَاتِهِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا بِنِيَّةِ أَنَّهُ فَرْضٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّ إِخْرَاجَهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ صَارَتْ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَالدُّيُونُ فِي الذِّمَمِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي الْأَدَاءِ كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَنْهُ وَالْيَتِيمَ لَا نِيَّةَ لَهُ، وَالْوَالِي يَأْخُذُهَا كَرْهًا مِنْ مَالِ مَنِ امْتَنَعَ وَالْمُكْرَهُ لَا نِيَّةَ لَهُ، فَلَوْ كَانَتِ النِّيَّةُ وَاجِبَةٌ مَا أَجْزَأَتِ الزَّكَاةُ عَنْ هَذَيْنِ لِفَقْدِ النِّيَّةِ مِنْهُمَا، وَفِي إِجْزَائِهِمَا عَنْهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) {البينة: 5) فَجَعَلَ الْإِخْلَاصَ وَهُوَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى " فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِهِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَهُوَ الزَّكَاةُ وَنَفْلًا وَهُوَ التَّطَوُّعُ، فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَالْمَعْنَى فيه أنه ليس بعبادة، وإنما هو حق لا حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَلَمْ تَلْزَمْ فِيهِ النِّيَّةُ، وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ فِيهَا النِّيَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مُتَعَلِّقًا بِالْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، فَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَالِ وَمَا كان من حقوق الله تعالى متعلقاً بالسر كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فَكَذَلِكَ مَا تعلق بالمال وأما ما ذكروه مِنْ إِخْرَاجِ الْوَلِيِّ زَكَاةَ الْيَتِيمِ، وَأَخْذِ الْوَالِي زَكَاةَ الْمُمْتَنِعِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالْإِخْرَاجِ، فَأَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ، وَالْوَالِي الْعَادِلُ لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ أَخْذُهُ فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ أَخْذُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فَفِي مَحَلِّهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عِنْدَ إِخْرَاجِهَا وَدَفْعِهَا، فَإِنْ نَوَى قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: عِنْدَ عَزْلِهَا وَقَبْلَ دَفْعِهَا كَالصِّيَامِ، وَكَذَا فِي مَحَلِّ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، فَحَصَلَتِ الْعِبَادَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي ابْتِدَائِهَا كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، وعبادة لا(3/178)
تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فِي ابْتِدَائِهَا بَلْ يَجُوزُ تقديمها كالصيام وعبادة مختلف فيها وهي الزكاة والكفارة، وعلى كلى الْوَجْهَيْنِ لَوْ نَوَى عِنْدَ الدَّفْعِ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ نَوَى بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى بَعْدَ دَفْعِهَا إِلَى وَكِيلِهِ، فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ صَرْفِهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ بَعْدَ صَرْفِهَا إِلَيْهِمْ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجزئه ذَهَبٌ عَنْ وَرِقٍ، وَلَا ورقٌ عَنْ ذهبٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا فِي الْكَفَّارَاتِ حَتَّى يُخْرِجَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ بَدَلًا أَوْ مُبْدَلًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارِاتِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عِتْقًا، فَكُلُّ مَالٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَوَّلًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُكْنَى دَارٍ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، كَإِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعِ تَمْرٍ بَدَلًا عَنْ صَاعٍ مِنْ زَبِيبٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ، هَلْ هي الواجب أبو بَدَلٌ عَنِ الْوَاجِبِ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْوَرِقِ عَنِ الذَّهَبِ، وَالذَّهَبِ عَنِ الْوَرِقِ لَا غَيْرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: " اغْنُوهُمْ عَنِ المسألة في مثل هَذَا الْيَوْمِ " وَالْإِغْنَاءُ قَدْ يَكُونُ بِدَفْعِ الْقِيمَةِ، كَمَا يَكُونُ بِدَفْعِ الْأَصْلِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مخاضٍ، فإن لم يكن فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَنَصَّ عَلَى دَفْعِ الْقِيمَةِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالِيًا عَلَيْهِمْ: " ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ " فَأَمَرَهُمْ بِدَفْعِ الثِّيَابِ بَدَلًا عَنِ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا تَوْقِيفًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُزَكًّى فَجَازَ إِخْرَاجُ قِيمَتِهِ كَمَالِ التِّجَارَةِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَالٌ فَجَازَ إِخْرَاجُهَا فِي الزَّكَاةِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الزَّكَاةِ الْعُدُولُ عن الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ، وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ غَنَمِهِ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ(3/179)
الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ.
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْحَبِّ حَبًّا، وَمِنَ الْغَنَمِ غَنَمًا، وَمِنَ الْإِبِلِ إِبِلًا، وَمِنَ الْبَقَرِ بَقَرًا " فَاقْتَضَى ظَاهِرُ أَمْرِهِ أَنْ لَا يَجُوزَ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صدقة الفطر من رمضان صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، على كل حر وعبدٍ ذكرٍ أو أنثى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ دُونَ غيرهما، والمخالف فخيره بَيْنَهُمَا أَوْ بَيْنَ قِيمَةِ أَحَدِهِمَا، وَظَاهِرُ الْخَبَرِ يمنع منهما.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مخاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذكرٍ " وفيه دليلان:
أحدهما: أنه أمر أن يأخذ ابْنِ لَبُونٍ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عِنْدَ عَدَمِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وأبو حنيفة يُجِيزُ أَخْذَهُ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ نَصَّ عَلَى شَيْئَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ وأبو حنيفة يُجِيزُ ثَالِثًا وَهُوَ الْقِيمَةُ، وَيُسْقِطُ التَّرْتِيبَ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ ويجعل معها شاتين إن استيسر، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا " وَفِيهِ دَلِيلَانِ كَالَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ قَدَّرَ الْبَدَلَ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَالْقِيمَةُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِالشَّرْعِ كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَإِنَّمَا الْبَدَلُ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ كَالدِّيَاتِ، وَهَذَا دَلِيلٌ ثَالِثٌ مِنَ الْخَبَرِ، وَهُوَ أَقْوَاهَا، وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ عَنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يُجْزِهِ كَسُكْنَى دَارِهِ، وَهُوَ أَنْ يُسْكِنَهَا الْفُقَرَاءَ مُدَّةً تَكُونُ أُجْرَتُهَا قَدْرَ زَكَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ إِخْرَاجُ قِيمَةٍ فِي الزكاة فوجب أن لا يجزئه، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ نِصْفَ صَاعٍ تَمْرًا وَسَطًا عَنْ صَاعِ تَمْرٍ رَدِيءٍ، أَوْ أَخْرَجَ شَاةً سَمِينَةً عَنْ شَاتَيْنِ مَهْزُولَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ الطُّهْرَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ قِيمَتِهِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ بَاطِلٌ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إِخْرَاجُ قيمته، قيل غلط، لأن القيمة ليست مخرجة، وإنما يتعذر بِهَا الْبَدَلُ الْمُخْرَجُ، أَلَا تَرَاهُ يُقَوِّمُ الْجَزَاءَ دَرَاهِمَ ثُمَّ تُصْرَفُ الدَّرَاهِمَ فِي طَعَامٍ وَلَا تُخْرَجُ الدَّرَاهِمُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدَّرٍ مَأْخُوذٍ وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَمُقَدَّرٍ مَتْرُوكٍ وَهُوَ النِّصَابُ، فلما ثبت أن القدر الْمَتْرُوكَ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الإبل ثنايا تساوي خمساً مِنَ الْإِبِلِ دُونَ الثَّنَايَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمِقْدَارُ الْمَأْخُوذُ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ مَا كَانَ في معناه.(3/180)
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ مُقَدَّرِي الزَّكَاةِ فوجب أن لا يقيم غير مَقَامَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَالنِّصَابِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَالٍ مُزَكًّى وَقَدْرٍ مُؤَدًّى، فَلَمَّا كَانَ الْمَالُ الْمُزَكَّى مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الْمُؤَدَّى مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ بَعْضٍ.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي مَالٍ مَخْصُوصٍ كَالْمَالِ الْمُزَكَّى، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " اغْنُوهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " فَهُوَ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَ مَا يَسْتَغْنُونَ بِهِ، وَلَا جِنْسَهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ مُفَسَّرًا، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ " فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْجِزْيَةِ لَا فِي الزَّكَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْحَبِّ حَبًّا، ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِالْجِزْيَةِ فَقَالَ: خُذْ من كل حالم ديناراً أو عد له مِنْ مَعَافِرِ الْيَمَنِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ مُعَاذٌ " آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ " وَذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْجِزْيَةِ، قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَاذٌ عَقَدَ مَعَهُمُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَخْذِ الشعير من زروعهم، يُوَضِّحُ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْجِزْيَةِ لَا مِنَ الزَّكَاةِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ، وَالزَّكَاةُ لَا يَجُوزُ نَقْلُهَا مِنْ جِيرَانِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِمْ، سِيَّمَا عِنْدَ مُعَاذٍ الَّذِي يَقُولُ أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ الَّتِي يَجُوزُ نَقْلُهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَالِ التِّجَارَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ في قيمة الفرض، وتخرج زكاة القيمة إلا أنها تجب في الفرض وتخرج قيمة الغرض، وإن قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَبَاطِلٌ بِإِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعٍ عَنْ صَاعٍ، وَشَاةٍ عَنْ شَاتَيْنِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ إِخْرَاجُهُ، وَلَيْسَتِ الْقِيمَةُ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا جَازَ الْعُدُولُ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الْجِنْسِ جَازَ الْعُدُولُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى جِنْسٍ، فَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ، عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ لَا مِنْ عَيْنِ مَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عَادِلًا عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إلى غيره.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَخْرَجَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَقَالَ إِنْ كَانَ مالي الغائب سالما فهذه زكاته أو نافلة فكان ماله سالماً لم يجزئه لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالنِّيَّةِ قَصْدَ فَرْضٍ خَالِصٍ إِنَّمَا جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضٍ ونافلةٍ وَلَوْ قَالَ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ أَجَزَأَتْ عَنْهُ لِأَنَّ إِعْطَاءَهُ عَنِ الْغَائِبِ هَكَذَا وَإِنْ لَمْ يقله ".(3/181)
قال الماوردي: وهذا كما قال:
المال الغائب عن مالكه حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فِي بَلَدٍ مَعَ وَكِيلٍ أَوْ نَائِبٍ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ عن حَوْلِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ بِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ بِبَلَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ سَائِرٌ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ وَلَا تُعْلَمُ سَلَامَتُهُ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ غَائِبٌ لَزِمَتْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَكَانِهِ.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِطْرَةَ الْعَبْدِ في ذمة سيده من غير جنسه فلزمه إِخْرَاجُهَا مَعَ غَيْبَتِهِ وَزَكَاةُ الْمَالِ فِي عَيْنِهِ أو من جنسه فلم يلزم إخراجها مع غيبته ولو كان في فطرة العبد ترتيب يذكر فِي مَوْضِعِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِخْرَاجَهَا لَا يَلْزَمُهُ فَتَطَوَّعَ بِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُ نِيَّتِهِ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا، فَنَبْدَأُ بِمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِفُرُوعِهِ، نَقَلَ الْمُزَنِيُّ مَسْأَلَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُخْرِجَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ وَيَقُولَ إِنْ كَانَ مَالِي الْغَائِبُ (سَالِمًا فَهَذِهِ زَكَاتُهُ أَوْ نَافِلَةٌ فَكَانَ) سَالِمًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ أَشْرَكَ فِي نِيَّتِهِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ وَمِنْ شَرْطِ الزَّكَاةِ إِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلْفَرْضِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ، فَكَانَ مَالُهُ سَالِمًا أَجْزَأَهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخْلَصَ النِّيَّةَ مَعَ سَلَامَةِ الْمَالِ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْمَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا بنية الفرض أو أطلق من غير شرط وقال هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ كَانَ مُوجَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، وَإِذَا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ مُوجِبِهِ كَانَ ذكره تأكيداً أو لم يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِي الْإِجْزَاءِ.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ غَائِبَةً وَمِائَتَا دِرْهَمٍ حَاضِرَةً، فَأَخْرَجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَقَالَ: هَذِهِ عَنْ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَعَنْ مَالِي الْحَاضِرِ كَانَ كَمَا نَوَى، وَكَانَ عَنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ عَلَى مَا شَرَطَ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ الْغَائِبُ سَالِمًا كَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا كَانَتْ عَنِ الْحَاضِرِ، وَكَذَا أَيْضًا لَوْ قَالَ هَذِهِ زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا أَوْ عَنِ الْحَاضِرِ أَجْزَأَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد أخلص نية الفرض، وإلا جعل(3/182)
الِاشْتِرَاكَ فِي نَقْلِهَا مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الزَّكَاةِ، لِأَنَّ تَعْيِينَ الفرض فيها لا يلزم وبهذا المعنى فارقت الصلاة، لأن تغيير الْفَرْضِ فِيهَا يَلْزَمُ، فَلَوْ جَعَلَ نِيَّةَ الصَّلَاةِ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضَيْنِ لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ قَالَ هَذَا عَنْ مَالِي الْغَائِبِ فَتَلِفَ الْمَالُ الْغَائِبُ لم يجزه عَنِ الْحَاضِرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرِكْهُ فِي نِيَّتِهِ.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ يَرِثُهُ من والد أو ولد وكان بعيداً لغيبة فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَاتَ وَوَرِثْتُ مَالَهُ فَهَذِهِ زَكَاتُهُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْنِ ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ، كَالْمَالِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَالِ الْغَائِبِ الْبَقَاءُ، وَفِي ذِي الْقَرَابَةِ الْحَيَاةُ، ولهذه المسائل أمثلة في صيام يومي الشَّكِّ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ نَذْكُرُهَا فِي كِتَابِ " الصِّيَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَصْلٌ
: إِذَا وَرِثَ مَالًا فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ سِنِينَ كَثِيرَةً فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ مِنْ يَوْمِ وَرِثَهُ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، وَلَوْ أن رجلاً أوصى لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالٍ تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ وَمَاتَ فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا لِأَرْبَعِ سِنِينَ مَلَكَ الْمَالَ، وَفِي زَكَاةِ مَا مَضَى وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُخْرِجُ زَكَاةَ مَا مَضَى.
وَالثَّانِي: لَا زَكَاةَ فِيمَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَضْعِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَا مُخْرَجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الوصية هل تملك بموت الموصي أو بالموت والقبول.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَخْرَجَهَا لِيَقْسِمَهَا وَهِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَهَلَكَ ماله كان له حبس الدراهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقُلْنَا إنه يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ تَلَفِ مَالِهِ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَعَلَيْهِ دَفْعُ مَا أَخْرَجَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ، لِأَنَّهُ بِتَأْخِيرِهَا بَعْدَ الْإِمْكَانِ مُفَرِّطٌ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ حَبَسَ مَا بِيَدِهِ وَجَمَعَهُ إِلَى بَاقِي مَالِهِ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا أَخْرَجَ زَكَاتَهُ لَا غير، لأنه دون ما هلك وإن كان دون النصاب فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الإمكان.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ضاعت منه الَّتِي أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ تفريطٍ رَجَعَ إِلَى مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي مثله الزكاة زكاه وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهِيَ فِي مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الْمَاضِيَةِ، لَكِنْ فِي تَلَفِ الزَّكَاةِ الْمُخْرَجَةِ دُونَ الْأَصْلِ الْمُتَبَقِّي، كَأَنَّهُ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَتَلِفَتْ مِنْ يَدِهِ، فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْإِمْكَانِ فَعَلَيْهِ(3/183)
إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ كَامِلَةً، وَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ لم يضمن ما تلف، فاعتبر مَا بَقِيَ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الإمكان.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا أَخَذَ الْوَالِي مِنْ رَجُلٍ زَكَاتَهُ بِلَا نِيَّةٍ في دفعها إليه أَجْزَأَتْ عَنْهُ كَمَا يُجْزِئُ فِي الْقَسْمِ لَهَا أَنْ يَقْسِمَهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوِ السُّلْطَانُ وَلَا يَقْسِمُهَا بِنَفْسِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا إِيجَابَ النِّيَّةِ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ، فَإِذَا ثَبَتَ وَجُوبُهَا فَلَا يَخْلُو حَالُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَدْفَعَهَا طَوْعًا، أَوْ تُؤْخَذَ مِنْ مَالِهِ كَرْهًا، فَإِنْ دَفَعَهَا طَوْعًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يدفعها إلى وكيله ليدفعها عَنْهُ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْوَالِي، فَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةٍ عِنْدَ دَفْعِهَا، أو عند عزلها على الوجهين الماضين فإن لم ينو لم يجزه، فإن دفعها إلى وكيله فلها أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يَنْوِيَا مَعًا، أَوْ لَا يَنْوِيَا أَوْ يَنْوِيَ الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ، أَوْ يَنْوِيَ الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ نَوَيَا مَعًا فَنَوَى الْمُوَكِّلُ عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَى الْوَكِيلِ، وَنَوَى الْوَكِيلُ عِنْدَ تَفْرِيقِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ أَجْزَأَتْهُ الزكاة، وإن لم ينويا ولأحد مِنْهُمَا لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ زَكَاتِهِ، لِفَقْدِ النية، وإن دفعها يحتمل أن يكون فَرْضًا وَنَفْلًا، وَإِنْ نَوَى الْمُوَكِّلُ دُونَ الْوَكِيلِ ففي إجزائهما وجهان:
أحدهما: لا يجزئه، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ عند الدفع والتفرقة.
والثاني: يجزئه، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ عند العزل وهو أصح الوجهين، لأن الكل قد أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي تَفْرِيقِ الزَّكَاةِ، فَلَوْ كُلِّفَ الْمُوَكِّلُ النِّيَّةَ عِنْدَ تَفْرِقَةِ الْوَكِيلِ لَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَدَّاهُ إِلَى الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِنَابَةِ، وَإِنْ نَوَى الْوَكِيلُ دُونَ الْمُوَكِّلِ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ دَفْعَهُ إِلَى الْوَكِيلِ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَنَفْلًا، فَافْتَقَرَ إِلَى نِيَّةٍ يُفَرِّقُ بِهَا بَيْنَ الدفعين، وإن رفعها إلى الأمام فلها أيضاً أربعة أحوال:
أحداها: أن ينويا جميعاً فيجزئه.
وَالثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ رَبُّ الْمَالِ دُونَ الْإِمَامِ فيجزئه وجهاً واحداً، لأن يد الإمام يد للمساكين.(3/184)
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامُ دُونَ رَبِّ الْمَالِ فيجزئه أَيْضًا، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا مَا وَجَبَ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَنْوِيَ رَبُّ الْمَالِ وَلَا الْإِمَامُ فَفِيهِ وجهان:
أحدهما: وهو الصحيح وهو منصوص الشافعي أنه يجزئه، لِأَنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْفَرْضِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ إِلَّا مَا وَجَبَ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قول بعض أصحابه: لا يجزئه لفقد النية المشروطة في الأداء.
فَصْلٌ
: فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا طَوْعًا: أَخَذَهَا الإمام من ماله قهراً، ويجزئه فِي الْحُكْمِ، نَوَى الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَنْوِ، وهل يجزئه فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ كَرْهًا بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا، فَإِنْ أُخِذَتْ كَرْهًا لَمْ يُجْزِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَّةُ.
وَالثَّانِي أَنَّ أَخْذَهَا كَرْهًا لَا يَصِحُّ إِلَّا لِطَالِبٍ مُعَيَّنٍ، وَمُسْتَحَقُّ الزَّكَاةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا خَطَأٌ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) فَكَانَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْأَخْذِ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْمُطِيعِ وَالْمُمْتَنِعِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " فِي كُلِّ سَائِمَة إبلٌ فِي أربعين بنت لبون، ولا تفرق إبلٌ عن حسابها من أعطاها مؤتمراً فَلَهُ أَجْرُهَا وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَيْسَ لِآلِ محمدٍ فيها نصيبٌ " ولأنه حق في ماله يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالدُّيُونِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَوَلَّاهُ الْإِمَامُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَالْأَعْشَارِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ الأول بفقد النِّيَّةَ، يَقْصِدُ بِهَا الْفَرْقَ بَيْنَ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مُسْتَحِقَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ، قِيلَ أَوْصَافُهُمْ مُعَيَّنَةٌ، وإن كانت أشخاصهم غير معينة، ولولا تعيين أَوْصَافِهِمْ لَمَا جَازَ أَنْ يُفَرِّقَهَا فِيهِمْ لِجَهْلِهِ به.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب أن يتولى الرجل قسمتها عن نفسه، لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَدَائِهَا عَنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَالْأَمْوَالُ ضَرْبَانِ ظَاهِرَةٌ كَالْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ وَبَاطِنَةٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُ زَكَاتِهَا إِلَى الْإِمَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَدْفَعَهَا إِلَى وَكِيلِهِ، أَوْ إلى الإمام(3/185)
الْعَادِلِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْجَوَازِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، بَيْنَ نَفْسِهِ، أَوْ وَكِيلِهِ، أَوِ الإمام. فأما الأول وَالْأَفْضَلُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ وَكِيلِهِ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ وَكِيلِهِ، وَالْإِمَامُ أَيْضًا أَوْلَى مِنْ وَكِيلِهِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَى الْوَكِيلِ حَتَّى يَدْفَعَهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ فَأَمَّا هُوَ وَالْإِمَامُ فَفِي أَوْلَاهُمَا بِتَفْرِيقِهَا إِذَا كَانَتْ بَاطِنَةً وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَفْعَهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أَعْرَفُ بِمُسْتَحِقِّيهَا مِنْهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَإِذَا فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ.
والوجه الثاني: أن يفرقها بِنَفْسِهِ أَوْلَى، لِمَا عَلَّلَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ فَلِلْإِمَامِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ جَائِرًا فِي غَيْرِهَا.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ عَادِلًا فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ وَفِي غَيْرِهَا، أَوْ جَائِرًا فِي الزَّكَاةِ عَادِلًا فِي غَيْرِهَا، لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَفَرَّقَهَا رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ دَفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ فِيهَا لَمْ تُجْزِهِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي موضعه مِنْ قِسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي الزكاة وفي غيرها فعلى قوله فِي الْقَدِيمِ يَجِبُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ، فَإِنْ فرقها رب المال بنفسه أو وكيله وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا يَجِبُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَإِنْ فَرَّقَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلُهُ جَازَ، لَكِنَّ دَفْعَهَا إِلَيْهِ فِي الْمَالِ الظَّاهِرِ أَوْلَى مِنْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ وَجْهًا وَاحِدًا، لِيَكُونَ خَارِجًا من الخلاف في الإجزاء، وعلى اليقين مِنْ أَدَائِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ جَائِرًا فِي غَيْرِهَا وَجَبَ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ دَفْعُهَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ تفريقها بنفسه.
رَوَى عَنْ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سألت سعد بن مالك فَقُلْتُ: عِنْدِي مَالٌ مُجْتَمِعٌ يَعْنِي: مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَمَا تَرَى، فَمَا أَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: ادْفَعْهُ إِلَيْهِمْ قَالَ: وَسَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَسَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَسَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ.(3/186)
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، فَلَا يَجِبُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ، وَفِي الأولى وجهان:
أحدها: دَفْعُهَا إِلَى الْإِمَامِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ أَوْلَى، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الزكاة " ومن سأل فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ " وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(3/187)
باب ما يسقط الصدقة عن الماشية
قال الشافعي رضي الله عنه: يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " في سائمة الغنم زكاةٌ " وإذا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَلَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ سائمة وروي عن بعض أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن ليس في البقر والإبل العوامل صدقة حتى تكون سائمة والسائمة الراعية وذلك أن يجتمع فيها أمران أن لا يكون لها مؤنة في العلف ويكون لها نماء الرعي فأما إن علفت فالعلف مؤنة تحبط بفضلها وقد كانت النواضح عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم خلفائه فلم أعلم أحداً رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخذ منها صدقة ولا أحداً من خلفائه ".
قال الماوردي: وهذا كما قال:
الْمَاشِيَةُ ضَرْبَانِ سَائِمَةٌ وَمَعْلُوفَةٌ فَالسَّائِمَةُ: الرَّاعِيَةُ، وَسُمِّيَتْ سَائِمَةً لِأَنَّهَا تَسِمُ الْأَرْضَ بِرَعْيِهَا، وَالسِّمَةُ الْعَلَامَةُ وَلِهَذَا قِيلَ لِأَوَّلِ الْمَطَرِ وَسَمِيٌّ، لِأَنَّهُ يُعَلِّمُ الْأَرْضَ بِآثَارِهِ، فَالسَّائِمَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ فِيهَا الزَّكَاةُ إِجْمَاعًا.
فَأَمَّا الْمَعْلُوفَةُ مِنَ الْغَنَمِ وَالْعَوَامِلِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وأبي حنيفة وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: الزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ كَالسَّائِمَةِ.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: مَعْلُوفَةُ الْغَنَمِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَمَعْلُوفَةُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِقَوْلِهِ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ، فَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهَا بِالْحُكْمِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ زَكَاةَ الْمَعْلُوفَةِ بِعُمُومِ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " في أربعين شاةٍ شاةٌ ": ولم يفرق قالوا: وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ فِي الْأُضْحِيَةِ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالسَّائِمَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ إِلَّا فِي قِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِي السَّائِمَةِ، وَكَثْرَتِهَا فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَقِلَّةُ الْمُؤْنَةِ وَكَثْرَتُهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ إِذَا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهَا بِالسَّقْيِ قَلَّتْ زَكَاتُهَا، وَإِذَا قَلَّتْ مُؤْنَتُهَا كَثُرَتْ زَكَاتُهَا، فَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُؤْنَةِ فِي تَغْيِيرِ الْقَدْرِ لَا فِي إِسْقَاطِ الْفَرْضِ.(3/188)
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ " فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِلْغَنَمِ صِفَتَانِ السَّوْمُ، وَالْعَلْفُ، فَلَمَّا عَلَّقَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ انْتَفَتْ عَنِ الْأُخْرَى، فَصَرَّحَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس في العوامل صدقةٌ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ ".
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ " فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ نُصُوصٌ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا. فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهَا زَكَاةٌ لِأَنَّهَا لم تَبْلُغُ نِصَابًا فِي الْغَالِبِ. فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أنا إن سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَهُمْ غَالِبًا فِي الْبَقَرِ فَلَيْسَ بِغَالِبٍ فِي الْإِبِلِ، وَقَدْ يَمْلِكُ دُونَ النِّصَابِ سَائِمَةً، وَتَمَامُ النِّصَابِ مَعْلُوفَةٌ، فَيَصِيرَانِ نِصَابًا كَامِلًا، فَعُلِمَ أَنَّ نَصَّهُ عَلَى الْعَوَامِلِ لِسُقُوطِ الزَّكَاةِ فِيهَا لَا غَيْرَ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ خَصَّ الْمَعْلُوفَةَ بِنَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْهَا، وَحَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا دُونَ النِّصَابِ يُسْقِطُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ وَالسَّائِمَةَ يَتَسَاوَيَانِ فِي ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا صَدَقَةَ فِي الْإِبِلِ الْجَارَّةِ وَلَا الْقَتُوبَةِ ".
وَالْجَارَّةُ الَّتِي تُجَرُّ بِأَزِمَّتِهَا وَتُقَادُ.
والقتوية: التي يوضع على ظهورها الْأَقْتَابُ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " غَرِيبِ الحديث " ولأنه جنس تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ بِحَوْلٍ وَنِصَابٍ، فَوَجَبَ أن يشرع نَوْعَيْنِ نَوْعٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَنَوْعٌ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَالثِّيَابِ وَالْعَقَارِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ كَالْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ.
(وَتَسْقُطُ فِي غَيْرِ النَّامِيَةِ كَالْآلَةِ وَالْعَقَارِ) وَالْعَوَامِلُ مَفْقُودَةُ النَّمَاءِ فِي الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النَّمَاءِ، كَمَا يُنْتَفَعُ بِالْعَقَارِ عَلَى جهة السُّكْنَى، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهَا الزَّكَاةُ كَسُقُوطِهَا عن العقار.(3/189)
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فَأَخْبَارُنَا تَخُصُّهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّائِمَةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا حُصُولُ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ كَثْرَةَ الْمُؤْنَةِ تُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ الْفَرْضِ لَا فِي إِسْقَاطِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ إِنَّمَا لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهَا لِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَاهَا لِفَقْدِ النَّمَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كانت العوامل ترعى مدة وَتَتْرُكُ أُخْرَى أَوْ كَانَتْ غَنَمًا تُعْلَفُ فِي حين وترعى في آخر، فلا يبين لِي أَنَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا صَدَقَةً ".
قَالَ الماوردي: وهذا كما قال: الْمَاشِيَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
سَائِمَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ.
وَمَعْلُوفَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا.
وَسَائِمَةٌ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ مَعْلُوفَةٌ فِي بَعْضِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْعَلَفِ، فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا يَقُومُ الْبَدَنُ بِفَقْدِهِ كَيَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ وَهِيَ فِي بَاقِي الْحَوْلِ كُلِّهِ سَائِمَةٌ، فَالْحُكْمُ لِلسَّوْمِ، وَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ، ولا تأثير لهذا القدر في المعلوفة، وَإِنْ كَثُرَتِ الْعُلُوفَةُ فِي زَمَانٍ لَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِفَقْدِهَا فِيهِ كَشَهْرٍ أَوْ أُسْبُوعٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ تَأْكُلْ ثَلَاثًا تلفت فلا زكاة فيها، سواء كان زمان السَّوْمِ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ.
وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ زَمَانُ السَّوْمِ أَكْثَرَ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْعُلُوفَةِ أَكْثَرَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ كَالزَّرْعِ الْمَسْقِيِّ بِمَاءِ السماء وماء الرشا، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ فِي السَّوْمِ إِيجَابًا وَفِي الْعُلُوفَةِ إِسْقَاطًا، وَهُمَا إِذَا اجْتَمَعَا فِي الزَّكَاةِ غَلَبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ سَوْمَ جَمِيعِ الْمَاشِيَةِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ كَسَوْمِ بَعْضِ الْمَاشِيَةِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ سَوْمَ بَعْضِهَا فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ مسقط للزكاة من غير أن يعتبر فيها الْأَغْلَبُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَوْمُ جَمِيعِهَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ مُسْقِطًا لِلزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يعتبر فيها الْأَغْلَبُ، بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شاة، منها تسعة وثلاثين سَائِمَةً فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، وَشَاةٌ مَعْلُوفَةٌ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ السَّوْمُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ، كَذَلِكَ مَنْ معه أربعون شاة، إذا سمت كُلُّهَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، وَعُلِفَتْ فِي بَعْضِهِ، لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ السَّوْمُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْإِسْقَاطِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الزُّرُوعِ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا اعْتِبَارَ بالأغلب والفرق بينهما الاعتبار بالأغلب فعلى هذا السوآل ساقط.(3/190)
وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ بِالْأَغْلَبِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزَّرْعَ لَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ إِسْقَاطٍ وَإِيجَابٍ، فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ حُكْمُ الْأَغْلَبِ فِيهِ، وَالْمَاشِيَةُ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ إِسْقَاطٍ وإيجاب، فلذلك غلب حكم الإسقاط والله أعلم بالصواب.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ " (قَالَ) وَلَا صَدَقَةَ فِي خيلٍ وَلَا فِي شيءٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ عَدَا الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِدَلَالَةِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك (قال المزني) قال قائلون في الإبل والبقر والغنم المستعملة وغير المستعملة ومعلوفة وغير معلوفةٍ سواء فالزكاة فيها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض فيها الزكاة وهو قول المدنيين يقال لهم وبالله التوفيق وكذلك فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الزكاة في الذهب والورق كما فرضها في الإبل والبقر فزعمتم أن ما استعمل من الذهب والورق فلا زكاة فيه وهي ذهب وورق كما أن الماشية إبلٌ وبقرٌ فإذا أزلتم الزكاة عما استعمل من الذهب والورق فأزيلوها عما استعمل من الإبل والبقر لأن مخرج قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك واحدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
أَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِي أَعْيَانِهِمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا لِلتِّجَارَةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِمْ، أَوْ فِي الْفِطْرِ فَتَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا مَوْضِعٌ فَأَمَّا الْخَيْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا بِحَالٍ كَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ، سَوَاءٌ كَانَتْ سَائِمَةً أَوْ مَعْلُوفَةً ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وأبي يوسف ومحمد.
وَقَالَ أبو حنيفة وزفر: إِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا كَالْمَاشِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً: فَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَرَبُّهَا بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخْرَجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نصاب، احتجاجاً برواية جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فِي كُلِّ فرسٍ سَائِمَةٍ دينارٌ، وَلَيْسَ في المرابطة شيء وبرواية عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " الخيل ثلاث لرجلٍ أجرٌ ولآخر شينٌ، وَعَلَى آخَرَ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ الْأَجْرُ فَالَّذِي يُمْسِكُهَا تَعَفُّفًا وَتَجَمُّلًا، فَلَا يَنْسَى حَقَّ الله في طهورها ورقابها " ومما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه(3/191)
قَالَ: " خَيْرُ الْمَالِ سكةٌ مأبورةٌ، ومهرةٌ مأمورةٌ "، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ خِيَارِ الْمَالِ كَانَ وُجُوبُهَا فِيهِ أَوْلَى مِنْ وُجُوبِهَا فِي شِرَارِهِ، قالوا: ولأنه ذو أربعة أهلي يؤكل لحمه فوجب فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْغَنَمِ. قَالُوا وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تجب في الماشية لظهرها ونسلها، وفي الخيل السَّائِمَةُ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهَا، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صدقةٌ " وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صدقةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ " وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " عفوت لكم عن صدقة الخيل ".
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَدَقَةَ فِي فرسٍ وَلَا عبدٍ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ وَلَا فِي النُّخَّةِ وَلَا فِي الكسعةِ صدقةٌ ".
فَالْجَبْهَةُ: الْخَيْلُ، وَالْكَسْعَةُ: الْحَمِيرُ، فَأَمَّا النُّخَّةُ فَأَبُو عُبَيْدَةَ يَرْوِيهَا بِضَمِّ النُّونِ وَهِيَ الرَّقِيقُ، وَالْكِسَائِيُّ يَرْوِيهَا بِفَتْحِ النُّونِ، وَقَالَ هِيَ الْبَقَرُ الْعَوَامِلُ بِلُغَةِ الْحِجَازِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ النَّخَّةُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُصَدِّقُ دِينَارًا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَأَنْشَدَ:
(عَمِّي الَّذِي مَنَعَ الدِّينَارَ ضاحيةُ ... دِينَارَ نَخَّةِ كلبٍ وَهْوَ وشهودُ)
وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ كَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا: قَدْ كَثُرَ عِنْدَنَا الْخَيْلُ وَالرَّقِيقُ فَزَكِّهِ لنا فقال: لا آخذ شيئاً لم يأخذه صَاحِبَايَ، وَسَأَسْتَشِيرُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَقَالُوا: حَسَنٌ وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السلام ساكت، فقال: مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ تَكُنْ جِزْيَةً رَاتِبَةً مِنْ بعدك،(3/192)
فَأَخَذَ عُمَرُ مِنْ كُلِّ عَبْدٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَرَزَقَهُ جَرِيبَيْنِ، وَمِنْ كُلِّ فَرَسٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَرَزَقَهُ عَشْرَةَ أَجْرِبَةٍ شَعِيرًا.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَأَعْطَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُمْ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَلَمْ تَكُنْ جِزْيَةً، ثُمَّ صَارَ جِزْيَةً رَاتِبَةً فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَلَا يُعْطَوْنَ.
فَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُمْ سَأَلُوهُ وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَبَدَأَهُمْ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَالَ لَمْ يَأْخُذْ صَاحِبَايَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَخَذَاهَا.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ اسْتَشَارَ وَلَوْ كَانَ نَصٌّ مَا اسْتَشَارَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنْ أَمِنْتَ أَنْ لَا تَكُونَ جِزْيَةً رَاتِبَةً فَافْعَلْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَانَتْ رَاتِبَةً.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ عُمَرَ أَعْطَاهُمْ فِي مُقَابَلَتِهَا رِزْقًا، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنْ يُقَالَ كُلُّ جِنْسٍ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا تَجِبُ الزكاة في ذكوره إِذَا انْفَرَدَتْ لَا تَجِبُ فِي ذُكُورِهِ وَإِنَاثِهِ كَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ، وَعَكْسُهُ الْمَوَاشِي، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يُسْهَمُ لَهُ فَشَابَهَ الذُّكُورَ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يُضَحَّى بِهِ فَأَشْبَهَ الْحَمِيرَ، وَلِأَنَّهُ ذُو حَافِرٍ فَشَابَهَ الذُّكُورَ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَمْ يَجِبْ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَالدَّجَاجِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَرِوَايَةُ غَوْرَكَ السَّعْدِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ استعمالاً وترجيحاً.
فَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَفِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَيَكُونُ ذِكْرُ الدِّينَارِ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ نَصَّ عَلَى السَّوْمِ وَالسَّوْمُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ، قِيلَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ليفرق بينه وبين الغنم، فَلَا يَظُنُّ أَنَّ سَوْمَهَا مُسْقِطٌ لِزَكَاةِ التِّجَارَةِ كَمَا أَسْقَطَهَا مِنَ النَّعَمِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا التَّرْجِيحُ: فَقَدْ عَارَضَهُ قَوْلُهُ: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ " وَهُوَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الرَّقِيقُ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الْخَيْلُ، وَخَبَرُهُمْ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى.
وَالثَّانِي: إِنَّ خَبَرَهُمْ مُتَقَدِّمٌ وَخَبَرَنَا مُتَأَخِّرٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ " عَفَوْتُ " يَدُلُّ عَلَى إِيجَابٍ مُتَقَدِّمٍ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ قَرِيبٌ مِنْ جَوَابِ مَا تَقَدَّمَ، أو يحمل(3/193)
على الجهاد، لأنه قال " ولا تنس حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَرِقَابِهَا " وَالزَّكَاةُ لَا تَجِبُ فِي الظَّهْرِ وَإِنَّمَا الْجِهَادُ عَلَى الظَّهْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ " فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنْ فَضْلِ الْجِنْسِ دُونَ إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي خِيَارِ الْمَالِ كَالْمَعْلُوفَةِ، وَتَجِبُ فِي شِرَارِهِ كَمِرَاضِ السَّائِمَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النَّعَمِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي ذُكُورِهَا، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِي إِنَاثِهَا وَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورِ الْخَيْلِ لَمْ تَجِبْ فِي إِنَاثِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إن زكاة الماشية وجب لِظُهُورِهَا وَنَسْلِهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا، وَالْخَيْلُ لَا دَرَّ لَهَا فَلَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(3/194)
باب المبادلة بالماشية والصدقة منها
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا بَادَلَ إِبِلًا بإبلٍ أَوْ غَنَمًا بَغَنَمٍ أو بقراً ببقرٍ أو صنفاً بصنفٍ غَيْرِهَا فَلَا زَكَاةَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَى الثانية من يوم يملكها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
أَمَّا الْمُبَادَلَةُ فهو مبايعة الشيء بمثله، كما أن المناقلة من مُبَايَعَةُ الْأَرْضِ بِأَرْضٍ مِثْلِهَا، وَالْمُصَارَفَةُ، وَالْمُرَاطَلَةُ: هِيَ مُبَايَعَةُ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَإِذَا بَادَلَ نِصَابًا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ بِنِصَابٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ اسْتَأْنَفَ الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ الْمُبَادَلَةِ سَوَاءٌ بَادَلَ جِنْسًا بِمِثْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَاشِيَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْأَثْمَانِ اسْتَأْنَفَ، كَقَوْلِنَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَثْمَانِ مِثْلَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بَنَى، لأن الأثمان لا تتغير عِنْدَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ، إِنْ بَادَلَ جِنْسًا بِجِنْسٍ آخَرَ كَإِبِلٍ بِبَقَرٍ اسْتَأْنَفَ، وَإِنْ بَادَلَ جِنْسًا بِمِثْلِهِ كَإِبِلٍ بِإِبِلٍ، أَوْ بَقَرٍ بِبَقَرٍ بَنَى عَلَى حَوْلِهِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " في أربعين شاةٍ شاةٌ وفي خمسٍ من الْإِبِلِ شَاةٌ " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا بَادَلَ أَوْ لَمْ يُبَادِلْ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ جِنْسٍ حَالَ حَوْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ، أصله ما لم يبدل بِهِ، قَالَ وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَادَلَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ فِي مَالِ التِّجَارَةِ بَنَى عَلَى الْحَوْلِ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عَلَيْهِ الْحَوْلُ " وَالْمَالُ الْحَاصِلُ بِالْمُبَادَلَةِ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي مالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ عِنْدَ رَبِّهِ " وَهَذَا أَظْهَرُ نَصًّا وَأَنْفَى لِلِاحْتِمَالِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أن يكون حوله من يوم ملكه، (كما لو بادل إذا اتَّهَبَ أَوِ اشْتَرَى إِبِلًا بِذَهَبٍ، وَلِأَنَّهُ بَادَلَ ما تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُ مِنْ يَوْمِ مَلْكِهِ) كَمَا لَوْ بَادَلَ جِنْسًا بِجِنْسٍ غَيْرِهِ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْعُمُومِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا لَمْ يبادل فَالْمَعْنَى فِيهِ حُلُولُ الْحَوْلِ وَتَكَامُلُ النَّمَاءِ، وَأَمَّا مَالُ التِّجَارَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:(3/195)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَكَاةَ مَالِ التِّجَارَةِ فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، وَالْقِيمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَالَيْنِ لَمْ تَنْقَطِعْ بِالْمُبَادَلَةِ، وَزَكَاةُ هَذَا الْمَالِ فِي عَيْنِهِ، وَالْعَيْنُ قَدْ زَالَتْ بِالْمُبَادَلَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نَمَاءَ التِّجَارَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ، فإذا بادل لِوُفُورِ النَّمَاءِ، وَنَمَاءُ الْمَوَاشِي يَفُوتُ بِالْبَيْعِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْحَوْلِ، فَإِذَا بَادَلَ اسْتَأْنَفَ لِفَقْدِ النَّمَاءِ والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ الْفِرَارَ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ بِالْمِلْكِ وَالْحَوْلِ لَا بِالْفِرَارِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ نِصَابًا فِي الْحَوْلِ، ثُمَّ أَخْرَجَ بَعْضَ النِّصَابِ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، أَوْ غَيْرَ فِرَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِرَارًا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ مَعْذُورًا، كَمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنُ دِرْهَمٍ قَضَاهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً أَكْثَرَ الْحَوْلِ وَعَلَيْهِ شَاةٌ مِنْ سَلَمٍ حَلَّتْ قَبْلَ الحول، قضاها من الأربعين في زَكَاةَ عَلَيْهِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ، وَلَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ مَا فَعَلَهُ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا كَمَنْ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً بَاعَ مِنْهَا قَبْلَ الْحَوْلِ شَاةً، أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ أَنْفَقَ مِنْهَا دِرْهَمًا هَرَبًا مِنَ الزَّكَاةِ وَفِرَارًا مِنَ الْوُجُوبِ، فَفِرَارُهُ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مُسِيءٌ بِهِ، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ولا تسقط عنه لفراره استدلالاً بشيئين:
أحدهما: أن الله تعالى تواعد لمن تعرض لإسقاط حق الله تعالى وَمَنَعَ الْوَاجِبَ فِيهِ بِإِتْلَافِ مَالِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أقْسَمُوا لِيَصْرِمُنْهَا مُصْبِحينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنَ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحينَ) {القلم: 17 إلى 21) وَذَاكَ أَنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا أَنْ يَتَعَجَّلُوا أَخْذَ ثِمَارِهَا قَبْلَ عِلْمِ الْمَسَاكِينِ بِهَا لِيَمْنَعُوهُمُ الْوَاجِبَ فيها، ألا ترى أنه تعالى قال: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أنْ لاَ يَدْخُلَنَّها اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) {القلم: 23، 24) فَإِذَا كَانَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ مُسْتَحَقًّا كَانَ فِعْلُهُ مُحَرَّمًا، وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ لَا يَمْنَعُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِسْقَاطَ الْمَالِ كَاجْتِلَابِ المال، فلما كان اجتلاب المال لا يحمل بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ، مِثْلَ أَنْ يَقْتُلَ مُورِّثًا فَلَا يَرِثُهُ، كَذَلِكَ إِسْقَاطُ الْمَالِ لَا يَحْصُلُ بِوَجْهٍ مُحَرَّمٍ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَمَا أَتْلَفَهُ لِأَجْلِ الْفِرَارِ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَالْبَاقِي دُونَ النِّصَابِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أن(3/196)
الْبَاقِيَ لَا زَكَاةَ فِيهِ إِذَا نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ، دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِأَنْ نَقُولَ: لِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ كَانَ النَّاقِصُ لِعُذْرٍ، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا أَتْلَفَهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَالٌ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَى تَرْكِهِمْ الِاسْتِثْنَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى الْفِعْلِ وَلَمْ يَفْعَلُوا، وَالْعِقَابُ إِنِ اسْتَحَقُّوهُ فَبِفِعْلِهِمْ لَا بِعَزْمِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهَ إِنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ بِسَبَبٍ محرم فغير مسلم، لأنه تَصَرُّفَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَإِنَّمَا قصده مكروه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَدَّ أَحَدُهُمَا بِعَيْبٍ قَبْلَ الْحَوْلِ اسْتَأْنَفَ بها الْحَوْلَ وَلَوْ أَقَامَتْ فِيِ يَدِهِ حَوْلًا ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهَا نَاقِصَةً عَمَّا أَخَذَهَا عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ بِمَا نَقَصَهَا الْعَيْبُ مِنَ الثَّمَنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا بَادَلَ نِصَابًا مِنَ الْمَاشِيَةِ بِنِصَابٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ مُبَادَلَةً صَحِيحَةً، ثُمَّ أَصَابَ أَحَدُهُمَا بِمَا صَارَ إِلَيْهِ عَيْبًا، فَأَرَادَ رَدَّهُ بِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْعَيْبِ قَبْلَ الْحَوْلِ.
وَالثَّانِي: بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَهُ الرَّدُّ بِهِ، فَإِذَا اسْتَرْجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاشِيَتَهُ اسْتَأْنَفَ لَهَا الْحَوْلَ مِنْ حِينِ رَجَعَتْ، لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخٌ يَقْطَعُ الْمِلْكَ، وَلَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرُدُّ الْعَيْنَ الْمَعِيبَةَ دُونَ النَّمَاءِ الْحَادِثِ، فَيَصِيرُ كل واحد منهما مستحقاً الملك مَا ارْتَجَعَهُ، وَمَنِ اسْتَحْدَثَ مِلْكًا اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الْعَيْبِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَيْبِ.
وَالثَّانِي: لَمْ يُخْرِجْهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ نفس المال ووسطه، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا من نفس المال فَهَلْ لَهُ رَدُّ مَا بَقِيَ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الْمَرْدُودِ بِالْعَيْبِ إِذَا تَلِفَ بَعْضُهُ، فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ وَلَا رَدَّ لَهُ.(3/197)
وَالثَّانِي: يَرُدُّ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ مِنَ الثَّمَنِ بِمَا قَابَلَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِ فَلَهُ الرَّدُّ قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ.
لِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي الْعَيْنِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ وَجْهًا آخَرَ فِي المنع من الرد إذا قبل بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ.
فَهَذَا إِذَا أَخْرَجَ زَكَاتَهَا، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهَا حَتَّى ظَهَرَ على الْعَيْبُ فَلَا رَدَّ لَهُ؛ لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا بوجوب الزكاة في الذمة فالعين مرتهنة بها، وَرَدُّ الْمَرْهُونِ بِالْعَيْبِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا فِي الْعَيْنِ فَالْحَقُّ إِذَا وَجَبَ فِي عين لم يجز ردها بعيب، لا كمن ابتاع عبد فَجَنَى ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا، فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا بَعْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ نُظِرَ: فَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ بَعْدَ إِمْكَانِ الرَّدِّ فَلَا رَدَّ لَهُ وَلَا أَرْشَ، وَإِنْ لَمْ يَتَطَاوَلِ الزَّمَانُ بَلْ بَادَرَ إِلَى إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ فَهَلْ لَهُ الرَّدُّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرُدُّ لِقُرْبِ الْوَقْتِ وَوُجُودِ الرَّدِّ عُقَيْبَ الْعَيْبِ.
وَالثَّانِي: لَا يَرُدُّ لِأَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ اشتغال بغير الرد.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتِ الْمُبَادَلَةُ فَاسِدَةً زَكَّى كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا كَانَتْ مُبَادَلَتُهُمَا فَاسِدَةً فَمَلَكَ كل واحد مِنْهُمَا لَمْ يَزُلْ عَمَّا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ، فَيَبْنِي عَلَى حَوْلِهِ وَيُزَكِّي عِنْدَ حُلُولِهِ، فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا كَانَ ذَلِكَ كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يُزَكِّيهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَالَ الْمَغْصُوبَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَهَذَا الْمَالُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَهَذَا فِي مقابلته عوض ينتفع به.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا ثُمَّ بَادَلَ بِهَا أو باعها ففيها قولان أحدهما أن مبتاعها بالخيار بين أن يرد البيع بنقص الصدقة أو يجيز البيع ومن قال بهذا قال فإن أعطى رب المال البائع المصدق ما وجب عليه فيها من ماشية غيرها فلا خيار للمبتاع لأنه لم ينقص من البيع شيءٌ والقول الثاني أن البيع فاسدٌ لأنه باع ما يملك وما لا يملك فلا يجوز إلا أن يجددا بيعاً مستأنفاً ".(3/198)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ مَعَهُ نِصَابٌ بَاعَهُ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِ كَأَرْبَعِينَ شَاةً، أَوْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً، أَوْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أو عشرين ديناراً أو مائتي درهم. فهذا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ اشْتِرَاطِ الزَّكَاةِ مِنْهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهَا بَيْعًا مُطْلَقًا، فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إِذَا بَاعَهَا بعد أداء الزكاة عنها فالبيع في جميعها جائز، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ مِنْهَا، وَصَارَ جَمِيعُهَا مِلْكًا لَهُ خَالِصًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ الْجَمِيعُ وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِ دَفْعَ الزَّكَاةِ، فَهَذَا بَيْعٌ بَاطِلٌ، وَشَرْطٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي تَحَمُّلَ الزَّكَاةِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي مُوجِبَ الْعَقْدِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَثْنِيَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مِنَ الْبَيْعِ، وَيُوقِعَ الْعَقْدَ عَلَى مَا سِوَى قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا تَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ كَالْحُبُوبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مُعَيَّنًا أو شايعاً.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَتَفَاضَلُ أَعْيَانُهُ وَلَا تَتَفَاضَلُ أَجْزَاؤُهُ كَالْمَاشِيَةِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَيِّنَ مَا اسْتَثْنَاهُ لِلزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُعَيِّنَ، فَإِنْ عَيَّنَ قَدْرَ الزَّكَاةِ مِنْهَا وَقَالَ: قَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْأَرْبَعِينَ الشَّاةَ إِلَّا هَذِهِ الشَّاةَ وَأَشَارَ إِلَيْهَا فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ لتمييز الْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ قَدْرَ الزَّكَاةِ بَلْ قَالَ بِعْتُكَهَا إِلَّا شَاةً لَمْ يُشِرْ إِلَيْهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْغَنَمِ مِنْ أحد أمرين إما أن تكون مختلفة لأسنان أَوْ مُتَسَاوِيَةً، فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْغَنَمُ فَكَانَ بَعْضُهَا صِغَارًا وَبَعْضُهَا كِبَارًا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لِلْجَهْلِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَسَاوَتِ الْغَنَمُ فِي الْأَسْنَانِ وَتَقَارَبَتْ فِي الْأَوْصَافِ، فَكَانَ جَمِيعُهَا كِبَارًا أَوْ صِغَارًا فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ بِهَذَا الْوَصْفِ شَابَهَتِ الْحُبُوبَ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْأَسْنَانِ فَقَدْ تَخْتَلِفُ فِي السِّمَنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُبُوبُ الْمُتَمَاثِلَةُ الْأَجْزَاءِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي جَعْلِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ صَدَاقًا.(3/199)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَ جَمِيعَهَا بَيْعًا مُطْلَقًا. فهل الأداء من غير ما استثنى فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ، كُلُّ أَصْلٍ مِنْهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّكَاةِ، هَلْ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ؟
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ إذا جمعت شيئين متغايرن حَلَالًا وَحَرَامًا، أَوْ مِلْكًا وَمَغْصُوبًا، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ فَالْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْرُ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي: مَا عَدَا قَدْرَ الزَّكَاةِ فَأَمَّا قَدْرُ الزَّكَاةِ فَفِي بَيْعِهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا لَا تَعَلُّقَ لِلْعَيْنِ بِهَا، فإذا قيل بجواز القدر فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ فَهُوَ فِي الْبَاقِي أَجْوَزُ، وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَفِيمَا عَدَا قَدْرِ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ.
وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، وَلِبُطْلَانِهِ عِلَّتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: إِنَّ اللَّفْظَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَاشِيَةً يَتَقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا، أَوْ حبوباً يقدّر الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهَا.
وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّهُ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً بتقسط الثَّمَنُ عَلَى قِيمَتِهَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ حُبُوبًا يَتَقَدَّرُ الثَّمَنُ عَلَى أَجْزَائِهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، لِأَنَّ مَنْ بَاعَ قَفِيزَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكٌ وَالْآخَرُ مَغْصُوبٌ بِدِرْهَمَيْنِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ ثَمَنَ الْمَمْلُوكِ دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِيهِ جَهَالَةٌ، وَلَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكٌ وَالْآخَرُ مَغْصُوبٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَثَمَنُ الْمَمْلُوكِ مَجْهُولٌ، لِأَنَّ الْأَلْفَ يَتَقَسَّطُ عَلَى قِيمَتِهِمَا، فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ وَكَانَ الْمَبِيعُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفَسْخِ لِدُخُولِ النَّقْصِ وَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ الْمَبِيعُ إِلَى الْبَائِعِ وَالثَّمَنُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ أَقَامَ فَهَلْ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ وَقَسَّطَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:(3/200)
أَحَدُهُمَا: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ كَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا فَقُطِعَتْ يَدُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَلِلْمُشْتَرِي أَخْذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِلَّا فُسِخَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ وَقِسْطُهُ مِنْ ثَمَنِهِ، كَمَنِ ابْتَاعَ قَفِيزَيْنِ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا أَخَذَ الْبَاقِيَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ، وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْجَمِيعِ نُظِرَ فَإِنْ أَخْرَجَ الْبَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ لَزِمَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ مَالِهِ حَتَّى أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنَ الْمَالِ الْمَبِيعِ بَطُلَ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَقِيَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا مضى وهو مذهب أبي إسحاق لِأَنَّهُ يَجْعَلُ حُدُوثَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ حُدُوثَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ، بَلْ لا تفرق الصفقة في الحادث، قولاً واحداً لعدم العلتين في جواز بُطْلَانِهِ، ثُمَّ عَلَى مَا مَضَى.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْبَيْعُ فِيمَا بَقِيَ جَائِزٌ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّنَا أَبْطَلْنَا بَيْعَ مَا بَقِيَ هُنَاكَ، إِمَّا لجهالة الثمن، أو لأن اللفظة جمعت حلالان وحراماً وهما معدودان فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ جَمَعَ حَلَالًا كُلَّهُ وَالثَّمَنُ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا سَقَطَ بَعْضُهُ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ بَاعَ بَعْضَ مَالِهِ الَّذِي وَجَبَتْ زَكَاتُهُ، فَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ في الجميع فهاهنا أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الجميع فهاهنا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ، لِأَنَّ قَدْرَ الزَّكَاةِ غَيْرُ ممتنع.
وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَشَائِعٌ فِيهِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَانَ حُكْمُ بَعْضِهِ كَحُكْمِ جَمِيعِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ شَاةً بِأَعْيَانِهَا فَقَبَضَتْهَا أَوْ لم تقبضها وحال عليها الحول فأخذت صدقتها ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصف الغم وبنصف قيمة التي وجبت فيها وكانت الصدقة من حصتها من النصف ولو أدت عنها من غيرها رجع عليها بنصفها لأنه لم يؤخذ منها شيء هذا إذا لم تزد ولم تنقص وكانت بحالها يوم أصدقها أو يوم قبضتها منه ولو لم تخرجها بعد الحول حتى أخذت نصفها فاستهلكته أخذ من النصف الذي في يدي زوجها شاة ورجع عليها بقيمتها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أحدهما: أن تكون موصوفة.(3/201)
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَيْنًا حَاضِرَةً فَإِنْ كَانَتْ موصوفة بالذمة، فَلَا زَكَاةَ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَإِنْ مَلَكَتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ، وَلَوْ أَصْدَقَهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَكَانَ الزوج ملياً بها لزمها الزَّكَاةُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ لَا يَصِحُّ وُجُودُهُ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ السَّوْمُ شَرْطًا فِي الدَّرَاهِمِ فَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ الصداق عيناً حاضراً كَأَنَّهُ أَصْدَقَهَا أَرْبَعِينَ بِأَعْيَانِهَا فَقَدْ مَلَكَتْهَا الزَّوْجَةُ بِالْعَقْدِ مِلْكًا تَامًّا، لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهَا مَا فِي مُقَابَلَتِهِ وَهُوَ الْبُضْعُ، فَاقْتَضَى أن تملك عوضه، وإن مَلَكَتْ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِالْعَقْدِ، جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الزكاة، واستؤنف له الْحَوْلِ مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي قَبْضِ الزَّوْجَةِ أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَلْزَمُهَا زَكَاتُهُ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ، فَإِذَا قَبَضَتْهُ اسْتَأْنَفَتْ حَوْلَهُ، وَهَذَا غَلَطٌ، لأن يد الزوج على الصداق لا يمنع مِنْ تَصَرُّفِهَا فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِهِ كَالْمَقْبُوضِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَالْمَقْبُوضِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ الْحَوْلِ جَارٍ عَلَى صَدَاقِهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الزَّوْجِ أَوْ فِي يَدِهَا فَمَا لَمْ يُطَلِّقْهَا الزَّوْجُ فَلَا مَسْأَلَةَ، وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَخْلُ حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ من الصداق والغنم التي أصدق عَلَى مِلْكِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ مَا أَصْدَقَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفً مَا فَرضْتُمْ) {البقرة: 237) فَإِذَا وَجَبَ لَهُ الرُّجُوعُ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لَمْ يَخْلُ حَالُ طَلَاقِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حلول الحول أو بعده، فإذا كَانَ قَبْلَ الْحُلُولِ فَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ نِصْفَ الصَّدَاقِ وَبَقِيَ لَهَا نِصْفُهُ، وَبَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ إِنِ اقْتَسَمَا، وَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ، إِلَّا أن يكون مالكاً لهما من النصاب، وإن لم يقتسمها كَانَا خَلِيطَيْنِ فِي نِصَابٍ يُزَكِّيَانِهِ بِالْخُلْطَةِ، إِلَّا أَنَّ حَوْلَ الزَّوْجَةِ أَسْبَقُ مِنْ حَوْلِهِ فَتَكُونُ كمن له أربعون شاة أقامت بيده لستة أَشْهُرٍ ثُمَّ بَاعَ نِصْفَهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، فَهَذَا إِنْ كَانَ طَلَاقُ الزَّوْجِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَ طَلَاقُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَقَدْ وَجَبَتْ زَكَاةُ الغنم على الزوجة لحلول الْحَوْلِ، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا تُخْرِجُ عَنْهَا. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهَا، وَالثَّانِي أَنْ تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا، والثالث أن لا تُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهَا. فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي أَصْدَقَ لِوُجُودِ الصَّدَاقِ بِكَمَالِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ نِصْفَهُ بِطَلَاقِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدِ اسْتَحَقَّ المساكين(3/202)
مِنْهَا شَاةً إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ، فَإِذَا أَعْطَتْ بَدَلَ تِلْكَ الشَّاةِ مِنْ مَالِهَا فَقَدِ اسْتَحْدَثَتْ مِلْكَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ فَلَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ بِنِصْفِهَا، كَالْأَبِ إِذَا وَهَبَ لِابْنِهِ مَالًا فَبَاعَهُ ثُمَّ ابْتَاعَهُ لَمْ يَرْجِعِ الْأَبُ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ:
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَبَ يَرْجِعُ بِمَا وَهَبَ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَلَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ إِنْ كَانَ تَالِفًا، وَبَيْعُ الِابْنِ إِتْلَافٌ يُبْطِلُ الرُّجُوعَ، وَابْتِيَاعُهُ اسْتِحْدَاثُ مِلْكٍ فَلَمْ يُوجِبِ الرُّجُوعَ وَلِلزَّوْجِ أَنْ يرجع بما أصدق إن كان موجوداً، وببدله إِنْ كَانَ تَالِفًا، فَإِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مَوْجُودَةً وَالرُّجُوعُ لَمْ يَبْطُلْ كَانَ الرُّجُوعُ بِهَا أَوْلَى مِنَ الْعُدُولِ إِلَى بَدَلِهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ قَدْ أَدَّتِ الزَّكَاةَ مِنْهَا، فَطَلَّقَ الزوج وهي تسعة وَثَلَاثُونَ شَاةً، فَفِي كَيْفِيَّةِ رُجُوعِ الزَّوْجِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ
أَحَدُهَا: أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْمَوْجُودِ بِقِيمَةِ نِصْفِ الْأَرْبَعِينَ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الْقِيمَةِ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، فَإِذَا أَمْكَنَ الرُّجُوعُ إِلَى الْعَيْنِ وَأَخَذَ نِصْفَ الصَّدَاقِ مِنْهَا فَلَا مَعْنَى لِلِاجْتِهَادِ وَالْعُدُولِ إِلَى الْقِيمَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الشَّاةِ التَّالِفَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنَ " الْأُمِّ " لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ مَوْجُودًا رَجَعَ بِنِصْفِهِ، وَلَوْ كَانَ تَالِفًا رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُ مَوْجُودًا وَبَعْضُهُ تَالِفًا أَنْ يَعْتَبِرَ حُكْمَ مَا كَانَ مَوْجُودًا بِحُكْمِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِهِ، وَحُكْمُ مَا كَانَ مِنْهُ تَالِفًا بِحُكْمِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرُّجُوعِ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ ونصف قِيمَةِ التَّالِفِ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ نِصْفِ الْمَوْجُودِ وَيَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَمِيعِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي رُجُوعِهِ بِنِصْفِ الْمَوْجُودِ وَنِصْفِ قِيمَةِ التَّالِفِ تَفْرِيقًا لِصَفْقَتِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ عَيْبًا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ زَكَاتُهَا بَاقِيَةً لَمْ تُخْرِجْهَا بَعْدُ فَيُمْنَعَانِ مِنَ الْقِسْمَةِ حَتَّى تُخْرِجَ عَنْهَا الزَّكَاةَ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهَا، فَإِنْ أَخْرَجَتْ زَكَاتَهَا مِنْ غَيْرِهَا اقتسماها على ما مضى، فإن أَخْرَجَتْ زَكَاتَهَا مِنْهَا كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنِ اقْتَسَمَاهَا قَبْلَ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا فَفِي الْقِسْمَةِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ؟
أَحَدُهُمَا: الْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ، إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي الْعَيْنِ، لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ شُرَكَاءُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ، وَإِذَا اقْتَسَمَ شَرِيكَانِ مِنْ ثَلَاثَةٍ لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ، فَعَلَى هَذَا يُوقَفُ أَمْرُهَا حَتَّى تُؤَدَّى زَكَاتُهَا، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا مَضَى.(3/203)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ وَارْتِهَانِ الْعَيْنِ بِهَا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْقِسْمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ضَرَرٌ بِالْمُرْتَهِنِ، فَعَلَى هَذَا لا تخلو حالها عِنْدَ مُطَالَبَةِ الْوَالِي بِالزَّكَاةِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا، أَوْ تَالِفًا مِنْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ بَاقِيًا، وَمَا فِي يَدِ الزَّوْجِ تَالِفًا، أَوْ مَا فِي يَدِ الزوجة تالفا وما في يد الزوج باقيا.
فَالْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا، فَيَأْخُذُ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ عَلَيْهَا وَجَبَتْ، فَإِذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْهَا اسْتَقَرَّ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَى مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَالِفًا مِنْهُمَا جَمِيعًا، فَأَيُّهُمَا يُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْوَالِيَ يُطَالِبُ الزَّوْجَةَ بِهَا دُونَ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهَا اسْتَقَرَّ.
وَالثَّانِي: إِنَّ لِلْوَالِي مُطَالَبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِيمَا كَانَ بِأَيْدِيهِمَا، فَإِنْ طَالَبَ الزَّوْجَةَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا إلى الزَّوْجِ، وَإِنْ طَالَبَ الزَّوْجَ وَأَغْرَمَهُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الزَّوْجَةِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ بَاقِيًا وَمَا فِي يَدِ الزَّوْجِ تَالِفًا فَيَأْخُذُ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجَةِ، وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِ.
وَالْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الزوجة تالفاً، وما في الزَّوْجِ بَاقِيًا، فَيَأْخُذُ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَجَبَ أَخْذُهَا مِنَ الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ، فَإِذَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِمَّا بِيَدِهِ فَهَلْ تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْقِسْمَةَ تَبْطُلُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْوَالِيَ إِنَّمَا أَخَذَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ فَصَارَ قَدْرُ الزَّكَاةِ كَالْمُسْتَحَقِّ مِنْهَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا بَطَلَتِ الْقِسْمَةُ فَهُوَ بِمَثَابَةِ وُجُودِ الزَّوْجِ بَعْضَ الصَّدَاقِ وَعَدَمِ بَعْضِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَبْطُلُ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجَةِ، وَأَخْذُ الْوَالِي كَانَ بَعْدَ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ فَلَمْ يَكُنِ الْأَخْذُ الْحَادِثُ مُبْطِلًا لِلْقِسْمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كما لو أتلفت الزوجة شاة فما حَصَلَ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِالْقِسْمَةِ، فَعَلَى هَذَا لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجَةِ بِقِيمَةِ الشَّاةِ المأخوذة إن كانت مثل ما وجب عليها، فَإِنْ كَانَ الْوَالِي قَدْ أَخَذَ مِنْهُ أَفْضَلَ مِنَ الْوَاجِبِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِالْفَضْلِ الَّذِي ظَلَمَهُ الْوَالِي بِهِ.(3/204)
بَابُ رَهْنِ الْمَاشِيَةِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو رهنه مَاشِيَةً وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ أُخِذَتْ مِنْهَا وَمَا بَقِيَ فَرَهْنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا كَانَ مَعَ رَجُلٍ نِصَابٌ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ، كَأَرْبَعِينَ شَاةً حَالَ حَوْلُهَا، فَرَهَنَهَا قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا فَهُوَ كَالْبَيْعِ عَلَى مَا مَضَى، فَيَكُونُ الرَّهْنُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الرَّهْنَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ فَهُوَ فِي الْبَاقِي أَجْوَزُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بَاطِلٌ فهو يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَالرَّهْنُ فِي الْبَاقِي جَائِزٌ، وَإِنْ قيل تفريق الصفقة لا يجوز ففي ببطلان رَهْنِ الْبَاقِي وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ عِلَّةِ هذا القول، فإن قيل العلة فيه جَهَالَةُ الثَّمَنِ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ لَا ثَمَنَ فِيهِ، وَإِنْ قِيلَ الْعِلَّةُ فِيهِ أَنَّ الْعَقْدَ جَمَعَ حَلَالًا وَحَرَامًا فَرَهْنُ الْبَاقِي بَاطِلٌ، فَلَوْ أَخَذَ الْوَالِي الزَّكَاةَ مِنْهَا بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَكُونُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي عَلَى نَحْوِ مَا مَضَى فِي الْبَيْعِ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو باعه بيعاً عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ إِيَّاهَا كَانَ لَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ كَمَنْ رَهَنَ شَيْئًا لَهُ وَشَيْئًا لَيْسَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا شَرَطَ رَهْنَ الْغَنَمِ الَّتِي حَالَ حَوْلُهَا فِي عقد بيع فَإِنْ قِيلَ رَهْنُ الْجَمِيعِ جَائِزٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، ولا خيار للبايع لِحُصُولِ الرَّهْنِ لَهُ عَلَى مَا شَرَطَهُ، وَإِنْ قِيلَ الرَّهْنُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بَاطِلٌ وَفِي الْبَاقِي جَائِزٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ، لَكِنْ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُمْضِيَ الْبَيْعَ بِرَهْنِ الْبَاقِي وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ لِنُقْصَانِ الرَّهْنِ، وَإِنْ قِيلَ بِبُطْلَانِ الرَّهْنِ فِي الْجَمِيعِ فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ:(3/205)
أحدهما: باطل كبطلان الرَّهْنِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ مُلْحَقٌ بِالْبَيْعِ كَالْأَجَلِ، وَفَسَادُ الأجل مبطل للبيع كذلك الرَّهْنُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْبَيْعَ لَا يَبْطُلُ، لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجُوزُ إِفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبُطْلَانُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ لَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْآخَرِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْبَيْعِ بِلَا رَهْنٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ لِفَوَاتِ الرَّهْنِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو حال عليها حول وجبت فيها الصدقة فَإِنْ كَانَتْ إِبِلًا فَرِيضَتُهَا الْغَنَمُ بِيعَ مِنْهَا فاستوفيت صَدَقَتُهَا وَكَانَ مَا بَقِيَ رَهْنًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا رَهَنَ مَاشِيَةً قَبْلَ حَوْلِهَا فَرَهْنُهَا صَحِيحٌ، وَتَجْرِي فِي الْحَوْلِ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهَا وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّ مِلْكَ الرَّاهِنِ عَلَيْهَا تَامٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ، وَنُقْصَانُ التَّصَرُّفِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ الدَّيْنِ الْمَرْهُونِ بِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَالًّا، أَوْ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ حَالًا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ، فَدَفَعَهَا الرَّاهِنُ مِنْ مَالِهِ، كَانَ الرَّهْنُ بِحَالِهِ وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ مَالِهِ، وَامْتَنَعَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ رَهْنِهِ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا بِهَا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهَا مِنْ مَالِهِ، لِأَنَّهَا مِنْ مُؤْنَةِ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَ معسراً بها فعلى قولين: إن قيل الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ بُدِئَ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَقُدِّمَتْ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا فِي الذمة بدأ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَكَانَتِ الزَّكَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّكَاةِ وَالدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ حَوْلُ الزَّكَاةِ أَسْبَقَ مِنْ حَوْلِ الدَّيْنِ، فَيَبْدَأُ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهَا قَبْلَ الدَّيْنِ، إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ الرَّاهِنُ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهَا، فَيَكُونُ الرَّهْنُ عَلَى جُمْلَتِهِ، وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنَ الرَّهْنِ، لِأَنَّ وُجُوبَهَا أَسْبَقُ من وجوب الدين، فكانت أحق بالتقدمة، وإذا أُخِذَتِ الزَّكَاةُ بَطَلَ الرَّهْنُ فِيهَا، وَكَانَ الرَّهْنُ ثَابِتًا فِي الْبَاقِي، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي فسخ البيع لنقصان الرهن، لِأَنَّ هَذَا النُّقْصَانَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فِي يَدِهِ، كَمَا لَوِ ارْتَهَنَ عَبْدًا فَقُتِلَ فِي يَدِهِ بِرِدَّةٍ، أَوْ قُطِعَ بِسَرِقَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يكون حلول الدين أسبق من حلول الزَّكَاةِ، فَيُقَدِّمُ الدَّيْنَ لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِهِ، فَإِنْ بِيعَ الرَّهْنُ قَبْلَ الْحَوْلِ فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَيُطَالَبُ بِهَا الرَّاهِنُ لِأَنَّهَا مِنْ مُؤْنَةِ الرَّهْنِ كَالسَّقْيِ، وَالْعُلُوفَةِ، وَأُجْرَةِ الرُّعَاةِ، وَالْحَفَظَةِ.(3/206)
والقسم الثالث: أن يكون حلول الدين وحلول الزَّكَاةِ مَعًا لَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا بِهَا قَادِرًا عَلَى دَفْعِهَا مِنْ غَيْرِ الرَّهْنِ أُخِذَتْ مِنْ ماله وكان الرهن معروفاً فِي دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ غَيْرَ الرَّهْنِ وَلَا يَمْلِكُ سِوَاهُ فَهَلْ يَبْدَأُ بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ أَوْ بِدَيْنِ الْمُرْتَهِنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ، وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي الذِّمَّةِ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمُرْتَهِنِ، وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ ثَالِثٌ إِنَّهُمَا سواء ويقسط ذلك بينهما.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وما نتج منها خارجاً من الرهن ولا يباع منها مَاخِضٌ حَتَّى تَضَعَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الرَّاهِنُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ وإنما ذكرهما في غير الْمَوْضِعِ لِتَعَلُّقِهِمَا بِمَا قَبْلَهُمَا، فَإِذَا رَهَنَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ أَوْ مَاشِيَةً فَنَتَجَتْ فَالْوَلَدُ وَالنِّتَاجُ خَارِجٌ مِنَ الرَّهْنِ، وَقَالَ أبو حنيفة يَكُونُ ذَلِكَ رَهْنًا تَبَعًا لِأَصْلِهِ وَسَنَذْكُرُ الْحِجَاجَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ النِّتَاجُ تَابِعًا لِلْأُمَّهَاتِ فِي الزَّكَاةِ فَهَلَّا كَانَ تَابِعًا لَهَا فِي الرَّهْنِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدٌ وَالنِّتَاجَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ، وَالزَّكَاةُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ وَالنِّتَاجُ دَاخِلٌ فِي الْمِلْكِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّتَاجَ لَا يَدْخُلُ في الرهن انتقل الكلام إلى الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَا تُبَاعُ مَاخِضٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَهَا مُقَدِّمَةٌ، وَهِيَ اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ هَلْ يَكُونُ تَبَعًا أَوْ يُأْخَذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ؟ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ إِنَّهُ يَكُونُ تَبَعًا لَا حُكْمَ لَهُ بِنَفْسِهِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْأُمِّ يَسْرِي إِلَيْهِ كَمَا يَسْرِي إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يَسْرِي إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مُنْفَصِلًا فَعُلِمَ أَنَّهُ قَبْلَ الِانْفِصَالِ يَكُونُ تَبَعًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ وَيُفْرَدُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ عِتْقَ الْحَمْلِ لَا يَسْرِي إِلَى عِتْقِ أُمِّهِ، وَلَوْ كَانَ كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا لَسَرَى عِتْقُهُ إِلَى عنقها.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ تكون الماشية المرهونة حَوَامِلَ وَيَأْبَى الرَّاهِنُ الْبَيْعَ حَتَّى تَضَعَ، ثُمَّ يَبِيعُهَا حَوَامِلَ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ وَحُلُولِ الْحَقِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أن تكون حوامل في الحالين، أو حوامل في الحالين، حوايل فِي الْوَسَطِ أَوْ حَوَامِلَ عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، حوايل عند حلول الحق، أو حوايل عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ حَوَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ.(3/207)
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَوَامِلُ وَيَحِلَّ الْحَقُّ وَهِيَ أَيْضًا حَوَامِلُ فَالْوَاجِبُ أَنْ تباع وهي حوامل، سواء قيل إن الحمل تبع أوله قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ تَبَعًا فِي الْعَقْدِ كَانَ تَبَعًا لِلْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ كَانَ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ، لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وهي حوايل ثم تحمل وتضع ويحل الحق وهي حوايل، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُبَاعَ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّتَاجِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وَهِيَ حَوَامِلُ ثُمَّ تَضَعُ وَيَحُلُّ الحق وهي حوايل فَهَلْ تُبَاعُ مَعَ الْأُمَّهَاتِ أَمْ لَا؟ عَلَى قولين: إن قِيلَ: إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنِ الرَّهْنِ لَا تُبَاعُ مَعَ الْأُمَّهَاتِ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ اتِّصَالِهَا تَبَعًا، فَإِذَا انْفَصَلَتْ لم تكن تبعاً وإن قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَنْفَرِدُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ وَيَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الْعَقْدِ بِيعَتْ مَعَ الْأُمَّهَاتِ لِاشْتِمَالِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا وهي حوايل ويحيل الْحَقُّ وَهِيَ حَوَامِلُ فَهَلْ تُبَاعُ وَهِيَ حَوَامِلُ أَمْ حَتَّى تَضَعَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: إِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ بِيعَتْ حَوَامِلُ، فَإِنْ تَأَخَّرَ بَيْعُهَا حَتَّى وَضَعَتْ لَمْ يُبَعِ الْحَمْلُ مَعَهَا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الْعَقْدِ وَيَنْفَرِدُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ لَمْ تُبَعْ وَهِيَ حَوَامِلُ حَتَّى تَضَعَ، فَإِذَا وَضَعَتْ بِيعَتْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا دُونَ حَمْلِهَا، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَبِيعَهَا مَعَ حَمْلِهَا، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ إِلَى حِينِ الْوَضْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(3/208)
باب زكاة الثمار
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ عَنِ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أوسقٍ مِنَ التَّمْرِ صدقةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمُنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} (البقرة: 267) فأوجب بأمره الإنفاق مما أخرج مِنَ الْأَرْضِ، وَالثِّمَارُ خَارِجَةٌ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) {البقرة: 267) فَدَلَّ على أن المراد بالنفقة الصدقة الَّتِي يَحْرُمُ إِخْرَاجُ الْخَبِيثِ فِيهَا، وَلَوْ لَمْ يُرِدِ الصَّدَقَةَ لَجَازَ إِخْرَاجُ خَبِيثِهَا وَطَيِّبِهَا وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ.
فَرِوَايَةُ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا سَقَتِ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ فَنِصْفُ الْعُشْرِ ".
وَالثِّمَارُ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ السَّقْيِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي عُمُومِ الْوُجُوبِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وجوبها، وإن اختلفوا في قدر ما يجب فيه.(3/209)
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فِي الثِّمَارِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي ثَمَرِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ دُونَ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الثِّمَارِ، إِذَا بَلَغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا، وَلَا شيء فيما دُونَ ذَلِكَ. هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وأبو يوسف، ومحمد، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْعُشْرُ وَاجِبٌ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَبِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِيمَا سَقَتِ الْسَمَاءُ الْعُشْرُ ".
وَرِوَايَتُهُ عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ رَجُلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَا سَقَتِ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ فَنِصْفُ العشرِ " فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ الْحَوْلُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ النِّصَابُ، كَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَالرِّكَازِ، وَلِأَنَّ لِلزَّكَاةِ شَرْطَيْنِ الْحَوْلُ، وَالنِّصَابُ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْحَوْلُ فِي الثِّمَارِ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ فيها معتبراً.
وتحريره قياساً: أن أَحَدُ شَرْطَيِ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي الثِّمَارِ كَالْحَوْلِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ابتدائه وقص يعفى عنه لكان في انتهائه وَقْصٌ يُعْفَى عَنْهُ كَالْمَاشِيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي أَثْنَائِهِ عَفْوٌ اقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهِ عَفْوٌ.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صدقةٌ " فَتَعَلَّقَ الْخَبَرُ بِنَفْيِ الصَّدَقَةِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَدَلِيلُهُ بينها فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَمَا زَادَ، وَهُوَ مَوْضِعُ وِفَاقٍ، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ وَجَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي زرعٍ وَلَا نخلٍ وَلَا كرمٍ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ".
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي شيءٍ مِنَ الحرثِ حتى يبلغ خمسة أوسقٍ فذا بَلَغَ خَمْسَةَ أوسقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ " وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا وَهَذِهِ نُصُوصٌ لَا(3/210)
احْتِمَالَ فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: مَا دُونَ الْخَمْسَةِ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِيهِ العشر ألا ترى أنا نأخذه من المكاتب والذمي وإن لم تؤخذ مِنْهُمَا الزَّكَاةَ، قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِتَسْمِيَةِ الْعُشْرِ زَكَاةً، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَرْثِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى عَمَّا دُونَ الْخَمْسَةِ، مَا أَثْبَتَهُ فِي الْخَمْسَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَأْوِيلُهُمْ وَلِأَنَّهُ جِنْسُ مال تجب فيه الزكاة فوجب أن يعتبر فيه النصاب كالفضة والذهب، ولأنه حق مَالٍ يَجِبُ صَرْفُهُ فِي الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ النِّصَابُ كَالْمَوَاشِي، وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِمَالٍ مَخْصُوصٍ اعْتُبِرَ فِيهِ قَدْرٌ مخصوص كالذهب وَالْفِضَّةِ وَعَكْسُهُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّ النِّصَابَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ فِي الْمَوَاشِي لِيَبْلُغَ الْمَالُ حَدًّا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الثِّمَارِ، فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ فَعَامٌّ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَخَصُّ، وَأَمَّا الْخَبَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ (فِيمَا سَقْتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ) فَعَنْهُ جَوَابَانِ: تَرْجِيحٌ وَاسْتِعْمَالٌ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ " بَيَانٌ فِي الْإِخْرَاجِ مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ، وَقَوْلُهُ: " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ " بَيَانٌ فِي الْمِقْدَارِ مُجْمَلٌ فِي الْإِخْرَاجِ، فَكَانَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ من خبرنا قاضياً على إجمال المقدار من خبرهم، كما أن بيان الإخراج من خبرهم قاض على إجمال الإخراج من خَبَرِنَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ خَبَرَهُمْ مُتَّفَقٌ عَلَى تَخْصِيصِ بَعْضِهِ لِأَنَّ أبا حنيفة لَا يُوجِبُ فِي الْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالْحَطَبِ وَلَا فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ شيئاً، وخبرنا خبر متفق على تخصيص بعضه، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ خَبَرِهِمْ.
وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَفِي الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ وَخَبَرُنَا أَخَصُّ فَيُسْتَعْمَلَانِ مَعًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خُمْسِ الْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ، فَالْمَعْنَى فِي الْغَنِيمَةِ: إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرِ النِّصَابُ فِي شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهَا بِحَالٍ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِيهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَلَمَّا كَانَ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا فِي بَعْضِ أَجْنَاسِ الزَّكَاةِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي جَمِيعِ أَجْنَاسِهَا.
وَأَمَّا الرِّكَازُ فَالْمَعْنَى فِيهِ: إنَّهُ مَأْخُوذٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا تَعَبٍ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ النِّصَابُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثِّمَارُ الَّتِي يَلْحَقُ فِيهَا تَعَبٌ وَيَلْزَمُ فِيهَا عِوَضٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَوْلِ فَمُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِهِمْ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، يَعْتَبِرُونَ فِيهَا النِّصَابَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْحَوْلَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحَوْلِ إنَّهُ قصد به تكامل النماء، وَالثِّمَارُ يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الحول(3/211)
فِي الثِّمَارِ [وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي غَيْرِهَا، وَالنِّصَابُ إِنَّمَا اعْتُبِرَ لِيَبْلُغَ الْمَالُ قَدْرًا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الثِّمَارِ] كَوُجُودِهِ فِي غَيْرِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ فِي ابتدائها عفو لكان في انتهائها عَفْوٌ فَمُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِنَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمَوَاشِي حَيْثُ دَخَلَ الْعَفْوُ في أثناء نصبها لأن إيجاب الكثير فِي جَمِيعِ الزِّيَادَةِ مَشَقَّةٌ تَلْحِقُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ وأهل السهمان وليس كذلك في الزروع والثمار.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فبهذا نأخذ والوسق ستون صاعاً بصاع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أمدادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بأبي هو وأمي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ:
إِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْخَمْسَةِ فَصَاعِدًا، وَاعْتِبَارُهَا وَقْتَ الِادِّخَارِ لَا وَقْتَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَالْخَمْسَةُ الْأَوْسُقِ تُعْتَبَرُ بِحَالِ الِادِّخَارِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ مِمَّا تَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ تَمْرًا، وَالْكَرْمُ مِمَّا يَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ زبيباً، والزرع ما يَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ حَبًّا، فَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ رُطَبًا وَعِنَبًا يَصِيرُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فَأَمَّا الْوَسْقُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: حِمْلُ الْبَعِيرِ وَالنَّاقَةِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(أَيْنَ الشِّظَاظَانِ وَأَيْنَ الْمرْبَعَة؟ ... وأين وسق الناقة الجلنقعه؟)
إِلَّا أَنَّ الْوَسْقَ فِي الشَّرِيعَةِ: سِتُّونَ صَاعًا بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمُدُّ: رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ، فَتَكُونُ الْخَمْسَةُ الْأَوْسُقِ ثَلَاثَمِائَةِ صَاعٍ، وَهِيَ أَلْفُ مُدٍّ وَمِائَتَا مُدٍّ، وألف وَسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ذَلِكَ تَحْدِيدٌ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِزِيَادَةِ رِطْلٍ وَنُقْصَانِهِ أَوْ تقريب لا يؤثر فيه نقصان رطل أو رطلين؟ على وجهين:
أحدهما: تقريب؛ لأن الوسق عِنْدَهُمْ حِمْلُ النَّاقَةِ وَإِنَّمَا قُدِّرَ بِالْآصُعِ تَقْرِيبًا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ تَحْدِيدٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا " فَحَدَّهُ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا أبو حنيفة فَإِنَّهُ وَافَقَنَا أَنَّ الْوَسْقَ سِتُّونَ صاعاً، والصاع: أربعة أمداد، وإنما خالف في قدر المد والصاع، فَقَالَ الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَالْمُدُّ رِطْلَانِ، وَسَنَذْكُرُ الحجاج له وعليه فِي مَوْضِعِهِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِنْ شَاءَ الله.(3/212)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " والخليطان في أصل النَّخْلِ يُصَدَّقَانِ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْخُلْطَةِ فِيمَا عَدَا الْمَوَاشِي مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا تَصِحُّ الْخُلْطَةُ فِيهَا، وَإِنَّمَا تَصِحُّ فِي الْمَوَاشِي دُونَ مَا عَدَاهَا، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ الْخُلْطَةُ فِي غَيْرِ المواشي كالخلطة في المواشي، وذكر تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي رُوعِيَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي مِنَ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ صَحَّتْ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ وَهِيَ الشَّرِكَةُ، وَهَلْ تَصِحُّ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا لَا تَصِحُّ حَتَّى يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي أَصْلِ النَّخْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تَصِحُّ إِذَا تَلَاصَقَتِ الْأَرْضَانِ وَكَانَ شِرْبُهُمَا وَاحِدًا وَالْقَيِّمُ بِهِمَا واحداً وفحول لقاحهما واحدة، وهذا الْوَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْخُلْطَةِ فِي الْمَاشِيَةِ بِالْأَوْصَافِ مَعَ تَمَيُّزِ الْأَمْوَالِ، هَلْ سُمُّوا خُلَطَاءَ لُغَةً أَوْ شَرْعًا؟ فَمَنْ قَالَ سُمُّوا خُلَطَاءَ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ هاهنا.
وَمَنْ قَالَ سُمُّوا خُلَطَاءَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ جوز الخلطة هاهنا.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن وَرِثُوا نَخْلًا فَاقْتَسَمُوهَا بَعْدَمَا حَلَّ بَيْعُ ثَمَرِهَا فِي جَمَاعَتِهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ لِأَنَّ أول وجوبها كان وهم شركاء اقْتَسَمُوهَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بَيْعُ ثَمَرِهَا فَلَا زكاة على أحدٍ منهم حتى تبلغ حصته خمسة أوسق (قال المزني) هذا عندي غير جائز في أصله لأن القسم عنده كالبيع ولا يجوز قسم التمر جزافاً وإن كان معه نخلٌ كما لا يجوز عنده عرض بعرضٍ مع كل عرضٍ ذهبٌ تبعٌ له أو غير تبعٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ نَخْلًا مُثْمِرًا قَدْرُ ثَمَرَتِهَا خَمْسَةُ أوسق فأكثر، فَلَا يَخْلُو حَالُ مَوْتِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا، وَعَلَى الْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا عَنْهُ وَقْتَ صِرَامِهَا، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ الِاقْتِسَامُ لَهَا قَبْلَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْهَا، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهَا، فإن اقتسموا قبل إخراج زكاتها كان في الْقِسْمَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ.(3/213)
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا جَاءَ السَّاعِي مُطَالِبًا بِالزَّكَاةِ لَمْ تخل حال حصصهم من الثمر مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حِصَصُ جَمِيعِهِمْ بَاقِيَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حِصَصُ جَمِيعِهِمْ تَالِفَةً.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ حِصَصُ بَعْضِهِمْ بَاقِيَةً وحصص بعضهم تالفة، فإن كانت حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الزَّكَاةَ بِقِسْطِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ حِصَّةُ بَعْضِهِمْ بَاقِيَةً وَحِصَصُ الْبَاقِينَ تَالِفَةً أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنَ الْحِصَّةِ الْبَاقِيَةِ وَرَجَعَ صَاحِبُهَا عَلَى مَا فِي يَدِ شُرَكَائِهِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ: إِنَّ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْقِسْمَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّدَاقِ، وَإِنْ كانت حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَالِفَةً نُظِرَ، فَإِنْ كان للميت تركة سوى الزكاة يتسع لِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهَا أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَلَا مُطَالَبَةَ لَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي ذِمَّتِهِ، فَكَانَ الرُّجُوعُ بِهَا فِي تَرِكَتِهِ أَوْلَى مِنَ الرُّجُوعِ بِهَا عَلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُ الْمَالِ الْمُزَكَّى مِنْ جِهَتِهِمْ، لأن أخذها من تركته أنقص كَمَا لَوْ تَرَكَ دَيْنًا وَعَيْنًا وَجَبَ الرُّجُوعُ بِهَا فِيمَا تَرَكَ مِنَ الْعَيْنِ دُونَ مَا خلف دون الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكِ الْمَيِّتُ سِوَى الثَّمَرَةِ الَّتِي اقْتَسَمَ بِهَا الْوَرَثَةُ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ مُوسِرِينَ بِهَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُوسِرًا بِهَا وَبَعْضُهُمْ مُعْسِرًا أَخَذَ مِنَ الْمُوسِرِ، وَكَانَ دَيْنًا لِلْمُوسِرِ عَلَى شُرَكَائِهِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ كما لو بقيت حصة أحدهم.
فَصْلٌ
: وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِلْوَرَثَةِ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَسِمُوا الثَّمَرَةَ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْتَسِمُوهَا فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمُوهَا وَهِيَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَعَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي لَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَعَلَى الْجَدِيدِ حَيْثُ جَوَّزَ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي نِصَابٍ، وَإِنِ اقْتَسَمُوهَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَسِمُوهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ قِسْمَةً جَائِزَةً، فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ وَيُرَاعَى حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْتَسِمُوهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَعَلَى الْقَدِيمِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ، فَعَلَى هَذَا الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَعَلَى الْجَدِيدِ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي نِصَابٍ، فَعَلَى هَذَا فِي قِسْمَتِهِمْ قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ مُخرجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ عَلَى مَا مَضَى.(3/214)
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ حَالَ قِسْمَتِهِمْ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَبَعْدَهُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى أَصْلِهِ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ وَبَيْعُ الثِّمَارِ بِالثِّمَارِ جُزَافًا لَا يَجُوزُ، فَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ، قَالَ ولأن أَجَازَهَا لِأَنَّ مَعَهَا جُذُوعًا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا كَمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ ثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ بِثَوْبٍ وَدِرْهَمٍ، سَوَاءٌ كَانَ مَا فِيهِ الرِّبَا تَبَعًا لَهُ أَوْ غَيْرَ تَبَعٍ، فَهَذَا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ إِنَّ لِلشَّافِعِيِّ فِي القسمة قولين:
أحدهما: أنه إقرار حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ قَالَهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ، فعلى هذا يجوز قِسْمَةُ الثِّمَارِ بِالثِّمَارِ كَيْلًا وَوَزْنًا وَجُزَافًا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ سَقَطَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنها تبع فَعَلَى هَذَا قَدْ تَصِحُّ قِسْمَةُ ثِمَارِ النَّخْلِ بَيْنَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ يَسْقُطُ بِهَا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ وإنكاره على الشافعي تصور هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَصْحِيحَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ صَحَّتِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ نَخْلٌ مُثْمِرٌ وَعُرُوضٌ، فَيَبِيعُ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنَ الْعُرُوضِ بحصة شريكه من النخل والثمرة، فيصير لأحدهم جَمِيعُ النَّخْلِ وَالثَّمَرَةِ وَلِلْآخَرِ جَمِيعُ الْعُرُوضِ.
وَالثَّانِي: أن تكون النَّخْلُ نَوْعَيْنِ حَامِلًا وَحَائِلًا فَيَبِيعُ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الْحَائِلِ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ، مِنَ النَّخْلِ الحامل والثمرة فيحصل النَّخْلُ الْحَامِلُ بِثَمَرَتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَالنَّخْلُ الْحَائِلُ بِانْفِرَادِهِ لِلْآخَرِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ غَيْرُ مُقْنِعَيْنِ لِأَنَّهُمَا بَيْعُ جِنْسٍ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَا قِسْمَةَ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ ذَكَرَهُمَا أَصْحَابُنَا فَذَكَرْنَاهُمَا.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ فِي مَعْنَاهُمَا: أن تكون النَّخْلُ فِي التَّقْدِيرِ نَخْلَيْنِ شَرْقِيٌّ وَغَرْبِيٌّ فَيَبِيعُ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ وَثَمَرَتِهِ بِدِينَارٍ، ويبتاع من شريكه حصة مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ وَثَمَرَتِهِ بِدِينَارٍ، فَيَحْصُلُ النَّخْلُ الشرقي مع ثمرته لأحدهما وعلى الشركة دِينَارٌ وَالنَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِلْآخَرِ وَعَلَيْهِ لشريكه دينار فيتقاضيان الدِّينَارَ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ، وَيَبْتَاعَ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنَ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ بِحِصَّتِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ، فَيَصِيرُ النَّخْلُ الشَّرْقِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَالنَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَتِهِ لِلْآخَرِ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ ثَمَرَةِ النخل الشرقي، ويبتاع حصته شريكه من النخل الغربي بحصته من النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ، فَيَحْصُلُ لِأَحَدِهِمَا النَّخْلُ الشَّرْقِيُّ مَعَ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الْغَرْبِيِّ، وَلِلْآخَرِ النَّخْلُ الْغَرْبِيُّ مَعَ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الشَّرْقِيِّ، فَتَحْصُلُ ثَمَرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَخْلِ شَرِيكِهِ، وَلَهُ تَبْقِيَتُهَا إِلَى وَقْتِ الصِّرَامِ، إِلَّا(3/215)
أَنْ يَشْتَرِطَا فِي الْقِسْمَةِ قَطْعَهَا فِي الْحَالِ، فَهَذَا فِي الثَّمَرَةِ إِذَا كَانَتْ بَادِيَةَ الصَّلَاحِ فَأَمَّا الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا بَعْدُ فَتَخْرِيجُ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي صِحَّةِ قِسْمَتِهَا يُبْنَى عَلَى أربعة أحوال:
أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ القطع لا يصح.
والثاني: أن يبيعها تبع لِلنَّخْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ يَصِحُّ.
وَالثَّالِثُ: أن شرط القطع مع الإشاعة فيها لَا يَصِحُّ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَبِيعَهَا مُفْرَدَةً مِنْ صَاحِبِ النَّخْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ كَغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ لِحُصُولِ الثَّمَرَةِ وَالْأَصْلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَصِيرُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ صَحَّ فِي قِسْمَتِهَا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ عَلَى وَجْهَيْنِ وَالْخَامِسُ لَا يَصِحُّ وَذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِالتَّأَمُّلِ وَالْفِكْرِ فَتَأَمَّلْهُ تَجِدْهُ صَحِيحًا، وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ جَارِيًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وثمر النخل يختلف فَثَمَرُ النَّخْلِ يُجَدُّ بِتِهَامَةَ وَهِيَ بِنَجْدٍ بُسْرٌ وبلح فيضم بعض ذلك إِلَى بَعْضٍ لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عامٍ واحدٍ وَلَوْ كان بينها الشَهْرُ وَالشَّهْرَانِ وَإِذَا أَثْمَرَتْ فِي عَامٍ قَابِلٍ لم يضم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ:
أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ فِي الثِّمَارِ أَنْ تُدْرَكَ حَالًا بَعْدَ حال، ولا تدرك دفعة واحدة، لما فِي إِدْرَاكِهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنَ الْإِضْرَارِ بِأَرْبَابِهَا، وَإِذَا أُدْرِكَتْ حَالًا بَعْدَ حَالٍ كَانَ أَمْتَعَ بها وأنفع لأربابها، وأجرى الْعَادَةَ فِي ثِمَارِ الْبِلَادِ الْحَامِيَةِ كَتِهَامَةَ وَالْحِجَازِ أَنْ يَتَعَجَّلَ إِطْلَاعُهَا وَإِدْرَاكُهَا، لِغِلَظِ الْهَوَاءِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ، وَفِي ثِمَارِ الْبِلَادِ الرَّطْبَةِ كَنَجْدٍ وَالْعِرَاقِ أَنْ يَتَأَخَّرَ إِطْلَاعُهَا وَإِدْرَاكُهَا لِرِقَّةِ الْهَوَاءِ وَقُوَّةِ الْبَرْدِ، لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا وَحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ بِهَا، وَأَجْرَى فِي عَادَةِ النَّخْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بُدُوِّ إِخْرَاجِهَا وَإطلاعِهَا إِلَى مُنْتَهَى نُضْجِهَا وَإِدْرَاكِهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: إِنَّ النَّخْلَ يَحُولُ فِي السَّنَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ فِي بَاقِي السَّنَةِ حَامِلٌ إِمَّا ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ ثِمَارِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ أَوْ بُلْدَانٍ شَتَّى، فَثَمَرُ النَّخْلِ يُجَدُّ بتهامة وهو بنجد بسر وبلح وجملته، وهو أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ النَّخْلَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ إِطْلَاعُهُمَا.(3/216)
أَوْ يَخْتَلِفَ إِطْلَاعُهُمَا، وَتَغَايُرُهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا في النوع كالنخل البري وَالنَّخْلِ الْمَعْقِلِيِّ.
وَإِمَّا فِي الْمَوْضِعِ كَالنَّخْلِ الْتِهَامِيِّ وَالنَّخْلِ النَّجْدِيِّ، وَإِنِ اتَّفَقَ إِطْلَاعُ النَّخْلَيْنِ ضُمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ سَوَاءٌ اتَّفَقَ إِدْرَاكُهُمَا أَوِ اختلف لأنها ثمرة عام، وإن اختلفت إِطْلَاعُهُمَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّانِيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام:
إما أن تطلع قبل بدو الصلاح الأول.
أَوْ تَطْلُعَ بَعْدَ جِدَادِ الْأُولَى.
أَوْ تَطْلُعَ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى وَقَبْلَ جِدَادِهَا.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى أَوْ مَعَهُ، كَأنَّ نَخْلَ تِهَامَةَ أَطْلَعُ وَصَارَ بُسْرًا لَمْ يبد صَلَاحَهُ بِصُفْرَةٍ وَلَا حُمْرَةٍ، ثُمَّ أَطْلَعَ نَخْلُ نَجْدٍ فَهَذَا يُضَمُّ، لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ، وَلِأَنَّ اتِّفَاقَ إِطْلَاعِهِمَا مُتَعَذِّرٌ، بَلِ النَّخْلَةُ الْوَاحِدَةُ قَدْ يَخْتَلِفُ أَطْلَاعُهَا، فكيف بنخل متغاير.
وأما القاسم الثَّانِي: إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ بَعْدَ جِدَادِ الْأُولَى كَأَنَّ نَخْلَ تِهَامَةَ أَطْلَعُ وَصَارَ تَمْرًا يَابِسًا وَجُدَّ عَنْ نَخْلِهِ وَصُرِمَ، ثُمَّ أَطْلَعَ النَّخْلُ الْآخَرُ، فَلَا تُضَمُّ هَذِهِ الثَّانِيَةُ إِلَى الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ فِي ثَمَرَةِ الْعَامِ الواحد بها، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا وَبِقَاعُهَا، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا تُضَمُّ فَقَدْ أَخْطَأَ نَصُّ الْمَذْهَبِ، وَجَهِلَ عَادَةَ الثَّمَرِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِذَا أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِ الْأُولَى وَقَبْلَ جِدَادِهَا، كانت الْأُولَى أَطْلَعَتْ وَصَارَتْ رُطَبًا ثُمَّ أَطْلَعَتِ الثَّانِيَةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ضَمِّهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تضم وَيَكُونُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ عَلَمًا فِي ضَمِّ الثِّمَارِ، اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ.
أَمَّا الْمَذْهَبُ فَمَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ثَمَرٌ مُخْتَلِفٌ فَبَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِهَا وَبَعْضُهَا بُسْرٌ وَبَلَحٌ، ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَجَعَلَ عِلَّةَ الضَّمِّ بُدُوَّ الصَّلَاحِ.
وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ أَنَّ ضَمَّ الثِّمَارِ كَضَمِّ السِّخَالِ، فَلَمَّا اعْتُبِرَ فِي ضَمِّ السِّخَالِ وَجُودُهَا قَبْلَ الْحَوْلِ لِأَنَّ بِالْحَوْلِ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِي ضَمِّ الثِّمَارِ بُدُوُّ الصَّلَاحِ، لِأَنَّ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ تجب الزكاة.(3/217)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُضَمُّ فَيَكُونُ جَفَافُ الثَّمَرَةِ وَأَوَانُ جِدَادِهَا عَلَمًا فِي ضَمِّ الثِّمَارِ، اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ أَمَّا الْمَذْهَبُ فَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ فِي بَعْضِهَا طَلْعٌ، وَفِي بَعْضِهَا بَلَحٌ، وَفِي بَعْضِهَا بُسْرٌ، وَفِي بَعْضِهَا رُطَبٌ، فَأَدْرَكَ الرُّطَبَ فَجَدَّهُ، وَأَدْرَكَ الْبُسْرَ فَجَدَّهُ، ثُمَّ أَدْرَكَ الْبَلَحَ فَجَدَّهُ، ثم أدرك الطلع فجده، ضمت بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، لِأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهُوَ أَنَّ لِلثَّمَرَةِ حَالَيْنِ حَالَ ابْتِدَاءٍ وَهُوَ الْإِطْلَاعُ وَحَالَ انْتِهَاءٍ وَهُوَ الْجَفَافُ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الضَّمُّ مُعْتَبَرًا بِالِابْتِدَاءِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِالِانْتِهَاءِ، فَمَنْ قَالَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْفَصَلَ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " بِأَنْ قَالَ إِنَّمَا جَمَعَ الشَّافِعِيُّ فِي الضَّمِّ بَيْنَ الطَّلْعِ وَالرُّطَبِ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْإِطْلَاعِ وَالرُّطَبِ، وَقَدْ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ طَلْعٍ وَرُطَبٍ كَأَنَّ ابْتِدَاءَ إِطْلَاعِهِ قَبْلَ الْإِرْطَابِ، وَانْفَصَلَ عَنِ الْحِجَاجِ، بِأَنْ قَالَ لِلثَّمَرَةِ حالة ثالثة هي بُدُوُّ صَلَاحِهَا، وَاعْتِبَارُهَا أَوْلَى لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِهَا يتعلق.
فصل
: قال الشافعي إذا أَثْمَرَتْ فِي عَامٍ قَابِلٍ لَمْ تُضَمَّ، يَعْنِي: إنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ إِطْلَاعُ التِّهَامِيِّ ثُمَّ أَطْلَعَ بعد النَّجْدِيُّ فَجَدَّ التِّهَامِيُّ وَالنَّجْدِيُّ بُسْرٌ وَبَلَحٌ ثُمَّ أَطْلَعَ التِّهَامِيُّ ثَانِيَةً قَبْلَ جِدَادِ النَّجْدِيِّ، كَانَ هَذَا الْإِطْلَاعُ الثَّانِي مِنَ النَّخْلِ التِّهَامِيِّ ثَمَرَةَ عَامٍ ثَانٍ، لَا يُضَمُّ إِلَى النَّجْدِيِّ، وَإِنْ أَطْلَعَ قَبْلَ إِرْطَابِهِ، لِأَنَّ هَذَا النَّجْدِيَّ قَدْ ضم إِلَى التِّهَامِيِّ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ التِّهَامِيُّ الثَّانِي، لِأَنَّهُ يَكُونُ ضَمًّا بَيْنَ التهامي الأول والتهامي الثاني.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان آخر إطلاع ثمر أطلعت قبل أن يجد فالإطلاع التي بعد بلوغ الآخرة كإطلاع تلك النخل عاماً آخر لا تضم إلا طلاعةً إلى العام قَبْلَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَلَامٌ غَلِقٌ، وَالرِّوَايَةُ فِي نَقْلِهِ مُخْتَلِفَةٌ، فَرُوِيَ فَإِذَا كَانَ آخِرُ اطلاع ثمر اطلعت قبل نجد يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تُجَدَّ، وَرُوِيَ قِبَلَ نَجْدٍ يَعْنِي نَاحِيَةَ نَجْدٍ، فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى قَبْلَ أَنْ تُجَدَّ وَتُقْطَعَ، يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذَا كَانَ إِطْلَاعُ آخِرِ ثَمَرٍ اطلعت بنجد قبل عام أَنْ تُجَدَّ ثَمَرُ تِهَامَةَ فَمَا أَطْلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ثِمَارِ تِهَامَةَ فَهُوَ ثَمَرَةُ عَامٍ ثَانٍ لَا يُضَمُّ، لِأَنَّكَ قَدْ ضَمَمْتَ النَّجْدِيَّةَ إلى التهامية الأولة، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَضُمَّ التِّهَامِيَّةَ الثَّانِيَةَ إِلَى النَّجْدِيَّةِ لِأَنَّكَ تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ ضَمَّ التِّهَامِيَّةَ الثانية إلى التهامية الأولة، وَهِيَ الْفَرْعُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ الْجَفَافَ عَلَى الضَّمِّ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى نَاحِيَةِ نَجْدٍ، يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَإِذَا كَانَ آخِرُ إِطْلَاعٍ ثُمَّ أَطْلَعَتْ بنجد فما اطلع مِنْ ثِمَارِ نَجْدٍ بَعْدَ بُلُوغِ هَذِهِ النَّجْدِيَّةِ فَهُوَ ثَمَرَةُ عَامٍ آخَرَ لَا يُضَمُّ إِلَيْهِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ جَعَلَ بُدُوَّ الصَّلَاحِ عَلَمَ الضم.(3/218)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُتْرَكُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ جَيِّدُ التَّمْرِ مِنَ الْبُرْدِيِّ وَالْكَبِيسِ وَلَا يُؤْخَذُ الْجَعْرُورُ وَلَا مُصْرَانُ الْفَأْرَةِ ولا عذق ابن حبيق ويؤخذ وسط من التَّمْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَمْرَهُ بَرْدِيًّا كُلَّهُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَوْ جَعْرُورًا كُلَّهُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ أَسْمَاءُ التَّمْرِ بِالْحِجَازِ، وَجُمْلَةُ ذلك أنه لا يخلو ثمر الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَوْعًا أَوْ أَنْوَاعًا، فَإِنْ كَانَتْ نَوْعًا وَاحِدًا أُخِذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَنْوَاعًا قَلِيلَةً مُتَمَيِّزَةً، كَنَوْعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن تكون أنواعاً كثيرة لا يمكن تمييزها، وَيَشُقُّ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَسَاوَى الْأَنْوَاعُ فِي الْقَدْرِ فَيَكُونُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا عَشْرَةَ أَوْسُقٍ، لَا يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ مِنْ وَسَطِهِ لَا مِنْ جَيِّدِهِ وَلَا مِنْ رَدِيئِهِ، لِأَنَّ فِي أَخْذِهَا مِنْ جيده إضرار بِهِ، وَفِي أَخْذِهَا مِنْ رَدِيئِهِ إِضْرَارًا بِالْمَسَاكِينِ وفي أخذها من كل نوع مشقة، فدعته الضَّرُورَةُ إِلَى أَخْذِهَا مِنَ الْوَسَطِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَتَفَاضَلَ الْأَنْوَاعُ فِي الْقَدْرِ وَيَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَيَكُونُ نَوْعٌ مِنْهَا عَشْرَةَ أَوْسُقٍ، وَنَوْعٌ آخَرُ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَنَوْعٌ آخَرُ ثَلَاثِينَ وَسْقًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ، وَيَكُونُ الْأَقَلُّ تَبَعًا، سَوَاءٌ كَانَ الْأَغْلَبُ جَيِّدًا أَوْ رَدِيئًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُؤْخَذُ من الوسط لأنه أعدل.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كان له نخل مختلفة واحد يحمل في وقت والآخر حملين أو سَنَةٍ حِمْلَيْنِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ فِي النَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ فَهِيَ: أَنْ تَحْمِلَ فِي السَّنَةِ حِمْلًا وَاحِدًا فَإِنْ شَذَّ بَعْضُهَا عَنِ الْجُمْلَةِ وَفَارَقَ مَأْلُوفَ الْعَادَةِ وَحَمَلَ في السنة حملين لم يضم كل واحد منهما إلى الآخر، وتميز كل واحد منهما بِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُمَا ثَمَرَتَانِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ نَخْلٌ آخَرُ فَحَمَلَ حِمْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ضَمَّهُ إِلَى مَا وَافَقَهُ مِنْ حِمْلَيْ تِلْكَ الشَّاذَّةِ، فَإِنْ وَافَقَ الْحِمْلَ الْأَوَّلَ ضُمَّ إِلَيْهِ دُونَ الثَّانِي، وَإِنْ وَافَقَ الثَّانِي ضم إليه دون الأول.(3/219)
باب كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب بالخرص
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صالحٍ التَّمَّارُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ المسيب بن عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي زَكَاةِ الْكَرْمِ " يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمراً " وبإسناده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يبعث من يخرص على الناس كرومهم وثمارهم وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال ليهود خيبر حين افتتح خيبر " أقركم على ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم " قال فكان يبعث عبد الله ابن رواحة فيخرص عليهم ثُمَّ يَقُولُ إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فلي فكانوا يأخذونه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا بَدَا صَلَاحُ ثِمَارِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ فَقَدْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِهِمَا، وَوَجَبَ خَرْصُهُمَا لِلْعِلْمِ بِقَدْرِ زَكَاتِهِمَا، فَيَخْرُصُهُما رُطَبًا وَيَنْظُرُ الْخَارِصُ كَمْ يَصِيرُ تَمْرًا فَيُثْبِتُهَا تمراً، ثُمَّ يُخَيَّرُ رَبُّ الْمَالِ فِيهَا، فَإِنْ شَاءَ كانت في يده أمانة إلى وقت الحداد وَلَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَإِنْ شَاءَ كَانَتْ في يده مضمونة وله التصرف فِيهَا ضمنَهَا، فَيُسْتَفَادُ بِالْخَرْصِ الْعِلْمُ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَاسْتِبَاحَةُ رَبِّ الْمَالِ التَّصَرُّفَ فِي الثَّمَرَةِ إِنْ شَاءَ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كرم الله وجوههما، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وأبو ثور.(3/220)
وَقَالَ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ: خَرْصُ الثِّمَارِ لَا يَجُوزُ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن الخرص ورواية جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ كُلِّ ذِي ثَمْرَةٍ بخرصٍ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْخَرْصَ تَخْمِينٌ وَحَدْسٌ، لِأَنَّ الْخَارِصَ لا يرجع فيه إلى أصل مقدر وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى مَا يَقْوَى فِي نَفْسِهِ وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، وَقَدْ يُخْطِئُ فِي أَكْثَرِهِ وَإِنْ أَصَابَ فِي بَعْضِهِ فَلَمْ يَجُزِ الْأَخْذُ بِهِ وَلَا الْعَمَلُ عَلَيْهِ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ خَرْصُ الثِّمَارِ لِيُعْلَمَ بِهِ قَدْرُ الصَّدَقَةِ لَجَازَ خَرْصُ الزُّرُوعِ لِيُعْلَمَ بِهِ قَدْرُ الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي الزُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ فِي الثِّمَارِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: إِنَّهُ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الصدقة فلم يجز تقدير ثمرته بالخرص كالزرع، قَالُوا: وَلِأَنَّ خَرْصَ الثِّمَارِ بَعْدَ جِدَادِهَا أَقْرَبُ إِلَى الْإِصَابَةِ مِنْ خَرْصِهَا عَلَى رُؤُوسِ نَخْلِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي أَقْرَبِهِمَا مِنَ الْإِصَابَةِ لم يجز في أبعدهما، قالوا وَلِأَنَّ الْخَرْصَ عِنْدَكُمْ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِقَدْرِ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوِ ادَّعَى غَلَطًا أَوْ نُقْصَانًا صُدِّقَ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: تَضْمِينُ رَبِّ الْمَالِ قَدْرَ الصَّدَقَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ بِتَمْرٍ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ بَيْعُ حَاضِرٍ بِغَائِبٍ، فَإِذَا كَانَ مَا يُسْتَفَادُ بِالْخَرْصِ مِنَ الْحُكْمَيْنِ مَعًا بَاطِلًا ثَبَتَ أَنَّ الْخَرْصَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ وُرُودُ السُّنَّةِ بِهِ، قَوْلًا وَفِعْلًا وَامْتِثَالًا.
فَأَمَّا الْقَوْلُ فيما رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " فِي الْكَرْمِ يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَخْلِ تَمْرًا " فَجَعَلَ الْخَرْصَ عَلَمًا لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وجعل لأرباب الأموال أن يودوا زَبِيبًا وَتَمْرًا عَلَى مَا خَرَجَ بِالْخَرْصِ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مِنَ الْمَالِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَصَ حَدِيقَةَ امرأةٍ بِوَادِي الْقُرَى عَشْرَةَ أَوْسُقٍ فَلَمْ تَزِدْ وَلَمْ تَنْقُصْ وَأَمَّا الِامْتِثَالُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لَهُ خَرَّاصُونَ مَشْهُورُونَ(3/221)
ينفذهم لخرص الثمار، منهم حويصة، ومحيصة، وسهل بن أبي حثمة وَعَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وأبي بردة وابن عمر، وَقِيلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَيْضًا فَكَانُوا يَتَوَجَّهُونَ لِخَرْصِ الثِّمَارِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ وَاتِّبَاعًا لِرَسْمِهِ، وَرَوَى سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " إذا خرصتم فدعو لَهُمُ الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا لَهُمُ الثُلُثَ فَدَعُوا لَهُمُ الرُّبُعَ " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ تأويل الشافعي في القديم أنه يُتْرَكَ لَهُمُ الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ مِنَ الزَّكَاةِ لِيَتَوَلَّوْا إِخْرَاجَهُ فِي فُقَرَاءِ جِيرَانِهِمْ، بَلْ قَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْوَصِيَّةَ وَالْعَرِيَّةَ ".
وَالثَّانِي: أَنْ يُخْرَصَ عَلَيْهِمْ جَمِيعُهُ ثُمَّ يُدْفَعُ إِلَيْهِمُ الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ وَيَأْكُلُوهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ.
وَرَوَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يقول للخراص: " إذا بعثتم احْتَاطُوا لِأَهْلِ الْأَمْوَالِ فِي النَّائِبَةِ وَالْوَاطِئَةِ وَمَا يَجِبُ فِي الثَمَرَةِ مِنَ الْحَقِّ " وَفِي النَّائِبَةِ تأويلان:
أحدهما: الأصناف.
وَالثَّانِي: مَا يَنُوبُ الْأَمْوَالَ مِنَ الْجَوَائِحِ.
وَفِي الْوَاطِئَةِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْوَاطِئَةَ الْمَارَّةُ وَالسَّابِلَةُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِوَطْئِهِمِ الطَّرِيقَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاطِئَةَ سُقَاطَةُ الثَّمَرِ وَمَا يَقَعُ مِنْهُ فِي الْأَرْضِ فَيُوطَأُ، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَاخْتَارَهُ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهَا الْوَطَايَا واحدها وطية، وهي تجري مجرى العرية، وسميت وطئة، لِأَنَّ صَاحِبَهَا وَطَّأَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِهِ، فَلَا تَدْخُلُ فِي الْخَرْصِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الضَّرِيرِ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ خَارِصًا فَخَرَصَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ وَسْقٍ، ثُمَّ خَيَّرَ الْيَهُودَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوهُ وَيَدْفَعُوا عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَدْفَعَ إِلَيْهِمْ عِشْرِينَ أَلْفَ وَسْقٍ، فَقَالُوا هَذَا هُوَ الْحَقُّ وَبِهِ قامت السموات والأرض.(3/222)
وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ قَالَ إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْيَهُودَ جَمَعُوا لَهُ حُلِيًّا مِنْ حُلِيِّ نِسَائِهِمْ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُمُ الْخَرْصَ وَيَأْخُذَ مِنْهُمُ الْحُلِيَّ فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّ الرِّشْوَةَ سُحْتٌ، وَإِنَّكُمْ أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ بُغْضِي لَكُمْ لَا يَحْمِلُنِي عَلَى الْحَيْفِ عَلَيْكُمْ وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ رَضِيعًا مِنْهُمْ وَحَلِيفًا لَهُمْ، فَإِنْ قَالُوا الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْخَبَرِ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي جَوَازِ الْخَرْصِ، لِأَنَّهُ وَرَدَ عَامَ خَيْبَرَ سَنَةَ سبع قبل بدو تَحْرِيمِ الرِّبَا، ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الرِّبَا نَاسِخًا لَهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا نَزَلَ أَخِيرًا، بِدَلِيلِ مَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا فَمَاتَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أن يثبتها، قِيلَ إِنْ كَانَتْ آيَةُ الرِّبَا نَزَلَتْ أَخِيرًا فَتَحْرِيمُ الرِّبَا كَانَ مُتَقَدِّمًا بِالسُّنَّةِ قَبْلَ حُكْمِ الْخَرْصِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ فَضَالَةَ بْنِ عبيد قال: بيع يوم فتح مكة وهو بخيبر قِلَادَةٌ فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ مِنَ الْمَغْنَمِ بِذَهَبٍ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " لَا حَتَّى تَمِيزَ " لَا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُ الرِّبَا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْخَرْصِ، وَلَوْ كَانَ مَانِعًا مِنْهُ مَا عَمِلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ خَارِصًا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ الله عنه ابنه بعث أنه عَبْدَ اللَّهِ خَارِصًا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَسُحِرَ حَتَّى تَكَوَّعَتْ يَدُهُ ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ عَنْهَا وليس لها في الصحابة مخالف فثبت أنه إجماع.
فَإِنْ قِيلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِنَّمَا خَرَصَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ ثِمَارَ الْمُسَاقَاةِ لَا ثِمَارَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ فَتَحَهَا سَاقَاهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ثَمَرِهَا، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنَ الْخَرْصِ فِي الْمُسَاقَاةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُكُمْ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ فِي الزَّكَاةِ؟ قِيلَ خَرْصُ ثِمَارِ خَيْبَرَ كَانَ لِأَجْلِ الزَّكَاةِ، وَلِأَجْلِ الْمُسَاقَاةِ، لِأَنَّ نِصْفَ ثِمَارِهَا كَانَ لَهُمْ بِالْمُسَاقَاةِ، وَنِصْفَهَا لِلْمَسَاكِينِ بِالْغَنِيمَةِ، وَالزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبَةٌ، وَتَضْمِينُهَا لِلْيَهُودِ الْعَامِلِينَ فِيهَا جائز، فَكَانَ الْخَبَرُ دَالًّا عَلَى وُجُوبِ الْخَرْصِ فِي الزَّكَاةِ، وَدَالًّا عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَلَنَا فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْخَرْصِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالنَّظَرِ وُجُودُ الرِّفْقِ بِهِ، وَدُخُولُ الضَّرَرِ بِفَقْدِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ثِمَارِهِمْ، أَوْ يُمَكَّنُوا فَإِنْ منعُوا مِنْهَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَوَاتِ الْبُغْيَةِ الْعَظِيمَةِ فِي إتمامها ومن الناس من ابتياعها وفوات شَهْوَتِهِمْ مِنْ أَكْلِهَا وَإِنْ مُكِّنُوا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُمَكَّنُوا بِخَرْصٍ أَوْ بِغَيْرِ خَرْصٍ فَإِنْ مُكِّنُوا بِغَيْرِ خَرْصٍ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ حُقُوقِهِمْ،(3/223)
وَتَمْحِيقِ صَدَقَتِهِمْ، وَإِنْ مُكِّنُوا بِخَرْصٍ ارْتَفَقَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِتَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ، وَارْتَفَقَ الْمَسَاكِينُ بِحِفْظِ الصَّدَقَةِ، فَكَانَ الْخَرْصُ رِفْقًا بِالْفَرِيقَيْنِ وَفِي الْمَنْعِ مِنْهُ ضَرَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ ابن جَابِرٍ فَهُوَ وَارِدٌ فِي الْبَيْعِ، بِدَلِيلِ نَهْيِهِ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَإِرْخَاصِهِ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْخَرْصَ تَخْمِينٌ وَحَدْسٌ لِاخْتِلَافِهِ فَغَلَطٌ، إِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ وَلَيْسَ وُجُودُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ فِي الزُّرُوعِ لَمْ يَجُزْ فِي الثِّمَارِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلزَّرْعِ حائلاً يمنع من خرصه، وليس لثمر النخل حائلاً يَمْنَعُ مِنْ خَرْصِهِ.
وَالثَّانِي: أنَّ الْحَاجَةَ غَيْرُ داعية إلى خرص الزروع، لأن الانتفاع بما قبل الحصاد غير مقصود، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا لَمْ يَجُزْ خَرْصُهَا عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ الْجِدَادِ لَمْ يَجُزْ قَبْلَهُ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ يُمْكِنُ كَيْلُهُ، فَلَمْ يَجُزْ خَرْصُهُ، لِأَنَّ الْكَيْلَ نَصٌّ وَالْخَرْصَ اجْتِهَادٌ، وَمَا عَلَى النَّخْلِ لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فَجَازَ خَرْصُهُ، لِأَنَّ فَقْدَ النَّصِّ مُبِيحٌ لِلِاجْتِهَادِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ يُمْكِنُ أَخْذُ زَكَاتِهِ فِي الْحَالِ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالْخَرْصِ، وَمَا عَلَى النَّخْلِ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ زَكَاتِهِ فِي الْحَالِ فاحتاج إلى تقدير بِالْخَرْصِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا يُقْصَدُ بِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ بَاطِلٌ وَمِنَ التَّضْمِينِ فَاسِدٌ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا أَبْطَلْتُمُ الْخَرْصَ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوِ ادَّعَى غَلَطًا أَوْ نقصاناً صدق وهذا فاسد بعد الماشية لأنها تُعَدُّ عَلَى رَبِّهَا وَلَوِ ادَّعَى غَلَطًا يُمْكِنُ مِثْلُهُ صُدِّقَ، وَأَبْطَلْتُمُ التَّضْمِينَ لِأَنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ حاضر بثمن غَائِبٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَيْعٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن الزكاة تخرج من ثمرها لَا مِنْ رُطَبِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا ضُمِّنَهُ من الزكاة هو الواجب فيها، لَا أَنَّهُ بَدَلُ الْوَاجِبِ مِنْهَا، فَثَبَتَ جَوَازُ الْخَرْصِ بِمَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا ثِمَارُ الْبَصْرَةِ فَقَدْ أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ خَرْصَهَا غَيْرُ جَائِزٍ، لِكَثْرَتِهَا وَمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَيَلْزَمُ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي خَرْصِهَا، وَلِمَا جَرَتْ عَادَةُ أَرْبَابِ الثِّمَارِ بِهَا مِنْ تَفْرِيقِ عُظْمِ مَا يرد إليهم الثنيا مِنْهَا وَتَجَاوُزِهِمْ فِيهِ حَدَّ الصَّدَقَةِ، وَلِإِبَاحَتِهِمْ فِي تعارفهم الأكل منها لِلْمُجْتَازِ بِهَا، فَرَأَى السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أن تؤخذ صدقتها من الكر حتى عند دخول ثمرها البصرة، فيكون ذلك أرفق بِأَرْبَابِهَا وَأَحْظَى لِلْمَسَاكِينِ وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ تَمْرًا مَكْنُوزًا منها وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ جَعَلُوا الظُّرُوفَ وَمُؤْنَةَ الْعَمَلِ فيها عوضاً عن(3/224)
الشيء الَّذِي لَا يُضَايَقُونَ فِي قَدْرِهِ، وَلَا يَمْنَعُونَ رمي الثنيا من جملة، هَذَا فِي ثِمَارِ النَّخْلِ، فَأَمَّا الْكُرُومُ فَهُمْ وَغَيْرُهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ تُخْرَصُ عَلَيْهِمْ كَمَا تُخْرَصُ على الناس والله أعلم.
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَوَقْتُ الْخَرْصِ إِذَا حَلَّ الْبَيْعُ وَذَلِكَ حِينَ يُرَى فِي الْحَائِطِ الْحُمْرَةُ أَوِ الصُّفْرَةُ وَكَذَلِكَ حِينَ يَتَمَوَّهُ الْعِنَبُ وَيُوجَدُ فِيهِ مَا يُؤْكَلُ مِنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ الْخَرْصِ، فَأَمَّا وَقْتُ الْخَرْصِ فَهُوَ حِينَ تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ يَكُونُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَبُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي الثِّمَارِ أَنْ تَحْمَرَّ أَوْ تَصْفَرَّ، وَفِي الْعِنَبِ أَنْ يَتَمَوَّهُ أَوْ يَسْوَدَّ إِذَا اسْتُطِيعَ أَكْلُهُ، وَبَدَتْ مَنْفَعَتُهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَلَمْ تَجِبْ فِيمَا قَبْلُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالزَّكَاةِ الْمُوَاسَاةُ بِالْمَالِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، وَمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ غَالِبًا، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الزَّكَاةَ اسْتِحْدَاثُ حَقٍّ شَائِعٍ فِي الثَّمَرَةِ، وَمَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِحْدَاثُ حَقٍّ شَائِعٍ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ، وَاشْتِرَاطُ الْقَطْعِ لَا يَصِحُّ فِي الْمَشَاعِ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ ثُمَّ لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُرُودُ السُّنَّةِ وَهُوَ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خيبر خارصاً إذا حان أَكْلُ الثِّمَارِ ".
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخَرْصِ حِفْظُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَانْتِفَاعُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِالتَّصَرُّفِ، وَقَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ لَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ حَقٌّ يُحْفَظُ عَلَيْهِمْ، وَلِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ التَّصَرُّفُ فِي ثِمَارِهِمْ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الْخَرْصُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَلَوْ خَرَصَهَا السَّاعِي قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ كَانَ خَرْصُهُ بَاطِلًا، وَأَعَادَ الْخَرْصَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ حَائِطَانِ بَدَا صَلَاحُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَبْدُ صَلَاحُ الْآخِرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُخْرَصَانِ مَعًا وَيَكُونُ حُكْمُ الصَّلَاحِ جَارِيًا عَلَيْهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ فَيُخْرَصُ مَا بَدَا صَلَاحُهُ دُونَ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا بَدَا صَلَاحُهُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا يُخْرَصُ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الْآخَرِ فيخرصان معاً والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَأْتِي الْخَارِصُ النَّخْلَةَ فَيُطِيفُ بِهَا حَتَى يَرَى كُلَّ مَا فِيهَا ثُمَّ يَقُولُ خَرْصُهَا رُطَبًا كذا وكذا وينقص إذا صار تمراً كذا وكذا فيبنيها عَلَى كَيْلِهَا تَمْرًا وَيَصْنَعُ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْحَائِطِ وهكذا العنب ".(3/225)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وَقْتِ الْخَرْصِ فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْخَرْصِ فَعَلَى مَا وَصَفَهُ الشافعي، وهو: أن يأتي الخارص فيطيف بِكُلِّ نَخْلَةٍ حَتَّى يَرَى مَا فِيهَا، وَيُقَدِّرَهُ رُطَبًا وَيَنْظُرَ كَمْ يَصِيرُ تَمْرًا، ثُمَّ يَفْعَلُ كذلك بجميع النخل، فإن كَانَ النَّخْلُ نَوْعًا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَخْرُصَ جَمِيعَ ثِمَارِهَا رُطَبًا وَيُحْصِيَهُ، ثُمَّ يَنْظُرَ كَمْ يصير تمراً ويثبته، وإن كَانَ النَّخْلُ أَنْوَاعًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْصِيَ جَمِيعَ خَرْصِهِ رُطَبًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ تَمْرًا، حَتَّى يخرص كل نوع منها رُطَبًا ثُمَّ يَجْعَلُهُ تَمْرًا حَتَّى يَخْرُصَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا رُطَبًا وَيَرُدُّهُ إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَصِيرُ تَمْرًا، لِأَنَّ الرُّطَبَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي نُقْصَانِهِ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، فَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى نِصْفِهِ وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ، فَإِذَا أَحْصَى جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ رُطَبًا ثُمَّ جَعَلَهَا تَمْرًا وَنُقْصَانُهُ مُخْتَلِفٌ أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَصِحَّ لَهُ وَإِذَا كَانَ نَوْعًا صَحَّ لَهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَيُطِيفُ بِكُلِّ نَخْلَةٍ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْخَرْصِ أَوِ استظهار على ثلاثة مذاهب:
أحدهما: إِنَّهُ اسْتِظْهَارٌ وَاحْتِيَاطٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا شَرْطٍ لَازِمٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ النَّخْلِ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ شَرْطٌ فِي الْخَرْصِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ لِأَنَّ الْخَرْصَ اجتهاد يلزم بذل المجهود فيه.
والثالث: وهو أصحهما إنَّهُ إِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ بَارِزَةً عَنِ السَّعَفِ ظَاهِرَةً مِنَ الْجَرِيدِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعِرَاقِ فِي تَدْلِيَةِ الثِّمَارِ لَمْ تَكُنْ إطاقة الْخَارِصِ بِكُلِّ نَخْلَةٍ شَرْطًا، بَلْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِظْهَارًا وَاحْتِيَاطًا، لِأَنَّ جَمِيعَ ثَمَرِهَا مَرْئِيٌّ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُسْتَتِرَةً بِالسَّعَفِ مُغَطَّاةً بِالْجَرِيدِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْحِجَازِ كَانَ إِطَافَةُ الْخَارِصِ بِالنَّخْلَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْخَرْصِ لِأَنَّ ثَمَرَهَا خَفِيٌّ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا عَرَفَ الْخَارِصُ مَبْلَغَ قَدْرِهَا بِالْخَرْصِ رُطَبًا وَعِنَبًا وَمَا تَصِيرُ إِلَيْهِ تمراً وزبيباً، فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَرَى أَنَّهُ يَتْرُكُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاتِهَا الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ، لِخَبَرِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ ليتولوا إخراجه في فقراء أهلهم، وَأَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ جِيرَانِهِمْ، وَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ مَا بَقِيَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ وَقَالَ: لَا يَتْرُكُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ زَكَاتِهَا وَيُثْبِتُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَهَا تَمْرًا عَلَى مَا خَرَجَ به الخرص.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَهُ، فَإِذَا صَارَ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَخَذَ الْعُشْرَ عَلَى خَرْصِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.(3/226)
إِذَا خَرَصَ الثِّمَارَ عَلَى أَرْبَابِهَا وَعَرَفَ قَدْرَهَا بَعْدَ جَفَافِهَا أَثْبَتَ قَدْرَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ثِمَارِهِمْ، لِيَقُومُوا بِحِفْظِهَا وَيَتَوَلَّوْا أَمْرَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَإِنِ اخْتَارُوا أَنْ تَكُونَ بِأَيْدِيهِمْ أَمَانَةُ فَعَلَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَإِنِ اخْتَارُوا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِمْ ضَمَّنَهُمْ قَدْرَ زَكَاتِهَا، وَجَازَ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، فَإِذَا تَصَرَّفُوا ضَمَّنَهَا فَيَكُونُ التَّضْمِينُ مُبِيحًا لِلتَّصَرُّفِ، وَالتَّصَرُّفُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ فَلَا يَجُوزُ تَضْمِينُهُ إِلَّا أَنْ يضمنها وليه.
مسألة:
قال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فإن ذكر أهله أنه أصابته جائحة أذهبته أو شيئاً منه صدقوا فإن اتهموا حلفوا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا خَرَصَ الْخَارِصُ ثَمَرَةَ رَجُلٍ وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ أَمَانَةً أَوْ مَضْمُونَةً فَادَّعَى تَلَفَهَا، أَوْ تَلَفَ شَيْءٍ مِنْهَا بجائحة سماء كَبَرْدٍ أَوْ جَرَادٍ أَوْ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ كَسَرِقَةٍ أَوْ حَرِيقٍ لَمْ تَخْلُ دَعْوَاهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْلَمَ اسْتِحَالَتُهَا وَكَذِبُهَا، فَلَا تُسْمَعُ بِحَالٍ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُهَا وَحُدُوثُهَا، فَهِيَ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلُهُ فِيهَا مَقْبُولٌ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَلَا زَكَاةَ، سَوَاءٌ أَخَذَهَا أَمَانَةً أَوْ ضَمَانًا، لِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَهَا أَمَانَةً فَالْأَمِينُ لَا يُضَمَّنُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي، وَإِنْ أَخَذَهَا مَضْمُونَةً فَالضَّمَانُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ وَإِنْ شُرِطَ عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّصَرُّفِ، لِأَنَّ أَصْلَ الزَّكَاةِ أَمَانَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَمَا كَانَ أَصْلُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ لَمْ يلزَمُ فِيهِ الضَّمَانُ بِالشَّرْطِ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَائِدَةُ فِي ضَمَانِهِ قُلْنَا: جَوَازُ التَّصَرُّفِ المؤدي إلى الضمان.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ مُجَوَّزًا لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا ادعاه، لأنه أمين وما ادعاه ممكن به، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ وَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِظْهَارٌ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِالْوُجُوبِ الْمُتَقَدِّمِ لَا بِالنُّكُولِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دَعْوَاهُ مَسْمُوعَةٌ وَقَوْلَهُ مَقْبُولٌ نُظِرَ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الثَّمَرَةِ شَيْءٌ فَلَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَقِيَ بَعْضُهَا نُظِرَ فِي الْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْإِمْكَانِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ؟ فَإِنْ قِيلَ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ قِيلَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَجَعَلَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ مُعْتَبَرًا بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ دُونَ الْإِمْكَانِ.(3/227)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ قَدْ أَحْصَيْتُ مَكِيلَةَ مَا أَخَذْتُ وهو كذا وما بقي كذا وهذا خطأ في الخرص صدق، لأنها زكاة هو فِيهَا أمينٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ خُرِصَتْ عَلَيْهِ ثَمَرَتُهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمَانَةً أَوْ مضمونة فادعى غلطاً في الخرص أن نقصاناً فِي الثَّمَرَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ قَدْرَ الْغَلَطِ وَالنُّقْصَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَذْكُرَ قَدْرَهُ فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ وَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِالْغَلَطِ لَكِنْ أَجْهَلُ قَدْرَهُ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ لِلْجَهْلِ بِهَا وَأُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِهِ الْخَرْصُ، وَإِنْ ذَكَرَ قَدْرَ الْغَلَطِ وَالنُّقْصَانِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ كَأَنَّهُ قَالَ خَرْصُهَا عَلَى مِائَةِ وَسْقٍ وَهِيَ تِسْعُونَ وَسْقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَّهَمًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا ادَّعَاهُ كثراً لَا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ كَأَنَّهُ قَالَ خَرْصُهَا مِائَةُ وَسْقٍ وَهِيَ خَمْسُونَ وَسْقًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ غَلِطَ الْخَارِصُ عَلَيَّ بِهَذَا فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يُسْمَعُ قوله، لأنه ادَّعَى عَلَى الْخَارِصِ مَا لَا يُغْلَطُ بِمِثْلِهِ فَقَدْ نَسَبَهُ إِلَى الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ بَعْدَ الْأَمَانَةِ والصدق، ورام نقض حكم ثابت بدعوة مُجَرَّدَةٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَقُولَ غَلِطَ الْخَارِصُ عَلَيَّ بِهَذَا وَلَكِنْ يَقُولُ: لَمْ أَجِدْ إِلَّا هَذَا فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبٌ لِلْخَارِصِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ بَعْدَ الْخَرْصِ فَيَكُونُ الْخَارِصُ مُصِيبًا وَالنُّقْصَانُ موجوداً.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ سُرِقَ بَعْدَ مَا صَيَّرْتُهُ إِلَى الْجَرِينِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا يَبِسَ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الْوَالِي أَوْ إِلَى أَهْلِ السهمان فقد ضمن ما أمكنه أن يؤدي ففرط وإن لم يمكنه فلا ضمان عليه وقال في موضع بعد هذا ولو استهلك رجل ثمرة وقد خرص عليه أخذ بثمن عشر وسطها والقول قَوْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّ ثَمَرَتَهُ قَدْ سُرِقَتْ، فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُسْرَقَ عَلَى رُؤُوسِ النَّخْلِ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يمينه وإن كَانَ مُتَّهَمًا، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.(3/228)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تُسْرَقَ بَعْدَ يُبْسِهَا وَإِحْرَازِهَا وتخزينها فِي جَرِينِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَهُ أَدَاءُ زَكَاتِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا وَفِي كَيْفِيَّةِ إِمْكَانِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ القدرة على دفعها إلى الوالي وحده دُونَ أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الجديد إنه القدرة على دفعها إلى الولي وَحْدَهُ أَوْ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ كَمَا قُلْنَا فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي، لِأَنَّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ أَدَاءُ زَكَاتِهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي يَدِهِ أمانة أو ضماناً، فإن بقي شيء بعدما سُرِقَ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْجَرِينُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ هُوَ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تُجْمَعُ فِيهِ الثَّمَرَةُ لِيَتَكَامَلَ جَفَافُهَا وَيُسَمُّونَهُ الْمِرْبَدَ أَيْضًا، وَهُوَ بِلُغَةِ الشَّامِ الْأَنْدُرُ وَبِلُغَةِ الْعِرَاقِ الجوخار والبيدر وبلغة آخرين المسطاح وبلغة آخرين الطهارة
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا بَعْدَ الْخَرْصِ ضمن مكملة خَرْصِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خُرِصَتْ عَلَيْهِ ثَمَرَتُهُ وَتُرِكَتْ فِي يَدِهِ لِتَصِيرَ تَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا بُسْرًا أَوْ رُطَبًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْهُ عُشْرُهَا تَمْرًا مِنْ أَوْسَطِهَا نَوْعًا عَلَى مَا مَضَى، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَوْسَطِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ السَّاعِي بِبَيِّنَةٍ أَقَلُّهَا شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ، فَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا لَمْ يَكُنْ لِلسَّاعِي أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِمَالِكٍ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُطَالَبُ بِأَكْثَرِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا رُطَبًا أَوْ مَكِيلَتِهَا تَمْرًا، لِأَنَّ لَهُمْ أَوْفَرَ الْحَظَّيْنِ مِنَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ، كَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ أُضْحِيَةً ثُمَّ أَتْلَفَهَا لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِثْلِهَا.
والثاني: أن يُطَالَب بِمَكِيلَتِهَا تَمْرًا، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عليه.(3/229)
مسألة:
قال الشافعي: " وإن أصاب حائطه عطش يعلم أنه إن ترك ثمره أضر بالنخل وإن قطعها بعد أن يخرص بطل عليه كَثِيرٌ مِنْ ثَمَنِهَا كَانَ لَهُ قَطْعُهَا وَيُؤْخَذُ ثَمَنُ عُشْرِهَا أَوْ عُشْرُهَا مَقْطُوعَةً.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا أَصَابَ حَائِطَهُ عَطَشٌ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَوُجُوبِ زَكَاتِهِ، وَكَانَ فِي ترك الثمرة على النخل إضرار بها وبالنخل، أَوْ بِهِمَا، فَلَهُ قَطْعُ مَا أَضَرَّ بِنَخْلِهِ مِنَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ مُطَالَعَةِ الْعَامِلِ وَاسْتِئْذَانِهِ أَنَّهُ قدرَ عَلَيْهِ لِتَزُولَ عَنْهُ التُّهْمَةُ، فَإِنِ اسْتَضَرَّ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ قَطَعَهَا، وَإِنِ اسْتَضَرَّ بِبَعْضِهَا، قَطَعَ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا نَظَرًا لِرَبِّ الْمَالِ في حفاظ ماله، ونظراً للمساكين، لأن لا يضر بالنخل لم تحل حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَقْطَعَهَا بِإِذْنِ الْعَامِلِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ قَطَعَهَا بِإِذْنِهِ وَأَرَادَ الْعَامِلُ أَخْذَ الْعُشْرِ مِنْهَا خَرْصًا فعلى قولين مبنيين على اختلاف قوله في القسمة.
أحدها: تجوز إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إقرار حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ فَعَلَى هَذَا يَخْرُصُ ثُمَّ يَأْخُذُ الْعَامِلُ عُشْرَهَا مِنْ ثَمَرَاتِ نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا، ويفعل ما هو أخطى للمساكين، من تفريقه عليهم أو صرف ثَمَنِهِ فِيهِمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ مَشَاعًا فِي جَمِيعِ الثَّمَرَةِ لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُمْ فِيهَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ فَالْحَقُّ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِيهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا فَيَ الْعَيْنِ فَلِرَبِّ الْمَالِ إِسْقَاطُ حَقِّهِمْ بِالدَّفْعِ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِذَا قَبَضَ الْعَامِلُ حَقَّهُمْ مَشَاعًا فِيهَا، فَقَدْ تَعَيَّنَ وَلَمْ يَجُزْ لِرَبِّ الْمَالِ نَقْلُ حَقِّهِمْ إِلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَامِلَ يَقْبِضُ حَقَّهُمْ مَشَاعًا فِي جَمِيعِ الثمرة على هذا القول الثاني فقبضه بعين حق المساكين فيها، فَإِذَا قُطِعَتِ الثَّمَرَةُ كُلُّهَا نَظَرَ الْعَامِلُ فِي حَقِّ الْمَسَاكِينِ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَظُّ لَهُمْ فِي بَيْعِهِ مَعَ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ وَصَرْفِ ثَمَنِهِ فِيهِمْ، وَكَّلَ رَبَّ الْمَالِ فِي بَيْعِهِ إِنْ كَانَ ثِقَةً أَوْ وَكَّلَ أَمِينًا ثِقَةً، وَيُقَدَّمُ إليه بصرف ثمنه فيهم بعد يبسه وإن كان لهم الأخص فِي إِيصَالِهِ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا إِلَيْهِمْ قَاسَمَهُ الْعَامِلُ عَلَيْهِمْ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَفَرَّقَ فِيهِمْ مَا حَصَلَ مِنْ حَقِّهِمْ بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ فِيمَا أَخَذَ، لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَخْذِ الْحَقِّ أَوْ فَوْقه، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ قِسْمَةُ الرُّطَبِ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا فَلِمَ جَوَّزْتُمُوهُ؟ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ لِأَجْلِ الرِّبَا، وَحُصُولُ الرِّبَا، وَالتَّفَاضُلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُمْ مَكَانَ وَسْقٍ وَسْقَيْنِ جَازَ، فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ الرِّبَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَيْنَهُمَا فَلِمَ مَنَعْتُمْ مِنْ قِسْمَتِهَا خَرْصًا وَهَلَّا أَجَزْتُمُوهُ كَمَا أَجَزْتُمُوهُ كَيْلًا؟ قِيلَ: مَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ لَا يَجُوزُ خرصه، لأنه قادر على أن يصل ببقين إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُطْلَبُ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ.(3/230)
فصل
: وإن قطع رب بالمال الثَّمَرَةَ بِغَيْرِ إِذَنِ الْعَامِلِ فَقَدْ أَسَاءَ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً أَوْ تَالِفَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً نَظَرَ الْعَامِلُ فِي أَحَظِّ الْأَمْرَيْنِ لِلْمَسَاكِينِ من قسمتها وَأَخْذِ ثَمَنِ عُشْرِهَا، فَإِنْ كَانَ قَسْمُهَا أَحظَّ لَهُمْ قَسَّمَهَا وَفَرَّقَ الْعُشْرَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُهَا أَحَظَّ بَاعَهَا، أَوْ وَكَّلَ فِي بَيْعِهَا وَصَرْفِ ثَمَنِ عُشْرِهَا فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ تَالِفَةً فَعَلَيْهِ قِيمَةُ عُشْرِهَا حِينَ أَتْلَفَهَا رُطَبًا، لِأَنَّ الرُّطَبَ لَا مِثْلَ لَهُ فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَتْلَفَهَا رُطَبًا مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ لَزِمَهُ عُشْرُهَا تَمْرًا فَهَلَّا لَزِمَهُ فِي إِتْلَافِ الْعَطَشِ عُشْرُهَا تَمْرًا. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخَفِ الْعَطَشَ وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهَا ضَرَرٌ لَزِمَهُ تَرْكُهَا وَأَخْذُ الْعُشْرِ من ثمرها، فإذا خَافَ الْعَطَشَ كَانَ لَهُ قَطْعُهَا وَلَمْ يَلْزَمْهُ تَرْكُهَا فَلَمْ يُطَالَبْ بِعُشْرِهَا تَمْرًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا لَزِمَهُ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ ثَمَنُ عُشْرِهَا أَوْ عُشْرُهَا مَقْطُوعَةً، فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ.
أحدها: أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ثَمَنَ عُشْرِهَا إِنْ رَأَى حَظَّ الْمَسَاكِينِ فِي أَخْذِ عُشْرِهَا مِنْهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ ثَمَنَ عُشْرِهَا إِنْ تَلِفَتْ يَعْنِي: قِيمَةَ الْعُشْرِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْقِيمَةِ بِالثَّمَنِ أَوْ عُشْرِهَا رُطَبًا إِنْ بَقِيَتْ، فَالْأَوَّلُ مِنَ التَّأْوِيلَيْنِ فِي الثَّمَرَةِ الْمَوْجُودَةِ.
وَالثَّانِي: عَلَى اخْتِلَافِ حالها لو وجدت أو عدمت.
مسألة:
قال الشافعي: " ومن قطع من ثمر نَخْله قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بَيْعُهُ لَمْ يَكُنْ عليه فيه عشرٌ وأكره ذلك له إلا أن يأكله أَوْ يُطْعِمَهُ أَوْ يُخَفِّفَهُ عَنْ نَخْلِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ وجوب الزكاة ببدو الصلاح، فإذا أقطع ثمرة نخلة قبل بدوة صَلَاحِهَا وَوُجُوبِ زَكَاتِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَهُ قَبْلَ حَوْلِهِ، لَكِنَّهُ إِنْ قَطَعَهَا لِتُفِيدَ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ نَخْلِهَا لِحَاجَةٍ فِي أكلها لم يكره له، وإن قطعها مراراً مِنَ الزَّكَاةِ كَرِهْنَا ذَلِكَ لَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَإِنْ خَالَفَنَا مَالِكٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ، فَأَمَّا طَلْعُ الْفُحُولِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ قَطْعُهُ بِحَالٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ في الثمرة، وطلع الفحول لَا يَصِيرُ ثَمَرَةً.
فَصْلٌ
: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنْ جِدَادِ اللَّيْلِ " وَهُوَ: صِرَامُ النخل ليلاً ليكون الصرام نهاراً بسبب فيسال النَّاسُ مِنْ ثَمَرَتِهَا، فَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِيمَا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ أَوْ لَمْ تَجِبْ.
وَحُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالنَّخَعِيِّ: أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمَالِ وَقْتَ الصِّرَامِ وَالْحَصَادِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتُوا حَقًّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) . وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ". وَالْمُرَادُ بِمَا ذَكَرُوا مِنَ الْآيَةِ الزَّكَاةُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وإن أكل رُطَبًا ضَمِنَ عُشْرَهُ تَمْرًا مِثْلَ وَسَطِهِ ".(3/231)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَقُلْنَا إِنَّ مَنْ أَتْلَفَ ثَمَرَةَ نَفْسِهِ رُطَبًا بَعْدَ خَرْصِهَا عَلَيْهِ وَتَرْكِهَا فِي يَدِهِ لَزِمَهُ عُشْرُهَا تَمْرًا إِنْ أَخَذَهَا مَضْمُونَةً، فَإِنْ أَخَذَهَا أَمَانَةً فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِهَا تَمْرًا أَوْ قِيمَتِهَا رُطَبًا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ: عَلَيْهِ عُشْرُهَا تَمْرًا وَإِنَّمَا أَعَادَهَا الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْأُولَى بَعْدَ الْخَرْصِ وَذَكَرَ هَذِهِ قَبْلَ الْخَرْصِ وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهَا بَعْدَ الْخَرْصِ أُخِذَ مِنْهُ عُشْرُ خَرْصِهَا وَمَنْ أَتْلَفَهَا قَبْلَ الْخَرْصِ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي قَدْرِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وإن كان لا يكون تَمْرًا أَعْلَمَ الْوَالِيَ لِيَأْمُرَ مَنْ يَبِيعُ مَعَهُ عُشْرَهُ رُطَبًا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَرَصَهُ لِيَصِيرَ عليه عشره ثُمَّ صَدَّقَ رَبَّهُ فِيمَا بَلَغَ رُطَبُهُ وَأَخَذَ عُشْرَ ثَمَنِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
ما لا يتميز مِنَ الثِّمَارِ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ لَا يَصِيرُ تَمْرًا لِضَعْفِهِ.
وَضَرْبٌ يَصِيرُ تَمْرًا لَكِنْ لَا يُجَفَّفُ لِقِلَّةِ مَنْفَعَتِهِ، وَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ يُؤْخَذُ عُشْرُهَا رُطَبًا، أو ثمن عشرها فإن كانت ثمرة الرجل لا يصير تَمْرًا أَوْ كَرْمُهُ لَا يَصِيرُ زَبِيبًا أَعَلَمَ الْوَالِيَ وَطَالَعَهُ بِهِ، لِتَزُولَ تُهْمَتُهُ عَنْهُ، ثُمَّ يكون الجواب فِيمَا يَصْنَعُهُ الْوَالِي مَعَهُ عَلَى مَا مَضَى فيمن أراد قطع ثمرته لأجل العطش سواء لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقَاسِمَهُ عَلَيْهَا خَرْصًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ أَرَادَ بَيْعَهَا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِ، أَوْ يُوَكِّلَهُ فِي بَيْعِهَا، أَوْ يَبِيعَهَا عَلَى غيره، أو يوكل الغير في بيعها في نصابها وجهان:
أحدهما: إذا تلفت خَمْسَةَ أَوْسُقٍ رُطَبًا وَجَبَتْ زَكَاتُهَا، لِأَنَّ مَا لَا يُجَفَّفُ مِنَ الرُّطَبِ فَالرُّطَبُ غَايَتُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْأَوْسُقِ فِي حَالِ غَايَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: نِصَابُهُ أَنْ يَبْلُغَ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ ثَمَرِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، لِأَنَّ هَذَا نَادِرٌ مِنْ جِنْسِهِ فَاعْتُبِرَ حُكْمُهُ بِغَالِبِ جِنْسِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ فِي جَفَافِهِ أَوْ يُعْتَبَرُ بِجَفَافِ الْغَالِبِ مِنْ جِنْسِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْتَبَرَ قَدْرُ نِصَابِهِ بِجَفَافِهِ فِي نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا بَلَغَ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ رُطَبِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ تَمْرًا فَهُوَ النِّصَابُ وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْهُ فَلَا زَكَاةَ.
وَالْوَجْهُ الثاني: يعتبر قدر نصابه بِجَفَافِ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ لِتَعَذُّرِ جَفَافِهِ فِي نَفْسِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ، وَشِجَاجِهِ الَّذِي لَمْ يُقَدَّرْ إِرْشُهُ لَمَّا تَعَذَّرَ تَقْوِيمُهُ حُرًّا قومٌ لَوْ كَانَ عَبْدًا، فَإِذَا بَلَغَ هَذَا الرُّطَبُ قَدْرًا يَجِيءُ مِنْ غَيْرِهِ مِن الْأَرْطَابِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ تَمْرًا فَهُوَ النِّصَابُ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَهُ.
مسألة:
قال الشافعي: " فإن أكل أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ عُشْرِهِ رُطَبًا ".(3/232)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا كَانَتْ ثَمَرَتُهُ لا تصير تمراً فاستهلكها رطباً فلا يَلْزَمُهُ مِثْلُ عُشْرِهَا رُطَبًا، لِأَنَّ الرُّطَبَ لَا مِثْلَ لَهُ، فَإِنْ أَكَلَهَا قَبْلَ خَرْصِهَا عَلَيْهِ رُجِعَ فِي قَدْرِهَا إِلَيْهِ، فَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ اسْتِظْهَارًا، وَإِنْ أَكَلَهَا بَعْدَ الْخَرْصِ أُخِذَ مِنْهُ قِيمَةُ عُشْرِ خَرْصِهَا رُطَبًا، فَإِنْ ذَكَرَ زِيَادَةً عَنِ الْخَرْصِ أَوِ ادَّعَى نُقْصَانًا مُحْتَمَلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ، فَإِنِ اتُّهِمَ أحلف وفي هذا اليمين وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَاجِبَةٌ.
وَالثَّانِي: اسْتِظْهَارٌ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " وَمَا قُلْتُ فِي التَّمْرِ فَكَانَ فِي الْعِنَبِ فَهُوَ مِثْلُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ.
حُكْمُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ سَوَاءٌ فِي الزَّكَاةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسَائِلِهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَهُمَا فِي الْخَبَرِ وَشَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه بعث مَعَ ابْنِ رَوَاحَةَ غَيْرَهُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَفِي كُلٍّ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خَارِصَانِ أَوْ أَكْثَرُ وقد قيل يجوز خارص واحدٌ كما يجوز حاكمٌ واحدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خَارِصَانِ أَوْ أَكْثَرُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ الْوَاحِدَ يُجْزِئُ، وَقَوْلُهُ: وَقَدْ قيل يجوز أن يكون خارص دليل على أن الْخَارِصَ الْوَاحِدَ لَا يُجْزِئُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَصِحُّ الْخَرْصُ بِهِ، فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولَانِ: يَجُوزُ خَارِصٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولَانِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا خَارِصَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَبْعَثُ مَعَ ابْنِ رَوَاحَةَ غَيْرَهُ، وَقَدْ قِيلَ بَعَثَ مَعَهُ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ، فَإِذَا كَانَ جَوَازُ الْخَرْصِ حُكْمًا مُسْتَفَادًا بِالشَّرْعِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ عَلَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْخَرْصَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ الْقَدْرِ وَتَمْيِيزِ الْحُقُوقِ فَشَابَهَ التَّقْوِيمَ وَخَالَفَ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ، لِأَنَّهُمَا يَقِينٌ لَا اجْتِهَادَ فِيهِمَا، فَلَمَّا ثَبَتَ أن التقويم لا يجزئ فيه إلا مقومان فكذا الْخَرْصُ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا خَارِصَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ ابْنَ رَوَاحَةَ خَارِصًا فَخَرَصَ خَيْبَرَ وَقَالَ: " إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي ".
وَرُوِيَ أنه بعث معه غيره، فلو أن الاثنان شرطاً لما بعثه منفرداً، ولو كان شَرْطًا فِي عَامٍ لكَانَا شَرْطًا فِي كُلِّ عَامٍ، وَلِأَنَّ الْخَارِصَ مُجْتَهِدٌ فِي تَقْدِيرِ الْحُقُوقِ وَتَنْفِيذُ الْحُكْمِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ(3/233)
دُونَ غَيْرِهِ فَشَابَهَ الْحَاكِمَ، وَخَالَفَ الْمُقَوِّمَ حَيْثُ لَمْ يُنَفَّذِ الْحُكْمُ بِهِ إِلَّا بِتَنْفِيذِ الْحَاكِمِ لَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ يُجْزِئُ حَاكِمٌ وَاحِدٌ، فَكَذَلِكَ يُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ، سَوَاءٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، لَا كَمَا غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَفَرَّقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَلَمْ يُجَوِّزْ خَرْصَ مَالِ الصَّغِيرِ إِلَّا بِاثْنَيْنِ، وَجَوَّزَ خَرْصَ مَالِ الْكَبِيرِ بِوَاحِدٍ، لِأَنَّهُ رَأَى الشَّافِعِيَّ فِي " الْأُمِّ " فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْخَرْصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ يُجْزِئُ بِوَاحِدٍ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ أَوْ يَكُونَ كَالتَّقْوِيمِ، وَالتَّقْوِيمُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا بِاثْنَيْنِ فِي مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ.
وَالشَّافِعِيُّ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي " الْأُمِّ " فِي جَوَازِ تَضْمِينِ الْكَبِيرِ ثِمَارَهُ بِالْخَرْصِ دون الصغير فوهم عليه فهذا التأويل في إعداد الخرص.
فصل
: فأما صفة الخارص فَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ شُرُوطٍ فِيهِمْ:
أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ.
وَالثَّانِي: الْعَدَالَةُ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: الْعِلْمُ بِالْخَرْصِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ.
وَالرَّابِعُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الذُّكُورِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْخَارِصَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا كالحاكم لم يجز أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً وَلَا عَبْدًا وَاعْتَبَرَ فِيهِ كونه رَجُلًا حُرًّا، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا خَارِصَانِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ وَلَا عبدين، لأن في الخرص ولاية حكم، فَلَمْ يَجُزْ تَفَرُّدُ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ بِهَا، وَلَكِنْ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا لِيَكُونَ الرَّجُلُ مُخْتَصًّا بِالْوِلَايَةِ وَالْمَرْأَةُ أَوِ العبد مشاركاً له في التقدير والحرز؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يكون كيالاً ووزاناً.
والثاني: لا يجوز لأن في الخراص اجتهاد يفارق يقين الكيل والوزن فشابه الحكم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَةُ شيءٍ مِنَ الشَّجَرِ غَيْرِ العنب والنخل فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْهُمَا وَكِلَاهُمَا قُوتٌ وَلَا شَيْءَ فِي الزَيْتُونِ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ أُدْمًا وَلَا فِي الجوز ولا في اللوز وغيره مما يكون أدماً وييبس ويدخر لأنه فاكهةٌ لأنه كان بالحجاز قوتاً علمناه ولآن الخبر في النخل والعنب خاص ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ نَوْعَانِ زَرْعٌ وَشَجَرٌ، فَالزَّرْعُ يَأْتِي حُكْمُهُ، وَالشَّجَرُ يَنْقَسِمُ فِي الْحُكْمِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، قِسْمٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ زَكَاتَهُ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِمَا، وَقِسْمٌ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ الرُّمَّانُ، وَالسَّفَرْجَلُ، وَالتِّفَّاحُ، وَالْمِشْمِشُ، وَالْكُمَّثْري، وَالْجَوْزُ، وَالْخَوْخُ، وَاللَّوْزُ، وَمَا عَدَا مَا ذُكِرَ فِي الْقِسْمِ الْمَاضِي وَمَا يُذْكَرُ فِي الْقِسْمِ الْآتِي، وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِهِ وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي بَعْضِهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ الزَّيْتُونُ،(3/234)
وَالْوَرْسُ، وَالزَّعْفَرَانُ وَالْقِرْطِمُ، وَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِي خَامِسٍ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا وَهُوَ الْعَسَلُ، فَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَلَهُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) . فاقتضى أن يكون الأمر باتيان الْحَقِّ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالشَّامِ أَنْ يَأْخُذَ زَكَاةَ الزَّيْتُونِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الزَّيْتُونِ الْعُشْرُ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصحَابة فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ عادة أهل بلاده جارية بإدخاره واقتنائه كالشام وغيرها مما يثكر نَبَاتُ الزَّيْتُونِ بِهَا، فَجَرَى مَجْرَى التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَبِهِ قال ابن أبي ليلى والحسن بن أبي صَالِحٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: " لَا تَأْخُذِ الْعُشْرَ إِلَّا مِنْ أَرْبَعَةٍ الْحِنْطَةِ، والشَعِيرِ، وَالنَّخْلِ، وَالْعِنَبِ " فَأَثْبَتَ الزَّكَاةَ فِي الْأَرْبَعَةِ وَنَفَاهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا افْتَتَحَهُ مِنْ مَخَالِيفِ الْيَمَنِ وَأَطْرَافِ الشَّامِ فل يُنْقَلْ أَنَّهُ أَخَذَ زَكَاةَ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَوْ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ لَنُقِلَتْ عَنْهُ قَوْلًا وَفِعْلًا كَمَا نُقِلَتْ زَكَاةُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَلِأَنَّهُ وإن كثر من بِلَادِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَاتُ مُنْفَرِدًا كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ أُدْمًا، وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الْأَقْوَاتِ وَلَا تَجِبُ فِي الْإِدَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ فَلَا مَسْأَلَةَ، وَإِنْ قُلْنَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِلْخَبَرِ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ، وَلَا يَجُوزُ خَرْصُهُ، لِأَنَّ الزَّيْتُونَ مُسْتَتِرٌ بِوَرَقِهِ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِمُشَاهَدَتِهِ، وَلَيْسَ كَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ الْبَارِزِ الثَّمَرُ الَّذِي يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ، ثُمَّ لَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِيرُ زَيْتًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُوَنَ مِمَّا لَا يَصِيرُ زَيْتًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِيرُ زَيْتًا اعْتُبِرَ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مِنْهُ، وَأُخِذَ عُشْرُهُ زَيْتُونًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصِيرُ زَيْتًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَيْتًا، لِأَنَّ الزَّيْتَ حَالَةُ ادِّخَارِهِ كَالتَّمْرِ، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ عُشْرُهُ زَيْتًا لَا غَيْرَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَيْتُونًا، لِأَنَّ الزَّيْتَ مُسْتَخْرَجٌ من الزيتون بصنعة وعلاج فلم يكن كحاله كالدبس والدقيق، فَعَلَى هَذَا يُؤْخَذُ عُشْرُهُ زَيْتًا لَا غَيْرَ.(3/235)
فَصْلٌ: وَأَمَّا الْوَرْسُ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالَ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ مَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ يوسف عن محمد بن يزيد الخفاشي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ خُفَّاشٍ بِخَطِّ مُعَيْقِيبٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَهْلِ خفاشٍ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا الْعُشْرَ مِنَ الْوَرْسِ وَالذُّرَةِ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لأحدٍ عَلَيْكُمْ، فَعَلَّقَ فِي الْقَدِيمِ إِيجَابَ زَكَاةِ الْوَرْسِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنْ صَحَّ كَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَى الْقَدِيمِ وَاجِبَةً فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ وَقْصٍ مَعْفُوٍّ، لِعُمُومِ الْأَثَرِ فِيهِ.
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ لَا زَكَاةَ فِيهِ بِحَالٍ لِضِعْفِ الأثر المروي واحتماله التأويل لو صح والله أعلم.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الزَّعْفَرَانُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِنْ كَانَ الْعُشْرُ فِي الْوَرْسِ ثَابِتًا احْتَمَلَ أَنْ يُقَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ الْعُشْرُ، لِأَنَّهُمَا طَيِّبَانِ وَلَيْسَا كَثِيرًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَا شَيْءَ فِي الزَّعْفَرَانِ، لِأَنَّ الْوَرْسَ شَجَرٌ لَهُ ساق وهو ثمرة والزعفران ينبت فجعل الْوَرْسَ لَا شَيْءَ فِيهِ فَالزَّعْفَرَانُ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا فِي الْوَرْسِ الزَّكَاةُ فَالزَّعْفَرَانُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَعَلَى الْجَدِيدِ لَا زَكَاةَ فِيهِمَا بِحَالٍ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْقِرْطِمُ وَعُصْفُرُهُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ فِيهِ الْعُشْرُ كَانَ مَذْهَبًا، فَعَلَّقَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْعُشْرَ مِنَ الْقِرْطِمِ وَالصَّحِيحُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهِ كَالزَّعْفَرَانِ لِخُرُوجِ كُلِّ ذَلِكَ عَنِ الْأَقْوَاتِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْعَسَلُ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ الْقَوْلَ فِيهِ فَجَعَلَ ذَلِكَ قَوْلًا لَهُ فِي إِيجَابِ عُشْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة فِيمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ أَرْضِ الْخَرَاجِ، تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا من بني سلمة أتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعثور نخلٍ لَهُمْ فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ، وَحَمَى لَهُمْ وَادِيًا.
وَرُوِيَ عن عبد الله بن رياب قَالَ: " قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَسْلَمْتُ ثُمَّ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: اجْعَلْ لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: فَفَعَلَ وَاسْتَعْمَلَنِي عَلَيْهِمْ، ثَمَّ اسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، قَالَ: فَكَلَّمْتُ قَوْمِي فِي الْعَسَلِ وَقُلْتُ لَهُمْ زَكُّوهُ فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي ثَمَرَةٍ لَا تُزَكَّى، فَقَالُوا: كَمْ تَرَى فَقُلْتُ: الْعُشْرَ، فَأَخَذْتُ مِنْهُمُ الْعُشْرَ فَأَتَيْتُ بِهِ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ فقبضه وجعله في صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ " وَالصَّحِيحُ عَلَى الْقَدِيمِ، وَصَرِيحُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ فِي إِسْقَاطِ زَكَاةِ الزَّيْتُونِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده أن قَوْمًا آتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعشور فحل لَهُمْ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَحْمِيَ وَادِيًا لَهُمْ يُقَالُ له: سلمة فحماه لهم، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنْ(3/236)
أَدَّوْا إِلَيْكَ مَا أَدَّوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاحْمِ لَهُمْ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْثُ ذبابٍ يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ ". فَلَوْ كَانَ عُشْرُهُ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِأَخْذِهِ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْمِ لَهُمْ ثُمَّ قد أخبر في حكمه وإباحته أنه غَيْثُ ذُبَابٍ يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ وَلَمْ يُعَلِّقْ عَلَى الْأَكْلِ حَقًّا يُؤَدَّى فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(3/237)
باب صدقة الزرع
قال الشافعي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) دلالةٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَمَا جَعَلَ الزَّكَاةَ على الزرع ".
أَمَّا الزُّرُوعُ فَمِنَ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ في أجناس ما تجب فيه الزَّكَاةُ، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ سَبْعَةُ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِيمَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ قُوتًا مُدَّخَرًا، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لَا غَيْرَ، قَالَ بِهِ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ لَا غَيْرَ، قَالَ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ في كل زرع نبت من بزره وأخذ بزره مِنْ زَرْعِهِ قَالَ بِهِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ.
وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْحُبُوبِ الْمَأْكُولَةِ غَالِبًا مِنَ الزُّرُوعِ قَالَ بِهِ مَالِكٌ.
والمذهب السادس: أنها واجبة في الْحُبُوبِ الْمَأْكُولَةِ. وَالْقُطْنِ أَيْضًا قَالَ بِهِ أبو يوسف.
وَالْمَذْهَبُ السَّابِعُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مزروع ومغروس من فواكه وبقال وَحُبُوبٍ وَخُضَرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة اسْتِدْلَالًا بعموم قَوْله تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ) {البقرة: 267) . وبعموم قوله: {وَالزّيْتُونَ والرُّمَانَ) {الأنعام: 141) . إِلَى قَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) : وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ " وَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ مَزْرُوعٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ عُشْرُهُ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ(3/238)
السَّلَامُ وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ طَلْحَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ ".
وَرَوَى أَبَانُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْبُقُولِ زَكَاةٌ ".
وروى الأسود عن عاشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ليس فيما أنبتت الأرض من الخضراوات زَكَاةٌ.
وَرَوَى مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ [فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ] فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ "، يَكُونُ ذَلِكَ فِي التَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْحُبُوبِ، فأما الْبِطِّيخُ وَالْقِثَّاءُ وَالْخَضْرَاوَاتُ فَعَفْوٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، ولأنه نبت لا يقتات غالباً فاقتضى أنه لَا يَجِبَ فِيهِ الْعُشْرُ كَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّ الزكاة إذا وجبت في جنس فِيهِ الْعُشْرُ كَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ فِي جِنْسٍ تَعَلَّقَتْ بِأَعْلَى نَوْعَيْهِ وَسَقَطَتْ عن أدونهما، كالحيوان لم تجب الزكاة إِلَّا فِي أَعْلَى نَوْعَيْهِ وَهُوَ النَّعَمُ السَّائِمَةُ، وَكَالْمَعَادِنِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا فِي أَعْلَى نوعيها وهي الفضة والذهب، وكالعروض ولم تَجِبِ الزَّكَاةُ إِلَّا فِي أَعْلَى نَوْعِهَا وَهِيَ عروض التجارات، فاقتضى أن تكون زكاة الزُّرُوعُ مُتَعَلِّقَةً بِأَعْلَى نَوْعَيْهِ دُونَ الْآخَرِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: إِنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزكاة فوجب أن تختص الزكاة بأعلى نوعين مِنْ جِنْسِهِ كَالْحَيَوَانِ.(3/239)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ) {البقرة: 267) فَهِيَ عَامَّةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ دعوى الإضمار فيها، فأما أبو حنيفة يقول إلا الفضة وَنَحْنُ نَقُولُ إِلَّا مَا يُقْتَاتُ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْإِضْمَارَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَتَعَارَضَا، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ فِي الْخَضْرَوَاتِ شَيْءٌ يَخُصُّهُ، وَبِهَذَا الْجَوَابِ يَنْفَصِلُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) وَيَنْفَصِلُ عَنْهُ أَيْضًا بِجَوَابَيْنِ آخَرِينَ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ مِنْ صَدَقَةٍ يَتَطَوَّعُ بِهَا يَوْمَ الْحَصَادِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِإِيتَاءِ حَقِّهِ، وَلَمْ يَقُلْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَنَا بِإِخْرَاجِهِ يَوْمَ حَصَادِهِ، وَالزَّكَاةُ لَا يجب إخراجها يوم الحصاد إلا بعد الجز وَالدِّيَاسِ فَبِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَهَذَا أَحَدُ الْجَوَابَيْنِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَّقَ الزَّكَاةَ بِمَا كَانَ مِنْهُ مَحْصُودًا، وَالْحَصَادُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي الأشجار والقثاء والخيار، فإن قبل الحصاد هو الاستعمال قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدينَ) {الأنبياء: 15) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أحصدهم حصيداً حتى تلقني عَلَى الصَّفَا " وَإِذَا كَانَ الْحَصْدُ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ صار تقدير الآية وآتو حقه يوم اسْتِئْصَالِهِ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِزَرْعٍ مِنْ غَيْرِهِ، قِيلَ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَصَادِ فِي الزُّرُوعِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي غيره، يقال حصد الزرع وجذّ التمر، وقطف العنب وجد الْبَقْلُ وَجُنِيَ الْفَاكِهَةُ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ ... إِذْ كُلُّ جانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ)
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(إِذَا لَمْ يكن فيكن ظل ولا جناً ... فَأَبْعَدَكُنَّ اللَّهُ مِنْ شَجَرَاتِ)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّنَا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَصَادَ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الثِّمَارَ لَا تُسْتَأْصَلُ بَلْ تُتْرَكُ أُصُولُهَا وَتُجْنَى ثِمَارُهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا تَكَافَأَ النِّزَاعُ فِيهَا وَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ فِيمَا سَقَتِ السماء العشر فجوابه كجواب الآية الأولى فنقول قَدْ رَوَاهُ مُعَاذٌ تَامًّا فَقَالَ: وَأَمَّا الْبِطِّيخُ وَالْقِثَّاءُ وَالْخَضْرَاوَاتُ فَعَفْوٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، فَكَانَ هذا مخصصاً لعموم ما تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: إِنَّهُ مُقْتَاتٌ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالْخَضْرَاوَاتُ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مُقْتَاتَةٍ شَابَهَتِ الْحَشِيشَ والحطب فلم تجب فيها الزكاة.(3/240)
مسألة:
قال الشافعي: " فَمَا جَمَعَ أَنْ يَزْرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ وَيُيَبَّسُ وَيُدَّخَرُ ويقتات مأكولاً خبزاً وسويقاً أو بطيخاً ففيه الصدقة وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والذرة وهذا مما يزرع ويقتات ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ الْمُقْتَاتَةِ فوجوبها معتبر بأربعة شروط:
أَحَدُهَا: أَنْ يَزْرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُيَبَّسُ بَعْدَ حَصَادِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُدَّخَرُ بَعْدَ يُبْسِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُقْتَاتُ حَالَ ادِّخَارِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ وَجْهُ اقتنائه بخبز أو طبيخ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْأَرْبَعُ فِي زَرْعٍ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَهِيَ تَجْتَمِعُ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالْعَلْسِ، وَالسُّلْتِ وَالذُّرَةِ وَالْأَرُزِّ والدُّخْنِ وَالْجَاوَرْسِ والباقلي واللوبياء وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَالْمَاشِ وَالْجُلْبَانِ وَهُوَ كَالْمَاشِ، فَهَذِهِ الأصناف التي تجب فيها الزكاة دون سواها لاجتماع الشرائط فيها.
مسألة:
قال الشافعي: " ويؤخذ من العلس وهو الحنطة، والسُّلْتِ وَالْقَطَنِيَّةِ كُلِّهَا إِذَا بَلَغَ الصِّنْفُ الْوَاحِدُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَالْعَلْسُ وَالْقَمْحُ صِنْفٌ واحدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحُبُوبِ الْمُزَكَّاةِ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ الصِّنْفُ مِنْهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَأَوْجَبَ أبو حنيفة الزَّكَاةَ فِي قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الثِّمَارِ فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الصِّنْفُ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ إِلَّا الْعَلْسَ فَإِنَّهُ صِنْفٌ مِنَ الْبُرِّ وَعَلَيْهِ قِشْرَتَانِ تَذْهَبُ بِالدِّيَاسِ، إِحْدَاهُمَا وَتَبْقَى الْأُخْرَى لَا تَذْهَبُ إِلَّا أَنْ يُدَقَّ بِالْمِهْرَاسِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ القشرة التي عليه مثل ضعفه، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ مَعَ قِشْرِهِ، وَقَدْ مَنَعَ أَصْحَابُنَا مِنَ السَّلَمِ فِيهِ وَمِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَأَمَّا الْأَرُزُّ فَعَلَيْهِ قِشْرَتَانِ، الْقِشْرَةُ الْأُولَى الَّتِي لَا يطبخ بها، ولا يؤكل معها لاحتساب بها كقشرة العلس التي لا يطبخ بِهَا وَالْقِشْرَةُ السُّفْلَى الْحَمْرَاءُ اللَّاصِقَةُ بِهِ، فَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلُهَا كَقِشْرَةِ الْعَلْسِ لَا يُحْتَسَبُ بِهَا، وَلَا يَجْعَلُ فِيهِ الزَّكَاةَ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَةَ أَوْسُقٍ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: لَا تَأْثِيرَ لِهَذِهِ الْقِشْرَةِ، وَإِذَا بلغ خمسة أوسق وجبت في الزَّكَاةُ، لِالْتِصَاقِ هَذِهِ الْقِشْرَةِ بِهَا، وَإِنَّهُ رُبَّمَا طُحِنَ مَعَهَا بِخِلَافِ قِشْرَةِ الْعَلْسِ الْجَافِيَةِ عَنْهَا، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِطَحْنِهَا مَعَهُ، وَأَمَّا الذُّرَةُ الْبَيْضَاءُ وَالْحَمْرَاءُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ عَلَيْهِ(3/241)
قِشْرَةً خَفِيفَةً لَاصِقَةً بِهَا تُطْحَنُ مَعَهَا، فَلَا تَأْثِيرَ لَهَا وَلَا اعْتِبَارَ بِهَا، وَهَذَا يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَرُزِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي: " وَلَا يُضَمُّ صِنْفٌ مِنَ الْقَطْنِيَّةِ انْفَرَدَ بِاسْمٍ إِلَى صِنْفٍ وَلَا شَعِيرٌ إِلَى حنطةٍ وَلَا حبةٌ عرفت باسم منفرد إلى غيرها فاسم القطنية يجمع العدس والحمص قيل ثم ينفرد كل واحد باسم دون صاحبه وقد يجمعها اسم الحبوب فإن قيل فقد أخذ عمر العشر من النبط في القطنية قيل وأخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العشر من التمر والزبيب وأخذ عمر العشر من القطنية والزبيب أفيضم ذلك كله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقَطْنِيَّةُ وَهِيَ الْحُبُوبُ الْمُقْتَاتَةُ سوى البر والشعير كالحمص والباقلي والعدس وَاللُّوبْيَاءِ، وَالْأَرُزِّ وَمَا ذَكَرْنَا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قاطنة في المنزل أَرْبَابِهَا إِذَا ادُّخِرَتْ أَيْ: مُقِيمَةٌ.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ ضَمَّ الْقَطْنِيَّةَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وجعلها جنساً واحداً، واعتبر خمسة أوسق من جميعها وجعل البر والشعير جنساً واحداً أو اعتبر خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْهَا تَعَلُّقًا، بِأَنَّ اسْمَ الْقَطْنِيَّةِ جَامِعٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا كَمَا أَنَّ اسْمَ التَّمْرِ جَامِعٌ وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ أَنْوَاعَ التَّمْرِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْقَطْنِيَّةِ يَجِبُ ضَمُّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ الْعُشْرَ مِنَ الْقَطْنِيَّةِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا زكاةَ فِي الزَّرْعِ إِلَّا فِي أربعةٍ الْبُّرِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا حَتَّى يَبْلُغَ كُلُّ واحدٍ منها خمسة أوسق، ولأنها جِنْسَانِ لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَلَمْ يَجُزْ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلِأَنَّ الزَّكَوَاتِ لَا تَخْلُو مِنْ أن تكون متعلقة بالأسامي الجامعة أو الأسامي الْخَاصَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ بِالْأَسَامِي الْجَامِعَةِ وَجَبَ أَنْ تُضَمَّ الْحُبُوبُ كُلُّهَا، لِأَنَّ اسْمَ الْحُبُوبِ يَجْمَعُهَا والماشية كلها لأن اسم الحيوانات يجمعها والتمر والزبيب، لأن اسم الثمر يجمعها، فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَسَامِي الْخَاصَّةِ الَّتِي تَجْمَعُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً كَالتَّمْرِ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً يَقَعُ عَلَى جَمِيعِهَا اسْمُ التَّمْرِ، والعنب يجمع أنواعاً مختلفة يقع على جميع اسْمُ الْعِنَبِ، كَذَا كُلُّ صِنْفٍ مِنَ الْقَطْنِيَّةِ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ يَجْمَعُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، وَبِهَذَا يفسد ما استدل به وما رواه عن عُمَرُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَاشِيَةِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ضَمِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، فَكَذَا فِي الْقَطْنِيَّةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْبُرُّ وَأَنْوَاعُهُ صِنْفٌ، وَالْعَلْسُ نَوْعٌ مِنْهُ وَالشَّعِيرُ وَأَنْوَاعُهُ صِنْفٌ، وَالسُّلْتُ نَوْعٌ مِنْهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ هُوَ صِنْفٌ عَلَى حِيَالِهِ، وَالدُّخْنُ وَأَنْوَاعُهُ صِنْفٌ، والجاروس نَوْعٌ مِنْهُ، ثُمَّ مَا سِوَى هَذِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَصْنَافٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ فَلَا ضم صنف منها إلى صنف.(3/242)
مسألة:
قال الشافعي: " قال وَلَا يَبِينُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْفَثِّ وَإِنْ كَانَ قُوتًا وَلَا مِنْ حَبِّ الْحَنْظَلِ وَلَا مِنْ حَبِّ شجرةٍ بريةٍ كَمَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ بقرِ الْوَحْشِ وَلَا مِنَ الظِّبَاءِ صَدَقَةٌ ولا من القثاء ولا الاسفيوش ولا من حبوب البقول وكذلك القثاء والبطيخ وحبه ولا من العصفر ولا من حب الفجل ولا من السمسم ولا من الترمس لأني لا أعلمه يؤكل إلا دواء أو تفكها ولا من الأبذار ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَا لَا يَجِبُ، ثُمَّ خَصَّ الشَّافِعِيُّ بالذكر أشياء كيلا تشتبه وَإِنْ كَانَتْ مُقْتَاتَةً فَمِنْ ذَلِكَ الْفَثُّ قَالَ ابن أبي هريرة: هو حب الغاسول وَهُوَ الْأُشْنَانُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ نَبْتٌ بِالْبَادِيَةِ يُشْبِهُ الشَّعِيرَ لَهُ رَأْسَانِ يَقْتَاتُهُ النَّاسُ فِي الْجَدبِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَكَذَلِكَ حَبُّ الْحَنْظَلِ ونبت شجر البر، وكذلك الثفاء وَهُوَ: حَبُّ الرَّشَادِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: تؤدي في الأمرين الثفاء والصبر، والثفاء والصبر قيل إنه البقل الحريف، ولا زكاة في الأسبيوش وهو بزر القطونا، ولا في حب الفجل والقثاء والبطيخ، وفي حَبِّ الْعُصْفُرِ، وَهُوَ الْقرْطمُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا خَرَّجَ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَلَا في الترمس وهو أصغر من الأسبيوش يَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْمَرَارَةِ، يُكْسَرُ بِالْمِلْحِ، يَأْكُلُهُ أَهْلُ الشَّامِ تَفُكُّهًا، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَدَاوِيًا وَلَا زَكَاةَ فِي الْحُلْبَةِ، وَلَا في الشهدانج، وَلَا فِي بَزْرِ الْكِتَّانِ، وَلَا فِي الْكُزْبَرَةِ وَالْكَمُّونِ وَالْكَرَاويَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا زَكَاةَ فِي الْحُلْوَانِ وَلَا فِي الْجُلْجُلَانِ فَسَّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ في " غريب الحديث " فقال الحلوان: العيدق، وَالْجُلْجُلَانُ السِّمْسِمُ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَا أُكِلَ مِنَ النَّبَاتِ ضَرْبَانِ: مَزْرُوعٌ، وَغَيْرُ مَزْرُوعٍ، فَمَا كَانَ غَيْرَ مَزْرُوعٍ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَمَا كَانَ مَزْرُوعًا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ يُؤْكَلُ قوتاً كالبر والشعير وما ذكرنا فِيهِ وَاجِبَةٌ وَضَرْبٌ يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَغَيْرِهِ، وَلَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَضَرْبٌ يُؤْكَلُ أبْزَارًا وَأُدْمًا كَالْكَرَاويَا وَالْكُزْبَرَةِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَضَرْبٌ يُؤْكَلُ تَدَاوِيًا كَالرَّشَادِ وَالْإِهْلِيلَجِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتِ الزَّكَاةُ بِالْأَقْوَاتِ، لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ فَاخْتَصَّتْ بِمَا عَمَّ نَفْعُهَا ودعت حاجة الكافة إليها.
مسألة:
قال الشافعي: " ولا تؤخذ زكاة شيءٍ مما ييبس ويداس وييبس ثمره وزبيبه وينتهي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ وَأَدَاؤُهَا بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ، فَإِذَا صَارَ الرُّطَبُ تَمْرًا وَالْعِنَبُ زَبِيبًا أُخِذَتْ زَكَاتُهُمَا، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَتَجِبُ زَكَاتُهُ إِذَا يَبِسَ وَاشْتَدَّ وَقَوِيَ وَاسْتَحْصَدَ، وَتُؤَدَّى زَكَاتُهُ بَعْدَ دِيَاسِهِ وَتَصْفِيَتِهِ إِذَا صَارَ حَبًّا خَالِصًا، ومؤنته من وقت حصاده إلى حِينِ تَذْرِيَتِهِ وَتَصْفِيَتِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ دُونَ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُؤْنَةُ مِنْ وَسَطِ الْمَالِ لَا يَخْتَصُّ بِهَا رَبُّ الْمَالِ دُونَ أَهْلِ السُّهْمَانِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي(3/243)
الْمِلْكِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْحَصَادِ إِلَى وَقْتِ التَّصْفِيَةِ إِنَّمَا وَجَبَ لِتَكَامُلِ مَنَافِعِهِ، وَإِذَا وَجَبَ الْأَدَاءُ بَعْدَ تَكَامُلِ المنافع فالمؤنة عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ التَّسْلِيمِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنَ الْحُبُوبِ الْمُزَكَّاةِ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ كِمَامِهَا إِلَّا الْعَلْسَ إِذَا بَقِيَ فِي إِحْدَى قِشْرَتَيْهِ فَإِنَّ الشافعي قال: أخير رب المال بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ كُلِّ عَشْرَةِ أَوْسُقٍ مِنْهُ وَسْقًا، لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الْقِشْرَةِ أَبْقَى، وَبَيْنَ أن يخرجه من هذه العشرة وَآخَذُ مِنْ كُلِّ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ الْعُشْرَ، فَأَمَّا الْحِنْطَةُ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهَا فِي سُنْبُلِهَا وَإِنْ كانت فيه أبقى لتعذر كيلها.
مسألة:
قال الشافعي: " وَإِنْ أَخَذَهُ رُطَبًا كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ قِيمَتِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ وَأَخَذَهُ يَابِسًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِخْرَاجَ زَكَاةِ الثِّمَارِ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ، وَالزُّرُوعِ بَعْدَ الدِّيَاسِ وَالتَّصْفِيَةِ، فَلَوْ أَخَذَ الْوَالِي زَكَاةَ النَّخْلِ رُطَبًا، وَالْكَرْمَ عِنَبًا وَالزَّرْعَ سُنْبُلًا كَانَ مُسِيئًا بِهِ، وَلَزِمَهُ رَدُّهُ، وَأَخَذَ الزَّكَاةَ بَعْدَ الْجَفَافِ وَالدِّيَاسِ، فإن تلف من يده قبل رده ولزمه رَدُّ قِيمَتِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالزَّكَاةِ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ، فَلَوْ كَانَ مَا أَخَذَهُ رُطَبًا باقياً فيبس في يده، فإن كان بقدر الزَّكَاةِ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَقَدْ أجزأته عَنْ زَكَاتِهِ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا عَنْ قَدْرِ الزكاة طالبه رطبه بِمَا بَقِيَ مِنْهَا لَا غَيْرَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي: " ولا أجيز بيع بعضه ببعضٍ رطباً لاختلاف نقصانه والقشر مقاسمة كالبيع ".
قال الماوردي: وهذا صحيح، كل تمرة لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبِهَا بِرُطَبِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ، وَلَا بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَلَا بَيْعُ الْعِنَبِ بِالْعِنَبِ، وَلَا بَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ، وهذا يأتي في كتاب البيوع مستوفى ويذكر الْخِلَافَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْعُشْرُ مُقَاسَمَةٌ كَالْبَيْعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْقِسْمَةِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا كالبيع.
والثاني: أنها إقرار حق وتمييز نصب، وَسَيَجِيءُ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ، فَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا كَالْبَيْعِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَسِمَ الشُّرَكَاءُ ثِمَارًا رُطَبَةً، وَإِذَا قِيلَ إنها إقرار حَقٍّ جَازَ اقْتِسَامُهُمْ لَهَا كَيْلًا وَوَزْنًا وَلَمْ يجز جزافاً، لأن حق كل واحد لَا يَتَمَيَّزُ وَأَمَّا قِسْمَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَأَهْلِ السُّهْمَانِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهَا مُقْنِعًا وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي: " وَلَوْ أَخَذَهُ مِنْ عِنَبٍ لَا يَصِيرُ زَبِيبًا أو من رطب لا يصير تمراً أمرته برده لما وصفت وكان شريكاً فيه يبيعه ولو قسمه عنباً موازنة كرهته له ولم يكن عليه غرمٌ ".(3/244)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا حكم ما لا يصير من الرطب تمراً، وَمِنَ الْعِنَبِ زَبِيبًا، ثُمَّ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَالَ: " إِنْ أَخَذَهُ أَمَرْتُهُ بِرَدِّهِ " ثم قال عقيبه: " ولو قسمه عنباً موازنة كرهته له وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غُرْمٌ " وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ فِي ظَاهِرِهِ، وَلَكِنْ لِلْكَلَامَيْنِ تَأْوِيلٌ وَهُوَ: أَنَّهُ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ إِذَا لَمْ يَتَحَرَّ فِيمَا أَخَذَهُ وَلَا يتعين أنه استوفى في حقه، ثم قال يجزئه إذا أخذه بعد الاستفضاء وَالتَّحَرِّي وَكَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَزِيَادَةٍ فَاخْتَلَفَ جَوَابُهُ فِي الرَّدِّ وَالتَّقَاضِي لِاخْتِلَافِ معنى الأخذ والله أعلم.(3/245)
باب الزرع في أوقات
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " الذرة تزرع مرة فتخرج فتحصد ثُمَّ تُسْتَخْلَفُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَتُحْصَدُ أُخْرَى فَهُوَ زَرْعٌ واحدٌ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ حَصَدَتُهُ الْأُخْرَى وهكذا بذر اليوم وبذر بعد شهرٍ لأنه وقتٌ واحدٌ للزرع وتلاحقه فيه متقاربٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ فِي الذُّرَةِ أَنَّهَا تُسْتَخْلَفُ بَعْدَ حَصَادِهَا، وَلَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ الْعَادَةُ فِيمَا سِوَاهَا، فَإِذَا اسخلفتا الذرة بعدما حصدت فهذا على ثلاث أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الذُّرَةُ حِينَ اسْتُحْصِدَتْ تَسَاقَطَتْ مِنْ قَصَبَتِهَا فَنَبَتَتْ، فَهَذَا زَرْعٌ ثَانٍ يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ، وَلَا يُضَمُّ إِلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ بَذْرَهُ بَعْدَ حَصَادِهِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي بذر ولا حصاد، فإذا بَلَغَ النِّصَابَ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الذُّرَةُ قَدْ حُصِدَتْ فَيُسْتَخْلَفُ قَصَبُهَا وَتَحْمِلُ حَبًّا ثَانِيًا فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: لَا يُضَمُّ إِلَى الْأَوَّلِ وَيُعْتَبَرُ حُكْمُهُ بِذَاتِهِ كَالنَّخْلِ إِذَا حَمَلَ فِي السَّنَةِ حِمْلَيْنِ لَمْ يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُضَمُّ إِلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا زَرْعٌ وَاحِدٌ عَنْ بَذْرٍ وَاحِدٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّخْلِ إِذَا حَمَلَ حِمْلَيْنِ، هُوَ: أَنَّ النَّخْلَ ثَابِتُ الْأَصْلِ غُرِسَ لِبَقَائِهِ وَتَوَالِي ثَمَرِهِ، وَكُلُّ حِمْلٍ مِنْهُ مُنْفَرِدٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا حَمَلَ فِي السَّنَةِ حِمْلَيْنِ كَانَ كَمَا لَوْ حَمَلَ فِي عَامَيْنِ، فَلَمْ يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّرْعُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتِ الْأَصْلِ وَلَا مَزْرُوعٌ لِلْبَقَاءِ وَتَوَالِي النَّمَاءِ، وَإِنَّمَا زُرِعَ لِأَخْذِهِ بَعْدَ تَكَامُلِهِ فَخَالَفَ النَّخْلَ وَوَجَبَ ضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الذُّرَةُ حِينَ بُذِرَتْ تُعُجِّلَ نَبَاتُ بَعْضِهَا وَاسْتُحْصِدَ وَتَأَخَّرَ حَصَادُ الْبَعْضِ الْآخَرِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا قَرِيبًا وَفَصْلُ حَصَادِهِمَا وَاحِدًا، كَأَنَّهُ نَبَتَ دُفْعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ زَحَمَ بَعْضُهُ بَعْضًا فَتُعُجِّلَ حَصَادُ مَا قَوِيَ وَتَأَخَّرَ حَصَادُ مَا ضَعُفَ، فَهَذَا زَرْعٌ وَاحِدٌ يُضَمُّ مَا(3/246)
تَقَدَّمَ مِنْهُ إِلَى مَا تَأَخَّرَ كَثَمَرِ النَّخْلِ إِذَا طَلَعَ بَعْضُهُ وَأُبِّرَ بَعْضُهُ وَزَهَا بَعْضُهُ وأرطب بعضه فجميعه ثمرة واحدة يجب ضم بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فَكَذَا الزَّرْعُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبْعُدَ مَا بَيْنَهُمَا وَيَخْتَلِفَ فَصْلُ حَصَادِهِمَا كأنه بَذْرٌ فَنَبَتَ بَعْضُهُ وَتَأَخَّرَ بَعْضُهُ حَتَّى حُصِدَ الْأَوَّلُ فِي الصَّيْفِ وَحُصِدَ الثَّانِي فِي الْخَرِيفِ فَهَذَا زَرْعٌ قَدِ اتَّفَقَ زَمَانُ بَذْرِهِ وَاخْتَلَفَ زَمَانُ حَصَادِهِ، فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُضَمُّ.
وَالثَّانِي: لَا يُضَمُّ وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ ذَلِكَ فِيمَا يليه.
مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا زَرَعَ فِي السَّنَةِ ثَلَاثَ مراتٍ فِي أوقاتٍ مختلفة في خريف وربيع وصيفٍ ففيه أقاويل منها أنه زرع واحدٌ إذا زرع في سنةٍ وإن أدرك بعضه في غيرها ومنها أن يضم ما أدرك في سنةٍ واحدةٍ وما أدرك في السنة الأخرى ضم إلى ما أدرك في الأخرى ومنها أنه مختلف لا يضم (قال الشافعي) في موضعٍ آخر وإذا كان الزرعان حصادهما معاً في سنةٍ فهما كالزرع الواحد وإن كان بذر أحدهما قبل السنة وحصاد الآخر متأخرٌ عن السنة فهما زرعان لا يضمان ولا يضم زرع سنةٍ إلى زرع سنةٍ غيرها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِالذُّرَةِ أَنْ تُزْرَعَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا فِي الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِهَا، فَإِذَا زُرِعَتْ مِرَارًا فَفِي ضَمِّهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ.
أَحَدُهَا: إِنَّهُ يُضَمُّ زَمَانُ مَا اتَّفَقَ بَذْرُهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ زَمَانُ حَصَادِهِ وَلَسْنَا نُرِيدُ بِاتِّفَاقِ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ بَذْرُهُمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا نَعْنِي أَنْ يَكُونَ بَذْرُهُمَا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا شَهْرٌ وَأَكْثَرُ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: أَنَّ الْبَذْرَ أَصْلٌ والحصاد نوع، فَكَانَ اعْتِبَارُ الزَّرْعِ بِأَصْلِهِ أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِهِ بنوعه لِأَنَّ الْبَذْرَ مِنْ أَفْعَالِنَا وَالْحَصَادَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ من اعتبار أحدهما فاعتبار ما تعلق بفعلنا أَيْسَرُ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ أَجْدَرُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَا اتَّفَقَ زَمَانُ حَصَادِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ زَمَانُ بَذْرِهِ لِأَنَّ بِاسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ وُجُوبَ زَكَاتِهِ، فَكَانَ الضَّمُّ بِاعْتِبَارِهِ أَوْلَى كَالثِّمَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُضَمُّ مَا اتَّفَقَ زَمَانُ بَذْرِهِ وَزَمَانُ حَصَادِهِ فَيُرَاعَى الضَّمُّ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، فَإِنِ اتَّفَقَ زَمَانُ بَذْرِهِمَا وَزَمَانُ حَصَادِهِمَا ضُمَّا، وَإِنِ اتَّفَقَ زَمَانُ بَذْرِهِمَا وَاخْتَلَفَ زَمَانُ حَصَادِهِمَا أَوِ اتَّفَقَ زَمَانُ حَصَادِهِمَا وَاخْتَلَفَ زَمَانُ بَذْرِهِمَا لَمْ يُضَمَّا، [هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَرَأَيْتُهُ(3/247)
في الأصل إلا ما ذكرها هُنَا] ، لِأَنَّ الْبَذْرَ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْحَصَادَ شَرْطٌ فِي الِانْتِهَاءِ وَالْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ الضَّمُّ بِاعْتِبَارِهِمَا.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّهُ يُضَمُّ مَا جَمَعَتِ السَّنَةُ الْوَاحِدَةُ بَذْرَهُ وَحَصَادَهُ، وَلَسْنَا نَعْنِي بِالسَّنَةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَإِنَّمَا نَعْنِي عَامَ الزِّرَاعَةِ الَّذِي هُوَ فِي الْعُرْفِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوُهَا، فَعَلَى هَذَا لَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الطَّرَفَيْنِ وَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِالْعَامِ الْجَامِعِ لَهُمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ ضَمُّ ثِمَارِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ ضَمُّ زَرْعِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ والله أعلم.(3/248)
باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض
قال الشافعي رضي الله عنه: " بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَوْلًا مَعْنَاهُ، مَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ فَفِيهِ نَصْفُ الْعُشْرِ وَمَا سُقِيَ بِغَيْرِهِ مِنْ عينٍ أَوْ سماءٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَعْنَى ذَلِكَ، وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا وَبِهَذَا أَقُولُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الزَّرْعُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ وَجَرَيَانِهِ.
وَالثَّانِي: مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِآلَةٍ وَعَمَلٍ.
فَأَمَّا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ بِطَبْعِهِ وَجَرَيَانِهِ، فَهُوَ مَا سُقِيَ بِمَاءِ سَمَاءٍ أَوْ سَيْحٍ مِنْ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ كان بعلا أَوْ عَثَرِيًّا فَفِيهِ الْعُشْرُ وَأَمَّا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمَاءُ بِآلَةٍ وَعَمَلٍ فَهُوَ مَا سُقِيَ بغرب أَوْ نَضْحٍ أَوْ دُولَاب أَوْ زُرْنُوقٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْعِبْرَةُ، فَالسُّنَّةُ مَا رَوَاهُ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال ما سقته الأنهار والعين ففيه العشر، وما سقته السواقي فَنِصْفُ الْعُشْرِ.
وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَالْأَنْهَارُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ بَعْلًا فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي وَالنَّضْحِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَالْبَعْلُ مِنَ النَّخْلِ مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن رواحة هنالك لا أبالي على سقي ولا بعل وإن عظم الإباء.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتب لقطن بن الحارث كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ " وَفِيمَا سُقِيَ بِالْجَدْوَلِ مِنَ العين المعين العشر من تمرها وَمِمَّا أَخْرَجَ أَرْضُهَا وَفِي الْعِذْيِ شَطْرُهُ بِقِيمَةِ الْأَمِينِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِمْ وَظِيفَةٌ وَلَا يُفَرَّقُ " قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْعِذْيُ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَهَذَا تَفْسِيرٌ يُخَالِفُ مَا يَقْتَضِيهِ الْخَبَرُ، وَقَالَ أَبُو عمر والعذي، والعدي واحد، والسيل ما جرى من الأنهار والعلل الْمَاءُ بَيْنَ الشَّجَرِ.(3/249)
وَأَمَّا الْعِبْرَةُ فَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أُصُولِ الزَّكَوَاتِ أَنَّ مَا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهُ قَلَّتْ زَكَاتُهُ، وَمَا قَلَّتْ مُؤْنَتُهُ كَثُرَتْ زَكَاتُهُ، أَلا تَرَى الرِّكَازَ لما قلت مؤنتها وجب فيها الخمس، وأموال التجارات لما كثرت مؤنتها وجبت فِيهَا رُبُعُ الْعُشْرِ، فَكَذَا الزُّرُوعُ الْمَسْقِيَّةُ بِغَيْرِ آلَةٍ لَمَّا قَلَّتْ مُؤْنَتُهَا وَجَبَ فِيهَا الْعُشْرُ، وَالْمَسْقِيَّةُ بِآلَةٍ لَمَّا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهَا وَجَبَ فِيهَا نصف العشر.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وما سقي مِنْ هَذَا بنهرٍ أَوْ سيلٍ أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ فَلَمْ يَكْتَفِ بِهِ حَتَّى يسقي بالغرب فالقياس أن ينظر إلى ما عاش في السقيين فَإِنْ عَاشَ بِهِمَا نِصْفَيْنِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ وَإِنْ عَاشَ بِالسَّيْلِ أَكْثَرَ زِيدَ فِيهِ بقدر ذلك قد قيل ينظر أيهما عاش به أكثر فيكون صَدَقَتُهُ بِهِ وَالْقِيَاسُ مَا وَصَفْتُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ رب الزرع يَمِينِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ.
لَا يَخْلُو حال الزرع من ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالسَّيْحِ فَهَذَا فِيهِ الْعُشْرُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ سَقْيِهِ بِمَاءِ الرِّشَا وَالنَّضْحِ، فَهَذَا فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَقْيُهُ بِهِمَا جَمِيعًا فذلك ضربان:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ فِي زَرْعَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ سُقِيَ أَحَدُهُمَا بالسحي وَالْآخَرُ بِالنَّضْحِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهُ بنفسه، فإذا ضُمَّا فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ أُخِذَ عُشْرُ أَحَدِهِمَا وَنِصْفُ عُشْرِ الْآخَرِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَرْعًا وَاحِدًا سُقِيَ بِالنَّضْحِ تَارَةً وَبِالسَّيْحِ أخرى فهذا على ضربي.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّقْيَيْنِ مَعْلُومًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا: فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا قَدْ ضُبِطَ قَدْرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّيْحِ وَقَدْرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ النَّضْحِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَسَاوَيَا مَعًا فَيَكُونُ نِصْفُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّيْحِ وَنِصْفُ سَقْيِهِ بِمَاءِ النَّضْحِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا ضُمَّ الْعُشْرُ إِلَى نِصْفِهِ وَأُخِذَ نِصْفُ مَجْمُوعِهِمَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلَا فَيَكُونُ أَحَدُ السَّقْيَيْنِ أَكْثَرَ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ حُكْمُ الْأَكْثَرِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّيْحِ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ النَّضْحِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ اسْتِشْهَادًا بِأُصُولِ الشَّرْعِ فِي حُكْمِ الْأَغْلَبِ فِي(3/250)
الْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ، وَفِي الْمَاءِ إِذَا اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِمَا مَشَقَّةً فَرُوعِيَ حُكْمُ أَغْلَبِهِمَا تَخْفِيفًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ يُعْتَبَرَانِ مَعًا وَيُؤْخَذُ مِنَ الزَّرْعِ بِحِسَابِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْجَبَ الْعُشْرَ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِيمَا سَقَتْهُ النَّوَاضِحُ، فَوَجَبَ أَنْ يُعَلَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ عَلَى مَا عَلَّقَهُ عَلَيْهِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَفِي اعْتِبَارِ حُكْمِ الْأَغْلَبِ تَغْلِيبٌ لِحُكْمِ الْأَقَلِّ عليه، وذلك غير جائز، ولأنه لما اعتبر فِي الزَّرْعَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَا فِي الزَّرْعِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنْ كَانَ ثُلُثُ سَقْيِهِ بِالسَّيْحِ وَثُلُثَا سَقْيِهِ بِالنَّضْحِ فَفِيهِ ثُلُثَا الْعُشْرِ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ سَقْيِهِ بِالنَّضْحِ وَثُلُثَا سَقْيِهِ بِالسَّيْحِ فَفِيهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعُشْرِ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ واعتبار ذلك بأعداد السقيات التي يحيي الزَّرْعُ بِهَا، فَإِذَا سُقِيَ بِالسَّيْحِ خَمْسُ سَقْيَاتٍ وَبِالنَّضْحِ عَشْرُ سَقْيَاتٍ كَانَ ثُلُثُهُ بِالسَّيْحِ وَثُلُثَاهُ بالنضح.
فصل
: وإن جهل قدر السقيتين وَشَكَّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْثَرُ وَيَشُكّ فِي أَيِّهِمَا هُوَ الأكثر وإن قِيلَ بِمُرَاعَاةِ الْأَغْلَبِ وَاعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَإِنْ قِيلَ بِمُرَاعَاتِهِمَا وَاعْتِبَارِ حسابهما، قلنا عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَدْر وَاجِبِهِ، غَيْرَ أَنَّنَا نعلم أنه ينقص عن العشر ويزيد عن نصف العشر، فيأخذ قدر اليقين ويتوقف على الْبَاقِي حَتَّى يَسْتَبِينَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشُكَّ هَلْ هما سَوَاءٌ أَوْ أَحَدُهُمَا أَكَثُرُ، فَإِنْ قِيلَ بِاعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ وَإِنْ قِيلَ: بِاعْتِبَارِهِمَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ أَعْدَلُ الْحَالَيْنِ وَأَثْبَتُ لِحُكْمِ السَّقْيَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُؤْخَذُ زِيَادَةٌ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ قَلَّ وَهُوَ قَدْرُ الْيَقِينِ وَيُتَوَقَّفُ عَنِ الْبَاقِي حَتَّى يَسْتَبِينَ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَإِسْقَاطًا لِحُكْمِ الشَّكِّ، فَأَمَّا زَرْعُ النَّوَاضِحِ إِذَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ رب المال والوالي وادعى الْوَالِي مَا يُوجِبُ كَمَالَ الْعُشْرِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَذِهِ اليمين استظهار، لأنها لا تُطَابِقُ ظَاهِرَ الدَّعْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأَخْذُ الْعُشْرِ أَنْ يُكَالَ لِرَبِّ الْمَالِ تِسْعَةٌ وَيَأْخُذَ الْمُصَدِّقُ الْعَاشِرَ وَهَكَذَا نِصْفُ الْعُشْرِ ".(3/251)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا أَرَادَ السَّاعِي مقاسمة رب المال بدأ أولاً نصيبه لكثرة حقه، فإن نَصِيبَ الْمَسَاكِينِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، فَإِنْ وَجَبَ فِي مَالِهِ الْعُشْرُ كَانَ لَهُ تِسْعَةُ أَقْفِزَةٍ وَأَخَذَ الْعَاشِرَ وَإِنْ وَجَبَ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ كَانَ لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ قَفِيزًا وَأَخَذَ قَفِيزًا، وَإِن وَجَبَ ثُلُثَا الْعُشْرِ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَفِيزًا، وَأَخَذَ قَفِيزًا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ، وَلَا يَجُوزُ إذا وجب العشر أن يكتال لَهُ عَشْرَةً وَيَأْخُذَ هُوَ وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عُشْرًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا، فَأَمَّا صِفَةُ الْكَيْلِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ بِلَا دَقٍّ وَلَا زَلْزَلَةٍ وَلَا تَحْرِيكٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَيْلِ وَأَخْذِ الْفَضْلِ، وَلَا يَضَعُ يَدَهُ فَوْقَ الْمِكْيَالِ، وَيَضَعُ عَلَى رَأْسِ الْمِكْيَالِ مَا أَمْسَكَ رَأْسَهُ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ زِيَادَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَصَحُّ الْكَيْلِ وَأَوْلَاهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مَعَ خَرَاجِ الْأَرْضِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
أَرْضُ الْخَرَاجِ مِنْ سَوَادِ كِسْرَى يَجِبُ أَدَاءُ خَرَاجِهَا وَيَكُونُ أُجْرَةً وَيُؤْخَذُ عُشْرُ زَرْعِهَا وَيَكُونُ صَدَقَةً، لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَرَاجُ جِزْيَةٌ يُؤَدَّى وَلَا يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ زَرْعِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَتِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ " وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَنَعَتِ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا " فَالدِّرْهَمُ الْخَرَاجُ، والقفيز العشر، وقد أخبر أن العراق هي أرض الخراج يمنع منها، وبما روي أن دهقان نهر الملك وهو: فيروز بن يزدجرد لما أسلم قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَلِّمُوا إِلَيْهِ أَرْضَهُ، وَخُذُوا مِنْهُ الْخَرَاجَ، فَأَمَرَ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَخْذِ الْعُشْرِ، وَلَوْ وَجَبَ لَأَمَرَ بِهِ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْعُشْرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالْعُشْرُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ كَانَتْ سَبَخَةً لَمْ يَجِبْ فِيهَا خَرَاجٌ وَلَا عُشْرٌ، لِأَنَّهَا لَا مَنْفَعَةَ لَهَا، فَإِذَا كان كل واحد منهما يجب بما يَجِبُ بِهِ الْآخَرُ لَمْ يَجُزِ اجْتِمَاعُهُمَا، أَلَا ترى(3/252)
أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ لِلتِّجَارَةِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ سَائِمَةً لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاتَانِ مَعًا، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ بِحُكْمِ الشِّرْكِ وَالْعُشْرَ يَجِبُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَمِعَا.
والدليل على ما قلناه مِنْ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ ولأنه حكم يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُسْتَفَادِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ كَالْمَعَادِنِ، وَلِأَنَّ الْعُشْرَ [وَجَبَ بِالنَّصِّ وَالْخَرَاجَ وَجَبَ بِالِاجْتِهَادِ، وَمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَثْبَتُ حُكْمًا فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهُ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ حُكْمًا، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ] أُجْرَةٌ لَا جِزْيَةٌ، لِجَوَازِ أَخْذِهِ من المسلم، وإذا كان أُجْرَةً لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْعُشْرِ كَالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا، وَاخْتِلَافُ حقهما أن العشر يَجِبُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ وَالْخَرَاجَ دَارَهِمُ تَجِبُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَاخْتِلَافُ مُوجِبِهِمَا أَنَّ الْخَرَاجَ وَاجِبٌ فِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ وُجِدَتِ الْمَنْفَعَةُ أَوْ فُقِدَتْ، وَالْعُشْرُ وَاجِبُ الْمَنْفَعَةِ، وَيَسْقُطُ بِفَقْدِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ بِالْآخَرِ تَشْبِيهًا بِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رواية إسحاق بْنِ عَنْبَسَةَ، وَقِيلَ إِنَّهُ يَضَعُ الْحَدِيثَ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ مَنْعُ اجْتِمَاعِهِمَا دَالًّا عَلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى إِسْقَاطِ الْخَرَاجِ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ جزية تجب على الذمي ويسقط عن المسلمين وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا إِنْ صَحَّ، وَلَا أَرَاهُ صَحِيحًا عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ الْفِتَنَ ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهَا مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفِتَنِ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْهَا فَكَانَ دَالًّا عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا مُبْطِلًا لِمَذْهَبِهِمْ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي دِهْقَانِ نَهْرِ الْمَلِكِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ الْخَرَاجِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ وَجَبَ الْعُشْرُ لَأَمَرَ بِهِ، قِيلَ الْعُشْرُ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الزَّرْعِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَرْعٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ حَصَادِ الزَّرْعِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْ أَمَرَهُ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَالِيًا عَلَى جِبَايَةِ الْعُشْرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْعُشْرُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ وَالْعُشْرَ يَجِبُ فِي الزَّرْعِ.(3/253)
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْخَرَاجَ مِنْ أَحْكَامِ الشِّرْكِ، وَالْعُشْرَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعُشْرَ عَلَى الذِّمِّيِّ ثُمَّ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَيْسَ من أحكام الشرك لجواز أخذه من المسلمين.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَعُشْرُ زَرْعِهَا وَاجِبٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَالِكِ الزَّرْعِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: على المؤجر مالك الأرض بسببين.
أحدهما: أن العشر مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ مَالِكَ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعُشْرَ مِنْ مُؤَنِ الْأَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَالِكِ الْأَرْضِ كَحَفْرِ الْآبَارِ وكرى الْأَنْهَارِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أبو حنيفة مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) {البقرة: 267) وَالزَّرْعُ مُخْرَجٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَوَجَّهَ حق الإنفاق عليه على أنه أمر بالاتفاق مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ مَنْ أَبَاحَ لَهُ الْأَكْلَ، وَالْأَكْلُ مُبَاحٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَوَجَبَ أَنْ يكون الحق واجباً على المستأجر دون المؤاجر، ولأنه زرع لو كان لمالك الأرض يوجب عليه الْعُشْرُ فَوَجَبَ إذا كان مِلْكًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْعُشْرُ عَلَى مَالِكِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ في مال يجب أَدَاؤُهُ عَنْ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَالِكِ الْمَالِ كَالْخَرَاجِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَنْ رَقَبَةِ الْأَرْضِ فَوَجَبَ عَلَى مَالِكِهَا، وَالْعُشْرُ عَنِ الزَّرْعِ فَوَجَبَ عَلَى مَالِكِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْمُؤْنَةِ فَمِثْلُهُ سَوَاءٌ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَجِبُ فِي زُرُوعِهِ وَلَا ثِمَارِهِ الْعُشْرُ.
وَقَالَ أبو حنيفة بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي زُرُوعِهِ وَثِمَارِهِ تَعَلُّقًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ " وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لأجل منفعة الأرض فوجب أن يستوي فيه المسلم والكفار كَالْخَرَاجِ، وَهَذَا غَلَطٌ وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ:
أحدهما: أن يدل عَلَى أَنَّ الْعُشْرَ زَكَاةٌ بِقَوْلِهِ فِي الْكَرْمِ يَخْرُصُ كَمَا يَخْرُصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ زَكَاةٌ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي مَالِ الذِّمِّيِّ بِأَنَّهُ حَقٌّ مَأْخُوذٌ بِاسْمِ الزَّكَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الذِّمِّيِّ كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ، وَالطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى أَنَّهُ حَقٌّ يصرف في أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الذِّمِّيِّ كَالزَّكَوَاتِ، فَأَمَّا عُمُومُ الْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذكرنا.(3/254)
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْخَرَاجِ فَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنِ اخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ بينهما.
فَصْلٌ
: فَلَوِ ابْتَاعَ ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَبَدَا صَلَاحُهَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَجِبْ فِيهَا زَكَاةٌ، لِأَنَّهَا مِلْكُ ذِمِّيٍّ، فَلَوِ ابْتَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، لِأَنَّ بُدُوَّ صَلَاحِهَا سابق لملكه.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وما زاد مما قل أو كثر فبحسابه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنْ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ، قَلِيلًا كَانَ الزَّائِدُ أَوْ كَثِيرًا، وَهُوَ إِجْمَاعٌ لَا خِلَافَ فِيهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ " فَاقْتَضَى عُمُومُ هَذَا الْخَبَرِ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ فَلَمَّا اسْتَثْنَى مِنْهُ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بَقِيَ مَا زَادَ عَلَيْهَا عَلَى عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ عَفْوَ الزَّكَاةِ عَفْوَانِ أَحَدُهُمَا فِي ابْتِدَاءِ الْمَالِ لِيَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الزَّرْعِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ، فَثَبَتَ أَحَدُ الْعَفْوَيْنِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ، وَسَقَطَ الْعَفْوُ الثَّانِي لِفَقْدِ مَعْنَاهُ.
فَصْلٌ
: إِذَا وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ لَمْ يَجِبْ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَإِنْ بَقِيَتْ فِي يَدِ مَالِكِهَا أَحْوَالًا، وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلَى مَالِكِهَا الْعُشْرُ فِي كُلِّ عَامٍ كَالْمَوَاشِي وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ " فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ نَفْيَ ما سوى العشر؛ لأن اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ إِيجَابَ عُشْرِهِ بِحَصَادِهِ وَالْحَصَادُ لَا يَتَكَرَّرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُشْرُ أَيْضًا لَا يَتَكَرَّرُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ، وَمَا ادُّخِرَ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مُنْقَطِعُ النماء معرض للنفاد وَالْفَنَاءِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْأَثَاثِ وَالْقُمَاشِ وفارق المواشي والورس التي هي مرصدة للنماء والله أعلم.(3/255)
باب صدقة الورق
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عن أبيه قال سمعت أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أواقٍ مِنَ الْوَرِقِ صدقةٌ " (قال) وبهذا نأخذ فإذا بلغ الورق خمس أواقٍ وذلك مائتا درهم بدراهم الإسلام وكل عشرة دراهم من دراهم الإسلام وزن سبعة مثاقيل ذهب بمثقال الإسلام ففي الورق صدقة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا زَكَاةُ الْوَرِقِ وَهِيَ الْفِضَّةُ فواجبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
فأما الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ امْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرْهُمْ) {التوبة: 103) وقوله تعالى: {وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفَضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) {التوبة: 34) وَالْكَنْزُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَا لَمْ يُؤَدَّ زَكَاتُهُ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ مَدْفُونًا وَمَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ مَدْفُونًا، وَقَدْ دللنا عليه في أَوَّل الْكِتَابِ، وَذَكَرْنَا خِلَافَ ابْنِ دَاوُدَ وَابْنِ جَرِيرٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا مِنْ صَاحِبِ فِضَّةٍ وَلَا ذَهَبٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلَّا جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحَ ثُمَّ أُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ تُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُ فِي يومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سنةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " فِي الرِّقةِ رُبْعُ الْعُشْرِ " وَفِي الرقة تأويلان:
أحدهما: أنها اسْمٌ لِلْفِضَّةِ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ العرب إن الرقين يعطي أفن الأفين قال: والرقيق جَمْعُ رِقَةً وَهِيَ الْفِضَّةُ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: إِنَّ الرِّقَةَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالَ ثَعْلَبٌ وَهُوَ أَصَحُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " نحو من نبراس ذهب وفضة " وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ لَا شَاهِدَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَشَائِعٌ فِي خَاصَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.(3/256)
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ زَكَاةِ الْوَرِقِ فَلَا زكاة فيما دون خمس أواقي لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " ليس فيما دون خمس أواقي صدقةٌ " وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " ليس فيما دون خمس أواقي من الورق صدقة ".(3/257)
باب تفسير الأوقية
فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَتَكُونُ الخمس أواقي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةٌ بِمَثَاقِيلِ الْإِسْلَامِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ خَبَرَانِ.
أَحَدُهُمَا: مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَدَاقِ أحدٍ مِنْ نِسَائِهِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا أَتَدْرُونَ مَا النَّشُّ؟ النَّشُّ نِصْفُ أُوقِيَّةٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا.
وَالْخَبَرُ الْآخَرُ: رَوَاهُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ليس فيما دون خمس ذود من الْإِبِلِ صدقةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ صدقةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ درهم من الورق صدقة، وحكي عن المعري وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَدَدًا لَا وَزْنًا، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا وَزْنُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ عدداً وزنها مائة دِرْهَمٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَهَذَا جَهْلٌ بِنَصِّ الإخبار وإجماع الأعصار وما تقتضيه عبرة الزكوات.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت له مِائَتَا دِرْهَمٍ تَنْقُصُ حَبَّةً أَوْ أَقَلَّ أَوْ تَجُوزُ جَوَازَ الْوَازِنَةِ أَوْ لَهَا فَضْلٌ عَلَى الْوَازِنَةِ غَيْرَهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أوسقٍ بُرْدِيٌّ خَيْرٌ قيمةٍ مِنْ مِائَةِ وسقٍ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زكاةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَرِقُهُ يَنْقُصُ عَنِ الْمِائَتَيْنِ، وَلِقِلَّةِ نُقْصَانِهَا تَجُوزُ جَوَازَ الْمِائَتَيْنِ، كَأَنَّهَا تَنْقُصُ حَبَّةً أَوْ حَبَّتَيْنِ، فَهَذِهِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ تَنْقُصُ فِي جَمِيعِ الْمَوَازِينِ أو في(3/258)
بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَقَالَ مَالِكٌ إِذَا نَقَصَتْ هَذَا الْقَدْرَ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهَا فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ تَجُوزُ جَوَازَ الْمِائَتَيْنِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَلَا فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ صدقةٌ " وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " هاتوا إلي رُبُعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا "، وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ شيءٌ حَتَّى تَتِمَّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ "، وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْمُزَكَّى عَنْهُ يُوجِبُ سُقُوطَ الزَّكَاةِ فِيهِ كَسَائِرِ النِّصْبِ، وَمَا قَالَهُ مِنْ جَوَازِهَا بِالْمِائَتَيْنِ فَيَفْسُدُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا، إِنْ أَخْذَهَا بِالْمِائَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُسَامِحَةِ لَوْ قَامَ مَقَامَ الْمِائَتَيْنِ لَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ النِّصْبِ وَفِيمَا يُخْرِجُهُ مِنْ حَقِّ الْمَسَاكِينِ، وَلَقِيلَ إِذَا أَخْرَجَ خَمْسَةً إِلَّا حَبَّةً أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْخَمْسَةِ، وَلَقِيلَ فِي الرِّبَا إِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ إِلَّا حَبَّةً جَازَ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الدِّرْهَمِ، وَفِي إِجْمَاعِنَا وَإِيَّاهُ عَلَى فَسَادِ هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَرِقُهُ يَنْقُصُ عَنِ الْمِائَتَيْنِ وَهِيَ لِجَوْدَتِهَا تُؤْخَذُ بِالْمِائَتَيْنِ كَأَنَّهَا تَنْقُصُ عَشَرَةً وَقِيمَتُهَا لِجَوْدَةِ جَوْهَرِهَا تَزِيدُ عَشَرَةً، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِنُقْصَانِ وَزْنِهَا عَنِ الْمِائَتَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْمِائَتَيْنِ، وَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَافٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَالْإِفْسَادِ لقوله.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ ورقٌ رديئةٌ وورقٍ جيدةٌ أَخَذَ مِنْ كُلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَتْ وَرِقُهُ مُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَكَانَ بَعْضُهَا جَيِّدًا وَبَعْضُهَا رَدِيئًا وَكِلَاهُمَا فضة ضَمَّ الْجَيِّدَ إِلَى الرَّدِيءِ كَمَا يَضُمُّ جَيِّدَ التَّمْرِ إِلَى رَدِيئِهِ وَأُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِسَابِهِ لِتَمَيُّزِهِ فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْكُلِّ مِنْ جَيِّدِهِ كَانَ أَوْلَى، وَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْكُلِّ مِنْ رَدِيئِهِ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَابَلَ الرَّدِيءَ وَكَانَ فِيمَا قَابَلَ الْجَيِّدَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زكاة الجيد، متسأنفاً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ وَيُخْرِجُ قِيمَةَ مَا بَيْنَهُمَا ذَهَبًا كَمَا لَوْ أَخْرَجَ أَرْدَأَ الصِّنْفَيْنِ مِنَ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ. أَخْرَجَ نَقْصَ مَا بَيْنَهُمَا ورقاً والله أعلم.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ الْوَرِقَ الْمَغْشُوشَ لِئَلَّا يَغُرَّ بِهِ أَحَدًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا ضَرْبُ الْوَرِقِ الْمَغْشُوشِ فَيُكْرَهُ لِلسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا " وَلِمَا فِيهِ مِنْ إفساد النقود وغبن ذَوِي الْحُقُوقِ وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ، وَانْقِطَاعِ الْجَلْبِ(3/259)
الْمُفْضِي جَمِيعُ ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَافِ الْأُمُورِ، وَفَسَادِ أَحْوَالِ الْجُمْهُورِ فَأَمَّا جَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِهَا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا، فَهُمَا فَصْلَانِ:
نَبْدَأُ بِأَحَدِهِمَا: وَهُوَ جَوَازُ الْمُعَامَلَةِ بِهَا: اعْلَمْ أَنَّ الْمَغْشُوشَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَكُونُ غِشُّهُ لِرَدَاءَةِ جِنْسِهِ، فَتُكْرَهُ الْمُعَامَلَةُ بِهِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغُرُورِ وَالتَّدْلِيسِ وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: من زافت دراهمه فليأت السوق فليشتري بها الثوب السميق، وَقَدْ ذَكَرْنَا وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ غِشُّهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا مِنْ جِنْسِهِ كَالْفِضَّةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِغَيْرِهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْرُ فِضَّتِهِ مَعْلُومًا، وَجِنْسُ مَا خَالَطَهُ وَغُشَّ بِهِ مَعْرُوفًا، قَدِ اشْتُهِرَتْ حَالُهُ عِنْدَ الْكَافَّةِ وَعَلِمَهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ لَا يَخْتَلِفُ ضَرْبُهُ وَلَا يَتَنَاقَضُ فِضَّتُهُ، فَالْمُعَامَلَةُ بِهِ جَائِزَةٌ حَاضِرًا بِعَيْنِهِ وَغَائِبًا فِي الذِّمَّةِ.
وَالضَّرْبُ الثاني: أن يكون قدر فضة مَجْهُولًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا خَالَطَ الْفِضَّةَ مَقْصُودًا لَهُ قِيمَةٌ كَالْمَسِّ وَالنُّحَاسِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلَكًا لَا قيمة له كالزئبق الزرنيخ، فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ غَيْرَ مُمْتَزِجَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يكون مُمْتَزِجَيْنِ، فَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ غَيْرَ مُمَازِجَةٍ لِلْغِشِّ مِنَ النُّحَاسِ وَالْمَسِّ وَإِنَّمَا الْفِضَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَالْمَسُّ فِي بَاطِنِهَا، فَالْمُعَامَلَةُ بِهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، لَا مُعَيَّنَةٌ وَلَا فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ الْفِضَّةَ وَإِنْ شُوهِدَتْ فَالْمَقْصُودُ الْآخَرُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُشَاهَدٍ، كَمَا لَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِالْفِضَّةِ الْمَطْلِيَّةِ بِالذَّهَبِ، لِأَنَّ أَحَدَ مَقْصُودَيْهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُشَاهَدٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ مُمَازِجَةً لِلْغِشِّ مِنَ النُّحَاسِ وَالْمَسِّ لَمْ تَجُزِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا فِي الذِّمَّةِ لِلْجَهْلِ بِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمَعْجُونَاتِ لِلْجَهْلِ بِهَا، وَفِي جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا إِذَا كَانَتْ حَاضِرَةً مُعَيَّنَةً وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِلْجَهْلِ بِمَقْصُودِهَا كَتُرَابِ الْمَعَادِنِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: يجوز وهو أظهر وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْاصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ إِذَا شُوهِدَتْ وَإِنْ جُهِلَ قَدْرُ كَيْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَعْجُونَاتِ إِذَا شُوهِدَتْ وَإِنْ لَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِيهَا، وَخَالَفَ بَيْعَ تُرَابِ الْمَعَادِنِ لِأَنَّ(3/260)
التُّرَابَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْغِشِّ إذا كان مقصوداً، فأما إن كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ مُمْتَزِجَيْنِ فَلَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِهَا، لَا مُعَيَّنَةً وَلَا فِي الذِّمَّةِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا مَجْهُولٌ بِمُمَازَجَةِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ كَتُرَابِ الْمَعَادِنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ غَيْرَ مُمْتَزِجَيْنِ وَإِنَّمَا الْفِضَّةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَالْغِشُّ فِي بَاطِنِهَا كَالزَّرْنِيخِيَّةِ فَتَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِهَا إِذَا كَانَتْ حَاضِرَةً مُعَيَّنَةً، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مُشَاهَدٌ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِهَا فِي الذِّمَّةِ لِلْجَهْلِ بِمَقْصُودِهَا، فَهَذَا حُكْمُ الْوَرِقِ الْمَغْشُوشَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَلَا بَيْعُهَا بِالْفِضَّةِ، لِأَجْلِ الرِّبَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ بَاعَ سُقَاطَةَ بَيْتِ الْمَالِ مِنَ الْمَغْشُوشِ وَالزَّائِفِ بِوَزْنِهِ مِنَ الْوَرِقِ الْجَيِّدِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَرَدَّ الْبَيْعَ، فَلَوْ أَتْلَفَهَا رَجُلٌ عَلَى غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مِثْلُهَا، لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهَا وَلَزِمَهُ رَدُّ قِيمَتِهَا ذَهَبًا وَالْحُكْمُ فِي الدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ كَالْحُكْمِ فِي الورق المغشوشة.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ غِشُّهَا مِثْلَ نِصْفِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تباع قدر حصتها نصاباً.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا وُجُوبُ زَكَاتِهَا فَلَا شَيْءَ فِيهَا حتى يبلغ قدر فضتها نِصَابًا وَإِنْ كَانَ غِشُّهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِهَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْغِشَّ إِذَا نَقَصَ عَنِ النِّصْفِ سَقَطَ حُكْمُهُ، حَتَّى لَوِ اقْتَرَضَ رَجُلٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةً لَا غِشَّ فِيهَا فَرَدَّ عَشَرَةً فِيهَا أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ غِشٍّ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهَا، وَفَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ، وَالِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ تكلف، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أواقٍ مِنَ الْوَرِقِ صدقةٌ " يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ خَمْسُ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَبْلُغَ قَدْرُ فضتها نصاباً فإذا عَلِمَ قَدْرَ الْفِضَّةِ يَقِينًا أَوِ احْتِيَاطًا وَأَخْرَجَ زَكَاتُهُ جَازَ، وَإِنَّ شَكَّ وَلَمْ يَحْتَطْ مَيَّزَهَا بِالنَّارِ فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا فِضَّةً خَالِصَةً جَازَ، وَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا مِنْهَا أَجْزَأَهُ، إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْفِضَّةِ مِثْلَ مَا مَعَهُ أَوْ أَكْثَرَ وَسَوَاءٌ تَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا أم لا، لأنها من جملة ماله.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ فِضَّةٌ خَلَطَهَا بِذَهَبٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُدْخِلَهَا النَّارَ حَتَى يَمِيزَ بَيْنَهُمَا، فَيُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ كُلِّ واحدْ مِنْهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَتْ لَهُ فِضَّةٌ قَدْ خَالَطَهَا ذَهَبٌ وَأَرَادَ إِخْرَاجَ زَكَاتِهَا فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَوَلَّى إِخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ فَإِنْ عَلِمَ قَدْرَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يَقِينًا وَكَانَ كل واحد(3/261)
منهما يبلغ بانفراده نصاباً أو بإضافة إِلَى مَا عِنْدَهُ نِصَابًا أَخْرَجَ زَكَاتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ قَدْرَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَعَمِلَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَأَخْرَجَ زَكَاةَ مَا يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَيَّزَهُمَا بِالنَّارِ، وَأَخْرَجَ زَكَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنْ بَلَغَ بِانْفِرَادِهِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهِ نِصَابًا فَصَاعِدًا.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَوَلَّى الْإِمَامُ أَخْذَ زَكَاتِهَا مِنْهُ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِيَقِينِ مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَقَالَ أَعْلَمُ ذَلِكَ قطعاً وإحاطة، كان القول قوله، وإن اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ وَلَكِنْ قَالَ الِاحْتِيَاطُ أَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ كَذَا وَمِنَ الذَّهَبِ كَذَا لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ؛ لأن ذلك اجتهاداً مِنْهُ وَالْإِمَامُ لَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِ غَيْرِهِ، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى قَوْلِهِ قَوْلُ مَنْ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَى قَوْلِهِ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْعَمَلُ عَلَى احْتِيَاطِهِ إِذَا تَوَلَّى إِخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِهِ، فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرَ مُيِّزَتْ بِالنَّارِ وَخُلِّصَتْ بِالسَّبْكِ، وَفِي مُؤْنَةِ السَّبْكِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ وَسَطِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْمَسَاكِينَ شُرَكَاؤُهُ فِي الْمَالِ قَبْلَ السَّبْكِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِمُؤْنَتِهِ دُونَهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ الْمُؤْنَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ الزَّكَاةِ إِلَّا بِهَا كَالْحَصَادِ وَالصِّرَامِ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ فِضَةٌ مَلْطُوخَةٌ عَلَى لِجَامٍ أَوْ مُمَوَّهٌ بِهَا سَقْفُ بَيْتٍ، وَكَانَتْ تُمَيَّزُ فَتَكُونُ شَيْئًا إِنْ جُمِعَتْ بِالنَّارِ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ الصَّدَقَةِ عَنْهَا، وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَهْلَكَةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَمْوِيهُ السَّقْفِ وَالْأَرْوِقَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَحَرَامٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّحَاسُدِ وَالْبَغْضَاءِ، فإن موه رجل سقف بيته أَوْ حَائِطَ دَارِهِ بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ كَانَ آثِمًا، وَنَظَرَ فَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهُ وَلَا مَرْجِعَ لَهُ فَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ تَخْلِيصُهُ مُمْكِنًا فَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا، فَإِنْ عَلِمَ قَدْرَهُ أَوِ احْتَاطَ لَهُ وَإِلَّا مَيَّزَهُ وَخَلَّصَهُ، وَأَمَّا حِلْيَةُ اللِّجَامِ فَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا لَمْ يَجُزْ، وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِضَّةً فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالذَّهَبِ فَعَلَى هَذَا يُزَكِّيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ كَالسَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ لأنه حلي مباح والله أعلم.(3/262)
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان في يديه أقل من خمس أواقٍ وما يتم خمس أواقٍ ديناً له أَوْ غَائِبًا عَنْهُ أَحْصَى الْحَاضِرَةَ وَانْتَظَرَ الْغَائِبَةَ فَإِنْ اقْتَضَاهَا أَدَّى رُبُعَ عُشْرِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ يَجِبُ تَقْدِيمُ الْكَلَامِ فِيهِمَا ثُمَّ بِنَاءُ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِمَا.
فَأَحَدُ الْفَصْلَيْنِ: وُجُوبُ زَكَاةِ الدَّيْنِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَجَّلٌ. وَمُؤَجَّلٌ، وَالْمُعَجَّلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَلِيءٍ مُعْتَرِفٍ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ مَتَى شَاءَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ، سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ كَالْوَدِيعَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْمَغْصُوبِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَلِيءٍ مُعْتَرِفٍ فِي الْبَاطِنِ مُمَاطِلٍ فِي الظَّاهِرِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، خَوْفًا مِنْ جُحُودِهِ وَمَطْلِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مَلِيءٍ مُنْكِرٍ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُقِرٍّ مُعْسِرٍ وَجَوَابُهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَغْصُوبِ لَا يُزَكِّيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَهَلْ يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى أَوْ يَسْتَأْنِفُ بِهِ الْحَوْلَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الْمُؤَجَّلُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ مَالِكًا له قبل حلول أجله؟ على قولين، وهو قول أبي إسحاق المروزي يكون مالكا لَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَا لَا حنث فيه ومن حَلَفَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ حَنِثَ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَنْ يُبَرِّئَهُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ثَبَتَ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي الزَّكَاةِ حُكْمَ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، فَيَكُونُ وُجُوبُ زَكَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة لَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمْلِكُ مَالًا بَرَّ، وَلَوْ حَلَفَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ لَا شَيْءَ لَهُ بَرَّ، قَالَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْلِكِ الْمُطَالَبَةَ بِهِ وَلَا الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ ثَمَرَةُ الْمِلْكِ، ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ إِذَا حَلَّ أَجْلُهُ.
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: وُجُوبُ زَكَاةِ الْمَالِ الْغَائِبِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا فِي بَلَدٍ يَعْرِفُ سَلَامَتَهُ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا فِي غَيْرِهِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ نَقْلِ الصَّدَقَةِ أَحَدُهُمَا. يُجْزِئُهُ.(3/263)
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ لَكِنْ يَعْرِفُ سَلَامَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاتَهُ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَإِذَا وَصَلَ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ وَلَا مَعْرُوفِ السَّلَامَةِ فَهُوَ كَالْمَالِ الضَّالِّ، لَا يُزَكِّيهِ قَبْلَ وُصُولِهِ، فإذا وصل هل يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى أَوْ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْفَصْلَانِ فَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ حَاضِرَةٍ، وَيَمْلِكُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أُخْرَى دَيْنًا أَوْ غَائِبَةً، فَإِنْ كَانَتْ دَيْنًا وَقَدْ حَالَ الْحَوْلُ فَلَا يَخْلُو حَالُ الدَّيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ زَكَاتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ وَزَكَاةِ الْمِائَةِ الْحَاضِرَةِ جَمِيعًا.
وَالْقِسْمُ الثاني: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِمَّا تَجِبُ زَكَاتُهُ بَعْدَ قبضه، فإنه ينتظر بالمائة الحاضرة فيصير دَيْنِهِ، فَإِنْ قَبَضَهُ زَكَّاهَا مَعَ الدَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِمَا، وَكَذَا الجواب في الغائبة سَوَاءٌ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَا زَادَ وَلَوْ قِيرَاطًا فَبِحِسَابِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْوَقْصُ فِي الْوَرِقِ مُعْتَبَرٌ في ابتدائه غير معتبر في انتهائه فَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ بِحِسَابِهِ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَجِبُ فِيهَا دِرْهَمٌ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَوَافَقَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: هَاتُوا رُبُعَ الْعُشْرِ مِنَ الْوَرِقِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا " وَبِرِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ نَجِيحٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: " لَا تَأْخُذْ مِنَ الْكَسْرِ شَيْئًا وَلَا مِنَ الْوَرِقِ حَتَّى تبلغ مائتي درهم ولا تأخذ مما زاد شيئاً حتى تبلغ أربعين فإذا بلغتها ففيها درهم " قال وَلِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ فِي ابْتِدَائِهِ وَقْصٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي أَثْنَائِهِ وَقْصٌ كَالْمَوَاشِي.
وَدَلِيلُنَا: عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي " الرِّقَّةِ رَبُعُ الْعُشْرِ " فَكَانَ مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ خَارِجًا، وَمَا سِوَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى حُكْمِ الْعُمُومِ بَاقِيًا، وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(3/264)
قَالَ: " هَاتُوا رُبُعَ الْعُشْرِ مِنَ الْوَرِقِ مِنْ كل أربعين دِرْهَمًا وَلَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ " وَهَذَا نَصٌّ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي مَائَتَيْنِ خَمْسَةٌ وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَقْصٌ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِ كَالزُّرُوعِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى نِصَابٍ فِي جِنْسِ مَالٍ لَا ضَرَرَ فِي تَبْعِيضِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْأَرْبَعِينَ، أَوْ كَالذَّهَبِ، وَلِأَنَّ الْوَقْصَ فِي الزَّكَاةِ وَقْصَانِ: وَقْصٌ فِي ابْتِدَاءِ الْمَالِ لِيَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، وهذا موجود في الورق، فاعتبر فيه وقص في أثناء المال، لأن لَا يَجِبَ كَسْرٌ يُسْتَضَرُّ بِإِيجَابِهِ فِيهِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْوَرِقِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ، فَثَبَتَ أخذ الْوَقْصَيْنِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ، وَسَقَطَ الْوَقْصُ الثَّانِي لِفَقْدِ مَعْنَاهُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: نَحْنُ نَعْمَلُ بِمُوجَبِهِ وَهُوَ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا، وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، فَإِنْ قِيلَ الْمَحْدُودُ عِنْدَكُمْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ مَا خَرَجَ عَنْهُ وما نقص عن الأربعين فأرج عما أخذ بالأربعين ووجب أن يكون حكمه مخالفاً له قبل ذلك قيل كذلك نقول إلا أنا نُوجِبُ فِي الْأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا كَامِلًا، وَلَا نُوجِبُ فِيمَا دُونَهَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا نُوجِبُ بَعْضَ دِرْهَمٍ، وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي قَوْلِهِ وَلَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، أي: لا شَيْءَ فِيهَا كَامِلٌ هَذَا إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ مِنْ قَدْحٍ فِيهِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عُبَادَةَ، وَالْمِنْهَالُ بْنُ الْجَرَّاحِ هُوَ أَبُو الْعَطُوفِ الجراح بن المنهال، وإنما قلت محمد بن إسحاق باسمه لِضَعْفِهِ وَاشْتِهَارِهِ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُبَادَةَ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا فَكَانَ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَوَاشِي فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّ فِي تَبْعِيضِهَا ضَرَرًا، فَلِذَلِكَ ثَبَتَ فِي انْتِهَائِهَا وَقْصٌ، والورق ليس في تبعيضها ضرر فذلك لَمْ يَثْبُتْ فِي أَثْنَائِهَا وَقْصٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن ارتد ثم حال الْحَوْلُ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ وَالثَّانِي يُوقَفُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِالرِّدَّةِ وَإِنْ قُتِلَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ وَبِهَذَا أَقُولُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَوْلَى بِقَوْلِهِ عِنْدِي الْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَعْنَاهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ زَكَاةِ الْغَنَمِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ إِنِ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْلِ فَالزَّكَاةُ لَا تَسْقُطُ، وَإِنِ ارْتَدَّ قَبْلَ الْحَوْلِ وَقُتِلَ أَوْ مَاتَ فَالزَّكَاةُ لَمْ تَجِبْ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى رِدَّتِهِ حَتْي حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ، وَقَوْلٌ ثَالِثُ مُخْتَلَفٌ فِي تَخْرِيجِهِ.(3/265)
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي مَالِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وُقُوفُ الْأَمْرِ عَلَى مُرَاعَاةِ حَالِهِ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَجَبَتْ وَإِنْ قُتِلَ لَمْ تَجِبْ، وَالْقَوْلُ خَرَّجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَامْتَنَعَ مِنْهُ أَبُو الْعَبَّاسِ لَا زَكَاةَ فِي مَالِهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَوْ قُتِلَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَخْرِيجَ هَذَا الْقَوْلِ وسبب اختلافهم فيه.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وحرامٌ أن يؤدي الرجل الزكاة من شر ماله لقول الله جل وعز {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا تُعْطُوا فِي الزَّكَاةِ مَا خَبُثَ أَنْ تَأْخُذُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ وَتَتْرُكُوا الطَّيِّبَ عندكم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ:
وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَقُلْنَا إِنَّ إِخْرَاجَ الرَّدِيءِ عَنِ الْجَيِّدِ لَا يَجُوزُ، وَإِخْرَاجَ الْجَيِّدِ عَنِ الرَّدِيءِ لَا يَجِبُ وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) {البقرة: 267) فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْحَرَامُ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
وَالثَّانِي: الرَّدِيءُ فِي الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَهُوَ أَصَحُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {وَلَسْتُمْ بآخِذِيهِ إلاَّ أنْ تُغْمِضُواْ فِيه) {البقرة: 267) وَالْحَرَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُغْمَضَ فِي أَخْذِهِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَنْقُولٌ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى فِيهِ عَذْقًا حَشَفًا فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: صَدَقَةُ فُلَانٍ، يَعْنُونَ رَجُلًا من الأنصار، فغضب وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ غنيٌّ عَنْ فلانٍ وصدقتهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُصَدِّقًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتاه بفصيل محلولٍ فِي الصَّدَقَةِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انظروا إلى فلانٍ أتانا بفصيل محلول، فَبَلَغَهُ فَأَتَاهُ بَدَلَهُ بِنَاقَةٍ كوماءٍ، قَالَ أَبُو عبيد المحلول هُوَ الْهَزِيلُ الَّذِي قَدْ حَلَّ جِسْمُهُ.(3/266)
بَابُ صَدَقَةِ الذَّهَبِ وَقَدْرِ مَا لَا تَجِبُ فيه الزكاة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا أَعْلَمُ اخْتِلَافًا فِي أَنْ لَيْسَ فِي الذَّهَبِ صَدَقَةٌ حَتَى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالَا جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا أَوْ إِنَاءً أَوْ تِبْرًا فَإِنْ نَقَصَتْ حبةٌ أَوْ أَقَلُّ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا صَدَقَةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى فِي بَابِ زَكَاةِ الْوَرِقِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ الذهب، مع أن الإجماع على وجوب زكاة الذهب، مُنْعَقِدٌ، وَنِصَابُهُ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، الْوَاجِبُ فِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنِ الْعِشْرِينَ وَلَوْ حَبَّةً فَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَلَوْ حَبَّةً وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِيهَا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا شَيْءَ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ مِثْقَالًا فَيَجِبُ فِيهِ مِثْقَالٌ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الزَّكَوَاتِ اسْتِفْتَاحُ فَرْضٍ بِكَسْرٍ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ نِصَابُ الذَّهَبِ مُعْتَبَرٌ بِقِيمَتِهِ مِنَ الْوَرِقِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ عِشْرُونَ مِثْقَالًا قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ، قَالَ لِأَنَّ الْوَرِقَ أَصْلٌ وَالذَّهَبَ فَرْعٌ، فَاعْتُبِرَ نِصَابُهُ بِأَصْلِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ نَقَصَتْ عَنِ الْعِشْرِينَ حَبَّةً وَجَازَتْ جَوَازَ الْوَازِنَةِ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ كَقَوْلِهِ فِي الْوَرِقِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِنْ نَقَصَتْ رُبُعَ مِثْقَالٍ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَقَصَتْ ثُلُثَ مِثْقَالٍ لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَصِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ شيءٌ، فَإِذَا بَلَغَ عِشْرِينَ دِينَارًا فَفِيهِ نِصْفُ دِينَارٍ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس فيما دون خمس ذودٍ من الْإِبِلِ صدقةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ درهم من الورق صدقة " لأن ذَلِكَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِي الذَّهَبِ خَبَرٌ ثَابِتٌ، لَكِنْ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا جَازَ الاحتجاج بها.(3/267)
فَصْلٌ
: فَإِذَا بَلَغَ الذَّهَبُ عِشْرِينَ مِثْقَالًا بِمَثَاقِيلِ الْإِسْلَامِ الَّتِي وَزْنُ كُلِّ سَبْعَةٍ مِنْهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مِنْ دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ، فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَفِيمَا زاد عليها بِحِسَابِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الذَّهَبُ جَيِّدًا أَوْ رَدِيئًا أَوْ إِنَاءً أَوْ تِبْرًا أَوْ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةً إذا كان جميعها ذَهَبًا وَاسْمُ الْجِنْسِ عَلَيْهَا مُنْطَلِقًا؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِجِنْسِهِ لَا بِوَصْفِهِ كَالْوَرِقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ: قال الشافعي رضي الله عنه: " لو كَانَتْ لَهُ مَعَهَا خَمْسُ أواقٍ فِضَةً إِلَّا قِيرَاطًا أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا زكاةٌ وَإِذَا لَمْ يُجْمَعِ التَّمْرُ إِلَى الزَّبِيبِ وَهُمَا يُخْرَصَانِ وَيُعْشَرَانِ وَهُمَا حُلْوَانِ مَعًا وَأَشَدُّ تَقَارُبًا فِي الثَّمَنِ وَالْخِلْقَةِ وَالْوَزْنِ مِنَ الذَّهَبِ إِلَى الْوَرِقِ فَكَيْفَ يَجْمَعُ جَامِعٌ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ؟ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ قَالَ " لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أواقٍ صَدَقَةٌ " فَأَخَذَهَا فِي أَقَلَّ فَإِنْ قَالَ ضَمَمْتُ إِلَيْهَا غَيْرَهَا قِيلَ تَضُمُّ إِلَيْهَا بَقَرًا فَإِنْ قَالَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا قِيلَ وَكَذَلِكَ فَالذَّهَبُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْوَرِقِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا كَانَ مَعَهُ أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا وَلَوْ بِقِيرَاطٍ وَأَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَوْ بِقِيرَاطٍ لَمْ يُضَمَّا وَلَا زَكَاةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ، والْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وأبو حنيفة، وَصَاحِبَاهُ يَضُمُّ الذَّهَبَ إِلَى الْوَرِقِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ ضَمِّهِ فَقَالَ مَالِكٌ: يَضُمُّ بِالْعَدَدِ فَيَجْعَلُ كُلَّ عِشَرَةٍ بِدِينَارٍ فَإِذَا كَانَ لَهُ عشر دنانير مائة دِرْهَمٍ ضَمَّهَا وَزَكَّى، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعَشَرَةُ تُسَاوِي مِائَةً وَالْمِائَةُ تُسَاوِي عَشَرَةً أَمْ لَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: تُضَمُّ بِالْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ دَنَانِيرَ تُسَاوِي مِائَةً ضَمَّهَا وَزَكَّى إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ أَحْوَطَ لِلْمَسَاكِينِ فيأخذ به.
واستدلوا على جواز الضم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ) {التوبة: 34) الْآيَةَ فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ثُمَّ قَالَ: {وَلاَ يُنْفِقُونَهَا} (التوبة: 34) وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهَا فَلَوْ لَمْ يَكُونَا فِي الزَّكَاةِ وَاحِدًا لَكَانَتْ هَذِهِ الْكِنَايَةُ رَاجِعَةً إِلَيْهِمَا بِلَفْظَةِ التَّثْنِيَةِ فَيَقُولُ وَلَا يُنْفِقُونَهُمَا فَلَمَّا كَنَّى عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَهُمَا في الزكاة واحد، ويقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي الرِّقَّةِ رَبُعُ الْعُشْرِ " وَالرِّقَّةُ اسْمٌ يَجْمَعُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا فِي كَوْنِهِمَا أَثْمَانًا وَقِيَمًا وَإِنْ قَدَّرَ زَكَاتَهُمَا رُبُعَ الْعُشْرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا فِي وُجُوبِ ضَمِّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ كأجناس الفضة(3/268)
وَالذَّهَبِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أَِنْ قَالُوا إِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَالْقِيَمِ فَوَجَبَ أَنْ يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ كَأَجْنَاسِ الْفِضَّةِ وَأَجْنَاسِ الذَّهَبِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " ليس فيما دون خمسٍ ذودٍ من الْإِبِلِ صدقةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ صدقةٌ وَلَا فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ درهمٍ مِنَ الورقِ صدقةٌ " فَكَانَ نَصُّ هَذَا الْحَدِيثِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيمَا نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ وَدَالًّا عَلَى بُطْلَانِ الضَّمِّ، وَلِأَنَّهُمَا ما لان نِصَابُهُمَا مُخْتَلِفٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ كَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلِأَنَّ مَا اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ مَعَ غَيْرِهِ اعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ وَإِنِ انْفَرَدَتْ عَنْ غَيْرِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، وَمَا لَمْ تُعْتَبَرْ قِيمَتُهُ مُنْفَرِدًا لَمْ تُعْتَبَرْ قِيمَتُهُ مَعَ غَيْرِهِ كَالْمَوَاشِي، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا لَا غَيْرَ لَمْ تعتبر قيمتها وإن بلغت نصاباً، وهذا الاعتلال يَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ نَقُولَ لِأَنَّهُ مَالٌ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِانْفِرَادِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ [مَعَ غَيْرِهِ كَالْمَوَاشِي] .
وَالثَّانِي: أَنْ نَقُولَ لِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَلَمْ يَجِبِ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ كَالْمُنْفَرِدِ.
الْجَوَابُ: أَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهَا، لِأَنَّهُ إِنْ جَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى تَسَاوِي حُكْمِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمْ يَصِحَّ لِاخْتِلَافِ نَصِّهَا، وَإِنْ جعلها دليلاً على تساوي حكمها مِنْ وَجْهٍ قُلْنَا بِمُوجِبِهَا وَسَوَّيْنَا بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي " الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ " فَهُوَ اسْمٌ لِلْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ عَلَى قَوْلِ ثَعْلَبٍ وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ إِبَانَةُ قَدْرِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَمَّا قُصِدَ لَهُ ولو جاز ضمهما، لأن الاسم يَجْمَعُهُمَا لَجَازَ ضَمُّ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِأَنَّ اسْمَ الماشية يجمعها، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَجْنَاسِ الْفِضَّةِ وَأَجْنَاسِ الذَّهَبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْفِضَّةَ جِنْسٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ، فَلِذَلِكَ ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَيْسَ الذَّهَبُ مِنْ جِنْسِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهَا والله أعلم.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجب عَلَى رجلٍ زكاةٌ فِي ذهبٍ حَتَى يَكُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالَا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَآخِرِهِ، فَإِنْ نقصت شيئاً ثم تمت عشرين مثقالاً فى زكاة فيها حتى تستقبل بِهَا حَوْلًا مِنَ يَوْمِ تَمَّتْ عِشْرِينَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.(3/269)
كُلُّ مَالٍ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُ نِصَابِهِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، فَإِذَا كَانَ مَعَهُ عِشْرُونَ دِينَارًا نَقَصَتْ قِيرَاطًا ثُمَّ تَمَّتْ، أَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نَقَصَتْ دِرْهَمًا ثُمَّ تَمَّتْ، أَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ نَقَصَتْ شَاةً ثُمَّ تَمَّتِ اسْتَأْنَفَ لِجَمِيعِهَا الْحَوْلَ مِنْ حِينِ تَمَّتْ نِصَابًا، وَيَبْطُلُ حُكْمُ مَا مَضَى مِنْ حَوْلِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: النِّصَابُ مُعْتَبَرٌ فِي طَرَفَيِ الْحَوْلِ وَلَا اعْتِبَارَ لِنُقْصَانِهِ فِي أَثْنَائِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: النِّصَابُ مُعْتَبَرٌ فِي آخِرِ الْحَوْلِ دُونَ أَوَّلِهِ وَأَثْنَائِهِ احْتِجَاجًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْوَرِقِ " فَإِذَا بَلَغَتِ خَمْسَ أَوَاقٍ فَفِيهَا الصَّدَقَةُ " فََجَعَلَ كَمَالَ النِّصَابِ غَايَةً لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَلِأَنَّهُ مَالٌ كَمُلَ نِصَابُهُ فِي طَرَفَيِ الْحَوْلِ فَلَمْ يَكُنْ نُقْصَانُهُ فِي أَثْنَائِهِ مُسْقِطًا لِزَكَاتِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ إِذَا نَقَصَتْ قِيمَتُهَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّتْ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَالْمَالُ الَّذِي كَمُلَ بِهِ النِّصَابُ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ لَمْ تَجِبْ فِي الْبَاقِي لِأَنَّ حُكْمَهُمَا بِالْإِجْمَاعِ وَاحِدٌ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ نَقَصَ نِصَابُهُ عَنْ حَوْلِهِ فَاقْتَضَى سُقُوطَ زَكَاتِهِ قِيَاسًا عَلَى نُقْصَانِهِ فِي أَحَدِ طَرَفَيْ حَوْلِهِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ لَا تُعْتَبَرُ زَكَاةُ قِيمَتِهِ انْقَطَعَ نِصَابُهُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، قِيَاسًا عَلَى تَلَفِ جَمِيعِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَاسْتِفَادَةِ مِثْلِهِ، وَلِأَنَّ النِّصَابَ شَرْطٌ فِي ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي استدامته كالجزية وَالْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ مَا اعْتُبِرَ فِي طَرَفَيِ الْحَوْلِ اعْتُبِرَ فِي وَسَطِهِ كَالسَّوْمِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ قَدْرِ النِّصَابِ، وَاعْتِبَارُ الْحَوْلِ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الحول " فلم يكن فيه دلالة عَلَى عُرُوضِ التِّجَارَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي قِيمَتِهَا، وَفِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ مَشَقَّةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي اعْتِبَارِ كَمَالِهِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، وَلِأَنَّ عَرَضَ التِّجَارَةِ لَوْ بَاعَهُ بِعَرَضِ التِّجَارَةِ بَنَى عَلَى حوله فكذلك لم يعتبر كمال نِصَابِهِ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ، وَلَوْ بَاعَ إِبِلًا ببقر لم يبن واستأنف بها الحول، فكذلك اعْتُبِرَ كَمَالُ نِصَابِهَا فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهَا وَاللَّهُ أعلم.(3/270)
باب زكاة الحلي
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مالكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أبيه عن عائشة أنَهَا كَانَتْ تُحَلِّي بَنَاتَ أَخِيهَا أَيْتَامًا فِي حجرها فلا تخرج منه زكاة وروي عن ابن عمر أنه كان يحلي بناته وجواربه ذهباً ثم لا يخرج زكاته (قال) ويروى عن عمر وعبد الله ابن عمرو بن العاص أن في الحلي الزكاة وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْحُلِيُّ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ذَهَبًا وَفِضَّةً.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ فَهَذَا لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَمَا كَانَ ذَهَبًا وَفِضَّةً ضَرْبَانِ: مَحْظُورٌ وَمُبَاحٌ وَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهُمَا، فَالْمَحْظُورُ زَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَالْمُبَاحُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِهِ أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وعبد الله بن عمرو بْنُ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الزَّكَاةَ بَعْدَ الظواهر هي الْعَامَّةُ بِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْتُ يَا رسول الله أكنز هي؟ فقال ما بلغت زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بكنزٍ ".(3/271)
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فقالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفي يدي فتحاتٌ مِنْ وَرِقٍ فَقَالَ مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ فَقُلْتُ: صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فقال أتودين زكاتهن؟ فقلت: لا قال: فهو حسبك من النار قال الأصمعي الفتحات الْخَوَاتِيمُ وَأَنْشَدَ:
(إِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَاكْسُوَانِي بُرْقُعًا ... وفتحاتٍ فِي الْيَدَيْنِ أَرْبَعَا)
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْيَمَنِ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومعها بنت لها، وفي يدها مسكتان غليظتان مِنْ ذهبٍ، فَقَالَ لَهَا أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ فَقَالَتْ لَا فَقَالَ أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نارٍ، قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا وَأَلْقَتْهُمَا وَقَالَتْ هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَرُوِيَ أَنَّ زَيْنَبَ امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي حُلِيًّا وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ، وَإِنْ فِي حِجْرِي بنت أخٍ لِي، أَفَيَجْزِينِي أَنْ أَجْعَلَ زَكَاةَ حُلِيِّ فيهم قال نعم فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ فَلَكِ فِي ذَلِكَ أَجْرَانِ.
وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت هذا حليي وَهُوَ سَبْعُونَ دِينَارًا فَخُذْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دِينَارًا أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ دِينَارٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى امْرَأَةً تطوفُ بِالْبَيْتِ وَعَلَيْهَا مَنَاجِدُ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يَسُرُّكِ أَنْ يُحَلِّيكِ اللَّهُ مَنَاجِدَ مِنْ نَارٍ؟ قَالَتْ لَا، قَالَ فَأَدِّي زَكَاتَهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَنَاجِدُ الْحُلِيُّ الْمُكَلَّلُ بِالْفُصُوصِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ الزَّكَاةَ مِنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ الْمَذْهَبَيْنِ وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ بِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ " وَرَوَى(3/272)
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ مِثْلَهُ وَأَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مِثْلَهُ وَرَوَتْ فُرَيْعَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَامَةَ قَالَتْ حَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رِعَاثًا وَحَلَّى أُخْتِي، وَكُنَّا فِي حِجْرِهِ، فَمَا أَخَذَ مِنَّا زَكَاةَ حُلِيٍّ قَطُّ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الرِّعَاثُ جَمْعُ رِعْثَةٍ وَهُوَ الْقُرْطُ، وَقَالَ النمر بن تولب:
(وكل عليل عليه الرعاث ... والخيلات ضعيفٌ ملق)
والخيلات: كُلُّ مَا تَزَيَّنَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ جِنْسِ الْحُلِيِّ وَلِأَنَّهُ جِنْسُ مَالٍ تَجِبُ زَكَاتُهُ بِشَرْطَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَجِبُ فِيهِ.
وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ فِيهِ كَالْمَوَاشِي الَّتِي تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي سَائِمَتِهَا وَتَسْقُطُ فِي الْمَعْلُوفَةِ مِنْهَا، ولأنه مبدل فِي مُبَاحٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ زَكَاتُهُ كَالْأَثَاثِ وَالْقُمَاشِ، وَلِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنِ النَّمَاءِ السَّائِغِ إِلَى اسْتِعْمَالٍ سَائِغٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ زَكَاتُهُ كَالْإِبِلِ الْعَوَامِلِ، وَلِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْقُنْيَةِ كَالْعَقَارِ، وَلِأَنَّهُ حُلِيٌّ مُبَاحٌ كَاللُّؤْلُؤِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَخْبَارِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مُتَقَدِّمِ الْأَمْرِ حِينَ كَانَ الْحُلِيُّ مَحْظُورًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَظَرَهُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي حَالِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ، وَأَبَاحَهُ فِي حَالِ السَّعَةِ وَتَكَاثُرِ الْفُتُوحِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَقَلَّدَتْ قِلَادَةً مِنْ ذَهَبٍ قُلِّدَتْ فِي عُنُقِهَا مِثْلَهُ مِنَ النَّارِ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ حَلْقَةً مِنْ نارٍ فَلْيُحَلِّقْهُ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَلْيُطَوِّقَهُ طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ سِوَارًا مِنْ نارٍ فَلْيُسَوِّرْهُ سِوَارًا مِنْ ذَهَبٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاتَهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى إِعَارَتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ زَكَاةُ الْحُلِيِّ(3/273)
إعارته على أنها قضايا في أعيان يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهَا عَلَى حُلِيٍّ مَحْظُورٍ أَوْ لِلتِّجَارَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على الدراهم والدنانير فالمعنى فيها إِرْصَادُهُمَا لِلنَّمَاءِ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ زَكَاتُهُمَا، وَالْحُلِيُّ غَيْرُ مُرْصَدٍ لِلنَّمَاءِ فَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ لَمَّا أُرْصِدَتْ لِلنَّمَاءِ وَجَبَتْ زكاتها، ولو أعدت للقينة ولم ترصد للنماء وجبت زكاتها، وكذا الحلي والله أعلم.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَمَنْ قَالَ فِيهِ الزَكَاةُ زَكَّى خَاتَمَهُ وَحِلْيَةَ سَيْفِهِ وَمِنْطَقَتَهُ وَمُصْحَفَهُ وَمَنْ قَالَ لَا زَكَاةَ فيه قال لا زكاة في خاتمه ولا حلية سيفه ولا منطقته إذا كانت من ورقٍ فإن اتخذه من ذهب أو اتخذ لنفسه حلي امرأةٍ ففيه الزكاة وللمرأة أن تحلى ذهباً أو ورقاً ولا أجعل في حليها زكاة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْحُلِيِّ مَحْظُورًا فَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مُبَاحًا فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ، وَنَحْنُ الآن نذكر الْمُبَاحَ مِنَ الْمَحْظُورِ، وَالْمُبَاحُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهُمَا: مَا أُبِيحُ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ.
وَالثَّانِي: مَا أُبِيحُ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ.
وَالثَّالِثُ: مَا أُبِيحُ لَهُمَا، فَأَمَّا الْمُبَاحُ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةُ بِالْفِضَّةِ دُونَ الذَّهَبِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لِسَيْفِهِ قَبِيعَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ غَيْظًا لِلْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَازًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَذَا حِلْيَةُ الدِّرْعِ وَالْجَوْشَنِ بِالْفِضَّةِ دُونَ الذَّهَبِ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ وَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ كَانَ مَحْظُورًا وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، فَأَمَّا حِلْيَةُ اللِّجَامِ بِالْفِضَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَحْظُورٌ وَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو إِسْحَاقَ، لِأَنَّهُ حِلْيَةٌ لِفَرَسِهِ لَا لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: مُبَاحٌ كَالسَّيْفِ وَالْمِنْطَقَةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَلٌ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَقِيلَ مِنْ فِضَّةٍ، وَكَانَ الْجَمَلُ لِأَبِي جَهْلٍ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ غَيْظًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَإِنِ اتَّخَذَهُ النِّسَاءُ كَانَ مَحْظُورًا وَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ.(3/274)
فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمُبَاحُ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ فَالْخَلَاخِلُ، وَالدَّمَالِجُ، وَالْأَطْوَاقُ وَالْأَسْوِرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بلبسه، وأما المباح فَإِنْ كَانَ مِمَّا جَرَتْ عَادَةُ النِّسَاءِ بِهِ كَانَ مُبَاحًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَمْ تَجْرِ عادة النساء مِمَّا يَلْبَسُهُ عُظَمَاءُ الْفُرْسِ كَانَ مَحْظُورًا، فَأَمَّا الثِّيَابُ الْمُثْقَلَةُ بِالذَّهَبِ الْمَنْسُوجَةُ بِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ كَالْحُلِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِنَّ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ الْإِسْرَافِ وَعِظَمِ الْخُيَلَاءِ فَأَمَّا تَعَاوِيذُ الذَّهَبِ فَمُبَاحٌ لَهُنَّ، فَأَمَّا نِعَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَمَحْظُورَةٌ، وَكُلُّ مَا أبحناهن مِنْ ذَلِكَ فَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ، فَإِنِ اتَّخَذَهُ الرِّجَالُ لِلتَّحَلِّي بِهِ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَلَكِنْ فِي تَحْلِيَةِ الصِّبْيَانِ بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَحْظُورٌ فَعَلَى هَذَا فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: مُبَاحٌ فَعَلَى هَذَا فِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْمُبَاحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَخَوَاتِمُ الْفِضَّةِ وَحِلْيَةُ المصحف، فَأَمَّا حِلْيَتُهُ بِالذَّهَبِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا مُبَاحٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْظَامِ الْقُرْآنِ.
وَالثَّانِي: مَحْظُورٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَأَمَّا حِلْيَةُ عَلَاقَةِ الْمُصْحَفِ بِالذَّهَبِ فَمَحْظُورٌ لَا يَخْتَلِفُ، وَيَجُوزُ لِلْأَجْدَعِ مِنَ الرِّجَالِ والنساء من أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَقَدْ رُوِيَ أنَ عَرْفَجَةَ بْنَ أسعدٍ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّخَذَ أَنْفًا من فضةٍ فأنتن عليه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذهبٍ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَنْ يَشُدَّا أَسْنَانَهُمَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا نُظِرَ، فَإِنْ نَشِبَ فِي الْعُضْوِ وَتَرَاكَبَ عَلَيْهِ اللَّحْمُ صَارَ كَالْمُسْتَهْلَكِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ نَزْعُهُ وَرَدُّهُ فَزَكَاتُهُ عَلَى قولين.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن اتَّخَذَ رجلٌ أَوِ امْرَأَةٌ إِنَاءً مِنْ ذهبٍ أَوْ ورقٍ زَكَّيَاهُ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّخَاذُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: اتِّخَاذُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَرَامٌ لِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ اسْتِعْمَالِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِمَا فيه من الترف وَالْخُيَلَاءِ، وَإِنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَكَاسِرَةِ وَالْأَعَاجِمِ وَقَدْ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " وَإِذَا(3/275)
كان محظوراً فزكاته واجبة، فأما اتخاذها لِلِادِّخَارِ لَا لِلِاسْتِعْمَالِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا.
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمَا: أَنَّهُ مَحْظُورٌ، لِأَنَّ ادِّخَارَهُ يَدْعُو إِلَى اسْتِعْمَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مُبَاحٌ، لِأَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى الِاسْتِعْمَالِ وَمَا سِوَاهُ مُبَاحٌ فَعَلَى الْأَوَّلِ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَعَلَى الثَّانِي عَلَى قَوْلَيْنِ فَأَمَّا تَعْلِيقُ قَنَادِيلِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فِي الْكَعْبَةِ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَتَمْوِيهِهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مُبَاحٌ كَمَا أُبِيحُ سَتْرُ الْكَعْبَةِ بِالدِّيبَاجِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمًا لِلدِّينِ وَإِعْزَازًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَقْفًا لِلْكَعْبَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّهِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْظُورٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّهُ لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ وَلَا عَمِلَ بِهِ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ وَقْفًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَالِكٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّهِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فَمَحْظُورٌ وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، وَأَمَّا الْمُضَبَّبُ بِالْفِضَّةِ فإن كان يسير الحاجة كحلقة أو زرة كان مباحاً، قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصْعَةٌ فِيهَا حَلْقَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَزَكَاتُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَحْظُورٌ تَجِبُ زَكَاتُهُ، وَكَذَا لَوِ اتَّخَذَ مَيْلًا أَوْ مُكْحُلًا أَوْ مُدْهُنًا أَوْ مُسْعُطًا مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ كَانَ مَحْظُورًا وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، إِلَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْمَيْلَ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي لِجَلَاءِ عَيْنِهِ فَيَكُونُ مُبَاحًا، كَمَا لَوِ اسْتَعْمَلَ الذَّهَبَ لَرَبْطِ أَسْنَانِهِ فيكون في زكاته قولان:
مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ وَزْنُهُ أَلْفًا وَقِيمَتُهُ مَصُوغًا أَلْفَيْنِ فَإِنَّمَا زَكَاتُهُ عَلَى وَزْنِهِ لَا عَلَى قِيمَتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَوَانِي الْمُحَرَّمَةُ فَزَكَاتُهَا عَلَى وَزْنِهَا لَا عَلَى قِيمَتِهَا، فَإِذَا كَانَ وَزْنُ الْإِنَاءِ أَلْفًا وَقِيمَتُهُ لِصَنْعَتِهِ أَلْفَيْنِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ ألف اعتباراً بوزنه، وسواء كسر الإناء وأخذ زَكَاتُهُ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أَخْرَجَ عَنْهُ الزَّكَاةُ مَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْحُلِيُّ الْمَصُوغُ فَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فَزَكَاتُهُ عَلَى وَزْنِهِ لَا عَلَى قِيمَتِهِ كَالْأَوَانِي، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا وَزْنُهُ أَلْفٌ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ نعتبر الصنعة ونوجب الزكاة شائعة في جملته ثم يتبع قَدْرَ الزَّكَاةِ فِيهِ مَشَاعًا، إِلَّا أَنْ يُعْطِيَ المالك قيمة الزكاة ذهباً أو يعطي من هَذَا الْأَلْفِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا مَصُوغَةً تُسَاوِي خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ أَعْطَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا قَالَ: لا يجوز، وإن أَرَادَ الْمَالِكُ كَسْرَ(3/276)
حُلِّيِّهِ وَإِخْرَاجَ زَكَاتِهِ مِنْ عَيْنِهِ مُنِعَهُ، لِأَنَّ فِيهِ إِتْلَافَ مَا اعْتَبَرَهُ مِنَ الصَّنْعَةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عِنْدِي غَلَطٌ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْحُلِيِّ إِذَا وَجَبَتْ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي عَيْنِهِ لَا فِي قِيمَتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَزْنُ الْحُلِيِّ مِائَةً وَقِيمَتُهُ لِصَنْعَتِهِ مِائَتَانِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِأَنَّ وَزْنَهُ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا، وَإِذَا وَجَبَتْ زَكَاةُ الْحُلِيِّ فِي عَيْنِهِ لَمْ يَجِبِ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ فِي مُقَابَلَةِ الصَّنْعَةِ، وَلَيْسَتِ الصَّنْعَةُ عَيْنًا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهَا وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ اعْتِبَارُ الصَّنْعَةِ لَوَجَبَ الْمُطَالَبَةُ بِزَكَاةِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ حَتَّى إِذَا كَانَ وَزْنُهُ أَلْفًا وَقِيمَتُهُ أَلْفًا طُولِبَ بِزَكَاةِ أَلْفَيْنِ، فَإِنْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لَسْتُ أَجْعَلُ الصَّنْعَةَ عَيْنًا وَإِنَّمَا أَجْعَلُهَا مِنْ صِفَاتِ الْعَيْنِ وَأَجْعَلُ الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ عَلَى مَثَلِ تِلْكَ الصَّنْعَةِ كَمَا أَقُولُ فِي الدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا عَلَى مِثْلِ صِفَتِهَا وَضَرْبِهَا، فَإِنْ دَفَعَ ذَهَبًا خَالِصًا غَيْرَ مَضْرُوبٍ مِثْلَ ذَهَبِ الدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ لَمْ يَجُزْ، فَكَذَا فِي الْحُلِيِّ الْمَصُوغِ تَجِبُ زَكَاتُهُ فِي عَيْنِهِ عَلَى مِثْلِ صِفَتِهِ فِي صَنْعَتِهِ، فَإِنْ دَفَعَ مِثْلَ جِنْسِهِ غَيْرَ مَصُوغٍ لَمْ يَجُزْ، قِيلَ لَهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ ضَرْبَ الدَّنَانِيرِ وَطَبْعَهَا أُقِيمَ مَقَامَ صِفَاتِ الْجِنْسِ مِنَ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ لِجَوَازِ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ كَثُبُوتِ ضَمَانِ الْجِنْسِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي الزَّكَاةِ كَمَا وجب اعتبار صفات الجنس وليس صِفَةُ الْحُلِيِّ جَارِيَةً مَجْرَى صِفَاتِ الْجِنْسِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُهَا فِي الزَّكَاةِ يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْتُ، أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةً لَزِمَهُ مِثْلُهَا وَلَوْ أَتْلَفَ حُلِيًّا مَصُوغًا لَمْ يَلْزَمْهُ مِثْلُهُ مَصُوغًا، عَلَى أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ يُجِيزُ أَخْذَ الْقِيمَةِ فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ وَيَمْنَعُ مِنْهَا فِي زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ، فَخَالَفَ الْمَذْهَبَ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْقِيَمِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ جَمَعَ فَلَا بِالْمَذْهَبِ أَخَذَ وَلَا لِلْحِجَاجِ انْقَادَ، فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا فَلَا اعْتِبَارَ بِصِفَتِهِ وَلَا مُعَوَّلَ عَلَى قِيمَتِهِ وَيُزَكِّيهِ عَلَى وَزْنِهِ إِمَّا مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى حُلِيًّا مُبَاحًا لِلتِّجَارَةِ، فَإِنْ قُلْنَا لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فَفِي هَذَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ زَكَاةَ هَذَا فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، وَإِنْ قُلْنَا فِي الْمُسْتَعْمَلِ زَكَاةٌ فَهَلْ يُزَكَّى هَذَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَوْ زَكَاةَ الْعَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: زَكَاةَ الْعَيْنِ فَعَلَى هَذَا لَا اعْتِبَارَ بِالصَّنْعَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: زَكَاةَ التِّجَارَةِ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ اعْتِبَارُ الصَّنْعَةِ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ في القيمة.
وأما إِذَا أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ حُلِيًّا مَصُوغًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ مَصُوغًا وَسَوَاءٌ كَانَ مَالِكُهُ مِمَّنْ تستبيح لُبْسَهُ أَمْ لَا. إِذَا كَانَ الْحُلِيُّ مِمَّا يُسْتَبَاحُ لُبْسُهُ بِحَالٍ، فَإِذَا كَانَ وَزْنُهُ أَلْفًا وَقِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ ضُمِّنَ أَلْفَيْنِ وَفِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِهَا وجهان:
أحدهما: يضمنها دراهم فيلزمه ألفين دِرْهَمٍ أَلْفٌ مِنْهَا فِي مُقَابَلَةِ الْأَلْفِ وَالْأَلِفُ الْأُخْرَى فِي مُقَابَلَةِ الصِّيَاغَةِ.(3/277)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُضَمَّنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِإِزَاءِ الْأَلْفِ ويعطى مكان الصنعة ذهباً، لأن لا يَكُونَ قَدْ أَخَذَ أَلْفَيْنِ مَكَانَ أَلْفٍ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ انْفَصَلَ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ: لَيْسَتِ الْأَلِفَانِ مَكَانَ أَلْفٍ وَإِنَّمَا أَلْفٌ مَكَانَ أَلْفٍ وَالْأَلْفُ الْأُخْرَى بِإِزَاءِ الصَّنْعَةِ، أَلَا تَرَى أنه لو كسره فأذهب صَنْعَتَهُ وَلَمْ يَنْقُصْ وَزْنُهُ ضُمِّنَ أَلْفًا، وَلَوْ كان كما قال الأول لما جاز أيضاً أن يأخذ ألفاً وذهباً مكان ألف كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَلْفَيْنِ مَكَانَ أَلْفٍ، وَأَمَّا إِنْ أَتْلَفَ إِنَاءً مَصُوغًا وَزْنُهُ أَلْفٌ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ ادِّخَارَهُ مَحْظُورٌ ضُمِّنَ وَزْنُهُ دُونَ صَنْعَتِهِ، لِأَنَّ الصَّنْعَةَ المحظورة لا قيمة لها فتكون أَلْفٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنِّ ادِّخَارَهُ مُبَاحٌ ضُمِّنَ قِيمَتُهُ مَعَ صَنْعَتِهِ كَضَمَانِ الْحُلِيِّ لِإِبَاحَةِ صَنْعَتِهِ فيلزمه ألفان.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن انْكَسَرَ حُلِيُّهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْكَسْرُ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا يُمْكِنُ لُبْسُ الْحُلِيِّ مَعَهُ فَهَذَا فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْكَسْرِ، وَيَكُونُ فِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْكَسْرُ كَثِيرًا يَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهِ فَلِلْمَالِكِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا: أَنْ يُعِدَّهُ كَنْزًا وَيَقْتَنِيَهُ مَالًا وَيَصْرِفَهُ عَنْ حُكْمِ الْحُلِيِّ فَهَذَا كَنْزٌ تَجِبُ زَكَاتُهُ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ إِصْلَاحَهُ وَيَزِيدَ عَمَلَهُ فَهَذَا فِي حُكْمِ الْحُلِيِّ وَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فِي إِصْلَاحِهِ وَلَا فِي اقْتِنَائِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْحُلِيِّ وَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا قَدْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْحُلِيِّ وَصَارَ مَالًا مُقْتَنًى فَتَجِبُ فِيهِ الزكاة قولاً واحداً.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَرِثَ رجلٌ حُلِيًّا أَوِ اشْتَرَاهُ فَأَعْطَاهُ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِهِ أَوْ خَدَمَهُ هِبَةً أَوْ عَارِيَةً أَوْ أَرْصَدَهُ لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زكاة في قول من قال لا زكاة فيه إذا أرصده لما يصلح له فإن أرصده لما لا يصلح له فعليه الزكاة في القولين جَمِيعًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:(3/278)
إِذَا مَلَكَ الرَّجُلُ حُلِيًّا بِابْتِيَاعٍ أَوْ مِيرَاثٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ مَغْنَمٍ فَإِنِ اقْتَنَاهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَعَدَّهُ لِلتِّجَارَةِ بِهِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ حَلَّى بِهِ نِسَاءَهُ أَوْ جَوَارِيَهُ فَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ، وَلَوِ اتَّخَذَ رَجُلٌ حُلِيًّا للإعارة كان مباحاً وفي زكاته قولان.
وقال أبو عَبْدُ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ وَكَانَ شَيْخَ أَصْحَابِنَا فِي عصره: اتخاذ الحلي للكرى وَالْإِجَارَةِ مَحْظُورٌ وَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ مَحْظُورًا لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ عُرْفِ السَّلَفِ بِالْإِجَارَةِ وعدل عما وردت به السنة والإعارة وَالْحُلِيُّ إِذَا عُدِلَ بِهِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ كَانَ مَحْظُورًا وَزَكَاةُ الْمَحْظُورِ وَاجِبَةٌ، وَعَلَى الْأَوَّلِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ كَانَ لِقَوْلِ الزُّبَيْرِيِّ وَجْهٌ، وَيَخْتَارُ أَنْ يُكْرَى حُلِيُّ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَحُلِيُّ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ فَإِنْ أَكْرَى حُلِيَّ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَحُلِيَّ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا: جَوَازُهُ لأنه أُجْرَةٌ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ خَوْفَ الرِّبَا وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يَدْخُلُهُ الرِّبَا، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ إِجَارَةِ حُلِيِّ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ خَوْفَ الرِّبَا لَمُنِعَ من إجارته بدراهم مُؤَجَّلَةً خَوْفَ الرِّبَا، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهِ فدل على فساد هذا الاعتبار والله أعلم.
فصل
: قال المزني رضي الله عنه: " وقد قال الشافعي في غير كتاب الزكاة لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ وَهَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ لِأَنَّ أَصْلَهُ أَنَّ فِي الْمَاشِيَةِ زَكَاةً وَلَيْسَ على المستعمل منها زَكَاةٌ فَكَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ وَلَيْسَ فِي الْمُسْتَعْمَلِ مِنْهُمَا زَكَاةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَعَمْرِي حُجَّةُ مَنْ أَسْقَطَ زَكَاةَ الْحُلِيِّ، إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْمَاشِيَةِ زَكَاةٌ وَلَيْسَ فِي الْمُسْتَعْمَلِ مِنْهَا زَكَاةٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ زَكَاةٌ، وَلَيْسَ فِي الْمُسْتَعْمَلِ مِنْهَا زَكَاةٌ وَلِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ هَذَا، بِأَنَّ زَكَاةَ الْمَوَاشِي تَجِبُ بِوَصْفٍ زَائِدٍ، وَهُوَ السَّوْمُ فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فَقَدْ عُدِمَ الْوَصْفُ الْمُوجِبُ فَسَقَطَتِ الزَّكَاةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ، لِأَنَّ زَكَاتَهُمَا تَجِبُ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ يُعْتَبَرُ فَإِذَا اسْتُعْمِلَا لم يمنع استعمالهما وجوب الزكاة فيهما أو لا تَرَى أَنَّ مَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْمَوَاشِي فِيمَا لَا يَحِلُّ مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرَقِ فِيمَا لَا يَحِلُّ مِنَ الْأَوَانِي وَالْحُلِيِّ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْمَوَاشِي وَبَيْنَ مَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الْحُلِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(3/279)
باب ما لا يكون فيه زكاة
مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَا كَانَ من لؤلؤٍ أو زبرجدٍ أو ياقوتٍ ومرجانٍ وَحِلْيَةِ بحرٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَلَا في مسك ولا عنبر قال ابن عباس في العنبر إنما هو شيء دسره البحر ولا زكاة في شيء مما خالف الذهب والورق والماشية؛ والحرث على ما وصفت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: كُلُّ مَا اسْتُخْرِجَ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ حِلْيَةٍ وَزِينَةٍ وَطِيبٍ، فَلَا زَكَاةَ فِي عَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ أبو يوسف: فِي الْعَنْبَرِ وَحِلْيَةِ الْبَحْرِ الْخُمُسُ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) قَالُوا: وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ يَتَكَامَلُ عَاجِلًا فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْمُسْتَفَادَةَ نَوْعَانِ مِنْ بَرٍّ وَبَحْرٍ فَلَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَرِّ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا زكاة في حجرٍ " اللؤلؤ حَجَرٌ، وَالْجَوَاهِرُ أَحْجَارٌ فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ.
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعَنْبَرُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ وَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ " فَكَانَ قَوْلُهُ: " لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ " يَنْفِي وُجُوبَ الْخُمُسُ فِيهِ كَالْغَنِيمَةِ، وَقَوْلُهُ: " هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ " يَنْفِي أن يكون فيه حق لغيره من أخذه.(3/280)
وروي مجاهد عن ابن عباس أن سُئِلَ عَنِ الْعَنْبَرِ أَفِيهِ الزَّكَاةُ فَقَالَ: " لَا إنما هو شيء دسره البحر " أي يَعْنِي: قَذَفَهُ وَأَلْقَاهُ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ نَوْعَانِ: حَيَوَانٌ، وَجَمَادٌ فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ حَيَوَانِهِ مِنْ سُمُوكِهِ وَحِيتَانِهِ لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ جَمَادِهِ مِنْ حِلْيَةٍ وَزِينَةٍ، وَبِعَكْسِهِ الْبَرُّ لَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ حَيَوَانِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ غَيْرِ حَيَوَانِهِ، مِنْ زُرُوعِهِ وَجَمَادِهِ.
وَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرِّكَازِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَلَوْ سَلَّمْنَا وُجُوبَ خُمُسِ جَمِيعِ الرِّكَازِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ إِنَّهُ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مُسْتَفَادٌ مِنْ مُشْرِكٍ كَالْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حِلْيَةُ الْبَحْرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَرِّ، وَجَبَ أَنْ تَجِبَ زَكَاةُ مَا اسْتُفِيدَ مِنَ الْبَحْرِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ حَيَوَانِ الْبَرِّ جَازَ أَنْ تَجِبَ فِي غَيْرِ حَيَوَانِهِ، وَلَمَّا لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ لَمْ تَجِبْ فِي غَيْرِ حَيَوَانِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(3/281)
باب زكاة التجارة
مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بن عيينة عَنْ يَحْيَي بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حماسٍ أَنَّ أَبَاهُ حِمَاسًا قَالَ مَرَرْتُ عَلَى عمر ابن الْخَطَّابِ وَعَلَى عُنُقِي أَدَمَةٌ أَحْمِلُهَا فَقَالَ أَلَا تُؤَدِّي زَكَاتَكَ يَا حِمَاسُ؟ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ المؤمنين مالي غَيْرُ هَذِهِ وَأَهُبُّ فِي القرظِ فَقَالَ ذَاكَ مال فضع فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَسَبَهَا فَوَجَدَهَا قَدْ وَجَبَتْ فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فِي كُلِّ عَامٍ هَذَا مَذْهَبُنَا.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ لا زكاة فيه بحال.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: دَاوُدُ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ ".
فَأَخْرَجَهَا بِالتِّجَارَةِ عَنِ الْحَالِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ.
وَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءً، لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ بِالتِّجَارَةِ مَعْنًى، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ " فَكَانَ الْعَفْوُ عَلَى عُمُومِهِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَمْوَالَ الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهَا، فَالزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا دُونَ قِيمَتِهَا كَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ وَمَا لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا لَمْ تَجِبْ فِي قِيمَتِهَا، كَالْأَثَاثِ وَالْعَقَارِ فَلَمَّا كَانَ مَالُ التِّجَارَةِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ.(3/282)
قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْأَمْوَالِ لا تأثير إليه فِي سُقُوطِ زَكَاتِهَا بِحَالٍ، كَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ فَلَمَّا سَقَطَتْ زَكَاةُ التِّجَارَةِ إِذَا نُوِيَ بِهَا الْقِنْيَةِ، عُلِمَ أَنَّ زَكَاتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ قَبْلَ إِرْصَادِ النَّمَاءِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ عَرَضَ لِلنَّمَاءِ كَالْعَقَارِ إذا اؤجر وَالْمَعْلُوفَةِ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فَلَمَّا كَانَتْ عُرُوضُ التِّجَارَةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا، قَبْلَ إِرْصَادِهَا لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ أُرْصِدَتْ لِلتِّجَارَةِ فَهَذَا احْتِجَاجُ من أسقط زكاة التجارة.
وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ أَوْجَبَ زَكَاتَهَا مَرَّةً، فَهُوَ أَنْ قَالَ: الْمَقْصُودُ بِالتِّجَارَةِ حُصُولُ النَّمَاءِ بِالرِّبْحِ، وَالرِّبْحُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا نَضَّ الثَّمَنُ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ زَكَاةُ عَامٍ وَاحِدٍ، كَالثِّمَارِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا قَبْلَ أَنْ يَنِضَّ ثَمَنُهَا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ وَإِجْحَافًا بِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّهُمْ تَعَجَّلُوا مِنْ زَكَاتِهَا مَا لَمْ يَتَعَجَّلِ الْمَالِكُ مِنْ رِبْحِهَا وَأُصُولُ الزَّكَوَاتِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ فِي الِارْتِفَاقِ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى تِلْكَ، لِأَنَّ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ الزَّكَاةِ، إِلَّا أَنْ يَنِضَّ الثَّمَنُ وَتِلْكَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَضَّ ثَمَنُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا زَكَاةُ عَامٍ وَاحِدٍ، لَكِنْ سَنَحَ الْخَاطِرُ بِالْأُولَى ثُمَّ أَجَابَ بِالثَّانِيَةِ فَجَرَى الْقَلَمُ بِهِمَا كذلك.
والدلالة على وجوب زكاة التجارة قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) {فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) وَأَمْوَالُ التِّجَارَةِ أعم الأموال فكانت أولى بالإيجاب، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " فَلَمَّا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْحَقِّ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ دل على أن ما أثبت في الزكاة عاماً فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ الْمُثْبَتَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْحَقِّ الْمَنْفِيِّ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَعَثَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مُصَّدِّقًا فَرَجَعَ شَاكِيًا مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَابْنِ جَمِيلٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ ظَلَمْتُمُوهُ لِأَنَّهُ حَبَسَ أَدْرُعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وَالْأَعْتُدُ: الْخَيْلُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَدْرُعَ وَالْخَيْلَ لَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ العين فثبت أن الذي وجب فيها زَكَاةُ التِّجَارَةِ.
وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو ذَرٍّ فقال له: كيف خبرك يا أبا ذكر؟ فَقَالَ بِخَيْرٍ ثُمَّ قَامَ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ فَبَادَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَاحْتَوَشُوهُ وَكُنْتُ فِيمَنِ احْتَوَشَهُ فَقَالُوا لَهُ: حِدِّثْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته " قاله بِالزَّاي مُعْجَمَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَزَّ لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ زكاة التجارة.(3/283)
وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ سَمُرَةَ عَنْ أَبِيهِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ ".
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ ".
وَرَوَى الْحَكَمُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) {البقرة: 267) قَالَ: زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَلِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ إِنَّمَا خُصَّا من بين سائر الجواهر بإيجاب الزكاة فيها لِإِرْصَادِهِمَا لِلنَّمَاءِ، وَطَرِيقُ النَّمَاءِ بِالتَّقَلُّبِ وَالتِّجَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضُوعُ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ سَبَبًا لِإِسْقَاطِهَا، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لا يجب إخراج زكاتها إلا إذا نَضَّ ثَمَنُهَا، فَحَدِيثُ حِمَاسٍ قَالَ: " مَرَرْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى عنقي أدمة أحملها فقال: ألا تؤدي زكاتها يَا حِمَاسُ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا لِي غَيْرُ هَذِهِ وَأَهُبُّ فِي الْقُرْظِ فَقَالَ: ذاك مال فوضع فَوَضَعْتُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَسَبَهَا، فَوَجَدَهَا قَدْ وَجَبَتْ فيها الزكاة، فأخذ منها الزكاة "، فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ التِّجَارَةِ.
وَالثَّانِي: عَلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِهَا قَبْلَ أَنْ يَنِضَّ ثَمَنُهَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاتَهَا فِي كُلِّ عَامٍ، هُوَ أَنَّهُ مَالٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ فَوَجَبَ، أَنْ يُزَكَّى في كل حول كالفضة والذهب هذه دَلَالَةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ لَاقْتَصَرْتُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، وَلَكِنْ لَيْسَ إِذَا قَلَّ أَنْصَارُ الْمُخَالِفِ وَضَعُفَ حِزْبُهُ مَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُوَفَّى الْعِلْمُ حَقَّهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الصَّدَقَةُ " فَهُوَ إِنَّمَا أَمْرٌ بِالتِّجَارَةِ لِيَكُونَ مَا يَعُودُ مِنْ رِبْحِهَا خَلَفًا عَمَّا خَرَجَ مِنْ زَكَاتِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا لِإِسْقَاطِ زَكَاتِهَا، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يُسْقِطُ لِلَّهِ تَعَالَى حَقًّا أَوْ يُبْطِلُ لَهُ سُبْحَانَهُ وَاجِبًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ والرقيق " فلسنا نوجب الصدقة فيها وَإِنَّمَا نُوجِبُهَا فِي قِيمَتِهَا عَلَى أَنَّ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ قَدِ اسْتَثْنَى فِي حَدِيثِهِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ.(3/284)
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ فَالزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ قُلْنَا: الزَّكَاةُ وَجَبَتْ فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَإِخْرَاجُهَا مِنَ الْقِيمَةِ دُونَ الْعَيْنِ فَمَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَمِنْهُ يُؤَدَّى لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ إِذَا لَمْ تَجِبِ فِي الْعَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجِبَ فِي الْقِيمَةِ، هَذَا مِمَّا لَا يُرْجَعُ فِيهِ إلى أصل، ولا يعتبر بنظير ولا يقصد بِدَلِيلٍ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ عَيْنٌ، وَالزَّكَاةُ فِيهَا وَجَبَتْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ لَا تَأْثِيرَ لِلنِّيَّةِ فِيهِ قُلْنَا: لَيْسَتِ النِّيَّةُ مُسْقِطَةً، وَلَا مُوجِبَةً، وَإِنَّمَا إِرْصَادُهُ لِلنَّمَاءِ بِالتِّجَارَةِ مُوجِبٌ لِزَكَاتِهِ، كَمَا أَنَّ إِرْصَادَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لِلتَّحَلِّي بِهِ مُسْقِطٌ لِزَكَاتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النِّيَّةَ فِي الْحُلِيِّ مُسْقِطَةٌ لِزَكَاتِهِ كَذَلِكَ لَا يُقَالُ: إِنَّ النِّيَّةَ فِي التِّجَارَةِ مُوجِبَةٌ لِزَكَاتِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ قَبْلَ إِرْصَادِهِ لِلنَّمَاءِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ فَفَاسِدٌ بِالْحُلِيِّ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِذَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ وَالْمَاشِيَةُ الْمَعْلُوفَةُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلَوْ أُرْصِدَتْ لِلنَّمَاءِ بِالسَّوْمِ، وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ بِمَا لَمْ يُرْصَدْ لَهُ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِإِرْصَادِهِ لِلنَّمَاءِ وتسقط بفقده، وسائر الْأُصُولِ يَشْهَدُ بِهِ.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا قَبْلَ أَنْ يَنُضَّ ثَمَنُهَا اعْتِبَارًا بِالثَّمَرَةِ، فَفَاسِدٌ بِمَا نَضَّ مِنْ ثَمَنِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنِ ارْتِفَاقِ الْمَسَاكِينِ قَبْلَ رَبِّهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مُعْتَبَرًا فِيمَا لَهُ حَوْلٌ لَمُنِعَ الْمَالِكُ مِنْ تَعْجِيلِ الِارْتِفَاقِ قَبْلَ الْمَسَاكِينِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتَعَجَّلَ الِارْتِفَاقَ بِرِبْحِ مَا حَصَّلَ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِقِ المساكين بمثله جاز أن يتعجل المساكين مَا لَمْ يَنُضَّ ثَمَنُهُ، وَلَمْ يُحَصَّلْ رِبْحُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِقِ الْمَالِكُ بِمِثْلِهِ وَهَذَا جَوَابٌ عن الدلالتين معاً.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اتَّجَرَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ ثلاثمائةٍ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ زَكَّى الْمِائَتَيْنِ لِحَوْلِهَا وَالْمِائَةَ الَّتِي زَادَتْ لِحْولِهَا وَلَا يضم ما ربح إليها لأنه ليس منها وإنما صرفها في غيرها ثم باع ما صرفها فيه ولا يشبه أن يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَشْتَرِي بها عرضاً للتجارة فيحول الحول والعرض في يديه فيقوم العرض بزيادته أو بنقصه لأن الزكاة حينئذٍ تحولت في العرض بنية التجارة وصار العرض كالدراهم يحسب عليها لحولها فإذا نص ثمن العرض بعد الحول أخذت الزكاة من ثمنه بالغاً ما بلغ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ.(3/285)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، فَإِنْ بَاعَهُ مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يزكي الأصل، والربح فيخرج زكاة ثلاثمائة، لا يَسْتَأْنِفُ لِلرِّبْحِ حَوْلًا بَلْ يَكُونُ تَبَعًا لَا يَخْتَلِفُ سَوَاءٌ ظَهَرَ الرِّبْحُ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، أو في آخره، لأنه نما أَصْلِهِ، فَضُمَّ إِلَيْهِ فِي حَوْلِهِ كَالسِّخَالِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ أو يحابى أو يغين بِمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، كَأَنَّهُ كَانَ يُسَاوِي أَرْبَعَمِائَةٍ فَبَاعَهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ لِمُحَابَاةٍ، أَوْ غَبْنَةٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ أَرْبَعِمِائَةٍ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّ الْمَسَاكِينِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ كَأَنَّهُ كَانَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ فباعه بثلاث مائة إما لرغبة أو غشه فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُزَكِّي جَمِيعَ الثَّمَنِ وَيُخْرِجُ زَكَاةَ ثَلَاثِمِائَةٍ لِأَنَّهُ أَفَادَ الزَّكَاةَ بِالْعَرَضِ، كَمَا لَوْ أَفَادَهَا بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا زَكَاةَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ، وَيَسْتَأْنِفُ بِهَا الْحَوْلَ كَالْمَالِ الْمُسْتَفَادِ فَهَذَا الْحُكْمُ فِي بَيْعِ الْعَرَضِ عِنْدَ دُخُولِ الْحَوْلِ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ بَاعَهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، فَالْكَلَامُ فِيهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمِائَةِ الزَّائِدَةِ، هَلْ يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ حُصُولِهَا أَوْ يَبْنِي حَوْلَهَا على حول أصلها؟ فقال الشافعي ها هنا: " يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ وَلَا تُضَمُّ إِلَى أَصْلٍ " وَقَالَ فِي كِتَابِ " الْقِرَاضِ " مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا تُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ لِأَنَّهُ قَالَ: " وَإِذَا قَارَضَهُ بِأَلْفٍ فَاشْتَرَى سِلْعَةً فَحَالَ الْحَوْلُ، وَهِيَ تَسْوِي أَلْفَيْنِ " فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَكَاةَ الْجَمِيعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاةَ رَأْسِ الماس وَحِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ - إِلَى آخِرِ الْفَصْلِ - فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ دَلِيلًا عَلَى ضَمِّ الزِّيَادَةِ إِلَى الْأَصْلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَالَّذِي قَالَهُ هُنَا إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِالزِّيَادَةِ الْحَوْلَ، وَلَا يَضُمُّهَا إِلَى الْأَصْلِ هُوَ إِذَا ظَهَرَتِ الزِّيَادَةُ وَقْتَ الْبَيْعِ، وَالَّذِي قَالَهُ فِي الْقِرَاضِ إِنَّهَا تُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ لَهَا الحول إِذَا ظَهَرَتِ الزِّيَادَةُ، وَقْتَ الشِّرَاءِ فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ لِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ فِي ظُهُورِ الزِّيَادَةِ.(3/286)
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ بِالزِّيَادَةِ الْحَوْلَ وَلَا يَضُمُّهَا إِلَى الْأَصْلِ قَوْلًا وَاحِدًا سَوَاءٌ ظَهَرَتْ وَقْتَ الشِّرَاءِ أَوْ وَقْتَ الْبَيْعِ وَهُوَ مَا نص عليه ها هنا، وَمَا قَالَهُ فِي " الْقِرَاضِ " مُوَافِقٌ لِهَذَا، لِأَنَّهُ قال: " يزكي رأس المال أو ربحه إِذَا حَالَ الْحَوْلُ " يَعْنِي: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَحَوْلُ الرِّبْحِ مِنْ يَوْمِ نَضَّ، وَحَوْلُ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ يَوْمِ مُلِكَ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ قوله:
والمذهب الثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ المروزي: إذ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُضَمَّ الزِّيَادَةُ إِلَى الْأَصْلِ وَلَا يَسْتَأْنِفَ لَهَا الْحَوْلَ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْقِرَاضِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارِ الْمُزَنِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ ضَمُّ الزِّيَادَةِ إِلَى الْأَصْلِ إِذَا وُجِدَتْ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ وَجَبَ أَنْ تُضَمَّ إِلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، لِأَنَّهَا فِي كُلِّ الْحَالَيْنِ مِنْ نَمَاءِ الْأَصْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ وَلَا تُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ عَلَى ما قاله ها هنا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ حَصَلَتْ بِاجْتِلَابِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهَا الْحَوْلَ كَالْمُسْتَفَادِ بِمَغْنَمٍ أَوْ هِبَةٍ، والقول الأول أصح، لأنها عندي إذا أضمت الزِّيَادَةُ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَهَلَّا ضُمَّتِ الزِّيَادَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي تَضَاعِيفِهِ، إِذْ هُمَا سَوَاءٌ لا فرق بينهما ومن تكلف الفرق بينهما كان فرقه واهياً وتكلفه عماء، فلو اشترى عرضاً بمائتي درهم ثم باعه بعد ستة اشهر بثلاثمائة درهم، ثم اشترى بالثلاثمائة عرضاً ثم باعه بعد شهر بأربعمائة، فإن قيل تضم المائة الحاصلة إلى أصله بالربح الأول ضمت المائة الحاصلة بالربح الثاني، فإذا حال حول المائتين أخرج زكاة أربعمائة.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ بعرضٍ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى عَرْضِ التِّجَارَةِ قُوِّمَ بِالْأَغْلَبِ مِنْ نَقْدِ بلده دنانير أو دراهم وإنما قومته بالأغلب لأنه اشتراه للتجارة بعرضٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ بدراهم أو دنانير أو ماشية وما أشبه فِيهَا الزَّكَاةَ، فَيَأْتِي مَسْطُورًا فِيمَا بَعْدُ وَأَمَّا إن اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِعَرَضٍ لِلْقِنْيَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا حَالَ حَوْلُهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا زَكَاةَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَوْلُ سَمُرَةَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ مِنَ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ "، وَلِأَنَّهُ مَالٌ اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ كَمَا إِذَا اشْتَرَاهُ بِنَاضٍّ مِنْ(3/287)
ذَهَبٍ أَوْ وَرَقٍ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ زَكَاتِهِ قُوِّمَ بَعْدَ حَوْلِهِ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَرَضِ فِي وَقْتِ تَقْوِيمِهِ لَا فِي وَقْتِ ابْتِيَاعِهِ، فَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ قَوَّمَهُ بِالدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَ دَنَانِيرَ قَوَّمَهُ بِالدَّنَانِيرِ، لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ يَقُومُ به، لكان أَوْلَى الْأُمُورِ تَقْوِيمَهُ بِغَالِبِ النَّقْدِ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ بِالْغَالِبِ نِصَابًا وَبَلَغَ بِغَيْرِ الْغَالِبِ نِصَابًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْغَالِبِ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ فَإِنْ كَانَ نَقْدُ الْبَلَدِ بِهِمَا وَاحِدًا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا غَالِبًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَرَضِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِأَيِّهِمَا قُوِّمَ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا وَبِالدَّنَانِيرِ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا فَيُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ وَتُخْرَجُ زَكَاتُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ بِالدَّنَانِيرِ نِصَابًا وَبِالدَّرَاهِمِ لا تبلغ نصاباً فتقوم الدنانير وتخرج زَكَاتُهُ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يُقَوَّمُ بِالدَّنَانِيرِ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، إِلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ تَطَوُّعًا وَسَنَذْكُرُ وَجْهَ قَوْلِهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ نِصَابًا وَبِالدَّنَانِيرِ نِصَابًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِأَيِّهِمَا يُقَوَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: هُوَ بِالْخِيَارِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ قَوَّمَهُ، لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا وَأَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ، وَلِأَنَّ زكاتها مأخوذة بالنض وَزَكَاةُ الذَّهَبِ بِاجْتِهَادٍ لَا بِنَصٍّ، وَذَاكَ الْوَجْهُ الْمُخَرَّجُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يُقَوِّمُهُ بِأَحَظِّهِمَا لِلْمَسَاكِينِ وَأَنْفَعِهِمَا لَأَهِلِ السُّهْمَانِ.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُخْرِجُ زَكَاتَهُ مِنَ الَّذِي قَوَّمَ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يُقَوِّمُهُ بِهِ، فَأَمَّا مَا يُخْرِجُهُ فِي زَكَاتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ إنَّهُ يُخْرِجُ رُبُعَ عُشْرِ الْعَرَضِ حَتْمًا لَا يَعْدِلُ إِلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ سَمُرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَأْمُرُنَا بِإِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ مِنَ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ " وَإِذَا أَمَرَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُزَكًّى فَوَجَبَ أَنْ تُخْرَجَ زَكَاتُهُ مِنْهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ.(3/288)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الْقَدِيمِ أَيْضًا إنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِخْرَاجِ رُبُعِ عُشْرِ الْعَرَضِ، وَبَيْنَ إِخْرَاجِ رُبُعِ عُشْرِ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ فِي تَخْيِيرِهِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِ، وَرِفْقًا بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَنْ يُخْرِجَ رُبُعَ عُشْرِ الْقِيمَةِ حَتْمًا، فَإِنْ أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِهِ عَرَضًا لَمْ يُجِزْهُ.
وَوَجْهُ هَذَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَذَ مِنْ حِمَاسٍ " قِيمَةَ مَتَاعِهِ " وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ، فَوَجَبَ أن تخرج الزكاة ما وَجَبَتْ فِيهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ لَا مِنْ عَيْنِهِ وسنوضح معاني هذه الأقاويل بما نذكره في التَّفْرِيعِ.
فَصْلٌ
: إِذَا اشْتَرَى مِائَةَ قَفِيزٍ حِنْطَةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَحَالَ الْحَوْلُ وَقِيمَتُهُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حنطة، وعلى القول الثاني فهو مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِخْرَاجِ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حِنْطَةً، وَبَيْنَ إِخْرَاجِ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ لَا غَيْرَ فلو حال الحول وقيمته ثلاث مائة فَلَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهُ حَتَّى زَادَتْ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهُ أربع مائة، فَالْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى، يُخْرِجُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حِنْطَةً، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ يُخْرِجُ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ لَا غَيْرَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْحَادِثَةَ بعد الحول هي في ملكه لاحظ للمساكين فيها، فلو حال الحول وقيمته ثلاث مائة فَلَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهُ حَتَّى نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ مِائَتَيْنِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ كَنُقْصَانِ السِّلْعَةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ أَوْ بَعْدَهُ وَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى، عَلَى الْأَوَّلِ يُخْرِجُ قَفِيزَيْنِ ونصف وَعَلَى الثَّانِي هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ وَبَيْنَ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الثَّالِثِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَادِثٌ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ كَمَا لَوْ حَدَثَتْ زِيَادَةٌ لَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ لِفَسَادٍ حَصَلَ فِي الْحِنْطَةِ مِنْ بَلَلٍ أَوْ عَفَنٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْسُوبًا إِلَى فِعْلِهِ وَمُضَافًا إِلَى تَفْرِيطِهِ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ النَّقْصِ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ حِنْطَةً مِنْهَا وَدِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ لِلنَّقْصِ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ مِثْلَ حِنْطَتِهِ قَبْلَ فَسَادِهَا أَخْرَجَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفًا لَا غَيْرَ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذَا أَوْ سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ يُخْرِجُ سبعة دراهم ونصف لا غير.(3/289)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ غَيْرَ مَنْسُوبٍ إِلَيْهِ فَهَذَا، عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلنَّقْصِ كما مضى.
والضرب الثاني: أن يكون له حادثاً قبل إمكان الأداء فلا يكون ضَامِنًا، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ حِنْطَةٍ لَا غَيْرَ، وَعَلَى الثَّانِي هُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَفِيزَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ حِنْطَةٍ وبين خمسة دراهم وعلى الثَّالِثِ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ لَا غَيْرَ وَيَكُونُ النَّقْصُ دَاخِلًا عَلَى الْمَسَاكِينِ كَدُخُولِهِ عَلَيْهِ والله أعلم.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان في يديه عرض للتجارة تجب في قيمته الزكاة وأقام في يديه ستة أشهر ثم اشترى به عرضاً للتجارة بدنانير فأقام في يديه سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَقَدْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالَيْنِ معاً وقام أحدهما مكان صاحبه فيقوم العرض الذي في يديه ويخرج زكاته ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ بَاعَهُ فِي الْحَوْلِ بِعَرَضٍ ثَانٍ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ بَاعَ الثَّانِي بِثَالِثٍ، وَالثَّالِثَ بِرَابِعٍ بَنَى ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ مَنْ بَادَلَ مَاشِيَةً بِمَاشِيَةٍ لِمَعْنَيَيْنِ هُمَا دَلَالَةٌ وَفَرْقٌ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَكَاةَ الْعَرَضَ فِي قِيمَتِهِ لَا فِي عَيْنِهِ وَمِلْكُ الْقِيمَةِ مُسْتَدَامٌ فِي الْعُرُوضِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ بِالْبَيْعِ فَلِذَلِكَ بَنَى وَزَكَاةُ الْمَاشِيَةِ فِي عَيْنِهَا وَمِلْكِهَا مُنْقَطِعٌ بِبَيْعِهَا فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نَمَاءَ التِّجَارَةِ يَحْصُلُ بِبَيْعِهَا وَتَقْلِيبِ عَيْنِهَا فَلَمْ يَكُنِ الْبَيْعُ مُبْطِلًا لِحَوْلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولو اشترى عرضاً بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ أَوْ بشيءٍ تَجِبُ فِيهِ الصدقة من الماشية وكان إفادة ما اشترى بِهِ ذَلِكَ الْعَرْضَ مِنْ يَوْمِهِ لَمْ يُقَوِّمِ العرض حتى يحول الحول من يوم أفاد ثَمَنَ الْعَرَضِ ثُمَّ يُزَكِّيهِ بَعْدَ الْحَوْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِمِائَتَيْ درهم أو بعشرين دينار، فَحَوْلُ هَذَا الْعَرَضِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، لِأَنَّ هَذَا الْعَرَضَ فَرْعٌ لِأَصْلِهِ لِأَنَّهُ يُقَوَّمُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِهِ فَأَمَّا إِنِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِخَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ سَائِمَةً، أَوْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ أَوْ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ، فَهَلْ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ أم يَبْنِي عَلَى حَوْلِ أَصْلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يبني حول الْعَرَضِ عَلَى حَوْلِ أَصْلِهِ اسْتِدْلَالًا بِمَذْهَبٍ وَحِجَاجٍ.(3/290)
أَمَّا الْمَذْهَبُ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ بِشَيْءٍ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ مِنَ الْمَاشِيَةِ فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَاشِيَةِ وَالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ قَالَ: " لَمْ يُقَوِّمِ الْعَرَضَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَ ثَمَنَ الْعَرَضِ " فكان صريح نفيه وموجب جمعه من يوم يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُ مُبْقِيًا عَلَى حَوْلِ أصله.
وأما الحجاج، فهو أنه صرف حولاً تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فِي فَرْعٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُ حَوْلُ الْفَرْعِ مُعْتَبَرًا بِأَصْلِهِ، كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِنِصَابٍ مِنْ ذَهَبٍ أو ورق.
والوجه الثاني: وهو قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا يَسْتَأْنِفُ لَهُ الْحَوْلَ، وَلَا يَبْنِيهِ عَلَى حَوْلِ الْأَصْلِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَاحْتَجَّ لَهُ بِشَيْئَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نِصَابَ الْمَاشِيَةِ مُخَالِفٌ لِنِصَابِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ نِصَابَ الْمَاشِيَةِ إِمَّا خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ ثَلَاثُونَ مِنَ الْبَقَرِ أَوْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ، وَنِصَابُ التِّجَارَةِ إِمَّا عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ أَحَدِهِمَا على الآخر مع اختلاف نصبهما.
والثاني: زكاة الماشية مخالفة لِزَكَاةِ التِّجَارَةِ، لِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ رُبْعُ عُشْرِهَا وَزَكَاةَ الْمَاشِيَةِ تَارَةً شَاةٌ، وَتَارَةً بَقَرَةٌ، وَتَارَةً بِنْتُ مَخَاضٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْنَى حَوْلُ أحدهما على الآخر مع اختلاف زكاتهما وبهذا يَفْسُدُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ، فَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ مَذْهَبًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ مَلَكَ مَاشِيَةً فَاشْتَرَى بِهَا عَرَضًا فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَلَكَهَا فِيهِ فَكَانَ حَوْلُ الْعَرَضِ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي مَلَكَ فِيهِ الْمَاشِيَةَ، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَقَدْ أَفْصَحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِشَيْءٍ تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ مِنَ الماشية " فكان إفادة ما اشترى به ذلك العرض من يَوْمِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَسْأَلَةَ الشَّافِعِيِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَاشِيَةٍ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ وَسَامَهَا فَوَجَبَتْ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَسَقَطَتْ زَكَاةُ الْعَيْنِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ ابْتَاعَ بِهَا عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ، فَحَوْلُ الْعَرَضِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْمَاشِيَةَ لِأَنَّ زَكَاةَ الْمَاشِيَةِ فِي قِيمَتِهَا كَالْعَرَضِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَمَعَ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَبَيْنَ الْمَاشِيَةِ ثُمَّ عَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ دُونَ الْمَاشِيَةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي جَوَابِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَ ثَمَنَ الْعَرَضِ، وَمُطْلَقُ الْأَثْمَانِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَكَانَ الجواب راجعاً إليهما ومحمولاً.
مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَقَامَ هذا العرض في يديه ستة أشهر ثم باعه بدراهم أو دنانير فأقامت في يديه ستة أشهر زكاها. قال المزني: إذا كانت فائدته نقداً(3/291)
فحول العرض من حين أفاد النقد لأن معنى قيمة العرض للتجارة والنقد في الزكاة ربع عشر وليس كذلك زكاة الماشية ألا ترى أن في خمس من الإبل السائمة بالحول شاة أفيضم ما في حوله زكاة شاةٍ إلى ما حوله زكاة ربع عشر ومن قوله لو أبدل إبلاً ببقرٍ أو بقراً بغنمٍ لم يضمها في حول لأن معناها في الزكاة مختلف وكذلك لا ينبغي أن يضم فائدة ماشية زكاتها شاة أو تبيع أو بنت لبون أو بنت مخاضٍ إلى حول عرضٍ زكاته ربع عشر فحول هذا العرض من حين اشتراه لا من حين أفاد الماشية التي بها اشتراه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الثَّمَنِ، إِذَا مَلَكَهُ نِصْفَ الْحَوْلِ ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ عَرَضًا وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الثَّمَنِ، وَاخْتِلَافَ حُكْمِهِ، فَأَمَّا عَرَضُ التِّجَارَةِ إِذَا مَلَكَهُ نِصْفَ الْحَوْلِ ثُمَّ بَاعَهُ بِثَمَنٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ هَذَا الثَّمَنِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَالْمَوَاشِي وَالْعُرُوضِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ دُونَ النِّصَابِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ فَإِنْ تَمَّ نِصَابًا اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نِصَابًا فَصَاعِدًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ ما يقوم به ذلك العرض، كأنه دراهم، وَالْعَرَضُ مِمَّا يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ إِمَّا لِأَنَّهُ ابْتَاعَهُ بِدَرَاهِمَ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ ابْتَاعَهُ بِعَرَضٍ وَغَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَنَى حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الْعَرَضِ أخرج زكاته، لأنه مَا حَصَلَ مِنْ قِيمَتِهِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي قِيمَتِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا يُقَوَّمُ بِهِ ذلك العرض، كأنه دراهم والعرض مما يقوم بِالدَّنَانِيرِ، إِمَّا لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِدَنَانِيرَ وَإِمَّا لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِعَرَضٍ وَغَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَنَانِيرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ وَلَا يَبْنِي، لِأَنَّ الزَّكَاةَ قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ قِيمَةِ الْعَرَضِ إِلَى عَيْنٍ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْعَرَضِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِاخْتِلَافِهِمَا وَقَدْ حَكَاهُ الرَّبِيعُ فِي " الْأُمِّ " عَنِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ يَبْنِي حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ(3/292)
العرض، لأن التقلب الَّذِي بِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ الْعَرَضِ، لَا يَحْصُلُ إلا بتقلب الْأَثْمَانِ وَاخْتِلَافِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الْحَوْلِ، وَهَذَا أَحْوَطُ وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَالْمَوَاشِي وَالْعُرُوضِ فَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ كَعُرُوضِ الْقِنْيَةِ فَقَدْ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ وَبَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فيه الزكاة من قِيمَتِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ فَهَذَا يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ كَالْمَوَاشِي السَّائِمَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهَا، فَإِنْ نَوَى بِهَا التِّجَارَةَ بَنَى حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ وَزَكَّاهَا عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ كَالْعُرُوضِ، وَإِنْ عَدَلَ بِهَا عَنِ التِّجَارَةِ، وَأَرْصَدَهَا لِلنَّسْلِ وَالْقِنْيَةِ، فَلَا زَكَاةَ فِي قِيمَتِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ عَدَلَ بِهَا عَنِ التِّجَارَةِ، وَلَا فِي عَيْنِهَا لِنَقْصِهَا عَنِ النِّصَابِ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ نِصَابًا فَيُعْتَبَرُ حَالُهَا أَيْضًا، وَذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَرْصُدَهَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلْقِنْيَةِ فَإِنْ أَرْصَدَهَا لِلتِّجَارَةِ فَهَلْ يُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَوْ زَكَاةَ الْعَيْنِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ مِنْ قِيمَتِهَا فَعَلَى هَذَا يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُزَكِّيهَا زَكَاةَ الْعَيْنِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ كَالَّتِي أَرْصَدَهَا لِلنَّسْلِ، وَأَعَدَّهَا لِلْقِنْيَةِ وَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ التِّجَارَةِ، وَهَلْ يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ، وَلَا يَسْتَأْنِفُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ الْعَرَضِ عَلَى حَوْلِ الْمَاشِيَةِ، جَازَ أَنْ يَبْنِيَ حَوْلَ الْمَاشِيَةِ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ وَلَا يَبْنِي عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي النُّصُبِ وَاخْتِلَافِهِمَا في الزكاة.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الْعَرَضَ بِمَائَتَيْ دِرْهَمٍ لَمْ يقوم إلا بدراهم وَإِنْ كَانَ الدَّنَانِيرُ الْأَغْلَبَ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ ".(3/293)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِعَرَضٍ أَنَّهُ يُقَوِّمُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ فَأَمَّا إِذَا اشْتَرَاهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ نِصَابًا إِمَّا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا، فَهَذَا يُقَوِّمُهُ بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ غَيْرَهُ فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ قَوَّمَهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَنَانِيرَ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا قَوَمَّهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ دَرَاهِمَ، وَإِذَا اشْتَرَاهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا قَوَّمَ بِالدَّرَاهِمِ مَا قَابَلَهَا، وَبِالدَّنَانِيرِ مَا قَابَلَهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُقَوِّمُهُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَدَّادِ الْمِصْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ: لِأَنَّ الْقِيَمَ لَا تُعْتَبَرُ إِلَّا بِغَالِبِ النَّقْدِ كَالْمُتْلَفَاتِ وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْعَرَضَ فَرْعٌ لِثَمَنِهِ وَتَقْوِيمُ الْفَرْعِ بِأَصْلِهِ إِذَا كَانَ لَهُ فِي الْقِيمَةِ مَدْخَلٌ أَوْلَى مِنْ تَقْوِيمِهِ بِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ مَعْنَيَيْنِ لَمْ يَجْمَعْهُمَا غَيْرُهُ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَوْلَهُ يعتبر بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي التَّقْوِيمِ، أو لا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ تُرَدُّ إِلَى أَيَّامِهَا فَإِذَا عدمتها ردت إلى الغالب، وكذلك فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَأَمَّا الْمُتْلَفَاتُ فَإِنَّمَا قُوِّمَتْ بِالْغَالِبِ لِعَدَمِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ جنساً واحداً.
والثاني: أن يكون جنسين فإن كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يُقَوَّمُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْنِ حَوْلَهُ عَلَى ثَمَنِهِ لم يقومه بثمنه.
والوجه الثاني: يقوم بنفسه وهو أصح لأن فَرْعُهُ فَكَانَ أَوْلَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ جِنْسَيْنِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:(3/294)
أَحَدُهَا: يُقَوَّمُ بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ.
وَالثَّانِي: بِثَمَنِهِ فَيُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ مَا قَابَلَهَا وَبِالدَّنَانِيرِ مَا قَابَلَهَا.
وَالثَّالِثَ: يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ لِأَنَّهَا أَصْلٌ وَطَرِيقُهَا النَّصُّ، والدنانير بيع وطريقها الاجتهاد.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِدَنَانِيرَ قَوَّمَ الدَّنَانِيرَ بدراهم وزكيت الدنانير بقيمة الدراهم لأن أصل ما اشترى به العرض الدراهم وكذلك لو اشترى بالدنانير لم يقوم العرض إلا بالدنانير ولو باعه بدراهم وعرض قوم بالدنانير ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِدَرَاهِمَ وَبَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِدَنَانِيرَ فَإِنْ عَلِمَ قِيمَةَ الْعَرَضِ بِالدَّرَاهِمِ عِنْدَ حُلُولِ حَوْلِهِ أَخْرَجَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قِيمَتَهُ قَوَّمَ الدَّنَانِيرَ الْحَاصِلَةَ مِنْ ثَمَنِهِ بِالدَّرَاهِمِ وَأَخْرَجَ الزَّكَاةَ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يُخْرِجْهَا دَنَانِيرَ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا دَنَانِيرَ لَمْ تجزه، لأنه أخرج غير ما وجبت عَلَيْهِ وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِبَيْعِ الْعَرَضِ بِالدَّنَانِيرِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَبِيعَهُ بِالدَّنَانِيرِ، قَبْلَ الْحَوْلِ، وَتَسْقُطَ زَكَاةُ مَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، هُوَ أَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَقَدْ بَاعَهُ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِ، وَمَنْ بَاعَ مَالَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِذَا بَاعَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ بِغَيْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ، فَقَدْ بَاعَهُ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَسَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَاعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ بِمِائَةِ دِينَارٍ، لَمْ تَسْقُطْ زَكَاتُهَا وَلَوْ بَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ سَقَطَتْ زكاتها.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَقَامَتْ عِنْدَهُ مِائَةُ دِينَارٍ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَا زَكَاةَ فِي الدَّنَانِيرِ الْأَخِيرَةِ وَلَا فِي الدَّرَاهِمِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهَا لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا بِأَنْفُسِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: " إِذَا كَانَتْ مَعَهُ مِائَةُ دِينَارٍ أَقَامَتْ بِيَدِهِ أَكْثَرَ الْحَوْلِ " ثُمَّ بَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ كَانَ مَعَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهَا التِّجَارَةَ، وَلَا يَبِيعَهَا لِطَلَبِ الرِّبْحِ فَهَذَا يَسْتَأْنِفُ بِمَا مَلَكَهُ أَخِيرًا مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْحَوْلَ، وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى.
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِهَذَا الْبَيْعِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُمَا فِي بَيْعِ الْمَوَاشِي.(3/295)
والحال الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ صَرْفًا يُقْصَدُ بِهِ التِّجَارَةُ وَطَلَبُ الرِّبْحِ وَالنَّمَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ يبني على حَوْلِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى وَيُزَكِّي، وَلَا تَسْقُطُ الزكاة بالبيع اعتباراً بعروض التجارة، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أُصُولِهَا زَكَاةٌ فَلِأَنْ تَجِبَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوْلَى لِأَنَّ فِي أَصْلِهَا زَكَاةً وَلِأَنَّ مَا تَجِبُ زَكَاتُهُ مَعَ عَدَمِ النَّمَاءِ، فَلِأَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ مَعَ حُصُولِ النَّمَاءِ أَوْلَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا زَكَاةَ، وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ بِالْآخِرَةِ، وَلَا يَبْنِي لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ تَجِبُ زَكَاتُهُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ حَوْلُهُ بغيره كالمواشي، إذا بادلها بمواشي، وَلِأَنَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ لَا يُزِيلُ حُكْمَ الْعَيْنِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْأَصْلِ، لِأَنَّ ما يحصل من ربحها يسير، لأن إِنْ بَاعَهَا بِجِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا مِثْلًا بمثل، فإن بَاعَهَا بِغَيْرِ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ إِلَّا يَدًا بيد ومع ارتفاع النَّسِيئَةِ يَقِلُّ الرِّبْحُ وَهَذَا أَقْيَسُ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى عَرْضًا لِغَيْرِ تجارةٍ فَهُوَ كَمَا لو ملك بغير شراءٍ فإن نوى به التجارة فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا لِلْقِنْيَةِ، فَلَا زَكَاةَ فيه فإذا نَوَى بَعْدَ الشِّرَاءِ أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ، لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، حَتَّى يَتَّجِرَ بِهِ وَلَا يَكُونُ لِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ حُكْمٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ الْكَرَابِيسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ عَرَضَ التِّجَارَةِ، لَوْ نَوَى بِهِ الْقِنْيَةَ سَقَطَتْ زَكَاتُهُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ عَرَضُ الْقِنْيَةِ، إِذَا نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْعَرَضِ لِأَجْلِ التجارة، والتجارة تصرف وفعل الحكم إِذَا عُلِّقَ بِفِعْلٍ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، حتى يقترن به الفعل وشاهد ذلك من الزَّكَاةِ، طَرْدٌ وَعَكْسٌ فَالطَّرْدُ أَنَّ زَكَاةَ الْمَوَاشِي تَجِبُ بِالسَّوْمِ، فَلَوْ نَوَى سَوْمَهَا وَهِيَ مَعْلُوفَةٌ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا السَّوْمُ، وَالْعَكْسُ أَنَّ زَكَاةَ الْفِضَّةِ وَاجِبَةٌ إِلَّا أَنْ يَتَّخِذَهَا حُلِيًّا فَلَوْ نَوَى أَنْ تَكُونَ حُلِيًّا لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ حتى يقترن بها الفعل، وإن كَانَ شَاهِدُ الزَّكَاةِ طَرْدًا وَعَكْسًا يَدُلُّ عَلَى مَا أُثْبِتَ مِنِ انْتِقَالِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالْفِعْلِ حِينَ يُوجَدُ الْفِعْلُ ثَبَتَ(3/296)
أَنَّ عُرُوضَ الْقِنْيَةِ لَا تَجِبُ زَكَاتُهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهَا فِعْلُ التِّجَارَةِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَسَنَجْعَلُ الْجَوَابَ عَنْهُ فَرْقًا نَذْكُرُهُ فِي موضعه، من المسألة الآتية بشاهد واضح.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو اشترى شيئاً للتجارة ثم نواه لقنيةٍ لم يكن عَلَيْهِ زَكَاةٌ وَأُحِبُّ لَوْ فَعَلَ وَلَا يُشْبِهُ هذا السائمة إِذَا نَوَى عَلَفَهَا فَلَا يَنْصَرِفُ عَنِ السَّائِمَةِ حَتَّى يَعْلِفَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ جَرَتْ فِيهِ الزكاة وثبت له الحول من وَقْتِ الشِّرَاءِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَتَجَرَّدْ عَنِ الْفِعْلِ فَإِنْ قِيلَ: لَوِ اشْتَرَى شَاةً بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَةِ لَمْ تَصِرْ أُضْحِيَةً بِالشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ حَتَّى يَتَعَقَّبَهَا الْقَوْلُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهَا؟ قِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّاةَ يُمْكِنُ أَنْ تَصِيرَ أُضْحِيَةً بَعْدَ الشِّرَاءِ بِأَنْ يَقُولَ هَذِهِ أُضْحِيَةٌ فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ أُضْحِيَةً بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ وَالْعَرَضُ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْقَوْلِ، وَلَا بِالنِّيَّةِ فَلِذَلِكَ صَارَ لِلتِّجَارَةِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ جَعْلَ الشَّاةِ أُضْحِيَةً يزيل الملك والشراء بجلب الْمِلْكَ فَلَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا لِتَنَافِيهِمَا، وَجَعْلُ الْعَرَضِ لِلتِّجَارَةِ غَيْرُ مُزِيلٍ لِلْمِلْكِ فَلَمْ يُنَافِ الشِّرَاءَ فَصَحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ بِالشِّرَاءِ وَالنِّيَّةِ فَالزَّكَاةُ جَارِيَةٌ فِيهِ، فَلَوْ نَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْقِنْيَةِ صَارَ لِلْقِنْيَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَسَقَطَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَصِيرَ لِلْقِنْيَةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَلَا يَصِيرَ لِلتِّجَارَةِ، أَنَّ الْقِنْيَةَ كَفٌّ وَإِمْسَاكٌ، فَإِذَا نَوَاهَا فَقَدْ وُجِدَ الْكَفُّ، وَالْإِمْسَاكُ مَعَهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْدَاثِهِ فَصَارَ لِلْقِنْيَةِ وَالتِّجَارَةُ، فِعْلٌ وَتَصَرُّفٌ بِبَيْعٍ وَشِرَاءٍ، فَإِذَا نَوَاهَا وَتَجَرَّدَتِ النِّيَّةُ عَنْ فِعْلٍ يُقَارِنُهَا لَمْ تَصِرْ لِلتِّجَارَةِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يُوجَدْ وَشَاهِدُ ذَلِكَ السَّفَرُ الَّذِي يتعلق بوجوده، أحكام وزواله أَحْكَامٌ، فَلَوْ نَوَى الْمُقِيمُ السَّفَرَ لَمْ يَصِرْ مُسَافِرًا، لِأَنَّ السَّفَرَ إِحْدَاثُ فِعْلٍ وَالْفِعْلُ لَمْ يُوجَدْ وَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ صَارَ مُقِيمًا لِأَنَّ الْإِقَامَةَ لُبْثٌ وَكَفٌّ عَنْ فِعْلٍ، وَذَلِكَ قَدْ وُجِدَ فَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ عَرَضَانِ لِلتِّجَارَةِ، فنوى قنية أحدهما كان ما لم يبقه قِنْيَتَهُ عَلَى حُكْمِ التِّجَارَةِ تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا نَوَى قِنْيَتَهُ خَارِجٌ عَنْ حُكْمِ التِّجَارَةِ، لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ عرض للتجارة فنوى قنية بعضه، فإن وجد ذلك البعض بإجارة عَنِ الْجُمْلَةِ أَوْ إِشَاعَةٍ مَعْلُومَةٍ، كَانَ مُقْتَنِيًا لما نوى من بعضه متخيراً لما بقي من جملته، وإن لم يجد ذَلِكَ الْبَعْضَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا حُكْمَ للقنية لِلْجَهْلِ بِهَا، وَيَكُونُ جَمِيعُ الْعَرَضِ عَلَى حُكْمِ التجارة.(3/297)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْعَلُ نِصْفُهُ لِلْقِنْيَةِ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي لِلتِّجَارَةِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْبَعْضَيْنِ وَتَعْدِيلًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ.
فَصْلٌ
: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِالنِّيَّةِ، وأن يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى نِيَّتِهِ مِنْ قِنْيَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ فَأَمَّا مَا اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَأَنَّهُ اشْتَرَى عَرَضًا بِعَرَضٍ، وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْتَرِيَ عَرَضًا بعرض عنده وَيُعْطِيَهُ عَرَضًا عِنْدَ بَائِعِهِ لِلْقِنْيَةِ فَيَكُونُ لِلْقِنْيَةِ، وَلَا زَكَاةَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَرَضٍ عِنْدَهُ لِلتِّجَارَةِ عَرَضًا عِنْدَ بَائِعِهِ لِلتِّجَارَةِ فَيَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، وَتَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ، وَإِنَّ فِي إِحْدَاثِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ فِي كُلِّ عَقْدٍ مَشَقَّةً فَكَانَ ظَاهِرَ حَالِهِ استصحاب التجارة، ما لم تعتبر النِّيَّةَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَرَضٍ عِنْدَهُ لِلْقِنْيَةِ عَرَضًا عِنْدَ بَائِعِهِ لِلتِّجَارَةِ، فَيَكُونُ لِلْقِنْيَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ أَصْلِهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَرَضٍ عِنْدَهُ لِلتِّجَارَةِ عَرَضًا عند بائعه للقنية، ففيه وجهان:
أصحهما: أن يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ أَصْلِهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ نِيَّةً تَنْقُلُ عَنْهُ.
والوجه الثاني: أن يَكُونُ لِلْقِنْيَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، اسْتِدَامَةً لِحُكْمِ الْعَرَضِ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ ابْتِيَاعِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فَاسِدٌ بِمَنِ اشْتَرَى بِعَرَضٍ لِلْقِنْيَةِ عَرَضًا عِنْدَ بائعه للتجارة، فإن لَا يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يُسْتَدَامُ حُكْمُهُ قَبْلَ ابْتِيَاعِهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ فَكَذَلِكَ فِي هذا الموضع.
فَصْلٌ
: قَدْ مَضَى حُكْمُ الْعُرُوضِ الْمَمْلُوكَةِ بِالشِّرَاءِ، فَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ بِغَيْرِ شِرَاءٍ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ بِعَرَضٍ كَالصُّلْحِ، وَرُجُوعِ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَرُجُوعِ السِّلْعَةِ عَلَى بَايِعِهَا بِعَيْبٍ، وهذا على ضربين:
أحدهما: ما يبتدي بملكه بِعَقْدٍ، وَهُوَ الصُّلْحُ وَمَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْعُرُوضِ عِوَضًا عَنْ دَيْنِهِ، فَهَذَا كَالَّذِي يَمْلِكُهُ بِالشِّرَاءِ فَيَعْتَبِرُ نِيَّةَ تَمَلُّكِهِ، فَإِنْ نَوَى بِهِ الْقِنْيَةَ كَانَ لِلْقِنْيَةِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ التِّجَارَةَ كَانَ لِلتِّجَارَةِ.
وَالثَّانِي: مَا يَعُودُ إِلَى تَمَلُّكِهِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ رُجُوعُ الْبَائِعِ بِعَيْنِ مَالِهِ عَلَى الْمُفْلِسِ، وَاسْتِرْجَاعُهُ الْمَبِيعَ بِفَسْخٍ أَوْ إِقَالَةٍ فَهَذَا يعتبر حكمه، بعد رجوعه إلى تملكه بحكمه قبل(3/298)
خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ لِلتِّجَارَةِ كَانَ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى مِلْكِهِ لِلتِّجَارَةِ، وَجَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ لِلْقِنْيَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْقِنْيَةِ وَنَوَى بِاسْتِرْجَاعِهِ التِّجَارَةَ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجَارَةِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، كَمَا لَوْ نَوَى التِّجَارَةَ فِيمَا بِيَدِهِ لِلْقِنْيَةِ، لِأَنَّهُ لم يبتدي تَمَلُّكَهُ بِبَيْعٍ وَإِنَّمَا عَادَ إِلَى تَمَلُّكِهِ فَعَادَ إِلَى حُكْمِ أَصِلِهِ، فَهَذَا حُكْمُ مَا مَلَكَ بِعِوَضٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا مَلَكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْغَنِيمَةِ، فَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ نَوَى بِتَمَلُّكِهِ التِّجَارَةَ، لأن العرض إنما يصير لتجارة بِفِعْلِ التِّجَارَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّمْلِيكَاتُ مِنَ التِّجَارَاتِ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ التِّجَارَةِ، وكانت للقنية لا تجزي فِيهَا الزَّكَاةُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَرَضًا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ مَا مَلَكَ بِصَدَاقٍ أَوْ إجارة.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان يملك أقل مما تجب في مثله الزَكَاةُ زَكَّى ثَمَنَ الْعَرْضِ مِنْ يَوْمِ مَلَكَ العرض لأن الزكاة تحولت فيه بعينها ألا ترى أنه لو اشتراه بعشرين ديناراً وكانت قيمته يوم يحول الحول أقل سقطت عنه الزكاة لأنها تحولت فيه وفي ثمنه إذا بيع لا فيما اشتري به ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِنِصَابٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، فَأَوَّلُ حَوْلِهِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَقَدْ دَلَلْنَا عَلَيْهِ، فأما إذا اشترى عرضاً بدون النصاب كأن اشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَوْ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، فَالزَّكَاةُ فِيهِ جَارِيَةٌ وَيَكُونُ أَوَّلُ حَوْلِهِ مِنْ حِينِ اشْتَرَاهُ، لَا مِنْ حِينِ مَلَكَ الثَّمَنَ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ نِصَابًا جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُؤَثِّرُ نُقْصَانُ قِيمَتِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَفِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَوْلِ عَنِ النِّصَابِ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة، وَمِنْ تَابَعَهُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِيهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْقِيمَةِ، وَتَجِبُ فِي الْعَيْنِ فَلَمَّا كَانَ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ، كَذَلِكَ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ كَذَلِكَ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ، لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَالٌ نَاقِصٌ عَنِ النِّصَابِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْتَدَأَ حَوْلُهُ كَالْمَوَاشِي، وَلِأَنَّ رِبْحَ التِّجَارَةِ مِمَّا يَتْبَعُ أَصْلَ الْمَالِ فِي حَوْلِهِ، كَمَا أَنَّ سِخَالَ الْمَوَاشِي تَبَعٌ لِأُمَّهَاتِهَا فِي حَوْلِهَا، فَلَمَّا لَمْ تَدْخُلِ السِّخَالُ فِي حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ نِصَابًا لَمْ يَدْخُلِ الرِّبْحُ فِي(3/299)
حُكْمِ الْأَصْلِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نِصَابًا وَتَحْرِيرُ ذلك، أن يقال: إنه نماء مال فيجري فِيهِ الْحَوْلُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلنِّصَابِ كَالسِّخَالِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَهَذَا مَالٌ حَالَ حَوْلُهُ، فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَالٍ لَمْ يُعْتَبَرْ نِصَابُهُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ نِصَابُهُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ كَالزَّرْعِ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ نصابه في أثنائه، وقيل حصاده لم يعتبر نصابه في بدره، وَعَكْسُهُ الْمَوَاشِي.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ، أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَالٌ لَا يُعْتَبَرُ نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي ابْتِدَائِهِ كَالزَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لا يكون نقصان قيمته قبل الحول منقصاً لِلزَّكَاةِ، كَمَا لَوْ نَقَصَتْ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عينه.
فالمعنى فيه: أن لَمَّا اعْتُبِرَ النِّصَابُ فِي أَثْنَاءِ حَوْلِهِ اعْتُبِرَ فِي ابْتِدَائِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا فِي أَثْنَاءِ حَوْلِ الْعُرُوضِ، لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي ابْتِدَائِهِ، وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى السِّخَالِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ دُونَ النِّصَابِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تعتبر قيمته عند حلول حول الثمن الذي ابتاعه به كأن بلغت نصاباً فأكثر إخراج زَكَاتِهِ مِنْ قِيمَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَتْ فَإِنْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فَإِنْ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ حَتَّى بَلَغَتْ نِصَابًا، كأن كان يسوي عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ مِائَةً وَخَمْسِينَ، ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ شَهْرٍ حَتَّى صَارَتْ تُسَوِّي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، لَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ الثَّانِي لِنَقْصِ قِيمَتِهِ عَنِ النِّصَابِ، وَقْتَ اعْتِبَارِهَا وَهُوَ رَأْسُ الْحَوْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِحَوْلِهِ الْمَاضِي وَكَأَنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى حِينِ الزِّيَادَةِ.
فَصْلٌ
: فَإِنِ اشْتَرَى عَرَضًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَاعَهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْمِائَةِ عَرَضًا ثَانِيًا، اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ وَلَمْ يَبْنِ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَضَّ ثمنه وكان دون النصاب بطل حَوْلِهِ وَمَنِ اعْتَبَرَ مِنْ أَصْحَابِنَا قِيمَةَ الْعَرَضِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، يَقُولُ: قَدْ بَطَلَ حَوْلُ الْعَرَضِ الْأَوَّلِ بِنُقْصَانِ قِيمَتِهِ وَلَا يَسْتَأْنِفُ حَوْلَ الثَّانِي إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا.(3/300)
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِخَمْسِينَ مِنْهَا عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ الْحَوْلُ، وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ وَخَمْسُونَ ضَمَّهَا إِلَى الْخَمْسِينَ وَأَخْرَجَ زَكَاةَ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَرَضِ مَعَ الدَّرَاهِمِ نِصَابٌ كَامِلٌ، وَلَوْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى بِجَمِيعِ الْمِائَةِ عَرَضًا ثُمَّ اسْتَفَادَ بَعْدَ شَهْرٍ مِائَةً أُخْرَى نُظِرَ، فَإِنْ حَالَ حَوْلُ الْعَرَضِ وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ زَكَّاهُمَا، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمِائَةِ الْمُسْتَفَادَةِ زَكَّاهَا أَيْضًا وَإِنْ حَالَ حَوْلُ الْعَرَضِ، وَقِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ لَمْ يُزَكِّهَا حَتَّى يَحُولَ حَوْلُ الْمِائَةِ الْمُسْتَفَادَةِ فَإِنْ حَالَ حَوْلُهَا نُظِرَ فَإِنْ كَانَتِ الْمِائَةُ إِذَا ضَمَّهَا إِلَى قِيمَةِ الْعَرَضِ صَارَتْ نِصَابًا كَامِلًا زَكَّى الْجَمِيعَ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُزَكِّهَا.
فَصْلٌ
: إِذَا اشْتَرَى عَرَضَيْنِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَقِيَ الْآخَرُ، قَوَّمَهُ إِذَا حَالَ حَوْلُهُ فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِلَّا فَلَا شيء عليه، وإن كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَاشْتَرَى بهما عرضين بنى حوليهما عَلَى حَوْلِ الْمِائَتَيْنِ، فَإِنْ تَلِفَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحَوْلِ اعْتُبِرَ حَوْلُ الْبَاقِي مِنْ حِينِ مِلْكِهِ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَبْنِ حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ ثَمَنِهِ لِأَنَّ ثَمَنَهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ.
فَصْلٌ
: إِذَا اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ بَاعَهُ بِدَيْنٍ، فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ.
وَالثَّانِي: بَعْدَ الْحَوْلِ فَإِنْ بَاعَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ زَكَّاهُ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِحَالٍ أَوْ مُؤَجَّلٍ عَلَى مُعْسِرٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ قَدْ وَجَبَتْ فِي قِيمَتِهِ بِحُلُولِ حَوْلِهِ، وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ بِدَيْنٍ حَالٍّ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوسِرٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعْسِرٍ، فَإِنْ كَانَ عَلَى مُوسِرٍ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِحَوْلِ الْعَرَضِ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ فَهَلْ تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا يَبْنِي حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ وَقَبَضَهُ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ بَدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ، فَهَلْ يَكُونُ مَالِكًا لِلدَّيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.(3/301)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ مَالِكًا لَهُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَالْمَالِ الْمَغْصُوبِ، هَلْ تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَبَضَهُ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَجْرِي فِيهِ الزَّكَاةُ فَعَلَى هَذَا يَبْنِي حَوْلَهُ عَلَى حَوْلِ الْعَرَضِ فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ وقبضه أخرج زكاته.
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَمْنَعُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ زَكَاةَ الفطر إذا كانوا مسلمين ألا ترى أن زكاة الفطر على عدد الأحرار الذين ليسوا بمالٍ إنما هي طهور لمن لزمه اسم الْأَيْمَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا مَلَكَ عَبِيدًا لِلتِّجَارَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي قِيمَتِهِمْ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ فِي رَقَبَتِهِمْ إِذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وتسقط زكاة الفطر لأنهما زكاتان، فلم يجب اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَالٍ كَسَائِمَةِ الْمَاشِيَةِ إِذَا اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِي قِيمَتِهَا، وَزَكَاةُ السَّوْمِ فِي رَقَبَتِهَا.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إِلَّا صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ " وَلِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ تَجِبُ فِي الْقِيمَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَزِيدُ بِزِيَادَتِهَا، وَتَنْقُصُ بِنَقْصِهَا، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تَجِبُ عَنِ الرَّقَبَةِ بدليل أنها تجب عن الحرم، والعبد وإذا اختلف سبب وجوبها لَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُهُمَا، كَالصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ بِحَقِّ مِلْكِهِ، وَجَزَاؤُهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِهِ لَا عَنْ رَقَبَتِهِ وَكَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَبْطُلُ ما احتج به من ينافي زَكَاةَ التِّجَارَةِ وَزَكَاةَ الْعَيْنِ، لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ، أَنَّهُمَا حَقَّانِ يَخْتَلِفُ سَبَبُ وُجُوبِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كالصيد المملوك والحدين المختلفين، ولأن لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي مَالِ السَّيِّدِ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ رَقَبَتِهِ، وَزَكَاةُ الْعَيْنِ عَنْ مَالِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ، أَنْ يَجْتَمِعَ فِي مَالِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ رَقَبَةِ عَبْدِهِ وَزَكَاةُ التجارة عن قيمته، ولأن زَكَاةِ الْفِطْرِ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ وَجَبَتْ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ حُصُولِ الخلاف فيها، فلو جاز إسقاط إحديهما بِالْأُخْرَى لَكَانَ إِسْقَاطُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ بِالْفِطْرِ أَوْلَى مِنْ إِسْقَاطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِالتِّجَارَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْعُشْرِ الْوَاجِبِ عَلَى الزَّرْعِ فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا بَطَلَ ذَاكَ والله أعلم.(3/302)
مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اشْتَرَى نَخْلًا أَوْ زَرْعًا لِلتِّجَارَةِ أَوْ ورثها زكاها زكاة النخل والزرع وَلَوْ كَانَ مَكَانَ النَخْلِ غراسٌ لَا زَكَاةَ فِيهَا زَكَّاهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ أَرْضًا أَوْ مَاشِيَةً، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ غَيْرَ سَائِمَةٍ وَالْأَرْضُ غَيْرَ مَزْرُوعَةٍ، وَالنَّخْلُ غَيْرَ مُثْمِرَةٍ فَيُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ مِنْ قِيمَتِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ سَائِمَةً وَالْأَرْضُ مَزْرُوعَةً وَالنَّخْلُ مُثْمِرَةً فَهَذَا على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن تجب فيها زَكَاةُ الْعَيْنِ دُونَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ أَوْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ قِيمَتُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَهَذَا يُزَكِّيهَا زَكَاةَ الْعَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَجِبَ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ دُونَ الْعَيْنِ وذلك بأن يكون أقل من خمسة مِنَ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا مِائَتَانِ وَأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقِ زَرْعٍ وَثَمَرَةٍ قِيمَتُهَا مِائَتَانِ، فَهَذَا يُزَكِّيهَا زَكَاةَ التِّجَارَةِ مِنْ قِيمَتِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا الزَّكَاتَانِ جَمِيعًا زَكَاةُ التِّجَارَةِ بِأَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَزَكَاةُ الْعَيْنِ بِأَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَوْ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجِبَ الزَّكَاتَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ بِدُونِ الْمِائَتَيْنِ فَيَحُولَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا، فَتَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ بِحُلُولِهِ وَزَكَاةُ الْعَيْنِ بِحُلُولِهِ، أَوْ يَمْلِكُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَشْتَرِي بِهَا نَخْلًا فَيُثْمِرُ وَيَبْدُو صَلَاحُهُ، بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَتَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، بِحُلُولِ الْحَوْلِ، وَزَكَاةُ الْعَيْنِ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ فَالْوَاجِبُ فِيهَا إِحْدَى الزكاتين إجماعاً لأن سبب وجوبها وَاحِدٌ لَكِنِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيُّ الزَّكَاتَيْنِ أَثْبَتُ حُكْمًا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ أَثْبَتُ وَحُكْمُهَا أَغْلَبُ فَتَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، دُونَ زَكَاةِ الْعَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ زَكَاةِ الْعَيْنِ، وأخص لِاسْتِيفَائِهَا الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ وَاخْتِصَاصُ زَكَاةِ الْعَيْنِ بِالْفَرْعِ دُونَ الْأَصْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَقْوَى مِنْ زَكَاةِ العين وآكد لوجوبها فِي جَمِيعِ السِّلَعِ وَالْعُرُوضِ وَاخْتِصَاصِ زَكَاةِ الْعَيْنِ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ أَثْبَتُ، وَحُكْمُهَا أَغْلَبُ فَتَجِبُ زَكَاةُ الْعَيْنِ دُونَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ، لمعنيين:(3/303)
أحدهما: أنها أقوى من زكاة التجارة، وأؤكد لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالنَّصِّ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ وَجَبَتْ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ حُصُولِ الْخِلَافِ فِيهَا، فَكَانَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، أَوْلَى مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ فِي الرَّقَبَةِ، وَزَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي الْقِيمَةِ فَإِذَا اجْتَمَعَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ أَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ، كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إِذَا جَنَى فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ إِذَا اسْتَوَتِ الزَّكَاتَانِ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْبِقَ وُجُوبَ إِحْدَى الزَّكَاتَيْنِ، بِأَنْ يَتَعَجَّلَ حَوْلَ التِّجَارَةِ قَبْلَ صَلَاحِ الثَّمَرَةِ، أَوْ يَتَعَجَّلَ صَلَاحَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ حَوْلِ التِّجَارَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أبو حفص بن الْوَكِيلِ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولَانِ: يُزَكِّي أَعْجَلَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا سَبِيلَ إِلَى إسقاط زكاة وجبت في الحال، ويؤكده أن يجب في ثاني الحال.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ: لِتَعَذُّرِ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْغَالِبِ وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يُفَرِّقْ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: إن زكاة البحارة أَوْلَى عَلَى قَوْلِهِ فِي " الْقَدِيمِ " قُوِّمَ الْأَصْلُ وَالثَّمَرَةُ، وَأُخْرِجَ رُبْعُ الْعُشْرِ مِنْ جَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ أَوْلَى أُخْرِجَ عُشْرُ الثَّمَرَةِ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهَا، عَلَى حَسَبِ حَالِهَا، ثُمَّ هَلْ يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ رَقَبَةِ الْأَرْضِ وَأَصْلِ التِّجَارَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَنُوبُ عَنْهَا، وَيُقَوَّمُ لِلتِّجَارَةِ فَيُخْرَجُ رُبْعُ عُشْرِهَا، إِنْ بَلَغَتِ الْقِيمَةُ نِصَابًا، لِأَنَّ زَكَاةَ الْأَعْيَانِ مَأْخُوذَةٌ عَنْهَا لَا عَنْ أُصُولِهَا بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا زَرَعَ فِي أَرْضِ يَهُودِيٍّ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكَ الْأَرْضِ مِمَّنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَنُوبُ عَنِ الْأَصْلِ لأن لا يجتمع زَكَاتَانِ فِي مَالٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الأرض بياض غير مشغول يزرع وَلَا نَخْلٍ، فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ وَجْهًا وَاحِدًا فَلَوْ بَلَغَتِ الثَّمَرَةُ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ إِذَا قُلْنَا: بِوُجُوبِ زَكَاةِ الْعَيْنِ، فَهَلْ يَعْدِلُ إِلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: يُقَوِّمُ الْأَصْلَ وَيُزَكِّي زَكَاةَ التِّجَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ لَا تَنُوبُ عَنِ الْأَصْلِ.
وَالثَّانِي: لَا يُقَوِّمُ الْأَصْلَ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ: إِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ تَنُوبُ عَنِ الْأَصْلِ.(3/304)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " والخلطاء في الذهب والورق في الماشية والحرث على ما وصفت سواءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِ " الزَّكَاةِ " وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، وَأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا، وَفِي الْجَدِيدِ يُجَوِّزُهَا فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الْخُلْطَةُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فِي أَحَدِ مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرِثَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فيكونان خليطين يزكيان زَكَاةَ الْوَاحِدِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، وَيَشْتَرِيَانِ بِهِمَا عَرَضًا فَيَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ فِيهِ يُزَكِّيَانِهِ زَكَاةَ الْوَاحِدِ، فَأَمَّا إِنْ أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَخَلَطَاهَا جَمِيعًا وَتَرَكَاهَا حَتَّى حَالَ حولها، فليست هذه الخلطة تُوجِبُ الزَّكَاةَ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا غَيْرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(3/305)
باب زكاة مال القراض
مسالة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا دفع الرجل ألف درهم قراضاً على النصف فاشترى بها سلعةً وحال الحول عليها وهي تساوي ألفين ففيها قولان أحدهما أنه تزكى كلها لأنها ملك لرب المال أبداً حتى يسلم إليه رأس ماله وكذلك لو كان العامل نصرانياً فإذا سلم له رأس ماله اقتسما الربح وهذا أشبه والله أعلم والقول الثاني أن الزكاة على رب المال في الألف والخمسمائة ووقفت زكاة خمسمائة فإن حال عليها حول من يوم صارت للعامل زكاها إن كان مسلماً فإذا لم يبلغ ربحه إلا مائة درهم زكاها لأنه خليط بها وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ نَصْرَانِيًّا وَالْعَامِلُ مُسْلِمًا فلا ربح لمسلمٍ حتى يسلم إلى النصراني رأس ماله في القول الأول ثم يستقبل بربحه حولاً والقول الثاني يحصي ذلك كله فإن سلم له ربحه أدى زكاته كما يؤدي ما مر عليه من السنين منذ كان له في المال فضلٌ قال المزني: أولى بقوله عندي أن لا يكون على العامل زكاةٌ حتى يحصل رأس المال لأن هذا معناه في القراض لأنه يقول لو كان له شركةٌ في المال ثم نقص قدر الربح كان له في الباقي شركٌ فلا ربح له إلا بعد أداء رأس المال ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقِرَاضُ فَبِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهِيَ الْمُضَارَبَةُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ أَلْفًا قِرَاضًا إِلَى رَجُلٍ عَلَى النِّصْفِ مِنْ رِبْحِهَا فَاشْتَرَى بِالْأَلْفِ سِلْعَةً، وَحَالَ الْحَوْلُ عليها، وقيمتها ألفان ففي زكاتها قولان: بناه على اختلاف قول الشَّافِعِيِّ فِي الْعَامِلِ هَلْ هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ أَوْ أَجِيرٌ لَهُ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ: إِنَّهُ أَجِيرٌ مِنَ الْمَالِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ لَهُ، وَلَا يَكُونُ شَرِيكًا لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَوَجْهُهُ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَامِلَ إنما هو داخل ببدنه لا يملكه فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِأَنَّ شَرِكَةَ الأبدان لا تصح، فثبت أنه أجبر.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرِيكًا لَكَانَ يَلْحَقُهُ مِنَ الْوَضِيعَةِ وَالْعَجْزِ كَمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الرِّبْحِ، وَالْفَضْلِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَجْزِ شَرِيكًا لَمْ يَكُنْ فِي الرِّبْحِ شَرِيكًا.(3/306)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ بِمَا شُرِطَ فِيهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أنه لو كان أجيراً لكان عوضه معلماً ولا يستحقه وَإِنْ كَانَ الرِّبْحُ مَعْدُومًا، فَلَمَّا جَازَتْ جَهَالَةُ عِوَضِهِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الْمَالِ شَيْئًا عِنْدَ عَدَمِ رِبْحِهِ لَمْ يَجُزْ، أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا وثبت كونه شريكاً.
والثاني: هو أن الإجازة لَازِمَةٌ وَالشَّرِكَةَ جَائِزَةٌ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ ثَبَتَ أَنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ غَيْرُ أَجِيرٍ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فالزكاة فرع عليها، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ فَزَكَاةُ الْأَلْفَيْنِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا عَلَى هَذَا القول ملكاً لَهُ، وَمِنْ أَيْنَ يُخْرِجُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ الرِّبْحِ لِأَنَّهَا مُؤْنَةُ الْمَالِ فَشَابَهَتْ سَائِرَ المؤن وهذا أخص بِالْعَامِلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُخْرِجُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ بأصله وَرِبْحِهِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ فِي الْجُمْلَةِ، فَعَلَى هَذَا يُخْرِجُ مِنَ الربح خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَدْ بَطَلَتِ الْمُضَارَبَةُ فِيمَا أخرجه من أصل المال فأما العالم عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْبِضَ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ، فَإِذَا قَبَضَهَا اسْتَأْنَفَ حولها فإذا قُلْنَا: إِنَّ الْعَامِلَ شَرِيكٌ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ أَصْلُ الْمَالِ مِنْهَا أَلْفٌ، والخمسمائة ربح، ومن أين تخرج زَكَاتُهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَأَمَّا الْعَامِلُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَا شَرِيكَ بِهَا، وَفِي ابتداء حولها وجهان:
أحدهما: من حين ظهور الرِّبْحُ لِأَنَّهَا فِي مِلْكِهِ ظَهَرَتْ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ حِينِ الْمُحَاسَبَةِ وَالتَّقْوِيمِ، لِأَنَّهَا بِذَلِكَ مُسْتَقِرَّةٌ، فَإِذَا حَالَ حَوْلُهَا لم يلزم إخراج زكاتها حتى يقبضها بجواز تَلَفِ الْمَالِ، أَوْ تَلَفِ بَعْضِهِ فَيَبْطُلُ الرِّبْحُ فَإِنْ قَبَضَهَا أَخْرَجَ زَكَاتَهَا.
فَصْلٌ
: فَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ نَصْرَانِيًّا وَرَبُّ الْمَالِ مُسْلِمًا، فَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ أَجِيرٌ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ جَمِيعِ الْأَلْفَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ هُوَ شَرِيكٌ فَعَلَى رَبِّ المال زكاة ألف وخمسماية، وَتَسْقُطُ زَكَاةُ خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهَا مِلْكُ النَّصْرَانِيِّ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ نَصْرَانِيًّا وَالْعَامِلُ مُسْلِمًا فَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ أَجِيرٌ فَلَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ مِلْكُ النَّصْرَانِيِّ، وَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ شريك فلا زكاة في ألف وخمسماية لأنها ملك النصراني، وعلى العامل زكاة خمسماية، إِذَا حَالَ حَوْلُهَا فَلَوْ(3/307)
كَانَتْ قِيمَةُ الْعَرَضِ بَعْدَ الْحَوْلِ أَلْفًا وَمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ قِيلَ: الْعَامِلُ أَجِيرٌ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ زَكَاةُ أَلْفٍ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَعَلَى الْعَامِلِ زكاة المائة إن كان مالكاً لتمام النصاب وإن لم يملك سواها، ففي إيجاب زكاتها قولان: من اختلاف قوله في جواز الخلطة في الدراهم والدنانير فعلى القديم لا زكاة عليه فيها، وعلى الجديد عليه زكاتها إلا أن يكون رب المال نصرانياً، فلا زكاة عليه قولاً واحداً لأنه خليط النصراني.(3/308)
بَابُ الدَّيْنِ مَعَ الصَّدَقَةِ وَزَكَاةُ اللُّقَطَةِ وَكِرَاءُ الدور والغنيمة
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ السُّلْطَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ حَتَى حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا ثُمَّ قَضَى غُرَمَاءُهُ بَقِيَّتَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نَقْدًا، وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا دَيْنًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمْلِكَ عَرَضًا أَوْ عَقَارًا بِقِيمَةِ الْمِائَتَيْنِ الدَّيْنِ فَهَذَا عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمِائَتَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ لَا يَخْتَلِفُ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَمْلِكَ سِوَى الْمِائَتَيْنِ الَّتِي بِيَدِهِ، وَقَدْ حَالَ حَوْلُهَا وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مُؤَجَّلًا، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بِيَدِهِ، لَا يَخْتَلِفُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ حَالًّا، فَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ مَا بِيَدِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ من الْجَدِيدِ أَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ يَمْنَعُ وُجُوبَ زَكَاتِهَا، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ دُونَ مَا سِوَاهُمَا، وَقَوْلُ أبي حنيفة فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَوَاشِي دُونَ مَا عداهما.
والقول الثاني: نص عليه في الجديد إن الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ زَكَاتِهَا وَإِنَّ الزَّكَاةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ.
وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ، وَبِهِ تَقَعُ الْفَتْوَى.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا في فقرائكم " ومنه دليلان:(3/309)
أحدهما: أن من استوعب دينه ما بيده فَلَيْسَ بِغَنِيٍّ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ النَّاسَ صِنْفَيْنِ صِنْفًا يُؤْخَذُ مِنْهُ وَصِنْفًا تُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهَذَا مِمَّنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال في الحرم خَطِيبًا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هذا أشهر زَكَاتِكُمُ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَقْضِهِ ثُمَّ يزكي بقية ماله ".
وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنْهَا كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ مَالٌ يُمْلَكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مانعاً سنة كالميراث لا يستحق ثبوت الدين فيه وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَسْتَحِقُّ إِزَالَةُ يَدِهِ عَنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَالِ الْمُكَاتَبِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لِأَجْلِ الْمَالِ الَّذِي بِيَدِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَلَوْ وَجَبَتْ فِي الدَّيْنِ زَكَاةٌ وَفِي الْمَالِ زَكَاةٌ، لَوَجَبَتْ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، كَزَكَاةِ التِّجَارَةِ وَالسَّوْمِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الثَّانِي عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهمْ صَدَقَةُ تُطَهِّرَهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا) {التوبة: 103) وَمَا بِيَدِهِ مَالُهُ يَجُوزُ فِيهِ تَصَرُّفُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَرَوَى عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ مَعَكَ مَائِتَا دِرْهَمٍ فَعَلَيْكَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَفِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ " وَهُوَ مَالِكٌ لِمَا بِيَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ، وَلِأَنَّ رَهْنَ الْمَالِ فِي الدَّيْنِ أَقْوَى واستحقاقه بِالدَّيْنِ لِأَنَّ الرَّهْنَ فِي الرَّقَبَةِ، وَالدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الرَّهْنُ فِي الدَّيْنِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ كَانَ أَوْلَى، أَنْ لَا يَكُونَ مُجَرَّدُ الدَّيْنِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالزَّكَاةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً فِي الْعَيْنِ، أَوْ فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ مَا فِي الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْهَا، كَالْعَبْدِ إِذَا جَنَى وَفِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِثَمَنِهِ لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْأَرْشُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ مَا ثَبَتَ مِنَ الدَّيْنِ أَوَّلًا فِي الذِّمَّةِ مَانِعًا مِنْهَا، كَالدَّيْنِ إِذَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لِزَيْدٍ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ دَيْنٍ آخَرَ فِي الذِّمَّةِ لِعَمْرٍو وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ، يَتَحَرَّرُ مِنِ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِمَالٍ يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ الدَّيْنُ مِنْ ثُبُوتِهِ كَالْجِنَايَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقُّ مَالٍ مَحْضٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ ثُبُوتِ الْمَالِ بِمُجَرَّدِهِ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِهِ كَالدَّيْنِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ على مالك وأبي حنيفة أن يقول: لِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ يُصْرَفُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فجاز، أن يجب على ما اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ مَالَهُ، كَالْعُشْرِ فِي الثَّمَرَةِ وَالزَّرْعِ، وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَمَّا الْخَبَرُ فَلَا حُجَّةَ فيه، لأن أول دليله يَنْفِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِمَّنْ لَيْسَ بِغَنِيٍّ، وَثَانِي دَلِيلِهِ مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُودِ قِسْمٍ ثَالِثٍ، يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهُوَ بَنُو السَّبِيلِ،(3/310)
تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الصَّدَقَةُ عَنْ أَمْوَالِهِمُ الْغَائِبَةِ، وَتُدْفَعُ إِلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ فِي أَسْفَارِهِمْ لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بِالدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الدَّيْنِ عَلَى الزَّكَاةِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَجِّ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالزَّكَاةَ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ والمجنون، وإن لم يجب الحج عليها، وَوُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْفَقِيرِ، إِذَا كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ، وَإِنْ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فِي الْوُجُوبِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمِيرَاثِ، فَلَيْسَ الدَّيْنُ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ حَاصِلٌ وَقَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ لَوْ قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ لَاسْتَحَقَّ مِيرَاثَ مَيِّتِهِ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُكَاتَبِ، فَلَيْسَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ إِزَالَةَ يَدِهِ عَنْ مَالِهِ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ تَامِّ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ كَانَ مَعَهُ قَدْرُ دَيْنِهِ فَأَكْثَرَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ إِزَالَةَ يَدِهِ عَنْهُ ثُمَّ مَعَ هَذَا لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِيجَابِ زَكَاتَيْنِ فِي مَالٍ فَدَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ بَلْ هُمَا مَالَانِ لِرَجُلَيْنِ فَزَكَاةُ هَذَا الْمَالِ فِي عَيْنِهِ، وَزَكَاةُ الدين على مالكه والعين غير الدين.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَثَبَتَ أَنَّ أَصَحَّهُمَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ دَنَانِيرَ أَوْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ قَدْرُ قِيمَتِهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْعُشْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَنَا زَكَاةٌ وَإِنَّمَا فَرَّقَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ ثَمَرَةٍ أَوْ زَرْعٍ وَكَانَ عَلَيْهِ مِثْلُهَا دَيْنًا، أَوْ مِثْلُ قِيمَتِهَا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ كَانَتِ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نَقْدًا وَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ دَيْنًا فَزَكَاتُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا، إِنْ ثَبَتَ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الدَّيْنِ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْنَعُ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مِائَتَيْنِ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا وَعَلَيْهِ مِائَتَا درهم ديناً فعلى هذين القولين أحدها: تَجِبُ زَكَاةُ الْمِائَتَيْنِ لَا غَيْرَ.
وَالثَّانِي: زَكَاةُ الْأَرْبَعِمِائَةِ إِذَا قُلْنَا الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ نقداً، فقال قبل الحول إن شفا الله مريضي فالله عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَهَذَا أَوْلَى وَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:(3/311)
أَحَدُهُمَا: يَمْنَعُ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
والثاني: لا يمنع وعليه زكاة لِأَنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ أَوْكَدُ مِنَ النَّذْرِ، لِأَنَّ النَّذْرَ هُوَ عَلَى أَدَائِهِ أَمِينٌ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ لَهُ مَنْ يُطَالِبُ بِهِ، وَيَسْتَوْفِيهِ وَلَوْ قَالَ ومعه مائتا درهم: إن شفا اللَّهُ مَرِيضِي تَصَدَّقْتُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْهَا، وَأَشَارَ إِلَيْهَا وَعَيَّنَ النَّذْرَ فِيهَا، فَشَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَجَوَابُهَا عَكْسُ ذَلِكَ الْجَوَابِ إِنْ قُلْنَا إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَهَذَا أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ لَا يَمْنَعُ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَمْنَعُ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمْنَعُ، لِأَنَّ هَذَا قَدِ اسْتَحَقَّ بِهِ عَيْنَ الْمَالِ فَمَنَعَ الزَّكَاةَ، وَدَيْنُ الْآدَمِيِّ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ عَيْنَ الْمَالِ فَلَمْ يمنع الزكاة، والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ قَضَى عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَجَعَلَ لَهُ مَالَهُ حَيْثُ وَجَدُوهُ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْغُرَمَاءُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ لِأَنَّهُ صَارَ لَهُمْ دُونَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ وهكذا في الزرع والثمر والماشية التي صدقتها منها كالمرتهن للشيء فيكون للمرتهن ماله فيه وللغرماء فضله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ مِثْلُ مَا بِيَدِهِ، فَقَدِمَ إِلَى الْقَاضِي فَحَكَمَ عَلَيْهِ بِهِ، فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِأَدَائِهِ لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَلَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى مَالِهِ، فَهَذَا الْحُكْمُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الزَّكَاةِ وَيَكُونُ كَثُبُوتِهِ بِإِقْرَارِهِ، وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَيَجْعَلَ لِغُرَمَائِهِ أَخْذَ مَالِهِ حيث وجدوه بتمليك منه كأن قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، قَدْ جَعَلْتُ لَكَ بِدَيْنِكَ الْعَبْدَ الْفُلَانِيَّ، أَوِ الثَّوْبَ الْفُلَانِيَّ، الَّذِي قد عرفته، وبعتك هو بِمَالِكَ عَلِيَّ فَقَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَصَارَ مِلْكًا لَهُمْ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ عَمَّا بِيَدِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَحْكُمَ بِالدَّيْنِ وَيَحْجُرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغُرَمَائِهِ فَإِنْ قُلْنَا: الدَّيْنُ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يَمْنَعُ فَهَلْ عَلَيْهِ الزكاة ها هنا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي زَكَاةِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّ الْحَجْرَ مَانِعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ كَالْغَصْبِ، فَإِنْ قِيلَ: الصَّبِيُّ قَدْ حُجِرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَجْرُ مَانِعًا(3/312)
مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ فَهَلَّا كَانَ الْحَجْرُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ؟ قُلْنَا: حَجْرُ الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ وَاقِعٌ لِأَجْلِهِمَا، وَلِحِفْظِ أَمْوَالِهِمَا عَلَيْهِمَا، وَحَجْرُ هَذَا الْمُفْلِسِ لِأَجْلِ غُرَمَائِهِ، وَلِحِفْظِ مَالِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ هَذَا الْحَجْرُ مُوَهِّيًا لِمِلْكِهِ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ قَدَّمَهُ غُرَمَاؤُهُ إِلَى الْقَاضِي فَجَحَدَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ فَحَلَفَ لَهُمْ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أن حجوده غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَيَمِينَهُ الْكَاذِبَةَ غَيْرُ مُبَرِّئَةٍ لِبَقَاءِ الْحَقِّ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَكُونُ زَكَاةُ مَا بِيَدِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جُحُودَهُ مع يمينه فقد أَسْقَطَ عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّيْنُ فَصَارَ فِي حُكْمِ مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ لِسُقُوطِ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ، فَتَكُونُ زَكَاةُ مَا بِيَدِهِ وَاجِبَةً قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مالٍ رُهِنَ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ أُخْرِجَ منه الزكاة قبل الدين (وقال المزني) وقد قال في كتاب اختلاف ابن أبي ليلى إِذَا كَانَتْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا فلا زكاة عليه والأول من قوليه مشهور ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي رَهْنِ الْمَاشِيَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ كَذَا رَهْنُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِقِيمَةِ الرَّهْنِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَزَكَاتُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ إِذَا قُلْنَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَهَلْ يُقَدِّمُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ أَوِ الدَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ مَضَتْ، أَحَدُهَا تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ وَالثَّانِي الدَّيْنُ، وَالثَّالِثُ هُمَا سَوَاءٌ فَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِسَابِ المال وقسطه والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ، فَعَلَيْهِ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ كَالْوَدِيعَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُرَتَّبَةً، وَسَنَذْكُرُهَا الْآنَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ لِيَكُونَ التَّكْرَارُ مُفِيدًا.
اعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَهُ دَيْنٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حالا، أو مُؤَجَّلًا فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وفي زكاته قولان كالمال المغصوب.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وَلَا زَكَاةَ فيه حتى(3/313)
يَقْبِضُهُ، وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُعْسِرٍ فَلَا تَلْزَمُهُ زَكَاتُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ فَإِذَا قَبَضَهُ فَهَلْ يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى، أَوْ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى مُوسِرٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَاحِدًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَبَعْدَ قَبْضِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالدَّيْنِ عَلَى مُعْسِرٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْتَرِفًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُمَاطِلًا مُدَافِعًا فَلَا زَكَاةَ فِيمَا عَلَيْهِ، كَالْمَالِ الْغَائِبِ فَإِذَا قَدَّمَ فَزَكَاةُ مَا عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لِمَا مَضَى قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَبْضِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، فَزَكَاةُ مَا عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ، لِأَنَّ هذا ك " الوديعة " بل أحسن حالاً منها لأنه في السنة.
فصل
: فأما ما ذِمَّةِ الْعَبْدِ مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ أَوِ الْخَرَاجِ الْمَضْرُوبِ عَلَى رَقَبَتِهِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَى سَيِّدِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَأْنِفَ حَوْلَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ لَازِمٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو جحد ماله أو غصبه أَوْ غَرِقَ فَأَقَامَ زَمَانًا ثُمَّ قَدِرَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا واحدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ أن لا يكون عليه زكاةٌ حتى يحول عليه الحول من يوم قبضه لأنه مغلوب عليه أو يكون عليه الزكاة لأن ملكه لم يزل عنه لما مضى من السنين فإن قبض من ذلك ما في مثله الزكاة زكاه لما مضى وإن لم يكن في مثله زكاةٌ فكان له مالٌ ضمنه إليه وإلا حبسه فإذا قبض ما إذا جمع إليه ثبت فيه الزكاة زكى لما مضى ".
قال الماوردي: قد ذكرنا ضم الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، وَالْمَجْحُودِ وَأَنَّ زَكَاتَهُ قَبْلَ عَوْدِهِ لَا تَجِبُ، وَبَعْدَ عَوْدِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُزَكِّيهِ لِمَا مَضَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ، وقد ذكرنا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ، وَاخْتِلَافَ حَالِ السَّوْمِ فِي الْمَاشِيَةِ، وَلَيْسَتْ بِنَا إِلَى إِعَادَتِهِ حَاجَةٌ وَلَا إِلَى الْإِطَالَةِ بِهِ فَاقَةٌ، فَلَوْ دَفَنَ مَالَهُ فَخَفِيَ عَنْهُ مَكَانَهُ أَحْوَالًا ثُمَّ وَجَدَهُ، فَزَكَاتُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالتَّائِهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَوْجَبَ زَكَاتَهُ قَوْلًا وَاحِدًا، قَالَ: لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى التَّفْرِيطِ فِي غَفْلَتِهِ وَقِلَّةِ تَحَرُّزِهِ، وَوَجَدْتُ أَبَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَائِلًا إِلَيْهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ هَلْ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وِجْدَانِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:(3/314)
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وِجْدَانِهِ وَظُهُورِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ كَالْغَائِبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَغْصُوبِ وَالتَّائِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، وَبَعْدَ ظُهُورِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَوْ كَانَ خَفَاءُ الْمَكَانِ الْمَنْسُوبِ، إِلَى تَفْرِيطِهِ مُوجِبًا لِزَكَاتِهِ لَكَانَ الْمَالُ وَضَيَاعُهُ مُوجِبًا لِزَكَاتِهِ، لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى تَفْرِيطِهِ، فَلَمَّا كَانَ زَكَاةُ التَّائِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُفَرِّطًا فَكَذَلِكَ زَكَاةُ مَا نَسِيَ مَكَانَهُ مِنَ الْمَدْفُونِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُفَرِّطًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا عَرَّفَ لُقَطَةً سَنَةً ثُمَّ حَالَ عَلَيْهَا أَحْوَالٌ وَلَمْ يُزَكِّهَا ثُمَّ جَاءَهُ صَاحِبُهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَى الَّذِي وَجَدَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالِكًا قَطُّ حَتَّى جَاءَ صَاحِبُهَا وَالْقَوْلُ فِيهَا كما وصفت في أن عليه الزكاة لما مضى لأنها ماله أو في سقوط الزكاة عنه في مقامها في يد الملتقط بعد السنة لأنه أبيح له أكلها (قال المزني) أشبه الأمر بقوله عندي أن يكون عليه الزكاة لقوله إن ملكه لم يزل عنه وقد قال في باب صدقات الغنم ولو ضلت غنمه أَوْ غَصَبَهَا أَحْوَالًا ثُمَّ وَجَدَهَا زَكَّاهَا لِأَحْوَالِهَا فقضى ما لم يختلف من قوله في هذا لأحد قوليه في أن عليه الزكاة كما قطع في ضوال الغنم وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ لُقَطَةً تَبْلُغُ نِصَابًا مُزَكًّى كَعِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فَعَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهَا فِيهِ فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْقَى صَاحِبَهَا فَيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، فَهَلْ تَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا زَكَاتُهَا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى زَكَاةِ الْمَالِ الضَّالِّ.
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ.
وَالثَّانِي: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ، وَوَهَاءِ يَدِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَعْرِفَ لَهَا صَاحِبًا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَارَ الْوَاجِدُ تَرْكَهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِصَاحِبِهَا، وَلَا يَخْتَارَ تَمَلُّكَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَلَا فِيمَا يَأْتِي مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ فَإِنْ وُجِدَ صَاحِبُهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، فَزَكَاةُ السَّنَةِ الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا، فَأَمَّا زَكَاةُ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا، فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا أَوْلَى أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ عَلَيْهِ زَكَاةُ السَّنَةِ الْأُولَى، فَفِي الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ زَكَاتُهَا كالأولى.(3/315)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّنَةِ الأولى، لأن فِي الْأُولَى لَا يَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَجُوزُ أَنْ تُمَلَّكَ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِلْكُهُ أَوْهَى مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَخْتَارَ الْوَاجِدُ تَمَلُّكَهَا فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْوَاجِدُ قَدْ عَرَّفَهَا فِي الْحَوْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، وَلَا تَصِيرُ لَهُ مِلْكًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ غَاصِبًا، وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ وَالْكَلَامُ فِي صَاحِبِهَا إِذَا رُدَّتْ إِلَيْهِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ قَدْ عَرَّفَهَا فِي الْحَوْلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا، وَبِمَاذَا تَصِيرُ مِلْكًا لَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِاخْتِيَارِ التَّمَلُّكِ، فَإِذَا اخْتَارَ تَمَلُّكَهَا فَقَدْ مَلَكَهَا سَوَاءٌ انْتَقَلَتِ الْعَيْنُ بِتَصَرُّفِهِ أَمْ لَا، فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ فِي الْوَاجِدِ الْمُتَمَلِّكِ فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مِنَ الْعُرُوضِ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا، فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ مِنَ الْعُرُوضِ بِغَيْرِ قِيمَتِهَا سِوَاهَا، فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وعليه مثلها وأما صاحبها، والحكم فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ سَوَاءٌ، كَانَتْ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا. فَأَمَّا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَمَا يَلِيهَا، فَقَدْ مُلِّكَتِ اللُّقَطَةُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَصَارَتْ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّةِ وَاجِدِهَا فَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ مَاشِيَةً لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ عَيْنِهَا لِأَنَّهَا قَدْ مُلِّكَتْ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا، وَتَنْتَقِلُ زَكَاةُ الْعَيْنِ إِلَى الْقِيمَةِ فإن كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَزَكَاةُ الْعَيْنِ بَاقِيَةٌ، لِأَنَّهَا قَدْ مُلِّكَتْ عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْوَاجِدِ الْمُتَمَلِّكِ لَهَا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا بِهَا مَلِيًّا فَزَكَاةُ قِيمَةِ الْمَاشِيَةِ، وَعَيْنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ متعسراً فَزَكَاةُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: لَا زَكَاةَ أَصْلًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الزَّكَاةُ عَلَى مَا مَضَى وَاجِبَةٌ من الْقَوْلَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ الْوَاجِدَ الْمُلْتَقِطَ لَا يَصِيرُ مَالِكًا لِلُقَطَةٍ، إِلَّا بِنَقْلِ عَيْنِهَا فَعَلَى هَذَا مَا لَمْ يَنْقُلْ عَيْنَهَا فَالْحُكْمُ فِي زَكَاتِهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَمْلِكْهَا عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ نَقَلَ عَيْنَهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا، لِأَنَّ عَيْنَ اللُّقَطَةِ لَمْ يَمْلِكْهَا، ثُمَّ يَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ بَدَلِهَا كَالْحُكْمِ فِيمَا مَلَكَهُ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ إِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ جَرَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يَكُونَ لِلْقِنْيَةِ، لَمْ تَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ، فَأَمَّا صَاحِبُهَا فَالْحُكْمُ فِي زَكَاتِهِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يَخْتَلِفُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ أَنَّ الْوَاجِدَ يكون مالكاً لها يمضي الحول، وإن لم يجز التَّمَلُّكَ إِلَّا أَنْ(3/316)
يَخْتَارَ، أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّهَا، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ مُسْتَوْفًى إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَصْلٌ
: فَإِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ مِنْ جِنْسِ مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ كَثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ فَعَرَّفَهَا الْوَاجِدُ الْمُلْتَقِطُ حَوْلًا فَإِنْ ظَفِرَ بِصَاحِبِهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ وَلَا عرفها فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَضَعَهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةً، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ لَا عَلَى وَاجِدِهَا، وَلَا عَلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّ الزَّكَاةَ غَيْرُ جارية فيها.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إِمَّا بِاخْتِيَارِ تَمَلُّكِهَا أَوْ بِنَقْلِ عَيْنِهَا، فَقَدِ انْتَقَلَ حَقُّ مَالِكِهَا مِنْ عَيْنِهَا إِلَى بَدَلِهَا، وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَا مِثْلٍ كَالْمُتَمَاثِلِ الْأَجْزَاءِ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عَلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ غَيْرُ مُزَكَّاةٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فَلِمَالِكِهِ قِيمَتُهُ، وَالْقِيمَةُ مما فيها الزَّكَاةُ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ، أَوْ دَنَانِيرُ، لَكِنْ لَا زَكَاةَ عَلَى الْوَاجِدِ فِيهَا بِحَالٍ، لِأَنَّهَا قَبْلَ نَقْلِ عَيْنِهَا غَيْرُ مُزَكَّاةٍ، وَبَعْدَ نَقْلِ عَيْنِهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فَأَمَّا مَالِكُهَا، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا بِحَالٍ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ مَعَهَا تَمَامُ النِّصَابِ، وَإِنْ كَانَتْ نِصَابًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْوَاجِدُ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يُمَلِّكَهَا فَيَكُونُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَضَى مِنِ اعْتِبَارِ يَسَارِ الْوَاجِدِ وَإِعْسَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ لَمْ يَخْتَرْ نَقْلَ مَالِهِ إِلَى مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلِمَ أَوْجَبْتُمُوهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، قِيلَ مَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ قَصْدُ الْمَالِكِ وَاخْتِيَارُهُ، أَلَا تَرَى لَوْ كَانَ لَهُ حِنْطَةٌ بَذَرَتْهَا الريح في أرضه فثبتت، خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَزِمَهُ عُشْرُهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بذرها ولم يختر زرعها.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أَكْرَى دَارًا أَرْبَعَ سِنِينَ بِمَائةِ دِينَارٍ فَالْكِرَاءُ حَالٌّ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَجَلًا فَإِذَا حَالَ الْحُوَلُ زَكَّى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا وَفِي الْحَوْلِ الثَّانِي خَمْسِينَ لِسَنَتَيْنِ إِلَّا قَدْرَ زَكَاةِ الْخَمْسَةِ والعشرين ديناراً وَفِي الْحَوْلِ الثَّالِثِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِينَارًا لِثَلَاثِ سِنِينَ إِلَّا قَدْرَ زَكَاةِ السَّنَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَفِي الحول الرابع زكى مِائَةً لِأَرْبَعِ سِنِينَ إِلَّا قَدْرَ زَكَاةِ مَا مضى ولو قبض المكري المال ثم انهدمت الدار انفسخ الكراء ولم يكن عليه زكاة إلا فيما سلم له ولا يشبه صداق المرأة لأنها ملكته على الكمال فإن طلق انتقض النصف والإجارة لا يملك منها شيءٌ إلا بسلامةٍ منفعة المستأجر مدةً يكون لها حصةٌ من الإجارة (قال(3/317)
المزني) هذا خلاف أصله في كتاب الإجارات لأنه يجعلها حالةً يملكها المكري إذا سلم ما أكرى كثمن السلعة إلا أن يشترط أجلاً وقوله هاهنا أشبه عندي بأقاويل العلماء في الملك لا على ما عبر في الزكاة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ آجَرَ دَارًا أَرْبَعَ سِنِينَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الأجرة من ثلاثة أحوال:
إما أن يشترط تعجيلها، فتكون معجلة إجماعاً.
وإما أن يشترط تَأْجِيلَهَا فَتَكُونَ مُؤَجَّلَةً إِجْمَاعًا.
وَإِمَّا أَنْ يُطْلِقَا وَلَا يَشْتَرِطَا تَعْجِيلًا وَلَا تَأْجِيلًا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ تَكُونُ مُعَجَّلَةً بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ، كَمَا لَوْ شَرَطَا أَنْ تَكُونَ مُعَجَّلَةً فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَخَالَفَهُ مَالِكٌ وأبو حنيفة، وَلِلْكَلَامِ مَعَهُمَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، وَإِذَا كَانَتْ مُعَجَّلَةً بِالشَّرْطِ أَوْ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ، فَقَدْ مَلَكَ جَمِيعَهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَاسْتَحَقَّ قبضها بتسليم الدار المؤجرة هذا، مما لم يَخْتَلِفْ فِيهِ قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ هَلْ ملكها بالعقد ملكاً مستقراً مبرماً أَوْ مَلَكَهَا مِلْكًا مَوْقُوفًا مُرَاعًى فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيُّ وَغَيْرِهِ قَدْ مَلَكَهَا بالعقد ملكاً مستقراً مبرماً كَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَصَدَاقِ الزَّوْجَاتِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ أَمَةً كَانَ لَهُ وَطْؤُهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ملكه مستقر عليها، وليس فيما يطرأ ن حُدُوثِ فَسْخٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ اسْتِرْجَاعَ الْأُجْرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، كَالزَّوْجَةِ الَّتِي قَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهَا عَلَى جَمِيعِ صَدَاقِهَا بِالْعَقْدِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ اسْتِرْجَاعُ نِصْفِهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدخول.
والقول الثاني: وهو أظهر فيما نصف عَلَيْهِ فِي " الْأُمِّ " وَفِي غَيْرِهِ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ مِلْكًا مَوْقُوفًا مُرَاعًى، فَإِذَا مَضَى زَمَانٌ مِنَ الْمُدَّةِ كَانَ اسْتِقْرَارُ مِلْكِهِ عَلَى مَا قَابَلَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُرَاعَاةً وَلَمْ تَكُنْ مُسْتَقِرَّةً لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ وملك المستأجر على المنفعة غير مستقر لأنها لَوْ فَاتَتْ بِهَدْمٍ رَجَعَ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهَا مِنَ الْأُجْرَةِ، وَلَوِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا لَمْ يَرْجِعْ عِنْدَ فَوَاتِهَا بِمَا قَابَلَهَا كَالْمُشْتَرِي، إِذَا استقر ملكه على السلعة يقبضها لَمْ يَرْجِعْ بِالثَّمَنِ عِنْدَ تَلَفِهَا وَإِذَا كَانَ مِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الْمُؤْجِرِ لِلْأُجْرَةِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، وَلَا تُشْبِهُ الْأُجْرَةُ صَدَاقَ الزَّوْجَةِ لِافْتِرَاقِهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ مِلْكَ الزَّوْجَةَ عَلَى الصَّدَاقِ مُسْتَقِرٌّ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَتِ الزَّوْجَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، لَمْ يَرْجِعِ الزَّوْجُ بِشَيْءٍ مِنْ صَدَاقِهَا، وَلَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ قبل مضي مُدَّتِهَا، رَجَعَ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَا فِي مُقَابَلَتِهَا.(3/318)
وَالثَّانِي: أَنَّ رُجُوعَ الزَّوْجِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْدَاثُ مِلْكٍ تجرد بِالطَّلَاقِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الزَّوْجَةِ عَلَى الصَّدَاقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَرُجُوعِ المستأجر بالأجرة عند انهدام الدار قبل أن تقضي المدة بالعقد المتقدم لكان ذَلِكَ مَانِعًا مِنِ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمُؤْجِرِ عَلَى الأجرة قبل أن تَقَضِّي الْمُدَّةِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْأُجْرَةِ فَزَكَاةُ الْأُجْرَةِ مَبْنِيَّةٌ عليهما، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا فِي الْحَوْلِ الأول وما يَلِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ بَاقِيَةً بِيَدِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَيْهَا مُعْتَبَرٌ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَعَلَيْهِ فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الْأَوَّلُ بَنَيْنَا اسْتِقْرَارُ مِلْكِهِ عَلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الْأُجْرَةِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا زَكَاةَ حَوْلٍ نِصْفَ دِينَارٍ وَثُمُنَ دِينَارٍ، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الثَّانِي بَنَيْنَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى خَمْسِينَ دِينَارًا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، قَدْ زَكَّى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مِنْهَا لِسَنَةٍ فَيُزَكِّيهَا السَّنَةَ الثَّانِيَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا خَرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى، وَيُزَكِّي الْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ الْأُخْرَى لِسَنَتَيْنِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارًا وَرُبْعًا، فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الثَّالِثُ بَنَيْنَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قد زكى خمسين ديناراً فيها لسنتين فيزكيها للسنة الثَّالِثَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَتَيْنِ، وَيُزَكِّي الْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ دِينَارًا فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِثَلَاثِ سِنِينَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارًا وَنِصْفًا وَرُبْعًا وَثُمْنًا فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الرَّابِعُ بَنِينَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى الْمِائَةِ دِينَارٍ مُنْذُ أربع سِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ زَكَّى خَمْسِينَ دِينَارًا فيها لسنتين فيزكيها للسنة الثَّالِثَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَتَيْنِ، وَيُزَكِّي الْخَمْسَةَ وَالْعِشْرِينَ دِينَارًا، فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِثَلَاثِ سِنِينَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارًا وَنِصْفًا وَرُبْعًا وَثُمْنًا فَإِذَا مَضَى الْحَوْلُ الرَّابِعُ بَنِينَا اسْتِقْرَارَ مِلْكِهِ عَلَى الْمِائَةِ دِينَارٍ مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ زَكَّى خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِينَارًا مِنْهَا لِثَلَاثِ سِنِينَ، فَيُزَكِّيهَا السَّنَةَ الرَّابِعَةَ إِلَّا قَدْرَ مَا أَخْرَجَ مِنْهَا فِي الزكاة السنين الثلاث ويزكي الخمسة والعسرين دِينَارًا الرَّابِعَةَ لِأَرْبَعِ سِنِينَ فَيُخْرِجُ مِنْهَا دِينَارَيْنِ ونصفاً، وفي حساب زكاتها دوراً ضربت عَنْ ذِكْرِهِ خَوْفًا مِنَ الْإِطَالَةِ، وَقَصَدْتُ أَوْضَحَ طُرُقِ الْمَسْأَلَةِ لِيَكُونَ مَأْخَذُهَا أَسْهَلَ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْإِعَانَةِ.
فَصْلٌ
: فَلَوِ انْهَدَمَتِ الدَّارُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ وَرَدَّ مِنَ الأجرة ما قابله، وَصَحَّتِ الْإِجَارَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فِيمَا مَضَى، وَاسْتَقَرَّ مِلْكُهُ مِنَ الْأُجْرَةِ عَلَى مَا قَابَلَهُ وَالْحَكَمُ فِي الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَضَى، فَلَوْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ زَكَاةَ جَمِيعِ الْأُجْرَةِ، لَمْ يَرْجِعْ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنَ 6 الزَّكَاةِ عِنْدَ اسْتِرْجَاعِ مَا قَبَضَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَقَبَضَ الْأُجْرَةَ وَلَمْ يُسَلِّمِ الدَّارَ حَوْلًا بَعْدَ حَوْلٍ حَتَّى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ فَالْإِجَارَةُ قَدْ بَطَلَتْ وَعَلَيْهِ رَدُّ الْأُجْرَةِ، فَأَمَّا وُجُوبُ زَكَاتِهَا عَلَيْهِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ مِلْكَهُ(3/319)
غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلَيْهَا إِلَّا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كُلَّمَا مَضَى مِنْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، شَيْءٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَمَّا قَابَلَهُ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَمَنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنِ الشَّيْءِ لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَى الْأُجْرَةِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ قبل مضي المدة، فعله يَتَفَرَّعُ الْجَوَابُ بِعَكْسِ مَا تَقَدَّمَ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الْأُولَى قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَقَدْ كَانَ مِلْكُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا فَيُزَكِّي الْبَاقِيَ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا لِسَنَةٍ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ خَمْسِينَ دِينَارًا فَيُزَكِّي الْبَاقِيَ لِسَنَةٍ وَهُوَ خَمْسُونَ دِينَارًا إِلَّا قَدْرَ مَا خَرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الثَّالِثَةُ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا فَيُزَكِّي الْبَاقِيَ، وهو خمسة وسبعون دِينَارًا إِلَّا قَدْرَ مَا خَرَجَ مِنْهَا فِي زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ الرَّابِعَةُ، فَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ عَنِ الْمِائَةِ كُلِّهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَخْرَجَ مِنْ زَكَاتِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَزِمَهُ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
فَصْلٌ
: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى تَعْلِيلِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْإِجَارَةِ مَسْأَلَتَانِ فِي الْبُيُوعِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَبِيعَ رَجُلٌ سِلْعَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ وَيَقْبِضَ ثَمَنَهَا، وَلَا يُسَلِّمَ السِّلْعَةَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي بِيَدِهِ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ إخراج زكاته قبل تسليم السلعة التي من مقابله عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ لِلتِّجَارَةِ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهَا قَبْلَ قَبْضِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ إِنْ قِيلَ إِنَّ مِلْكَ الأجرة مستقر، وإن طرأ الْفَسْخُ فَمِلْكُ الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةِ مُسْتَقِرٌّ، وَإِنْ جَازَ طروء الفسخ وإخراج زكاتها غير واجب، حتى يتقابضا السلعة، ويؤمن طروء الْفَسْخِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَبَايَعَا سَلَمًا بِمِائَةِ دِينَارٍ إِلَى أَجَلٍ وَيَقْبِضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ، وَيَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، فَالْجَوَابُ يَنْبَنِي أَوَّلًا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي فَسْخِ السَّلَمِ بِعَدَمِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ عِنْدَ مَحِلِّهِ، فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِعَدَمِهِ، فَعَلَى هَذَا ملك البايع مُسْتَقِرٌّ عَلَى ثَمَنِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَنْفَسِخُ بِعَدَمِهِ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ مِلْكُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى ثَمَنِهِ وَيَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الأجرة قبل مضي المدة، فأما المشتري السَّلَمِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ إِنْ كَانَ لِلتِّجَارَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ تَأْجِيلَ الشَّيْءِ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ زَكَاتِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ بَعْدَ مَحِلِّهِ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي حُلُولِ الْأُجْرَةِ، وَمِلْكِ الْمُؤْجِرِ لَهَا، وَلَيْسَ كَمَا تَوَهَّمَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ إِنَّ الْأُجْرَةَ حَالَّةٌ وَإِنَّ الْمُؤْجِرَ لَهَا مَالِكٌ، وَإِنَّ(3/320)
زَكَاتَهَا وَاجِبَةٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي اسْتِقْرَارِ مِلْكِهَا، وَتَعْجِيلِ إِخْرَاجِ زَكَاتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مُفَصَّلًا، وَشَرَحْنَاهُ مُبَيَّنًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولو غَنِمُوا فَلَمْ يَقْسِمْهُ الْوَالِي حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَقَدْ أَسَاءَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عذرٌ وَلَا زكاةٌ فِي فضةٍ مِنْهَا وَلَا ذهبٍ حتى يستقبل بها حولاً بعد القسم لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لأحدٍ فِيهِ بِعَيْنِهِ وَإِنَّ للإمام أن يمنعهم قسمته إلا أن يمكنه ولأن فيها خمساً وإذ عزل سهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منها لما ينوب المسلمين فلا زكاة فيه لأنه ليس لمالكٍ بعينه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ أَرْضَ الْعَدُوِّ فَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ قَسْمِ مال الْغَنِيمَةِ بَيْنَهُمْ، إِلَّا لِعُذْرٍ مِنْ دَوَامِ حَرْبٍ أو رجعة عدو قد أَخَّرَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ قِسْمَةَ غَنَائِمِهِ مَعْذُورًا لِإِشْكَالٍ عَلَيْهِ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يُنْكِرْ تَأْخِيرَ قِسْمَتِهَا عَلَيْهِ، وَأَخَّرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قِسْمَةَ غَنَائِمِ هَوَازِنَ لِعُذْرٍ، فَأَمَّا تَأْخِيرُ قِسْمَتِهَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْغَانِمِينَ وَكَرِهَ أبو حنيفة تعجل قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " السِّيَرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ الْكَلَامُ بَعْدَ هَذَا فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي كَيْفِيَّةِ مِلْكِ الْغَنِيمَةِ.
وَالثَّانِي: فِي زَكَاةِ مَالِ الْغَنِيمَةِ.
فَأَمَّا مِلْكُ الْغَنِيمَةِ، فَمَتَى كَانْتِ الحرب قائمة فالغنائم غير مملوكة، وإن أجازها الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ غَنِمَ شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَا مالك أَنْ يَتَمَلَّكَهُ، لِأَنَّ غَنِيمَةَ الْعَدُوِّ مِنْ تَوَابِعِ الظفر به وهو مع المعاونة وَالْحَرْبِ غَيْرُ مَظْفُورٍ بِهِ، وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَإِذَا انْجَلَتِ الْحَرْبُ وَأُحِيزَتِ الْغَنَائِمُ، فَقَدْ مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَمَلَّكُوا إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ قَدْ مَلَكُوا كَالشَّفِيعِ مَلَكَ بِالشُّفْعَةِ، أَنْ يَتَمَلَّكَ والوصى له بالموصي ملك أن يتملك وللزوج مَلَكَ بِالطَّلَاقِ، قَبْلَ الدُّخُولِ أَنْ يَتَمَلَّكَ وَغَرِيمِ الْمُفْلِسِ مَلَكَ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَمَلَّكَ وَإِنَّمَا مَلَكُوا أَنْ يَتَمَلَّكُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ مَلَكُوا، لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ تَرَكَ حَقَّهُ، وَلَمْ يَخْتَرْ تَمَلُّكَهُ رَجَعَ سَهْمُهُ عَلَى الَّذِينَ مَعَهُ كَالشُّفْعَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْقُوفًا لَهُ كَالْوَرَثَةِ الَّذِينَ إِذَا تَرَكَ أَحَدُهُمْ حَقَّهُ لم يرجع على الذي معه، فكان مَوْقُوفًا لَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوا بِالْغَنِيمَةِ أَنْ يَتَمَلَّكُوا فَتَمَلُّكُهُمْ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إما باختيار التملك، وذلك بأن ي قولوا قَدِ اخْتَرْنَا أَنْ نَمْلِكَ فَيَمْلِكُونَ كَمَا يَمْلِكُ الموصى له لقبوله.(3/321)
وَإِمَّا بِأَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمْ، فَيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ سَهْمَهُ فَيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدِ اخْتَارَهُ، وَمَلَكَهُ كَمَا يَمْلِكُ أَهْلُ السُّهْمَانِ مَا قُسِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا زَكَاةُ مَالِ الْغَنِيمَةِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الغانمون قد تملكوها، فَإِنْ لَمْ يَتَمَلَّكُوهَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ جِنْسًا أَوْ أَجْنَاسًا عُزِلَ مِنْهَا الْخُمُسُ، أَمْ لَمْ يُعْزَلْ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ، وَلَا لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ وَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْغَانِمُونَ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ جَمِيعُ أَجْنَاسِهَا مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، أَوْ كَانَ بَعْضُهُ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ الْأَجْنَاسِ بِعَيْنِهِ مِلْكًا لِرَجُلٍ مِنَ الْغَانِمِينَ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَهُمْ قِسْمَةَ تَحَكُّمٍ مَوْقُوفَةً عَلَى نَظَرِهِ فَيُعْطِي بَعْضَهُمْ وَرِقًا، وَبَعْضَهُمْ ذَهَبًا وَبَعْضَهُمْ إِبِلًا وَبَعْضَهُمْ عَرَضًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ جنساً واحداً، فإن كان ما لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْخَيْلِ وَالسَّبْيِ وَالْعُرُوضِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ مَاشِيَةً سَائِمَةً، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ خُمُسُهَا مَعْزُولًا لِأَهْلِ الْخُمُسِ فَزَكَاتُهَا وَاجِبَةٌ، لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِجَمَاعَةٍ تَجِبُ عَلَيْهِمِ الزَّكَاةُ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ فِيهَا الزَّكَاةُ كَالْأَمْوَالِ الْمُشَاعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخُمُسُ بَاقِيًا فِيهَا فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: لَا زَكَاةَ فِيهَا وَهُوَ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَنِ الْغَنِيمَةِ " لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ قَسْمَهُ إِلَى أَنْ يُمْكِنَهُ، وَلِأَنَّ فِيهَا خُمُسًا ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ: الزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ وَهُوَ عِنْدِي فِي الْحُكْمِ أَصَحُّ، لِأَنَّ مُشَارَكَةَ أَهْلِ الْخُمُسِ لَهُمْ، لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَنَّ مُشَارَكَةَ الْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ، لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا جُمْلَةً، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْغَانِمِينَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُقَسِّمُوا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنِ اقْتَسَمُوا قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَتَّى يَكُونَ سَهْمُهُ نِصَابًا وَيَتِمَّ حَوْلُهُ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ، وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ قِسْمَتِهِمْ فَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ لَا تَبْلُغُ نِصَابًا، وَكَانَتْ مَعَ الْخُمُسِ نِصَابًا، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ سِوَى الْخُمُسِ نِصَابًا، فَصَاعِدًا نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةً وَجَبَ فِيهَا الزَّكَاةُ سَوَاءٌ بَلَغَ سَهْمُ كُلِّ واحد(3/322)
مِنْهُمْ نِصَابًا أَمْ لَا، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَهُوَ خَلِيطٌ وَالْخُلْطَةُ فِي الْمَوَاشِي تَصِحُّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَاشِيَةٍ كَفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ نُظِرَتْ فَإِنْ بَلَغَ سَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، فَعَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ مَنَعَ الْخُلْطَةَ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَعَلَى الْجَدِيدِ حَيْثُ جَوَّزَ الْخُلْطَةُ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ.(3/323)
باب البيع في المال الذي تجب فيه الزكاة بالخيار وغيره وبيع المصدق وما قبض منه وغير ذلك
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَوِ الْمُشْتَرِي أَوْ هُمَا قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ فَحَالَ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَ الْبَائِعُ وجبت عليه فيه الزكاة لأنه لا يتم بخروجه من ملكه حتى حال الحول ولمشتريه الرد بالتغير الذي دخل فيه بالزكاة (قال المزني) وقد قال في باب زكاة الفطر إن الملك يتم بخيارهما أو بخيار المشتري وفي الشفعة أن الملك يتم بخيار المشتري وحده (قال المزني) الأول إذا كانا جميعاً بالخيار عندي أشبه بأصله لأن قوله لم يختلف في رجل حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ أنه عتيق والسند عنده أن المتبايعين جميعاً بالخيار ما لم يتفرقا تفرق الأبدان فلولا أنه ملكه ما عتق عليه عبده ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمُةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ: أَنَّ الْبَيْعَ هَلْ يَنْقُلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي زَمَانِ الْخِيَارِ؟ فَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ قَدِ انتقل إلى المشتري بنفس العقد، وإن أجاز دَفْعَهُ بِالْخِيَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إَِنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي زَمَانِ الْخِيَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا عُلِمَ، أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ مُنْتَقِلًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ عُلِمَ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ مُنْتَقِلًا.
وَتَوْجِيهُ هذه الأقاويل من كِتَابِ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ بَقِيَ مِنْ حَوْلِ مَالِهِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ فَبَاعَهُ بِخِيَارِ ثَلَاثٍ وَتَمَّ الْحَوْلُ قَبْلَ مُضِيِّهَا أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا مُطْلَقًا فَحَالَ الْحَوْلُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَالْجَوَابُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ كَالْجَوَابِ فِي خِيَارِ الْعَقْدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
فَالْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي وجوب الزكاة.
والفصل الثاني: فيما تودى منه الزكاة.(3/324)
وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَخِيَارِ الْمُشْتَرِي بِمَا خَرَجَ مِنَ الْمَبِيعِ فِي الزَّكَاةِ فَأَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى المشتري بنفس العقد، فلا زكاة على البايع مِنَ الْمَالِ لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ بِفَسْخٍ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ كَمَا اسْتَأْنَفَ مِلْكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى البايع بفسخ لتمام البيع وانبرام الْعَقْدِ اسْتَأْنَفَ الْمُشْتَرِي حَوْلَ زَكَاتِهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ وَتَقَضِّي الْخِيَارِ فَزَكَاتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَى البايع سَوَاءٌ تَمَّ الْبَيْعُ أَمْ لَا، لِحُلُولِ حَوْلِهِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَيَسْتَأْنِفُ الْمُشْتَرِي حَوْلَهُ إن تم عليه ملكه من حين يقضي الخيار لا من حين العقد، لأنه زال وَإِنْ قِيلَ إِنَّ انْتِقَالَ مِلْكِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى انبرام الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ نُظِرَ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ، وانبرم فلا زكاة على البايع لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ قَبْلَ حُلُولِ حَوْلِهِ، وَاسْتَأْنَفَ الْمُشْتَرِي حَوْلَ زَكَاتِهِ مِنْ حِينِ عَقْدِهِ بَيْعَهُ، وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ وَزَالَ الْعَقْدُ فَهُوَ بَاقٍ على ملك البايع، وَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ لِحُلُولِ حَوْلِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ إِلَّا زَكَاةُ التِّجَارَةِ كَالسِّلَعِ وَالْعُرُوضِ فَزَكَاةُ هَذَا وَاجِبَةٌ وَإِنْ بِيعَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا فِي قِيمَتِهِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ كَالْمَوَاشِي وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يزكي زكاة التجارة ومن قِيمَتِهِ كَانَ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ تَجِبُ زَكَاتُهُ، وَإِنْ بِيعَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ كُلِّهَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يُزَكِّي زَكَاةَ الْعَيْنِ، كَانَ كَالَّذِي لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَيَكُونُ وُجُوبُ زَكَاتِهِ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ فِي زَمَانِ خِيَارِهِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الْمَاضِيَةِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ إِذَا وَجَبَتْ فِي الْمَالِ عَلَى ما مضى من الشرح والترتيب فللبايع حَالَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُجِيبَ إِلَى دَفْعِهَا مِنْ مَالِهِ، فَلَا كَلَامَ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَأْبَى أَنْ يَدْفَعَهَا مِنْ مَالِهِ وَيَمْتَنِعَ أَنْ يُخْرِجَهَا إِلَّا مِنْ مَالِ الْمَبِيعِ، فَلَهُ حَالَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا بِهَا فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الزكاة منها سواء وجدها في يد البايع، أو يد الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا أَوْ بَطَلَ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِهَا فَلَهُ حَالَانِ:
إحداهما: أن يكون يريد بامتناعه فسخ العقد فَلَهُ ذَاكَ إِنْ كَانَ فِي خِيَارِ مَجْلِسٍ، أو خيار(3/325)
شرط هو لهما معاً، أوله وَحْدَهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي خِيَارِ شَرْطٍ هُوَ لِلْمُشْتَرِي دُونَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُرِيدَ بِامْتِنَاعِهِ فَسْخَ الْبَيْعِ وَإِنَّمَا يُرِيدُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَطَوَّعَ فَالْمَالُ الْمَبِيعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، فَهَذَا يجب أن تؤخذ زكاته من مال بايعه دُونَ الْمَالِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي قَدْ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي الْقِيمَةِ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ أَقْوَى حُكْمًا فِي الْعَيْنِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَجِبُ زَكَاةُ عَيْنِهِ كَالْمَوَاشِي وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، فَإِنْ قِيلَ الزَّكَاةُ، وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَبِيعِ، وَإِنْ قُلْنَا وَجَبَتْ في الرقبة وجوباً منبرماً أخذت الزكاة من البايع.
فَصْلٌ
: بُطْلَانُ الْبَيْعِ إِذَا أُخْرِجَتِ الزَّكَاةُ عَلَى مَا مَضَى فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون البايع قد أخرج الزكاة من ماله فإن قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي الْكُلِّ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرَى لِسَلَامَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ، فَهُوَ كَالضَّرْبِ الثَّانِي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ، وَنَفْسِ الْمَبِيعِ فَالْبَيْعُ فِي قَدْرِ مَا خَرَجَ فِي الزَّكَاةِ بَاطِلٌ، فَأَمَّا الْبَاقِي فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ كَالْفِضَّةِ والذهب، فالبيع فيه جايز قولاً واحد لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا، وَلَمَّا بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ بِمَعْنًى طَارِئً بَعْدَ سَلَامَةِ الْعَقْدِ، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَاكَ فِي بَيْعِ مَا بَقِيَ هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ فِي الْمَذْهَبِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لأجل النقص الطارئ من فسخ البيع والإقامة عليه، فإن أقام، فالصحيح أنه يقيم هاهنا بِحِسَابِ الثَّمَنِ، وَقِسْطِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قولاً ثانياً وهو أنه يقيم لجميع الثَّمَنِ، وَإِلَّا فَسَخَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يكون البيع غَيْرَ مُتَمَاثِلِ الْأَجْزَاءِ كَالْمَاشِيَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أحدهما: أن تكون مختلفة الأسباب بَعْضُهَا صِغَارًا وَبَعْضُهَا كِبَارًا أَوْ مُخْتَلِفَةَ الْأَوْصَافِ بَعْضُهَا سِمَانًا وَبَعْضُهَا عِجَافًا فَالْبَيْعُ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ لَا مِنْ جِهَةِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَلَكِنْ لِلْجَهْلِ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةَ الْأَسْنَانِ مُتَقَارِبَةَ الْأَوْصَافِ، فَفِي بُطْلَانِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ:(3/326)
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْجَهْلِ بِمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ تَشْبِيهًا بِمَا تَمَاثَلَتْ أَجْزَاؤُهُ لِتَقَارُبِ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ بَنَى بُطْلَانَ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي على تفريق الصفقة فليس بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ مَا طَرَأَ مِنَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ مَا كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ وَمَا ذَكَرْتُ أَصَحُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِذَا صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِمْضَائِهِ فَإِنْ أَمْضَاهُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا بِحِسَابِ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِلَّا فُسِخَ فَهَذَا جُمْلَةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فُصُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ، فَإِنَّهُ اخْتَارَ مِنْ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي الْخِيَارِ وَاسْتَشْهَدَ عَلَى صِحَّتِهِ بِمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ، قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ رَجُلًا لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ فَبَاعَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَالْعِتْقُ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ فَلَوْلَا، أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مَا عُتِقَ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا، وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إِبْقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ أَنَّ خِيَارَ المجلس يملك البايع فِيهِ فَسْخَ الْعَقْدِ، وَالْفَسْخُ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا، وَقَوْلًا فَإِذَا أَعْتَقَهُ فِي خِيَارِهِ كَانَ فَسْخًا، فَيَصِيرُ عِتْقُهُ كَوُجُودِ الْفَسْخِ وَعَوْدِ الْمِلْكِ وَإِذَا أنفذ عِتْقُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ كَانَ نُفُوذُهُ بِصِفَةٍ تَتَقَدَّمُ الْبَيْعَ أَوْلَى، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بقاء الملك والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ مَلَكَ ثَمَرَةَ نخلٍ مِلْكًا صَحِيحًا قَبْلَ أن ترى فيه الصفرة أو الحمرة فالزكاة على مالكها الآخر يزكيها حين تزهي ".
قال الماوردي: وقد ذَكَرْنَا أَنَّ زَكَاةَ الثِّمَارِ تَجِبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَإِذَا مَلَكَ ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِلْكًا صحيحاً، إما بأن ورثها أو استوجبها أو ابتاعها مع نخلها، ثم بدأ إصلاحها فِي مِلْكِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهَا دُونَ مَنْ كَانَتْ عَلَى مِلْكِهِ، لِأَنَّ مَا بِهِ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا وَهُوَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ فَلَوْ مَلَكَهَا بِبَيْعِ خِيَارٍ فَبَدَا صَلَاحُهَا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، أَوْ خِيَارِ الثَّلَاثِ كَانَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ مَبْنِيًّا عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنِ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَزَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي الْخِيَارِ فَزَكَاتُهَا عَلَى البايع، وَإِنْ قِيلَ أَنَّهُ مَوْقُوفُ نُظِرَ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ فَزَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فزكاتها على البايع، فَلَوْ وَجَبَتْ زَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ الْمِلْكَ قَدِ انْتَقَلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَفَسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ فِي زَمَانِ الْخِيَارِ، وَعَادَتِ الثمرة بعد بدو صلاحها إلى البايع، فَفِي زَكَاتِهَا وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الزَّكَاةِ هَلْ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ أَوْ الْعَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا.(3/327)
والوجه الثاني: أنها قد انتقلت إلى البايع لِانْتِقَالِ الثَّمَرَةِ إِلَيْهِ، أَوْ قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتْ في العين وجوب استحقاق.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ بَعْدَ مَا يَبْدُو صَلَاحُهَا والشعر فِيهَا فَالْبَيْعُ فِيهَا مَفْسُوخٌ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا لَهُ وَالْآخَرُ لَيْسَ لَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي مُسْتَوْفَاةً، وَسَنُشِيرُ إِلَى جُمْلَتِهَا وَنَذْكُرُ مَا سَنَحَ مِنَ الزِّيَادَةِ، فِيهَا اعْلَمْ أَنَّ مَنْ بَاعَ ثَمَرَتَهُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قد أخذها لخرصها وَضَمِنَهَا بِزَكَاتِهَا فَبَيْعُ هَذَا جَائِزٌ، لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخَذَهَا أَمَانَةً، وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي يَدِهِ مَضْمُونَةً، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبِيعَهُ تِسْعَةَ أَعْشَارِهَا، وَيَسْتَثْنِيَ قدر الزكاة مشاعاً فيها، فهذا بيع جايز.
والضرب الثاني: أن يبيعها جميعاً مَعَ مَا وَجَبَ مِنَ الزَّكَاةِ فِيهَا، فَيَكُونُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا باطل، إذا قيل: إن الزكاة استحقاق في الْعَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الْبَاقِي عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى مَا تقدم من اختلاف العلة:
أحدهما: بطل لِأَنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جايز فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ، وَإِنْ أَقَامَ فَالصَّحِيحُ، أَنْ يُقِيمَ بِحِسَابِ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ وَقَدْ خُرِّجَ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ يُقِيمَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَسَخَ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْبَيْعَ فِي قَدْرِ الزكاة جايز، إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا فَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ جايز فعلى هذا إن دفع البايع الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ سَلِمَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ وَانْبَرَمَ، وَإِنْ أَخَذَهَا السَّاعِي مِنْ هَذِهِ الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ، وَصَارَتْ بِيَدِهِ، فَأَخَذَهَا السَّاعِي مِنْهُ فَالْبَيْعُ، لَا يَبْطُلُ فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي لِأَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَقَدْ صَارَ مِنْ ضمان المشتري بالقبض لكن يرجع على البايع بمثله، لأن الثمن مِثْلٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ فِي يد البايع لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي بَعْدُ فَالْبَيْعُ فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي مِنَ الزَّكَاةِ، قَدْ بَطَلَ وَهُوَ فِي الباقي على الصحيح من المذهب جايز، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى ما مضى.(3/328)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوِ اشْتَرَاهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا عَلَى أَنْ يجدها أخذ بجدها فإن بدا صلاحها فسخ البيع لأنه لا يجوز أن تقطع فيمنع الزكاة ولا يجبر رب النخل على تركها وقد اشترط قطعها ولو رضيا الترك فالزكاة على المشتري ولو رضي البائع الترك وأبى المشتري ففيها قولان. أحدهما: أن يجبر على الترك والثاني أن يفسخ لأنهما اشترطا القطع ثم بطل بوجوب الزكاة (قال المزني) فأشبه هذين القولين بقوله أن يفسخ البيع قياساً على فسخ المسألة قبلها.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُفْرَدَةً فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَلَوْ بَاعَهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ صَحَّ الْبَيْعُ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا، فَإِنْ تَمَادَى الْمُشْتَرِي فِي قطعها ودافع بها حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا، فَقَدْ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ ثم للبايع، والمشتري أربعة أحوال:
أحدها: أن يجيب البايع إِلَى تَرْكِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ إِلَى حِينِ صِرَامِهَا، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِأَدَاءِ زَكَاتِهَا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ لَا يُفْسَخُ، وَيَتْرُكُ الثَّمَرَةَ عَلَى النَّخْلِ إِلَى وقت الصرام، ولا تُقْطَعُ وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ الْمُشْتَرِي عِنْدَ جَفَافِ الثمرة، وجدادها.
والحالة الثانية: أن يمتنع البايع مِنْ تَرْكِ الثَّمَرَةِ عَلَى نَخْلِهِ، وَيَأْبَى الْمُشْتَرِي مِنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْ ثَمَرَتِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يفسخ البايع، لأن في إجبار البايع عَلَى تَرْكِ الثَّمَرَةِ إِضْرَارًا بِهِ وَفِي إِجْبَارِ المشتري على قطعها إضرار بِالْمَسَاكِينِ، فَكَانَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى فَسْخِ الْبَيْعِ، فَإِذَا فُسِخَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُشْتَرِي الزَّكَاةُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَخَلَ فِي ابْتِيَاعِهَا عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ فَسْخَ البيع غير منسوب إليه، فأما البايع فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ بُدُوَّ صَلَاحِهَا كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ هَاهُنَا أَنَّ زَكَاتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ مِنَ التَّرْكِ سَبَبٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا، لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرْضَى الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ زَكَاتِهَا وَيَمْتَنِعَ الْبَائِعُ مِنْ تَرْكِهَا، فَيُفْسَخُ الْبَيْعُ أَيْضًا وَتَرُدُّ الثَّمَرَةُ عَلَى الْبَائِعِ، وتؤخذ منه الزكاة وجهاً واحداً، لأن رضى الْمُشْتَرِي بِالتَّرْكِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَكَانَ امْتِنَاعُ البايع مِنْ ذَلِكَ يَقْتَضِي، أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ وُجُوبُ الزكاة، لأن لا تَسْقُطَ بَعْدَ وُجُوبِهَا.(3/329)
والحالة الرابعة: أن يرضى البايع بِتَرْكِهَا، وَيَمْتَنِعَ الْمُشْتَرِي مِنْ أَدَاءِ زَكَاتِهَا فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ يُفْسَخُ الْبَيْعُ، وترد الثمرة على البايع لأمرين:
أحدهما: أن للبايع الرُّجُوعَ بَعْدَ الرِّضَا فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِدَفْعِ الزَّكَاةِ مغرراً.
والثاني: أن رضا البايع يُوجِبُ عَلَيْهِ تَرْكَهَا وَهُوَ قَدِ اسْتَحَقَّ تَعْجِيلَ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِمَا شَرَطَ مِنْ قَطْعِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَأْجِيلُ مَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ تَعْجِيلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْبَيْعَ مُقَرٌّ عَلَى حَالِهِ لَا يُفْسَخُ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كَرِهَ لأمرين:
أحدهما: أن رضى البايع تركها بدل زيادة غير مثمرة يَرْتَفِعُ بِهَا مَا يَخَافُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِقَطْعِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى قبولها، ويمتنع البايع مِنَ الرُّجُوعِ فِيهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ الثَّمَرَةِ بِبُدُوِّ صَلَاحِهَا نَقْصٌ فِي الثَّمَرَةِ يَجْرِي مجرى العيب، فلم يلزم البايع اسْتِرْجَاعَ ثَمَرَتِهِ نَاقِصَةً وَلَا قَبُولَهَا مَعِيبَةً، وَكَانَ الْبَيْعُ لِلْمُشْتَرِي لَازِمًا وَزَكَاةُ الثَّمَرَةِ عَلَيْهِ حَتْمًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ، فَلَمْ يَقْطَعْهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى بَدَا صَلَاحُهَا نُظِرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مَا اشْتَرَى وَلَا مَلَكَ الْبَائِعُ غَيْرَ مَا يَبْقَى فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ منهما؛ لأن تمييز ملكها، واشتراط القطع على الواحد منها يَمْنَعُ مِنَ الْخُلْطَةِ وَنُقْصَانُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ النِّصَابِ، يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْخُلْطَةِ، وَإِنْ مَلَكَ الْبَائِعُ تَمَامَ النِّصَابِ مَعَ مَا يَبْقَى وَلَمْ يَمْلِكِ الْمُشْتَرِي غير ما اشترى فعلى البايع الزَّكَاةُ فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ مَلَكَ الْمُشْتَرِي تَمَامَ النِّصَابِ مع ما اشترى، ولو يَمْلِكِ الْبَائِعُ غَيْرَ مَا يَبْقَى فَلَا زَكَاةَ على البائع، فأما البائع فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَإِمْضَائِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِيمَا اشْتَرَاهُ لِأَجْلِ الَّذِي كَمَّلَ النِّصَابَ به وإن ملك البايع كمال النِّصَابِ مَعَ مَا يَبْقَى، وَمَلَكَ الْمُشْتَرِي تَمَامَ النصاب مع ما اشترى فعلى البايع الزَّكَاةُ، فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَعَلَى مَا مَضَى فَحَصَلَ من ذلك أن أحوال البايع، وَالْمُشْتَرِي مُخْتَلِفَةٌ عَلَى الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو استهلك رجل ثمرةً وقد خرصت أُخِذَ بِثَمَنِ عُشْرِ وَسْطِهَا، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ".(3/330)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ بَاعَ الْمُصَدِّقُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بمثله أو يقسمه على أهله لا يجزى غيره وَأَفْسَخُ بَيْعَهُ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا قَبَضَ السَّاعِي زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ فَعَلَيْهِ إِيصَالُهَا إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ، مِنْ خَوْفِ طَرِيقٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ لُصُوصٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، يخالف أَنْ تُحِيطَ مُؤْنَتُهَا بِثَمَنِهَا فَإِنْ بَاعَهَا لِضَرُورَةٍ كَانَ بَيْعُهُ جَائِزًا إِذَا كَانَ بِثَمَنِ مِثْلِهَا وَإِنْ بَاعَهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَيَسْتَرْجِعُ مَا بَاعَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِنْ تَلَفَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَزِمَهُ رَدُّ مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لَزِمَهُ أَكْثَرُ قِيمَتِهِ من قوت بيعه إلى وقت تلفه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ شِرَاءَ صَدَقَتِهِ إِذَا وَصَلَتْ إِلَى أهلها ولا أفسخه ".
قال الماوردي: ولذا كرهت له شراء ما تصدقت بِهِ وَاجِبًا وَتَطَوُّعًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُقَالُ لَهُ: الْوَرْدُ فَرَآهُ يُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تعد في صدقتك ولو أعطيتها نصفين وَدَعْهَا حَتَّى تَكُونَ هِيَ وَنِتَاجُهَا لَكَ يَوْمَ القيامة " ولأن لا يسامح في ثمنها فينقص من ثوابه، ولأن لا يتبعها نفسه فيستراب له فإن ابتاعها كان البيع جايزاً، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْبَيْعُ بَاطِلٌ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَهْيِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ أَنْ يَعُودَ فِي صَدَقَتِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لخمسةٍ " وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلًا اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ عَوْدَهَا إِلَيْهِ، بِغَيْرِ المعنى الذي تملكته عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ عَادَتْ إِلَيْهِ مِيرَاثًا، جَازَ لِمَا رُوِيَ أن رجلاً تصدق على أبيه بحديقةٍ فمات فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُبِلَتْ صَدَقَتُكَ وَبَلَغَتْ مَحَلَّهَا وَصَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا " وَإِذَا جَازَ عَوْدُهَا إِلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ جَازَ عَوْدُهَا بِالِابْتِيَاعِ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ إِرْثًا جَازَ أَنْ يَمْلِكَهُ ابتياعاً كسائر الأموال.(3/331)
فأما حديث عمر ففيه جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ كَانَ قَدْ وَقَفَ فَرَسَهُ وَشِرَاءُ الْوَقْفِ بَاطِلٌ بِوِفَاقٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ الْعَقْدِ دُونَ فَسَادِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النجس، وَأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ.
فَصْلٌ
: إذا كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ دَيْنٌ عَلَى فَقِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِهِ قِصَاصًا مِنْ زَكَاتِهِ إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِ فَيَقْبِضَهَا مِنْهُ ثُمَّ يَخْتَارُ الْفَقِيرُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِ فَيَقْبِضَهَا مِنْهُ، ثُمَّ يَخْتَارُ الْفَقِيرُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ فَيَجُوزُ، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ جَعَلَ مَا عَلَى الْفَقِيرِ مِنْ دَيْنِهِ قِصَاصًا مِنْ زَكَاتِهِ جَازَ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْعَجَبُ لَهُ إِذَا مَنَعَ مِنِ ابْتِيَاعِهَا بِعِوَضٍ عَاجِلٍ وَجَوَّزَ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا بِدَيْنٍ هَالِكٍ هَذَا مَذْهَبٌ ظَاهِرُ الفساد.(3/332)
باب زكاة المعدن
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنَ الْمَعَادِنِ إلا ذهباً أو ورقاً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَعْدِنُ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَدَنَ الشَّيْءَ فِي الْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ فِيهِ وَالْعَدْنُ الْإِقَامَةُ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ التَّأْوِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ) {النحل: 31) جَنَّاتِ إِقَامَةٍ وَقِيلَ: فِي الْبَلَدِ الْمَنْسُوبِ إِلَى عَدَنَ إِنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ إِنَّهُ كَانَ حَبْسًا لِتُبَّعٍ يُقِيمَ فِيهِ أَهْلُ الْجَرَائِمِ فَالْمَعَادِنُ هِيَ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، جَوَاهِرَ الْأَرْضِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالْمَرْجَانِ وَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْعَقِيقِ وَالزَّبَرْجَدِ، وَإِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الكحل والزيبق وَالنِّفْطِ فَلَا زَكَاةَ فِي جَمِيعِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مِلْكٍ، أَوْ مَوَاتٍ إِلَّا فِي مَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، دُونَ مَا عَدَاهُمَا وَقَالَ أبو حنيفة الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مَا انْطَبَعَ مِنْهَا كَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ دُونَ مَا لَا يَنْطَبِعُ مِنَ الذَّائِبِ، وَالْأَحْجَارِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الرَّكَازِ الْخُمُسُ وَالْمَعَادِنُ تُسَمَّى رِكَازًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخُمُسُ فِي جَمِيعِهَا عَامًّا، وَلِأَنَّهُ جَوْهَرٌ يَنْطَبِعُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي عَيْنِهِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، إِذَا أُخِذَ مِنْ مَعْدِنِهِ كَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ وَرِثَهُ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوَجَبَ، إِذَا اسْتَفَادَهُ مِنَ الْمَعْدِنِ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالنِّفْطِ وَالْقِيرِ، وَلِأَنَّهُ مُقَوَّمٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْمَعْدِنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْيَاقُوتِ وَالزُّمُرُّدِ، وَلِأَنَّ الْمَعَادِنَ إِمَّا أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الْفَيْءَ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ أَوْ مَجْرَى الزَّكَاةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ كَالْفَيْءِ، لِأَنَّ خُمُسَ الْفَيْءِ يَجِبُ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ ما انطبع منها ولم يَنْطَبِعْ فَثَبَتَ، أَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الزَّكَاةِ، وَالزَّكَاةُ لَا تَجْرِي فِي غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَكَذَا لَا تَجِبُ إِلَّا فِي مَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ الرِّكَازَ غَيْرُ الْمَعَادِنِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِعِلَّةِ، أَنَّهُ يَنْطَبِعُ فَفَاسِدٌ بِالزُّجَاجِ، لِأَنَّهُ يَنْطَبِعُ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، أَنَّهُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَوْ مَلَكَ مِنْ غَيْرِ المعدن والله أعلم.(3/333)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا خرج منها ذهبٌ أو ورقٌ فَكَانَ غَيْرَ متميزٍ حَتَّى يُعَالَجَ بِالنَّارِ أَوِ الطعن أو التحصيل فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَصِيرَ ذَهَبًا أَوْ وَرِقَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
أَمَّا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ فَبِاسْتِخْرَاجِهِ مِنْ مَعْدِنِهِ، وَأَمَّا وَقْتَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهُ فَبِتَخْلِيصِهِ وَتَصْفِيَتِهِ حَتَّى يَصِيرَ وَرِقًا خَالِصًا، أَوْ ذَهَبًا صَافِيًا كَالثِّمَارِ الَّتِي تَجِبُ زَكَاتُهَا بِبُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَيُخْرَجُ مِنْهَا بَعْدَ جَفَافِهَا، وَصِرَامِهَا كَذَلِكَ مَعَادِنُ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ تَجِبُ الزكاة فيه، بالأخذ والاستخراج وتجب الزكاة منها بعد التصفية، والتميز تَشْبِيهًا بِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ النِّصَابَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ، ولا يمكن اعتباره إلا بعد تمييزه، وَعَلَيْهِ الْتِزَامُ مُؤْنَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فإن دفع منه شيئاً قبل أن يحصل ذهباً أو ورقاً فالمصدق ضامن والقول فيه قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إِنِ اسْتَهْلَكَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الذهب والذهب قَبْلَ التَّمْيِيزِ، وَالتَّصْفِيَةِ فَإِنْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ تَمْيِيزِهَا وَتَصْفِيَتِهَا وَجَبَ عَلَى الْمُصَدِّقِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَكَانَ ضَامِنًا لَهُ حَتَّى يَرُدَّهُ لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمِتِهِ فَإِنْ كَانَ ذَهَبًا غَرِمَ قِيمَتَهُ وَرِقًا، وَإِنْ كَانَ وَرِقًا غَرِمَ قِيمَتَهُ ذَهَبًا فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُصَدِّقِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ فَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ لَيْسَ هَذَا لِي، أَوْ قَدْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَالْقَوْلُ أَيْضًا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَلَوْ لَمْ يَرُدَّ الْمُصَدِّقُ مَا أَخَذَهُ حَتَّى صَفَّاهُ وَمَيَّزَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا وَجَبَ مِنَ الزَّكَاةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ رَدَّ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ طَالَبَ بِالنُّقْصَانِ كَأَنَّهُ مَيَّزَ مَا أَخَذَهُ فَكَانَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فيحتسب بهذه العشرة وإن كَانَ جُمْلَةُ مَا أَخَذَ مِنَ الْمَعْدِنِ بَعْدَ تمييزه أربعماية دِرْهَمٍ، فَالْعَشْرَةُ قَدَرُ زَكَاتِهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا رُبُعُ الْعَشْرِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ طَالَبَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ رَدَّ ما فضل منها ويشبه ذلك من زَكَاةِ الثِّمَارِ، أَنْ يَأْخُذَ الْمُصَدِّقُ عُشْرَ الثَّمَرَةِ رُطَبًا وَهِيَ مِمَّا تَصِيرُ تَمْرًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، فَلَوْ لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى جَفَّفَهُ احْتَسَبَ بِمَا حَصَلَ مِنْهُ مِنْ زَكَاةِ رَبِّ الْمَالِ وَطَالَبَ بِمَا زَادَ أَوْ رَدَّ مَا نَقَصَ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجوز بيع تراب المعادن بحالٍ لِأَنَّهُ ذَهَبٌ أَوْ وَرِقٌ مختلطٌ بِغَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ:
بَيْعُ تُرَابِ الْمَعْدِنِ وَتُرَابِ الصَّاغَةِ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ بَيْعُ تُرَابِ الْمَعَادِنِ دُونَ تُرَابِ الصَّاغَةِ لِأَنَّ اخْتِلَاطَ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ، لَا(3/334)
يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ كَالْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالنِّدِّ الْمَعْجُونِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن بيع الفرز وفي تراب المعادن، والصاغة أعظم الفرد لأن الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَتُرَابِ الصَّاغَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْحِنْطَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالشَّعِيرِ فَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ وَمِثْلُهُ، إِذَا اخْتَلَطَتِ الدَّرَاهِمُ بِالدَّنَانِيرِ جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَقْصُودٌ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنْ بَاعَ تُرَابَ مَعَادِنِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَتُرَابَ مَعَادِنِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ لَمْ يَجُزْ لِعِلَّتَيْنِ.
إِحْدَاهُمَا: خَوْفُ الربا.
والثانية: جهالة المعقود فَلَوْ بَاعَ تُرَابَ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ، أَوْ تُرَابَ الذهب بالفضة لم يجز عندنا لجهالة العقود، وَجَازَ عِنْدَ أبي حنيفة لِزَوَالِ الرِّبَا.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وذهب بعض أهل ناحيتنا إلى أن في المعادن الزكاة وَغَيْرُهُمْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ ركازٌ فَفِيهَا الْخُمُسُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يَجِبُ فِي الْمَعَادِنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ حَكَاهَا أَصْحَابُنَا أقاويل للشافعي:
أحدها: فِيهَا رُبْعَ الْعُشْرِ كَالزَّكَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، " وَالْإِمْلَاءِ " وَفِي كِتَابِ " الْأُمِّ ".
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: إِنَّ فِيهَا الْخُمُسَ كَالرِّكَازِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَأَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ إِنْ أُخِذَ بِمُؤْنَةٍ وَتَعَبٍ فَفِيهِ ربع العشر، وإن وجد نُدْرَةً مُجْتَمِعَةً أَوْ وُجِدَ فِي أَثَرِ سَيْلٍ فِي بَطْحَاءَ بِلَا مُؤْنَةٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْأُمِّ فَمَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الْخُمُسَ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرِّكَازُ فَقَالَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ اللَّذَانِ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ السموات وَالْأَرْضِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ رِكَازٌ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " سُئِلَ عَنْ رجلٍ وَجَدَ كَنْزًا فِي قَرْيَةٍ خربةٍ فقال: إن وجده فِي قريةٍ مسكونةٍ أَوْ فِي سَبِيلِ مِيتَاءَ فعرفه،(3/335)
وإن وجده فِي خَرْبَةٍ جَاهِلِيَّةٍ، أَوْ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ " وَلِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ إِيدَاعِ أَصْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ الْخُمُسَ كَالرِّكَازِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ رُبْعَ الْعُشْرِ بعموم، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي الرَّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ " وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقطع بلال ابن الْحَارِثِ مَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةِ فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إِلَّا الزَّكَاةُ إِلَى الْيَوْمِ وَهَذَا مُرْسَلٌ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ ضَعِيفٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ قَدْ رَوَى غَيْرُ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَارِثِ بن بلال بن الحارث المزني عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ مِنْهُ زَكَاةَ الْمَعَادِنِ الْقَبَلِيَّةَ وَهَذَا نَصٌّ مستند وروى جوبير عن الضحاك أن النبي
قَالَ " فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ وَفِي الْمَعْدِنِ الصَّدَقَةُ " وَلِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ لَمْ يُمْلَكْ غَيْرُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ كَالْحُبُوبِ، وَاسْتَدَلَّ مَنِ اعْتَبَرَ كَثْرَةَ الْمُؤْنَةِ وَقِلَّتَهَا بِالزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا يَقِلُّ بِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ، إِذَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ نَضْحٍ فَيَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَيَكْثُرُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ، إِذَا سُقِيَ بِمَاءِ سَمَاءٍ أَوْ سَيْحٍ فَيَجِبُ فيه العشر، فكذلك المعادن، إن قلنا الْمُؤْنَةُ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهَا، وَجَبَ فِيهَا الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ وَإِنْ كَثُرَتِ الْمُؤْنَةُ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهَا وَجَبَ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ كَالنَّاضِّ، فَهَذَا تَوْجِيهُ الأقاويل الثلاثة.(3/336)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا قِيلَ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ الذَّهَبُ مِنْهُ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَالْوَرِقُ مِنْهُ خَمْسَ أواقٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قال:
ليس يختلف مذهب أَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَعَادِنِ سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ كَالزَّكَاةِ، أَوِ الخمس كالركاز فإن كان وزناً، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقٍ، وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بعض المواضع لو كنت الواحد لَهُ لَزَكَّيْتُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ لِنَفْسِهِ، لِيَكُونَ خَارِجًا مِنَ الْخِلَافِ كَمَا قَالَ فِي السَّفَرِ أَمَّا أَنَا فَلَا أَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ، فَلَا وَجْهَ فِيهِ لِمَا، وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَخَرَّجَ لَهُ ذَلِكَ قَوْلًا ثَانِيًا وَقَالَ أبو حنيفة يُخْرَجُ مِنْ قَلِيلِهِ، وَكَثِيرِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ نِصَابٍ، وبناء عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ لَيْسَ بِزَكَاةٍ وَإِنَّمَا هُوَ كَخُمُسِ الْفَيْءِ، وَالْغَنِيمَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ زَكَاةٌ، وَإِنْ وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ، وَكَذَا الزَّكَاةُ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " فَلَمَّا نفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا سِوَى الزَّكَاةِ وَأَثْبَتَ الزَّكَاةَ وَكَانَ فِي الْمَعَادِنِ، وَالرِّكَازِ حَقٌّ ثَابِتٌ عُلِمَ أَنَّهُ زَكَاةٌ لِنَفْيهِ مَا سِوَاهَا وَلِأَنَّ مَالَ الْفَيْءِ مَأْخُوذٌ مِنْ مُشْرِكٍ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ، وَالذِّلَّةِ وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَالطُّهْرَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا وَمُوجِبِهِمَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ مَعَ مَا سَلَفَ فِي بَابِ زَكَاةِ الْوَرِقِ، وَالذَّهَبِ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْمِقْدَادِ أَنَّهُ ذَهَبَ لحاجةٍ فإذا بجرذ يخرج من أرض دنانير فأخرج سبعة عشرة دِينَارًا ثُمَّ أَخْرَجَ خِرْقَةً حَمْرَاءَ فِيهَا دينارٌ فَجَاءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يَأْخُذْ زَكَاتَهَا فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ لَا شَيْءَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُضَمُّ مَا أَصَابَ فِي الْأَيَّامِ الْمُتَتَابِعَةِ ".
قَالَ الماوردي: وإنما ضم بعضه إلى بع لأنه لا بد من وقوع مهلة من النيل، فلو قلنا أن لَا يُضَمَّ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ ظُهُورَ الصَّلَاحِ فِي بَعْضِ الثِّمَارِ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِهِ فِي الْجَمِيعِ لِأَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا ثَمَرَةً بَعْدَ ثَمَرَةٍ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ، فكذا المعادن فلو أتلف ما أخذه أو لا حُسِبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ مَعَ الثَّانِي نِصَابًا زَكَّاهُ وَفِيمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ الْمَعْدِنُ غَيْرَ حاقدٍ فَقَطَعَ الْعَمَلَ فيه ثم استأنفه لم يضم كثر القطع عنه له أو قل والقطع ترك العمل لغير عذرٍ أَدَاةٍ أَوْ عِلَّةِ مرضٍ أَوْ هربٍ عبيدٍ لا وقت فيه إلا ما وصفت ".(3/337)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا قَوْلُهُ غَيْرُ حَاقِدٍ يَعْنِي مَانِعٍ لِنَيْلِهِ يُقَالُ حَقَدَ الْمَعْدِنَ إِذَا مَنَعَ وَأَنَالَ إِذَا أَعْطَاهُ فَلَوْ كَانَ الْمَعْدِنُ مُنِيلًا غَيْرَ حَاقِدٍ فَقَطَعَ الْعَمَلَ فِيهِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْطَعَهُ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ هرب عبيداً، وتعذر آلة فإذا أعاد ضَمَّ مَا أَصَابَهُ بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى مَا أصابه قبل فقد قَطْعِهِ، لِأَنَّ الْقَطْعَ لَمْ يَقَعْ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ زَمَانِ النَّيْلِ، وَأَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَقْطَعَهُ مُخْتَارًا نَاوِيًا تَرْكَ الْعَمَلِ فِيهِ، فَإِنْ عَادَ صَارَ مُسْتَأْنِفًا وَلَمْ يَضُمَّ مَا أَصَابَهُ فِي الثَّانِي إِلَى مَا أَصَابَهُ فِي الْأَوَّلِ كَمَنْ غَيَّرَ نِيَّةَ التِّجَارَةِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَهَا لَمْ يَبْنِ عَلَى مَا مَضَى، وَاسْتَأْنَفَ حُكْمَهَا والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ تَابَعَ فَحَقَدَ وَلَمْ يَقْطَعِ الْعَمَلَ فِيهِ ضَمَّ مَا أَصَابَ مِنْهُ بِالْعَمَلِ الْآخَرِ إِلَى الْأَوَّلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الْعَمَلِ، فَحَقَدَ الْمَعْدِنُ، وَمَنَعَ نَيْلَهُ ثُمَّ أَنَالَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حِقْدُهُ يَسِيرًا فَهَذَا يَبْنِي، وَلَا تَأْثِيرَ لِحِقْدِهِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حِقْدُهُ كَثِيرًا وَزَمَانُ مَنْعِهِ طَوِيلًا، فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَسْتَأْنِفُ وَلَا يَضُمُّ، لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمِّ بِشَرْطَيْنِ الْعَمَلِ والنيل فلما كان قطع العمل ع اسْتِدَامَةِ النَّيْلِ، لَا يُوجِبُ الضَّمَّ فَكَذَا اسْتِدَامَةُ الْعَمَلِ مَعَ قَطْعِ النَّيْلِ لَا يُوجِبُ الضَّمَّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَضُمُّ وَلَا يَسْتَأْنِفُ، لِأَنَّ نَيْلَ الْمَعَادِنِ فِي الْعَادَةِ يختلف بنيل تارة وبحقد وبحقد تَارَةً، وَلِأَنَّ انْقِطَاعَ النَّيْلِ عُذْرٌ كَانْقِطَاعِ الْعَمَلِ بِعُذْرٍ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ انْقِطَاعَ الْعَمَلِ بِعُذْرٍ يُوجِبُ الضَّمَّ وَكَذَا انْقِطَاعُ النَّيْلِ الَّذِي، هُوَ عذر يوجب الضم
مسألة:
قال المزني رضي الله عنه: " وقال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالَّذِي أَنَا فِيهِ وَاقِفٌ الزَّكَاةُ فِي الْمَعْدِنِ وَالتَّبْرِ الْمَخْلُوقِ فِي الْأَرْضِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ أَصْلٌ فأولى به أن يجعله فائدةً وقد أخبرني عنه بذلك من أثق بقوله وهو القياس عندي وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اعْتِبَارُ الْحَوْلِ فِي زَكَاةِ الْمَعْدِنِ فَسَاقِطٌ لَا يُعْرَفُ، قَوْلُ الشَّافِعِيِّ اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ إِنَّهُ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ يَثِقُ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُنَا الْقَوْلُ بِهِ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ وَيَلْزَمُ الْمُزَنِيَّ الْقَوْلُ بِهِ، لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ إِنَّهُ فِيهِ وَاقِفٌ وَعِنْدَنَا، إِنَّ(3/338)
وُقُوفَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمِقْدَارِ لَا فِي الْحَوْلِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْحَوْلَ لَا يعتبر في المقادير قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ، فَلَمْ يُرَاعَ فِيهِ الحول كالزرع ولأن الحول إنما يعتبر كامل النَّمَاءِ وَهَذَا نَمَاءٌ فِي نَفْسِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ كَالسِّخَالِ وَأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا من خرج ما رواه المزني قولاً ثابتاً وَاعْتَبَرَ فِيهِ الْحَوْلَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وَإِسْحَاقَ بن راهويه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا تَتَكَرَّرُ زَكَاتُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ حَوْلُهُ كَالْمُسْتَفَادِ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ.
فَصْلٌ
: إِذَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى مَعْدِنٍ فأخذا منه معاً نصاباً، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ فِي غير المواشي على قوله في القدير فَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمَوَاشِي عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَعَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُمَا خَلِيطَانِ فِي نِصَابٍ.
فَصْلٌ
: إِذَا عَمِلَ الْمُكَاتَبُ فِي الْمَعْدِنِ وَاسْتَفَادَ مِنْهُ وَرِقًا أَوْ ذَهَبًا فَلَا زكاة عليه، وإن كان مَالِكًا لِمَا أَخَذَهُ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزكاة كالفيء والغنيمة، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ المكاتب ما لا فَيُؤْخَذَ خُمُسُهُ؟ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مَعْدِنًا أَوْ ركازاً فلا يؤخذ منا؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ لَا يَمْلِكُ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا وَيَمْلِكُ أَهْلُ الْخُمُسِ مَعَهُ خُمُسَهَا، وَفِي الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ يَمْلِكُ جَمِيعَهُ أَوَّلًا فَإِنْ كَانَ حُرًّا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ خُمُسُهُ بَعْدَ مِلْكِهِ، كَمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَاتَبًا لَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ خُمُسَهُ بَعْدَ مِلْكِهِ، كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ.
فَصْلٌ
: فأما الذمي فإنه يمنع من العمل كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ فَإِنْ عَمِلَ فيه بعد ملك ما أخذه، لم تلزمه زَكَاتُهُ، لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمَعْدِنِ كَمَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، فَهَلَّا كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ لِمَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَعْدِنِ، كَمَا كَانَ غَيْرَ مَالِكٍ لِمَا أَحْيَاهُ مِنَ الْمَوَاتِ.
قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنْ ضَرَرَ الْإِحْيَاءِ مؤبد فلم يملك به وَضَرَرُ عَمَلِهِ فِي الْمَعْدِنِ غَيْرُ مُؤَبَّدٍ فَمَلَكَ به كما يملك الصيد والماء العذب والله أعلم.(3/339)
باب في الزكاة وما تجب فيه وما تملك به
هَذَا بَابٌ أَغْفَلَ الْمُزَنِيُّ نَقْلَهُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سلمة وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ " أَمَّا الرِّكَازُ فَهُوَ: مَا دَفَنَهُ آدَمِيٌّ فِي أَرْضٍ فَعَثَرَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ. رَكَزْتُ الرُّمْحَ فِي الْأَرْضِ إِذَا غَرَسْتُهُ فَكُلُّ مَنْ وَجَدَ رِكَازًا فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مَوَاتًا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُحْيَاةً فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ مَوَاتًا، فَالرِّكَازُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أحدهما: أن يكون ذهباً أو ورقاً.
والثاني: أَنْ يَكُونَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ غَيْرَ ذَهَبٍ وَلَا وَرِقٍ، فَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ لُقَطَةً يُعَرِّفُهُ الْوَاجِدُ حَوْلًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ وَاجِدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الزَّكَاةِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ الرِّكَازُ نِصَابًا فَفِيهِ الْخُمُسُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَالْإِمْلَاءِ إَِنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ كَالْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمَعْدِنِ وَقَدْ حَكَى عَنْهُ فِي قَوْلٍ ثَانٍ: إِنَّ فِيهِ الْخُمُسَ، وَلَوْ كَانَ فَخَّارًا وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وأحد الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ " فَأَمَّا الْحَوْلُ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الرِّكَازِ، وَهُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْفَتْوَى فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعَادِنِ حَيْثُ اعتبر ثم الْحَوْلُ فِيهَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، قِيلَ: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَوْلُ كَالرِّكَازِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الْمُخَرَّجِ، أَنَّ الْمَعَادِنَ يَلْزَمُ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ مِنْهَا(3/340)
مُؤْنَةٌ فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْحَوْلُ رِفْقًا كَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، وَالرِّكَازُ نَمَاءٌ كَامِلٌ مِنْ غَيْرِ مُؤْنَةٍ لَازِمَةٍ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ كَالسِّخَالِ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ مُحْيَاةً، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ عَامِرَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ خَرَابًا فَإِنْ كَانَتْ عَامِرَةً، فَهُوَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مِلْكُ أربابها دون واجده، وإن كان خَرَابًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ جَاهِلِيَّةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ إِسْلَامِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةً عَادِيَّةً فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا وُجِدَ فِي الْمَوَاتِ يكون لواجده، كما أن من ضرب الجاهلية عليه الْخُمُسُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَبَلَغَ نِصَابًا وَإِنْ كَانَتْ إِسْلَامِيَّةً فَعَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْرَفَ أَرْبَابُهَا فَهُوَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا دُونَ وَاجِدِهِ كَالْعَامِرِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُعْرَفَ أَرْبَابُهَا فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْوَاجِدِ لِأَنَّ وُجُودَهُ فِي مِلْكِ مُسْلِمٍ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ مِلْكُ ذَلِكَ الْمُسْلِمِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ الْوَاجِدُ، وَإِنْ جُهِلَ مَالِكُهُ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ لُقَطَةً كَمَا كَانَ ضَرْبُ الْإِسْلَامِ لُقَطَةً قِيلَ ضَرْبُ الْإِسْلَامِ، وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ فَكَانَ لُقَطَةً وَهَذَا وُجِدَ فِي مِلْكٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لُقَطَةً لِأَنَّهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْمِلْكِ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْسِيمِ تشهد به أصول.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا غَيْرُ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، إِذَا وُجِدَ فِيهَا رِكَازٌ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الْعَهْدِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْعَهْدِ فَحُكْمُ مَا وُجِدَ فِيهَا مِنَ الرِّكَازِ كَحُكْمِ مَا وُجِدَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تُوجَدَ فِي مَوَاتِهِمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِي عَامِرِهِمْ فَإِنْ وُجِدَ فِي مَوَاتِهِمْ فَهُوَ رِكَازٌ يُؤْخَذُ خُمُسُهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ رِكَازًا وَلَا يُؤْخَذُ خُمُسُهُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ " وَإِنْ وُجِدَ فِي عَامِرِهِمْ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ يُؤْخَذُ خُمُسُهَا، وَلَا يَكُونُ رِكَازًا وَقَالَ أبو حنيفة يَكُونُ غَنِيمَةً، كَقَوْلِنَا لَكِنْ لَا يُؤْخَذُ خُمُسُهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَا غُنِمَ فِي وَجْهِ الْخُفْيَةِ مِنْ غَيْرِ إِمَامٍ لَمْ يُخَمَّسْ.(3/341)
وَقَالَ أبو يوسف، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَكُونُ رِكَازًا كَمَا لَوْ وُجِدَ فِي مَوَاتِهِمْ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ مَا وُجِدَ فِي مَوَاتِهِمْ، رِكَازٌ لِلْجَهْلِ بِمُلَّاكِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا وُجِدَ في عامرهم ركاز المعرفة مُلَّاكِهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا مَنْ مَلَكَ دَارًا فَوَجَدَ فِيهَا رِكَازًا فَهُوَ لَهُ إِنِ ادَّعَاهُ، لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ، فَهُوَ لِمَنْ مَلَكَ الدَّارَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهَا بِمِيرَاثٍ، فَهُوَ مِلْكٌ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ مِنْهُ بِقَدْرِ إِرْثِهِ إِنِ ادَّعَاهُ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْ وَرَثَتِهِ إِنِ ادَّعَوْهُ، وَإِنْ أَنْكَرُوهُ فَهُوَ لِمَنْ مَلَكَ الْمَوْرُوثَ الدَّارَ عَنْهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا أو لورثته إِنْ كَانَ مَيِّتًا، فَإِنْ أَنْكَرُوهُ فَهُوَ لِمَنْ مَلَكُوا الدَّارَ عَنْهُ، هَكَذَا أَبَدًا وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهَا بِابْتِيَاعٍ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، إِنِ ادَّعَاهُ وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ لِمَنِ ابْتَاعَ الْبَائِعَ الدَّارَ عَنْهُ، إِنِ ادَّعَاهُ ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا مَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَوَجَدَ فِيهَا رِكَازًا فَإِنِ ادَّعَاهُ مِلْكًا فَهُوَ لَهُ، لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ رِكَازٌ وَجَدَهُ فَهُوَ لِمَالِكِ الدَّارِ، إِنِ ادَّعَاهُ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنِ اخْتَلَفَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالْمَالِكُ الْمُؤْجِرُ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ مِلْكِي كَنْتُ دَفَنْتُهُ فِي الدَّارِ، وَقَالَ الْمَالِكُ بَلْ كَانَ رِكَازًا وَجَدْتُهُ فِيهَا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَهُوَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي يديه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا مَنْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ أَرْضًا فَظَهَرَ فِيهَا رِكَازٌ فَهُوَ لِمُقْطَعِ الأرض سواء كان هذا من الْوَاجِدُ أَوْ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَرْضَ بِالْإِقْطَاعِ كما يملكها بالابتياع، وكذا من أحيى أَرْضًا مَوَاتًا فَظَهَرَ فِيهَا رِكَازٌ فَهُوَ لِمُحْيِي الأرض سواء كان هو الواجد أو غيره، لأنها ملك فَهَذَا الْكَلَامُ فِي اخْتِلَافِ الرِّكَازِ وَمَوَاضِعِهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا اخْتِلَافُ حَالِ الْوَاجِدِ، فَهُوَ لِكُلِّ مَنْ وَجَدَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ بَالِغٍ أَوْ غَيْرِ بَالِغٍ عَاقِلٍ، أَوْ مَجْنُونٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، أَوْ غَيْرِ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لَا يَمْلِكُ الرِّكَازَ إِلَّا رَجُلٌ عَاقِلٌ فَأَمَّا المرأة أو الصبي أو المجنون، فَلَا يَمْلِكُونَهُ وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الرِّكَازَ كَسْبٌ لِوَاجِدِهِ كَاكْتِسَابِهِ بِالِاصْطِيَادِ وَغَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي تَمَلُّكِهِ الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ كَمَا يَسْتُوُونَ فِي الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ، وَإِذَا مَلَكُوهُ فَعَلَيْهِمْ خُمُسُهُ لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا وَجَدَ رِكَازًا فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كَسْبِهِ وَعَلَى السَّيِّدِ إِخْرَاجُ خُمُسِهِ، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، أن الإمام يرضخ للعبد فيه وَلَا يُعْطِيهِ كُلَّهُ وَمَا ذَكَرْنَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ كسب كالاصطياد وكذا المدبر، والمعتق بصفقه، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ إِذَا وَجَدَ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ دون سيده لأنه أملك لكسب نفسه، فلا زكاة عليه ولأنه ممن لا يلزمه زكاة ماله.(3/342)
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْكَافِرُ إِذَا وَجَدَ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمَعَادِنِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ الْكَافِرُ لَا يَمْلِكُ الرِّكَازَ، وَلَا الْمَعْدِنَ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْإِحْيَاءَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مَعَ أَنَّ تَمَلُّكَهُ لِلرِّكَازِ أَقْوَى لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ خِلْسَةً.
فَصْلٌ
: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّكَازَ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَاجِدُهُ مَا جَمَعَ وَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ مَشْهُورٌ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الصُّوَرِ وَأَمَّا مَا كَانَ مَنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ رِكَازًا فَلَوِ اشْتَبَهَ ضَرْبُ الْجَاهِلِيَّةِ وضرب الإسلام أو كانت يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جَاهِلِيَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِسْلَامِيَّةً فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وهو قول البصريين تكون ركازاً، وحكوه عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ طَارِئٌ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إِلَّا بِيَقِينٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَكُونُ لُقَطَةً وَلَا يَكُونُ رِكَازًا وَحَكَوْهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يُسْتَبَاحُ، إِلَّا بِيَقِينٍ فَهَذَا أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ.
وَالْوَصْفُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَدْفُونًا فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا غَيْرَ مَدْفُونٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ السَّيْلَ قَدْ أَظْهَرَهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مَجْرَى السَّيْلِ، أَوْ كَانَ عَلَى شَفِيرِ وَادٍ فَهَذَا رِكَازٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُظْهِرَهُ السَّيْلُ، فَهَذَا لُقَطَةٌ وَلَا يَكُونُ رِكَازًا فَلَوْ شك هل أظهره السيل أم لا؟ كمن شَكَّ هَلْ هُوَ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَمْ لَا فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ رِكَازًا.
وَالثَّانِي: لُقَطَةً.
فَصْلٌ
: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ فِي الرِّكَازِ عَلَى الصَّحِيحِ، مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ يَقَعُ التَّفْرِيعُ فِي الْمَسَائِلِ، فَإِذَا كَانَ الرِّكَازُ نِصَابًا، وَكَانَ وَاجِدُهُ حُرًّا مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ خُمُسِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ فَلَا يخل حَالُ وَاجِدِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَمْلِكَ تَمَامَ النِّصَابِ.
أَوْ لَا يَمْلِكَ فَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ تَمَامَ النِّصَابِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فِي هَذَا الرِّكَازِ وَإِنْ مَلَكَ تَمَامَ النِّصَابِ فعلى ثلاثة أقسام:(3/343)
أحدهما: أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى ما كان بيده كأن كَانَ يَمْلِكُ مِائَةَ دِرْهَمٍ قَدْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ بِأَنِ اشْتَرَى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ سِلْعَةً لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ حَالَ حَوْلُهَا وَوَجَدَ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا حِينَ حَالَ الْحَوْلُ فَهَذَا يَضُمُّ الرِّكَازَ إِلَى ما كان بيده ويزكيها فَيُخْرِجُ مِنَ الرِّكَازِ الْخُمُسَ، وَمِمَّا كَانَ بِيَدِهِ رُبْعَ الْعُشْرِ لِأَنَّ الرِّكَازَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى حَوْلٍ، وَمَا كَانَ بِيَدِهِ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَقَدْ بَلَغَا نِصَابًا فَصَارَ تَقْدِيرُهُمَا تَقْدِيرَ نِصَابٍ حَالَ حَوْلُهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ عَلَى الْمِائَةِ الَّتِي بِيَدِهِ، فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الرِّكَازِ وَيَضُمُّهُ إِلَى الْمِائَةِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِهِ، وَيَسْتَقْبِلُ بِهِمَا الْحَوْلَ لِأَنَّهُمَا تَمَّا نِصَابًا فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ مِنْهَا الزَّكَاةَ رُبْعَ الْعُشْرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ بَعْدَ حَوْلِ الْمِائَةِ فَهَذَا حُكْمُ مَنْ مَعَهُ عَرَضٌ لِلتِّجَارَةِ حَالَ حَوْلُهُ، وَقِيمَتُهُ دُونَ النِّصَابِ ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ ثُمَّ بَلَغَتْ نِصَابًا فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَصَحُّهُمَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيَسْتَأْنِفُ لَهُمَا الحول من حين تما نصاباً، فإن حَالَ حَوْلُهُمَا أَخْرَجَ زَكَاتَهُمَا رُبْعَ الْعُشْرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَوُجُودِهِ عِنْدَ الْحَوْلِ فَيَضُمَّهُمَا وَيُخْرِجَ مِنَ الرِّكَازِ الْخُمُسَ، وَمِمَّا كَانَ بِيَدِهِ ربع العشر فلو وجد ماية دِرْهَمٍ رِكَازًا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا، ثُمَّ وَجَدَ بَعْدَ يَوْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الأم ويستأنف لها الْحَوْلَ مِنْ حِينِ وَجَدَ الْمِائَةَ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ زَكَاتَهَا رُبْعَ الْعُشْرِ.
فَصْلٌ
: إِذَا وَجَدَ رَجُلٌ رِكَازًا فَأَخْرَجَ خُمُسَهَ ثُمَّ أقام رجل البينة أنه ملكه فللمقيم الْبَيِّنَةَ اسْتِرْجَاعُ الرِّكَازِ مِنْ وَاجِدِهِ مَعَ مَا أَخْرَجَهُ الْوَاجِدُ مِنْ خُمُسِهِ، وَلِلْوَاجِدِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْخُمُسِ عَلَى الْوَالِي إِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَلِلْوَالِي أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ كَانَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِ الْوَالِي بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ضمنه في مال الزكاة وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ بِتَفْرِيطٍ أَوْ خِيَانَةٍ ضَمِنَهُ فِي مَالِهِ.
فَصْلٌ
: الْخُمُسُ الْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ، وَمَا يَجِبُ فِي الْمَعَادِنِ يُصْرَفُ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُصْرَفَانِ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَالْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.(3/344)
وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ: حَقُّ الْمَعَادِنِ يُصْرَفُ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَخُمُسُ الرِّكَازِ يُصْرَفُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ، لِأَنَّهُ واصل من جهة مشرك والدلالة عليهم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " وَحَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ وَقَدْ مَضَى وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَعْدِنِ، وَالرِّكَازِ بِوَاجِدِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو وجد مُكَاتَبٌ أَوْ ذَمِّيٌّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ الِاعْتِبَارُ بِوَاجِدِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يصرف مصرف الفيء، لأن واجده مسلم وأوجب أَنْ يُصْرَفَ خُمُسُهُ مَصْرِفَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُ وَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ مُشْرِكٍ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَاجِدُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، لِيُصْرَفَ فِي أَهْلِ الفيء والغنيمة ولوجب التَّوَقُّفُ عَنْ تَمَلُّكِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَلَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ، وَفِيمَا ذكرنا بطلان ما اعتبروه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(3/345)
بَابُ مَا يَقُولُ الْمُصَدِّقُ إِذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ لمن يأخذها منه
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {خُذْ مِنْ أمْوِالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيِْهِمْ إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) {التوبة: 103) (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَالصَلَاةُ عَلَيْهِمُ الدُّعَاءُ لَهُمْ عِنْدَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ فَحَقٌّ عَلَى الْوَالِي إِذَا أَخَذَ صَدَقَةَ امرئٍ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ وَأُحِبُّ أَنْ يَقُولَ " آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَجَعَلَهُ طهوراً لك وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح.
يختار الوالي الصَّدَقَاتِ أَنْ يَدْعُوَ لِأَرْبَابِهَا إِذَا أَخَذَهَا مِنْهُمْ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ {سَكَنٌ لَهُمْ) {التوبة: 103) مَعْنَاهُ وَادْعُ لهم إن دعوتك سكن لهم وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَدَقَاتِ قَوْمِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ لي فقال الله صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ وَشَكَرَهُمْ وَذَمَّ أَهْلَ الْجِزْيَةِ وَأَغْلَظَ لَهُمُ فَوَجَبَ أَنْ يُتَأَسَّى بِأَفْعَالِهِ فِي الْفَرِيقَيْنِ لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا أُخِذَ مِنَ الزَّكَاةِ طَهُورًا، وَبَيْنَ مَا أُخِذَ مِنَ الْجِزْيَةِ صَغَارًا وَإِذَا كَانَ هَذَا وَاضِحًا فَقَدْ حُكِيَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْوَالِي الدُّعَاءَ لِرَبِّ الْمَالِ عِنْدَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُ، احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ الدُّعَاءَ لَهُ أَمْ لَا، وَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَسَلْ رَبُّ الْمَالِ الدُّعَاءَ لَهُ فَلَيْسَ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ مُؤَدٍّ لِعِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَى غَيْرِهِ الدُّعَاءَ لَهُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَأَمَّا إِذَا سَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ الدُّعَاءَ لَهُ فَفِي وُجُوبِهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يُسْتَحَبُّ، وَلَا يَجِبُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَاجِبٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَمْرِ فِي الْآيَةِ.
فَصْلٌ
: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ الْوَالِي، لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ آجَرَكَ اللَّهُ فما أعطيت، وجعله لك طهور أو بارك لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ، وَلَوْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عليهم(3/346)
لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، وَنَصُّ السُّنَّةِ، وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الصَّلَاةُ من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ الدُّعَاءُ وَقَالَ كَثِيرٌ:
(صَلَّى عَلَى غرة الرَّحْمَنُ وَابْنَتِهَا لَيْلَى ... وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِهَا الْأُخَرِ)
قال الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ كَانَ طَاوُسٌ وَالِيًا عَلَى صَدَقَاتِ بَعْضِ الْبِلَادِ فَكَانَ يَقُولُ أَدُّوا زَكَاتَكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا فَإِذَا دَفَعُوهَا إِلَيْهِ فَرَّقَهَا عَلَى مَسَاكِينِهِمْ، وَمَنْ وَلَّى مِنْهُمْ لَمْ يَقُلْ لَهُ هَلُمَّ، وَلَا ارْجِعْ وَيَنْبَغِي لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنْ يُؤَدُّوا زَكَوَاتِ أَمْوَالِهِمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُهُمْ، كَمَا وَرَدَ الْخَبَرُ وَلَا يُدَافِعُوا الْوَالِيَ بِهَا إِذَا كَانَ عَدْلًا فَيُحْوِجُوهُ إِلَى الغلظة في أخذها، والخروج عما وصفت لَهُ مِنَ الْمُوَاسَاةِ بِهَا، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا أَتَاكُمْ فَلَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عن رضاً ".(3/347)
باب من تلزمه زكاة الفطر
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نافعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِنَ المسلمين وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حديث آخر قال " " من تَمُونُونَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ زَكَاةُ الفطر وزكاة الفطر، فَمَنْ قَالَ زَكَاةُ الْفِطْرِ أَوْجَبَهَا بِدُخُولِ الْفِطْرِ ومن قال زكاة الفطر، فأوجبها عَلَى الْفِطْرَةِ، وَالْفِطْرَةُ الْخِلْقَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِطْرَة اللهِ الّتِي فَطَرَ النَّاسُ عَلَيْهَا) {الروم: 30) أَيْ: خِلْقَتَهُ الَّتِي جَبَلَ النَّاسَ عَلَيْهَا وَهِيَ وَاجِبَةٌ إِجْمَاعًا.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ وَجَبَتِ ابْتِدَاءً بِمَا وَجَبَتْ بِهِ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ أَوْ وَجَبَتْ بِغَيْرِهِ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالظَّوَاهِرِ الَّتِي وَجَبَتْ بِهَا زَكَوَاتُ الْأَمْوَالِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِعُمُومِهَا فِي الزَّكَاتَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّهَا وَجَبَتْ بِغَيْرِ مَا وَجَبَتْ بِهِ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ وَأَنَّ وُجُوبَهَا أَسْبَقُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّهُ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بزكاة الفطر قبل نزول آية الزكاة فَلَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الزَّكَاةِ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ وَجَبَتْ بِالسُّنَّةِ، أَوْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَبْنِيَّةً عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتْ بِالسُّنَّةِ لِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فَعَلَى هَذَا الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صاعاً من(3/348)
تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ عَلَى كُلِّ حر وعبدٍ ذكرٍ وأنثى من المسلمين. وروي جعفر بن محمد عن آبائه وَزَادَ فِيهِ " مِمَّنْ تَمُونُونَ " وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ " فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَكَاةَ الْفِطْرِ طهرةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ الرَّفَثِ وَاللَّغْوِ وطعمةٌ لِلْمَسَاكِينِ مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زكاةٌ مقبولةٌ ومن أداها بعد الصلاة بهي صدقةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ حِينَ أَوْجَبَهَا أَمَّا الْغَنِيُّ فَيُزَكِّيهِ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَيُعْطِيهِ اللَّهُ أفضل ما أَعْطَى.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَجَبَتْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَإِنَّمَا الْبَيَانُ مَأْخُوذٌ مِنَ السُّنَّةِ كَمَا أُخِذَ مِنْهَا بَيَانُ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّيَاتِ، وَمَنْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَهَا فَمَعْنَاهُ قَدَّرَهَا كَمَا قَالَ فِي زَكَوَاتِ الْإِبِلِ: هَذِهِ " فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بِمَعْنَى قَدَّرَهَا، لِأَنَّ فَرْضَ زَكَاتِهَا بِالْآيَةِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا بِأَيِّ آيَةٍ وَجَبَتْ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 14، 15) .
وَالثَّانِي: بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) {البينة: 5) .
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَهِيَ فَرْضٌ كَزَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ وَقَالَ أبو حنيفة: هِيَ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ فَرْضًا كَالْوِتْرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ وَهَذَا الْخِلَافُ(3/349)
إِذَا قُدِّرَ كَانَ كَلَامًا فِي الْعِبَارَةِ، وِفَاقًا فِي الْمَعْنَى وَالْخِلَافُ فِي الْعِبَارَةِ مَعَ الْوِفَاقِ فِي الْمَعْنَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَرْضُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَإِنْ قِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ فَرَضَهَا أَيْ قَدَّرَهَا كَمَا يُقَالُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا قُلْنَا مَا تَقَدَّمَ مِنِ اختلاف أصحابنا في ظهور وجوبها يقسط هَذَا الِاعْتِرَاضَ ثُمَّ لَوْ لَزِمَ لَكَانَ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ فِي اللُّغَةِ وَعِبَارَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ فِي الشَّرْعِ وَحَمْلُهُ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ أولى.(3/350)
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُ فَرَضَهَا عَلَى النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ لَقِيلَ فَرَضَ مَا عَلَى النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ لَصَحَّ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ وَجَبَتْ فَافْتُرِضَتْ كَزَكَاةِ الْمَالِ وَلِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ اتَّصَفَتْ بِهَا زَكَاةُ الْمَالِ اتَّصَفَتْ بِهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْوُجُوبِ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فلم يفرضها إلا على المسلمين فالعبيد لا مال لهم وإنما فرضهم عَلَى سَيِّدِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
كُلُّ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا حُرًّا فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِذَا وَجَدَهَا بَعْدَ قُوتِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا، أَوْ مَجْنُونًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، وَحُكِيَ عَنِ الحسن البصري وسيعد بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ صَلَّى وَصَامَ وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى مَنْ أَطَاقَ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَبِمَذْهَبِنَا قَالَ سَائِرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجَمِيعُ الْفُقَهَاءِ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَأَمَّا الْمُشْرِكُ فلا زكاة عليه، إجماعاً فأما الْعَبْدُ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى سَيِّدِهِ.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ هِيَ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ سَيِّدِهِ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض زكاة الفطر في رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَهَا عَلَى الْعَبْدِ كَمَا فَرَضَهَا عَلَى الْحُرِّ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى سَيِّدِهِ، رِوَايَةُ عِرَاكِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هريرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صدقةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَأَثْبَتَ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةَ فِطْرِهِ نَصًّا.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ كُنَّا نُؤَدِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وأنثى صاعاً من طعام الحدث فَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا هَلْ وَجَبَتْ زَكَاةُ فطره ابتداء على سيده أو وجبت ابْتِدَاءً ثُمَّ يَحْمِلُهَا سَيِّدُهُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى سَيِّدِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ (لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ) فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ فَرَضَهَا عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ، فَمَعْنَاهُ عَنْ كل حر وعن كل عبد وقد يقوم عَلَى فِي اللُّغَةِ مَقَامَ عَنْ قَالَ الشَّاعِرُ:(3/351)
{إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا}
أَيْ: إِذَا رَضِيَتْ عَنِّي.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ السَّيِّدَ يَحْمِلُهَا عَنْ عَبْدِهِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ كُنَّا نُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَعَلَى هَذَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْعَبْدِ وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ دَالٌّ عَلَى تَحَمُّلِ السَّيِّدِ فَلَا يَتَنَافَيَانِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقُ نِصْفُهُ فَكَالْعَبْدِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِبَقَاءِ رِقِّهِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ لِنُقْصَانِ مِلْكِهِ وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الْقَدِيمِ أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنْ نَقَصَ تَصَرُّفُهُ كَالْآبِقِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فهم وَالْمَرْأَةُ مِمَنْ يَمُونُونَ فَكُلُّ مَنْ لَزِمَتْهُ مُؤْنَةُ أحدٍ حتى لا يكون لها تَرْكُهَا أَدَّى زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُ وَذَلِكَ مَنْ أجبرناه على نفقته من لده الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ الزَّمْنَى الْفُقَرَاءِ وَآبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ الزَّمْنَى الفقراء وزوجته وخادم لها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وَهُمْ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ: لَزِمَتْ نَفَقَاتُهُمْ بِأَنْسَابٍ.
وَضَرْبٌ: لَزِمَتْ نَفَقَاتُهُمْ بِأَسْبَابٍ فَأَمَّا ذرو الأنساب فضربان والدون ومولودون، فَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَالْأُمَّهَاتُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَلَهُمْ حَالَانِ حَالُ فَقْرٍ وَحَالُ غِنًى، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَنَفَقَاتُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَكَذَلِكَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَلَهُمْ حَالَانِ حَالُ صِحَّةٍ وَحَالُ زَمَانَةٍ، فَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ زَمْنَى فَنَفَقَاتُهُمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَاجِبَةٌ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ.
وَقَالَ أبو حنيفة تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ دون زكاة فطرهم، وإن كان فُقَرَاءَ أَصِحَّاءَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعَ فِيهِمُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا الْفَقْرُ وَالزَّمَانَةُ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُ قَوْلًا ثَانِيًا، أَنَّ نَفَقَاتِهِمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَاجِبَةٌ بِالْفَقْرِ دُونَ الزَّمَانَةِ فقال أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُطْلَقُ مِنْ كَلَامِهِ(3/352)
مَحْمُولًا عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي خِطَابِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فتكون المسألة على قول واحد أنه لَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا زَمْنَى ويحتمل أن يجعل هذا له قولاً ثانياً فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَلِلْكَلَامِ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ فِي كِتَابِ النَّفَقَاتِ، هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَمَّا الْمَوْلُودُونَ فَهُمُ الْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ، وسواهم وَإِنْ سَفُلُوا وَهُمْ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَغْنِيَاءُ وَالْآخَرُ فُقَرَاءُ، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ فَنَفَقَاتُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَكَذَلِكَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْجِزُوا عَنْ مَنَافِعِ أَنْفُسِهِمْ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ زَمَانَةٍ فَعَلَى الْوَالِدِ، وَإِنْ عَلَا نَفَقَاتُهُمْ.
وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانُوا كِبَارًا فَعَلَى الْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا نَفَقَاتُهُمْ دُونَ زَكَاةِ فِطْرِهِمْ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فَعَلَى الْوَالِدِ إِنْ كَانَ أَبًا نَفَقَاتُهُمْ وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جَدًّا فَعَلَيْهِ نَفَقَاتُهُمْ دُونَ فِطْرِهِمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا كِبَارًا أَصِحَّاءَ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ مَنَافِعِ أَنْفُسِهِمْ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَى الْوَالِدِ نَفَقَاتُهُمْ وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْآبَاءِ هَلْ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ فِي الْأَبْنَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ عَلَى ضَعْفِهِ وَوَهَائِهِ فَيُخَرَّجُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَانٍ: أنَّ نَفَقَاتِهِمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَاجِبَةٌ بِمُجَرَّدِ الْفَقْرِ دُونَ الزَّمَانَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَخْرِيجَهُ فِي الْأَبْنَاءِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْآبَاءِ أَوْكَدُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَبْنَاءِ وَوَجْهُ تَأْكِيدِهَا أَنَّ إِعْفَافَ الْأَبِ وَاجِبٌ، وَإِعْفَافَ الِابْنِ عَلَى أَبِيهِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَلَمَّا تأكدت نفقات الأناء جَازَ أَنْ تَلْزَمَ بِالْفَقْرِ دُونَ الزَّمَانَةِ وَلَمَّا ضَعُفَتْ نَفَقَاتُ الْأَبْنَاءِ لَمْ تَلْزَمْ بِمُجَرَّدِ الْفَقْرِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ صِغَرٌ، أَوْ زَمَانَةٌ فَأَمَّا أبو حنيفة فَإِنَّهُ وَافَقَنَا فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وخالفنا في زكاة الفطر على ما بيناه وكان من عليه زكاة الفطر إن اعْتَبَرَهَا بِالْوِلَايَةِ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَى الِابْنِ فِطْرَةَ أَبِيهِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَبِيهِ، وَأَوْجَبَ عَلَى الْأَبِ فِطْرَةَ صِغَارِ وَلَدِهِ دُونَ كِبَارِهِمْ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى صِغَارِهِمْ دُونَ كِبَارِهِمْ، ثم ناقض عليه فِي الْجَدِّ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَةَ ابْنِ ابْنِهِ دُونَ فِطْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا مَعَ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَعِلَّتُنَا فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِمَّنْ تَمُونُونَ) رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلًا وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مُتَّصِلًا وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ (ممن تمونون)(3/353)
فَاعْتَبَرَ الْفِطْرَةَ بِالْمُؤْنَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا بِالْوِلَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ أبو حنيفة فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنَ الْأُخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، فَلَا تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَأَوْجَبَ أبو حنيفة نَفَقَةَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، وَلَمْ يُوجِبْ زَكَاةَ فِطْرِهِ وسيأتي الكلام معه من ذلك إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا ذَوُو الْأَسْبَابِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَمْلُوكُونَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَقَدْ مضى الكلام فيه:
والضرب الثاني: الزوجان فَعَلَى الزَّوْجِ عِنْدَنَا زَكَاةُ فِطْرِهِنَّ سَوَاءٌ كُنَّ أَيْسَارًا أَوْ أَعْسَارًا.
وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُنَّ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي أَمْوَالِهِنَّ احْتِجَاجًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، الْخَبَرَ إِلَى أَنْ قَالَ (ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى من المسلمين) وكان عُمُومُ هَذَا مُتَنَاوِلًا لِلزَّوْجَاتِ كَمَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْأَزْوَاجِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ ماله وجبت عليه فِطْرُهُ كَالزَّوْجِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِطْرَةُ رَقِيقِهِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِطْرَةُ نَفْسِهِ كَالْخَلِيَّةِ غير ذات الزوج، ولأنه حق لله تَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُتَحَمَّلَ بالزوجة كالزكوات والكفارات، ولأن النكاح عقد مستباح بِهِ الْمَنْفَعَةُ فَلَمْ تَجِبْ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْمُسْتَأْجَرَةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا، حَدِيثُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرض صدقة الفطر على كل حر مسلم وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِمَّنْ تَمُونُونَ، وَالزَّوْجُ مِمَّنْ يُلْزَمُ مُؤْنَتَهَا فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ زَكَاةَ فِطْرِهَا وروي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ (أَدُّوا زَكَاةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ) .
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ " فَرَضَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمَنْ يَمُونُونَ مِنِ امرأةٍ أَوْ ولدٍ أَوْ مملوكٍ أَوْ صغيرٍ أَوْ كبيرٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ) وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَقَدْ جَاءَ بِمَا يُوَافِقُ الْمُتَّصِلَ فَقَبِلْنَاهُ وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ تَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ جَازَ أَنْ تَجِبَ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَالْمِلْكِ وَالنَّسَبِ وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ يُتَحَمَّلُ بِالنَّسَبِ جَازَ أَنْ يُتَحَمَّلَ بِالزَّوْجِيَّةِ كَالنَّفَقَةِ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الطُّهْرَةِ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ شَخْصٍ مِنْ أَهْلِ الطهرة، فوجب أن يلزمه فطره مَعَ الْقُدْرَةِ كَعَبِيدِهِ وَصِغَارِ وَلَدِهِ، فَإِنْ قَالُوا هذا باطل بالعبد والمكاتب عليها نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ دُونَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، قُلْنَا: إِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا بِالرِّقِّ قَدْ عَدِمَا الْقُدْرَةَ فَإِنْ قَالُوا: فَهَذَا يَبْطُلُ بِالْمُضْطَرِّ فَإِنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ قِيلَ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَفَقَتَهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَإِنَّمَا لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ يُعْطَاهُ بِالْحَاجَةِ، لِأَنَّ بَاقِيَ بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ الْمَصْلَحَةِ مَصْرُوفٌ فِي الْحَاجَةِ، فَلَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهُ وَاجِبَةً.(3/354)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَفَقَةً، فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَعَلَى الْإِمَامِ إِخْرَاجُهَا كَمَا وَجَبَتْ نفقة اليتيم من ماله ووجب على وليه إخراجها فإما احتجاجهم بحدث ابْنِ عُمَرَ فَجَوَابُنَا لَهُمْ فِي الزَّوْجَةِ كَجَوَابِنَا لِدَاوُدَ فِي الْعَبْدِ، وَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّوْجِ، وَعَلَى الْخَلِيَّةِ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الزَّوْجِ فِي مَالِهِ، وَنَفَقَةُ غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ فِي مَالِهَا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَبَعًا لَهَا، وَلَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَبَعًا لَهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَوَاتِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَحَمَّلْ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ لَمْ يَتَحَمَّلْ بِالزَّوْجِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ تُتَحَمَّلُ بِالنَّسَبِ وَالْمِلْكِ جَازَ أَنْ تُتَحَمَّلَ بِالزَّوْجِيَّةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسْتَأْجَرَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ نَفَقَتَهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ فِطْرِهَا، وَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ وَاجِبَةً، كَانَتْ زَكَاةُ فِطْرِهَا وَاجِبَةً.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ زَكَاةَ فِطْرِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنها وجبت عليه ابْتِدَاءِ وُجُوبِ حَوَالَةٍ فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ الزوج معسراً، وهي معسرة لم يلزمها إخراج الزكاة عَنْ نَفْسِهَا، لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا ولم يلزم الزوج إخراجها عَنْهَا، لِأَنَّ إِعْسَارَهُ بِهَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهَا.
والوجه الثاني: أنها وجبت ابتداء على الزوج ثُمَّ يَحْمِلُهَا الزَّوْجُ تَحَمُّلَ ضَمَانٍ فَعَلَى هَذَا وهو في الزوج أظهر منه فِي الْعَبْدِ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا، وَهِيَ مُوسِرَةٌ وَجَبَ عَلَيْهَا إِخْرَاجُ الْفِطْرَةِ عَنْ نَفْسِهَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْهَا، وَالزَّوْجُ بِإِعْسَارِهِ لَا يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ عَنْهَا فَإِنْ أَيْسَرَ الزَّوْجُ فِي ثَانِي حَالٍ رَجَعَتْ بِذَلِكَ عَلَيْهِ، كَمَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ بَعْدَ يَسَارِهِ، فَلَوْ نَشَزَتْ عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَ إِهْلَالِ شَوَّالٍ لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَتُهَا وَلَا زَكَاةُ فِطْرِهَا، لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تَابِعَةٌ لَهَا فِي الْوُجُوبِ وَالسُّقُوطِ، وَيَلْزَمُهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهَا إِنْ كَانَتْ وَاجِدَةً.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَضَرْبَانِ: رَجْعِيَّةٌ وَبَائِنَةٌ فَالرَّجْعِيَّةُ لَهَا النَّفَقَةُ فِي عِدَّتِهَا، وَعَلَى الزوج زكاة فطرها فأما الباين فَلَهَا حَالَانِ حَامِلٌ وَحَائِلٌ، فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجُ لَهَا زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ وَهَلْ عَلَى الزَّوْجِ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي نَفَقَةِ الْحَامِلِ هَلْ وَجَبَتْ لَهَا أَوْ لِحَمْلِهَا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ النَّفَقَةَ وَجَبَتْ لَهَا فَعَلَى الزَّوْجِ زَكَاةُ فِطْرِهَا تَبَعًا لِلنَّفَقَةِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِحَمْلِهَا لَمْ يَلْزَمِ الزَّوْجُ زَكَاةَ فِطْرِهَا لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ لَهَا، وَالْحَمْلُ لَا يُزَكَّى عَنْهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا خَادِمُ الزَّوْجَةِ فَمُعْتَبَرَةٌ بِحَالِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يُخْدَمُ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ(3/355)
لِتَبَذُّلِهَا فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ إِخْدَامُهَا، وَلَا الْإِنْفَاقُ على خادمها، فإن كان لها خادم فعليه نَفَقَتُهُ وَزَكَاةُ فِطْرِهِ دُونَ الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا فِي الْغَالِبِ لِصِيَانَتِهَا وَعُلُوِّ قَدْرِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْدَامُهَا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بَيْنَ أَنْ يَبْتَاعَ لَهَا خَادِمًا، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهَا خَادِمًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهَا خَادِمٌ فَيَلْتَزِمُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَخْدِمَهَا بِنَفْسِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهَا مُطَالَبَتُهُ بِإِخْدَامِ غَيْرِهِ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْخِدْمَةِ لَا فِي أَعْيَانِ الْخَدَمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي لَيْسَ لِلزَّوْجِ ذَلِكَ وَلَهَا مُطَالَبَتُهُ بِخَادِمٍ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي خِدْمَةِ الزَّوْجِ لَهَا نَقْصًا دَاخِلًا عَلَيْهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَحْتَشِمُ فِي الْعَادَةِ مِنِ اسْتِخْدَامِهِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْإِضْرَارِ بِهَا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ نُظِرَ فَإِنِ ابْتَاعَ لَهَا خادماً لزمه نَفَقَتُهُ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ، وَإِنِ اسْتَأْجَرَ لَهَا خَادِمًا لَمْ يَلْزَمْهُ نَفَقَتُهُ، وَلَا زَكَاةُ فطره، وعليه دفع أجرته، وإن أَنْفَقَ عَلَى خَادِمِهَا فَذَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ آخَرُ غَيْرُهُ فَعَلَيْهَا نَفَقَتُهُ وَفِطْرَتُهُ دُونَ الزَّوْجِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا نَفَقَةُ خادم واحد.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُؤَدِّي عَنْ عَبِيدِهِ الْحُضُورِ وَالْغُيَّبِ وَإِنْ لَمْ يَرْجُ رَجْعَتَهُمْ إِذَا عَلِمَ حَيَاتَهُمْ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حياتهم واحتج في ذلك بابن عمر بأنه كان يؤدي عن غلمانه بوادي القرى (قال المزني) وهذا من قوله أولى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا عَبِيدُهُ الْحُضُورُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلَيْهِ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَأَمَّا عَبِيدُهُ الْغُيَّبُ فَلَهُمْ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ حَيَاتَهُمْ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ يَعْرِفُ مَكَانَهُمْ وَيَرْجُو رَجْعَتَهُمْ أَمْ لَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ إِذَا أَبِقُوا لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ مَالِهِ الْغَائِبِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّي عَنْ غِلْمَانِهِ بِوَادِي القرى،(3/356)
وَلِأَنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ تَجِبُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ لَا لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ بِدَلِيلِ، أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ زَمِنًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِ فَأَمَّا الْمَالُ الْغَائِبُ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وبين العبد مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِمْكَانَ التَّصَرُّفِ شَرْطٌ فِي زَكَاةِ الْمَالِ فَلَمْ يَجِبْ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ، إِذَا كَانَ غَائِبًا لِعَدَمِ التَّصَرُّفِ، وَلَيْسَ إِمْكَانُ التَّصَرُّفِ شَرْطًا فِي فِطْرَةِ الْعَبْدِ فَلَزِمَ إِخْرَاجُ فِطْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ إِخْرَاجُ قَدْرٍ مِنْهُ فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ لَمْ تَجِبْ وَلَيْسَ فِطْرَةُ الْعَبْدِ مِنْهُ فَجَازَ، إِنْ لَمْ يَحْضُرْ أن تجب.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تُعْلَمَ حَيَاتُهُمْ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا إِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُمُ الزَّكَاةَ وَإِنْ لَمْ يَرْجُ رَجْعَتَهُمْ إِذَا عَلِمَ حَيَاتَهُمْ وَكَانَ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُمْ لَمْ يُؤَدِّ عَنْهُمْ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُؤَدِّي عنهم وإن لم يعلم حياتهم.
واختلف أَصْحَابُنَا فَكَانَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَسَاعَدَهُمُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُونَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَيَاتِهِمْ، وَوُجُوبُ فطرهم فلا تسقط بالشك، ولأنه لو أعتقهم عن كفارة قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا لَمْ يُجْزِهِ إِلْغَاءٌ لِحُكْمِ حَيَاتِهِمْ فَكَذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ إِلْغَاءً لِحُكْمِ حَيَاتِهِمْ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ قَوْلًا وَاحِدًا: إنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ هذا والكفارة، هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ يَتَعَيَّنُ فَلَا يَسْقُطُ فَرْضُهَا بِالشَّكِّ، وَالْأَصْلُ حَيَاةُ الْغَائِبِ فَلَمْ تَسْقُطْ زَكَاةُ فِطْرِهِ بِالشَّكِّ فَبِالْمَعْنَى الَّذِي احْتِيطَ فِي الْكَفَّارَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا بِالشَّكِّ بِمِثْلِهِ احْتِيطَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرَةِ فَلَمْ يسقط فرضها بالشك.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويزكي عمن كان مرهوناً أو مغصوباً على كل حالٍ ورقيقٍ رقيقه. ورقيقُ الخدمة والتجارة سواءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى سَيِّدِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَمَنْ تَمُونُونَ) وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ أَوْكَدُ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْعَيْنِ فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الرَّهْنُ زَكَاةَ الْمَالِ كَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ، لَزِمَ السَّيِّدُ إِخْرَاجَهَا مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِخْرَاجُهَا مِنْ رَقَبَتِهِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَتُهُ فِي ماله فذلك زكاة فِطْرِهِ وَهَذَا يُخَالِفُ الْمَالَ الْمَرْهُونَ حَيْثُ أُخْرِجَتْ زَكَاتُهُ مِنْهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ فِطْرَةَ الْعَبْدِ فِي ذِمَّةِ سَيِّدِهِ، وَزَكَاةَ الْمَالِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي عَيْنِهِ فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ قَالَ(3/357)
الشَّافِعِيُّ: وَيُزَكِّي عَمَّنْ كَانَ مَرْهُونًا، أَوْ مَغْصُوبًا وَرُوِيَ مَغْصُوبًا يَعْنِي زَمِنًا وَأَيُّهُمَا كَانَ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ وَاجِبَةٌ، لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمِلْكِ دُونَ التَّصَرُّفِ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُؤَدِّي عَنْ رَقِيقِ رَقِيقِهِ، لأنها رَقِيقُهُ وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ حَيْثُ قَالَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ إِذَا مُلِكَ فَإِذَا مَلَكَ عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عَبِيدًا فَعَلَى السَّيِّدِ زَكَاتُهُ وَزَكَاةُ عَبِيدِهِ لِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ، فَأَمَّا عَلَى الْقَدِيمِ حَيْثُ قَالَ الْعَبْدُ يَمْلِكُ إِذَا مُلِكَ فَفِي زَكَاةِ فِطْرِهِمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وهو أظهر أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّيِّدُ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَا يَلْزَمُ الْعَبْدُ الْمَالِكُ لَهُمْ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ لِأَجْلِ رِقِّهِ، وَنَقْصِ مِلْكِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةَ فِطْرِهِمْ لِأَنَّ لَهُ انْتِزَاعَهُمْ مِنْ يَدِ عَبْدِهِ فَجَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُ مِلْكِهِ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَقِيقُ الْخِدْمَةِ وَرَقِيقُ التِّجَارَةِ سَوَاءٌ، وَهَذَا قَالَهُ رَدًّا عَلَى أبي حنيفة، حَيْثُ قَالَ فِيمَنْ مَلَكَ عبيد للتجارة أنه لا يجب عليه زكاة فطرهم لأن لا يَجْتَمِعَ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَنَا عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَنْ قِيمَتِهِمْ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ زكاة التجارة.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كان فيمن يَمُونُ كافرٌ لَمْ يُزَكِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يطهر بالزكاة إلا مسلم قال محمد وابن عاصم قال سمعت المعضوب الذي لا منفعة فيه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَافِرَ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ فَأَمَّا الْمُسْلِمُ إِذَا لَزِمَتْهُ مُؤْنَةُ كَافِرٍ مِنْ ولد أو والداً وزوجة أبو عَبْدٍ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ دُونَ زَكَاةِ فِطْرِهِمْ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا مَلَكَ الْمُسْلِمُ عَبْدًا كَافِرًا لَزِمَتْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أدوا زكاة الفطر بمن تَمُونُونَ) وَلَمْ يُفَصِّلْ وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لِمُسْلِمٍ فَجَازَ أَنْ تَلْزَمَهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ كَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ حَالَ السَّيِّدِ الدَّافِعِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ حَالِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ دُونَ الْعَبْدِ فَكَانَ اعْتِبَارُ من وجب عَلَيْهِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ الْإِسْلَامِ وَالْمَالِ، فَلَمَّا كَانَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ الْمَالُ مُعْتَبَرًا بِالسَّيِّدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الثَّانِي وَهُوَ الْإِسْلَامُ مُعْتَبَرًا بِالسَّيِّدِ، وَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ حَالِ السَّيِّدِ أَوْلَى لَزِمَتْهُ فِطْرَةُ عَبْدِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا كَمَا يَلْزَمُهُ فِطْرَةُ عَبْدِهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُعْسِرًا وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ إِلَى أَنْ قَالَ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فقيده بالإسلام.(3/358)
وَرَوَى الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " ما على المسلم زكاة في عبده ولا فَرَسِهِ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ " وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نفس مسلمة حرة أو مملوكة صدقة، وكان وُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مُقَيَّدًا بِالْإِسْلَامِ، فَلَمْ تَجِبْ بِفَقْدِهِ وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طهرةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرفث وطعمةٌ للمساكين، فأخبر أَنَّهَا طُهْرَةٌ وَالْكَافِرُ لَا يَتَطَهَّرُ بِهَا وَأَنَّهَا للصائم، والكافر لا صوم له فثبت، أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ وَلَا عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُشْرِكٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ زَكَاةُ فِطْرِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مِلْكًا لِمُشْرِكٍ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ أَدَاءِ الْفِطْرَةِ عَنْ نفسه أوكد من وجوب أدائه عَنْ غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَصْلٌ وَهُمْ فَرْعٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا ضَاقَ مَالُهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ بَدَأَ بِأَدَائِهَا عَنْ نَفْسِهِ، فَالْبِدَايَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَوْكَدِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْكُفْرَ مُؤَثِّرٌ فِي إِسْقَاطِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ كَافِرًا كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي إِسْقَاطِهَا عَنْ عَبْدِهِ، إِذَا كَانَ كَافِرًا، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي وُجُوبِ الْفِطْرَةِ بِإِجْمَاعٍ وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الدَّافِعِ أَوِ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا مَعًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الدَّافِعِ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا فِي الْمَدْفُوعِ عَنْهُ وَحْدَهُ لِأَنَّ وُجُوبَهَا على غيره فثبت أنه معتبر فيهما مَعَ كَوْنِهِ عَامًّا، وَعَلَى الْأُصُولِ فِي ذَوِي الألباب مطرداً، وبهذا يبطل استدلاله وتعارض قِيَاسَهُ وَبِخَبَرِنَا نَخُصُّ خَبَرَهُ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ مَلَكَ الْمُسْلِمُ عَبْدًا مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْعَبْدُ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ فِطْرِهِ عَلَى السَّيِّدِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مُخَرَّجَةٍ مِنِ اخْتِلَافِ أَقَاوِيلِهِ فِي رِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ فِي حَوْلِهِ، هَلْ تُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ زَكَاتِهِ.
أَحَدُهَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إِذَا عَادَ اسْتَأْنَفَ حَوْلَهُ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ في رب المال أن عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَعُدْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِسْلَامِهِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ زَكَاةَ رَبِّ الْمَالِ مَوْقُوفَةٌ فإن عاد إلى الإسلام وجبت عنه الْفِطْرَةُ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ لَمْ تَجِبْ كَمَا إِذَا عَادَ رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ لَمْ يَجِبْ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ مَلَكَ الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا، إما بأن كان العبد كَافِرًا فَأَسْلَمَ، وَأَهَّلَ شَوَّالٌ قَبْلَ(3/359)
انتزاعه من يده أو كانت أُمُّ وَلَدِهِ كَافِرَةً فَأَسْلَمَتْ فَهَلْ عَلَى السَّيِّدِ إِخْرَاجُ الْفِطْرَةِ عَنْهُ، عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَى السَّيِّدِ.
أحدهما: عليه إخراجها عنه إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنَّ السَّيِّدَ يَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ تَحَمُّلَ ضَمَانٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى السَّيِّدِ وُجُوبَ حَوَالَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ فِي وِلَايَتِهِ لَهُمْ أَمْوَالٌ زكى منها عنهم إلا أن يتطوع فيجزي عنهم ".
قال الماوردي: قد ذكرنا أن زكاة الفطر تابعة للمنفعة فَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي وِلَايَتِهِ، وَلَهُمْ أَمْوَالٌ فَنَفَقَتُهُمْ وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ دُونَ مَالِ أَبِيهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا محمد بن الحسن وزفر بن الهذيل، فَإِنَّهُمَا أَوْجَبَا نَفَقَةَ الْأَطْفَالِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ عَلَى أَبِيهِمْ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَدُّوا زَكَاةَ الْفِطْرِ عَمَّنْ تَمُونُونَ " وَمُؤْنَةُ الْأَطْفَالِ فِي أَمْوَالِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ تَابِعَةً لِلنَّفَقَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَالِغَ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ فِي مَالِهِ وَالصَّغِيرُ الْفَقِيرُ لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ، وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى أَبِيهِ وَكَذَا الصَّغِيرُ الْغَنِيُّ، لَمَّا وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ فِي مَالِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا فِي أَمْوَالِهِمْ فَإِنْ تَطَوَّعَ الْأَبُ فَأَخْرَجَهَا عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ، أَجْزَأَ، وَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِهَا، وَلَوْ كَانَ الْوَالِي عَلَيْهِمْ أمين حاكم وجب في أموالهم لوفاق محمد وزفر وَيَتَوَلَّى الْأَمِينُ إِخْرَاجَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَإِنْ تَطَوَّعَ الْأَمِينُ فَأَخْرَجَهَا عَنْهُمْ مِنْ مَالِهِ مُتَطَوِّعًا بِهَا لَمْ يُجْزِهِمْ، وَفَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْأَبِ وَالْأَمِينِ بِأَنَّ الْأَبَ لَمَّا جَازَ أَنْ يَحُجَّ بِهِمْ جَازَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِزَكَاةِ فِطْرِهِمْ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْأَمِينِ أَنْ يَحُجَّ بِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِزَكَاةِ فِطْرِهِمْ، وَفِيهِ عِنْدِي نَظَرٌ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ وَلِلْوَلَدِ عَبْدٌ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ خِدْمَةِ الْعَبْدِ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْأَبِ نَفَقَتُهُ وَلَا نَفَقَةُ عَبْدِهِ، وَلَا فِطْرَتُهُ وَلَا فِطْرَةُ عَبْدِهِ وَيُبَاعُ مِنَ الْعَبْدِ بِقَدْرِ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى خِدْمَةِ الْعَبْدِ غَيْرَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ فَهُوَ فَقِيرٌ، وَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَعَلَى عَبْدِهِ وَيُزَكِّيَ عَنْهُ وَعَنْ عَبْدِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ تَطَوَّعَ حُرٌّ مِمَّنْ يَمُونُ فَأَخْرَجَهَا عَنْ نَفْسِهِ أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَنْ عَدَا الزَّوْجَةِ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْمَوْلُودِينَ الَّذِينَ تَجِبُ نَفَقَاتُهُمْ وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ إِذَا تَطَوَّعُوا بِإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ أَجْزَأَهُمْ سَوَاءٌ اسْتَأْذَنُوا الْمُنْفِقَ(3/360)
عَلَيْهِمْ، أَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنُوهُ، لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَزَكَاةَ فِطْرِهِمْ تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، وَلِذَلِكَ تَجِبُ بِفَقْرِهِمْ وَتَسْقُطُ بِغِنَاهُمْ، وَلَا رُجُوعَ لَهُمْ بِمَا أَنْفَقُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَنَفَقَتُهَا وَزَكَاةُ فطرتها أَوْكَدُ، لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَلِذَلِكَ تجب مع فقرها وغناها، وترجع بما أنفقته عَلَى نَفْسِهَا فَإِنْ تَطَوَّعَتْ بِزَكَاةِ فِطْرِهَا مِنْ مَالِهَا، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ زَوْجِهَا جَازَ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يجزي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزوج وجوب حوالة.
والثاني: يجزي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وُجُوبَ ضَمَانٍ.
فَصْلٌ
: لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ بِإِخْرَاجِ الْفِطْرَةِ عَنْهَا، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا، وَوُجُوبُهَا عَلَيْهِ، لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْحَوَالَةِ أَوْ مَجْرَى الضَّمَانِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا مُطَالَبَةَ لَهَا بِهِ لِأَنَّهُ إِنْ جَرَى مَجْرَى الْحَوَالَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ الْمُطَالَبَةُ به، وإن جرى مجرى الضمان فليس للمضون عنه المطالبة به.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ عَمَّنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ آخِرِ يومٍ من شهر رَمَضَانَ وَغَابَتِ الشَّمْسُ لَيْلَةَ شَوَّالٍ فَيُزَكِّي عَنْهُ وإن مات من ليلته وإن ولد له بعد ما غربت الشمس ولدٌ أو ملك عبداً فلا زكاة عليه في عامه ذلك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَقْتِ الذي تجب فيه زكاة الفطر فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهَا تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ لِيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ آخِرِ شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ رَمَضَانَ، وَأَوَّلِ شَيْءٍ مِنْ لَيْلِ شَوَّالٍ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ الْقَدِيمِ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، وَبِقَوْلِهِ الْجَدِيدِ إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ أَنَّهَا تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " فَدَلَّ عَلَى تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِهِ وَأَوَّلُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَدُّوا زَكَاةَ فِطْرِكُمْ " وَأَضَافَ الْأَدَاءَ إِلَى الْفِطْرِ، وَعَلَّقَهُ بِهِ وَإِطْلَاقُ الْفِطَرِ إِشَارَةٌ إِلَى نَهَارِ الْيَوْمِ دُونَ لَيْلِهِ،(3/361)
أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَعَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ) وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ زَكَاةِ الْفِطْرِ بِعِيدِ الْفِطْرِ كَتَعَلُّقِ الْأُضْحِيَّةِ بِعِيدِ الْأَضْحَى فَلَمَّا كَانَتِ الأضحية متعلقة بنهار النحر دون ليله أَنْ تَكُونَ الْفِطْرَةُ مُتَعَلِّقَةً بِنَهَارِ الْفِطْرِ دُونَ لَيْلَةٍ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَخْرُجُ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّقُهُ بِالْيَوْمِ كَالْأُضْحِيَّةِ، وَلِأَنَّ لَيْلَةَ الْفِطْرِ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ فِيهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَعَلَّقَ زَكَاةُ الْفِطْرِ بِهَا كَمَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِمَا قَبْلَهَا.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قياساً: أنه خصلة عن يوم من رمضان فوجب أن لا يتعلق به زكاة الفطرة كاليوم الأول والدلالة على صحة قوله في الْجَدِيدِ فِي تَعَلُّقِهَا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ دُونَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ طَهُورًا لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَخْبَرَ أَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَوَّلُ فِطْرٍ يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ رَمَضَانَ مَغِيبُ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ نَهَارِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِهِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: طَهُورًا لِلصَّائِمِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ زَمَانِ الصَّوْمِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الطُّهْرَةِ مِنَ الصَّوْمِ، وَقَدْ تحرر هَذِهِ الدَّلَالَةُ قِيَاسًا فَيُقَالُ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ رَمَضَانَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلِأَنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ فِي حُكْمِ مَا تَقَدَّمَ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّوْمِ قَدْ تَقَدَّمَهُ، فَلَمْ يُجْزِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَا بَعْدَهُ.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ وَقْتٌ لَمْ يَتَعَقَّبْ زَمَانَ الصَّوْمِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ، قِيَاسًا عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِمَّا أَنْ تَجِبَ بِخُرُوجِ رَمَضَانَ، أَوْ بِدُخُولِ شَوَّالٍ، وَغُرُوبِ الشَّمْسِ بجميع الْأَمْرَيْنِ فَكَانَ تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِهِ أَوْلَى.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِغْنَاءَهُمْ بِدَفْعِهَا لَهُمْ لَا بِوُجُوبِهَا لَهُمْ، وَهِيَ تُدْفَعُ إِلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ لَا فِي اللَّيْلِ، وَتَجِبُ لَهُمْ فِي اللَّيْلِ لا في اليوم.
والثاني: أن أمره بإعنائهم عن الطلب فيه لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا، أَوْ دَفْعِهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِغْنَائِهِمْ عَنِ الطَّلَبِ، وَهُمْ يَسْتَغْنُونَ فِيهِ عَنِ الطَّلَبِ بِمَا يُدْفَعُ إليهم من الليل.(3/362)
وأما قولهم أَدُّوا زَكَاةَ فِطْرِكُمْ، وَالْفِطْرُ إِشَارَةٌ إِلَى نَهَارِ الْيَوْمَ دُونَ لَيْلِهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفِطْرَ إِشَارَةٌ إِلَى عَيْنِ زَمَانِ الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ جميعاً والنهار لغة وشرعاً.
أَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَهُوَ أَنَّ يَوْمَ الْفِطْرِ، وَلَيْلَتِهِ سَوَاءٌ فِي أَنَّ اسْمَ الْفِطْرِ مُنْطَلِقٌ عَلَيْهِمَا.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ على الأضحية، فإن قصد الجمع بينهما في زمان الإخراج صح خروجه، وَإِنْ قَصَدَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي زَمَانِ الْوُجُوبِ فَالْأُضْحِيَّةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ عَلَى مَا قَبْلَهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا لَيْسَ بِفِطْرٍ عَنْ جَمِيعِ الصَّوْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِطْرٌ عَنْ بَعْضِهِ، وَلَيْلَةُ الْفِطْرِ خُرُوجٌ مِنْ جَمِيعِهِ فَافْتَرَقَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي زَمَانِ وُجُوبِهَا، فَالتَّفْرِيعُ عَلَيْهِمَا مَبْنِيٌّ، فَإِنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ أَوْ عَقَدَ عَلَى زَوْجَةٍ أَوْ مَلَكَ عَبْدًا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبَقَوْا عَلَى حَالِهِمْ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، لِوُجُودِهِمْ فِي الطَّرَفَيْنِ، وَلَوْ وُلِدَ لَهُ الْمَوْلُودُ، وَعَقَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَمَلَكَ الْعَبْدَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَمَاتُوا، أَوِ انْتَقَلُوا عَنْ حَالِهِمْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، اعْتِبَارًا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَوْ كَانُوا مَوْجُودِينَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ: عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ فَلَوْ وُلِدَ الْمَوْلُودُ وَعَقَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَمَلَكَ الْعَبْدَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، ثم مات الولد، وطلق الزوجة، ومات الْعَبْدُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِمْ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ عبدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَعَلَى كل واحدٍ منهما بقدر ما يملك مِنْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، أَوْ بَيْنَ مِائَةِ شَرِيكٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ، فَتَكُونُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ صَاعٌ وَاحِدٌ وَكَذَا لَوْ كَانَ مِائَةُ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، لَزِمَهُمَا عَلَى كُلِّ رَأْسِ صَاعٍ وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ أَوْ مِائَةُ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَالٍ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، أَوْ بَيْنَ مِائَةِ شَرِيكٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاعٌ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ مَا تَتَكَرَّرَ زَكَاتُهُ فِي كُلِّ حَوْلٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فيه نصاب يدخل العفر فيما(3/363)
دونه كالمواشي، والنصاب عبد كامل والعفر مِنْ دُونِهِ، وَمَنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ عَبْدٍ كَامِلٍ فَهُوَ بِمَثَابَةِ مَنْ مَلَكَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ زكاته.
والثاني: أن قال العبد المشرك بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالْمُكَاتَبِ بَيْنَ سَيِّدِهِ، وَبَيْنَ نَفْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ في المشرك، كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ فِي الْمُكَاتَبِ وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ أن فِطْرَةً عَمَّنْ لَمْ يَكْمُلْ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، فَلَا يَلْزَمُهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ كَالْمُكَاتَبِ وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ قَالَ زَكَاةُ الْفِطْرِ تَجْرِي مَجْرَى الْكَفَّارَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ مِمَّنْ تَمُونُونَ " وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَعْنِي: عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ فَكَانَ ظَاهِرُهُ فِي وُجُوبِهَا عَنِ الْمُنْفَرِدِ وَالْمُشْتَرِكِ.
والثاني: قوله ممن يمونون فعلقهما بالمؤنة مِمَّنْ يُمَانُ، فَوَجَبَ أَنْ يُزَكَّى عَنْهُ، وَلِأَنَّهَا مُؤْنَةٌ تَجِبُ بِحَقِّ الْمِلْكِ الْمُنْفَرِدِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ بِحَقِّ الْمِلْكِ الْمُشْتَرِكِ كَالنَّفَقَةِ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ تَجِبُ لِأَجْلِ الْمِلْكِ الْمُنْفَرِدِ، فَوَجَبَ أَنْ تَجِبَ لأجل الْمُشْتَرِكِ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَا تَتَكَرَّرُ زَكَاتُهُ يَجِبُ اعْتِبَارُ النِّصَابِ فِيهِ، فَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ النِّصَابَ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَالِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ تَجِبُ فِي الْمَالِ، وَغَيْرِ الْمَالِ أَلَّا تَرَاهَا تَجِبُ عَلَى الْحُرِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا عَلَى أَنَّهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ قَوْلًا لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَجِبُ حَتَّى يَكُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ نِصَابَيْنِ نِصَابَ الْمَالِ وَنِصَابَ الْعَبْدِ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ نَفَقَتَهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ زَكَاةُ فِطْرِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ نَفَقَةُ هَذَا وَاجِبَةً وَجَبَتْ زَكَاةُ فِطْرِهِ، وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَيَفْسُدُ مَا قَالَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اعْتِبَارَ الْفِطْرَةِ بِالْكَفَّارَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَجِبُ عَلَى الرَّقَبَةِ تَطْهِيرًا، وَكَذَلِكَ تَجِبُ ابْتِدَاءً وَتَحَمُّلًا وَالْكَفَّارَةُ تَجِبُ عَنِ الْفِعْلِ تَمْحِيصًا وَتَكْفِيرًا، وَذَلِكَ يَجِبُ ابْتِدَاءً وَلَا يَجِبُ تَحَمُّلًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ اسْتِيعَابًا لِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَيْنَ مِائَةِ شَرِيكٍ فَيَلْزَمُهُمْ مِائَةُ صَاعٍ، وَقَدْ تَكُونُ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ صَاعٍ، وَهَذَا خُرُوجُ عَنْ مَوْضُوعِ الْمُوَاسَاةِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَيْهِمَا فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ صَاعًا وَاحِدًا، فَلَهُمَا حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَالِبُ قُوتِهِمَا وَاحِدًا، فَيُخْرِجَانِ مِنْهُ صَاعًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَالِبُ قُوتِهِمَا مُخْتَلِفًا فَيَكُونُ قُوتُ أَحَدِهِمَا بَرًّا والآخر شعيراً ففيه وجهان:(3/364)
أحدهما: وهو قولي أَبِي الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ لَهُمَا إِخْرَاجُ صَاعٍ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَلَا يَجْبُرُ مَنْ قُوتُهُ الشَّعِيرُ عَلَى إِخْرَاجِ الْبُرِّ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُهُ، لَكِنْ يُخْرِجَانِ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، وَلِأَنَّ مَنْ يَقْتَاتُ الْبُرَّ يَقْدِرُ عَلَى الشَّعِيرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ لَهُمَا إِخْرَاجُ صَاعٍ مِنْ جِنْسَيْنِ فَيُخْرِجُ مَنْ قُوتُهُ الْبُرُّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَيُخْرِجُ مَنْ قُوتُهُ الشَّعِيرُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ فَيُخْرِجُ أَحَدُهُمَا نِصْفَ شَاةٍ مِنْ غَنَمِهِ، وَهِيَ ضَأْنٌ وَيُخْرِجُ الْآخَرُ نِصْفَ شَاةٍ مِنْ غنمه وهي معزى.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كان يملك نِصْفُهُ وَنِصْفُهُ حُرٌّ فَعَلَيْهِ فِي نِصْفِهِ نِصْفُ زكاته فإن كان للعبد ما يقوته ليلة الْفِطْرِ وَيَوْمِهِ أَدَّى النِّصْفَ عَنْ نِصْفِهِ الْحُرِّ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا اكْتَسَبَ فِي يَوْمِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا كَانَ نِصْفُ الْعَبْدِ حُرًّا، وَنِصْفُهُ مَمْلُوكًا فَعَلَى السَّيِّدِ نِصْفُ صَاعٍ بِحَقِّ مِلْكِهِ وَعَلَى الْعَبْدِ نِصْفُ صَاعٍ بِحُرِيَّتِهِ لِيَكُونَ الصَّاعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: على العبد بقدر ما عتق منه، وَلَا شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى السَّيِّدِ بِقَدْرِ مَا مَلَكَ مِنْهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ممن تمونون، دَالٌّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُهَايأ أَوْ غَيْرَ مُهَايأ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُهَايَأً فَجَمِيعُ كَسْبِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ فَيَكُونُ لَهُ نِصْفُ كَسْبِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ وَلِسَيِّدِهِ نِصْفُ كَسْبِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّقِّ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ نَفَقَتِهِ، وَيَكُونُ عَلَى السَّيِّدِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ زَكَاةِ فِطْرِهِ، وَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ وَاجِدًا نِصْفُ صَاعٍ مِنْ زَكَاةِ فِطْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُهَايَّأً، وَصُورَةُ الْمُهَايَّأَةِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ يَكْتَسِبَ لِسَيِّدِهِ شَهْرًا، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِيهِ، وَلِنَفْسِهِ شَهْرًا وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَوْ يَوْمًا وَيَوْمًا، فَفِي دُخُولِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي الْمُهَايَّأَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَدْخُلُ فِي الْمُهَايَّأَةِ تَبَعًا لِلنَّفَقَةِ فَعَلَى هَذَا إِنْ أَهَّلَ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ السَّيِّدِ فَعَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ فِطْرِهِ صَاعٌ كَامِلٌ وَإِنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ صَاعٌ كَامِلٌ.
وَالْوَجْهُ الثاني: وهو الْأَظْهَرُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرَةِ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْمُهَايَّأَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّفَقَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّتِهِ مِثْلَ مَا تَلْزَمُهُ الْأُخْرَى(3/365)
فِي مُدَّتِهِ فَدَخَلَتْ فِي الْمُهَايَّأَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهَا، وَلَيْسَتْ زَكَاةُ الْفِطْرَةِ هَكَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الْمُهَايَّأَةِ لِيَسْتَوِيَا فِيهَا فَعَلَى هَذَا إِنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ السَّيِّدِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ النَّفَقَةِ، وَنِصْفُ فِطْرَتِهِ وَعَلَى الْعَبْدِ نِصْفُهَا الْبَاقِي إِنْ كَانَ وَاجِدًا لَهَا، وَإِنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ فِي شَهْرِ الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ نَفَقَتِهِ وَنِصْفُ فِطْرَتِهِ، وَعَلَى السَّيِّدِ نِصْفُهَا الْبَاقِي فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُخَارِجُ فَزَكَاةُ فطرته على سيده، وكذلك المؤاجر لبقائه على ملكه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فَأَهَلَّ شوال ولم يختر أنفاذ البيع ثم أنفذه فزكاة الفطر على البائع وإن كان الخيار للمشتري فالزكاة على المشتري والملك له وهو كمختار الرد بالعيب وإن كان الخيار لهما جميعاً فزكاة الفطر على المشتري (قال المزني) هذا غلط في أصل قوله لأنه يقول في رجل لو قال عبدي حر إن بعته فباعه أنه يعتق لأن الملك لم يتم للمشتري لأنهما جميعاً بالخيار ما لم يتفرقا تفرق الأبدان فهما في خيار التفرق كهو في خيار الشرط بوقتٍ لا فرق في القياس بينهما ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ عَبْدًا تاجراً ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ بَعْدَ انْبِرَامِهِ فَزَكَاةُ فِطْرَتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا تَخْتَلِفُ، وَلَكِنْ لَوِ ابْتَاعَ عَبْدًا بِخِيَارِ ثَلَاثٍ ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ قَبْلَ تَقَضِّيهَا، فَفِي زَكَاةِ فِطْرَتِهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ زَكَاةَ فِطْرِهِ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلِّ حَالٍ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْمِلْكَ لَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْعَقْدِ، وَتَقَضِّي الْخِيَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَى الْمُشْتَرِي بِكُلِّ حَالٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ بِالْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمَا خِيَارٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ تَمَّ الْبَيْعُ وَانْبَرَمَ فَهِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وإن انفسخ فهي على البايع وَسَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِلْمُشْتَرِي دون البايع أو للبايع دُونَ الْمُشْتَرِي، فَالْحُكْمُ فِيهِ وَاحِدٌ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا مِنِ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ لِاخْتِلَافِ الْخِيَارِ، فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَقَاوِيلِ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْمَالِ، وَقَدْ مَضَى، وَقَدْ كَانَ أَبُو الطَّيِّبِ ابْنُ سَلَمَةَ يَزْعُمُ، أَنَّ الْأَقَاوِيلَ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا، أَوْ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ فَأَمَّا إِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَوْلَى، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَقُولُ إِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَبَاهُ، وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَلَا دَفَعَ ثَمَنَهُ حَتَّى أَهَلَّ شَوَّالٌ زَكَّى عَنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَلَمْ يُعْتِقْ عَلَيْهِ لِلْعَلَقَةِ الَّتِي بَقِيَتْ لِلْبَائِعِ فِيهِ وَهِيَ حَقُّ الِاحْتِبَاسِ، لِأَجْلِ الثَّمَنِ فَصَارَ كَأَنَّ لِلْبَائِعِ فِيهِ خياراً وهذا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ وغيره بل إن كان المبيع تاجراً(3/366)
فَعِتْقُهُ عَلَيْهِ نَافِذٌ، وَصَدَقَةُ فِطْرِهِ لَازِمَةٌ سَوَاءً دَفَعَ ثَمَنَهُ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ بِخِيَارٍ فَهُوَ عَلَى الْأَقَاوِيلِ وَلِلْكَلَامِ مَعَ ابْنِ خَيْرَانَ موضع غير هذا.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " قال وَلَوْ مَاتَ حِينَ أَهَلَّ شَوَّالٌ وَلَهُ رَقِيقٌ فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَالِهِ مبدأةٌ على الدين وغيره من ميراث ووصايا ولو ورثوا رقيقاً ثم أهل شوال فعليهم زكاتهم بقدر مواريثهم ولو مات قبل شوال وعليه دين زكى عنهم الورثة لأنهم في ملكهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَركَ رَقِيقًا لَمْ يَخْلُ حَالُ مَوْتِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ شَوَّالٍ، أَوْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ أَوْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ وَجَبَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي مَالِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ رَقِيقِهِ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ وَكَذَا الْعُشُورُ وَالزَّكَوَاتُ وَالْكَفَّارَاتُ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: يسقط بِالْمَوْتِ الْكَفَّارَاتُ، وَجَمِيعُ الزَّكَوَاتِ إِلَّا الْعُشْرَ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ أشهد أن مَنْ فَرَّطَ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ حَتَّى حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَإِنَّهُ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الرَّجْعَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَقْطَعُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُغَيَّبِ الَّذِي لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، وَإِذَا كَانَ تَوْقِيفًا، وَالرَّجْعَةُ لَا تُسْأَلُ إِلَّا فيما يُمْكِنُ تَلَافِيهِ ثَبَتَ أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا تَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إِخْرَاجُهَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَطَلَ وُجُوبُهَا بِالْمَوْتِ، قَالَ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا حَضَرَتْهُ جِنَازَةٌ سَأَلَ عَنْ صَاحِبِهَا هل عليه دين، فإن قَالُوا نَعَمْ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، فَلَوْ كَانَتِ الزَّكَاةُ ك " الدين " لا يسقط بِالْمَوْتِ لَسَأَلَ عَنْهَا، وَامْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى صاحبها قالوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ حَالَ الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ ثَبَتَ وُجُوبُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْوَفَاةِ كَالدَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْوَفَاةِ كَالْعُشْرِ، فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَثُبُوتِهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ لِأَنَّهُ سَأَلَ الرَّجْعَةَ لِإِخْرَاجِهَا، فَلَوْ كَانَتْ بِالْمَوْتِ سَاقِطَةً لَمْ يَحْتَجْ إِلَى سُؤَالِ الرَّجْعَةِ، فَأَمَّا سُؤَالُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ دُيُونِ الْمَوْتَى دُونَ الزَّكَوَاتِ، فَلِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الزَّكَوَاتِ وُجُوبُهَا عَلَى ذَوِي الْأَمْوَالِ، وَأَهْلِ الْيَسَارِ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ لِيَسْأَلَ إِلَّا عَنِ الْمَعْدُومِينَ مِنْ ذَوِي الْإِعْسَارِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَالصَّلَاةُ غَيْرُ سَاقِطَةٍ عَنْهُ كَالْحَجِّ وَهُوَ يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَهِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ النِّيَابَةُ فِيهَا لَمْ يمكن المطالبة بها.(3/367)
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ سِوَى الزَّكَاةِ دَيْنٌ أَمْ لَا، فإن لم يكن عليه سِوَى الزَّكَاةِ أُخِذَتِ الزَّكَاةُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَاقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ بِبَاقِي تَرِكَتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَدْ وَجَبَ فِي مَالِهِ حَقَّانِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ وَهُوَ الدَّيْنُ فإن كانت تركته تسع لَهُمَا قُضِيَا مَعًا، وَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ اقْتَسَمَهُ الْوَرَثَةُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ ضَاقَتْ تركته عنها لَمْ يَخْلُ حَالُ الزَّكَاةِ الَّتِي وَجَبَتْ مِنْ أمرين، إما أن تكون زكاة مال فطره أو زكاة مال فإن كانت زكاته مَالٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، أَوْ مَعْدُومًا فإن كان معدوماً استقر الدين وبطل تعلقهما بِالْعَيْنِ وَصَارَتْ لِاسْتِقْرَارِهَا فِي الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ ثُمَّ هَلْ تُقَدَّمُ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ، أَوْ يُقَدَّمُ عليها دَيْنِ الْآدَمِيِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فدين الله أحق أن يقضى) .
والقوال الثَّانِي: أَنَّ دَيْنَ الْآدَمِيِّ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا فَيُبْدَأُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ، ثُمَّ يُصْرَفُ مَا بَقِيَ فيها لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُضَايَقَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ لَا يُقَدَّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لِوُجُوبِ أَدَائِهِمَا فَيَخْرُجُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِسْطٍ مَا احْتَمَلَتْهُ التَّرِكَةُ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي وَجَبَتْ زَكَاتُهُ مَوْجُودًا فِي التَّرِكَةِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَالْعَيْنُ بِهَا مُرْتَهِنَةٌ قُدِّمَتِ الزَّكَاةُ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ، لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْوُجُوبِ، وَتَعَلَّقَ أَحَدُهُمَا بِالْعَيْنِ فَكَانَ أَقْوَى وَأَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ كَالْمُرْتَهِنِ يُقَدَّمُ بِثَمَنِ الرَّهْنِ عَلَى جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِي الدَّيْنِ، وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالْعَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ: وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُنْبَرِمًا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْعَيْنِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الزَّكَاةِ الَّتِي قَدْ وَجَبَتْ فِي مَالٍ قَدْ تَلِفَ فَيَكُونُ فِيهَا، وَفِي الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ عَلَى مَا مَضَتْ فَهَذَا حُكْمُ زَكَاةِ الْمَالِ مَعَ الدَّيْنِ فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ مَعَ الدَّيْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا فَكَانَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ يَقُولُ: هِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدَّيْنِ قَوْلًا وَاحِدًا لِقِلَّتِهَا فِي الْغَالِبِ وَتَعَلُّقِهَا بِالرَّقَبَةِ فَاسْتَحَقَّتْ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أنه كَزَكَاةِ الْمَالِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُمَا فَعَلَى هَذَا فِيهَا، وَفِي الدَّيْنِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ عَلَى مَا مَضَتْ.(3/368)
فَصْلٌ: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَيْهِ، فَزَكَاتُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِحَالٍ فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْ رَقِيقِهِ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى وَرَثَتِهِ، لِأَنَّ زَمَانَ الْوُجُوبِ أَتَى بَعْدَ انْتِقَالِ التَّرِكَةِ إِلَى مِلْكِهِمْ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَقَدِ اسْتَقَرَّتِ التَّرِكَةُ فِي مِلْكِهِمْ، وَوَجَبَتْ فِطْرَةُ الرَّقِيقِ عَلَيْهِمْ تقسط بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الميت دين محيط بِقِيمَةِ التَّرِكَةِ وَالرَّقِيقِ، كَأَنَّ قِيمَةُ الرَّقِيقِ أَلْفًا وقدر الدين ألف فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ فِطْرَةَ الرَّقِيقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْوَرَثَةِ، لِإِحَاطَةِ الدَّيْنِ بِهَا، وَلَا عَلَى الْمُتَوَفَّى لِمَوْتِهِ قَبْلَ وُجُوبِهَا، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: التَّرِكَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْمُتَوَفَّى لَا يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ، إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ كُلِّهِ احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ ديْنٍ) {النساء: 11) فَجَعَلَ الْوَارِثَ مَالِكًا لِلتَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، والوصية فدل على انتفاء ملكه مِنْ قَبْلُ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهَا الْوَارِثُ فَهِيَ على الْمَيِّتِ قَالَ: وَلِأَنَّ عُهْدَةَ مَا بِيعَ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ فِي دَيْنِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى وَارِثِهِ وَالْعُهْدَةُ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ فَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَيِّتِ إِلَى الْوَارِثِ لَوَجَبَتِ الْعُهْدَةُ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ الْمَيِّتِ فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ التَّرِكَةَ قَدِ انْتَقَلَتْ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ إِخْرَاجِ وَصَايَاهُ، وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أُمُورٌ.
أَحَدُهَا: مَا لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْضُوا دُيُونَهُ مِنْ غَيْرِ التَّرِكَةِ، وَتَكُونُ التَّرِكَةُ مِلْكًا لَهُمْ، فَلَوْلَا أَنَّ التَّرِكَةَ عَلَى مِلْكِهِمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ جَازَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَخْلُفُوا عَلَى دَيْنِهِ، وَيَسْتَحِقُّوا وَيَقْضُوا مِنْهُ دُيُونَهُ فَلَوْلَا أَنْ مِلْكَ الدَّيْنِ قَدِ انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ مَا جَازَ أن يخلفوا عَلَى غَيْرِ مِلْكِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَخَلَّفَ اثنين ثم مات أحد الاثنين، وترك ابناً ثم أن الغرماء أبرؤا الْمَيِّتَ مِنْ دُيُونِهِمْ كَانَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَ الِابْنِ الْبَاقِي وَابْنِ ابْنِ الْمَيِّتِ نِصْفَيْنِ، فَلَوْ كَانَتِ التَّرِكَةُ عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ لَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ التَّرِكَةِ لِلِابْنِ الْبَاقِي، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ هَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّ التَّرِكَةَ قَدِ انْتَقَلَتْ بِالْمَوْتِ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا جَوَازُ التَّصَرُّفِ دُونَ الْمِلْكِ، وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالْعُهْدَةِ فِي تَرِكَتِهِ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مِنْ أَجْلِ دَيْنِهِ، وَقَدْ يُرْجَعُ بِالْعُهْدَةِ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمَالِكٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدًا لَوْ بِيعَ فِي جِنَايَتِهِ، وَدُفِعَ ثَمَنُهُ إِلَى الْمَجْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعُهْدَتِهِ وَقِيمَتِهِ عَلَى الْمَجْنِي عَلَيْهِ دُونَ سَيِّدِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَزَكَاةُ فِطْرِ الرَّقِيقِ عَلَى الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ.(3/369)
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فعلى هذا تكون فطرة نفسه غير وَاجِبَةً بِحَالٍ، وَفِطْرَةُ رَقِيقِهِ وَاجِبَةٌ عَلَى وَرَثَتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ بَعْدَ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، فَتَكُونُ فِي مَالِهِ فِطْرَةُ نَفْسِهِ، وَفِطْرَةُ رَقِيقِهِ فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو أوصى لرجل بعبدٍ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ، فَمَاتَ ثُمَّ أَهَلَّ شوال أوقفنا زكاته فإن قيل فَهِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خَرَجَ إِلَى مِلْكِهِ وَإِنْ رُدَّ فَهِيَ عَلَى الْوَارِثِ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ وَصَّى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ شَوَّالٍ، وَالْعَبْدُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلْثِهِ ثُمَّ أَهَلَّ شَوَّالٌ قَبْلَ قَبُولِ الْمُوصَى لَهُ فَزَكَاةُ فِطْرِهِ غَيْرُ واجبة على الميت الموصي بموته قَبْلَ وُجُوبِهَا، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَهَلَّ شَوَّالٌ وَهُوَ فِي مِلْكِهِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَصِيَّةِ مَتَى يَمْلِكُهَا الْمُوصَى لَهُ عَلَى قولين:
أحدهما: أنه يملكها لقبوله فَإِذَا قَبِلَ مِلْكَهَا حِينَئِذٍ فَعَلَى هَذَا فِطْرَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْوَرَثَةِ سَوَاءٌ قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ أَمْ لَمْ يَقْبَلْ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلْكِهِمْ قَبْلَ قَبُولِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَبُولَهُ يُنْبِئُ عن ملك سابق، فإذا قبل أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُ مِنْ حِينِ مَاتَ الْمُوصِي فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهِ إِنْ قَبِلَ، وَعَلَى الْوَرَثَةِ إِنْ لَمْ يَقْبَلْ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا إِنَّ الْوَصِيَّةَ تَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ بِمَوْتِ الْمُوصِي قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ كَالْمِيرَاثِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ، فَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يُعِدُّهُ قَوْلًا ثَالِثًا، فَعَلَى هَذَا تَجِبُ زكاة الفطر عَلَى الْمُوصَى لَهُ سَوَاءٌ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ، وَامْتَنَعَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مِنْ تَخْرِيجِهِ، وَأَنْكَرُوهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَصْرِيحٍ، أَوْ تَلْوِيحٍ وَمَوْضِعُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْوَصَايَا " إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَصْلٌ
: إِذَا أَوْصَى رَجُلٌ بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ لِرَجُلٍ، وَبِمَنْفَعَتِهِ لِآخَرَ فَمَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " أَنَّ زَكَاتَهُ وَنَفَقَتَهُ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَالْفِطْرَةَ تَجِبُ بِالْمِلْكِ لَا بالمنفعة ألا ترى أن العبد المؤاجر نَفَقَتُهُ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى السَّيِّدِ مَالِكِ الرَّقَبَةِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ.(3/370)
فَصْلٌ
: فَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ عَبْدًا قَبْلَ شوال، ثم أقبضه العبد بعد شوال في زَكَاةِ فِطْرِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْهِبَةِ مَتَى تَمَلَّكَ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ تَمَلَّكَ بِالْقَبْضِ، فَعَلَى هَذَا زَكَاةُ فِطْرِهِ عَلَى الْوَاهِبِ، لأنه كان في ملكه حتى أَهَلَّ شَوَّالٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ مِلْكًا مَوْقُوفًا عَلَى الْقَبْضِ فَعَلَى هَذَا زَكَاةُ الفطر عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلْكِهِ حين أهل شوال.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فَإِنْ قَبِلُوا فَزَكَاةُ الْفِطْرِ فِي مَالِ أَبِيهِمْ لِأَنَّهُمْ بملكه ملكوه ".
أَمَّا إِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لَا أَعْرِفُ فِيهَا مُخَالِفًا. ".
قال الماوردي: فَأَمَّا إِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي نُظِرَ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ قَبُولِهِ فَقَدْ مَلَكَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ قَبُولِهِ، فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَوَرَثَتُهُ يَقُومُونَ فِي الْقَبُولِ مَقَامَهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَتِ الوصية بموته قبل قبوله، وليس للورثة قبوله بَعْدَ مَوْتِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " الْوَصَايَا " إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الحملة فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ وَصَّى بِعَبْدِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي قَبْلَ شَوَّالٍ، وَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهِ وَبَعْدَ شَوَّالٍ فَوَرَثَتُهُ يقومون في القبول مقامه، وإن قبلوا، وقبل إِنَّهُمْ بِالْقَبُولِ قَدْ مَلَكُوا فَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي، لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مِلْكِهِمْ قَبْلَ الْقَبُولِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقَبُولَ يُنْبِئُ عَنْ ملك سابق فزكاة فطره وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُوصَى لَهُ، وَمَأْخُوذَةٌ مِنْ تَرِكَتِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ عَنْهُ يَمْلِكُونَهُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ شَوَّالٌ وَعِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ من بقوت ليومه وَمَا يُؤَدِّي بِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَدَّاهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
زَكَاةُ الْفِطْرِ تَجِبُ بِمَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ يَوْمَهُ، وَلَيْلَتَهُ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُهُ وَقُوتُ مَنْ يَلْزَمُهُ قُوتُهُ فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَفَضَلَ عَنْ ذَلِكَ قَدْرُ فِطْرَتِهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ.(3/371)
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَجِبُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَّا عَلَى مَنْ مَعَهُ نِصَابٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَاعْتَبَرَ إِحْدَى الزَّكَاتَيْنِ بِالْأُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ) فَجَعَلَ الْغَنِيَّ مَأْخُوذًا مِنْهُ، وَالْفَقِيرَ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْفَقِيرُ مَأْخُوذًا مِنْهُ كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْغَنِيُّ مَرْدُودًا عَلَيْهِ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ تَتَكَرَّرُ بِالْحَوْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَاعَى فِيهَا النِّصَابُ كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ بِاسْمِ الْفَقْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمُهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ كَمَنْ لَمْ يَفْضُلْ مِنْ قُوتِهِ شَيْءٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ عُمُومُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ) وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذَكَرٍ وَأُنْثَى صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ أَمَّا الْغَنِيُّ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى " فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ لَا يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ وُجُودُ النِّصَابِ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَّارَاتِ، وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ فَضْلَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِخْرَاجُهَا قِيَاسًا عَلَى مَنْ مَعَهُ نِصَابٌ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِ بِالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قصد به تنزيه الفقراء، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَمَّا قُصِدَ لَهُ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى زَكَاةِ الْأَمْوَالِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّدَقَاتِ، فَالْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهَا: زِيَادَتُهَا بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَنُقْصَانُهَا بِنُقْصَانِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْضُلْ من قوته شيء فالمعنى في أنه غير قادر عليه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن لم يكن عنده بعد القوت ليومه إِلَّا مَا يُؤَدِّي عَنْ بَعْضِهِمْ أَدَّى عَنْ بعضهم وإن لم يكون عنده إلا قوت يومه فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ وَجَدَ زَكَاةَ فِطْرِهِ فَاضِلَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا، وَاعْتِبَارُ وُجُودِ ذَلِكَ وَقْتَ وُجُوبِهَا، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يُعْتَبَرُ وُجُودُ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِأَنَّ بِهِ تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ يعتبر وجود ذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ تَجِبُ زكاة الفطر، فإذا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، أَوْ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ(3/372)
وَاجِدًا لِجَمِيعِ الْفِطْرَةِ بَعْدَ قُوتِهِ، وَقُوتِ عِيَالِهِ، أَوْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَوْ يَكُونَ وَاجِدًا لِبَعْضِهَا، فَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِجَمِيعِهَا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى تَلَفَتْ مِنْ يَدِهِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إِمْكَانِ إِخْرَاجِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ كَزَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِطْرَةِ وَبَيْنَ زَكَاةِ الْمَالِ: أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا تَلِفَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا، وَالْفِطْرَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْمَالِ، فَلَمْ يَكُنْ تَلَفُهُ قَبْلَ الْإِمْكَانِ مُسْقِطًا لِضَمَانِهَا وَالْأَوَّلُ أصح.
فَصْلٌ
: وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا وَإِنَّمَا يَجِدُ قُوتَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إخراجها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " فَلَمْ يجز أن يؤمر بإغناء غير وَيُحْوِجَ نَفْسَهُ إِلَى أَنْ يُعِينَهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، إِمَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلَى الْجَدِيدِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ على القديم لم يلزمه إخراجها، ويستحب ذَلِكَ لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ وَجَدَهَا يَوْمَ الْفِطْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا وَأَصْحَابُ مَالِكٍ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبَ مَالِكٍ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا كَانَ وَجُودُهُ مُعْتَبَرًا فِي وَقْتِهَا كَالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ زَكَاةَ الفطر تجب بالإسلام، والقدرة فلو أَسْلَمَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فَكَذَا إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ صَاعًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لَا يَسْقُطُ بِهِ بَاقِيهَا ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ إِخْرَاجِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ، أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِخْرَاجِهِ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ عَنْ أَيِّهِمْ شَاءَ لِأَنَّهُ لو كان واجد الفطرة جَمِيعُهُمْ، لَكَانَ مُخَيَّرًا فِي تَقْدِيمِ إِخْرَاجِهَا عَنْ أيهم شاء فكذا، إذا كان واجد الفطرة أَحَدِهِمْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي إِخْرَاجِهَا عَنْ أَيِّهِمْ شاء.
والوجه الثاني: أنه يُخْرِجَهَا عَنْ أَحَدِ الْجَمَاعَةِ لَا يُعَيِّنُهُ لِيَحْتَسِبَ اللَّهَ تَعَالَى بِهَا عَمَّنْ شَاءَ، لِأَنَّهُ لَوْ كان واجد الفطرة جَمِيعُهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا عَنْ كُلِّ واحد منهم، وكذا إذا كان واجد الفطرة وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا عَنْ أَحَدِهِمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ أَوْكَدِهِمْ حُرْمَةً وَأَقْوَاهُمْ سَبَبًا لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَقُّهُ أَوْكَدَ، وَأَقْوَى فَهُوَ بِالْإِخْرَاجِ عَنْهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى فَعَلَى هَذَا يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثَمَّ بِمَنْ(3/373)
تَعُولُ) ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ نَفْسِهِ بِزَوْجَتِهِ، لِأَنَّ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى نَفَقَةِ أَقَارِبِهِ، فَكَذَا فِطْرَةُ نَفْسِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى فِطْرَةِ أَقَارِبِهِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ زَوْجَتِهِ بِأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الْفُقَرَاءِ وَهُمْ مُقَدَّمُونَ عَلَى الْأَبِ، لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ بِنَصٍّ وَوُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ بِاسْتِدْلَالٍ، ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ بِأَبِيهِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ على أمه، لأن نفقته في صغره قَدْ تَجِبُ عَلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، فَكَانَتْ نَفَقَةُ أَبِيهِ أَوْكَدَ مِنْ نَفَقَةِ أُمِّهِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بَعْدَ أَبِيهِ بِأُمِّهِ وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى كِبَارِ وَلَدِهِ، لِقُوَّةِ حُرْمَتِهَا بِالْوِلَادَةِ ثُمَّ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ الْفُقَرَاءِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا وَجَدَهُ بَعْدَ قُوتِهِ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ مَنْصُوصًا فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّ عَلَيْهِ إِخْرَاجَهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ لَا يُسْقِطُ مَا بَقِيَ مِنْهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ كَالْكَفَّارَةِ الَّتِي لَا يَلْزَمُ إِخْرَاجُ بَعْضِهَا، إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جَمِيعِهَا وَهَذَا غَلَطٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن الكفارة ترجع فِيهَا إِلَى بَدَلٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ بَعْضِهَا، وَالْفِطْرَةُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا إِلَى بَدَلٍ فَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ بَعْضِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِخْرَاجَ بَعْضِ الصَّاعِ قَدْ يَجِبُ فِي الْعَبْدِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، فَوَجَبَ إِخْرَاجُهُ لِجَوَازِ تَبْعِيضِهِ وَالْكَفَّارَةُ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهَا فلم يجز إخراج بعضها.
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ أحدٌ ممن يقوت واجداً لزكاة الْفِطْرِ لَمْ أُرَخِّصْ لَهُ فِي تَرْكِ أَدَائِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَبِينُ لِي أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ عَلَى غَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الزَّوْجَةَ دُونَ الْأَقَارِبِ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تَلْزَمُ نَفَقَتُهَا وَزَكَاةُ فِطْرِهَا مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فِي مِلْكِهَا، وَالْأَقَارِبُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ، وَزَكَاةُ فِطْرِهِمْ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِمْ، فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا بِزَكَاةِ فِطْرِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ كَمَا سَقَطَتْ عَنْهُ فِطْرَةُ نَفْسِهِ، ثُمَّ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً بِهَا، لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ عَلَى غَيْرِهَا لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لَهَا لِخِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ عَلَيْهَا إِخْرَاجَ الْفِطْرَةِ عَنْ نَفْسِهَا إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا ثُمَّ يَحْمِلُ الزَّوْجُ عَنْهَا وَيَخْرُجُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي سَيِّدِ الْأَمَةِ إِذَا زَوَّجَهَا لِمُعْسِرٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي آخر هذا الباب.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَعَلَيْهِ أن يؤدي عنها فإن زَوْجُهَا حُرًّا فَعَلَى الْحُرِّ الزَّكَاةُ عَنِ امْرَأَتِهِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَعَلَى سَيِّدِهَا فَإِنْ لَمْ يُدْخِلْهَا عَلَيْهِ، أَوْ مَنَعَهَا مِنْهُ فَعَلَى السَّيِّدِ ".(3/374)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ وَأَهَلَّ شَوَّالٌ بَعْدَ تَزْوِيجِهَا فَالْكَلَامُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهَا يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي وُجُوبِهَا عَلَى الزَّوْجِ.
وَالثَّانِي: فِي وُجُوبِهَا عَلَى السَّيِّدِ فَأَمَّا الزَّوْجُ فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا، لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ فِطْرَةُ نَفْسِهِ لِأَجْلِ رِقِّهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَلْزَمُهُ فِطْرَةُ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ حُرًّا فَلَهُ حالان:
أحدها: أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهَا كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاةُ فِطْرِهِ، وَإِنْ كَانَ معسراً فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُمَكَّنًا فَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهَا بِاسْتِخْدَامِ السَّيِّدِ لَهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهَا كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، وَإِنْ كَانَ مُمَكَّنًا مِنْهَا بِتَسْلِيمِ السَّيِّدِ لَهَا فَعَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهَا وَنَفَقَتِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ أَدَائِهَا إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَغَيْرَهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ وَالتَّطَوُّعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَخْرَجَ زَكَاةَ فِطْرِهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا مِمَّنْ أَخَذَهَا عَنْ فِطْرَتِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ عَوْدِ الصَّدَقَةِ إِلَى مُخْرِجِهَا كَمَا يُمْنَعُ مِنِ ابْتِيَاعِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قَدْ صَارَتْ مِلْكًا لِآخِذِهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ فَلَمَّا جَازَ أَنْ يأخذ غيرها مِنْ مَالِهِ جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِعَيْنِهَا مِنْ مَالِهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَعْطَاهَا لِمَعْنًى وَهُوَ الْقُدْرَةُ وَأَخَذَهَا بِمَعْنًى غَيْرَهُ وَهُوَ الْحَاجَةُ فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الْإِعْطَاءِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْأَخْذِ كَمَا لَوْ عَادَتْ إِلَيْهِ بِإِرْثٍ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا السَّيِّدُ فَإِنْ أَوْجَبْنَا زَكَاةَ فِطْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ، وهو أن يكون حرا موسراً ممكناً فَلَيْسَ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ فِطْرِهَا، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تجب مرة، والزوج يحملها فسقطت عن السيد، وإن لم نوجب زَكَاةَ فِطْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ، فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ مَانِعًا مِنْهَا غَيْرَ مُمَكِّنٍ لِلزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَزَكَاةُ فِطْرِهَا(3/375)
عَلَى السَّيِّدِ مَعَ نَفَقَتِهَا، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لِمَنْعِ الزَّوْجِ مِنْهَا، وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ فِطْرِهَا، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ تَبَعٌ لِلنَّفَقَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْهَا مُمَكِّنًا لِلزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنِ الزَّوْجِ زَكَاةُ فِطْرِهَا إِمَّا لِرِقِّهِ أَوْ إِعْسَارِهِ، فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ فِطْرِهَا، وَقَالَ فِي الْحُرَّةِ إِذَا أَعْسَرَ الزَّوْجُ بِزَكَاةِ فِطْرِهَا إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهَا، لِأَنَّهَا مَفْرُوضَةٌ عَلَى غَيْرِهَا فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَنْقُلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، وَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَمَتِهِ وَعَنِ الْحُرَّةِ أَنْ تُزَكِّيَ عَنْ نَفْسِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّيِّدُ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَمَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْحُرَّةُ أَنْ تُزَكِّيَ عَنْ نَفْسِهَا، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَحْمِلُ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَقُولُ: عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَكِّيَ عَنْ أَمَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْحُرَّةِ أَنْ تُزَكِّيَ عَنْ نَفْسِهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحُرَّةَ مُسْتَحَقَّةُ التَّسْلِيمِ، وَالتَّمْكِينِ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهَا، وَلَيْسَ لَهَا صُنْعٌ فِي نَقْلِ فَرْضِ الزَّكَاةِ إِلَى زَوْجِهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الزَّكَاةِ عَلَى الزَّوْجِ بِاخْتِيَارِهَا لَمْ يَنْتَقِلْ وُجُوبُ الزَّكَاةِ إِلَيْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَمَةُ لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى السَّيِّدِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ فَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَى مَنْ يَخْلُفُهُ فِي تَحَمُّلِ زَكَاتِهَا سَقَطَتْ عَنْهُ، وَإِنْ سَلَّمَهَا إِلَى مَنْ لَا يَخْلُفُهُ فِي تَحَمُّلِهَا لَمْ تَسْقُطْ عنه، فلم يكن تطوعه بتسليمها سقطاً لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ زَكَاتِهَا وَاللَّهُ أعلم.(3/376)
باب مكيلة زكاة الفطر
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ (قال الشافعي) وبين في سنته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنَ الْبَقْلِ مِمَا يَقْتَاتُ الرجل وما فيه الزكاة ".
قال الماوردي: صَحِيحٌ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نص في زكاة الفطر على أشياه، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ (هَذَا التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ) وَفِي حَدِيثِ غَيْرِهِ (الْحِنْطَةُ وَالزَّبِيبُ) فَاعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ كَوْنُهُ قُوتًا مُدَّخَرًا لِأَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنَ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ قُوتٌ مُدَّخَرٌ، وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى أن الْمُعْتَبَرَ فِيهِ كَوْنُهُ مَأْكُولًا مَكِيلًا حَتَّى رَوَى عَنْهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ أَنَّهُ إِنْ أَخْرَجَ صَاعًا مِنْ إِهْلِيلَجٍ أَجْزَأَ؛ لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مَأْكُولٌ مَكِيلٌ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " وَإِغْنَاؤُهُمْ بِالْقُوتِ أَعَمُّ، وَنَفْعُهُمْ بِهِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ قد يكون في المأكول ما لا يُغْنِي عَنِ الْقُوتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا يَخْرُجُ زَكَاةُ الْفِطْرِ مِنْهُ مُقَابِلٌ لِمَا تَجِبُ زَكَاةُ الْمَالِ فِيهِ فَلَمَّا وَجَبَتْ زَكَاةُ الْأَمْوَالِ فِي الْأَقْوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ دُونَ سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ، اقْتَضَى أَنْ يَجِبَ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنَ الْأَقْوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ دُونَ سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهُ مُدَّخَرًا قُوتًا، فَهُوَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالْعَلَسُ وَالسُّلْتُ وَالْأَرُزُّ وَاللُّوبِيَا وَالْحِمَّصُ وَالْجُلْبَانُ وَالْعَدَسُ وَالْجَاوَرْسُ وَالذُّرَةُ، فَأَمَّا الْبَاقِلَّى فَقَدْ أَحْسَبُهُ يُقْتَاتُ فَإِنْ كَانَ قُوتًا أَجْزَأَهُ، إِذَا أَدَّى مِنْهُ صَاعًا، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ قُوتٌ تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْمَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنَ الْبَقْلِ فَيَعْنِي مَا يَبْقَى مُدَّخَرًا لِأَنَّ أَصْلَ الْبَقْلِ مَا يَبْقَى من الشيء.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وأي قوتٍ كان الأغلب على الرجل أدى منه زكاة الفطر كان حنطة أو ذرةً أو عَلَسًا أَوْ شَعِيرًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا ".(3/377)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَقْوَاتِ الْمُدَّخَرَةِ، هَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ عَلَى التخيير؟ فله فيه قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، وَالْمُزَكِّي مُخَيَّرٌ بَيْنَ جَمِيعِهَا، فَمِنْ أَيِّهَا أَخْرَجَ أَجَزْأَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ فَجَاءَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ مُوَاسَاةٌ وَالتَّخْيِيرُ فِيهَا أَيْسَرُ والتسوية بين جميعها أرفق، فعلى هذا من أي قوت أَخْرَجَهَا أَجْزَأَهُ، وَبَعْضُ الْأَقْوَاتِ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَالتَّمْرُ وَالْبُرُّ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي أَوْلَاهُمَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّمْرَ أَوْلَى.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يخرج، وَعَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَارٍ بِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَفِي مَائِهَا شفاءٌ للعين، والعجوة من الخير، وَفِيهَا شفاءٌ مِنَ السُّمِّ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ مَالَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْبُرَّ أَوْلَى.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ أنه قال الآن قد أوسع عليكم فأخرجوا البر، ولأن التمر مجمع عليه عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ صاع، والبر مختلف فيه، وكان ما اختلفوا فيه هل يجزي أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ أَمْ لَا؟ أَوْلَى مِمَّا أجمعوا على أنه لا يجزي مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ أَوْلَاهُمَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ لَكَانَ مَذْهَبًا، وَلَكَانَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ وَجْهٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الأقل وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا وَفِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ، وَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِغَالِبِ الْقُوتِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " وَالْإِغْنَاءُ يكون بما يكفيه الْإِنْسَانُ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ فَلَوْ كَانَ الْمُزَكِّي مُخَيَّرًا فِيهِ، لَجَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا لَيْسَ بِغَالِبِ الْقُوتِ فَلَا يَسْتَغْنِي بِهِ، وَإِذَا أَعْطَاهُ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ صَارَ مُسْتَغْنِيًا بِهِ، فَعَلَى هذا هل يُعْتَبَرُ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِهِ أَوْ غَالِبُ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا، وَفِي " الْأُمِّ " وَبِهِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِغَالِبِ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ(3/378)
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) {المائدة: 89) وَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بفرض نفسه، فوجب أن يكون اعتباره لقوت نَفْسِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، إِنَّ الِاعْتِبَارَ بِغَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، خَاطَبَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جَمْعًا بِغَالِبِ أَقْوَاتِهِمْ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ تَوْسِعَةً، وَرِفْقًا وَفِي اعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مَشَقَّةٌ وَضِيقٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى التَّوْسِعَةِ وَالرِّفْقِ فِي الْمُوَاسَاةِ أَوْلَى، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِنْ عَدَلَ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ إِلَى مَا لَيْسَ بِغَالِبِ الْقُوتِ، فَأَخْرَجَهُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهِ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ زَكَاتِهِ أَدْونَ من غالب قوته، كأن أخرج شعيراً، وغالب قوته تمراً فهذا لا يجزئه لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أن يكون ما أخرجه في زكاته أغلى مِنْ غَالِبِ قُوتِهِ كَأَنَّهُ أَخْرَجَ بُرًّا وَغَالِبُ قوته شعيراً، ففي إجزائه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَنْ أَخْرَجَ شَعِيرًا عَنْ زَكَاةِ بُرٍّ، وَدَرَاهِمَ عَنْ زَكَاةِ دَنَانِيرَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يجزيه قال لأنه أغلى مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ سِنٌّ فأخرج أعلى منها.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا أَدَّى مِنْ هَذَا أَدَّى صَاعًا بِصَاعِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ المسألة يشتمل على فضلين:
أَحَدُهُمَا: فِي قَدْرِ مَا يُؤَدَّى.
وَالثَّانِي: فِي قَدْرِ الصَّاعِ الْمُؤَدَّى بِهِ.
فَأَمَّا قَدْرُ مَا يُؤَدَّى مِنَ الْأَقْوَاتِ فَصَاعٌ كَامِلٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَخْرَجَ تَمْرًا أَوْ شَعِيرًا فَصَاعٌ، وَإِنْ أَخْرَجَ بُرًّا فنصف صاع وعنه في الترتيب رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: صَاعٌ كَالتَّمْرِ وَالثَّانِيَةُ نِصْفُ صَاعٍ كالبر تعلقاً برواية الزهري عن ثعلبة عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ " أَدُّوا صَاعًا مِنْ قمحٍ عن(3/379)
كل اثنين " ورواية دَاوُدَ بْنِ الزِّبْرِقَانِ عَنْ أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ حنطةٍ " وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ مُنَادِيًا أَنْ يُنَادِيَ أَلَا إِنَّ صَدَقَةَ الفطر مدانٍ من قمحٍ أو صاعٍ من تمرٍ) وَبِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ خَطَبَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: أَخْرِجُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ فَقَالَ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَلِّمُوا إِخْوَانَكُمْ، ثُمَّ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ قَالَ؛ وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ مَفْرُوضَةٌ تتعلق بأجناس المال، فوجب أن تختلف باختلاف الْأَجْنَاسِ كَالْمَوَاشِي، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَصَّ عَلَى صَدَقَةِ رَمَضَانَ فَقَالَ عَلَى كُلِّ إنسانٍ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ قمحٍ ".
وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعَا مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ أقطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طعامٍ ".
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعًا مِنْ طعامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زبيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أقطٍ، فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ فَكَلَّمَ فِيمَا كَلَّمَ فِيهِ فَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى مُدَّيْنِ مِنْ تمر الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ بذلك قال أبو سعيد: ولم أزل أُخْرِجُهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ قُوتٌ مُخْرَجٌ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّرًا بِالصَّاعِ كَالتَّمْرِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ فِي الْأَقْوَاتِ لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ، فَوَجَبَ أَنْ لا(3/380)
يَخْتَلِفَ قَدْرُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ، كَزَكَوَاتِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ فأما استدلالهم بالأخبار هي ضعيفة عند أهل النقل غير مقبولة عند أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
أَمَّا حَدِيثُ ثَعْلَبَةَ فَقَدْ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَفِي رِوَايَةِ رَجُلٍ مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ خِلَافُهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَوَجْهُ ضَعْفِهِ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ الْوَاهِيَةَ مَعَ ضَعْفِهَا لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ.
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَزْيَدُ مِنْهَا، والأخذ بالزيادة أولى.
والثاني: مَا رَوَيْنَاهُ أَحْوَطُ مِنْهَا، وَالْأَخْذُ بِالْأَحْوَطِ أَوْلَى، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا رويناه من إخراج صاع من بُرٍّ فِي ذَوِي الْيَسَارِ، وَمَا رَوَوْهُ فِي إِخْرَاجِ نِصْفِ صَاعٍ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ مِنْ ذَوِي الْإِعْسَارِ، فَيَكُونُ فِي نَصِّهِ عَلَى صاع من تمر تنبيه على صاع من الْبُرِّ فِي الْمُوسِرِينَ، وَفِي نَصِّهِ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ تَنْبِيهٌ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فِي الْمُعْسِرِينَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ، أَوْ فِي وَالِدٍ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى وَلَدَيْنِ، فَيَكُونُ فِي نَصِّهِ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ تَنْبِيهٌ عَلَى نِصْفِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَفِي نَصِّهِ عَلَى صاع من مِنْ تَمْرٍ تَنْبِيهٌ عَلَى صَاعٍ مِنْ بُرٍّ فَيُحْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَصٍّ وَتَنْبِيهٍ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَوَاشِي بِعِلَّةِ أَنَّهَا صَدَقَةٌ تتعلق بأجناس فوجب أن تختلف باختلاف أجناسه فباطل بصدقة الزُّرُوعِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لَا تَجِبُ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَيَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْمَالِ، فَلَمْ يَسْلَمِ الْوَصْفُ وَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ.(3/381)
فَصْلٌ
: فَأَمَّا قَدْرُ الصَّاعِ الْمُؤَدَّى، فَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ كُلُّ مُدٍّ مِنْهَا رِطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ فيكون الصاع خمسة أرطال وثلث بِالْعِرَاقِيِّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ وأبي يوسف وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَكْثَرِ فقهاء العرقيين وَقَالَ أبو حنيفة ومحمد: الْمُدُّ رِطْلَانِ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد " والمد رطلان، وقد روت عائشة بنت عجرد عن أن أَنْفَعَ امْرَأَةِ أَبِي السِّعْرِ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يغتسل بالصاع " والصاع ثمانية أطالٍ " قال وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ سَلَمَةَ أَنْ تُرِيَنِي صَاعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: فأخرجت صاعاً حزر به ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَهَذَا غَلَطٌ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ: احْلِقْ رَأْسَكَ وأنسك نسيك أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أيامٍ أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصعٍ سِتَّةَ مَسَاكِينَ وَرُوِيَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ، أَوْ تَصَدَّقْ بفرقٍ مِنْ تمرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّ القصة واحدة، وقول الأكثر واحد فنقل عنه ثلاثة آصع، ونقل عنه فرق فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ثَلَاثَةَ آصُعٍ فَنَقَلَ الرَّاوِي مَعْنَى الْخَبَرِ وَجَعَلَ مَكَانَ الْآصُعِ فَرَقًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أمر بفرق فنقل معناه وجعل مَكَانَ الْفَرَقِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ثلاثة آصع فرق من تمر في أدى ذلك أقول عَلَى أَنَّ الْفَرَقَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ فَلَمَّا لَمْ يختلف واجد هذين مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْفَرَقَ سِتَّةَ عَشَرَ رطلاً بالعراق، ثبت أن الصاع الذي هو خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلْثُ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، وَرَوَى مَالِكٌ قَالَ أَخْرَجَ لِي نَافِعٌ صَاعًا وَقَالَ هَذَا صَاعٌ أَعْطَانِيهِ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ هَذَا صَاعُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعيرته فكان بالعراقي خمسة أرطال وثلت، وَرُوِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ حَجَّ، وَمَعَهُ أبو يوسف فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكٍ، فَسَأَلَ أبو يوسف مَالِكًا عَنِ الصَّاعِ فَقَالَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ فَأَنْكَرَ أبو يوسف ذَلِكَ فَاسْتَدْعَى مَالِكٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، وَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ منهم يُحْضِرَ صَاعَهُ مَعَهُ، فَاجْتَمَعُوا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ منهم صاعه، يقول: هذا وَرِثْتُهُ عَنْ أَبِي وَحَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ قَالَ وَرِثْتُهُ عَنْ جَدِّي، وَأَنَّهُ كَانَ يُخْرَجُ بِهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَوَزَنَهُ الرَّشِيدُ، فَإِذَا هُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ فرجع أبو يوسف، إلى هذا الظهور فِي الصَّحَابَةِ، وَاشْتِهَارِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَتَوَاتُرِ نَقْلِ الْخَلَفِ عَنِ السَّلَفِ، فَإِنْ قَالُوا هَذَا عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَمَلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، قِيلَ: إِنَّمَا احْتَجَجْنَا بِنَقْلِهِمْ دُونَ عَمَلِهِمْ وَنَقْلُهُمْ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ(3/382)
الْمَدِينَةِ وَالْمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْلِ مَكَّةَ " فَكَانَ عَمَلُهُمْ بِذَلِكَ أَيْضًا حُجَّةً، فَإِنْ قِيلَ: وَهُوَ سُؤَالُ الكرخي من أصحابهم إنما عبروه خمسة أرطال، وثلث بِالْمَدِينَةِ وَرِطْلُ الْمَدِينَةِ رِطْلٌ، وَنِصْفٌ بِالْعِرَاقِيِّ فَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ وَرُجُوعُ أبي يوسف وَهْمٌ مِنْهُ قِيلَ لَوْ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أبي يوسف وَمَالِكٍ نِزَاعٌ، وَلَمَّا كَانَ مِثْلُ هَذَا يَخْفَى عَلَى الرَّشِيدِ وَمَنْ حَضَرَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْخِلَافِ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ روي أنهم وزنوه خمسة أرطال وثلث بِالْعِرَاقِيِّ ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " أَصْغَرُ الصِّيعَانِ صَاعُنَا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّاعَ هُوَ أَكْبَرُ، وَأَنَّ صَاعَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ الْأَصْغَرُ فَثَبَتَ قَوْلُنَا إنَّهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ لِأَنَّهُ أَصْغَرُ الصِّيعَانِ فَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَضَعِيفَةٌ جِدًّا، وَلَوْ صَحَّتْ رِوَايَتُهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ، لِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَأُمِّ أَنْفَعَ وَارِدٌ فِي صَاعِ الْمَاءِ، وَخِلَافُنَا فِي صَاعِ الزَّكَوَاتِ، وَقَدْ كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آصُعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُجَاهِدٍ فَهُوَ عَنْ حزر وَالْحِرْزُ فِي الْمَقَادِيرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولا تقوم الزكاة ولو قومت كان لو أدى ثمن صاعٍ زبيبٍ ضروعٍ أدى ثمن آصعٍ حنطةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ دَفْعَ الْقِيمَ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَلَوْ أَخْرَجَ قِيمَةَ الصَّاعِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَا يَجُوزُ لِمَا مَضَى، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَصَّ عَلَى قَدْرٍ مُتَّفَقٍ فِي أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَسَوَّى بَيْنَ قَدْرِهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَقِيمَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِقَدْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ دُونَ قِيمَتِهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِيهِ لَوَجَبَ إِذَا كَانَ قِيمَةُ صَاعٍ مِنْ زبيب ضروع، وهو الزبيب الكبار أضعاف حنطة فأخرج من الزبيب نصف صاع قيمته من الحنطة صاع أن يجزئه فلما أجمعوا على أنه لا يجزئه، وَإِنْ كَانَ بِقِيمَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ دُونَ الْمَنْصُوصِ عليه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يؤدي إلا الحب نفسه لا يؤدي دقيقاً ولا سويقاً ولا قيمةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.(3/383)
لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ بَدَلًا مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ دَقِيقًا وَلَا سَوِيقًا وَلَا بَدَلًا مِنَ التَّمْرِ دِبْسًا وَلَا نَاطِفًا، وَأَجَازَ أبو حنيفة ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ جَوَازِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ، وَأَجَازَ مَالِكٌ الدَّقِيقَ بَدَلًا مِنَ الْحَبِّ مَعَ وِفَاقَهُ أَنَّ الْقِيَمَ فِي الزَّكَوَاتِ لَا تَجُوزُ وَبِهِ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بَشَّارٍ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أقطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طعامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ دقيقٍ. وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْحَبَّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَامِلُ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْبَذْرِ وَالطَّحْنِ وَالْهَرْسِ وَالِادِّخَارِ وَالدَّقِيقُ مَسْلُوبُ الْمَنَافِعِ إِلَّا الِاقْتِيَاتَ فَلَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهُ لِنَقْصِ مَنَافِعِهِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ أَنْكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ وَهِمَ فِيهِ سُفْيَانُ:
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب إليّ لأهل البادية أن لا يؤدوا أقطاً لأنه وإن كان لهم قوتاً فالفث قوت وقد يقتات الحنظل والذي لا أشك فيه أنهم يؤدون من قوت أقرب البلدان بهم إلا أن يقتاتوا ثمرة لا زكاة فيها فيؤدون من ثمرةٍ فيها زكاةٌ ولو أدوا أقطاً لم أر عليهم إعادةً (قال المزني) قياس ما مضى أن يرى عليهم إعادةً لأنه لم يجعلها فيما يقتات إذا لم يكن ثمرةٌ فيها زكاة أو يجيز القوت وإن لم يكن فيه زكاةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَهْلُ الْبَادِيَةِ فَزَكَاةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ، وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ وَعَطَاءٍ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبٌ شَذُّوا بِهِ عَنِ الْإِجْمَاعِ، وَخَالَفُوا فِيهِ نَصَّ السُّنَّةِ، وَلَوْ جَازَ مَا قَالُوا مِنْ سُقُوطِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْهُمْ مَعَ قَوْلِهِ (عَلَى كُلِّ حُرٍّ وعبدٍ ذكرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لَجَازَ سُقُوطُ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ عَنْهُمْ فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ فِي زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ كَذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا عَلَيْهِمْ فَلَهُمْ فِيهَا حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْتَاتُوا مَا يَقْتَاتُهُ أَهْلُ الْحَضَرِ فَعَلَيْهِمْ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْهَا كَأَهْلِ الْحَضَرِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَاتُوا الْأَقِطَ فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ " كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زبيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أقطٍ " وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو وعن أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ " فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تمرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شعيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زبيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أقطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ طعامٍ " فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَصَحِيحٌ وَأَمَّا هَذَا فَضَعِيفٌ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ كَانَ يُخْرِجُ ذَلِكَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ بِعِلْمِهِ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فِي إِسْنَادِهِ فَإِنَّ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ، قَوْلًا وَاحِدًا(3/384)
وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ كَانَ يُخْرِجُ الْأَقِطَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أو بعلمه بدلاً صَحَّ الْحَدِيثُ الْآخَرُ فِي إِسْنَادِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ، إِخْرَاجُ الْأَقِطِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ لِأَنَّهُ قُوتٌ مُدَّخَرٌ يَسْتَنِدُ إِلَى أَثَرٍ فَجَازَ إِخْرَاجُهُ كَالتَّمْرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ، وَإِنْ كَانَ قُوتًا لَهُمْ مُدَّخَرًا فَهُوَ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ كما لا يجوز لهم إخراج القثاء وَحَبِّ الْحَنْظَلِ وَإِنْ كَانَ قُوتًا لَهُمْ مُدَّخَرًا، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ فَعَلَى هَذَا عليهم إخراجها من غالب قوت البلاد.
فَصْلٌ
: فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ يَقْتَاتُونَ اللَّبَنَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ لَوِ اقْتَاتُوا الْأَقِطَ لَمْ يجز لهم إخراجه لم يَجُزْ لَهُمْ إِخْرَاجُ اللَّبَنِ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا يَجُوزُ فَفِي جَوَازِ إِخْرَاجِ اللَّبَنِ إِذَا كَانَ قُوتًا لَهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْأَقِطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لا يجوز وهو الأصح.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَقِطِ ثُبُوتُ الْأَثَرِ فِي الْأَقِطِ وَعَدَمُهُ فِي اللَّبَنِ، وَلِأَنَّ الْأَقِطَ فِي حَالِ ادِّخَارِهِ فَجَازَ كَالتَّمْرِ وَاللَّبَنُ بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَجُزْ كَالرُّطَبِ، فَأَمَّا الْمَصْلُ وَالْكَشْكُ فَلَا يَجُوزُ لهم إخراجه لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ اقْتِيَاتُهُ مُفْرَدًا، فَأَمَّا أَهْلُ جَزَائِرِ الْبَحْرِ الَّذِينَ يَقْتَاتُونَ السُّمُوكَ، وَأَهْلُ الْفَلَوَاتِ النَّائِيَةِ الَّذِينَ يَقْتَاتُونَ الْبَيْضَ، وَلُحُومَ الصَّيْدِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهِمْ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّ حَالَهُمْ نَادِرَةٌ، وَقُوتَهُمْ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى أَثَرٍ فَأَمَّا أَهْلُ الْحَضَرِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُ الْأَقِطِ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ قُوتًا لِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ كُنَّا نُخْرِجُ الْأَقِطَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ قُلْنَا: قَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ كَثِيرًا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا كنت في باديتك فارقع صَوْتَكَ بِالْأَذَانِ " عَلَى أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ كِنَايَةً عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَهْلَ بَادِيَةٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجوز أن يخرج الرجل نصف صاعٍ حنطةٍ ونصف صاعٍ شعير إِلَّا مِنْ صنفٍ واحدٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ صَاعًا وَاحِدًا عَنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيُخْرِجُ بَعْضَهُ بُرًّا، وَبَعْضَهُ شَعِيرًا، وَبَعْضَهُ تَمْرًا وَبَعْضَهُ زَبِيبًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ(3/385)
شَعِيرٍ " فَأَوْجَبَ كَمَالَ الصَّاعِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، كَمَا أَوْجَبَ كَمَالَ الْكَفَّارَةِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الْكَفَّارَةِ فَيُطْعِمُ خَمْسَةً، وَيَكْسُو خَمْسَةً لَمْ يَجُزْ تَبْعِيضُ الصَّاعِ فَيُعْطِي نِصْفَهُ بُرًّا وَنِصْفَهُ شَعِيرًا وَلَكِنْ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ خَمْسَةُ آصُعٍ فَأَخْرَجَهَا مِنْ خَمْسَةِ أَجْنَاسٍ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْهَا صَاعٌ أَجْزَأَهُ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ أَوْ كَانَتْ قُوتُهُ أَوْ قُوتُ بَلَدِهِ كَمَا يَجْزِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الكفارات.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ قُوتُهُ حِنْطَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ شَعِيرًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِهِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى التَّخْيِيرِ، أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَلَى التخيير جاز إذا كان قوته تمراً أَنْ يُخْرِجَ شَعِيرًا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ الْقُوتِ إِمَّا بِغَالِبِ قُوتِ بَلَدِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ بِغَالِبِ قُوتِهِ فِي نَفْسِهِ.
عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فَكَانَ غَالِبُ قُوتِهِ بُرًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ شَعِيرًا، وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيْهِ، وَأَشْهَرُ نَصِّهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يخرجه مِنْ مسوسٍ وَلَا معيبٍ فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الماوردي: أما المسوس والمغيب وَمَا يَعَافُ النَّاسُ أَكْلَهُ لِنَتَنِ رِيحِهِ وَتَغَيُّرِ لَوْنِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهُ فِي زَكَاةِ فِطْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (البقرة: 267) وَرَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ " قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وفيه أقناء حشف معلقةٌ وبيده عصا فطعنه فِي الْقِنْوِ، وَقَالَ: إِنْ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا فَعَلَ إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ لَا يَأْكُلُ غَيْرَ الخشف يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَلِأَنَّ الْمَعِيبَ نَاقِصٌ وَالْمُسَوَّسَ فَارِغٌ.
فأما القديم، فإن تغيير لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِ، وَإِنَّمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ لِقِدَمِهِ، فَإِخْرَاجُهُ جَائِزٌ وغيره أولى منه.
مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كان قوته حبوباً مختلفة فأختار له خيرها ومن أين أخرجه أجزأه ".(3/386)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَقْصَاةً وَذَكَرْنَا إِذَا اسْتَوَتْ أَقْوَاتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهَا غالباً أن الأولى أن يخرج من أفضلهما نَوْعًا، وَأَكْثَرِهَا نَفْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا البِّرَ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) {آل عمران: 92) وَإِنْ أَخْرَجَ مَنْ أَدْونِهَا، وَهُوَ غَالِبُ قُوتِهِ أو جملة أقواته أجزاه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُقَسِّمُهَا عَلَى مَنْ تُقَسَّمُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمَالِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَصْرِفُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، مَصْرِفُ زَكَاةِ الْمَالِ فِي الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ في كتاب الله تعالى، وقال مالك على الفقراء خاصة، ويجوز أن يدفعها إلى فقير لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْيَوْمِ " وَأَشَارَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَأَمَرَ بِإِغْنَائِهِمْ وَإِغْنَاؤُهُمْ لَا يَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ صَاعٍ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إن تولى إخراجه بِنَفْسِهِ جَازَ، أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ جُمْلَةِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَيَدْفَعُهَا إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلى الأمام لم يعطها إِلَّا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا لِلضَّرُورَةِ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يُمْكِنُهُ وَضْعُهَا فِي جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ مَعَ اتِّسَاعِ الْمَالِ، وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَرَبُّ الْمَالِ إِنْ كُلِّفَ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ كُلِّفَ تَفْرِيقَ صَاعٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي حَالِهِ، وَرُبَّمَا بَعَثَهُ قِلَّتُهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَخْذِهَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين) {التوبة: 60) الْآيَةَ فَجَعَلَ مَا انْطَلَقَ اسم الصدقة عليه مُسْتَحِقًّا لِمَنِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِهَا صِنْفٌ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ كَزَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا، وَتَوَلَّى الْمُزَكِّي إِخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي " الْأُمِّ " فَرَّقَهَا فِي سِتَّةِ أَصْنَافٍ، وسقط عنه سهم العاملين والمؤلفة لِفَقْدِ مَا اسْتَحَقَّا بِهِ مِنَ الْحَاجَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ، فَرَّقَهَا فِيمَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى كَافِرٍ وَأَجَازَ أبو حنيفة دَفْعَهَا إِلَى كَافِرٍ، وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَجَعَلَ مَنْ تُدْفَعُ الصَّدَقَةُ إِلَيْهِ فقيراً، أو من تؤخذ الصدقة مِنْهُ غَنِيًّا، فَلَمَّا لَمْ تُؤْخَذِ الصَّدَقَةُ إِلَّا مِنْ غَنِيٍّ مُسْلِمٍ وَجَبَ أَنْ لَا تُدْفَعَ الصَّدَقَةُ إِلَّا إِلَى فَقِيرٍ مُسْلِمٍ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ لِلطُّهْرَةِ، فَلَمْ يُجِزْهُ دَفْعُهُ إِلَى أهل الذمة كزكاة المال.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب إلى ذوو رحمه إن كان لا تلزمه نفقتهم بحالٍ ".(3/387)
قال الماوردي: أما الأقارب وذووا الْأَرْحَامِ، فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ نَفَقَاتُهُمْ وَاجِبَةً كَالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ إِذَا كَانُوا فَقُرَاءَ زَمْنَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهُمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ نَفَقَاتُهُمْ وَاجِبَةً، كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ، وَالْخَالَاتِ فَالْأَوْلَى إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَخُصَّهُمْ بِهَا صِلَةً لِرَحِمِهِ وَبِرًّا لِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنْ تُفْسِدُواْ في الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمْ اللهُ) {محمد: 22) فَجَمَعَ بَيْنَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ عَقَّبَهَا بِاللَّعْنَةِ إِبَانَةً لِعِظَمِ الْإِثْمِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَبِيَدِهِ مخصرةٌ وهو يومي بِهَا وَيَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَادْخُلُوا الْجَنَّةَ بسلامٍ.
وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " صلوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ ".
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ (خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ) يَعْنِي الْمُعَادِي وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ امرئٍ وَذُو رحمٍ محتاجٌ " وفيه ثلاثة تأويلات:
أحدهما: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً كَامِلَةً وَذُو رَحِمِ مُحْتَاجٌ.
وَالثَّانِي: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ.
وَالثَّالِثُ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صدقة إما فرض، وإما تطوع وَذُو رَحِمٍ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مُحْتَاجٌ، فَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَيُخْتَارُ لِلزَّوْجَةِ إِذَا كَانَ زَوْجُهَا فَقِيرًا، أن تخصه بصدقتها، لأن فِي مَعْنَى أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا، وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ زَكَاتُهَا زَكَاتُهَا لَمْ يُجْزِهَا، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ أَقْوَى سَبَبًا مِنَ الزَّوْجِ لِأَنَّ عِصْمَةَ النَّسَبِ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهَا، وَعِصْمَةَ الزَّوْجِيَّةِ يُمْكِنُ قَطْعُهَا فَإِذَا جَازَ وَاسْتُحِبَّ لَهُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إِلَى أَهْلِهِ، وَأَقَارِبِهِ إِذَا كَانَتْ نَفَقَاتُهُمْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ جَازَ لِلزَّوْجَةِ، وَاسْتُحِبَّ لَهَا دَفْعُ الصَّدَقَةِ إِلَى زَوْجِهَا، إِذْ نَفَقَتُهُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَلَوْ عَدَلَ الْمُزَكِّي عَنْ أَقَارِبِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ إِلَى الْأَجَانِبِ الفقراء، فقد عدل عن الأولى وأجزأه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ طَرَحَهَا عِنْدَ مَنْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ أَجْزَأَهُ إن شاء(3/388)
الله تعالى. سأل رجلٌ سالماً فقال ألم يكن ابن عمر يدفعها إلى السلطان؟ فقال: بلى، ولكن أرى أن لا يدفعها إليه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ، فَقَدْ قَالَ أصحابنا وهي جَارِيَةٌ مَجْرَى زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَوَاشِي، لَكِنْ عُرْفُ السَّلَفِ جَارٍ بِتَوَلِّي النَّاسِ تَفْرِيقَهَا بِنُفُوسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ وَالِيَ الْوَقْتِ جَائِرًا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا وجب على قوله القديم دفعها إليه، واستحب ذلك لَهُ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظاهرة، فأما زكاة الفطرة فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَطْرَحَهَا عِنْدَ مَنْ تُجْمَعُ عِنْدَهُ فَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْوَالِي نَزِهًا فَقَدْ أَوْرَدَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَطَاءً عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ ادْفَعْهَا إِلَى الْوَالِي فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أخرجها بِنَفْسِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: فَإِنَّ عَطَاءً أَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَى الْوَالِي فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَفْتَاكَ الصَّالِحُ بِغَيْرِ مَذْهَبِهِ لَا تَدْفَعْهَا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا يُعْطِيهَا هِشَامٌ حَرَسَهُ، وَبَوَّابَهُ وَمَنْ شاء مِنْ غِلْمَانِهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَالِمًا فَقَالَ: أَحْمِلُ صَدَقَتِي إِلَى السُّلْطَانِ فَقَالَ: لَا فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ أَلَمْ يَكُنِ ابْنُ عُمَرَ يَدْفَعُهَا فَقَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَا أَرَى أَنْ تَدْفَعَهَا إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَحَبَّ ذَلِكَ عَلَى كل حال، وهذا يدل على أنه أجزأه مَجْرَى الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ وَأَوْلَى عِنْدِي.
فَصْلٌ
: قَدْ ذَكَرْنَا وَقْتَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَأَمَّا وَقْتُ إِخْرَاجِهَا فَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَقَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فِعْلِهِ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يُطْعِمَ قَبْلَ خروجه لصلاة العيد، فأمر له تفريقها فِي الْفُقَرَاءِ لِيَطْعَمُوا مِنْهَا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ الْإِمَامُ بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْفِطْرِ لِاشْتِغَالِ الْأَغْنِيَاءِ بِتَفْرِيقِهَا، وَاشْتِغَالِ الْفُقَرَاءِ بِأَخْذِهَا فَإِنْ قَدَّمَهَا قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، أَجْزَأَهُ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ أَحَدُ سَبَبَيْ وُجُوبِهَا فَإِنْ أخرها عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ كَانَ مُسِيئًا آثِمًا، وَكَانَ بِإِخْرَاجِهَا فِيمَا بَعْدُ قَاضِيًا، وَلَكِنْ لَوْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ يَوْمِهِ أَجْزَأَهُ، وَكَانَ مودياً لا قاضياً.(3/389)
باب الاختيار في صدقة التطوع
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عياضٍ عَنْ هشامٍ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَلْيَبْدَأْ أحدكم بمن يعول " (قال) : فهكذا أحب أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِمَنْ يَعُولُ لِأَنَّ نَفَقَةَ مَنْ يَعُولُ فَرْضٌ وَالْفَرْضُ أَوْلَى بِهِ من النفل ثم قرابته ثم من شاء وروي أن امرأة ابن مسعود كانت صناعاً وليس له مال فقالت لقد شغلتني أنت وولدك عن الصدقة فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك فقال " لك في ذلك أجران فأنفقي عليهم " والله أعلم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الزَّكَوَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَقَبْلَ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ فَغَيْرُ مُسْتَحَقَّةً، وَلَا مُخْتَارَةٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ " وَفِي قَوْلِهِ: " عَنْ ظَهْرِ غِنًى تَأْوِيلَانِ ".
أَحَدُهُمَا: بَعْدَ اسْتِغْنَاءِ نَفْسِهِ عَنْ تَتَبُّعِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ يَدِهِ.
وَالثَّانِي: بَعْدَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ النَّوَافِلَ إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ " وَفِيهِ أَيْضًا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ النَّوَافِلَ كَامِلَةً إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ إِحْكَامِ الْفَرَائِضِ وَيُحْتَسَبُ بِالنَّوَافِلِ عَنِ الْفَرَائِضِ، فَإِذَا كَمُلَتِ الْفَرَائِضُ تَقَبَّلَ النَّوَافِلَ، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِهَذَا فَإِذَا أَدَّى الرَّجُلُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مِنْ نَفَقَاتِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَمِنْ إِخْرَاجِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ اسْتَحْبَبْنَا(3/390)
حينئذ أن يتصدق بشيء من ماله فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عبدٍ يَتَصَدَّقُ بصدقةٍ مِنْ كسبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا وَلَا يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ إلا طيباً كما يَضَعُهَا فِي يَدِ الرَّحْمَنِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَى اللُّقْمَةَ فَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهَا لَمِثْلُ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ " ثُمَّ قَرَأَ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَات} (التوبة: 104) وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ.
فَقَالَ قَوْمٌ: بِجَمِيعِ مَالِهِ كَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه.
وقال آخرون ينصفه كَفِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بِثُلْثِهِ، كَفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْمُصَّدِّقِ، فَإِنْ كَانَ حَسَنَ الْيَقِينِ قَنُوعًا لَا يُقَنِّطُهُ الْفَقْرُ، وَلَا يَسْأَلُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن تتصدق فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْتُ الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَجِئْتُ بنصفِ مَالِي فَقَالَ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ قُلْتُ مِثْلَهُ قَالَ وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ فَقَالَ أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقُلْتُ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا فرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا أَقَرَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على ذلك واستحسنه لِمَا عَلِمَ مِنْ قُوَّةِ إِيمَانِهِ وَصِحَّةٍ يَقِينِهِ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقلالاً " فأما من كان ضعيف اليقين يطعنه الْفَقْرُ، وَيَسْأَلُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ بَلْ يَتَصَدَّقُ بِحَسَبَ حَالِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رَوَى مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ " كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ بيضةٍ مِنْ ذهبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ معدن فخذها فهي صدقةٌ لا أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى أَتَى بِهَا مِرَارًا فَأَعْرَضَ ثُمَّ أَخَذَهَا فَحَذَفَهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لَأَوْجَعَتْهُ ثُمَّ قَالَ يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَسْأَلُ الناس خير الصدقات ما أبقت عنى " وَأَرَادَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْ يُوَصِّيَ بِمَالِهِ(3/391)
كله للمساكين فأكرهه عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى رَجَعَ فِيهِ، وَقَالَ: لو مت على رأيك لرجمت قَبْرُكَ كَمَا يُرْجَمُ قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ.
فَصْلٌ
: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِالْيَسِيرِ، فَإِنَّ قَلِيلَ الْخَيْرِ كَثِيرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) {الزلزلة: 7) وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تمرةٍ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُرْدُدْ عَنْكَ حَذْمَةَ السَّائِلِ وَلَوْ بِمِثْلِ رَأْسِ الطَّيْرِ مِنَ الطَّعَامِ "، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَمْنَعْكُمْ مِنْ معروفٍ صَغِيرَهُ " وَيَخْتَارُ أَنْ يتصدق على ذوي أرحامه لما ذكرنا وَعَلَى أَهْلِ الْخَيْرِ، وَذَوِي الْفَضْلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَأْكُلْ طَعَامَكُمْ إِلَّا مؤمنٌ " فَإِنْ تُصَدِّقَ عَلَى كَافِرٍ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ مَجُوسِيٍّ جَازَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) {الإنسان: 8) وَالْأَسِيرُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَافِرًا، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تعالى مطمعه فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ وَرَوَى هشامٍ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ قَالَتْ: قَدِمَتْ على أمي راعيةً مشركةً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إني أمي جاءت راعية مُشْرِكَةً أَفَأَصِلُهَا قَالَ: " نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ ".
فَصْلٌ
: يُسْتَحَبُّ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنِ السُّؤَالِ لِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ بَايَعَنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَأَنْ لَا يَسْأَلَ أَحَدٌ أَحَدًا شَيْئًا، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأعطاهم حتى إذا نفذهم ما عندهم قَالَ مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خيرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ وَمَنْ يستغنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ(3/392)
يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أحدٌ مِنْ عطاءٍ أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ وَرَوَى طَارِقٌ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَصَابَتْهُ فاقةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ يَسُدَّ اللَّهُ فَاقَتَهُ وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ أَوْشَكَ لَهُ بِالْغِنَى أَوْ بِمَوْتٍ عاجلٍ " فَلِذَلِكَ كَرِهْنَا لَهُ السُّؤَالَ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافاً) {البقرة: 273) فَإِنْ سَأَلَ لَمْ يَحْرُمِ السُّؤَالُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَيَقْصِدُ بِسُؤَالِهِ أَهْلَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ سَائِلًا فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " يد الله العلياء وَيَدُ الْمُعْطِي الْوُسْطَى وَيَدُ الْمُسْتَعْطِي السُّفْلَى " فَأَمَّا مَنْ سَأَلَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْمَسْأَلَةِ بِمَالٍ، أَوْ بِصِنَاعَةٍ فَهُوَ بِسُؤَالِهِ آثِمٌ، وَمَا يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ سَأَلَ وَهُوَ غَنِيٌّ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ قِيلَ وَمَا غِنَاهُ، قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ عَدْلُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ إلحافاً " وليس الغنى بالمال وحده بل قد يَكُونُ الرَّجُلُ غَنِيًّا بِمَالِهِ، وَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا بِنَفْسِهِ، وَصَنْعَتِهِ فَإِذَا اسْتَغْنَى بِمَادَّةٍ مَنْ مَالٍ، أو صنعة كَانَ غَنِيًّا تَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ الْمَعُونَةَ، وَحُسْنَ الْكِفَايَةِ بِتَوْفِيقِهِ وَمِنْهُ إِنْ شاء الله.(3/393)
كتاب الصيام
أَمَّا الصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ الْإِمْسَاكُ يُقَالُ صَامَ فُلَانٌ بِمَعْنَى أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً) {مريم: 26) أَيْ: صَوْمًا وَسُكُوتًا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَنْ أكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا) {مريم: 26) وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِوَقْتِ الْهَاجِرَةِ، قَدْ صَامَ النَّهَارُ لِإِمْسَاكِ الشَّمْسِ فِيهِ عَنِ السَّيْرِ وَتَقُولُ خَيْلٌ صِيَامٌ بِمَعْنَى وَاقِفَةٌ، قَدْ أَمْسَكَتْ عَنِ السَّيْرِ قَالَ النَّابِغَةُ:
(خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غَيْرُ صائمةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلِكُ اللُّجُمَا)
وَقَالَ الْآخَرُ: {نَضْرِبُ الْهَامَ وَالدَّوَابِرَ مِنْهَا ... ثُمَّ صَامَتْ بِنَا الْجِيَادُ صِيَامًا)
أَيْ: قَامَتْ فَلَمْ تَنْبَعِثْ، ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ فَقَرَّرَ الصَّوْمَ، إِمْسَاكًا مَخْصُوصًا فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، فَانْتَقَلَ الصَّوْمُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ.
فَصْلٌ
: وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ) {البقرة: 183) الآية قوله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أَيْ: فُرِضَ عَلَيْكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) {المجادلة: 21) أَيْ: فَرَضَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: {أيَّاماً مَعْدُودَاتٍ) {البقرة: 184) فَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهَا زَمَانَ الصِّيَامِ ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمِنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) فَعَيَّنَ زَمَانَهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ مُبْهَمًا، وَحَتَّمَ صِيَامَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْإِنْسَانُ فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ صِيَامِهِ، وَإِفْطَارِهِ، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) {البقرة: 184) وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ(3/394)
التَّفْسِيرِ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَلْيَصُمْهُ وَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خمسٍ شهادةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ " وَدَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا ثَائِرَ الشِّعْرِ أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُسْمَعُ لِصَوْتِهِ دَوِيٌّ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ " أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ " وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاتَكُمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ " ثُمَّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ، وَهُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الدِّينِ فَمَنْ جَحَدَهُ فَقَدْ كفر، ومن أقربه وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَقَدْ فَسَقَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ الْقَتْلَ، كَمَا أَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ قُلْنَا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ مُشَابِهَةٌ لِلْإِيمَانِ لِأَنَّهُمَا قَوْل اللِّسَانِ، وَاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ فَقُتِلَ تَارِكُهَا كَمَا يُقْتَلُ تَارِكُ الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّيَامُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ تَارِكِهَا إِلَّا بِفِعْلِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ تَرْكُهَا مُوجِبًا لِقَتْلِهِ، وَالصِّيَامُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ تَارِكِهِ بِأَنْ يُمْنَعَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَمَا يُؤَدِّي إِلَى إِفْطَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِقَتْلِهِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِنْ ذَكَرٍ، وَأُنْثَى وَحُرٍّ وَعَبْدٍ وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا صوم عليهم لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا.(3/395)
فَصْلٌ
: ثُمَّ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فَرْضُ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، قِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَفِي هَذَا الشَّهْرِ فُرِضَ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، فَأَمَّا فَرْضُ الصَّلَاةِ فَنَزَلَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنَ الصِّيَامِ، لِتَقَدُّمِ فَرْضِهَا وَمُقَارَنَتِهِ الْإِيمَانَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الصِّيَامُ أَفْضَلُ مِنَ الصلاة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي عَلَيْهِ فاخْتَصَّ بِالصِّيَامِ، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ قَوْمٌ الصَّلَاةُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الصِّيَامِ وَالصِّيَامُ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ مُرَاعَاةً لِمَوْضِعِ نُزُولِ فَرْضِهِمَا.
فَصْلٌ
: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: جَاءَ رَمَضَانُ وَذَهَبَ رَمَضَانُ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا تَقُولُوا جَاءَ رَمَضَانُ فَإِنَّ رَمَضَانَ اسمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ قُولُوا شَهْرَ رَمَضَانَ " فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الشَّهْرَ وَلَكِنْ ذَكَرَ مَعَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الشَّهْرَ جَازَ كَقَوْلِهِ: صُمْتُ رَمَضَانَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ " وَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَائِقٌ فَسُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ رَمَضَانَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّمْضَاءِ، وَهُوَ شِدَّةُ الْحَرِّ لِأَنَّهُ حِينَ فُرِضَ وَافَقَ شِدَّةَ الْحَرِّ وَقَدْ رَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا سُمِّيَ رَمَضَانُ لِأَنَّهُ يَرْمِضُ الذُّنُوبَ " أَيْ: يَحْرِقُهَا وَيَذْهَبُ بِهَا.
فَصْلٌ
: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قِيلَ: كَانَ ابْتِدَاءُ فَرْضِ الصِّيَامِ أَوْ كَانَ نَاسِخًا لِصَوْمٍ تَقَدَّمَهُ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ ابْتِدَاءَ فَرْضِ الصِّيَامِ، وَكَأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِخٌ لِصَوْمٍ قَبْلَهُ، ثُمَّ لَهُمْ فِيهِ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ نَاسِخًا لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ نَاسِخًا لِلْأَيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَلَهُمْ فِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الثَّانِي عَشَرَ، وَمَا يَلِيهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا الثَّالِثَ عَشَرَ وَمَا يليه.(3/396)
باب النية في الصوم
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ لأحدٍ صِيَامُ فرضٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَا نَذْرٍ وَلَا كَفَّارَةٍ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صِيَامُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ إِجْمَاعًا فَأَمَّا صِيَامُ رَمَضَانَ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ زفر بن الهذيل، أَنَّهُ قَالَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 85) فَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِالنِّيَّةِ قَالَ: وَلِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مُسْتَحَقُّ الصَّوْمِ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى نِيَّةٍ كَالْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَمَّا كَانَ الْفِطْرُ فِيهِمَا مُسْتَحَقًّا، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى نِيَّةٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تَجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى) {الليل: 19، 20) فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُجَازَاةَ لَا تَقَعُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ حَتَّى يَبْتَغِيَ بِهِ الْفَاعِلُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " فَنَفَى الْعَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا بِغَيْرِ نيةٍ ".
وَرَوَتْ حَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ ".
وَرُوِيَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ من الليل.(3/397)
وَرُوِيَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهَا كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ، وَالْإِمْسَاكُ قَدْ يَقَعُ تَارَةً عِبَادَةً وَتَارَةً عَادَةً، فَالْعَادَةُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْأَكْلِ طُولَ يَوْمِهِ لِتَصَرُّفِهِ بِأَشْغَالِهِ، أَوْ تَقَدُّمِ مَا يَأْكُلُهُ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ نِيَّةٍ تُمَيِّزُ بَيْنَ إِمْسَاكِ الْعَادَةِ، وَإِمْسَاكِ الْعِبَادَةِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى سُقُوطِ النِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِبَيَانِهَا وَهِيَ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مُسْتَحَقُّ الصِّيَامِ فِيهِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ من وجهين:(3/398)
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ فَاسِدٌ بِمَنْ بَقِيَ عَلَيْهِ مَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرَ مَا يُؤَدِّيهَا فِيهِ، فَقَدِ اسْتَحَقَّ زَمَانُهَا عَلَيْهِ، وَمُنِعَ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهَا فِيهِ، ثُمَّ النِّيَّةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ.(3/399)
وَالثَّانِي: أَنَّ إِيقَاعَ غَيْرِهِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ لِأَنَّا قَدْ نَرَى الْإِفْطَارَ يَتَخَلَّلُهُ، وَفِطْرُ الْعِيدَيْنِ لَمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا يَمْتَنِعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ لَمْ يَتَخَلَّلْهُ غَيْرُهُ، لِاسْتِحَالَةِ الصَّوْمِ فِيهِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ النِّيَّةِ فِيهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ وَمَحِلُّهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ كُلَّ يَوْمٍ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَإِنْ نَوَى بَعْدَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ نَوَى بَعْدَ الْفَجْرِ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ لِصَوْمٍ(3/400)
مُسْتَحَقِّ الزَّمَانِ كَشَهْرِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ زَمَانُهُ أَجَزَأَهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ زَمَانُهُ كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ الْفَجْرِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ نَوَى فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى لِجَمِيعِ الشَّهْرِ أَجْزَأَهُ فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى أَهْلَ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ فِي نَهَارِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا فِي لَيْلِهِ مَعَ كَوْنِ عَاشُورَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَرْضًا، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ مِنَ النَّهَارِ قَالَ، وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى نِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ أَصْلُهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا شَقَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مَنُوطَةً بِوَقْتِ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ، وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ رُخِّصَ لَهُمْ فِي التَّقَدُّمِ عَلَى الْفَجْرِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا جُوِّزَ لَهُمْ بِهَذَا الْمَعْنَى التَّأَخُّرُ عَنِ الْفَجْرِ، وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " وَقَدْ رَوَتْ ذَلِكَ أَيْضًا عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهِ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ، وَلِأَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَاجِبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ مِنْ شَرْطِهِ مِنَ اللَّيْلِ، كَالْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ مُسْتَحَقٌّ عَرِيَ عَنِ النِّيَّةِ لَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تُؤَدَّى وَتُقْضَى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهَا كَمَحَلِّ النِّيَّةِ فِي قَضَائِهَا، أَصْلُهُ الصَّلَاةُ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ عَاشُورَاءَ، وَأَهْلِ الْعَوَالِي فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عَاشُورَاءَ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا بَلْ كَانَ تَطَوُّعًا لِقَوْلِهِ فِيهِ صِيَامُ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ غَيْرُ هَذَا، أَلَا تَرَاهُ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِيهِ أَنْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا فَدَلَّ تَرْكُهُ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَطَوُّعًا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَإِنَّا نَقُولُ: إِنَّ ابْتِدَاءَ فَرْضِهِمْ كَانَ مِنْ حِينَ بَلَغَهُمْ، وَأُنْفِذَ إِلَيْهِمْ وَمِنْ حِينِئِذٍ تَعَلَّقَتْ عَلَيْهِمُ الْعِبَادَةُ، فَلَمْ يُخَاطَبُوا بِمَا تَقَدَّمَ كَأَهْلِ قُبَاءٍ لَمَّا اسْتَدَارُوا فِي رُكُوعِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْ حِينِ بَلَغَهُمْ سَقَطَ عَنْهُمْ حُكْمُ الِاسْتِقْبَالِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاتِهِمْ قَبْلَ عِلْمِهِمْ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ نُسِخَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا نُسِخَ(3/401)
الْحُكْمُ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ شَيْءٌ قِيَاسًا، أَوِ اسْتِدْلَالًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّطَوُّعِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يُجْعَلُ فِيهِ الصَّائِمُ مُتَقَرِّبًا بِبَعْضِ يَوْمٍ، وَذَلِكَ مِنْ وَقْتِ مَا يُؤَدّي عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْوَاجِبِ يَلْزَمُهُ إِمْسَاكُ يَوْمِهِ أَجْمَعَ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي التَّطَوُّعِ فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَا فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمَّا شَقَّ عَلَى النَّاسِ إِنَاطَةُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي التَّقَدُّمِ، فَكَذَلِكَ رُخِّصَ لَهُمْ فِي التَّأَخُّرِ فَغَلَطٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ النِّيَّةَ، إِذَا جُوِّزَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفِعْلِ طَرَأَ عَمَلُهَا عَلَى نِيَّةٍ سَابِقَةٍ، وَاعْتِقَادٍ مُقَرَّرٍ، وَإِذَا تَقَدَّمَ الْفِعْلُ عَلَى النِّيَّةِ، وَرَدَ الْفِعْلُ عَارِيًا عَنْهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ تَأْخِيرُهَا فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " فَنَفَى جِنْسَ الصِّيَامِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ جِنْسُهُ بِوُجُودِهَا، قَالَ: وَلِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ كَالصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ وَأَيَّامَهُ كَالرَّكَعَاتِ فِيهَا ثُمَّ كَانَتْ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِيهِ لِجَمِيعِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتِ النِّيَّةُ مِنْ أَجْلِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَوْجُودٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَمَا يَلِيهِ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، وَهُوَ أَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ وَاجِبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ تَقَدُّمُ النِّيَّةِ مِنْ لَيْلَتِهِ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تُؤَدَّى وَتُقْضَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهَا كَعَدَدِ النِّيَّةِ فِي قَضَائِهَا أَصْلُهُ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الْفَوَائِتَ مِنْهَا كَالْمُؤَقَّتَاتِ، فِي إِفْرَادِ كُلِّ صلاة منها بينة مُجَرَّدَةٍ، وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ فِطْرٍ إِلَى صَوْمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ نِيَّةٌ تَخُصُّهُ كَالْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِي الصَّوْمِ قَضَاءٌ وَجَبَ فِيهِ أَدَاءٌ كَالِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " فَدَلِيلُنَا لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ تَبْيِيتَ جِنْسِ الصِّيَامِ فِي جِنْسِ اللَّيْلِ فَكُلُّ يَوْمٍ مِنَ الصِّيَامِ يُبَيَّتُ فِي جِنْسٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يُبَيَّتَ بِمَا يُبَيَّتُ بِهِ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ كَالصَّلَاةِ فَغَلَطٌ بَلْ كُلُّ يوم منه عبادة، لأنه لا يتعدى فساده إلى غيره.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا تَعْيِينُ النِّيَّةِ فَوَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَفِي كَيْفِيَّةِ تَعْيِينِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَنْوِي أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فَرْضًا كَمَا يَنْوِي صَلَاةَ الظُّهْرِ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا فَرْضًا كَمَا أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ لَا تَكُونُ إِلَّا فَرِيضَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَنْوِي أَنْ يصوم فرضاً من رمضان ولذلك فِي الظُّهْرِ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةَ الظُّهْرِ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ هَذَا لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ قَدْ يصلي الظهر، ويصوم رمضان، ولا يكونا لَهُ فَرْضًا فَافْتَقَرَتْ نِيَّتُهُ إِلَى تَعْيِينِ الْفَرِيضَةِ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ(3/402)
صَوْمًا مُطْلَقًا، لَمْ يُجْزِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَوَى نَذْرًا أَوْ كَفَّارَةً أَوْ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ رَمَضَانَ، وَلَا عَمَّا نَوَاهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ مُقِيمًا انْصَرَفَتْ نِيَّتُهُ إِلَى رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا صَحَّ لَهُ مَا نَوَاهُ إِلَّا أَنْ يُطْلِقَ النِّيَّةَ، أَوْ يَنْوِيَ صَوْمَ التَّطَوُّعِ فَتَنْصَرِفُ نِيَّتُهُ إِلَى صَوْمِ رَمَضَانَ، وَسَوَّى أبو يوسف ومحمد حُكْمَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَصَرَفَا النِّيَّةَ فِيهِمَا إِلَى صَوْمِ رَمَضَانَ وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ قَالَ: زَمَانُ رَمَضَانَ مُسْتَحَقٌّ لِلصَّوْمِ، وَالشَّيْءُ إِذَا تَعَيَّنَ زَمَانُ اسْتِحْقَاقِهِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ كَزَمَانِ الْفِطْرِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا فِي الصَّوْمِ تَمْيِيزُ إِمْسَاكِ الْعِبَادَةِ مِنْ إِمْسَاكِ الْعَادَةِ وَالتَّعْيِينُ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْيِينُ الْفَرْضِ مِنَ النَّفْلِ، وَوَجَدْنَا صَوْمَ رَمَضَانَ لَا يَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ قَالُوا: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ تَطَوُّعٍ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى فَرْضِهِ، وَكَذَلِكَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا نَوَاهُ عَنْ نَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ، أَوْ تَطَوُّعٍ انتقلت بنته إِلَى فَرْضِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْهَاءَ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّهْرِ وَعَائِدَةٌ إِلَيْهِ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَلْيَنْوِ الصِّيَامَ لَهُ، وَلَوْ أَرَادَ جِنْسَ الصَّوْمِ مُطْلَقًا، لَقَالَ: فَلْيَصُمْ فَلَمَّا قَيَّدَهُ بِالْهَاءِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرئٍ مَا نَوَى " فَصَرِيحُهُ أَنَّ لَهُ مَا يَنْوِيهِ وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِهِ، وَهَذَا إِذَا نَوَى تَطَوُّعًا لَمْ يَنْوِ صَوْمَ رَمَضَانَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ الِاحْتِسَابُ لَهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْوِهِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ يُعْطِي حُصُولَ التَّطَوُّعِ لَهُ غَيْرَ أَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ أَبْطَلَهُ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَفْتَقِرُ قَضَاؤُهَا إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ أَدَاؤُهَا إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ، أَصْلُهُ الصَّلَاةُ وَعَكْسُهُ الْحَجُّ، لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الصَّوْمِ قَضَاءٌ كَانَ شَرْطًا فِيهِ أَدَاءٌ كَأَصْلِ النِّيَّةِ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسَاوِيَ حَكَمَ مُبْدَلِهِ، أَوْ يَكُونَ أَخَفَّ مِنْهُ، وَأَضْعَفَ، فَأمَّا أَنْ يَكُونَ آكَدَ مِنْهُ وَأَقْوَى فَلَا، ثُمَّ كَانَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الْقَضَاءِ وَاجِبًا، فَبِأَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي الْأَدَاءِ أَوْلَى، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ مُسْتَحَقُّ الصِّيَامِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ، قُلْنَا فاسد بمن بقي عليه من وقت الصلاة قَدْرُ مَا يَفْعَلُهَا فِيهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ زَمَانَ فِعْلِهَا وَوَجَبَ عَلَيْهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهَا ثُمَّ يَبْطُلُ بِالْمُسَافِرِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَوْ نَوَى رَمَضَانَ عَنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَجَزَأَ عَمَّا نَوَاهُ ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِيهِ، فَعُلِمَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ التَّعْيِينَ إِنَّمَا يُرَادُ لِمَا يَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا، فَيَفْسَدُ أَيْضًا بِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَائِتَةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَنَوَّعْ تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَجِّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّنَا مُجْمِعُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ، لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ انْتَقَلَ إِلَى فَرْضِهِ، وَأَجْزَأَهُ وَعِنْدَ أبي حنيفة: لَا يَنْتَقِلُ عَمَّا نَوَاهُ وَعِنْدَ أبي حنيفة إِذَا نَوَى صِيَامَ التَّطَوُّعِ انْتَقَلَ إِلَى فَرْضِهِ وَأَجْزَأَهُ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى فَرْضِهِ، وَلَا يُجْزِيهِ عَمَّا نَوَاهُ وَإِذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِجْمَاعًا لَمْ يُجْزِهِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا(3/403)
بِالْآخَرِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْحَجِّ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْتَقِرْ قَضَاؤُهُ إِلَى التَّعْيِينِ، لَمْ يَفْتَقِرْ أَدَاؤُهُ إِلَى التَّعْيِينِ، وَلَمَّا افْتَقَرَ قَضَاءُ الصَّوْمِ إِلَى التَّعْيِينِ افْتَقَرَ أَدَاؤُهُ إِلَى التَّعْيِينِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فَهُوَ اللَّيْلُ مِنْ غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
والثاني: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا صيام لمن يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " فَلَوْ نَوَى مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِهِ لِخُلُوِّ جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ عَنِ النِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَجَزْتُمْ تقديم النية في الصوم ومنعتم من تقويمها فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ؟ قُلْنَا: لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّوْمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهِ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ يَدْخُلُ فِيهَا بِفِعْلِهِ، فَلَمْ تَلْحَقْهُ الْمَشَقَّةُ فِي مُرَاعَاةِ أَوَّلِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّوْمِ طُلُوعُ الْفَجْرِ وَطُلُوعُهُ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِمْ نِيَامًا، فَلَوْ كُلِّفُوا مُرَاعَاتَهُ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ اللَّيْلِ مَحَلٌّ لِلنِّيَّةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنْ نَوَى فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ صَحَّ صَوْمُهُ، وَإِنْ نَوَى فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِحَّ قَالَ: لِأَنَّ النِّصْفَ الْأَخِيرَ مِنْ تَوَابِعِ النَّهَارِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالنِّصْفَ الْأَوَّلَ مِنْ تَوَابِعِ النَّهَارِ الْمَاضِي، أَلَا تَرَى أَنَّ أَذَانَ الصُّبْحِ، وَرَمْيَ الْجِمَارِ يَصِحُّ فِعْلُهُمَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ، وَلَا يَصِحُّ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِمَا فِي مُرَاعَاةِ نِصْفِ اللَّيْلِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ فَهُوَ عَلَى نِيَّتِهِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: عَلَيْهِ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ بَعْدَ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَكَذَلِكَ لَوْ نَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ قَبْلَ الْفَجْرِ، لَزِمَهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ قَالَ لِأَنَّهُ بِالْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ قَدْ خَالَفَ نِيَّتَهُ، وَمَا عَقَدَهُ مِنَ الصَّوْمِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ: غَلَطٌ مَذْهَبًا وَحِجَاجًا، أَمَّا الْمَذْهَبُ: فَلِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُجَامِعٌ أَخْرَجَ مَكَانَهُ، وَصَحَّ صَوْمُهُ فَلَوْ لَزِمَهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ لَبَطَلَ صَوْمُهُ، لِأَنَّ نِيَّتَهُ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ تُصَادِفُ أَقَلَّ النَّهَارِ وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَعُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " وَلِأَنَّهُ مُفْطِرٌ فِي اللَّيْلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ فَتَرْكُهُ الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ مَعَ كَوْنِهِ مُفْطِرًا غَيْرُ مُفِيدٍ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ نَوَى مِنَ اللَّيْلِ صوم الغد، إن شاء زيداً، وَخَفَّ عَلَيْهِ وَطَابَ لَهُ، فَلَا صَوْمَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ زَيْدٌ، وَخَفَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ قَصْدُ الْعَمَلِ بِاعْتِقَادٍ خَالِصٍ، وَفِي تَعْلِيقِ النِّيَّةِ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ عُدُولٌ عَنْ مُقْتَضَى الْعِبَادَةِ، وَلَوْ نَوَى صَوْمَ الْغَدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَالصَّحِيحُ أَنْ لَا صَوْمَ لَهُ، لِأَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ يَرْفَعُ حُكْمَ مَا نِيطَ بِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بِأَنَّ صَوْمَهُ جَائِزٌ لعلتين مدخولتين.
أحدهما: أَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَالنِّيَّةُ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَالْأَقْوَالُ لَا تُؤَثِّرُ فِي اعْتِقَادَاتِ الْقُلُوبِ وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ.(3/404)
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ صَوْمَهُ وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْعِتْقِ، فَأَمَّا إِذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَوْقَعَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ؟ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ صَوْمِهِ لِأَنَّا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ نِيَّةٍ وَفِي شَكٍّ مِنْ تقدمها.
فصل
: إذا أصح نَاوِيًا ثُمَّ اعْتَقَدَ تَرْكَ صَوْمِهِ، وَفَطِرَ يَوْمَهُ بِأَكْلٍ أَوْ جِمَاعٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْكُلْ أَوْ يُجَامِعْ لِأَنَّ الصَّوْمَ إِمْسَاكٌ طَرَأَ عَلَى نِيَّةٍ سَابِقَةٍ، فلما لما يُفَارِقِ الْإِمْسَاكَ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ بَطَلَ كَمَا تُبْطُلُ صَلَاتُهُ، إِذَا اعْتَقَدَ تَرْكَهَا، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا فِي زَمَانِ فِطْرِهِ، وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْحَالِ.
وَالثَّانِي: حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّمَانِ قَدْرُ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى أَنْ يُفْطِرَ بَعْدَ سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ مُفْطِرًا، وَكَانَ عَلَى صَوْمِهِ وَلَوْ نَوَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُصَلٍّ بعد ساعة احتمل وجهين.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فأما فِي التَطَوُّعِ فَلَا بَأْسَ إِنْ أَصْبَحَ وَلَمْ يَطْعَمْ شَيْئًا أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ قَبْلَ الزَّوَالِ واحتج في ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يدخل على أزواجه فيقول " هل من غداءٍ؟ " فإن قالوا لا قال " إني صائمٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
لَا بَأْسَ أن ينوي لصوم التطوع نهارا قبل الزوال، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ التَّطَوُّعُ كَالْفَرْضِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ فَرْضًا وَنَفْلًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ النِّيَّةِ فِي نَفْلِهَا، كَمَحَلِّ النِّيَّةِ فِي فَرْضِهَا أَصْلُهُ الصَّلَاةُ وَدَلِيلُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنفَذَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ وَمَنْ لَمْ يأكل فليقم " وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ نَافِلَةً، وَأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَوْمِهِ نَهَارًا.
رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ " كَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَقُولُ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ غَدَاءٍ فَإِنْ قُلْنَا: لَا قَالَ: إِنِّي صَائِمٌ ".(3/405)
وَرُوِيَ " إِنِّي إِذًا صائمٌ ".
وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الخبر في ثلاثة أوجه:
أحدهما: أَنَّ الْتِمَاسَهُ الطَّعَامَ لِيَأْكُلَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُفْطِرًا إِذْ لَوْ كَانَ صَائِمًا مَا الْتَمَسَ طَعَامًا وَلَا أَهَمَّ بِالْإِفْطَارِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا الْتَمَسَهُ لِوَقْتِ الْإِفْطَارِ لَا لِلْأَكْلِ، فِي الْحَالِ، قُلْنَا: لَوْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَقَالَ هَلْ مِنْ عَشَاءٍ، فَلَمَّا قَالَ: هَلْ مِنْ غَدَاءٍ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ أَكْلَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ خَبَرَ مَنْزِلِهِ، قُلْنَا: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ ظَاهِرَ قوله " هل عندكم من غذاءٍ أتغذى بِهِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لَا قَالَ: " إِنِّي صَائِمٌ " فَعَقَّبَ ذَلِكَ بِمَا دَلَّ عَلَى مُرَادِهِ عَلَى أَنَّا رَوَيْنَا أَنَّهُ كَانَ إذا أحضروا الغذاء أَكَلَ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرُوهُ قَالَ إِنِّي صَائِمٌ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: مِنَ الْخَبَرِ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ بِصِيَامِهِ عِنْدَ فَقْدِ الطَّعَامِ دَلَّ عَلَى حُدُوثِ نِيَّتِهِ، وَأَنَّ صَوْمَهُ إِنَّمَا كَانَ لِفَقْدِهِ لِيَكُونَ الْحُكْمُ مَحْمُولًا عَلَى سُنَّتِهِ.
وَالدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِنْهُ: قَوْلُهُ " إِنِّي إِذًا صَائِمٌ " فَمَعْلُومٌ أَنَّ إِذًا للابتداء والاستثناء لا لِمَا مَضَى، وَتَقَدَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يَتَنَوَّعُ جِنْسُهَا فَرْضًا وَنَفْلًا وَيُخْرَجُ مِنْهَا بِالْفَسَادِ، فَوَجَبَ أن يخالف نفلها فرضها في تَرْكِ التَّوَجُّهِ، وَالْقِيَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّهُ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَخْتَلِفُ فَرْضُ الصِّيَامِ ونفله في كفارة الوطئ قُلْنَا: لَيْسَتِ الْكَفَّارَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّوْمِ وَإِنَّمَا هِيَ مُوجِبَاتُ إِفْسَادِهِ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تلزم لجرمة رَمَضَانَ لَا لِفَرْضِ الصِّيَامِ، فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْهَا يُخَالِفُ النَّفْلَ مِنْ وُجُوهٍ، فَجَازَ أَنْ يَتَّفِقَا فِي النِّيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّيَامُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الصِّيَامِ لَمَّا جَازَ تَقَدُّمُهَا جَازَ تَأْخِيرُهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نِيَّةِ الصِّيَامِ أَنَّ مَحَلَّهَا اللَّيْلُ لِلْخَبَرِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قام الدليل على جوازها قبل الزوال، وتبقى مَا بَعْدَهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ حَرْمَلَةُ جَوَازُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اللَّيْلُ مَحَلًا لِلنِّيَّةِ فِي(3/406)
صَوْمِ الْفَرِيضَةِ، وَاسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهِ ثُمَّ كَانَ النَّهَارُ مَحَلًا لِلنِّيَّةِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَجَبَ أن يستوي حكم جميعه.
فصل
: فإذا نويي صَوْمَ التَّطَوُّعِ نَهَارًا عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ فَهَلْ يُحْتَسَبُ لَهُ صَوْمُ جَمِيعِ الْيَوْمِ وَيُحْكَمُ لَهُ بِثَوَابِ سَائِرِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا يُحْتَسَبُ لَهُ صَوْمُ جَمِيعِ الْيَوْمِ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِثَوَابِ سَائِرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يُحْتَسَبُ لَهُ مِنْ وَقْتِ نِيَّتِهِ، وَمَا بَعْدَهُ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَيُحْكَمُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، قَالَ: لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى إِثْبَاتِ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهَا فَلَوْ حُكِمَ لَهُ بِصَوْمِ جَمِيعِ الْيَوْمِ، إِذَا نَوَى فِي بَعْضِهِ لَتَأَخَّرَتْ نِيَّتُهُ عَنِ ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ غَلَطٌ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ، وَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ صَائِمًا فِي بَعْضِ نَهَارِهِ مُفْطِرًا فِي بَعْضِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ نَوَى أَنْ يَصُومَ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ، لَمْ يَصِحَّ لِامْتِنَاعِ تَبْعِيضِ الصَّوْمِ وَتَفْرِيقِ الْيَوْمِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنَعًا، وَقَدْ حُكِمَ لَهُ بِصَوْمِ بَعْضِ الْيَوْمِ وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِجَمِيعِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ زَمَانَ اللَّيْلِ لَمَّا كَانَ مُنَافِيًا لِلصَّوْمِ صَحَّ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْأَكْلِ، وَالنِّيَّةِ لِصَوْمِ الْغَدِ، وَلَمَّا كَانَ زَمَانُ النَّهَارِ غَيْرَ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ، لَمْ يَصِحَّ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْأَدَاءِ، وَالنِّيَّةِ لِصَوْمِ مَا بَعْدُ وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَ الرَّجُلُ بَعْضَ الْعِبَادَةِ وَيُحْكَمَ لَهُ بِإِدْرَاكِ جَمِيعِهَا، وَثَوَابِ سَائِرِهَا كَالْمُصَلِّي يُدْرِكُ الْإِمَامَ رَاكِعًا فَيُحْتَسَبُ لَهُ بِجَمِيعِ الرَّكْعَةِ، وَثَوَابِ سَائِرِهَا، وَإِنْ كَانَ مُدْرِكًا لِبَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّ الْهِلَالَ قَدْ كَانَ أَوْ يَسْتَكْمِلَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ فَيَعْلَمَ أَنَّ الْحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ رمضان لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوماً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، إِذَا عُلِمَ دُخُولُهُ، وَالْعِلْمُ بِدُخُولِهِ يَكُونُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ إِمَّا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ، أَوِ اسْتِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُجْرِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَا أَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِذَا وَقَعَ الْإِشْكَالُ بَعْدَ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ فِي عَدَدِ الشَّهْرِ عمل على اليقين وهو الثَّلَاثِينَ، وَأَطْرَحَ الشَّكَّ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا فِي صَوْمِهِمْ عَلَى الْعَدَدِ وَأَسْقَطُوا حُكْمَ الْأَهِلَّةِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " شهرا النسك(3/407)
لَا يَنْقُصَانِ " يَعْنِي شَهْرَ الصِّيَامِ، وَشَهْرَ الْحَجِّ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ " وَحُكِيَ عَنْ آخَرِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا فِي صَوْمِهِمْ عَلَى النُّجُومِ وَمَا تُوجِبُهُ أَحْكَامُ الْحِسَابِ تَعَلُّقًا بُقُولِهِ {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) {النحل: 16) فَأَخْبَرَ أن الابتداء يكون بالنجم، والدليل عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ " فَعَلَّقَ حُكْمَهُ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ، لَا ثَالِثَ لَهُمَا، وَرَوَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تكلموا الْعِدَّةَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَى تَرَوُا الْهِلَالَ أَوْ تُكْمِلُوا الْعِدَّةَ " فمَنَعَ مِنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ إِلَّا بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ:
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " نَحْنُ أمةٌ أميةٌ لَا نَكْتُبُ، وَلَا نَحْسِبُ الشَهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مراتٍ، يَعْنِي ثَلَاثِينَ ثُمَّ قَالَ: وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا ثُمَّ بَسَطَهَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَبَضَ فِي الثَّالِثَةِ إِبْهَامَهُ مِنْ إِحْدَى يَدَيْهِ " وَرُوِيَ بِنْصَرَهُ يَعْنِي: تِسْعَةً وَعِشْرِينَ.
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَذَّبَ بِمَا أُنْزِلَ على محمد " ويروى فقد كذب بِمَا أُنْزِلَ عَلَى محمدٍ فَأَمَّا تَعَلُّقُ أَصْحَابِ العدد بقوله " شهر النُّسُكِ لَا يَنْقُصَانِ " فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا أَصْلَ لَهُ لِأَنَّ الْمُشَاهِدَةَ تَدْفَعُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى أنه خرج جواباً لمن أخبر بنقصانها فِي سَنَةٍ بِعَيْنِهَا، وَكَانَا كَامِلَيْنِ فَأَخْبَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُمَا غَيْرُ نَاقِصَيْنِ يَعْنِي فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يَوْمُ صَوْمِكُمْ يَوْمُ نَحْرِكُمْ " فَفِيهِ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا، عَلَى أَنَّا رَوَيْنَا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال:(3/408)
" صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ " وَأَمَّا تَعَلُّقُ أَصْحَابِ النُّجُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) {النحل: 16) فَالْمُرَادُ بِهِ دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ، وَمَسَالِكُ السَّابِلَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {يَسْألُونَك عَنِ الأَهِلَّةِ) {البقرة: 189) .
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِدُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ يَحْصُلُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: لَا ثَالِثَ لَهُمَا: إِمَّا رُؤْيَةُ الْهِلَالِ، أَوِ اسْتِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَلَا فَرْقَ، بَيْنَ أَنْ يَرَى الْهِلَالَ ظاهراً، أو خفياً ويلزم الصيام برؤيته عللاى أَيِّ حَالٍ كَانَ، فَلَوْ رَآهُ جَمَاعَةٌ مِنْ بَلَدٍ وَلَمْ يَرَهُ بَاقِيهِمْ لَزِمَ جَمِيعَهُمُ الصِّيَامُ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ، عَلَى الْأَعْمَى وَالْمَحْبُوسِ وَإِنْ لَمْ يَرَيَاهُ فَلَوْ رَآهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَرَهُ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ لم يروه على ثلاثة أوجه:
أحدهما: أَنَّ عَلَيْهِمْ يَصُومُوا إِذْ لَيْسَ رُؤْيَةُ الْجَمِيعِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ، وَفَرْضُ اللَّهِ تَعَالَى على جميعهم واحداً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُمْ صِيَامُهُ حَتَّى يَرَوْهُ لِأَنَّ الطَّوَالِعَ، وَالْغَوَارِبَ قَدْ تَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، وَكُلُّ قَوْمٍ فَإِنَّمَا خُوطِبُوا بِمَطْلَعِهِمْ وَمُغْرِبِهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ يَتَقَدَّمَ طُلُوعُهُ فِي بَلَدٍ، وَيَتَأَخَّرُ فِي آخَرَ وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ، قَدْ يَتَعَجَّلُ غُرُوبُهَا فِي بَلَدٍ وَيَتَأَخَّرُ فِي آخَرَ، ثُمَّ كَانَ الصَّائِمُ يُرَاعِي طُلُوعَ الْفَجْرِ وَغُرُوبَ الشَّمْسِ فِي بَلَدِهِ فَكَذَلِكَ الْهِلَالُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانُوا مِنْ إِقْلِيمٍ وَاحِدٍ لَزِمَهُمْ أَنْ يَصُومُوا، وَإِنْ كَانُوا مِنْ إِقْلِيمَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ، لم رُوِيَ أَنَّ ثَوْبَانَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الشَّامِ فَأَخْبَرَهُمْ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الْمَدِينَةِ بليلةٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَلْزَمُنَا لَهُمْ شَامُهُمْ وَلَنَا حِجَازُنَا فَأَجْرَى عَلَى الْحِجَازِ حُكْمًا وَاحِدًا، وَإِنِ اختلفت بلاده، وفرق بينه وبين الشام.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَقَدَّمُ الصِّيَامَ بِيَوْمٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ أَنَّ صَوْمَهُ مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ صَامَهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا أَوْ كَفَّارَةً، أَوْ نَذْرًا إِلَّا أَنْ يَصِلَهُ بِمَا قَبْلَهُ، أَوْ يُوَافِقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ؟ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ.(3/409)
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: إِنَّ صَوْمَهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ صَحْوًا فَصَوْمُهُ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْمًا صَامَهُ من رَمَضَانَ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالْمَذْهَبُ الرابع: أن الناس في صومه تَبَعٌ لِإِمَامِهِمْ إِنْ صَامَ صَامُوهُ، وَإِنْ أَفْطَرَ أَفْطَرُوهُ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ.
وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: إِنْ صَامَهُ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ صَامَهُ نَافِلَةً جَازَ وَلَمْ يُكْرَهْ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ صَوْمَهُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِيهِ، بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: لأن أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، فَقَدِ اخْتَارَ صومه، واستحبه قال وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ الصِّيَامَ بِيَوْمٍ قَالُوا: وَلِمَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ قَالُوا: وَلِأَنَّ صَوْمَهُ كَالنَّفْلِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا كَالصَّلَوَاتِ، وَلِأَنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ مِنْ شعبان، فلا يكن فِيهِ مَكْرُوهًا كَسَائِرِ أَيَّامِهِ وَدَلِيلُنَا عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهِ رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بصومٍ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ، لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلًا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ حَالَ سحابةٌ أَوْ غَمَامَةٌ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَيَوْمِ الشَّكِّ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا انْتَصَفَ الشَهْرُ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ " وَرُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ يَوْمِ شَكٍّ وَيَوْمِ فِطْرٍ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَذَلِكَ يَوْمُ الشَّكِّ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّمَا صَامَهُ، لِأَنَّ شَاهِدًا شَهِدَ بِالْهِلَالِ عِنْدَهُ كَذَا رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ، وَكَذَا نَقُولُ، وَأَمَّا صِيَامُ ابْنِ(3/410)
عُمَرَ فَلِأَنَّهُ وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَوْ صُمْتُ الدهر لا فطرت يَوْمَ الشَّكِّ وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ دُخُولٌ فِي الْعِبَادَةِ مَعَ الشَّكِّ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ التَّنَفُّلَ قَبْلَ الْفَرْضِ، قُلْنَا: يَفْسَدُ عَلَيْكُمْ بِوَقْتِ الْهَاجِرَةِ إِذَا اسْتَوَتِ الشَّمْسُ لِلزَّوَالِ، وَعِنْدَ الْغُرُوبِ فَإِنَّ التَّنَفُّلَ فِيهِمَا مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ تَنَفُّلًا قَبْلَ الْفَرِيضَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الشَّهْرِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن شهد شاهدان أن الهلال رؤي قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ووجب الصيام ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا رَأَى النَّاسُ الْهِلَالَ فِي نَهَارِ يَوْمِ الشَّكِّ، أَوْ شهد رؤيته عدلان، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ سَوَاءٌ كَانَ رُؤْيَتُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ بَعْدَهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وأبو يوسف، إِنْ رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ السَّالِفَةِ، وَإِنْ رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلْمُسْتَقْبَلَةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، بِقَوْلِهِمْ، وَفِي هِلَالِ شَوَّالٍ بِقَوْلِنَا احْتِيَاطًا وَاسْتِظْهَارًا، وَاسْتَدَلُّوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ " فَوَجَبَ لِهَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الْفِطْرُ مُعَلَّقًا بِرُؤْيَتِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْهِلَالَ لَا بُدَّ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى لَيْلٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا قَارَبَهُ، وَمَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ يَوْمَ الشَّكِّ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ المستقبلة ولأنه رُئِيَ هِلَالٌ فِي يَوْمِ الشَّكِّ فَوَجَبَ أَنْ يكون لليلة المستقبلة إِذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصِّيَامِ عِنْدَ حُصُولِ الرُّؤْيَةِ، وَإِذَا رَآهُ نَهَارًا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ صِيَامِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِيهِ، وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ اعْتِبَارِ الْقُرْبِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ إِلَى اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ أَقْرَبُ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّكَ إِذَا اعْتَبَرْتَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ إِلَى مُقَارَبَةِ الزَّوَالِ، وَمِنْ مُقَارَبَةِ الزَّوَالِ إِلَى أَوَّلِ اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ كان هذا أقرب.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شَهِدَ عَلَى رُؤْيَتِهِ عدلٌ واحدٌ رَأَيْتُ أَنْ أَقْبَلَهُ لِلْأَثَرِ فِيهِ وَالِاحْتِيَاطِ وَرَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وقال علي عليه السلام " أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أن أفطر يوماً في رمضان " (قال) والقياس أن لا يقبل على مغيبٍ إلا شاهدان ".(3/411)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا هِلَالُ شَوَّالٍ وَسَائِرُ الْأَهِلَّةِ سِوَى رَمَضَانَ، فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ قِيَاسًا عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ لِتَعَلُّقِهِ بِعِبَادَةٍ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا خَبَرَ فِيهِ، وَلَا أَثَرَ وَلَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ فَأَمَّا هِلَالُ رَمَضَانَ، فَإِنْ شَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ عَدْلَانِ وَجَبَ اسْتِمَاعُهُمَا، وَالْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا.
وَقَالَ أبو حنيفة إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ إِلَّا التَّوَاتُرَ مِمَّنْ يَقَعُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ السَّهْوُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ مُغَيَّمَةً قَبِلْتُ شَهَادَةَ الواحد، قال: لأن الهلال يدرك نجاسة الْبَصَرِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكَافَّةُ، وَلَا تَخْتَصُّ بِهَا طَائِفَةٌ فَإِذَا لَمْ يَشْهَدْ رُؤْيَتَهُ عَدَدٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِشَهَادَتِهِمْ، لَمْ يُقْبَلُوا فَأَمَّا مَعَ الْغَيْمِ فَيُقْبَلُ الْوَاحِدُ، لِأَنَّ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْجَلِيَ الْغَيْمُ عَنِ الْهِلَالِ فَيَرَاهُ وَاحِدٌ مِنَ الناس، ثم يتحلله السَّحَابُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ وَتَسْوِيَةِ الْحُكْمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ صَحِبْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَعَلَّمْنَا مِنْهُمْ فَكَانُوا يُخْبِرُونَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ صُومُوا، لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فأكملوا العدة ثَلَاثِينَ، فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عدلٍ فَصُومُوا، فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ أبي حنيفة وَلَيْسَ اشْتِرَاكُ النَّاسِ فِي حَاسَّةِ الْبَصَرِ يُوجِبُ تَمَاثُلَهُمْ فِي الْإِدْرَاكِ، لِأَنَّا قَدْ نَجِدُ بَصِيرَيْنِ يَعْتَمِدَانِ نَظَرَ شَيْءٍ عَلَى بُعْدٍ فَيَرَاهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لِحِدَّةِ بَصَرِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي الشَّيْءِ الْمَرْئِيِّ، ثُمَّ يَتَوَجَّهُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أبي حنيفة إِذَا رَآهُ عَدَدٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ وَلَمْ يَرَهُ الْكَافَّةُ مَعَ تَمَاثُلِهِمْ فِي الْحَاسَّةِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِهِمْ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا شَهِدَ عَلَى رُؤْيَتِهِ عَدْلٌ وَاحِدٌ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَقَالَ فِي الْبُوَيْطِيِّ: لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَرْتِيبِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذْهَبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِنْ شَهِدَ ذَوَا عدلٍ فَصُومُوا " فَعَلَّقَ حُكْمَ الشَّهَادَةِ بِعَدْلَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَ الْوَاحِدِ مُخَالِفٌ لحكمهما، ولأنهما شَهَادَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ عَدْلَيْنِ قِيَاسًا عَلَى هِلَالِ شَوَّالٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُقْبَلُ فِيهِ شَاهِدٌ واحد وربه وقال أبو حنيفة إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيَّمَةً، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَرَأَيْتُهُ وَحْدِي فأخبرت رسول(3/412)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَأَيْتُ الْهِلَالِ فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ قَالَ قُمْ يَا بِلَالُ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غداً.
وروي عن طاوس قال شهدت المدنية وَبِهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَشَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ الْوَالِي أَنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ فَبَعَثَ الْوَالِي إِلَيْهِمَا يَسْأَلُهُمَا فَأَمَرَاهُ أَنْ يُجِيزَ شَهَادَتَهُ وَأَخْبَرَاهُ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَأْمُرُ بِالصَّوْمِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ فِي الْفِطْرِ إِلَّا الِاثْنَيْنِ وَرَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ، أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَصَامَ، وأمر الناس بالصيام وقال لأن أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَلِأَنَّهُ حَالٌ يستوي في الْمُخْبِرُ، وَالْمُخْبَرُ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ فِيهِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ.
أَصْلُهُ: حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي فِي تَرْتِيبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ، وَثَبَتَتْ قَبْلَ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ضَعَّفَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ إِلَّا شاهدين كَسَائِرِ الْأَهِلَّةِ.
وَالثَّانِي: يُقْبَلُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ لِلِاحْتِيَاطِ، وَالْأَثَرِ الثَّابِتِ عَنْ عَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِذَا قِيلَ: بِقَبُولِ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْبَلَ شَاهِدٌ عَبْدًا، وَلَا امْرَأَةٌ وَلَا صَبِيٌّ لِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَأَجَازَ أبو حنيفة شَهَادَةَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَأَجْرَاهُ مَجْرَى الْخَبَرِ، وَسَاعَدَهُ عَلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَلَيْسَ بِمَذْهَبٍ لِلشَّافِعِيِّ بَلْ مَنْصُوصُهُ خِلَافُهُ، وَلَوْ جَرَى مَجْرَى الْخَبَرِ لَلَزِمَ فِيهِ قَبُولُ الْوَاحِدِ عَنِ الواحد، ولم يقل بهذا أحد فعلم أنه شَهَادَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا أَمَرْتُمْ بِالصِّيَامِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ ثُمَّ أَوْجَبْتُمُ الْفِطْرَ بَعْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِينَ، فَقَدْ قَضَيْتُمْ فِي الْفِطْرِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ قِيلَ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِهِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا لَمْ يَرَ النَّاسُ هِلَالَ شَوَّالٍ صَامُوا أَحَدًا وَثَلَاثِينَ اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى.(3/413)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ إِذَا صَامَ النَّاسُ الثَّلَاثِينَ أَفْطَرُوا فِي الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ رَأَوُا الْهِلَالَ أَوْ لَمْ يُرَوْهُ، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الِابْتِدَاءُ لَمْ يَكُنْ مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَثْبُتُ بِهِ قَادِحًا فِي إِثْبَاتِهِ، كَمَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَإِنْ كَانَ يَتْبَعُهَا أَحْكَامُ النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ، وَمَا لَا تقبل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وعليه في كل ليلة نية الصيام للغدٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ أَوِ احْتِلَامٍ اغْتَسَلَ وَأَتَمَّ صَوْمَهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ ثَمَّ يَصُومُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَنْ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنَ احْتِلَامٍ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَلَمَ نَهَارًا كَانَ عَلَى صَوْمِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَأَمَّا مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ كَانَ فِي اللَّيْلِ، فَعِنْدَ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ يَغْتَسِلُ وَيُجْزِئُهُ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ: أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ فَسَدَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ قَالَ " مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جماعٍ فَلَا صَوْمَ لَهُ " وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ، قوله تعالى: {فَالآنََ بَاشِرُوهُنَّ} إِلَى قَوْلِهِ {مِن الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} (البقرة: 187) وَكَانَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّاسِ الْأَكْلَ وَالْجِمَاعَ فِي لَيْلِ الصِّيَامِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ النَّوْمِ، حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَتَهُ فِي لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَتْ: إِنِّي صَلَّيْتُ الْعِشَاءَ فَوَاقَعَهَا وَأَخْبَرَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ) {البقرة: 187) الآية وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ صِرْمَةَ بْنَ قَيْسٍ وَكَانَ شَيْخًا(3/414)
مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى مَنْزِلَهُ، وَلَمْ يُهَيَّأْ إِفْطَارُهُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ ثُمَّ أُتِيَ بِالطَّعَامِ، وَقَدْ نَامَ فلم يأكل وأصبح طاوياً، خَرَجَ إِلَى ضَيْعَتِهِ فَعَمِلَ فِيهَا فَغُشِيَ عَلَيْهِ، وخاف التلف فنزل قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الخَيْطُ الأَبْيَضُ منَ الخَيطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ) {البقرة: 187) فَلَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَكْلَ، وَالْجِمَاعَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَمِ يَسْتَثْنِ زَمَانَ الْغُسْلِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لَا مِنِ احْتِلَامٍ وَيَصُومُ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ واقفٌ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ لَهُ إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصَوْمَ فَقَالَ وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأُرِيدُ الصَّوْمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَغَضِبَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي وَأَيْضًا فَإِنَّ الغسل عن الوطئ كَالشِّبَعِ وَالرِّيِّ عَنِ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ ثُمَّ كَانَ هَذَا غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلصَّوْمِ كَذَلِكَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ فِعْلٍ مُبَاحٍ.
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هريرة فغير ثابت وإن صح فقد رَجَعَ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى مَرْوَانَ فَتَذَاكَرْنَا الْجَنَابَةَ، فِي الصَّوْمِ، فَقَالَ مَرْوَانُ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا مِنْ جماعٍ فَلَا صوم له ثم أقسم مروان علينا أن نسأل عائلة وَأُمَّ سَلَمَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جماعٍ لَا مِنِ احْتِلَامٍ وَيُتِمُّ صَوْمَهُ فَأَقْسَمَ عَلَيْنَا مَرْوَانُ أَنْ نَلْقَى أَبَا هُرَيْرَةَ فَلَقِينَاهُ، فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا جَرَى فَقَالَ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مُخْبِرٌ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ الْفَضْلُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ مَيِّتًا، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَمْ يَصِحَّ التَّعَلُّقُ بِهِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ يَرَى الْفَجْرَ لَمْ يَجِبْ وَقَدْ وَجَبَ أَوْ يَرَى أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ وَجَبَ ولم يجب أعاد ".
قال الماوردي: وهذا صَحِيحٌ أَمَّا إِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ دُخُولُ اللَّيْلِ، فَظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ، وَأَنَّ اللَّيْلَ قَدْ دَخَلَ فَأَفْطَرَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ نَهَارًا، وَأَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَكُنْ غَرَبَتْ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.(3/415)
وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ إِنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ تَعَلُّقًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَبِمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَوِيقٍ، وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ، وَعِنْدَهُ أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ وَجَبَ وَأَكَلَ النَّاسُ مَعَهُ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا نَقْضِي مَا جَانَفْنَا إِثْمًا. وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ مَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَ قومٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا: إِنَّا ظَنَنَّا أَنَّ اللَّيْلَ قَدْ دَخَلَ فَأَكَلْنَا ثُمَّ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ نَهَارًا فَأَمَرَهُمُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِعَادَةِ يومٍ مَكَانَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ أَفْطَرُوا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ ظُهُورُ الشَّمْسِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَطْبُ يَسِيرٌ نَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَهَذَا صَحِيحٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي: إِنَّ فِيهِ قَضَاءَ يَوْمٍ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَشُقُّ، وَلِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يُسْقِطُ حُكْمَ الْوَقْتِ كَمَا إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ زَوَالُ الشَّمْسِ فَصَلَّى، ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَدُخُولِ اللَّيْلِ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَنْ صَلَّى شَاكًّا فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى الْمُصَلِّي، وَسُقُوطِهَا عَنِ الصَّائِمِ قُلْنَا: إِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ الصَّائِمَ يَكُونُ مُفْطِرًا بِدُخُولِ اللَّيْلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَا يَكُونُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ مُصَلِّيًا حَتَّى يَفْعَلَ الصَّلَاةَ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْقَى عَلَى جُمْلَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَلَا يَتَبَيَّنَ لَهُ الْيَقِينُ فَهَذَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ، فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ حُكْمِهِ إِلَّا بِيَقِينِ خُرُوجِهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ فَأَكَلَ فَإِنْ كَانَ عَلَى شَكٍّ، وَاشْتِبَاهٍ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَيْضًا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّ الْفَجْرَ كَانَ طَالِعًا حِينَ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يُسْقِطُ حُكْمَ الْوَقْتِ مَعَ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْغُرُوبِ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الإباحة في الأكل.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ بَقَاءُ اللَّيْلِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَكَلَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِمُصَادَفَتِهِ زَمَانَ الْإِبَاحَةِ.
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْقَى عَلَى حَالِ الِاشْتِبَاهِ فَلَا يَبِينُ لَهُ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَلَا طُلُوعُ الْفَجْرِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ مَا لَمْ يتيقن طلوع الفجر.(3/416)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ لَفَظَهُ فَإِنِ ازْدَرَدَهُ أَفْسَدَ صَوْمَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح، إذا اطلع الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ أَوْ مَاءٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَلْفِظَ الطَّعَامَ، وَيَمُجَّ الْمَاءَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ عَلَى صَوْمِهِ، وَكَأَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَإِنِ ازْدَرَدَهُ وَابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ إِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، وَصَارَ فِي حُكْمِ الْآكِلِ عَامِدًا، لِأَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِي فَمِهِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي صَوْمِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ فِي فَمِهِ جَمِيعَ يَوْمِهِ كَانَ عَلَى صَوْمِهِ، وَإِنْ وَصَلَ طَعْمُهُ إِلَى حَلْقِهِ فَلَوْ سَبَقَهُ الطَّعَامُ وَدَخَلَ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِازْدِرَادِهِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ فَفِي إِفْطَارِهِ وَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ.
أَصَحُّهُمَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَالثَّانِي: لا قضاء عليه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ مُجَامِعًا أَخْرَجَهُ مَكَانَهُ فَإِنْ مَكَثَ شَيْئًا أَوْ تَحَرَّكَ لِغَيْرِ إِخْرَاجِهِ أَفْسَدَ وَقَضَى وَكَفَّرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ جَامَعَ أَهْلَهُ، فَطَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ، وَهُوَ مُجَامِعٌ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى إِخْرَاجِهِ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَوَاءً، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ وزفر بن الهذيل: قَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ بِالْإِخْرَاجِ، كَمَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِالْإِيلَاجِ، لِأَنَّ اللَّذَّةَ فِيهِمَا سَوَاءٌ وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ، قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفثُ) {البقرة: 187) فَكَانَ جَمِيعُ اللَّيْلِ زَمَانًا لِلْإِبَاحَةِ، فَإِذَا نَزَعَ مَعَ آخِرِ الْإِبَاحَةِ اقْتَضَى أَنْ لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ، وَلِأَنَّ الْإِخْرَاجَ تَرْكُ الْجِمَاعِ وَضِدُّ الْإِيلَاجِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ فِيهِمَا، أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ دَاخِلُهَا فَبَادَرَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا لَبِسْتُ هَذَا الثَّوْبَ، وَهُوَ لَابِسُهُ فَبَادَرَ إِلَى نَزْعِهِ لَمْ يَحْنَثْ كَذَلِكَ حُكْمُ الْإِخْرَاجِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْإِيلَاجِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا إِنْ لَبِثَ عَلَى جِمَاعِهِ، وَأَمْسَكَ عَنْ إِخْرَاجِهِ، فَقَدْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ، قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مُنَافٍ لِلصِّيَامِ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مجامع وطلوع الفجر أول الصوم انْعِقَادِ صَوْمِهِ، لِمُصَادَفَةِ مَا نَافَاهُ فَأَشْبَهَ مَنْ تَرَكَ النِّيَّةِ نَاسِيًا ثُمَّ جَامَعَ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهِمَا عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بوطء أثم فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ(3/417)
والكفارة أصله إذا ابتدأ لوطأ فِي خِلَالِ النَّهَارِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى إِذَا طَرَأَ عَلَى الصَّوْمِ أَفْسَدَهُ، فَإِذَا قَارَنَ أَوَّلَهُ مَنَعَ انْعِقَادَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْحُكْمُ فِيمَا يُفْسِدُهُ، وَفِيمَا يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ كَالْأَكْلِ يَسْتَوِي الْحُكْمُ فِيهِ، إِذَا قَارَبَ طُلُوعَ الْفَجْرِ، وَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ فِي خِلَالِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ إِذَا فَسَدَ الصَّوْمُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ إِذَا مَنَعَ انْعِقَادَهُ أَصْلُهُ الْقَضَاءُ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ تَارِكِ النِّيَّةِ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لَهُمْ لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهِ، إِذَا قَارَنَ الصَّوْمَ وَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ فَنَوَى الْإِفْطَارَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ أَيْضًا يَسْتَوِي حُكْمُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَلَمْ يَعْلَمْ بِطُلُوعِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ جِمَاعِهِ، ثُمَّ عَلِمَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ هَتْكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، وَلَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُجَامِعٌ فَظَنَّ أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ بَطَلَ لَوْ أَقْلَعَ، فَمَكَثَ مُمْسِكًا عَنْ إِخْرَاجِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ لِهَتْكِ الْحُرْمَةِ، وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مِنْ بَقَايَا أَكْلِهِ مَا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ لَا يُمْكِنُهُ ازدراده خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ لَا يُفْطِرُ لِمَا يَلْحَقُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ مِثْلِهِ، فَصَارَ فِي مَعْنَى الدُّخَانِ وَالْغُبَارِ وَالرَّوَايِحِ الْعَطِرَةِ الَّتِي عُفِيَ عَنْهَا لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ في التحرز منها قائماً إِنْ كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مَا يُمْكِنُهُ ازْدِرَادُهُ فَإِنِ ازْدَرَدَهُ، أَفْطَرَ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، بَلْ كَانَ كَالسِّمْسِمَةِ أَفْطَرَ بِهِ وَقَالَ أبو حنيفة لَا يُفْطِرُ بِهَذَا الْقَدْرِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَأْكُولِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي قَدْرِ مَا يُفْطِرُ بِهِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ فِي أَنَّ الْفِطْرَ وَاقِعٌ بِهِ لِحُصُولِ الِازْدِرَادِ وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الْمَغِصَا وَأَمَرَ بِأَكْلِ الْقَضْمِ وَالْمَغِصَا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ الْأَسْنَانِ إِلَّا بِالْخِلَالِ، وَالْقَضْمُ مَا خَرَجَ بِاللِّسَانِ بلذة أكل لم يخرج بالخلال لأنه في حكم المأكول كالقيء وأمر بأكله فَكَانَ إِخْرَاجُ مَا خَرَجَ بِاللِّسَانِ كَالْبَاقِي فِي الْفَمِ، وَأُطْلِقَ اسْمُ الْأَكْلِ عَلَيْهِمَا فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي الْفِطْرِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا بَلْعُ الرِّيقِ، وَازْدِرَادُهُ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَبْلَعَ ما يتخلف في فمه حالاً فحالا، فهذا جايز لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الاحتراز منه.(3/418)
وَالثَّانِي: أَنْ يَمُجَّ الرِّيقَ مِنْ فَمِهِ ثُمَّ يَزْدَرِدُهُ وَيَبْتَلِعُهُ فَهَذَا يُفْطِرُ بِهِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَأْنِفِ لِلْأَكْلِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجْمَعَهُ فِي فَمِهِ حَتَّى يَكْثُرَ، ثُمَّ يَبْتَلِعَهُ فَفِي فِطْرِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ أَفْطَرَ بِهِ لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ مِثْلِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِقَلِيلِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يُفْطِرُ بِكَثِيرِهِ، وَأَمَّا النُّخَامَةُ إِذَا ابْتَلَعَهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ أَفْطَرَ بِهَا.
وَالثَّانِي: لَمْ يُفْطِرْ بِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفْطِرُ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ صَدْرِهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهَا فَقَدْ أَفْطَرَ كَالْقَيْءِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ حَلْقِهِ، أَوْ دِمَاغِهِ لَمْ يفطر كالريق.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَقَيَّأَ عَامِدًا أَفْطَرَ وَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ وَاحْتَجَّ فِي الْقَيْءِ بِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (قال المزني) وقد رُوِّينَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال المزني) أقرب ما يحضرني للشافعي فيما يجري به الريق أنه لا يفطر ما غلب الناس من الغبار في الطريق وغربلة الدقيق وهدم الرجل الدار وما يتطاير من ذلك في العيون والأنوف والأفواه وما كان من ذلك يصل إلى الحلق حين يفتحه فيدخل فيه فيشبه ما قال الشافعي من قلة ما يجري به الريق (قال) وحدثني إبراهيم قال سمعت الربيع أخبر عن الشافعي قال الذي أحب أن يفطر يوم الشك أن لا يكون صوماً كان يصومه ويحتمل مذهب ابن عمر أن يكون متطوعاً قبله ويحتمل خلافه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْقَيْءُ عِنْدَنَا كَالْأَكْلِ سَوَاءٌ إِنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا أَفَطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَغَلَبَهُ لَمْ يُفْطِرْ.
وجكي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْقَيْءَ لا يفطر بحال تعلقا بقوله
" ثلاث لا يفطرتن الصَّائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ ".
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ: أَنَّ الْقَيْءَ يُفْطِرُ بِكُلِّ حَالٍ، وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ، وَإِبْطَالِ مَا عَدَاهُ: رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ(3/419)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ " وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا أَفْطَرَ وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ " وَرَوَى مَعْدَانُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَاءَ فَأَفْطَرَ فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا يَكُونُ الْفِطْرُ بِمَا يَدْخُلُ الْجَوْفَ لَا بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ قُلْنَا: قَدْ يَكُونُ الْفِطْرُ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا أَلَا تَرَى، أَنَّ مَنْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ، وَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ خَارِجًا مِنْهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَوْدِ بَعْضِ الْقَيْءِ إِلَى جَوْفِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ " فَمَحْمُولٌ عَلَيْهِ إِذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَأَمَّا خَبَرُنَا، فَفِيهِ دَلَائِلُ:
أَحَدُهَا: مِنْهَا أَنَّ الْأَكْلَ عَامِدًا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَلَا كفارة؛ لأنه كالمتقيء عَامِدًا.
وَمِنْهَا أَنَّ الْأَكْلَ نَاسِيًا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِفْطَارِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى من غلبه القيء.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ لَا يُفْطِرُ عِنْدَنَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَالَ أبو حنيفة يُفْطِرُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ أَكَلَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ كَالْمَرِيضِ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَلِأَنَّ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ طَرَأَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يُفْطِرْ بِهَا كَغُبَارِ الدَّقِيقِ، وَلِأَنَّ الْأَكْلَ نَاسِيًا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُكْرَهِ، وَلَا يُفْطِرُ بِهِ فَكَانَ الْمُكْرَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُفْطِرَ، فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَرِيضِ فَهُوَ أَكْلٌ لِأَجْلِ الْمَرَضِ مُخْتَارًا، فَخَالَفَ الْمُكْرَهَ الَّذِي أُوْجِرَ الطَّعَامُ فِي حَلْقِهِ، فَإِنْ دُفِعَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ، فَأُكْرِهَ بِالتَّخْوِيفِ حَتَّى أَكَلَهُ فَفِي فِطْرِهِ بِهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: يُفْطِرُ بِهِ كَالْمَرِيضِ.
وَالثَّانِي: لَا يُفْطِرُ بِهِ لِارْتِفَاعِ الِاخْتِيَارِ وثبوت الإكراه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَصْبَحَ لَا يَرَى أَنَّ يَوْمَهُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يَطْعَمْ ثُمَّ اسْتَبَانَ ذَلِكَ لَهُ فَعَلَيْهِ صِيَامُهُ وَإِعَادَتُهُ ".(3/420)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُصْبِحَ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَكٍّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى الْهِلَالِ، فَعَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ أَنْ يُمْسِكُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ، وَلَا يُفْطِرُوا سَوَاءً أَكَلُوا فِي أَوَّلِهِ أَوْ لَمْ يَأْكُلُوا لِأَنَّهُ لَمَّا بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَزِمَ الْتِزَامُ حُرْمَتِهِ، وَإِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْإِمْسَاكِ هَلْ يُسَمَّى صَوْمًا شَرْعًا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّهُ يُسَمَّى صَوْمًا شَرْعِيًّا بِوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ إِمْسَاكٌ وَاجِبٌ، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ صَوْمًا شَرْعِيًّا فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ لَا عَنْ رَمَضَانَ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا أَمْسَكُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَعَلَيْهِمْ، الْإِعَادَةُ بِكُلِّ حَالٍ طَعِمُوا بِهِ أَمْ لَا لِإِخْلَالِهِمْ بِالنِّيَّةِ عَنِ اللَّيْلِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ بَانَ لَهُمْ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَمْ يَطْعَمُوا أَجْزَأَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي جَوَازِ النِّيَّةِ نَهَارًا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ مُسْتَوْفًى فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ وَطِئَ فِي يَوْمِهِ هَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُفْطِرِ، وَإِنْ لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ وَطِئَ فِي نَهَارِهِ لَزِمَهُ القضاء ولا كفارة.
مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ نَوَى أَنْ يَصُومَ غَدًا فَإِنْ كَانَ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَهُوَ فَرْضٌ وَإِلَّا فَهُوَ تَطَوُّعٌ فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يجزئه لِأَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ عَلَى أَنَّهُ فرضٌ وَإِنَّمَا صَامَهُ عَلَى الشَّكِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا أَمْسَى النَّاسُ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ دُخُولِ رَمَضَانَ فَنَوَى رَجُلٌ، وَقَالَ أَنَا غَدًا صَائِمٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فَهُوَ فَرْضٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ، فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ وَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ دُخُولِهِ، وَلَا مُسْتَنِدٌ إِلَى أَصْلٍ يَجْرِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ شَعْبَانَ، وَهُوَ عَلَى شَكٍّ مِنْ دُخُولِ رَمَضَانَ وَبَيَانُ هَذَا فِي الزَّكَاةِ، أَنْ يُخْرِجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَيَقُولَ: إِنْ وَرِثْتُ مَالَ وَالِدِي، فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا، وَلَمْ يَمُتْ فَهِيَ تَطَوُّعٌ فَبَانَ لَهُ مَوْتُ وَالِدِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلْمَالِ عِنْدَ إِخْرَاجِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ، وَهُوَ عَلَى شَكٍّ مِنْ تَمَلُّكِهِ، وَالْأَصْلُ حَيَاةُ وَالِدِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فَهُوَ فَرْضٌ أَوْ نَافِلَةٌ، فبان أن مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ، لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا ذكرنا.(3/421)
وَالثَّانِي: الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْفَرْضِ، وَالنَّافِلَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رمضان، فإن لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا مُفْطِرٌ فَبَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نِيَّتَهُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ صَوْمِهِ وَفِطْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فبان من رمضان لم يجزه، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا مُفْطِرٌ، فَبَانَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا أَمْسَى النَّاسُ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ دُخُولِ شَوَّالٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَنَا مُفْطِرٌ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فَهُوَ فَرْضٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَوَّالٍ، فَهُوَ تَطَوُّعٌ، فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ إِنْ بَانَ مِنْ شَوَّالٍ فَهُوَ مُفْطِرٌ، وَإِنْ نَوَى الصَّوْمَ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِهِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَلَمْ يُجْزِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ حُكْمَ رَمَضَانَ ثَابِتٌ لَهُ، مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ زَوَالَهُ بِحُدُوثِ مَا سِوَاهُ فَصَارَ أَصْلًا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَمِثَالُ هَذَا مِنَ الزَّكَاةِ أَنْ يُخْرِجَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَيَقُولُ: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إِنْ كَانَ سَالِمًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَالِمًا فَنَافِلَةٌ فَبَانَ سَالِمًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَالِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ تَلَفُهُ، فَلَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ مُفْطِرٌ، فَبَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ نِيَّتَهُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ صَوْمِهِ، وَفِطْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنَا غَدًا صَائِمٌ فَإِنْ بَانَ مِنْ رَمَضَانَ، فَهُوَ فَرْضٌ أَوْ نَافِلَةٌ لَمْ يُجْزِهِ، وَمِثَالُهُ مِنَ الزَّكَاةِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ، إِنْ كَانَ سَالِمًا، أَوْ نَافِلَةٌ لَا يُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ سَالِمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالنِّيَّةِ قَصْدَ فَرْضٍ خَالِصٍ، وَإِنَّمَا جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ فَرْضٍ وَنَافِلَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ عَقَدَ رَجُلٌ عَلَى أَنَّ غَدًا عِنْدَهُ مِنْ رَمَضَانَ فِي يَوْمِ شَكٍّ ثَمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ رَآهُ وَحْدَهُ، وَالْقَاضِي لا يسمع قوله، والقاضي أَخْبَرَهُ بِمَا يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَعَبِيدِهِ فَنَوَى صِيَامَ الْغَدِ، وَالنَّاسُ عَلَى شَكٍّ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدْ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ عَنْ دَلَالَةٍ، وَاسْتَفْتَحَ الْعِبَادَةَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَا بِالشُّبْهَةِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ سَمِعَ أَذَانَ الظُّهْرِ، فَاسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لم يعلم يقين دخول الوقت أجزأه، ولو استفتحها عن شُبْهَةٍ وَشَكٍّ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ صَادَفَ الْوَقْتَ فَكَذَا الصِّيَامُ مِثْلُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ بِحِسَابِ النُّجُومِ، وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ فَنَوَى الصَّوْمَ، ثُمَّ بَانَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ صَوْمُهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ إِلَى دَلَالَةٍ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِهَا.(3/422)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِيهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ النُّجُومَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ النُّجُومَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الْعِلْمِ بِدُخُولِ الشَّهْرِ.
وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ: إِنَّهُ إِنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَتَقْدِيرِ شَهْرِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ عَلِمَهُ بِالنُّجُومِ لَمْ يجزه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَكَلَ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَكْلُ فَمُبَاحٌ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ الثَّانِي: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) {البقرة: 187) الْآيَةَ وَرُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ أَخَذَ خَيْطَيْنِ أَبْيَضَ، وَأَسْوَدَ، وَتَرَكَهُمَا عَلَى وِسَادَتِهِ، وَرَاعَاهُمَا إِلَى الصَّبَاحِ فَلَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ " إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِ، إِنَّمَا هُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ " وَالْعَرَبُ تُسَمِّي فَجْرَ الصُّبْحِ خيطاً قال أبو دؤاد الْأَيَادِيُّ
(فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ سَدَفَةً ... وَلَاحَ مِنَ الصُبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا)
وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَسَبَهُ إِلَى الْخِفَّةِ وَالْحُمْقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ وِسَادَتِهِ وَظَنَّ أَنَّهُمَا قَدِ اجْتَمَعَا فِيهَا، فَإِنَّ وِسَادَتَهُ عَرِيضَةٌ، وَهَذَا إِنَّمَا قَالَهُ لَهُ لِأَنَّهُ وَضَعَ الْخَيْطَ تَحْتَ وِسَادَتِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ الثَّانِي أَوَّلُ زَمَانِ الصِّيَامِ، فَشَكَّ فِي طُلُوعِهِ، فَالْأَوْلَى لَهُ اجْتِنَابُ الْأَكْلِ خَوْفًا مِنْ مُصَادَفَةِ نَهَارِ زَمَانِ الْخَطَرِ، فَإِنْ أَكَلَ وَهُوَ عَلَى جُمْلَةِ الشَّكِّ، فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ طُلُوعُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ بَقَاءُ اللَّيْلِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ، فَبِالشَّكِّ لَا يَجِبُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ فَأَمَّا إِنْ أَفْطَرَ شَاكًّا فِي الْغُرُوبِ، وَلَمْ يَبِنْ لَهُ الْيَقِينُ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ، وَثُبُوتُ التَّحْرِيمِ.(3/423)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن وطئ امرأته وأولج عامداً فعليهما الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّائِمُ فَمَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ إِجْمَاعًا فَإِنْ وَطِئَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَقَدْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَلَا كَفَّارَةَ قِيَاسًا عَلَى الْآكِلِ وَعَلَى مَنْ وَطِئَ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِهِ فَلَا مَعْنَى للاحتجاج عليه من حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبَى هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَلْطِمُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ، وَهُوَ يَقُولُ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَحْرَقْتُ وَاحْتَرَقْتُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا الَّذِي أَهْلَكَكَ فَقَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَالَ اعْتِقْ رَقَبَةً فَقَالَ لَا أَجِدُ فَقَالَ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُدًّا مُداً، قَالَ: لَا أَجِدُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعرق فيه تمرٌ وروي مكتلٌ فَقَالَ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَحْوَجُ مَنَّا إِلَيْهِ بَيْتًا فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَقَالَ خُذْهُ فَكُلْهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا وَارِدٌ فِي سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ حِينَ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ قُلْنَا: حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ غَيْرُ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الظِّهَارِ وَرُوِيَ عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَرَادَ وطأ امْرَأَتِهِ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ، فَرَأَى خُلْخَالًا لَهَا فِي لَيْلَةٍ فَأَعْجَبَتْهُ فَظَاهَرَ مِنْهَا، ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهَا، فَوَاقَعَهَا. وَالْأَعْرَابِيُّ فَإِنَّمَا وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَلَمْ يَشْتَبِهَا، فَأَمَّا مَا سِوَى رَمَضَانَ مِنَ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الْوَاطِئِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمَا أَوْجَبَا الْكَفَّارَةَ عَلَى الْوَاطِئِ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَهَذَا مَذْهَبٌ يُفَارِقُ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ لِتَأَكُّدِ حُرْمَتِهِ، وَتَعْيِينِ زَمَانِهِ، وَإِنَّ الْفِطْرَ لَا يَتَخَلَّلُهُ وَالْقَضَاءُ مخالف له.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " والكفارة واحدةٌ عَنْهُ وَعَنْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ وُجُوبُهَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ، أَنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا وَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ قَوْلَانِ:(3/424)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ، إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا، ثُمَّ تَحَمَّلَ الزَّوْجُ عَنْهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الزَّوْجِ وَذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ أَمَالِيهِ إِنَّ عَلَيْهِمَا كَفَّارَتَيْنِ، فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا قَوْلًا ثَانِيًا: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَكَا في سائر موجبات الوطء من الماتم وَالْقَضَاءِ، وَوُجُوبِ الْغُسْلِ وَالْعُقُوبَةِ وَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْكَفَّارَةِ أَيْضًا، فَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ، وَلِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي سَبَبٍ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ، كَالْقَتْلِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَحَمَّلَ بِهِ الْكَفَّارَةُ أَصْلُهُ عَقْدُ الْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِيجَابُكُمُ الْكَفَّارَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ أَوْ تَجِبَ عَلَيْهِمَا مَعًا، فَيَبْطُلَ أَنْ تَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُوجِبِ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ الْوَطْءُ، وَيَبْطُلَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِمَا مَعًا، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ كَفَّارَةٍ وَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ فِي وُجُوبِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَيْهِمَا، مَا رَوَيْنَاهُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَعْتِقْ رَقَبَةً " وَالدَّلِيلُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ فِعْلٍ شَارَكَ فِيهِ زَوْجَتَهُ مَعَ جَهْلِهِمَا بِحُكْمِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ حُكْمًا لِجَمِيعِ الْحَادِثَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الْمَرْأَةَ بِالْكَفَّارَةِ، وَلَا رَاسَلَهَا بِإِخْرَاجِهَا مَعَ جَهْلِهَا بِالْحُكْمِ، فِيمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُهَا فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ لِقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، قِيلَ: الْمَنْقُولُ فِي الْخَبَرِ غَيْرُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هُوَ الْحُجَّةُ فِي عَدَمِ الْإِكْرَاهِ، لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ لَا تَهْلِكُ بِفِعْلِ مَا أُكْرِهَتْ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْحَقُهَا فِيهِ إِثْمٌ فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَهَا عُلِمَ أَنَّهُ سَأَلَهَا فَطَاوَعَتْهُ، فَهَلَكَتْ بِمُطَاوَعَتِهِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ فِي مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الزَّوْجُ بِتَحَمُّلِهِ كَالْمَهْرِ فَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِثْمِ وَالْقَضَاءِ فَجَمْعٌ بِلَا مَعْنَى عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ يُعْتَبَرُ بِهَا الْفِعْلُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِهَا الْفَاعِلُ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْفِعْلِ، وَيَخْتَلِفَ أَحْكَامُهُمَا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمَا كَالزِّنَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أنه ليس من موجبات الوطئ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ النَّفَقَةَ وَالْكُسْوَةَ وَزَكَاةَ الْفِطْرِ.
وَقَوْلُهُمْ: لَا يَخْلُو حَالُ الْكَفَّارَاتِ، إِمَّا أَنْ تَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ، أَوْ عَلَيْهِمَا قُلْنَا: فِيهِ قولان:(3/425)
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنَعٍ كَمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْوَطْءِ، وَيَخْتَصُّ الزَّوْجُ بِالْتِزَامِ الْمَهْرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنَعٍ كَمَا يَشْتَرِكَانِ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ بَيْنَهُمَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَالثَّانِي: كَفَّارَتَانِ فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ كَفَّارَتَيْنِ رَاعَيْتَ حَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، فَرُبَّمَا اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُمَا فَأَعْتَقَا مَعًا، أَوْ صَامَا مَعًا أَوْ أَطْعَمَا مَعًا وَرُبَّمَا اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُمَا فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا، فَصَامَ الْآخَرُ أَوْ صَامَ أَحَدُهُمَا وَأَطْعَمَ الْآخَرُ، فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا تَعَلُّقٌ بِحَالِ صَاحِبِهِ، كَمَا لَوْ حَنِثَا فِي يَمِينٍ وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الزَّوْجِ كَالْمَهْرِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ، وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الْوَطْءِ فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ بِهَا حَالُ الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ صَامَ أَوْ أَطْعَمَ أَجْزَأَ وَلَا شيء على الزوجة بحال، لَا حَظَّ لَهَا فِي الْوُجُوبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ يُحَمَّلُ الزَّوْجُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي هَتْكِ الْحُرْمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي الْكَفَّارَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَتَّفِقَ أَحْوَالُهُمَا أَوْ تَخْتَلِفَ، فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُمَا فعلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكونا الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، فَعَلَى الزَّوْجِ عِتْقُ رَقَبَةٍ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي حَالِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ تُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ لِحُرِّيَّتِهَا فَعِتْقُ الزَّوْجِ يَجْزِيهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا تُكَفِّرَ بِالْعِتْقِ لِرِقِّهَا، فَعَلَيْهَا صِيَامُ شَهْرَيْنِ لَا يُجْزِيهَا عِتْقُ الزَّوْجِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَى الزَّوْجِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَيُجْزِيهِمَا، لِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِطْعَامُ أَجْزَأَهُ الْعِتْقُ، لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ فِي مَالٍ، وَالْعِتْقُ أَغْلَظُ حَالًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَى الزَّوْجِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ زَوْجَتِهِ لِأَنَّ الصِّيَامَ لَا يَنُوبُ عَنْ إِطْعَامٍ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَعْلَى حَالًا مِنَ الزَّوْجِ، فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ هِيَ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ عَنْ(3/426)
نَفْسِهِ، وَعِتْقُ رَقَبَةٍ عَنْ زَوْجَتِهِ تَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى حِينِ يَسَارِهِ، لِأَنَّ الْإِعْسَارَ لَا يُسْقِطُ حَقًّا لَزِمَ عَنِ الْغَيْرِ، لِأَنَّهُ مُؤْنَةٌ كَالدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يُسْقِطُ مَا تَعَلَّقَ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، فَإِنْ بَدَأَ بِالصِّيَامِ لَزِمَهُ عِتْقُ الرَّقَبَةِ بَعْدَ صِيَامِهِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالْعِتْقِ أَوَّلًا نُظِرَ فِي حَالِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ لِحُرِّيَّتِهِ، وَعَدَمِ رِقِّهِ أَجْزَأَتْهُ الرَّقَبَةُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الصِّيَامُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ لِرِقِّهِ أَوْ رِقِّ بَعْضِهِ لم يسقط عنه الصوم، يعتق الرَّقَبَةِ، وَلَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِتْقِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ نَفْسِهِ، وَعِتْقُ رَقَبَةٍ عَنْ زَوْجَتِهِ فَإِنْ بَدَأَ بِالْإِطْعَامِ أَوَّلًا، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْعِتْقُ، وَلَزِمَهُ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ، وَإِنْ أَعْتَقَ أَوَّلًا أَجْزَأَهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ، إِذْ هُمَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ، وَالْعِتْقُ أَغْلَظُ حَالًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْإِطْعَامِ فَعَلَيْهَا صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَنْ نَفْسِهَا، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، وَعَلَى الزَّوْجِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَحَمُّلُ شَيْءٍ عَنْ زَوْجَتِهِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا وَطِئَ الصَّائِمُ زَوْجَتَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَامِدًا، ثُمَّ وَطِئَهَا فِي يَوْمٍ ثَانٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَهَا فِي يَوْمٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ، كَانَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ وَسَوَاءٌ كَفَّرَ عَنِ الوطئ الْأَوَّلِ أَمْ لَا، وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كفر عن الوطئ الأول، فعليه للوطئ الثَّانِي كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، تُجْزِيهِ عَنْهُمَا قَالَ لِأَنَّ اسْمَ رَمَضَانَ يَعُمُّ جَمِيعَ الشَّهْرِ فَصَارَ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَ: وَلِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَشَابَهَ الْحَجَّ الَّذِي لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ حُدُودٌ وَعُقُوبَاتٌ، إِذْ لَا تَجِبُ إِلَّا بِمَأْثَمٍ مَخْصُوصٍ وَالْحُدُودُ إِذَا تَرَادَفَتْ تَدَاخَلَتْ، وَكَانَ الْحَدُّ الْوَاحِدُ نَائِبًا عَنْ جَمِيعِهَا كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ أَفْسَدَ بِوَطْئِهِ صَوْمَ يَوْمَيْنِ، لَوْ كَفَّرَ عَنِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ عَنِ الثَّانِي، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ عَنِ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْيَوْمَانِ مِنْ رَمَضَانَ فِي عَامَيْنِ، وَلِأَنَّهُمَا يَوْمَانِ لَوْ أُفْرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْفَسَادِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ إِذَا أَفْسَدَهُمَا مَعًا أَنْ تَلْزَمَهُ كَفَّارَتَانِ، أَصْلُهُ إِذَا كَفَّرَ عَنِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ فِي عامين، ولأن كل حكم تعق بِالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ تَعَلَّقَ بِالْجِمَاعِ الثَّانِي، كَالْقَضَاءِ وَلِأَنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ حُرْمَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا عن الآخر لما يلزمه من تجديد النِّيَّةِ، وَلَا يَتَعَدَّى فَسَادَ الْيَوْمِ، إِلَى غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ مُجَدَّدَةٌ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، لِأَنَّ اسْمَ الشَّهْرِ يَجْمَعُهُ، فَالْجَوَابُ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً واحدة، فإنه يجمع عبادات واحدة كالصلاة هي رُكْنٌ وَاحِدٌ، وَعِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ يَجْمَعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَلِكُلِّ صَلَاةٍ حُكْمُ(3/427)
نَفْسِهَا فِي الصِّحَّةِ، وَالْفَسَادِ فَكَذَلِكَ الصِّيَامُ يَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ يَوْمٍ بِحُكْمِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِالْحَجِّ فَلَنَا فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ لِكُلِّ وَطْءٍ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَسَقَطَ هَذَا الِاعْتِبَارُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصِّيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْحَجِّ إِحْرَامًا مَا يَجْمَعُ أَرْكَانَهُ وَيَتَعَدَّى فَسَادُ آخِرِهِ فِي صِحَّةِ أَوَّلِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ صِيَامُ الْيَوْمَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ فَاسِدِهِ وَتَسْتَوِي حُرْمَةُ جَمِيعِهِ فَإِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ لِحُرْمَةِ بَعْضِهِ، فَهِيَ نَائِبَةٌ عَنْ حُرْمَةِ جَمِيعِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ صِيَامُ الْيَوْمَيْنِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ فَالْمَعْنَى فِيهَا إِنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لِآدَمِيٍّ فِيهَا نَصِيبٌ، فَلِذَلِكَ تَدَاخَلَتْ، وَالْكَفَّارَاتُ تَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ فَصَحَّ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةً.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، ثُمَّ وَطِئَ فِي وَسَطِهِ ثُمَّ وَطِئَ فِي آخِرِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ وَاحِدَةٌ قَدِ انْتَهَكَهَا بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَطْءٍ كَفَّارَةً كَالْحَجِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْفَسَادِ فَكَانَتْ حُرْمَتُهُ بَاقِيَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّيَامُ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ وَطِئَ أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ لَهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، كَانَ عَلَيْهِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي: كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَلَوْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ مُسْلِمَةٌ وَذِمِّيَّةٌ فَوَطِئَهُمَا مَعًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، نُظِرَ فِي حَالِهِ فَإِنْ وَطِئَ الذِّمِّيَّةَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُسْلِمَةَ بَعْدَهَا، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ وَطِئَ الْمُسْلِمَةَ أَوَّلًا ثُمَّ الذِّمِّيَّةَ بَعْدَهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا إِلَّا كفارة واحدة.
فصل
: وإذا تقدم الْمُسَافِرُ نَهَارًا مِنْ سَفَرِهِ، وَقَدْ أَفْطَرَ فِي صَدْرِ يَوْمِهِ فَصَادَفَ زَوْجَتَهُ، قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا فِي تَضَاعِيفِ يَوْمِهَا فَوَطِئَهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا، وَلَا كَفَّارَةَ لِارْتِفَاعِ حُرْمَةِ الْيَوْمِ بِالْإِفْطَارِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ لَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ مُفْطِرًا فَأَخْبَرَتْهُ بِطُهْرِهَا مِنْ حَيْضِهَا كَاذِبَةً، فَوَطِئَهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْأَصْلِ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا فَعَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ دُونَهُ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ وَخَرَجَ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَى الزَّوْجِ وَإِنْ غَرَّتْهُ لِأَجْلِ اسْتِمَاعِهِ، فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا.(3/428)
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ دُونَهَا، فَلَوْ قَدِمَ مُفْطِرًا مِنْ سَفَرِهِ فَأَخْبَرَتْهُ بِصَوْمِهَا، فَوَطِئَهَا عَالِمًا مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ فِطْرِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهَا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ عَلَى حَسَبِ حَالِهَا، فلو قدم من سفره مُفْطِرًا فَصَادَفَهَا صَائِمَةً، وَأَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ بِلَا اختيار منها ولا تمكين، فلا قضاء عليهما وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَجْلِ فِطْرِهِ وَلَا عَنْهَا، لِارْتِفَاعِ الْإِثْمِ عَنْهَا، وَلَكِنْ لَوْ خَوَّفَهَا فَأَجَابَتْهُ خَوْفًا مِنْهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَالٍ وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ.
فَصْلٌ آخَرُ
: وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الْوَطْءِ فَشُدَّتْ يَدَاهُ، وَأُدْخِلَ ذَكَرُهُ فِي الْفَرَجِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا قَصْدٍ نُظِرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ وَإِنْ أَنْزَلَ فَفِي صَوْمِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُفْطِرْ بِالْإِيلَاجِ لَمْ يُفْطِرْ بِمَا حَدَثَ عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ لَا يَحْدُثُ إِلَّا عَنْ قَصْدٍ، وَاخْتِيَارٍ فَعَلَى هَذَا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَالثَّانِي: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُخْتَارًا وَأَكْرَهَهَا عَلَى الْوَطْءِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، لِمَوْضِعِ الْإِكْرَاهِ، وَلَوْ خَوَّفَهَا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا قَوْلَانِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا وَطِئَ الْمَجْنُونُ زَوْجَتَهُ، وَهِيَ صَائِمَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلَا إِكْرَاهٍ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا مَعًا فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: الْكَفَّارَةُ فِي مَالِ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ فَأَشْبَهَتْ أُرُوشَ جِنَايَاتِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهَا لأن فعل المجنون، ولا حُكْمَ لَهُ، وَهِيَ الْجَانِيَةُ بِتَمْكِينِهَا، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ نَائِمًا فَاسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَهُ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَحْدَهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا دُونَهُ(3/429)
لِأَنَّ النَّائِمَ لَا قَصْدَ لَهُ وَلَا فِعْلَ، وَإِنَّمَا الْفِعْلُ لَهَا وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَجْنُونَةَ، أَوِ النَّائِمَةَ وَالزَّوْجُ عَاقِلًا مُسْتَيْقِظًا فَوَطِئَهَا، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، وَقَالَ أبو حنيفة: فِي النَّائِمَةِ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَقَالَ مَالِكٌ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثٍ " ذَكَرَ فِيهِمَا النَّائِمَ حَتَّى يَنْتَبِهَ وَلِأَنَّ مَا لَا يَقَعُ الْفِطْرُ بِهِ نَاسِيًا، لَا يَقَعُ الْفِطْرُ بِهِ نَائِمًا كَالْأَكْلِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُفْطِرُ بِالْأَكْلِ لَا يفطر بالوطئ كَالنَّاسِي.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا وَطِئَ الرَّجُلُ فِي صَدْرِ النَّهَارِ ثُمَّ جُنَّ فِي آخِرِهِ أَوْ مَرِضَ فَفِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة. لِأَنَّ أَوَّلَ الْيَوْمِ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهِ وَحُكْمُ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنُونُ لَمْ تَسْتَقِرَّ فِيهِ وَإِذَا زَالَتِ الْحُرْمَةُ سَقَطَتِ الْكَفَّارَةُ وَلِأَنَّهَا تَجِبُ بِهَتْكِ الْحُرْمَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْكَفَّارَةَ ثَابِتَةٌ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ.
وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ بِالْوَطْءِ السَّابِقِ الَّذِي انْتُهِكَ بِهِ حُرْمَةُ الصَّوْمِ، وَلَا حُكْمَ لِمَا طَرَأَ بَعْدَ وُجُوبِهَا، كَمَا لَوْ سَافَرَ بَعْدَ الْوَطْءِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ بِالسَّفَرِ الطَّارِئِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.
فَصْلٌ
: وَإِذَا زَنَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَزِمَهُمَا الْحَدُّ وَالْقَضَاءُ، وَوَجَبَ عَلَى الزَّانِي الْكَفَّارَةُ وَفِي وُجُوبِهَا عَلَى الزَّانِيَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْوَاطِئِ وَحْدَهُ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ إِذَا قيل إنها وجبت عليهما، وإنما لمن يَتَحَمَّلْ عَنْهَا الْكَفَّارَةَ كَالزَّوْجَةِ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُثْبِتُ حُرْمَةً يَجِبُ بِهَا التَّحَمُّلُ، وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ يَزْعُمُ أَنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةً لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَأْتِ فِيمَنْ زَنَا وَلَا الزَّانِي فِي مَعْنَاهُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِلْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَكْلِ النَّاسِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وَطِئَ الصَّائِمُ نَاسِيًا فِي نَهَارِهِ، أَوْ أَكَلَ نَاسِيًا فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي الْأَمْرَيْنِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي الْجِمَاعِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنْ قَالُوا لِأَنَّهُ جِمَاعٌ تَامٌّ صَادَفَ صَوْمًا، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ كَالْعَامِدِ قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا جِمَاعُ الْعَامِدِ فَوَجَبَ أَنْ يُفْسِدَهَا جِمَاعُ النَّاسِي(3/430)
كَالْحَجِّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ السَّهْوَ فِي الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ يَقَعُ تَارَةً فِي ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ، وَتَارَةً فِي انْتِهَائِهِ، ثُمَّ لَوْ أَكَلَ أَوْ جَامَعَ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ عِنْدَ أَكْلِهِ وَجِمَاعِهِ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ فَكَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ صَوْمِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّ عَمْدَ الْحَدَثِ وَسَهْوَهُ سَوَاءٌ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ لِتَنَافِيهِمَا، فَكَذَلِكَ الْأَكْلُ وَالْجِمَاعُ فِي الصَّوْمِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ الْحُكْمُ فِي عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ لِتَنَافِيهِمَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكَلْتُ وَشَرِبْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ: " اللَّهُ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ " وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ سَلَبَهُ فِعْلَهُ وَأَضَافَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَضَاءِ مَعَ جَهْلِ السَّائِلِ بِحُكْمِ فِعْلِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا اللَّهُ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ " فَلَمَّا أَمَرَهُ بِإِتْمَامِ صَوْمِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْأَكْلُ عَامِدًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْسِدَهَا الْأَكْلُ نَاسِيًا كَالصَّلَاةِ، إِذَا أَكَلَ فِيهَا لُقْمَةً نَاسِيًا، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ يَخْتَصُّ عَمْدُهُ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْسُدَ بِسَهْوِهِ أَصْلُهُ إِذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ تَارِكُ النِّيَّةِ، لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الرِّدَّةُ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالصَّوْمِ، وَلَا تُفْسِدُهُ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِهَا الْإِيمَانُ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعَامِدِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ إِمْكَانُ الاحتراز منه أما قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَجِّ قُلْنَا؛ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمْ يَفْسُدْ فَسَقَطَ مَا أَوْرَدُوهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ فَسَدَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّوَاهِيَ فِي الْحَجِّ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ اسْتَوَى الْحُكْمُ فِي عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ كَالْحَلْقِ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ.
وَضَرْبٌ فُرِّقَ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ كَاللِّبَاسِ وَالطِّيبِ فَأُلْحِقِ الْجِمَاعُ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّوْمُ، لِأَنَّا وَجَدْنَا النَّوَاهِيَ فِيهِ نَوْعًا وَاحِدًا، وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ وَهُوَ الْقَيْءُ، فَوَجَبَ أن يكون الجماع والأكل لاحقان، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْطِئٌ فِي الْوَقْتِ وَهَذَا مُخْطِئٌ فِي الْفِعْلِ، وَقَدْ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَطَإِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْخَطَإِ فِي الْأَفْعَالِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَخْطَأَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَصَلَّى لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ أَخْطَأَ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَدَثِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وجهين:(3/431)
أَحَدُهُمَا: وُرُودُ السُّنَّةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ تَسْلِيمِ الْمُنَافَاةِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَا قَضَاءَ عَلَى مَنْ أَكَلَ وَجَامَعَ نَاسِيًا، فَلَوْ أَكَلَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ بَطَلَ فَجَامَعَ عَامِدًا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ هَتْكَ الْحُرْمَةِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ فجامع فعليهما لقضاء وَالْكَفَّارَةُ وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْمُبَاحَ وَالْمَحْظُورَ إِذَا صَادَفَا الْعِبَادَةَ، لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ أَحَدِهِمَا لِمَكَانِ الْآخَرِ كَالْحَجِّ إِذَا صَادَفَهُ لِبَاسٌ وَوَطْءٌ وَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ تَقَدَّمَهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَالْوَطْءِ فِي الْحَجِّ وَلِأَنَّهُ أَكْلٌ لَمْ يُفْسِدِ الصَّوْمَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ كَفَّارَةِ الْوَطْءِ كالمكره على الأكل.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رقبةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ أَفْطَرَ فِيهِمَا ابْتَدَأَهُمَا فَإِنْ لم يستطع فإطعام ستين مداً لكل مسكينٍ بمد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أخبره الواطئ أنه لا يجد رقبةً ولا يستطيع صيام شهرين متتابعين ولا يجد إطعام ستين مسكيناً أتى بعرقٍ فيه تمر (قال) سفيان والعرق المكتل فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذهب فتصدق به (قال الشافعي) والمكتل خمسة عشر صاعاً وهو ستون مداً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ مُرَتَّبَةٌ بِلَا تَخْيِيرٍ فَيَبْدَأُ بِالْعِتْقِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَصُمْ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ أَوْ صَامَ، أَوْ أَطْعَمَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، أَنْ يَعْتِقَ أَوْ يَصُومَ، أَوْ يُطْعِمَ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رَوَيْنَاهُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَعْتِقْ رَقَبَةً فَقَالَ لَا أَجِدُ فَقَالَ صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا " فَلَمْ يَنْقِلْهُ عَنِ الْعِتْقِ إِلَى الصِّيَامِ إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ، وَوُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَرْتِيبِهَا، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَكْفِيرٍ يَجِبُ بِضَرْبٍ مِنَ الْمَأْثَمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ التَّرْتِيبِ أَصْلُهُ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ فِي الشَّرْعِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ بُدِئَ فيها بالأغلظ فكان الترتيب فيها واجبا، مثل كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ بُدِئَ فِيهَا بِالْعِتْقِ وَضَرْبٌ بُدِئَ فِيهَا بِالْأَخَفِّ، فَكَانَ التَّخْيِيرُ فِيهَا مُسْتَحَقًّا مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ(3/432)
بُدِئَ فِيهَا بِالْإِطْعَامِ ثُمَّ وَجَدْنَا كَفَّارَةَ الْجِمَاعِ بُدِئَ فِيهَا بِالْأَغْلَظِ، وَهُوَ الْعِتْقُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ فِيهَا مُسْتَحَقًّا، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فَقَدْ رَوَيْنَاهُ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَرِوَايَتُنَا أَوْلَى لِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، وَنَقْلِ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَتَفْسِيرِ أَلْفَاظِهِ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا احْتِمَالٌ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَيُبْدَأُ أَوَّلًا بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَلِيمَةٍ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَلِ إِضْرَارًا بَيِّنًا، وَأَجَازَ أبو حنيفة عِتْقَ رَقَبَةٍ كَافِرَةٍ، وَالْكَلَامُ يَأْتِي مَعَهُ، فِي كِتَابِ الظِّهَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ عَدِمَ الرَّقَبَةَ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ سِوَى يَوْمِ الْقَضَاءِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: " صُمْ يَوْمًا مَكَانَ مَا أَصَبْتَ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ " وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنْ صَامَهُ مُنْفَرِدًا أَجْزَأَهُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صم شهرين متتابعين سوى يوم القضاء " فإذا أَفْطَرَ فِيهَا يَوْمًا لَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصِّيَامِ، أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهُوَ رَطْلٌ وَثُلُثٌ مِنَ الْأَقْوَاتِ الْمُزَكَّاةِ عَلَى مَا مَضَى فِي كِتَابِ " الزَّكَاةِ ".
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَخْرَجَ شَعِيرًا أَوْ تَمْرًا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعٌ، وَإِنْ أَخْرَجَ بُرًّا فَنِصْفُ صَاعٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَالَ لَا أَجِدُ فَدَعَا بِفَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا تَمْرًا وَقَالَ أَطْعِمْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ، فَدَلَّ على أن الواجب لكل مسلكين مُدٌّ، فَإِنْ عَدِمَ الْإِطْعَامَ، وَلَمْ يَجِدْ إِلَى التَّكْفِيرِ سَبِيلًا فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذِنَ لِلْأَعْرَابِيِّ فِي أَكْلِ التَّمْرِ حِينَ أَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِخْرَاجِهَا إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا مَعَ جَهْلِهِ بِالْحُكْمِ فِيهَا، وَقِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ إِذَا عَدِمَهَا وَقْتَ الْوُجُوبِ، ثُمَّ وَجَدَهَا فِيمَا بَعْدُ لِتَعَلُّقِهَا بِطُهْرَةِ الصَّوْمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَازِمَةٌ لَهُ، وَإِخْرَاجَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، إِذَا أَمْكَنَهُ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَجْزِهِ عَنْ أَجْنَاسِ الْكَفَّارَةِ، لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ سُقُوطَهَا عَنْهُ بَلْ أَمَرَ لَهُ بِمَا يُكَفِّرُ بِهِ مِنَ التَّمْرِ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَقِيَاسًا عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ أَعْسَرَ بِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وإن دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ رَقَبَةً فَلَهُ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ وَجَدَ الرَّقَبَةَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّوْمِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ عِتْقُهَا وَالصَّوْمُ يُجْزِيهِ(3/433)
وَلَكِنْ لَوْ وَجَدَهَا قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّوْمِ فَإِنْ كَفَّرَ بِهَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَأَجْزَأَهُ وَإِنْ عَدَلَ عَنْهَا إِلَى الصَّوْمِ مَعَ الْيَسَارِ الطَّارِئِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ اعْتِبَارٌ بِحَالِ الْوُجُوبِ قِيَاسًا عَلَى الْحُدُودِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْجَدِيدِ لَا يُجْزِيهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَوَاتِ، فَأَمَّا إِنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الرَّقَبَةَ قَبْلَ كَمَالِهِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ تَمَّمَ صَوْمَهُ وَأَجْزَأَهُ، وَإِنْ شَاءَ خَرَجَ مِنْ صَوْمِهِ وَأَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: وَالْمُزَنِيُّ، عَلَيْهِ عِتْقُ الرَّقَبَةِ، وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ بِنَاءً عَلَى الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ فِيهِ ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِئُهُ هُوَ أَنَّ الْعِتْقَ مَعْنَى وُجُودِهِ يَمْنَعُ الدُّخُولَ فِي الصَّوْمِ، فَوَجَبَ إِذَا وُجِدَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، أَصْلُهُ الْمُتَمَتِّعُ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ فَصَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَدَخَلَ فِي السَّبْعَةِ ثُمَّ وجد الهدي قبل كمالها.
مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَكَلَ عَامِدًا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْعُقُوبَةُ وَلَا كَفَّارَةَ إِلَّا بِالْجِمَاعِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
لَا كَفَّارَةَ عَلَى الْآكِلِ عَامِدًا فِي رَمَضَانَ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ أَفْطَرَ بِجِنْسِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاغْتِذَاءُ غَالِبًا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَفْطَرَ بِمَا لَا يَقَعُ بِهِ الِاغْتِذَاءُ كَجَوْزَةٍ أَوْ حصاة لزمه القضاء ولا كفارة واستدلا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالكفارة هذا عَامٌّ فِي كُلِّ فِطْرٍ، وَبِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ " وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ مُنْفَرِدًا بِهِ بِأَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ إِفْطَارٌ بِمَعْصِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ.
أَصْلُهُ: الْجِمَاعُ.
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة مُنْفَرِدًا بِأَنْ قَالَ: لِأَنَّهُ إِفْطَارٌ بِأَعْلَى مَا يَقَعُ بِهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ مِنْ جِنْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالْجِمَاعِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا أَفْطَرَ " وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَالْمُسْتَقِيءُ عَامِدًا كَالْآكِلِ عَامِدًا، وَلِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْمُسْتَقِيءِ عَامِدًا، وَلِأَنَّهُ أَفْطَرَ بِغَيْرِ جِمَاعٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى.
أَصْلُهُ: إِذَا ابْتَلَعَ حَصَاةً وَهَذِهِ عَلَى أبي حنيفة، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ مَنَعَتْ مِنَ الْوَطْءِ، وَغَيْرِهِ فَحُكْمُ الْوَطْءِ فِيهَا أَعْلَى كَالْحَجِّ، لَمَّا اسْتَوَى حَكَمُ الْوَطْءِ، وَغَيْرُهُ فِي إيجاب الكفارة اختص(3/434)
الوطء أغلظ الْأَحْكَامِ تَغْلِيظًا بِإِفْسَادِ الْحَجِّ فَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ، لَمَّا سَاوَى الْوَطْءُ الْأَكْلَ فِي إِفْسَادِ الصَّوْمِ اقْتَضَى أَنْ يَخْتَصَّ الْوَطْءُ بِالْكَفَّارَةِ تَغْلِيظًا دُونَ الْأَكْلِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ بِالْوَطْءِ فِيهَا كَفَّارَةٌ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ تِلْكَ الْكَفَّارَةَ بِمَحْظُورٍ غَيْرِ الْوَطْءِ كَالْحَجِّ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الْمُفْطِرَ بِالْكَفَّارَةِ، وَهَذَا مُجْمَلُ رَاوِيَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِيمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي الْجِمَاعِ وَتَفْسِيرُ الرَّاوِي أَوْلَى مِنْ إِجْمَالِهِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ: " مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ " فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ عَلَى الْمُظَاهِرِ الِاسْتِغْفَارُ وَإِنَّمَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ، لَا بِالظِّهَارِ، فَكَانَ دَلِيلُ هَذَا الْخَبَرِ يُوجِبُ عَلَى الْأَكْلِ الِاسْتِغْفَارَ، وَسُقُوطَ الْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُ مَالِكٍ فَفَاسِدٌ بِمَنِ اسْتَقَاءَ عَامِدًا.
وَأَمَّا قِيَاسُ أبي حنيفة فَفَاسِدٌ بِالْقَيْءِ أَيْضًا إِذَا مَلَأَ الْفَمَ، لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى مَا يَقَعُ بِهِ هَتْكُ الْحُرْمَةِ، لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْفِطْرِ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ بِالسَّهْوِ مَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَعْلَى الْمَأْكُولِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ سُقُوطُ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْأَكْلِ عَامِدًا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْعُقُوبَةُ فَيُعَزَّرُ عَلَى حسب حاله، ولا تبلغ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ فَوْقَ كَفَّارَةِ الْحَامِلِ، وَدُونَ كَفَّارَةِ الْوَاطِئِ وَهَذَا مَذْهَبٌ لَا يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى خَبَرٍ، وَلَا أَثَرٍ، وَلَا قِيَاسٍ.
وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ شَهْرٍ مَكَانَ يَوْمٍ، وَعَنِ النَّخَعِيِّ: أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ ثَلَاثَةِ آلَافِ يَوْمٍ مَكَانَ يَوْمٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِيهِ بِصِيَامِ الدَّهْرِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنْ يَقْضِيَ يَوْمًا مَكَانَ يَوْمٍ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وصم يوماً مكانه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَلَذَّذَ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى يُنْزِلَ فَقَدْ أَفْطَرَ وَلَا كَفَّارَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ أَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ فَلَمْ يُنْزِلْ فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا كَفَّارَةَ وَإِنْ أَنْزَلَ فَقَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ إِجْمَاعًا، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أبي حنيفة.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ عَنْ مُبَاشَرَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ إِفْطَارٌ بِغَيْرِ جِمَاعٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ أَصْلُهُ إِذَا تَقَيَّأَ عَامِدًا، وَالْمَعْنَى فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ الْإِيلَاجُ لَا الْإِنْزَالُ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَلْزَمُهُ بِالْإِيلَاجِ أَنْزَلَ أَوْ لم ينزل.(3/435)
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَإِنْ أَدْخَلَ فِي دُبُرِهَا حَتَى يُغَيِّبَهُ أَوْ فِي بَهِيمَةٍ أَوْ تَلَوَّطَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجٍ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ أَوْ أَتَى بَهِيمَةً فِي أَحَدِ فَرْجَيْهَا، أَوْ تَلَوَّطَ عَامِدًا، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ مَعَ مَا ارْتَكَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ بِهِ التَّحْصِينُ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ، هُوَ أَنَّهُ عَمَدَ هتك حرمة الصوم يوطء فِي الْفَرْجِ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ كَالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ، وَلِأَنَّهُ إِيلَاجٌ يَجِبُ بِهِ الْغَسْلُ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ.
أَصْلُهُ: قُبُلُ الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا مَا اعْتَبَرَهُ بِالتَّحْصِينِ فَيَفْسُدُ بِالزِّنَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحْصِينُ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: إِنَّ إِتْيَانَ الْبَهَائِمِ إِذَا قِيلَ لَا حَدَّ فِيهِ فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالْحَدِّ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجَةِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، وَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَأَمَّا مَنِ اسْتَمْنَى فِي كَفِّهِ عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ وَلَوْ حَكَّ ذَكَرَهُ لِعَارِضٍ فَأَنْزَلَ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَهَلْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَمْ لَا عَلَى وجهين:
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدِهِمَا أَفْطَرَتَا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَتَصَدَّقَتْ كُلُّ واحدةٍ مِنْهُمَا عَنْ كُلِّ يومٍ عَلَى مسكينٍ بِمُدٍّ مِنْ حنطةٍ (قال المزني) كيف يكفر من أبيح له الأكل والإفطار ولا يكفر من لم يبح له الأكل فأكل وأفطر وفي القياس أن الحامل كالمريض وكالمسافر وكل يباح له الفطر فهو في القياس سواءٌ واحتج بالخبر " من استقاء عامداً فعليه القضاء ولا كفارة " (قال المزني) ولم يجعل عليه أحدٌ من العلماء علمته فيه كفارةٌ وقد أفطر عامداً وكذا قالوا في الحصاة يبتلعها الصائم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَخْلُو حَالُ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فِي إِفْطَارِهِمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُفْطِرَا لِخَوْفٍ وَحَاجَةٍ أَمْ لَا فَإِنْ أَفْطَرَتَا بِغَيْرِ خَوْفٍ عَلَيْهِمَا وَلَا عَلَى وَلَدِهِمَا وَلَا حَاجَةَ دَعَتْهُمَا إِلَى الْإِفْطَارِ مَاسَّةً فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْمُفْطِرِ عَامِدًا فِي الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَعَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا، وَإِنْ أَفْطَرَتَا لِخَوْفٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ عَلَيْهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَأَبْدَانِهِمَا فَلَا شُبْهَةَ فِي جَوَازِ فِطْرِهِمَا، وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا وَلَا كَفَّارَةَ كَالْمَرِيضِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ عَلَى الْوَلَدِ وَالْحَمْلِ دُونَ أَنْفُسِهِمَا فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ لَهُمَا، فَإِذَا أَفْطَرَتَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ(3/436)
أَنَّ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَحْمَدُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كِتَابِ " الْبُوَيْطِيِّ " تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُرْضِعِ دُونَ الْحَامِلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عَبِيدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وإنما يتسحب ذك لَهُمَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَالِثًا للشافعي، ومنهم من أنكره وحكي عن عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا أَوْجَبَا الْكَفَّارَةَ، وَأَسْقَطَا الْقَضَاءَ وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة وَمَنْ تَابَعَهُ بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إن الله وضع على الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَوَضَعَ الصَّوْمَ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ ". فَاقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ، أَنَّ أَحْكَامَ الصَّوْمِ مَوْضُوعَةٌ مِنْ كَفَّارَةٍ، وَقَضَاءٍ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِفْطَارٌ بِعُذْرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ بِهِ الْكَفَّارَةُ، كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَعْذَارَ فِي الْفِطْرِ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ، وَيُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ.
وَضَرْبٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَيُسْقِطُ الْقَضَاءَ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمَا بِعُذْرٍ فَخِلَافُ الْأُصُولِ، وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ، أَنَّهُ قَالَ إِذَا كَانَ الْأَكْلُ عَامِدًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ آثِمًا عَاصِيًا، فَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ اللَّذَانِ لَمْ يَعْصِيَا بِالْفِطْرِ، وَلَمْ يَأْثَمَا بِهِ، أَوْلَى أَنْ لَا تَجِبَ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ قَوْله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكينٍ) {البقرة: 184) وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ مِمَّنْ يُطِيقُ الصِّيَامَ فَوَجَبَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَلْزَمَهُمَا الْفِدْيَةُ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) فَحَتَّمَ الصَّوْمَ عَلَى الْمُطِيقِينَ، وَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الْفِدْيَةَ قِيلَ: إِنَّمَا نُسِخُ مِنْهَا التَّخْيِيرُ، فِيمَا عَدَا الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْفِطْرِ لَهُمَا، مَعَ الطَّاقَةِ وَالْقُدْرَةِ فَبَقِيَتِ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّهَا مُقِيمَةٌ صَحِيحَةٌ بَاشَرَتِ الْفِطْرَ بِعُذْرٍ مُعْتَادٍ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهَا الْكَفَّارَةُ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ الْعُظْمَى فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ فِطْرَانِ فِطْرٌ بِعُذْرٍ، وَفِطْرٌ بِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ كَانَ الْفِطْرُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ، نَوْعٌ يَثْبُتُ به القضاء حسب وَهُوَ الْأَكْلُ، وَنَوْعٌ يَثْبُتُ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْجِمَاعُ فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَتَنَوَّعَ الْفِطْرُ بِعُذْرٍ نَوْعَيْنِ، نَوْعٌ يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ حَسْبُ وَنَوْعٌ يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرْتَ هَذَا فَقُلْتَ: لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْفِطْرِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَجِبُ بِهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَالْإِفْطَارِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ سُقُوطَ انْحِتَامِ الصَّوْمِ، لَا يُؤْذِنُ بِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ أَلَا تَرَى الشَّيْخَ الْهَرِمَ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ انْحِتَامُ الصَّوْمِ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَقِيَاسُهُمْ عَلَى(3/437)
الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ فِطْرٌ يَخْتَصُّ بِنَفْسِهِ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا فِطْرٌ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصَانِ فَشَابَهَ الْجِمَاعَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِي اجْتِمَاعِهِمَا مُخَالَفَةً لِلْأُصُولِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لأنه إنما يكون مخالفاً للأصول إن وَافَقَ مَعْنَى الْأُصُولِ، وَخَالَفَهَا فِي الْحُكْمِ فَأَمَّا إِذَا خَالَفَهَا فِي الْمَعْنَى فَيَجِبُ أَنْ يُخَالِفَهَا فِي الْحُكْمِ كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمَّا كَانَ مُخَالِفًا لِمَعْنَى الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَالْقُفَّازَيْنِ أَوْجَبَ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِيهِمَا، وَالْمَعْنَى فِي الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ أَنَّهُ فِطْرٌ ارْتَفَقَ بِهِ شَخْصَانِ فَشَابَهَ الْجِمَاعَ، وَخَالَفَ الْمُسَافِرَ وَالْمَرِيضَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ، فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَتِ الْكَفَّارَاتُ مُعْتَبَرَةً بِكَثْرَةِ الْآثَامِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكْمَةٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّدَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْظَمُ مِنَ الْوَطْءِ، ثُمَّ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّ معناهما يتفرق بما ذكرنا.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ حَرَّكَتِ الْقُبُلَةُ شَهْوَتَهُ كَرِهْتُهَا لَهُ وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَنْتَقِضْ صَوْمُهُ وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ (قَالَ إبراهيم) سمعت الربيع يقول فيه قولٌ آخر أنه يفطر إلا أن يغلبه فيكون في معنى المكره يبقى ما بين أسنانه وفي فيه من الطعام فيجري به الريق وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كان يقبل وهو صائم قالت عائشة وكان أملككم لإربه بأبي هو أمي (قال) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كانا يكرهانها للشباب ولا يكرهانها للشيخ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ: أَنَّ الْقُبْلَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا قبل الصائم الصائمة فقد أفطره ".
وَذَهَبَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الْقُبْلَةَ لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ مَعَهَا، فَإِنْ أَنْزَلَ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَا كَفَّارَةَ وَإِنَّمَا لَمْ يُفْطِرْ بِالْقُبْلَةِ، إِذَا لَمْ يُنْزِلْ لِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عِنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَ أَرَاكِ هِيَ فَضَحِكَتْ.(3/438)
وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمُ لِإِرْبِهِ بِتَسْكِينِ الرَّاءِ، وَرُوِيَ لِأَرْبِهِ بِفَتْحِهَا وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَرَادَتِ الْعُضْوَ نَفْسَهُ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّهَا أَرَادَتْ شَهْوَتَهُ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ زَوْجَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ عَنِ الصَّائِمِ، يُقَبِّلُ زَوْجَتَهُ فَسَأَلَتْهَا، فَقَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ فَرْجَعَتِ الْمَرْأَةُ وَأَخْبَرَتْ زَوْجَهَا فَغَضِبَ وَقَالَ لَسْنَا كَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخرا ارجعي فاسأليها عَنْ حَالِنَا فَرْجَعَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَأَخْبَرَتْهَا فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لَا عِلْمَ لِي حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلَا أَخْبَرْتِيهَا بِذَلِكَ فَقَالَتْ قَدْ أَخْبَرْتُهَا فَقَالَتْ كَيْتَ وَكَيْتَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَقْوَمَكُمْ عَلَى دِينِهِ وَرَوَى جَابِرٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتُ أَمْرًا عَظِيمًا فَتَجِدُ لِي مِنْ رجعةٍ فَقَالَ وَمَا ذَلِكَ فَقُلْتُ: قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ يَا عُمَرُ أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِالْمَاء قُلْتُ لَا بَأْسَ بِهِ قَالَ فَفِيمَ يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْقُبْلَةَ بِلَا إِنْزَالٍ كَالْمَضْمَضَةِ بِلَا ازْدِرَادٍ فَأَمَّا خَبَرُ مَيْمُونَةَ فَإِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى أَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ إِذَا أَنْزَلَ، أَوْ يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ".
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُبْلَةَ بِلَا إِنْزَالٍ لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنْظَرُ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْقُبْلَةُ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ، وَلَا تُبْطِلُ صَوْمَهُ إِلَّا أَنْ يُنْزِلَ فَإِنْ لَمْ تُحَرِّكْ شَهْوَتَهُ، فَهِيَ غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ، وَتَرْكُهَا أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ ابن(3/439)
عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ فِي الْحَالَيْنِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَهَا فِي الْحَالَيْنِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ تَعَلُّقًا، بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَنَامِ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، فَقُلْتُ: مَا لِي فَقَالَ إِنَّكَ تُقَبِّلُ وَأَنْتَ صَائِمٌ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَنَعَ مِنَ الْجِمَاعِ مَنَعَ مِنْ دَوَاعِيهِ كَالْحَجِّ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ مَعَ مَا رَوَيْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ لَهُ فِيهَا ثُمَّ سَأَلَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَنَهَاهُ عَنْهَا، فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ فِيهَا شَيْخٌ وَالَّذِي نَهَاهُ عَنْهَا شَابٌّ وَلِأَنَّ الْقُبْلَةَ إِنَّمَا تُكْرَهُ خَوْفَ الْإِنْزَالِ، فَإِذَا لَمْ تَتَحَرَّكْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ أَمِنَ الْإِنْزَالَ فَلَمْ تُكْرَهْ لَهُ، وَإِذَا تَحَرَّكَتْ عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، خَافَ الْإِنْزَالَ فَكُرِهَتْ لَهُ فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّا قَدْ رُوِّينَا عَنْهُ لَفْظًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَاحَ قُبْلَةَ الصَّائِمِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا نَقَلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَفْظًا فِي الْيَقَظَةِ، بِمَا رَوَاهُ فِي الْمَنَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي اسْتِعْمَالِهِ نَسْخًا لِلْخَبَرِ الْآخَرِ وَالنَّسْخُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لَا يَقَعُ وَاعْتِبَارُهُمْ بِالْحَجِّ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ فِي الْمَنْعِ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ مِنَ الصَّوْمِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْعَقْدِ وَالطِّيبِ فَجَازَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْقُبْلَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصَّوْمُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ وَلَمْ يُكَفِّرْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَقَدْ ذَكَرْنَا إِنْ أَنْزَلَ أَحَدٌ عَنْ مُبَاشَرَةٍ بِلَا إِيلَاجٍ فَفِيهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ مِثْلُ أَنْ يَمَسَّ، أَوْ يَلْمَسَ أَوْ يُقَبِّلَ أَوْ يُضَاجِعَ أَوْ يَطَأَ دُونَ الْفَرْجِ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَقَدْ دَلَّلْنَا لَهُ وَعَلَيْهِ، فَأَغْنَى عَنِ الْإِعَادَةِ ثُمَّ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّا وَجَدْنَا كُلَّ عِبَادَةٍ حُرِّمَ فِيهَا الْوَطْءُ، أَوْ غيره فللوطئ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ كَالْحَجِّ فكذلك الصوم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَلَذَّذَ بِالنَّظَرِ فَأَنْزَلَ لَمْ يُفْطِرْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ فَكَّرَ بِقَلْبِهِ فَأَنْزَلَ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ إِجْمَاعًا لِأَنَّ الْفِكْرَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أَمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِسْيَانَ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا " فَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فَأَنْزَلَ فَإِنْ كَانَ بِأَوَّلِ نَظْرَةٍ لَمْ يَأْثَمْ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ وَتَلَذَّذَ بِهِ فَقَدْ أَثِمَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالَيْنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَنْزَلَ بِأَوَّلِ نَظْرَةٍ فَعَلَيْهِ القضاء دون(3/440)
الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ " وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ الْفَرْجُ فَسَوَّى بَيْنَ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْطِرَ كَالْفِكْرِ وَالِاحْتِلَامِ، وَلِأَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا، وَمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ لَا يَقَعُ بِهِ الْفِطْرُ كَالدُّخَانِ وَالْغُبَارِ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَكَذَا نَقُولُ إِذَا صَدَّقَهُ الْفَرْجُ صَارَ زِنًا يُسْتَوْجَبُ بِهِ الْحَدُّ وَالْكَفَّارَةُ، فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ فَلَا حَدَّ وَلَا كفارة.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى رجلٍ فَمَضَى لَهُ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ وَلَا شَرِبَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَإِنْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَهُوَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ صائم وكذلك إن أصبح راقداً ثم استيقظ (قال المزني) إذا نوى من الليل ثم أغمي عليه فهو عندي صائم أفاق أو لم يفق واليوم الثاني ليس بصائم لأنه لم ينوه في الليل وإذا لم ينو في الليل فأصبح مفيقاً فليس بصائم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ نَهَارَهُ أَجْمَعَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَوْمَهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِنِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ عَرِيَتْ عَنْ قَصْدٍ وَعَمَلٍ، فَشَابَهَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: صَوْمُهُ جَائِزٌ قِيَاسًا عَلَى النَّائِمِ فَأَمَّا إِذَا نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ نَامَ نَهَارَهُ أَجْمَعَ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ لأنه حُكْمَ الْعِبَادَاتِ جَارٍ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: صَوْمُهُ بَاطِلٌ قِيَاسًا عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّوْمِ، وَالْإِغْمَاءِ وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّوْمَ جِبِلَّةٌ، وَعَادَةٌ تَجْرِي مَجْرَى الصِّحَّةِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلْبَدَنِ إِلَّا بِهَا، وَالْإِغْمَاءُ عَارِضٌ مُزِيلٌ لِحُكْمِ الْخِطَابِ فَلَمْ يَصِحَّ مَعَهُ الصِّيَامُ إِذَا اتَّصَلَ، وَاسْتَدَامَ فَأَمَّا إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، وَأَفَاقَ فِي بَعْضِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا: إِذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ نَهَارِهِ صَحَّ صَوْمُهُ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ إِذَا أَفَاقَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ، وَقَالَ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ: وَإِذَا حَاضَتْ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا بَطَلَ صَوْمُهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مذهب الشافعي على ثلاثة أوجه:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ مَنْصُوصَةٍ:
أَحَدُهَا: مَتَى أَفَاقَ فِي بَعْضِ نَهَارِهِ صَحَّ صَوْمُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ صَوْمَهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ.(3/441)
وَالثَّالِثُ: أَنَّ صَوْمَهُ يَبْطُلُ بِالْإِغْمَاءِ كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَتَى أَفَاقَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ.
وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ حَتَّى يَكُونَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَمَا قَالَهُ فِي اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ، إِذَا حَاضَتْ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا بَطَلَ صَوْمُهَا فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَوَابَهُ عَادَ إِلَى الْحَيْضِ دُونَ الْإِغْمَاءِ وَقَدْ يَجْمَعُ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ مَسَائِلَ، ثُمَّ يُعِيدُ الْجَوَابَ إِلَى بَعْضِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ إِغْمَاءَ الْجُنُونِ لَا إِغْمَاءَ الْمَرَضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ أَنَّ صَوْمَهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ مُفِيقًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، هَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَحَمْلُ إِطْلَاقِ بَعْضِ النَّهَارِ عَلَى مَا قَيَّدَهُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فَإِذَا أَفَاقَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَمِنْ صِحَّةِ صَوْمِهِ أَنْ يَكُونَ مُفِيقًا فِي آخِرِهِ، فَاعْتَبَرَ الْإِفَاقَةَ فِي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّوْمِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، يَغْلَطُ فَيُخْرِجُ هَذَا قَوْلًا رَابِعًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهَذِهِ أَحَدُ مَسَائِلِ أَبِي إِسْحَاقَ الَّتِي غَلِطَ فِيهَا عَلَى الشَّافِعِيِّ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ كُلِّ قَوْلٍ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي، وَمَا يَلِيهِ في أَيَّامِ الْإِغْمَاءِ فَصَوْمُهُ فِيهِ بَاطِلٌ لَا يُخْتَلَفُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ لِإِخْلَالِهِ بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا أَسْقَطْتُمْ عَنْهُ قَضَاءَ الصِّيَامِ كَمَا أَسْقَطْتُمْ عَنْهُ قَضَاءَ الصَّلَاةِ، قِيلَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ يَلْزَمُ اسْتِدَامَةُ قَصْدِ الْعَمَلِ فِيهَا فَإِذَا خَرَجَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْدِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَالصَّوْمُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِدَامَةُ قَصْدِ الْعَمَلِ فِيهِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ وَإِنْ أَخَلَّ بِالْقَصْدِ فِي بَعْضِهِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ زَوَالُ الْقَصْدِ، وَهَذَا الْفَرْقُ تَعْلِيلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ، أَنْ يَسْتَوِيَ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فِي سُقُوطِ الصَّوْمِ كَمَا اسْتَوَيَا فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ، وَيَسْتَوِي حُكْمُ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، كَمَا اسْتَوَيَا فِي الْجُنُونِ فَأَمَّا الْجُنُونُ إِذَا طَرَأَ عَلَى الصَّوْمِ، فَقَدْ أَفْسَدَهُ سَوَاءٌ وُجِدَ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ، أَوْ فِي بَعْضِهِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ: فهلا لَزِمَ فِيهِ الْقَضَاءُ كَالْإِغْمَاءِ قِيلَ: لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ، وَعَارِضٌ لَا يَدُومُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَالنَّوْمِ يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَالْجُنُونُ يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَيُسْقِطُ حُكْمَ التَّكْلِيفِ وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ لِلْأَنْبِيَاءِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا فِي حُكْمِ القضاء وما ذكرنا مِنْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا يَدْفَعُ هَذَا الْفَرْقَ الْمَدْخُولَ فِيهِ فَأَمَّا الرِّدَّةُ إِذَا طَرَأَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ نَهَارِ الصَّوْمِ فَقَدْ أبطلته،(3/442)
لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ عِبَادَةٍ فِي حَالِ الرِّدَّةِ لِفَسَادِ الْمُعْتَقَدِ فَإِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ كَمَا يَقْضِي مَا ترك من الصلوات.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا صَوْمَ عَلَيْهَا فَإِذَا طَهُرَتْ قَضَتِ الصَوْمَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا أَنْ تُعِيدَ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا مَا كَانَ فِي وَقْتِهَا الَّذِي هُوَ وَقْتُ الْعُذْرِ وَالضَرُورَةِ كَمَا وَصَفْتُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحَائِضَ لا صوم عليها ولا زَمَانِ حَيْضِهَا بَلْ لَا يَجُوزُ لَهَا، وَمَتَى طَرَأَ الْحَيْضُ عَلَى الصَّوْمِ أَبْطَلَهُ إِلَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ، تَزْعُمُ أَنَّ الْفِطْرَ لَهَا رُخْصَةٌ فَإِنْ صَامَتْ أَجْزَأَهَا، وَهَذَا مَذْهَبٌ قَدْ شَذَّ عَنِ الْكَافَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ مَعَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَلَيْسَ الْمَرْأَةُ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تَصُمْ، وَلَمْ تُصَلِّ فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا " وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيْنَا قَضَاءُ رَمَضَانَ فَلَا نَقْضِيهِ إِلَّا فِي شَعْبَانَ اشْتِغَالًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَعْنِي قَضَاءَ رَمَضَانَ مِنْ أَجْلِ الْحَيْضِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْحَائِضِ أَنْ تَكُونَ مُحْدِثَةً، وَالْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ لَا يَمْنَعَانِ الصَّوْمَ، قِيلَ: قَدْ فَرَّقَتِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ الْحَدَثَ وَالْجَنَابَةَ لَا يُسْقِطَانِ الصَّلَاةَ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُمَا بِالطَّهَارَةِ، وَالْحَيْضُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالطَّهَارَةِ قَبْلَ انْقِطَاعِهِ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حُكْمُ الصَّوْمِ فِيهِمَا فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَائِضَ تَدَعُ الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، فَإِذَا طَهُرَتْ لَزِمَهَا قَضَاءُ الصِّيَامِ دُونَ الصَّلَاةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصِّيَامِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَشَقَّةَ لَاحِقَةٌ فِي إِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ لِتَرَادُفِهَا مَعَ الْأَوْقَاتِ، وَالصَّوْمُ لِقِلَّتِهِ لَا تَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ فِي إِعَادَتِهِ فَلِهَذَا مَا لَزِمَهَا قَضَاءُ الصيام دون الصلاة.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ تَعْجِيلَ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرَ السُّحُورِ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
تَعْجِيلُ الْفِطْرِ إِذَا تُيُقِّنَ غُرُوبُ الشَّمْسِ مَسْنُونٌ لِمَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَزَالُ النَاسُ بخيرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَلَمْ يُؤَخِّرُوهُ تَأْخِيرَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ ".(3/443)
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ " فَإِذَا قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يؤخران الإفطار حتى يسود الأفق قال: إِنَّمَا فَعَلَا ذَلِكَ لَا رَغْبَةً عَنْ فَضْلِ التَّعْجِيلِ، وَلَكِنْ لِيُبَيِّنَا جَوَازَ التَّأْخِيرِ، وَأَنَّ التَّعْجِيلَ غَيْرُ وَاجِبٍ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ كَرَاهَةَ أَنْ يُرَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ إِفْطَارُهُ عَلَى التَّمْرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَالْمَاءُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُفْطِرُ عَلَى رطباتٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فتمراتٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فشربةٌ ماءٍ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا السُّحُورُ فَسُنَّةٌ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ لِرِوَايَةِ سَلَمَةَ بن وهرام عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَهَارِ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بركةٌ " وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْجَمَاعَةُ بركةٌ وَالثَّرِيدُ بركةٌ وَالسَّحُورُ بركةٌ تَسَحَّرُوا وَلَوْ عَلَى جَرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ " ذَكَرَ مِنْهَا تَأْخِيرَ السحور وروي عن العرباض ابن سَارِيَةَ أَنَّهُ قَالَ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَتَسَحَّرُ فَقَالَ لِي كُلْ فَلَمْ آكُلْ وَوَدِدْتُ أَنْ كُنْتُ أَكَلْتُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِغُلَامِهِ قَنْبَرٍ ائْتِنِي بِالْغِذَاءِ الْمُبَارَكِ فَيَتَسَحَّرُ وَيَخْرُجُ فَيُؤْذِنُ وَيُصَلِّي، وَلِأَنَّ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السَّحُورِ قُوَّةً لِجَسَدِهِ وَمَعُونَةً لِأَدَاءِ عِبَادَتِهِ.(3/444)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا سافر الرجل بالمرأة سفراً يكون سنة وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ كَانَ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا في شهر رمضان ويأتي أهله فإن صاما في سفرهما أجزأهما ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَسَافَةٍ جَازَ أَنْ تُقْصَرَ فِيهَا الصَّلَاةُ جَازَ أَنْ يُفْطَرَ فِيهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ كَالْقَصْرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْمَسَافَةِ فَعِنْدَنَا أَنَّهَا مَسَافَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِسَيْرِ النَّقْلِ، وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ وَقَدْرُ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ، أَوْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْمَرْوَانِيِّ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ وَحَكَيْنَا خِلَافَ أبي حنيفة فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُفْطِرُوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بردٍ " وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إلى عسفان وإلى الطايف، فإذا سافر قدر المسافة المذكورة جاز لهما الْفِطْرُ إِنْ شَاءَ بِالْأَكْلِ أَوْ بِالْجِمَاعِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْفِطْرَ الْمُبَاحَ يَسْتَوِي فِيهِ حَالُ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ مُبَاحٌ وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَبِهِ قَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 185) فَأَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السفر " وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الصَّائِمُ فِي السَفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَإِبَاحَةٌ رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ " وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ كُلُّ ذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَمَّ وَقَضَى وَصَامَ وَأَفْطَرَ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُمَا قَالَا: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ لَا يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ " فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 184) ففي الآية الإضمار وَهُوَ الْفِطْرُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي(3/445)
السفر " فخارج عن سَبَبٍ، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ برجلٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَاسُ وَهُوَ يُنْقَلُ مِنْ فَيْءٍ إِلَى فَيْءٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَقَالَ: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ يَعْنِي لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " فَمَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ إِذَا اعْتَقَدَ وُجُوبَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ فَالصَّوْمُ أَوْلَى لَهُ، إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَقَالَ مَالِكٌ: الْفِطْرُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ " قَالَ وَكَمَا أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ أَوْلَى مِنْ إِتْمَامِهَا كَذَلِكَ الْفِطْرُ أَوْلَى مِنَ الصِّيَامِ، وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ لَهُ حمولةٌ زَادٍ فَإِذَا شَبِعَ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ " وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا فَرَغَتْ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صُمْتُ وَمَا أَفْطَرْتُ وَأَتْمَمْتُ، وَمَا قَصَرْتُ فَقَالَ لَهَا: أَحْسَنْتِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ، وَالصَّوْمَ عَزِيمَةٌ وَفِعْلُ الْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الرُّخْصَةِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ " فَضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَإِنْ صَحَّ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَحَبَّ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ، وَإِذَا أَحَبَّهُمَا مَعًا، وكان إحداهما مُسْقِطًا لِمَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، فَهُوَ أَوْلَى، وَأَمَّا قَصْرُ الصَّلَاةِ فَلَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمُ الْإِتْمَامُ أَوْلَى كَالصَّوْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَصْرُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْرُ أَوْلَى مِنَ الْإِتْمَامِ، وَأَفْضَلَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِيجَابُ ضَمَانٍ فِي الذِّمَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْفِطْرُ، لِأَنَّهُ إِذَا أَفْطَرَ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ضَمَانُ الْقَضَاءِ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَلَفَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لأحدٍ أَنْ يَصُومَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ديناً وَلَا قَضَاءً لِغَيْرِهِ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ لرمضان ولا لغيره صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في السفر وأفطر وقال لحمزة رضي الله عنه " إن شئت فصم وإن شئت فافطر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ زَمَانَ رَمَضَانَ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِ غَيْرِهِ فِيهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِنْ صَامَ فِيهِ نَذْرًا أَوْ قَضَاءً أَوْ كَفَّارَةً أَوْ تَطَوُّعًا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ، وَلَا عَنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الزَّمَانَ يَمْنَعُ مِنْ إِيقَاعِهِ وَحَكَيْنَا خِلَافَ أبي حنيفة، وَأَصْحَابِهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَدَلَّلْنَا له وعليه بما فيه كافية وغنا.(3/446)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ سَفَرٍ نَهَارًا مُفْطِرًا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أحدٌ وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَتُهُ حَائِضًا فَطَهُرَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا وَلَوْ تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ أحل إِلَيَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا قَدِمَ رَجُلٌ نَهَارًا مِنْ سَفَرِهِ، وَكَانَ قَدْ أَفْطَرَ فِي أَوَّلِ يَوْمِهِ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، وَإِنْ صَادَفَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا فَلَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا، لَكِنْ يَسْتَتِرُ بِهَذَا الْفِعْلِ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ وَالتَّعْرِيضِ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِمْسَاكٌ بَقِيَّةَ هَذَا الْيَوْمِ، وَلَوْ فَعَلَ كَانَ حَسَنًا، وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَنْ أَكَلَ فَلْيُمْسِكْ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ فَأَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ مَعَ تَقَدُّمِ الْفِطْرِ. قَالَ وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَوْ وُجِدَ فِي ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ لَزِمَهُ إِمْسَاكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِذَا وُجِدَ فِي أَثْنَائِهِ لَزِمَهُ إِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ.
أَصْلُ ذَلِكَ: إِذَا أَصْبَحَ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى شَكٍّ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مَعَ الْعِلْمِ بِالصَّوْمِ، فَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُمْسِكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ. أَصْلُهُ الْحَائِضُ إِذَا طَهُرَتْ أَوِ السَّفَرُ إِذَا اتَّصَلَ فَأَمَّا حَدِيثُ عَاشُورَاءَ فَقَدْ كَانَ تَطَوُّعًا وَأُمِرُوا بِإِمْسَاكِهِ اسْتِحْبَابًا، وَلَوْ صَحَّ وُجُوبُهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا وُجُوبَهُ، قَبْلَ الْأَكْلِ لَزِمَهُمُ الصَّوْمُ فَشَابَهَ يَوْمَ الشَّكِّ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، لِأَنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَوْ تَقَدَّمَ لَزِمَهُمُ الصَّوْمُ، وَلَمْ يَجُزِ الْفِطْرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ، لِأَنَّ الْفِطْرَ لَهُ جَائِزٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْحَائِضُ إِذَا طَهُرَتْ فِي نَهَارِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَيْسَ عَلَيْهَا إِمْسَاكُ بَقِيَّتِهِ بِوِفَاقِ أبي حنيفة، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَلَغَ صَبِيٌّ أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ فِي نَهَارٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ كَالْمُسَافِرِ، وَالْحَائِضِ، وَخَالَفَنَا أبو حنيفة فَأَلْزَمَهُمُ الْإِمْسَاكَ، وَفِيمَا مَضَى مِنَ الدَّلِيلِ كِفَايَةٌ فَأَمَّا الْمَرِيضُ إِذَا أَفْطَرَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ لِمَرَضٍ، ثُمَّ صَحَّ فِي آخِرِهِ فَعِنْدَ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ كَالْمُسَافِرِ لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِعَجْزِهِ عَنِ الصَّوْمِ فَإِذَا زَالَ الْعَجْزُ، وَأَمْكَنَهُ الصَّوْمُ ارْتَفَعَ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ وَلَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُسَافِرُ، لِأَنَّهُ يُفْطِرُ وَإِنْ أَطَاقَ الصَّوْمَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْيَسُ، وَهَذَا أَشْبَهُ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ فَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَكَلَ ولا شرب ولا نوى الصوم وكان وعلى نِيَّةِ الْفِطْرِ، فَلَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قَدِمَ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ، وَلَوْ أَمْسَكَ كَانَ أَوْلَى وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِمْسَاكُ لِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ بِتَرْكِ النِّيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ فصار بمثابة(3/447)
مَنْ أَفْطَرَ بِالْأَكْلِ فَأَمَّا إِذَا نَوَى الصَّوْمَ فِي سَفَرِهِ، ثُمَّ قَدِمَ نَاوِيًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ صَوْمِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ صَوْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، لِأَنَّ زَوَالَ السَّفَرِ قَدْ رَفَعَ حُكْمَ الْإِبَاحَةِ كَالْمُسَافِرِ إِذَا نَوَى الْقَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هُرَيْرَةَ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، فِي حَرْمَلَةَ أَنَّهُ عَلَى خِيَارِهِ إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ لِأَنَّ حُكْمَ الْيَوْمِ مُعْتَبَرٌ بِأَوَّلِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَوَى الصَّوْمَ مُقِيمًا، ثُمَّ سافر لم يجز له أن يفطر اعتبار بِحُكْمِ أَوَّلِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الصَّوْمَ مُسَافِرًا، ثُمَّ أَقَامَ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَوَّلِ الْيَوْمِ، فَلَوْ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ فِي سِفْرِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ نَوَى إِتْمَامَ الصَّلَاةِ ثُمَّ أَرَادَ الْقَصْرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفِطْرَ يُضْمَنُ بِالْقَضَاءِ وَعُذْرُ الْإِفْطَارِ قَائِمٌ بِدَوَامِ السَّفَرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْقَصْرُ لِأَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ ضُمِنَ الْإِتْمَامُ عَلَى نَفْسِهِ فَلِهَذَا المعنى فصل بينهما.
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا نَوَى الصَّوْمَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ الْفَجْرِ مُسَافِرًا لَمْ يُفْطِرْ يَوْمَهُ لِأَنَّهُ دخل فيه مقيماً (قال المزني) رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه صام في مخرجه إلى مكة في رمضان حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه ثم أفطر وأمر من صام معه بالإفطار ولو كان لا يجوز فطره ما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعِ مَسَائِلَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَبْتَدِئَ السَّفَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا شُبْهَةَ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ السَّفَرَ فِي زَمَانٍ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ، وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ يُسَافِرَ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وأبي حنيفة أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَوْمَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ مِنَ الْمَدِينَةِ صَائِمًا فَلَمَّا بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ أَفْطَرَ فَحَصَلَ صَائِمًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مُفْطِرًا فِي آخِرِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْفِطْرَ إِنَّمَا أُبِيحَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ، الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، ثم تبت أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، وأن صَامَ فِي أَوَّلِهِ فَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُواْ أعْمَالَكُمْ) {محمد: 33) لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَوَجَبَ إِذَا ابْتَدَأَهَا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ السَّفَرُ، أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْحَضَرِ كَالصَّلَاةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَلَطَ إِبَاحَةً بِحَظْرٍ وَلَا بُدَّ مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا فِي الْحُكْمِ، فكان تغليب(3/448)
الخطر أَوْلَى، وَأَمَّا حَدِيثُ كُرَاعِ الْغَمِيمِ فَمِنَ الْمَدِينَةِ إِلَيْهِ مَسِيرَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ ذَلِكَ لِلْمُزَنِيِّ فَرَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ أَضْرِبُوا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، لَمْ يَصِحَّ لَهُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا هَلْ سَافَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ؟ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنَّمَا جَازَ له الفطر للضرورة الداعية فيما أحدث، بِلَا اخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّفَرُ، لِأَنَّهُ أَنْشَأَهُ مُخْتَارًا، وَلَمْ تَدْعُهُ الضَّرُورَةُ إِلَى الْفِطْرِ فِيهِ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ يُسَافِرُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ هَلْ سَافَرَ قَبْلَ الْفَجْرِ، أَوْ بَعْدَهُ فَهَذَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ صَوْمِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، لِأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ حُدُوثِ السَّفَرِ، وَفِي شَكٍّ مِنْ تَقَدُّمِهِ، وَبِالشَّكِّ لَا تُبَاحُ الرُّخَصُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يَنْوِيَ الصِّيَامَ أَصْلًا، ثُمَّ يُسَافِرَ بَعْدَ الْفَجْرِ فَهَذَا يُفْطِرُ لِإِخْلَالِهِ بِالنِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ، وَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ قَدْ ثَبَتَتْ بِأَوَّلِهِ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ مُفْطِرٌ بِتَرْكِ النية.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ فَإِنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أحدٌ وَلَا يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ بِتَرْكِ فَرْضِ اللَّهِ وَالْعُقُوبَةِ مِنَ السُّلْطَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ، فَقَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْعِبَادَةِ وَسَوَاءٌ حَكَمَ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ هِلَالَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ الصِّيَامُ، وَإِنْ كَانَ هِلَالَ شَوَّالٍ لَزِمَهُ الْإِفْطَارُ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَالِكٌ: يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ وَقَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، وَشَرِيكٌ وَإِسْحَاقُ لَا يَلْزَمُهُ الصِّيَامُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ، بَلْ هُمَا فِي الْحُكْمِ سِيَّانِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) فَحَتَّمَ الصَّوْمَ عَلَى مَنْ شَهِدَهُ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صوموا لرؤيته وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالرُّؤْيَةِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَرَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ، وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ، وَإِنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ الصِّيَامُ، فَإِنْ جَامَعَ فِيهِ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مَحْكُومٌ بِهِ مِنْ شَعْبَانَ فَوَجَبَ، أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ الشَّكِّ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ شُبْهَةٌ فَوَجَبَ إِدْرَاءُ الْحَدِّ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ يَوْمٌ لَزِمَهُ صَوْمُهُ مِنْ رَمَضَانَ فَوَجَبَ، أَنْ تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ، إِذَا هَتَكَ حُرْمَتَهُ بِالْوَطْءِ.
أَصْلُهُ: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ، فَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى يَوْمِ الشَّكِّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ، وَهَذَا يَوْمٌ لزمه صومه عن رمضان.(3/449)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَقْبَلُ عَلَى رُؤْيَةِ الْفِطْرِ إِلَّا عَدْلَيْنِ (قال المزني) هذا بعض لأحد قوليه أن لا يقبل في الصوم إلا عدلين (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا الربيع قال الشافعي لا يجوز أن يصام بشهادة رجلٍ واحدٍ ولا يجوز أن يصام إلا بشاهدين ولأنه الاحتياط ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هِلَالَ شَوَّالٍ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ وَأَجَازَ أَبُو ثَوْرٍ شَهَادَةَ عَدْلٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا هِلَالُ رَمَضَانَ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا عَدْلَانِ.
وَالثَّانِي: يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَ كُلِّ قَوْلٍ وَحَكَيْنَا خِلَافَ أبي حنيفة، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَى الْإِعَادَةِ حَاجَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ صَحَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَفْطَرَ وَصَلَّى بِهِمُ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا صَلَاةَ فِي يَوْمِهِ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ لِمَا ذُكِرَ فِيهِ وإن لم يكن ثابتاً (قال المزني) وله قولٌ آخر أنه لا يصلي من الغد وهو عندي أقيس لأنه لو جاز يقضي جاز في يومه وإذا لم يجز القضاء في أقرب الوقت كان فيما بعده أبعد ولو كان ضحى غدٍ مثل ضحى اليوم لزم في ضحى يومٍ بعد شهرٍ لأنه مثل ضحى اليوم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُصْبِحَ النَّاسُ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ شَاكِّينَ فِي يَوْمِهِمْ هَلْ هُوَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ مِنْ شَوَّالٍ؟ فَعَلَيْهِمْ صِيَامُهُ مَا لَمْ تَقُمِ الْبَيِّنَةُ، أَنَّهُ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنْ شَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ شَاهِدَانِ نُظِرَ فِي عَدَالَتِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا، وَكَانَ النَّاسُ عَلَى صَوْمِهِمْ، وَإِنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُمَا حَكَمَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، وَأَفْطَرَ الْقَاضِي أَوَّلًا ثُمَّ الشَّاهِدَانِ، ثُمَّ النَّاسُ بَعْدَهُمْ، وَسَوَاءٌ بَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ بَانَتْ عَدَالَتُهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ صَلَّى الْإِمَامُ بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ، لِأَنَّ وَقْتَهَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى فَعَلَ، وَإِنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ صَلَّى بِهِمْ حَيْثُ أَمْكَنَهُ مِنْ جَامِعٍ، أَوْ مَسْجِدٍ وَإِنْ بَانَتْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ، فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَهَلْ تُقْضَى أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لَا تُقْضَى لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَوَجَبَ أن تسقط بالفوات كصلاة الخوف.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُقْضَى لِأَنَّهَا صَلَاةٌ رَاتِبَةٌ في وقت، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَخْرُجُ قَضَاءُ الْوِتْرِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهَا(3/450)
تُقْضَى نَظَرَ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِمْ، لِتَفَرُّقِهِمْ وَسَعَةِ بَلَدِهِمْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا مِنَ الْغَدِ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ مِنْ جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَكَامُلُ الْجَمَاعَةِ، وَإِظْهَارُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمَأْثَمِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَ اجْتِمَاعِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي يَوْمِهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِمْ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُؤَخِّرُهَا إِلَى الْغَدِ لِيُصَلِّيَهَا فِي مِثْلِ وَقْتِهَا وَلَا يُصَلِّيهَا فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَضَاهَا مِنَ الْغَدِ فَأَمَّا إِنْ بَانَتْ عَدَالَةُ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يُخْتَلَفُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ " فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَقْضِيَ، وَاعْتَرَضَ بِسُؤَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنْ قَالَ لَوْ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ مِنَ الْغَدِ لَجَازَ فِي يَوْمِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْوَقْتِ أَقْرَبُ قُلْنَا فَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْقَضَاءَ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، فَسَقَطَ هَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَنَّا إِنَّمَا نَأْمُرُ بِالْقَضَاءِ بِهَا مِنَ الْغَدِ، لِأَنَّهَا صَلَاةُ ضُحًى جُعِلَ سَبَبُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، فَاحْتَاجَتْ فِي الْقَضَاءِ إِلَى الْأَدَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنْ قَالَ: لَوْ جَازَتْ فِي ضُحَى الْغَدِ لَجَازَتْ بَعْدَ شَهْرٍ قُلْنَا: إِنَّمَا جَوَّزْنَا لِحُدُوثِ الْإِشْكَالِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا بعد.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لمرضٍ أَوْ سفرٍ فَلَمْ يَقْضِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ آخَرُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الشَهْرَ ثُمَّ يَقْضِيَ مِنْ بَعْدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ وَيُكَفِّرَ لِكُلِّ يومٍ مُدًّا لمسكينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَالْأَوْلَى بِهِ أَنْ يُبَادِرَ بِالْقَضَاءِ وَذَلِكَ مُوَسَّعٌ لَهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ رَمَضَانُ ثَانٍ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثَانٍ صَامَهُ عَنِ الْفَرْضِ، لَا عَنِ الْقَضَاءِ فَإِذَا أَكْمَلَ صَوْمَهُ قَضَى مَا عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْظُرُ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ أَخَّرَ الْقَضَاءَ لِعُذْرٍ دَامَ بِهِ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ سَفَرٍ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ الْكَفَّارَةُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِمُدٍّ مِنْ طَعَامٍ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَر) {البقرة: 185) وَفِي إِيجَابِ الْفِدْيَةِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ، وَذَلِكَ نَسْخٌ قَالَ: وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِتَأْخِيرِهِ الْكَفَّارَةُ، كَالنَّذْرِ وَصَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَاجِبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِتَأْخِيرِهَا كَفَّارَةٌ كَالصَّلَاةِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَعلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةً}(3/451)
(البقرة: 184) فَكَانَ هَذَا عَامًّا فِي كُلِّ مُطِيقٍ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ، وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ومن أَفْطَرَ رَمَضَانَ بمرضٍ ثُمَّ صَحَّ فَلَمْ يقضِ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ فَلْيَصُمْ مَا أَدْرَكَهُ ثُمَّ لِيَقْضِ الَّذِي فَاتَهُ وَلْيُطْعِمْ عَنْ كُلِّ يومٍ مسكيناً " ولأنها عبادة تجب الكفارة بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَجَازَ أَنْ تَجِبَ بِتَأْخِيرِهَا الْكَفَّارَةُ كَالْحَجِّ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهِ وَتَجِبُ بِفَوَاتِ عَرَفَةَ هَذَا مَعَ إِجْمَاعِ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ خِلَافٌ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 185) فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ الْفِدْيَةَ لَمْ تَجِبْ بِالْفِطْرِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ بِالتَّأْخِيرِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى صَوْمِ النَّذْرِ وَالتَّمَتُّعِ، فَيَفْسُدُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا أَخَّرَهُ بِأَكْلٍ أَوْ جِمَاعٍ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ، أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ أَعْوَامًا، لَمْ تَلْزَمْهُ إِلَّا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ، فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي، عَلَيْهِ بكل عام فدية.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْقَضَاءُ حَتَّى مَاتَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ أَيَّامٍ مِنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قَضَاءٍ فَلَمْ يَصُمْهَا حَتَّى مَاتَ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ سَقَطَ عَنْهُ الصَّوْمُ وَلَا كَفَّارَةَ فِي مَالِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، سَقَطَ عَنْهُ الصَّوْمُ أَيْضًا وَوَجَبَ فِي مَالِهِ الْكَفَّارَةُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: يَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ إِنْ شَاءَ أَوْ يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَصُومُ عَنْهُ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، قَالَ: لِأَنَّهُ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ فَإِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ، فَخَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَكُونَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبًا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ الصَّوْمَ عَنِ الْمَيِّتِ بِمَا رَوَاهُ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الصِّيَامُ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(3/452)
وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقْضِ عَنْهَا وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً رَكِبَتِ الْبَحْرَ فَنَذَرَتْ أَنْ تَصُومَ شَهْرًا، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَصُومَ فَسَأَلَ أَخُوهَا، رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَهُ بِالصِّيَامِ عَنْهَا، قَالَ: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُهَا الْجُبْرَانُ بِالْمَالِ فَجَازَ أَنْ تَدْخُلَهَا النِّيَابَةُ كَالْحَجِّ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَلْيُطْعِمْ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا فَأَسْقَطَ الْقَضَاءَ وَأَمَرَ بِالْكَفَّارَةِ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِمَرَضٍ وَلَمْ يَقْضِ حَتَّى مَاتَ أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ يَعْنِي مُدًّا لِلْقَضَاءِ وَمُدًّا لِلتَّأْخِيرِ، لِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ قَالُوا: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ أُطْعِمَ عَنْهُ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَعَ الْعَجْزِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَدْخُلَهَا النِّيَابَةُ بَعْدَ الْوَفَاةِ، أَصْلُهُ الصَّلَاةُ، وَعَكْسُهُ الْحَجُّ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ إِذَا فَاتَ انْتَقَلَ عَنْهُ إِلَى الْمَالِ لَا إِلَى النِّيَابَةِ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ فَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ، فَالْمُرَادُ بِهَا فِعْلُ مَا يَنُوبُ عَنِ الصِّيَامِ مِنَ الْإِطْعَامِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَجِّ، فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُ النِّيَابَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ لِمِسْكِينٍ، فَلَوْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَصُمْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثَانٍ ثُمَّ مَاتَ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّانِ مُدٌّ، بَدَلٌ عَنِ الصِّيَامِ، وَمُدٌّ بَدَلٌ عَنِ التَّأْخِيرِ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ عَلَيْهِ مُدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْفَوَاتَ يُضْمَنُ بِالْمُدِّ الْوَاحِدِ كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ وَهَذَا غَلَطٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ لمرضٍ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ عَنْ كُلِّ يومٍ مدين.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ قَضَى مُتَفَرِّقًا أَجْزَأَهُ وَمُتَتَابِعًا أَحَبُّ إِلَيَّ ".(3/453)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ الْأَوْلَى فِي الْقَضَاءِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مُتَتَابِعًا، وَإِنْ قَضَى مُتَفَرِّقًا أَجْزَأَهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَدَاوُدَ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ قَضَى مُتَفَرِّقًا لَمْ يُجْزِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 185) وَهَذَا أَمْرٌ يَلْزَمُ الْمُبَادَرَةُ بِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ فَلْيَسْرُدْهُ وَلَا يُفَرِّقْهُ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِثْلَ الْأَدَاءِ ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ التَّتَابُعَ شَرْطٌ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ فَكَذَلِكَ فِي قَضَائِهِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 185) فَفِي أَيِّ زَمَانٍ قُضِيَ كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ لَا عَلَى التَّرَاخِي، قُلْنَا لَنَا فِيهِ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَمْ يَلْزَمْنَا هَذَا السُّؤَالُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى التَّرَاخِي، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرٍ) {البقرة: 185) دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّرَاخِي، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ فَعِدَّةٌ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ عَلَيْهِ شيءٌ مِنْ رَمَضَانَ فإن شاء صامه متتابعاً وإن شاء صام مُتَفَرِّقَا " وَرَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ فَقَضَاهُ بِالدِّرْهَمِ وَالدَرْهَمَيْنِ أَمَا كَانَ قَدْ قَضَى دَيْنَهُ فَقَالَ: نَعَمْ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَغْفِرَ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ فِي كُلِّ عِبَادَةٍ مِثْلَ الْأَدَاءِ ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ التَّتَابُعَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ لَمْ يُبْطِلْ مَا يَلِيهِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ فَأَمَّا الْآيَةُ فَدَلِيلُنَا، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَقَدْ قَلَبْنَاهُ عنهم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُصَامُ يَوْمُ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمُ النَّحْرِ ولا أيام منى فرضاً أو نفلاً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا يَوْمُ الْفِطْرِ، وَيَوْمُ النَّحْرِ فَلَا يُعْرَفُ خِلَافٌ فِي أَنَّ صَوْمَهُمَا حَرَامٌ، لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْفِطَرِ وَالْأَضْحَى(3/454)
وَلِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى أَزْهَرَ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى وَخَطَبَ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ صَوْمِ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ يَوْمَ فِطْرِكُمْ عَنْ صِيَامِكُمْ وَيَوْمَ تَأْكُلُونَ فِيهِ لَحْمَ نُسُكِكُمْ ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى وَخَطَبَ ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عَلِيٍّ وَعُثْمَانُ محفور فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ صَوْمِهِمَا بِإِجْمَاعٍ، فَلَوْ صَامَهُمَا أَحَدٌ، كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ لَا يَصِحُّ صَوْمُهُمَا كَاللَّيْلِ فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَهُمَا، كَانَ نَذْرُهُ بَاطِلًا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: نَذْرُهُ صَحِيحٌ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَإِنْ صَامَهُمَا جَازَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ النَّذْرُ، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ " وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَا يَصِحُّ فِيهِ صَوْمُ التَّطَوُّعِ لَا يَنْعَقِدُ فِيهِ النَّذْرُ كَاللَّيْلِ وَأَيَّامِ الْحَيْضِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ أَيَّامُ مِنًى الثَّلَاثَةُ، فَلَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَهَا عَنْ تَمَتُّعِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ فِي الحَجِّ) {البقرة: 196) وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَلِرِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ لِلْمُتَمَتِّعِ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَلَمْ يَصُمْ فِي الْعَشْرِ أَنْ يَصُومَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أُمِّهِ أنها قالت كنا بمنى إذ أَتَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَاكِبًا يُنَادِي أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هَذِهِ أَيَّامُ طُعْمٍ وَشُرْبٍ، فَلَا يَصُومُهَا أَحَدٌ " وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ صِيَامِ سِتَّةِ أيامٍ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَيَوْمِ الشَّكِّ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ تَمَتُّعًا كَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى فَإِذَا قِيلَ: لَيْسَ لِلْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَصُومَهَا فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَصُومَهَا بِحَالٍ لَا نَذْرًا وَلَا تَطَوُّعًا، وَلَا كَفَّارَةً، وَلَا قَضَاءً وَإِذَا قِيلَ: بِجَوَازِ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ فَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ الْمُتَمَتِّعِ صِيَامَهَا فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَصُومَهَا تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ تَقَدَّمَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لَا يُخْتَلَفُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَصُومَهَا وَاجِبًا عَنْ سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَقَضَاءِ رَمَضَانَ فَفِي جوازه وجهان:(3/455)
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَخْصُوصٌ بِالرُّخْصَةِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ فِي اسْتِثْنَاءِ الْمُتَمَتِّعِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الصَّوْمِ الَّذِي لَهُ سَبَبٌ كَالْأَوْقَاتِ الَّتِي نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، ثُمَّ اسْتُثْنِيَ مِنْهَا مَا لَهُ سَبَبٌ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ بَلَعَ حَصَاةً أَوْ مَا لَيْسَ بطعامٍ أَوِ احْتَقَنَ أَوْ دَاوَى جُرْحَهُ حَتَّى يَصِلَ إلى جوفه أو استعط حَتَّى يَصِلَ إِلَى جَوْفِ رَأْسِهِ فَقَدْ أَفْطَرَ إن كَانَ ذَاكِرًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ نَاسِيًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ابْتَلَعَ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا، أَوْ مَا لَيْسَ بِطَعَامٍ، وَلَا شَرَابٍ كَدِرْهَمٍ أَوْ حَصَاةٍ، أَوْ جَوْزَةٍ أَوْ لَوْزَةٍ، فَقَدْ أَفْطَرَ بِهَذَا كُلِّهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، إِذَا كَانَ عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا، فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الْكُوفِيُّ: لَا يُفْطِرُ إِلَّا بِطَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ فِي الْبُرُدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَطْعُومٍ وَلَا مَشْرُوبٍ، وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) {البقرة: 187) وَالصِّيَامُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلِأَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ مَمْنُوعٌ مِنَ ابْتِلَاعِهِ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ يُفْطِرُهُ أَلَا تَرَى الْغُبَارَ وَشَمَّ الرَّوَائِحِ لَمَّا لم يفطره ولم يُمْنَعْ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ يُفْطِرُهُ منع منه فكذلك هذا.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا احْتَقَنَ بِالدَّوَاءِ، فَقَدْ أَفْطَرَ قليلاً كان ذلك أو كثير أَوْ سَوَاءً وَصَلَ إِلَى الْمَعِدَةِ أَمْ لَا وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِرَ فِي إِحْلِيلِهِ دَوَاءٌ أَفْطَرَ بِهِ، وَسَوَاءٌ وَصَلَ إِلَى الْمَعِدَةِ أَمْ لَا لأن باطن السبيلين لا يخوف.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ كَثِيرًا أَفْطَرَ بِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يُفْطِرْهُ قَالَ أبو حنيفة يُفْطِرُ بِالْحُقْنَةِ، وَلَا يُفْطِرُ بِمَا دَخَلَ فِي إِحْلِيلِهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا يُفْطِرُ بِهِمَا، وَإِنَّمَا يُفْطِرُ بِمَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ فَمِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَالِكٍ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَا أَفْسَدَ الصَّوْمَ كَثِيرُهُ أَفْسَدَهُ قَلِيلُهُ كَالْأَكْلِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أبي حنيفة يَنْفَذُ إِلَى الْجَوْفِ يُفْطِرُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ وَهُوَ الْمَنِيُّ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ بِالْخَارِجِ مِنْهُ كَالْفَمِ يُفْطِرُ بِمَا دَخَلَ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَكْلُ، وَبِمَا خَرَجَ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَيْءُ وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ هُوَ أَنَّهُ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ أَوْصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ مَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْطِرَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا دَاوَى جُرْحَهُ بِدَوَاءٍ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ، فَقَدْ أَفْطَرَ بِهِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يابساً.(3/456)
وَقَالَ أبو حنيفة: يُفْطِرُ بِالرَّطْبِ، وَلَا يُفْطِرُ بِالْيَابِسِ لِأَنَّ الْيَابِسَ يُمْسِكُهُ الْجُرْحُ فَلَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ.
وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: لَا يُفْطِرُ بِرَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ عِلَاجًا لَا اغْتِذَاءً فَجَرَى مَجْرَى الضَّرُورَةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْفَذٍ أَفْطَرَ بِالدَّاخِلِ فِيهِ، إِذَا كَانَ رَطْبًا، أَفْطَرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا كَالْفَمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا وَصَلَ مِنَ الْفَمِ أَفْطَرَ بِهِ فَإِذَا وَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ، أفطر به كالرطب.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا جَرَحَ نَفْسَهُ مُخْتَارًا، أَوْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَنَفَذَتِ الْجِرَاحَةُ إِلَى جَوْفِهِ، فَقَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَلَوْ جُرِحَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لَمْ يُفْطِرْ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يُفْطِرُ بِحَالٍ، وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ لَمْ تَظْهَرْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ لَمْ يُفْطِرْ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقِيَاسِ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، فَأَمَّا إِذَا أَسْقَطَ الدهن أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ رَأْسِهِ فَلَقَدْ أَفْطَرَ بِهِ، وَقَالَ دَاوُدُ هُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ: " بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَتَرَفَّقْ " وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِالرِّفْقِ خوفاً من الفطر.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا اسْتَنْشَقَ رَفَقَ فَإِنِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى الرَّأْسِ أَوِ الْجَوْفِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَهُوَ عَامِدٌ ذاكرٌ لِصَوْمِهِ أَفْطَرَ (وَقَالَ) فِي كِتَابِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَلْزَمُهُ حَتَى يحدث ازدراداً فأما إن كان أراد المضمضة فسبقه لإدخال النفس وإخراجه فلا يعيد وهذا خطأ في معنى النسيان أو أخف منه (قال المزني) إذا كان الآكل لا يشك في الليل فيوافي الفجر مفطراً بإجماع وهو بالناسي أشبه لأن كليهما لا يعلم أنه صائم والسابق إلى جوفه الماء يعلم أنه صائم فإذا أفطر في الأشبه بالناسي كان الأبعد عندي أولى بالفطر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مَنْ أَرَادَ الْمَضْمَضَةَ، وَالِاسْتِنْشَاقَ فِي صَوْمِهِ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَرْفُقَ وَلَا يُبَالِغَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ لَقِيطًا بِذَلِكَ، فَإِنْ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ فَوَصَلَ الْمَاءُ إِلَى رَأْسِهِ أَوْ جَوْفِهِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ كَالْآكِلِ نَاسِيًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ قَاصِدًا لِإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ رَأْسِهِ، فَهَذَا يُفْطِرُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالْآكِلِ عَامِدًا، وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ إِلَى إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى جَوْفِهِ، وَإِنَّمَا سَبَقَهُ الْمَاءُ وَغَلَبَهُ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:(3/457)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ بَالَغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ.
وَالثَّانِي: لَمْ يُبَالِغْ فَإِنْ بَالَغَ فَقَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ ذَلِكَ حَادِثٌ عَنْ سَبَبٍ مَكْرُوهٍ كَالْإِنْزَالِ إِذَا حَدَثَ عَنِ الْقُبْلَةِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُبَالَغَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَ يَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ لَمْ يبالغ فيه فقولان:
أَحَدُهُمَا: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ " فَشَبَّهَ الْقُبْلَةَ بِالْمَضْمَضَةِ، ثُمَّ كَانَتِ الْقُبْلَةُ مَعَ الإنزال تفطر، فكذلك المضمضمة مَعَ الِازْدِرَادِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الِاسْتِنْشَاقِ: " إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا فَتَرَفَّقْ " خَوْفًا مِنْ إِفْطَارِهِ بِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى رَأْسِهِ، وَلِأَنَّ الْأَسْبَابَ الْحَادِثَةَ عَنِ الْأَفْعَالِ تَجْرِي مَجْرَى الْمُبَاشَرَةِ لَهَا فِي الْحُكْمِ كَالْجَنَابَةِ، يَجِبُ الْقَوَدُ فِيهَا بِالْمُبَاشَرَةِ، وَالسِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ يَجِبُ أن يستوي حكم السبب فيهما، والمباشرة، ولا ذكره المزني عن قِيَاسِهِ، عَلَى الْأَكْلِ شَاكًّا فِي الْفَجْرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نُصَّ عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، أَنَّهُ عَلَى صَوْمِهِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ فَصَارَ بِمَثَابَةِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْأَكْلِ، ولأنه واصل إِلَى جَوْفِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفْطِرَ أَصْلُهُ الذُّبَابُ إِذَا طَارَ إِلَى حَلْقِهِ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ يَقَعُ تَارَةً بِمَا يَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ، وَتَارَةً بِمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ بِلَا اخْتِيَارٍ كَالْقَيْءِ وَالْإِنْزَالِ، لَا يُفْطِرُ، فَكَذَلِكَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَضْمَضَةِ بِالِاخْتِيَارِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، وَالنَّفْلِ سَوَاءٌ وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ إِنْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَفْطَرَ، وَإِنْ تَوَضَّأَ لِفَرِيضَةٍ لَمْ يُفْطِرْ، لِأَنَّهُ فِي الْفَرِيضَةِ مُضْطَرٌّ، وَفِي النَّافِلَةِ مُخْتَارٌ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، لِأَنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ مَعًا.
وَالثَّانِي: إِنَّ حُكْمَ الْفِطْرِ فِي الِاضْطِرَارِ وَالِاخْتِيَارِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَوْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ، فَأَكَلَ خَوْفَ التَّلَفِ أَفْطَرَ، وَلَوِ ابْتَدَأَ الْأَكْلَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ أَفْطَرَ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اشْتَبَهَتِ الشُّهُورُ عَلَى أسيرٍ فَتَحَرَّى شَهْرَ رَمَضَانَ فَوَافَقَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ ".(3/458)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَبَسَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي مَطْمُورَةٍ فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِ وَيَجْتَهِدَ ثُمَّ يَصُومَ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ كَمَا يَجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ أُطْلِقَ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُبَيَّنَ لَهُ صَوَابُ اجْتِهَادِهِ، وَمُوَافَقَتُهُ رَمَضَانَ نَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَجْزَأَهُ صَوْمُهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا مَعَ الشَّكِّ فِي دُخُولِ وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَعَ إِجْمَاعِ السَّلَفِ قَبْلَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) وَهَذَا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ وَلِأَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ بِاجْتِهَادٍ، فَوَجَبَ إِذَا بَانَ لَهُ صَوَابُ اجْتِهَادِهِ أَنْ يُجْزِيَهُ كَمَا لَوِ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ، وَصَلَّى وَبَانَ لَهُ صَوَابُ الِاجْتِهَادِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ الْوَقْتِ فَصَلَّى أَجَزْأَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَبِينَ لَهُ صِيَامُ مَا بَعْدَ رَمَضَانَ فَهَذَا يُجْزِئُهُ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِلَّا فِيمَا لَا يَصِحُّ صِيَامُهُ مِنَ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ بِفَوَاتِ الشَّهْرِ، ثُمَّ وَافَقَ صَوْمُهُ زَمَانَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ أَجْزَأَهُ فَإِنْ بَانَ لَهُ صِيَامُ شَوَّالٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الشَّهْرَيْنِ أَعْنِي رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَا تَامَّيْنِ، أَوْ نَاقِصَيْنِ أَوْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ تَامًّا، وَشَوَّالٍ نَاقِصًا أَوْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ نَاقِصًا، وَشَوَّالٌ تَامًّا، فَإِنْ كَانَا تَامَّيْنِ لَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمِ الْفِطْرِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا نَاقِصَيْنِ، فَإِذَا قَضَاهُ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ، وَأَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ تَامًّا وَشَوَّالٌ نَاقِصًا لَزِمَهُ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ، يَوْمُ الْفِطْرِ وَيَوْمُ النُّقْصَانِ، وَإِنْ كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ نَاقِصًا وَشَوَّالٌ تَامًّا، فَقَدْ أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِهِ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ يَوْمَ الْفِطْرَ مِنْ شَوَّالٍ بُدِّلَ مِنَ الْيَوْمِ النَّاقِصِ مِنْ رَمَضَانَ، وَلَوْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَامَ نِصْفَ رَمَضَانَ وَنِصْفَ شَوَّالٍ أَجْزَأَهُ إِلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَيَكُونُ نِصْفُ صَوْمِهِ قَضَاءً وَنَصِفُهُ أَدَاءً.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبِينَ لَهُ صِيَامُ مَا قَبْلَ رَمَضَانَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ بَاقِيًا لَمْ يَفُتْ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّوْمِ فِيهِ لَا يُخْتَلَفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شِهِدَ مِنْكٌمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَمَضَانَ قَدْ فَاتَ وَمَضَى فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كُتُبِهِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْأُمِّ وَلَوْ قَالَ: إِذَا تَأَخَّرَ فَبَانَ لَهُ صِيَامُ مَا قَبْلَهُ أَجْزَأَهُ، كَانَ مَذْهَبًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لَهُ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ وَمَذْهَبُهُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ:(3/459)
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ إِذَا أَدَّاهَا قَبْلَ الْوَقْتِ أَنْ يُجْزِئَهُ كَالْحَاجِّ إِذَا أَخْطَأَ الْوَقْتَ بِعَرَفَةَ، فَوَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ أَصْلُهُ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْإِنَاءَيْنِ، ثُمَّ بَانَ نَجَاسَةُ مَا اسْتَعْمَلَهُ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا بِيَقِينٍ، فَوَجَبَ إِذَا بَانَ لَهُ الْأَدَاءُ قَبْلَ الْوَقْتِ، أَنْ تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ كَالصَّلَاةِ قَالَ فَأَمَّا الْحَاجُّ فَيَسْتَحِيلُ وُقُوفُهُمْ بِعَرَفَةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ قِيَاسُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فَلَوْ بَانَ لَهُ صِيَامُ نِصْفِ شَعْبَانَ وَنِصْفِ رَمَضَانَ فَمَا صَادَفَ مِنْ رَمَضَانَ يُجْزِيهِ، وَفِيمَا صَادَفَ مِنْ شَعْبَانَ قَوْلَانِ:
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَبِينَ لَهُ زَمَانُ صِيَامِهِ هَلْ وَافَقَ رَمَضَانَ أَوْ مَا قَبْلَهُ أَوْ مَا بَعْدَهُ فَهَذَا يُجْزِيهِ صَوْمُهُ وَلَا إِعَادَةَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الِاجْتِهَادِ صِحَّةُ الْأَدَاءِ، مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ الْخَطَأِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَللصَّائِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ وَيَنْزِلَ الْحَوْضَ فَيَغْطَسَ فِيهِ ويحتجم كان ابن عمر يحتجم صائماً قال ومما سمعت من الربيع (قال الشافعي) ولا أعلم في الحجامة شيئاً يثبت ولو ثبت الحديثان حديث " أفطر الحاجم " وحديث آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احتجم وهو صائم فإن حديث ابن عباس احتجم وهو صائم ناسخٌ للأول، وأن فيه بيان وأنه زمن الفتح وحجامة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعده ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اكْتِحَالُ الصَّائِمِ فَغَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ لَمْ يُفْطِرْ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَكْتَحِلَ وَلَا يُفْطِرَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ سِيرِينَ إِنِ اكْتَحَلَ الصَّائِمُ أَفْطَرَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمِيعِهِمْ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَزَلَ خَيْبَرَ وَدَعَا بكحلٍ إثمدٍ، فَاكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنه سئل عن الكحل للصائم فقال الإثم غُبَارٌ فَمَا يَضُرُّ الصَّائِمَ إِذَا نَزَلَ الْغُبَارُ وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَةِ لَهُ مُخَالِفٌ وَلِأَنَّ الْفِطْرَ يَحْصُلُ بِمَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ مَنْفَذٍ، فَأَمَّا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذٍ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْفِطْرُ كَمَا يَصِلُ بَرْدُ الْمَاءِ إِلَى الْكَبِدِ، وَبَاطِنِ الْجَسَدِ، ثُمَّ لَا يُفْطِرُ بِهِ لِأَنَّهُ وَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ مَنْفَذٍ.(3/460)
فَصْلٌ
: وَأَمَّا اغْتِسَالُ الصَّائِمِ، وَنُزُولُهُ الْمَاءَ فَجَائِزٌ، وَغَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا فَيَغْتَسِلُ وَيُتِمُّ صَوْمَهُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَتَمَاقَلَانِ فِي الْمَاءِ، وَكَانَا صَائِمَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْحِجَامَةُ، فَلَا تفطر الصايم، وَلَا تُكْرَهُ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ أَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ يَوْمَ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ برجلٍ يحتجم فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ رَوَاهُ ثَوْبَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يَخْرُجُ مِنَ الْبَدَنِ مُعْتَادٌ، فَجَازَ أَنْ يُفْطِرَ بِهِ كَدَمِ الْحَيْضِ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - احْتَجَمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ وَلِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَائِمِ وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَائِمَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ وَلِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ثُمَّ رَخَّصَ بَعْدَهُ في الحجامة فكان أنس يحتجم وهو صايم، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يُفْطَرُ بِالْوَاصِلِ إِلَيْهِ، لَا يُفْطَرُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ أَصْلُهُ الْفِصَادُ، وَعَكْسُهُ الْقَيْءُ، وَأَمَّا خَبَرُهُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَنْسُوخٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَرَدَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثمان وخبرنا في حجة الوداع ستة عَشْرٍ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ " يَعْنِي بِغَيْرِ الْحِجَامَةِ كَأَنَّهُ عَلِمَ تَقَوُّمَ فِطْرِهِمَا، أَوْ رَآهُمَا يَغْتَابَانِ فَقَالَ: أَفْطَرَا بِمَعْنَى أَنَّهُ سَقَطَ ثَوَابُهُمَا، أَوْ عَلِمَ بِهِمَا ضَعْفًا عَلِمَ أَنَّهُمَا يُفْطِرَانِ مَعَهُ، وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَاهُ بِهَذَا لِأَنَّهُ ضَمَّ الْحَاجِمَ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُنْتَقَضٌ بِالْفِصَادِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَيْضِ أَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى مَكَانِهِ يَقَعُ بِهِ الْفِطْرُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وأكره العلك لأنه يجلب الريق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا كَرِهْنَاهُ، لِأُمُورٍ مِنْهَا إِنَّهُ يُجَمِّعُ الرِّيقَ، وَيَدْعُو إِلَى الْقَيْءِ وَيُورِثُ الْعَطَشَ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَبْتَلِعَهُ فَإِنْ مَضَغَهُ، وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى جَوْفِهِ فهو على صومه.(3/461)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ واجبٌ عَلَى كُلِّ بالغٍ مِنْ رجلٍ وامرأةٍ وعبدٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ، فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِمَا لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمَا وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ الَّذِي يُسْقِطُ أَعْمَالَ الْأَبْدَانِ، وَيُسْتَحَبُّ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ إِذَا عَقَلَ وَمَيَّزَ مِثْلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالصِّيَامِ لِيَعْتَادَهُ، وَيَأْلَفَهُ فَإِذَا صَامَ صَحَّ صَوْمُهُ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ مِنْهُ صَوْمٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا حَجٌّ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ وَنَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ حَجِّهِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَهْلَ الْعَوَالِي بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ قَالُوا: فَصُمْنَا وَصَوَّمْنَا الصِّبْيَانَ وَاتَّخَذْنَا لَهُمُ اللُّعَبَ مِنَ الْعِهْنِ لِيَلْعَبُوا بِهَا وَيَشْتَغِلُوا عَنِ الْأَكْلَ بِلُعَبِهِمْ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنِ احْتَلَمَ مِنَ الْغِلْمَانِ أَوْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بَعْدَ أيامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَهُمَا يَسْتَقْبِلَانِ الصَوْمَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا فِيمَا مَضَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْكَافِرُ، إِذَا أَسْلَمَ فِي أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ مَا بَقِيَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 189) وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا الْحَسَنَ وَعَطَاءً، فَإِنَّهُمَا قَالَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِيمَا مَضَى، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) {الأنفال: 38) وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ ".
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ صِيَامَ مَا بَقِيَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَإِنْ أَسْلَمَ لَيْلًا اسْتَأْنَفَ الصِّيَامَ مِنَ الْغَدِ، وَإِنْ أَسْلَمَ نَهَارًا فَهَلْ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِهِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ أَمْ لا؟ على جهين:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ في حرملة والبويطي ليس عليه قضاء، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى صِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ إِسْلَامِهِ فِي بَعْضِهِ فَصَارَ كَمَنْ أَسْلَمَ لَيْلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ مَكَانَهُ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ، يُوجِبُ عَلَيْهِ صِيَامَ مَا بَقِيَ، وَلَا يُمْكِنُهُ إِفْرَادُ ذَلِكَ بِالصَّوْمِ لَا بِقَضَاءِ يَوْمٍ كَامِلٍ كَمَا نَقُولُ هُوَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ هُوَ فِيهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ، وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، فَلَوْ كَانَ فِي الْأَمْدَادِ كَسْرٌ لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ مكانه يوماً كاملاً.(3/462)
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ فِي أيامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ صِيَامَ ما بقي، ولا يلزمه قضاء ما مضى فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ لَيْلًا، اسْتَأْنَفَ الصِّيَامَ مِنَ الْغَدِ، وَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ نَهَارًا فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ صَائِمًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا فَإِنْ كَانَ فِي يَوْمِهِ مُفْطِرًا فَفِي وُجُوبِ قَضَائِهِ وَجْهَانِ كَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ.
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَالثَّانِي: لَا قضاء عليه وإن كان صايماً فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُتَمِّمُ صَوْمَهُ وَاجِبًا، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِالصِّيَامِ فِي أَوَّلِهِ مُفْتَرِضًا فِي آخِرِهِ، كَالصَّائِمِ الْمُتَطَوِّعِ إِذَا نَذَرَ إِتْمَامَ صَوْمِهِ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ، فَإِذَا قَدِمَ زِيدٌ لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي ابْتِدَائِهِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِتْمَامُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ نِيَّتَهُ مِنَ اللَّيْلِ كَانَتْ لِلنَّفْلِ لَا لِلْفَرْضِ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَتَّبَهَا عَلَى غَيْرِ هَذَا فَقَالَ: إِذَا قِيلَ إِذَا كَانَ مُفْطِرًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ فَهَذَا أَوْلَى أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِذَا قِيلَ: لَوْ كَانَ مُفْطِرًا لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فَفِي هَذَا وَجْهَانِ:
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمَجْنُونُ إِذَا أَفَاقَ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفِيقَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانِ رَمَضَانَ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ لَا يَلْزَمُهُ القضاء.
وقال أبو العباس بن سريح عَلَيْهِ قَضَاءُ جَمِيعِ الشَّهْرِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ لَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَيُفَارِقَ الْإِغْمَاءَ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ مَرَضٌ يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَالْجُنُونُ نَقْصٌ يَزُولُ مَعَهُ التَّكْلِيفُ، وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ مِثْلِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ، أَنْ يُفِيقَ فِي خِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أن يستأنف صيام ما بقي، ولا يلزمه قضاء ما مضى فإن أفاق ليلاً واستأنف الصِّيَامَ مِنَ الْغَدِ وَإِنْ أَفَاقَ نَهَارًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ يَوْمِهِ، أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فَأَمَّا قَضَاءُ مَا مَضَى فَلَا يَلْزَمُهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا أَفَاقَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْهُ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) {البقرة: 185) قَالَ: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ شَهِدَ جُزْءًا مِنْهُ فَلْيَصُمْهُ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَنْ شَهِدَ جَمِيعَهُ لَوَقَعَ الصِّيَامُ فِي شَوَّالٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْمَجْنُونُ , قَدْ شَهِدَ جُزْءًا مِنَ الشَّهْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ صِيَامُ جَمِيعِهِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَعْنَى لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ الْقَضَاءَ كَالْإِغْمَاءِ قَالَ فَإِنْ مَنَعْتُمْ مِنْ تَسْلِيمِ الْوَصْفِ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَعْنَى يُزِيلُ الْعَقْلَ فَوَجَبَ(3/463)
أَنْ لَا يُنَافِيَ الصَّوْمَ كَالْإِغْمَاءِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثٍ " ذَكَرَ فِيهَا الْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى لَوْ دَامَ جَمِيعَ الشَّهْرِ أَسْقَطَ الْقَضَاءَ فَوَجَبَ إِذَا اتصل بعض الشَّهْرِ أَنْ يُسْقِطَ الْقَضَاءَ أَصْلُهُ الصِّغَرُ وَعَكْسُهُ الْمَرَضُ، وَلِأَنَّهُ زَمَانٌ مَرَّ عَلَيْهِ فِي الْجُنُونِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ أَصْلُهُ إِذَا جُنَّ جَمِيعَ الشَّهْرِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا غير ما أدركه، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا مَنْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ مَا ذَكَرَ، فَإِنْ أَدْرَكَ جَمِيعَ الشَّهْرِ لَزِمَهُ صِيَامُ جَمِيعِهِ، وَإِنْ أَدْرَكَ بَعْضَهُ لَزِمَهُ صِيَامُ بَعْضِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مَعْنَى لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، فَلَا نُسَلِّمُ لَهُمْ وَيُنَازِعُوا فِي مَعْنَى الْأَصْلِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ لَهُمْ، أَنَّهُ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى إِيجَابِ الْقَضَاءِ كَالصِّغَرِ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَلَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِلصَائِمِ أَنْ يُنَزِّهَ صِيَامَهُ عَنِ اللَّغَطِ الْقَبِيحِ، وَالْمُشَاتَمَةِ وَإِنْ شُوتِمَ أَنْ يَقُولَ إِنِّي صائمٌ لِلْخَبَرِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْكَذِبُ وَالْغِيبَةُ وَالشَّتْمُ وَالنَّمِيمَةُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّ الصَّائِمَ بِالْمَنْعِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّ عِدَّةَ الشُهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً) {التوبة: 36) إِلَى قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ) {التوبة: 36) فَالظُّلْمُ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ فَهُوَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَقْبَحُ، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّائِمُ بِالْمَنْعِ أَوْلَى، لِأَنَّ الصِّيَامَ أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْقُرَبِ وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَمْتُ الصَّائِمِ تَسْبِيحٌ وَنَوْمُهُ عِبَادَةٌ وَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ وَعَمَلُهُ مُضَاعَفٌ وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدِ إِفْطَارِهِ وفرحةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رَائِحَةِ الْمِسْكِ " وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ به فليس لله حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ " وَرَوَى الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صَوْمِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ".
وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الصَّوْمُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنِ امرؤٌ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صَائِمٌ " وَفِيهِ ثَلَاثَةُ تأويلات:(3/464)
أَحَدُهَا: إِنَّهُ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي صَائِمٌ إِنِّي صائم شفاء لغيظه وسكوناً لنفسه، فَيَمْتَنِعُ عَنْ جَوَابِ خَصْمِهِ.
وَالثَّالِثُ: لِيَعْلَمَ خَصْمُهُ صِيَامَهُ، فَيَكُفَّ عَنْ شَتْمِهِ وَأَذَاهُ، فَلَوْ خَالَفَ هَذَا فَكَذَبَ أَوِ اغْتَابَ أَوْ نَمَّ أَوْ شَتَمَ كَانَ آثِمًا مُسِيئًا وَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ، وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَّا الْأَوْزَاعِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ: قَدْ أَفْطَرَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَمْسٌ يُفْطِرْنَ الْغِيبَةُ وَالنَمِيمَةُ وَالْكَذِبُ وَالنَظَرُ بِالشَّهْوَةِ واليمين الكاذبة " وهذا الخبر ورد علىطريق الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ، وَسُقُوطِ الثَّوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أنْ يَأْكُلْ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} (الحجرات: 12) وَالْإِنْسَانُ لَا يَأْكُلُ لحم أخيه ميتاً بالغيبة وإنما أثم كَإِثْمِهِ لَوْ أَكَلَ، وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ تَكَلَّمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ " تَشْدِيدٌ فِي سُقُوطِ الثَّوَابِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا، لِأَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ يَدْفَعُهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ الْمُبَاحُ مِنْهُ لَا يُفْطِرُ، فَإِنَّ الْمَحْظُورَ مِنْهُ لَا يُفْطِرُ، أَصْلُهُ الْقُبْلَةُ وَعَكْسُهُ الأكل والجماع.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَوْمَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْكَفَّارَةِ يَتَصَدَّقُ عَنْ كُلِّ يومٍ بِمُدٍّ من حنطة وروي عن ابن عباس في قوله جل وعز {وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال المرأة الهم والشيخ الكبير يفطران ويطعمان لكل يومٍ مسكيناً (قال الشافعي) وغيره من المفسرين يقرءونها " يطيقونه " وكذلك نقرؤها ونزعم أنها نزلت حيت نزل فرض الصوم ثم نسخ ذلك قال وآخر الآية يدل على هذا المعنى لأن الله عز وجل قال {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطوَّعَ خَيْراً} فزاد على مسكين {فَهُوَ خَيْراً لَهُ} ثم قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قال فلا يأمر بالصيام من لا يطيقه ثم بين فقال {فَمَن شَهِدَ مِنكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وإلى هذا نذهب وهو أشبه بظاهر القرآن (قال المزني) هذا بين في التنزيل مستغنىً فيه عن التأويل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الشَّيْخُ الْهَرِمُ وَالشَّيْخَةُ الْهَرِمَةُ إِذَا عَجَزَا عَنِ الصَّوْمِ لِعَارِضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ فهما كالمريض لهما أن يفطر أَوْ يَقْضِيَا إِذَا أَطَاقَا، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا فَأَمَّا إِذَا عَجَزَا عَنِ الصِّيَامِ لِضَعْفِ الْكِبَرِ، وما لا يرجى زواله، أو كانا يلحقا فِي الصَّوْمِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ، فَلَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَعَلَيْهِمَا أَنْ يُطْعِمَا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا إِنْ أَمْكَنَهُمَا وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ إِلَّا أَنَّ أبا حنيفة قَالَ: يُطْعِمَانِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الْبُرِّ مُدَّيْنِ، وَمِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ في الكفارة.(3/465)
وَقَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ: لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُمَا أَفْطَرَا لِأَجْلِ أَنْفُسِهِمَا بِعُذْرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُمَا الْفِدْيَةُ كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَوَجَبَ أَنْ تَنْقَلِبَ إِلَى الْمَالِ أَصْلُهُ الصَّلَاةُ قَالُوا وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الصَّوْمِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إِذَا مَاتَا قَبْلَ إِمْكَانِ الصَّوْمِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْفِدْيَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامٌ مَسَاكِينَ) {البقرة: 184) وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ خَيَّرَ النَّاسَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَنْ يَصُومُوا، وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرُوا، ثُمَّ يَفْتَدُوا ثُمَّ حَتَّمَ اللَّهُ الصِّيَامَ عَلَى مَنْ أَطَاقَهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يُطِقْ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وَعَلَى الَّذِينَ يطيقونه يَعْنِي يُكَلَّفُونَهُ، فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى صِيَامِهِ وَقِرَاءَةُ الصَّحَابِيِّ تَجْرِي مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا سَمَاعًا، وَتَوْقِيفًا، وَإِنَّمَا عَدَلَ الشَّافِعِيُّ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهَا تَشُذُّ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَتُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهم، أنهم قالوا: الهم عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ إِذَا أَفْطَرَ، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ إِلَى بَدَلٍ، وَهُوَ الطَّعَامُ أَصْلُهُ الصَّوْمُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ فِي جُبْرَانِهَا الْمَالُ فَجَازَ أَنْ يَقُومَ فِيهِ غَيْرُ عَمَلِهِ مَقَامَ عَمَلِهِ أَصْلُهُ الْحَجُّ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عُذْرٌ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ فَأَسْقَطَ الْكَفَّارَةَ، وَهَذَا عُذْرٌ أَسْقَطَ الْقَضَاءَ فَلِذَلِكَ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَبَاطِلٌ بِالصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعَجْزَ عَنِ الصَّوْمِ يُوجِبُ سُقُوطَ الْكَفَّارَةِ كَالْمَرِيضِ، إِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى الصِّيَامِ قُلْنَا: الْمَعْنَى فِيهِمَا سَوَاءٌ وَذَاكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَرِيضِ الْقَضَاءُ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ سَقَطَ عَنْهُ، فَهُمَا مِنْ مَعْنَى الْعَجْزِ سواء والواجب على الشيخ الهرم الفدية فإذا مات قبل الإمكان سقطت عنه فهما في معنى العجز سواء وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِيمَا لَزِمَهُمَا قَبْلَ الْعَجْزِ فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ أَحَالَ قِرَاءَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنَعَ أن يكون لها وجه تَعَقَّبَهَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأنْ تَصُومُواْ خَيْرٌ لَكُمْ) {البقرة: 184) وَالْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ يُؤْمَرُ بِتَرْكِهِ لَا بِفِعْلِهِ قُلْنَا: هَذَا عَائِدٌ إِلَى الْمُطِيقِ فَلَمْ يمتنع ما قاله ابن عباس.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَكْرَهُ فِي الصَّوْمِ السِّوَاكَ بِالْعُودِ الرَّطْبِ وَغَيْرِهِ وَأَكْرَهُهُ بِالْعَشِيِّ لِمَا أُحِبُّ مِنْ خُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ عَشِيًّا مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا، وَلَمْ يُحَدِّدْهُ الشَّافِعِيُّ(3/466)
بِالزَّوَالِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَشِيَّ فَحَدَّهُ أَصْحَابُنَا بِالزَّوَالِ، فَأَمَّا السِّوَاكُ غُدْوَةً إِلَى قَبْلِ الزَّوَالِ فَجَائِزٌ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وأبي حنيفة جَوَازُهُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا لَا أُحْصِي يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ خَيْرُ خِصَالِ الصَائِمِ السِّوَاكُ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الصَّائِمِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَاكَ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: نَعَمْ وَلِأَنَّ مَا يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ لِلصَّائِمِ قَبْلَ الزَّوَالِ يُسْتَحَبُّ لَهُ فِعْلُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى كَرَاهَتِهِ عَشِيًّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أَجْزِي عَلَيْهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَمَا هَذِهِ صِفَتُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا، وَمَا كَانَ مُسْتَحَبًّا فَإِزَالَتُهُ مَكْرُوهَةٌ، وَخُلُوفُ الصَّوْمِ يَكُونُ عَشِيًّا، فَأَمَّا غُدْوَةً فَعَنْ نَوْمٍ، وَرُوِيَ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا صَامَ أَحَدُكُمُ فَلْيَسْتَكْ بِالْغَدَاةِ وَلَا يَسْتَكْ بِالْعَشِيِّ فَمَا مِنْ صَائِمٍ تَيْبَسُ شَفَتَاهُ إِلَّا كَانَ ذَلِكَ نُورًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَعَلَّقَتْ بِالْفَمِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلصَّوْمِ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِهَا كَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَلِأَنَّهَا رَائِحَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنْ عِبَادَةٍ، فَجَازَ أَنْ يُكْرَهَ قَطْعُهَا أَصْلُهُ غَسْلُ دَمِ الشَّهِيدِ، فَأَمَّا خَبَرُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَعَائِشَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا، وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَغَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى أنه يحمل على الجواز وإخبارنا وعلى الْكَرَاهَةِ عَلَى أَنَّ خَبَرَنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحَظْرَ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّعْلِيلِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَضْمَضَةِ فَالْمَعْنَى فِيهَا إِنَّهَا لَا تُزِيلُ الْخُلُوفَ، وَلَا تُقْطَعُ بِهَا الرَّائِحَةُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا السِّوَاكُ بِالْعُودِ الرَّطْبِ فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ قَالُوا: لِأَنَّهُ يَحْلِبُ الْفَمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا كَالْعِلْكِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وَالْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِهِ بِالْعُودِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُحِبَّ لَهُ السِّوَاكُ بِالْعُودِ الْيَابِسِ اسْتُحِبَّ لَهُ السِّوَاكُ بِالْعُودِ الرَّطْبِ، كَغَيْرِ الصَّائِمِ، وَلِأَنَّ رُطُوبَةَ الْعُودِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ رُطُوبَةِ الْمَاءِ فِي الْمَضْمَضَةِ ثُمَّ لَمْ يُمْنَعِ الصَّائِمُ مِنْهَا، كَذَلِكَ مِنْ رُطُوبَةِ الْعُودِ فَأَمَّا الْعِلْكُ، فَإِنَّمَا كَرِهْنَاهُ لِأَنَّهُ يدعوا لقيء وَيُورِثُ الْعَطَشَ، وَيَحْلِبُ الْفَمَ وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْعُودِ الرَّطْبِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُكْرَهُ والله أعلم.(3/467)
بَابُ صِيَامِ التَّطَوُّعِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عمته عائشة بنت طلحة أنها قالت دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ خَبَّأْنَا لَكَ حَيْسًا فَقَالَ " أَمَا إِنِّي كنت أريد الصوم ولكن قربيه " قال وقد صام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في سفره حتى بلغ كراع الغميم ثم أفطر وركع عمر ركعة ثم انصرف فقيل له في ذلك فقال إنما هو تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص ومما يثبت عن علي رضي الله عنه مثل ذلك وعن ابن عباس رحمه الله تعالى وجابر أنهما كانا يريان بالإفطار في صوم التطوع بأساً وقال ابن عباس في رجلٍ صلى ركعةً ولم يصل معها له أجرٌ ما احتسب (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: فمن دخل في صومٍ أو صلاةٍ فأحب أن يستتم وإن خرج قبل التمام لم يعد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ فِي صِيَامِ التَّطَوُّعِ، أَوْ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ إِتْمَامُ ذَلِكَ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ جَازَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ مَعْذُورًا كَانَ، أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِعُذْرٍ جَازَ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ مَعْذُورًا، كَانَ أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ وَالْخِلَافُ مَعَهُ فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي وُجُوبِ إِتْمَامِهِ.
وَالثَّانِي: فِي وُجُوبِ قَضَائِهِ وَالْكَلَامُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَوْلُهُ " هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا " فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ " تَقْدِيرُهُ إِلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ فيلزمك(3/468)
التَطَوُّعُ " أَيْضًا وَلِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِيهِ المضي بالنذر وجب المضي فيه بالفعل كالحرج وَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ فَقْدِ الْإِتْمَامِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَفْطَرَتَا يَوْمًا تَطَوُّعًا فَقَالَتَا لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُهْدِيَ لَنَا طَعَامٌ فَاشْتَهَيْنَا فَأَفْطَرْنَا فَقَالَ: " لَا عَلَيْكُمَا اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ " قَالَ: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ انْعَقَدَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي افْتَتَحَهَا، فَوَجَبَ إِذَا أَفْسَدَهَا أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا كَالْحَجِّ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي افْتَتَحَهَا احْتِرَازًا مِمَّنْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، أَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةٍ فَائِتَةٍ ثُمَّ بَانَ لَهُ أَدَاؤُهَا فَلَهُ الْخُرُوجُ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِتْمَامِ، وَلِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي افْتَتَحَهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ إِتْمَامِهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ خَبَّأْنَا لَكَ حَيْسًا فَقَالَ أَمَا إِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ الصَوْمَ وَلَكِنْ قَرِّبِيهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُهُ: أُرِيدُ الصَوْمَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَائِمٌ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ إِرَادَةٍ يُحْدِثُهَا، قِيلَ قد أخر أَنَّهُ أَرَادَ الصَّوْمَ، فِيمَا مَضَى وَمَنْ أَرَادَ الصَّوْمَ فِيمَا مَضَى كَانَ صَائِمًا فِي الْحَالِ عَلَى أَنَّا رُوِّينَا عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: " كُنْتُ أصبحت صائماً ولكن قريبه " وروى شعبة عن جعدة عن أم هانئ وَهِيَ جَدَّتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ فَأَتَى بِإِنَاءٍ مِنْ لبن فشرب ثم ناولني، فقلت إن صائمة فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الْمُتَطَوِّعَ أَمِيرُ نَفْسِهِ فَإِنْ شِئْتِ فَصُومِي، وَإِنْ شِئْتِ فَأَفْطِرِي " وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طعامٍ وَهُوَ صَائِمٌ تَطَوُّعًا فَلْيُفْطِرْ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْرُجُ بِالْفَسَادِ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُلْزِمَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا كَالِاعْتِكَافِ، أَوْ كَمَنْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ فَرِيضَةٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ أم هانئ قَالَتْ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ جَاءَتِ الْوَلِيدَةُ بِإِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ فَنَاوَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَشَرِبَ مِنْهُ ثَمَّ نَاوَلَنِي فَشَرِبْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْطَرْتُ وَكُنْتُ صَائِمَةً وَكَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَكَ فقال: " إن كان فرضاً فاقض يَوْمًا مَكَانَهُ وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِي وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِي " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْرُجُ بِالْفَسَادِ مِنْهَا فَوَجَبَ إِذَا تَطَوَّعَ بِالدُّخُولِ فِيهَا ثُمَّ أَفْسَدَهَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَالطَّهَارَةِ، وَالِاعْتِكَافِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَمَعْنَاهُ إِلَّا أن تتطوع، فيكون ذلك أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحَجِّ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَجِّ بِالْفَسَادِ، وَيَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِ بالفساد.(3/469)
وَالثَّانِي: إِنَّ فَرْضَ الْحَجِّ وَنَفْلَهُ يَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِفْسَادِ، وَيُخَالِفُ غَيْرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَضَعِيفٌ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ لَهُ الزُّهْرِيُّ، وَقَدْ قَالَ لَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا عَلَى بَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُحَدِّثُ بِهِ لَا أَعْرِفُهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ إِنْ شِئْتُمَا " عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ يَوْمًا مَكَانَهُ أَيْ مِثْلَهُ وَمِثْلُهُ تَطَوُّعٌ لَا وَاجِبٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(3/470)
باب النهي عن الوصال في الصوم
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مالكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْوِصَالِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ " إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أطعم وأسقى " (قال الشافعي) وفرق الله بين رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبين الناس في أمور أباحها له حظرها عليهم وفي أمورٍ كتبها عليه خففها عنهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوِصَالُ فِي الصِّيَامِ فَهُوَ أَنْ يَصُومَ الرَّجُلُ يَوْمَهُ فَإِذَا دَخَلَ اللَّيْلُ امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ صَائِمًا فَيَصِيرُ وَاصِلًا بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ بِالْإِمْسَاكِ لَا بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ بِدُخُولِ اللَّيْلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَهَذَا هُوَ الْوِصَالُ الْمَكْرُوهُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاصَلَ فَوَاصَلَ النَّاسُ ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنِ الْوِصَالِ فَانْتَهَوْا ثُمَّ وَاصَلَ فَوَاصَلُوا فَقَالَ: " أَمَا إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْوِصَالِ " فَقَالُوا رَأَيْنَاكَ وَاصَلْتَ فَوَاصَلْنَا فَقَالَ " إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى " وَرَوَى أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ حَقِيقَةً.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ يَمُدُّهُ مِنَ الْقُوَّةِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْوِصَالُ مَكْرُوهٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْوِصَالَ يُورِثُ ضَعْفًا، وَيُقَاسِي فِيهِ مَشَقَّةً وَجُهْدًا فَرُبَّمَا أَعْجَزَهُ عَنْ أَدَاءِ مُفْتَرَضَاتِهِ، فَإِنْ وَاصَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَوْمُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّ النهي توجه إلى غير زمان الصوم فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي صِيَامِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَاصَلَ الصِّيَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَى سَمْنٍ وَلَبَنٍ وَصَبِرٍ وَتَأَوَّلَ فِي السَّمْنِ أَنَّهُ يُلَيِّنُ الْأَمْعَاءَ، وَفِي اللَّبَنِ أَنَّهُ أَلْطَفُ غِذَاءٍ، وَفِي الصَّبِرِ أَنَّهُ يُقَوِّي الْأَعْضَاءَ.(3/471)
باب صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بن شابورٍ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي قَزَعَةَ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ عَنْ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ السَّنَةِ وَالسَّنَةِ التِّي تليها وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة " قال فأحب صومها إلا أن يكون حاجاً فأحب له ترك صوم يوم عرفة لأنه حاج مضح مسافر ولترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صومه في الحج وليقوى بذلك على الدعاء وأفضل الدعاء يوم عرفة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
يُسْتَحَبُّ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ " وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ كَفَّارَةُ السَّنَةِ، وَالسَّنَةِ الَّتِي تَلِيهَا وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْصِمُهُ فِي هَاتَيْنِ السَّنَتَيْنِ فَلَا يَعْصِي فِيهِمَا، فَأَمَّا صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِسْحَاقَ، أَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ صِيَامُهُ كَسَائِرِ النَّاسِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ إِنْ كان صيفاً، والأولى لَهُمْ إِفْطَارُهُ وَإِنْ كَانَ شِتَاءً فَالْأَوْلَى لَهُمْ صِيَامُهُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ إِنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا يَوْمَ(3/472)
عَرَفَةَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَرَفَةَ قَالَ: فَأَرْسَلَتْ أُمُّ الْفَضْلِ عَلَى يَدَيِ الْعَبَّاسِ قَدَحًا فِيهِ لَبَنُ الْأَوْرَاكِ، فَشَرِبَهُ وَهُوَ واقفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بِالْمَوْقِفِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: حَجَجْتُ مَعَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يَصُمْهُ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَصُمْهُ وَمَعَ عُمَرَ فَلَمْ يَصُمْهُ وَمَعَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَصُمْهُ، وَأَنَا لَا أَصُومُهُ، وَلَا آمُرُ بِصِيَامِهِ، وَلَا أَنْهَى عَنْهُ وَلِأَنَّ فِي إِفْطَارِهِ تَقْوِيَةً عَلَى أَدَاءِ حَجِّهِ، وَعَلَى الدُّعَاءِ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَهُوَ الْعَاشِرُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، قَدْ صَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَأَنْفَذَ إِلَى أَهْلِ الْعَوَالِي يَأْمُرُ مَنْ أَكَلَ فِيهِ بِالْإِمْسَاكِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ بِالصِّيَامِ أَوْ كَانَ السَّبَبُ فِي صِيَامِهِ، مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ فَقَالَ: مَا هَذَا الْيَوْمُ؟ قَالُوا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي فَلَقَ اللَّهُ فِيهِ الْبَحْرَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ وَقَالَ صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صَوْمِهِ هَلْ كَانَ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أبو حنيفة وَطَائِفَةٌ: كَانَ صَوْمُهُ فَرْضًا، ثُمَّ نُسِخَ بِشَهْرِ رَمَضَانَ.
وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَشْبَهُ إِنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَزَلْ مَسْنُونًا لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ شَقِيقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ، وَإِنِّي صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرْ " فَأَمَّا يَوْمُ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَيُسْتَحَبُّ صَوْمُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَئِنْ عِشْتُ لَأَصُومَنَّ يَوْمَ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ فَمَاتَ قَبْلَهُ.(3/473)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا سَائِرُ شُهُورِ السَّنَةِ، وَأَيَّامُهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تَفْضِيلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، مَا أَنَا ذَاكِرُهُ فَمِنْ ذَلِكَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فَضْلِ صِيَامِهِ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ.
فَصْلٌ
: وَمِنْ ذَلِكَ شَهْرُ رَجَبٍ، رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الصَّوْمِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ: شَهْرُ اللَّهِ الْأَصَمُّ وَرُوِيَ الْأَصَبُّ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي رَجَبًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَصُبُّ فِيهِ الرَّحْمَةَ صَبًّا، وَسُمِّيَ أَصَمَّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ فِيهِ الْقِتَالَ، فَلَا يُسْمَعُ فِيهِ سَفْكُ دَمٍ، وَلَا حَرَكَةُ سِلَاحٍ ورَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " صِيَامُ أَوَّلِ يومٍ مِنْ رَجَبٍ كَفَّارَةُ ثَلَاثِ سِنِينَ وَصِيَامُ الْيَوْمِ الثَّانِي كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ وَصِيَامُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَفَّارَةُ سَنَةٍ ثُمَّ كُلُّ يَوْمٍ كَفَّارَةُ شهرٍ ".
فَصْلٌ
: وَمِنْ ذَلِكَ شَعْبَانُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَذْهَبَ كَثِيرٌ من وحر صَدْرِهِ فَلْيَصُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةَ أيامٍ مِنْ كل شهرٍ " يعني بشهر الصبر شعبان، وقيل رمضان وقيل وحر صَدْرِهِ يَعْنِي: غِشَّ صَدْرِهِ وَبَلَابِلِهِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ إِنَّهُ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَى نَقُولَ إِنَّهُ لَا يَصُومُ وَمَا رَأَيْتُهُ صَامَ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ فَهَذِهِ الشُّهُورُ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا تَفْضِيلُ الصِّيَامِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْأَيَّامُ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا السُّنَّةُ بِصِيَامِهَا، فَمِنْهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَضْلَ الصِّيَامِ فِيهَا، وَمِنْهَا صِيَامُ الْأَيَّامِ الْبِيضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَدْ رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصُومُ ثَلَاثَةَ أيامٍ مِنَ الشَهْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ كُنْتَ صَائِمًا فَصُمِ الْغُرَّ.(3/474)
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْغُرُّ الْبَيْضُ بِطُلُوعِ الْقَمَرِ فِي جَمِيعِهَا.
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ عَنْ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " صُومُوا الشَّهْرَ وَسِرَّهُ " وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ عَنَى بِالشَّهْرِ رَمَضَانَ وَسِرِّهِ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ الَّتِي تَلِيهِ مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّهْرِ مُسْتَهَلَّ الشَّهْرِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْهِلَالَ شهراً قال الشاعر:
(أخوان مِنْ نجدٍ عَلَانِيَةً ... وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلَامَةِ الظُّفْرِ)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ بِصِيَامِ الشَهْرِ مِنْ كُلِّ شهرٍ، وفيه ثلاثة تأويلات:
أحدهما: أنها أيام الْبِيضُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهَا الْأَيَّامُ الْأُوَلُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ أَكْثَرُهُ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ، هَلْ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ؟ عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ بِشَهْرِ رَمَضَانَ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، إِنَّهَا سُنَّةٌ لَمْ تَزَلْ، وَاخْتَلَفُوا فِي زَمَانِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّانِيَ عَشَرَ، وَمَا يَلِيهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الثَّالِثَ عَشَرَ وَمَا يَلِيهِ.
فَصْلٌ
: وَمِنْهَا صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَكَرِهَ صِيَامَهَا مَالِكٌ وأبو حنيفة لِأَنَّ فِي صِيَامِهَا ذَرِيعَةً إِلَى زِيَادَةِ الصَّوْمِ فَشَابَهَتْ يَوْمَ الشَّكِّ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ صِيَامَهَا سُنَّةٌ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَأَتْبَعَهُ بستةٍ مِنْ شوالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَهْرَ كُلَّهُ " يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا فَتَحْصُلُ لَهُ بِشَهْرِ رَمَضَانَ وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِثَلَاثِمِائَةِ حَسَنَةٍ وَبِسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ سِتُّونَ حَسَنَةً، وَذَلِكَ عَدَدُ أيام السنة.(3/475)
فَصْلٌ
: وَمِنْهَا صِيَامُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقَدْ روى أبو هريرة (و) أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَدَعُ صِيَامَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَقَالَ هُمَا يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ لِي فِيهِمَا عَمَلٌ صَالِحٌ " فَيُخْتَارُ صِيَامُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّهْرِ، وَالْأَيَّامِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالسَّلَفِ مِنْ بَعْدِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي ذك أضعاف جده، وَتَرْكُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْ عِبَادَاتِهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِذَلِكَ بِرَحْمَتِهِ.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عمرو بن العاصي عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: صُمْ يَوْمًا وَلَكَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ قَالَ: زِدْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّ فِيَّ قُوَّةً قَالَ: صُمْ يَوْمَيْنِ وَلَكَ تِسْعَةُ أيامٍ قَالَ: زِدْنِي يَا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَكَ ثَمَانِيَةٌ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَضُمُّ الثَّمَانِيَةَ إِلَى التِّسْعَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ فَتَكُونُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَتَبْقَى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ فَيَصِيرُ لَهُ بِالْحَسَنَةِ عَشْرًا.(3/476)
باب النهي عن صيام يومي الفطر والأضحى وأيام التشرق
قال الشافعي رضي الله عنه: " وأنهى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى وَأَيَّامِ التشريق لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنها. ولو صامها متمتع لا يجد هدياً عنه عندنا (قال المزني) قد كان قال يجزيه ثم رجع عنه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن صيام سبعة أيام العيدان وَأَيَّامِ مِنًى وَيَوْمِ الشَكِّ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ.
فَأَمَّا الْعِيدَانِ فَنَهَى عَنْ صَوْمِهِمَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَأَمَّا أَيَّامُ مِنًى، فَقَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى جَوَازِ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ، وَمَنَعَ مِنْ صِيَامِهَا لِلْمُتَمَتِّعِ وَغَيْرِهِ، وَحَرَّمَهَا كَالْعِيدَيْنِ فَلَا يَجُوزُ صَوْمُهَا تَطَوُّعًا وَلَا نَذْرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَ أبي حنيفة فِي جَوَازِ صِيَامِهَا نَذْرًا، وَأَمَّا يَوْمُ الشَّكِّ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى نَهْيِ الصَّوْمِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ لَا لِلتَّحْرِيمِ، فَأَمَّا يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَقَدْ رَوَى نَهْيَ صَوْمِهِ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرًا فِي الطَّوَافِ فَقُلْتُ لَهُ: أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَرَبِّ هَذِهِ الْكَعْبَةِ وَأَمَّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنَا نَهَيْتُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَلَكَنْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْهُ.
فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذَا النَّهْيِ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ كَالْفِطَرِ وَالْأَضْحَى. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ فِيمَنْ أَفْرَدَ صَوْمَهُ دون ومن وَصَلَهُ بِغَيْرِهِ، لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ صَائِمَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ(3/477)
فَقَالَ لَهَا: أَصُمْتِ يَوْمًا قَبْلَهُ؟ فَقَالَتْ: لَا فَقَالَ لَهَا: أَتَصُومِينَ يَوْمًا بَعْدَهُ؟ فَقَالَتْ: لَا فَقَالَ فَأَفْطِرِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَى نَهْيِ الصَّوْمِ فِيهِ أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالدُّعَاءِ فِيهَا فَكَانَ مَنْ أَضْعَفَهُ؟ الصَّوْمُ عَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ كَانَ صَوْمُهُ مَكْرُوهًا، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ عَنْ حُضُورِهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَصُومَهُ، قَدْ دَاوَمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على صوم شبعان، ومعلوم أنه فِيهِ جُمُعَاتٍ كَانَ يَصُومُهَا كَذَلِكَ رَمَضَانُ فَعُلِمَ أَنَّ مَعْنَى نَهْيِ الصَّوْمِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا، والله أعلم.(3/478)
بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ وَطَلَبِ الْقِرَاءَةِ
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سعدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ أَجْوَدَ النَاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ ما يكون في شهر رمضان وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيعرض عليه القرآن فإذا لقيه كان أجود بالخير من الريح المرسلة (قال الشافعي) وأحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء به ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
يُخْتَارُ لِلنَّاسِ أَنْ يُكْثِرُوا مِنَ الْجُودِ وَالْإِفْضَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَبِالسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِأَنَّهُ شَهْرٌ شَرِيفٌ قَدِ اشْتَغَلَ النَّاسُ فِيهِ بِصَوْمِهِمْ عَنْ طَلَبِ مَكَاسِبِهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَسِّعَ فِيهِ عَلَى عِيَالِهِ وَيُحْسِنَ إِلَى ذَوِي أَرْحَامِهِ وَجِيرَانِهِ، لَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْهُ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَمْكَنَهُ إِفْطَارُ صَائِمٍ أَنْ يُفْطِرَهُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا.
وَرَوَتْ أُمُّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنْ صَائِمٍ أَكَلَ(3/479)
عِنْدَهُ مُفْطِرُونَ إِلَّا صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ الْقَوْمُ يَأْكُلُونَ " وَيُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَقُولَ إِذَا أَفْطَرَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيَسْأَلُ اللَّهَ التَوْفِيقَ لِمَا قَرَّبَ إِلَيْهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.(3/480)
كتاب الاعتكاف
أَمَّا الِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْمُقَامُ وَاللُّبْثُ عَلَى الشَّيْءِ بَرًّا كَانَ أَوْ آثِمًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فأَتَوْا علَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أصْنَامٍ لَهُمْ) {الأعراف: 138) أَيْ: يُقِيمُونَ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
(تَظَلُّ الطَّيْرُ عَاكِفَةً عَلَيْهِمْ ... وَتَنْتَزِعُ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا)
وَقَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
(فَهُنَّ عكوفٌ كَنَوْحِ الْحَمَامِ ... قَدْ شَفَى أَكْبَادَهُنَّ الْهَوَى)
ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ فَقَرَّرَ الِاعْتِكَافَ لُبْثًا عَلَى صِفَةٍ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) وقَوْله تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) {البقرة: 125) وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَطْهِيرُهُ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَالثَّانِي: مِنَ الْأَصْنَامِ.
وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَعْتَكِفُ عَشْرًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَقُرْبَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلَازِمَةٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ(3/481)
الْأَوَاخِرَ " فَعَلَّقَهُ بِالْإِرَادَةِ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَاتِ قَدْ قَرَّرَ لَهَا الشَّرْعُ أَسْبَابًا رَاتِبَةً كَالصَّلَاةِ، أَوْ عَارِضَةً كَالزَّكَاةِ، وَلَيْسَ لِلِاعْتِكَافِ سَبَبٌ رَاتِبٌ، وَلَا عَارِضٌ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بن إبراهيم بن الحرث التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فلما كانت ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر " قال " وأريت هذه الليلة ثم أنسيتها " قال " ورأيتني أسجد في صبيحتا في ماءٍ وطينٍ فالتمسوها فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وترٍ " فمطرت السماء من تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد قال أبو سعيد فأبصرت عيناي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انصرف علينا وعلى جبهته وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي صَبِيحَةِ إِحْدَى وعشرين (قال الشافعي) وحديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدل على أنها في العشر الأواخر والذي يشبه أن يكون فيه ليلة إحدى أو ثلاث وعشرين ولا أحب ترك طلبها فيها كلها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ لِشَرَفِهَا، وَأَنَّهَا تُوَافِقُ عَشْرَ الِاعْتِكَافِ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَدِّرُ فِيهَا أُمُورَ السَّنَةِ أَيْ يَقْضِيهَا:
وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا عَظِيمَةُ الْقَدْرِ جَلِيلَةُ الْخَطَرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ لَهُ قَدْرٌ، وَالْأَصْلُ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ) {القدر: 1) يَعْنِي الْقُرْآنَ جُمْلَةً أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَكَانَ يَنْزِلُ نَجْمًا بَعْدَ نَجْمٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) {الواقعة: 75) وَفِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر: 3) ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ عُمُرِ أَلْفِ شَهْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ الرَّبِيعِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّالِثُ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَمَلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، ثُمَّ قَالَ: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) {القدر: 4) وَفِي الرُّوحِ تَأْوِيلَانِ:(3/482)
أَحَدُهُمَا: جِبْرِيلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحً الأَمينُ) {الشعراء: 193) .
وَالثَّانِي: الْعِلْمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) {النحل: 2) فَهَذِهِ السُّورَةُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى شَرَفِهَا، وَفَضْلِ الْعَمَلِ فِيهَا وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنبه ".
فَصْلٌ
: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رُفِعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ أَمْ هِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: هِيَ بَاقِيَةٌ قُلْتُ: هِيَ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: فِي رَمَضَانَ قَالَ قُلْتُ هِيَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ أَوِ الْأَوْسَطِ أَوِ الْأَخِيرِ قَالَ هِيَ فِي الْأَوَاخِرِ وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وترٍ وَرُوِيَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ قُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يَرَاهَا فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَى عَمَلِ رَمَضَانَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهَا مِنَ الْعَشْرِ فَحُكِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، أَمَّا أُبَيُّ فَكَانَ يُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَقِيلَ لَهُ: وَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الشَّمْسَ تُصْبِحُ لَا شُعَاعَ لَهَا، وَقَدْ رَاعَيْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ فِي صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنِ اعْتَبَرَ كَلِمَاتِ السُّورَةِ فَوَجَدَهَا ثَلَاثِينَ كَلِمَةً بِعَدَدِ لَيَالِي الشَّهْرِ، ثُمَّ وَجَدَ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ {سَلاَمٌ هِيَ) {القدر: 5) عَلَى رَأْسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ كَلِمَةً فَعَلِمَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي مِثْلِهَا مِنَ الشَّهْرِ، وَحُكِيَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا فِي أَوْسَطِ الْعَشْرِ وَهِيَ لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي أَوْسَطِ الْعَشْرِ فَالْتَمِسُوهَا فِيهِ وَحُكِيَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ رَآهَا عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي لَيْلَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَلِرِوَايَةِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرِاهِيمَ فِي أَوَّلِ ليلةٍ مِنْ شَهْرِ(3/483)
رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ فِي اثْنَيْ عَشْرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى عيسى في ثماني عشرة من شهرٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَلَيْهِمْ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قالوا: وإنما نزل فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَدَلَّ أَنَّهَا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ الَّذِي يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ فِي إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال رأيت هذه الليلة وخرجت لأعلمكم فتلاحا رَجُلَانِ فَأُنْسِيتُهَا وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي ماءٍ وطينٍ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَرَأَيْتُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى وَجْهِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ فِي صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرْشٍ، فَوَكَفَ فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا أَصَحُّ، وَأَوْضَحُ وَإِنَّمَا قَالَ: أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لِجَوَازِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الثَّلَاثِ، وَذَلِكَ مَأْمُونٌ فِيمَا زَادَ وَلَمْ يَقْطَعِ الشَّافِعِيُّ بِذَلِكَ، بَلْ جَوَّزَهَا فِي جَمِيعِ لَيَالِي الْعَشْرِ وَبِخَاصَّةٍ فِي كُلِّ وِتْرٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ.
قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ زَمَانُهَا مَعْرُوفًا لِيَقَعَ الْجِدُّ فِي طَلَبِهَا، وَتَرْكُ الِاتِّكَالِ عَلَيْهَا ثِقَةً بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُجِيبُ الدُّعَاءَ فِيهَا فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى جد وحذر ولعمري إن لهذا القول وجه، فَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فِي ليلة القدر، طلعت فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنْ يَكْتُمَهَا، ويدعو بإخلاص نية وصحة يقين بما أوجب مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا، وَيَكُونُ أَكْثَرُ دُعَائِهِ لِدِينِهِ، وَآخِرَتِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ رَأَيْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بِمَاذَا أَدْعُو؟ فَقَالَ: تَسْأَلِي اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ(3/484)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ وَكَانَ لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان وقالت عائشة فغسلته وأنا حائض (قال الشافعي) فلا بأس أن يدخل المعتكف رأسه في البيت ليغسل ويرجل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الِاعْتِكَافُ فَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ سَابِلٍ مِنْ جَامِعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَحُكِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَمَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَحُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَحَمَّادٍ وَالْحَكَمِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) فَعَمَّ بِالذِّكْرِ جَمِيعَ الْمَسَاجِدِ وَلَا يَخْلُو ذِكْرُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الْمَنْعِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ.
أَوْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِلْمَنْعِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ وَلِأَنَّ كُلَّ موضع يبنى لجماعات الصلاة، فالاعتكاف فيه جايز كَالْجَوَامِعِ.
فَصْلٌ
: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، فِي أَنَّ اعْتِكَافَهُمَا لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ. قَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ اعْتِكَافُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لَهَا فِي الْمَسْجِدِ تَعَلُّقًا، بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ " فَلَمَّا كُرِهَ لَهَا أَنْ تَصَلِّيَ الْفَرْضَ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ الِاعْتِكَافُ بِذَلِكَ أَوْلَى، قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ سُنَّ لِصَلَاتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُسَنَّ لِاعْتِكَافِهَا كَالرَّجُلِ لَمَّا كَانَ الْمَسْجِدُ مَوْضِعًا سُنَّ فِيهِ أَدَاءُ صِلَاتِهِ، كَانَ مَوْضِعَ اعْتِكَافِهِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ، لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ إِيقَاعُهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمَرْأَةِ إِيقَاعُهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَالطَّوَافِ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الِاعْتِكَافُ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ كَالطَّرِيقِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، وَجَمْعِهِمْ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي طَرِيقٍ وَغَيْرِهِ وَالِاعْتِكَافُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ، فَفِيهِ دَلَائِلُ مِنْهَا:
الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِكَافِ.(3/485)
وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَسَاجِدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُخْتَارُ فِي رَمَضَانَ، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ يُنَافِيهِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ عَمَلُهُ فِي الْمَسْجِدِ يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِأَجْلِهِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الرَّأْسِ في الاعتكاف جايز، ودل على أن ترجيل الشعر جايز، وَدَلَّ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُخْرِجَ الْمُعْتَكِفُ بَعْضَ بَدَنِهِ، وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَأَخْرَجَ بَعْضَ بَدَنِهِ لَا يَحْنَثُ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَ الْمَرْأَةِ لَيْسَتْ عَوْرَةً، ودل على أن من مَسَّ الشَّعْرِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَدَلَّ عَلَى أن بدن الحايض ليس بنجس.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " والاعتكاف سنة حسنةٌ وَيَجُوزُ بِغَيْرِ صومٍ وَفِي يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النحر وأيام التشريق (قال المزني) لو كان الاعتكاف يوجب الصوم وإنما هو تطوع لم يحز صوم شهر رمضان بغير تطوع وفي اعتكافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في رمضان دليل على أنه لم يصم للاعتكاف فتفهموا رحمكم الله ودليل آخر لو كان الاعتكاف لا يجوز إلا مقارناً للصوم لخرج منه الصائم بالليل لخروجه فيه من الصوم فلما لم يخرج منه من الاعتكاف بالليل وخرج فيه من الصوم ثبت منفرداً بغير الصوم وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عمر أن يعتكف ليلة كانت نذراً في الجاهلية ولا صيام فيها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النِّيَّةُ فِي الِاعْتِكَافِ، فَوَاجِبَةٌ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ يَكُونُ اللُّبْثُ تَارَةً عَادَةً، وتارة عبادة فافتقر إلى نية يصح بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ لُبْثِ الْعَادَةِ مِنْ لُبْثِ الْعِبَادَةِ، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَغَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ بَلْ إِنِ اعْتَكَفَ مُفْطِرًا جَازَ وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَكَفَ فِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوِ اعْتَكَفَ لَيْلًا جَازَ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَلَا فِي الْأَيَّامِ الَّتِي لَا يَجُوزُ صِيَامُهَا تَعَلُّقًا بِمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بصومٍ " وَبِمَا رُوِيَ عن عبد الله ابن عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ اعْتِكَافَ يومٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَكِفْ وَصُمْ، وَأَمَرَهُ بِالصَّوْمِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ قُرْبَةً حَتَّى يُضَمَّ إِلَيْهِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، هَذَا مَعَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا اعْتَكَفَ إِلَّا وَهُوَ صَائِمٌ، فَدَلَّ هَذَا مِنْ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إلا بصوم،(3/486)
قَالُوا: وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، وَالنَّذْرُ لَا يَلْزَمُ إِلَّا فِيمَا اسْتَقَرَّ لَهُ أَصْلٌ فِي الشرع وليس للاعكتاف أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، إِلَّا أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ الصَّوْمُ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ فِيهِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) فَكَانَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ فِي كُلِّ مُعْتَكِفٍ، وَرَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صومٌ إِلَّا أَنْ يُوجِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ " وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْفِ بِنَذْرِكَ وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فَأَمَرَ أَنْ يُضَرَبَ لَهُ بناءٌ فَخَرَجَ فَرَأَى أَرْبَعَةَ أبنيةٍ فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ الْأَبْنِيَةُ؟ فَقِيلَ: هَذَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهَذَا لِعَائِشَةَ وَهَذَا لِحَفْصَةَ وَهَذَا لِزَيْنَبَ فَنَقَضَ اعْتِكَافَهُ وَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَوَّالٍ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ اعْتِكَافِ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ صَوْمٍ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا الْمَسْجِدُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَفْتَقِرَ إِلَى الصَّوْمِ كَالطَّوَافِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ ابْتِدَائِهَا الصَّوْمُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ اسْتِدَامَتِهَا الصَّوْمُ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَعَكْسُهُ الْمَسْجِدُ، لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِي ابْتِدَائِهَا، كَانَ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَتِهَا وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ عِبَادَةً عَلَى الْبَدَنِ مَقْصُودَةً فِي نَفْسِهَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي عِبَادَةٍ أُخْرَى كَالصَّلَاةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَعَ حَفْصَةَ فَمَعْنَاهُ لَا اعْتِكَافَ كَامِلًا إِلَّا بِصَوْمٍ أَوْ لِمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا بِصَوْمٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا رَوَيْنَاهُ أَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ بِتِلْكَ الرِّوَايَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَحَمَلْنَاهَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَحَمَلْنَا رِوَايَتَنَا عَلَى الْجَوَازِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْبَةَ الَّتِي تَنْضَمُّ إِلَيْهِ هِيَ النِّيَّةُ ثُمَّ يُقْلَبُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ، فَنَقُولُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ الصَّوْمِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَأَمَّا اعْتِكَافُهُ فِي مَسْجِدِهِ صَائِمًا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ شَرْطِهِ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَهُ، وَمَسْجِدَهُ مِنْ شَرْطِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ النَّذْرَ يَلْزَمُ فِيمَا اسْتَقَرَّ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَبَاطِلٌ بِمَنْ نَذَرَ الصَّوْمَ بِدَارِهِ قَدْ لَزِمَهُ نَذْرُهُ وَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ، وَيَبْطُلُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْعُمْرَةِ تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، وَلَيْسَ لَهَا عِنْدَهُمْ اصل واجب في الشرع.(3/487)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَإِذَا أَهَلَّ شَوَّالٌ فَقَدْ أَتَمَّ الْعَشْرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِنَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَرَجَ منه قبل غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ لِيَكُونَ مُسْتَوْفِيًا لِلْعَشْرِ بِكَمَالِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ، كَمَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الصِّيَامِ إِلَّا بِمُجَاوَزَةِ الْإِمْسَاكِ إِلَى جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَغَسْلُ الْوَجْهِ فِي الطَّهَارَةِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا إِلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ إِلَى غَيْرِهِمَا، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ، فَقَدْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ سَوَاءً كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، لِأَنَّ اسْمَ الْعَشْرِ يَتَنَاوَلُهُ وَلَكِنْ لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ أَيَّامًا كَامِلَةً، فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تَامًّا أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَزِمَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ آخَرَ مِنْ شَوَّالٍ لِأَنَّ الْعَشْرَةَ الْأَيَّامَ تُوجِبُ اسْتِيفَاءَ الْعَدَدِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَاعْتَكَفَ شَهْرًا بَيْنَ الهلالين فإذا كَانَ تَامًّا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَزِمَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ آخَرَ لِيَسْتَوْفِيَ الْعَدَدَ، فَأَمَّا اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا، فَإِذَا اعْتَكَفَ شَهْرًا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ، أَجْزَأَهُ تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا، وَحُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ فِي مُعْتَكَفِهِ وَهَذَا غَلَطٌ وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَلْيَبِتْ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ تَتْبَعُ الْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَهَا أَلَا تَرَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ يَدْخُلُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ فِيهِ عَلَى اخْتِيَارِهِ وَلَمْ يَقْصِدِ اسْتِيفَاءَ الْعَشْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْعَشْرِ إِجْمَاعًا.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الِاعْتِكَافِ الَّذِي أَوْجَبَهُ بِأَنْ يَقُولَ إِنْ عَرَضَ لِي عَارِضٌ خَرَجْتُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.(3/488)
وَجُمْلَةُ الِاعْتِكَافِ ضَرْبَانِ وَاجِبٌ وَتَطَوُّعٌ.
فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَرْطِ الْخِيَارِ إِلَيْهِ فِي المقام على اعتكافه والخروج مِنْهُ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَهُوَ النَّذْرُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
مُطْلَقٌ بِغَيْرِ شَرْطٍ.
وَمُقَيَّدٌ بِشَرْطٍ، فَأَمَّا الْمُطْلَقُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فِيهِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ بِشَرْطٍ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِطَ الْخُرُوجَ مِنْهُ فَإِنِ اشْتَرَطَ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَأَقْطَعُ فَهَذَا نذر صحيح، وشرط جائز، فإذا أعرض لَهُ مَا شَرَطَ وَخَرَجَ لِأَجْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ إِلَى اعْتِكَافِهِ، وَتَكُونُ الْمُدَّةُ الَّتِي اعْتَكَفَهَا هِيَ الْقَدْرُ الَّذِي نَذَرَهُ، لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ وَيَصِحُّ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، فَإِذَا شَرَطَ فِي نَذْرِهِ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ بِحُدُوثِ عَارِضٍ، فكان نذره إنما انعقد على هذه مُعَلَّقَةٍ وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَشْرِ خَارِجًا عَنِ النَّذْرِ، وَإِنِ اشْتَرَطَ الْخُرُوجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ، فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لِي كَذَا وَكَذَا، فَأَخْرُجَ فَهَذَا كَالْأَوَّلِ فِي صِحَّةِ نَذْرِهِ وَجَوَازِ اشْتِرَاطِهِ عَلَى مَا نُفَصِّلُهُ وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ الْقَطْعَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ، وَإِذَا شَرَطَ الْخُرُوجَ لزمه العود إليه لأنه قَطْعَ الِاعْتِكَافِ يُوجِبُ رَفْعَهُ، وَالْخُرُوجَ مِنْهُ لَا يُوجِبُ رَفْعَهُ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي جَوَازَ خُرُوجِهِ مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ مِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ قِيلَ: هُمَا شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَطْعُ الِاعْتِكَافِ.
وَالثَّانِي: الْخُرُوجُ مِنْهُ، فَأَمَّا شَرْطُ الْقَطْعِ فَيَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَفِي جَوَازِ مِثْلِهِ فِي الْحَجِّ، قَوْلَانِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ حَجُّ الْبَيْتِ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ لِي كَذَا فَأَقْطَعُ فَإِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي شَرَطَهُ جَازَ لَهُ قَطْعُ صَوْمِهِ، وَصَلَاتِهِ وَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُ حَجِّهِ وَالْإِحْلَالُ مِنْهُ قَبْلَ كَمَالِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَيْضًا.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ هُوَ أَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ الْمُضِيُّ فِيهِ بِالْفِعْلِ، فَإِذَا سَقَطَ مُوجِبُ النَّذْرِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ عَادَ إِلَى مُوجِبِ الْفِعْلِ، فَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَمَا يُسَنُّ فِي(3/489)
الْحَجِّ وَالْعِبَادَاتِ كُلِّهَا، إِذَا سَقَطَ مُوجِبُ النَّذْرِ فِيهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ، وَعَادَتْ إِلَى مُوجِبِ الْفِعْلِ لم يلزمه المضي فيها، فوضع الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا شَرْطُ الْخُرُوجِ، فَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَيَجُوزُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْخُرُوجَ لَا يُنَافِي الِاعْتِكَافَ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، وَيَعُودُ إِلَى اعْتِكَافِهِ، وَيُنَافِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ وَالْعَوْدُ إِلَيْهِ لِحَاجَةٍ، وَلَا لِغَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَتَقَدَّرُ بِزَمَانٍ وَلَا يَرْتَبِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَالصَّلَاةُ قَدِ ارْتَبَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَتَقَدَّرَتْ بِعَمَلٍ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ مُقَدَّرٌ بِزَمَانٍ لَا يَصِحُّ إِيقَاعُهُ فِي بَعْضِهِ، فَلِذَلِكَ مَا افْتَرَقَ حُكْمُ الشَّرْطِ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ اشْتِرَاطِ الْخُرُوجِ مِنَ الِاعْتِكَافِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَا اشْتَرَطَهُ وَخَرَجَ لَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا، أَوْ مُبَاحًا فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا كَاسْتِقْبَالِ قَادِمٍ، أَوِ اقْتِضَاءِ غَرِيمٍ، وَلِقَاءِ سُلْطَانٍ أَوْ كَانَ مُسْتَحَبًّا كَعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَتَشْيِيعِ جِنَازَةٍ، أَوْ كَانَ وَاجِبًا كَحُضُورِ الْجُمُعَةِ جَازَ، وَلَزِمَهُ الْعَوْدُ إِلَى اعْتِكَافِهِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ مُدَّةُ خُرُوجِهِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ نَذْرِهِ بِالشَّرْطِ كَمَا أَنَّ أَوْقَاتَ الْحَاجَةِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُنَافِي الِاعْتِكَافَ كَالْوَطْءِ فَإِنْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ، وَوَطِئَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ يَمْنَعُ مِنَ الْبِنَاءِ، وَيَنْقُضُ حُكْمَ ما مضى فصار بمثابة الوطئ فِي صَوْمِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُنَافِي الِاعْتِكَافَ وَلَكِنَّهُ يَنْقُضُهُ كَالسَّرِقَةِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ فَفِي بُطْلَانِ اعْتِكَافِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَعْصِيَةِ كَلَا اشْتِرَاطٍ فَصَارَ بِمَثَابَةِ مَنْ خَرَجَ بِغَيْرِ شَرْطٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَبْطُلُ وَلَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ نَذْرَهُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى مَا سِوَى مُدَّةِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يكن نذر المدة مقصودة بالعمل والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه قال: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتَكِفَ وَلَا يَنْوِيَ أَيَّامًا مَتَى شَاءَ خَرَجَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاعْتِكَافَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِزَمَانٍ بَلْ يَصِحُّ فِعْلُهُ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، فَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافًا وَلَمْ يَذْكُرْ قَدْرَهُ، فَإِذَا اعْتَكَفَ وَلَوْ سَاعَةً أَجْزَأَهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ النَّذْرِ يَقْتَضِي مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَجْزَأَهُ صَوْمُ يَوْمٍ وصلاة(3/490)
رَكْعَةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وكذلك الاعتكاف.
مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَاعْتِكَافُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَحَبُّ إِلَيَّ فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ، فَمِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ ".
قال المارودي: أَمَّا الْجَوَامِعُ فَالِاعْتِكَافُ فِيهَا أَوْلَى مِنَ الْمَسَاجِدِ لِكَثْرَةِ جَمَاعَتِهَا وَدَوَامِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صَلَاتُكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِكَ وَحْدَكَ وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ، فَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ كَانَ أَفْضَلَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اعْتَكَفَ فِي الْجَامِعِ اسْتَدَامَ لَهُ الِاعْتِكَافُ، وَاتَّصَلَ وَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِاعْتِكَافِهِ، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ جَامِعٍ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اعْتِكَافُهُ تَطَوُّعًا فَإِذَا حَضَرَتِ الْجُمُعَةُ لَزِمَهُ إِتْيَانُهَا فَإِذَا عَادَ إِلَى الِاعْتِكَافِ صَارَ كَالْمُسْتَأْنِفِ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اعْتِكَافُهُ نَذْرًا وَاجِبًا، فَإِنْ كَانَ قَدْرُهُ أَقَلَّ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ نَذْرِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْرُهُ أَكْثَرَ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ كَأَنَّهُ نَذَرَ اعْتِكَافَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَوْ شهر، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا خَرَجَ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَعَادَ إِلَى اعْتِكَافِهِ وَبَنَى، وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ الْخُرُوجَ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَإِذَا خَرَجَ عَادَ إِلَى اعْتِكَافِهِ، وَبَنَى وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْخُرُوجَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ فَإِذَا خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَبْطُلُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِضَرُورَةٍ، كَمَا لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ التَّتَابُعَ إِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي الْعِبَادَةِ كَانَ أَوْلَى فِيهَا عَلَى مَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ الْمُمْكِنَ فِيهَا مُبْطِلًا لَهَا، مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَدَخَلَ فِي صِيَامِهَا فِي شَعْبَانَ بَطَلَ صِيَامُهُ، لِأَنَّ دُخُولَ رَمَضَانَ يَمْنَعُ مِنْ تَتَابُعِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ، وَقَدْ يُمْكِنُهُ تَقْدِيمُهُ فِي أَوَّلِ رَجَبٍ فَيَكْمُلُ لَهُ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ كَذَلِكَ الْمُعْتَكِفُ، قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَامِعِ فَيَسْتَغْنِيَ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ اعْتِكَافِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْهُ بِالشَّرْطِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ فَخَرَجَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ.
فَصْلٌ
: إِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَهُوَ أَنْ ينذر الاعتكاف بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِعِبَادَةٍ وَاجِبَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ كُلُّ مَسْجِدٍ سِوَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ جَازَ.(3/491)
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الِاعْتِكَافُ فِيهِمَا، فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِمَا لَمْ يُجْزِهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ لَهُ فَإِنِ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِمَا جاز.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَخْرُجُ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ إِلَى مَنْزِلِهِ وَإِنْ بَعُدَ ".
قال الماوردي: أما خروجه للبول والغائط فجايز إِجْمَاعًا، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَخْرُجُ إِلَى الْبَيْتِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ كِنَايَةً عَنِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا بِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ فَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ جُمْلَةِ نَذْرِهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْخُرُوجِ إِلَى مَنْزِلِهِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا أَوْ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ مَنْزِلِ صَدِيقِهِ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْ مَنْزِلِهِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ فِي عدوله عن منزله إلى طريقه بذلة، وَإِلَى مَنْزِلِ صَدِيقِهِ حِشْمَةً فَكَانَ أَوْلَى الْأُمُورِ له قصد منزله.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَرِيضِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَإِنْ أَكَلَ فِيهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يُقِيمُ بَعْدَ فَرَاغِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ قَاصِدًا لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ، بَطَلَ اعْتِكَافُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَلَكِنْ لَوْ خَرَجَ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ جَازَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْمَرِيضِ مِنْ غَيْرِ لُبْثٍ، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ وَلَا يُعَرِّجُ عليه وكان يسأل عنه.
فصل
: قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ خَرَجَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِلْأَكْلِ جَازَ، وَلَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ جَازَ أَنْ يَقِفَ لِيَأْكُلَ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي الطِّيبِ بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّهُ إِنْ خَرَجَ لِلْأَكْلِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلَكِنْ لَوْ خَرَجَ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، جَازَ أَنْ يَأْكُلَ فِي طَرِيقِهِ، وَلَا يُطِيلُ فَإِنْ أَطَالَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ قَالَا: لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ عَطَفَ بِالْأَكْلِ عَلَى عِيَادَةِ الْمَرِيضِ، فَهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَى الْخُرُوجِ حَاجَةً وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ خَطَأٌ، لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ فِي أَكْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ بِذْلَةً وَحِشْمَةً وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصِّيَانَةِ.(3/492)
وَالثَّانِي: إِنَّهُ قَدْ يَحْشِمُ مِنْ أَكْلِهِ الْمُصَلُّونَ، فَرُبَّمَا دَعَاهُمْ ذَلِكَ إِلَى الْخُرُوجِ.
وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي طَعَامِهِ قِلَّةٌ فَاسْتَحْيَى مِنْ إِظْهَارِهِ أَوْ كَانَ يَفْسُدُ إِنْ أُخْرِجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ إِلَى مَنْزِلِهِ لِلْأَكْلِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا شُرْبُ الْمَاءِ فَإِنِ اشْتَدَّ عَطَشُهُ وَعَدِمَ الْمَاءَ فِي مَسْجِدِهِ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ فِي مَسْجِدِهِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهُ كَالْأَكْلِ، وَأَجَازَ لَهُ الْخُرُوجَ، لِأَجْلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ مِنَ الْخُرُوجِ لَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ لِأَنَّ فِي الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ بِذْلَةً لَيْسَتْ فِي شُرْبِ الْمَاءِ وَلِأَنَّ اسْتِطْعَامَ الطَّعَامِ مَكْرُوهٌ، وَاسْتِسْقَاءَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَقَدِ اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَاءَ، وَلَمْ يَسْتَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَمَتَى أَقَامَ الْمُعْتَكِفُ فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ حَاجَتِهِ بَطَلَ اعتكافه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ وَيَخِيطَ وَيُجَالِسَ الْعُلَمَاءَ وَيُحَدِّثَ بِمَا أَحَبَّ مَا لَمْ يَكُنْ مأثماً ولا يفسده سباب ولا جدالٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَعَمَلُ الصَّنَائِعِ فِي الْمَسْجِدِ، فَمَكْرُوهٌ لِلْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَلِرِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صُنَّاعَكُمْ فَلَوْ بَاعَ الْمُعْتَكِفُ، وَاشْتَرَى وَعَمِلَ صِنَاعَةً مِنْ خِيَاطَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ، وَقَلِيلُ ذَلِكَ أَخَفُّ مِنْ كَثِيرِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ هُوَ اللُّبْثُ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ، فَلَمَّا لَمْ يُفَارِقِ اللُّبْثَ فَهُوَ عَلَى الِاعْتِكَافِ، وَلِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ مَعَ تَغْلِيظِ حُكْمِهِمَا، لَا يَمْنَعَانِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا مُجَالَسَةُ الْعُلَمَاءِ وَمُذَاكَرَتُهُمْ فَمُسْتَحَبَّةٌ لِلْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ ذَلِكَ لِلْمُعْتَكِفِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمُذَاكَرَةَ بِالْعِلْمِ قُرْبَةٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذَنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) {النور: 36) وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ ".(3/493)
فَصْلٌ
: فَأَمَّا مُحَادَثَةُ الْإِخْوَانِ فَمُبَاحَةٌ، مَا لَمْ تَكُنْ مَأْثَمًا، لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتِ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجِئْتُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَقَعَدْتُ وَحَدَّثْتُهُ فَلَمَّا قُمْتُ، وانقلبت قام ليغلبني يعني يردني فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الْمَسْجِدِ مَرَّ بِهِ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَسْرَعَا فَقَالَ عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ أَحَدِكُمْ مَجْرَى لَحْمِهِ وَدَمِهِ فَخَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمْ شَرًّا أَوْ قَالَ شَيْئًا فَأَمَّا السَّبُّ وَالشَّتِيمَةُ وَالْقَذْفُ، وَالنَّمِيمَةُ فَمَكْرُوهٌ، لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالْمُعْتَكِفُ بِكَرَاهَتِهِ أَوْلَى كَالصَّائِمِ لِكَوْنِهِ فِي عِبَادَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَثِمَ، وَاعْتِكَافُهُ جَائِزٌ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ الْمُبَاحِ، لَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ الْمَحْظُورِ كَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: وَإِذَا شَرِبَ الْمُعْتَكِفُ نَبِيذًا فَسَكِرَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ إِذَا سَكِرَ وَأُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَوْ كُلِّفَ الْخُرُوجَ مِنْهُ، إِذْ لَا يَجُوزُ لِلسَّكْرَانِ الْمُقَامُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْمَرَضَ، قِيلَ لَهُمْ: لَا يَصِحُّ حَمْلُ الْمَسْأَلَةِ عَلَيْهِ إِذَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَلَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ، قَالُوا: إِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ إِذَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ اعْتِكَافِهِ فَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فَيُبْطِلُهُ، وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْخُرُوجَ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أن المسألة على ظاهرها حتى بالسكر بطل اعتكافه، لأنه بالسر يَخْرُجُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمُقَامِ فِيهِ، فَصَارَ كَالْخَارِجِ مِنْهُ فَبَطَلَ اعْتِكَافُهُ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُعْتَكِفُ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ فَإِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الشَّافِعِيَّ أَمَرَ الرَّبِيعَ أَنْ يَخُطَّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا تُقْرَأُ عَلَيْهِ وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ، لِأَنَّهَا أَسْوَأُ حَالًا مِنَ السُّكْرِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخْرِجُ فِي الْمُرْتَدِّ قَوْلًا آخر من السركان، وَفِي السَّكْرَانِ، قُولًا آخَرَ مِنَ الْمُرْتَدِّ، فَجَعَلَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَالَ آخَرُونَ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّدَّةِ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ وَفِي السُّكْرِ عَلَى ظَاهِرِهِ يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ، وَالْفَرْقُ بينهما أنه بالسكر فممنوع مِنَ الْمَسْجِدِ، فَصَارَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَبِالرِّدَّةِ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ، وَالْكَافِرُ يَجُوزُ لَهُ(3/494)
دُخُولُ الْمَسْجِدِ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ فِي الصِّيَامِ لَا تُبْطِلُهُ كَالِاعْتِكَافِ قِيلَ: لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ قَدْ يَتَخَلَّلُهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الصِّيَامِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا جُنَّ الْمُعْتَكِفُ ثُمَّ أَفَاقَ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ، أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى اعْتِكَافِهِ سَوَاءٌ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي حَالِ جُنُونِهِ أَمْ لَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجْنُونِ كَلَا فِعْلٍ فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ النَّاسِي، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ بِالْجُنُونِ، لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَى زَوَالِ عَقْلِهِ بِأَمْرٍ هُوَ فِيهِ مَعْذُورٌ، فَصَارَ كَمَنْ غَلَبَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوْ نَامَ طُولَ يَوْمِهِ كَانَ عَلَى اعْتِكَافِهِ، غَيْرَ أَنَّ مُدَّةَ الْإِغْمَاءِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا، وَمُدَّةُ النَّوْمِ مُعْتَدٌّ بِهَا لِأَنَّ النَّائِمَ كَالْمُسْتَيْقِظِ فِي جَرَيَانِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَعُودُ الْمَرِيضُ، وَلَا يَشْهَدُ الْجَنَازَةَ إِذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ وَاجِبًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا عِيَادَةُ مَرِيضٍ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ حُضُورُ جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُعْتَكِفُ، فَأَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ أَوْ حُضُورِ جِنَازَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، كَانَ فِي نِيَّتِهِ، لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِمَرَضِهِ، أَوْ بِدَفْنِهِ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْخُرُوجِ لِأَجْلِهِ، وَإِذَا خَرَجَ عَادَ وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ كَالْعِدَّةِ الَّتِي تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ لِأَجْلِهَا ثُمَّ تَرْجِعُ فَتَبْنِي، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ عِيَادَتِهِ، وَحُضُورِ جِنَازَتِهِ، فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَضَاءُ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَعُودَ الْمُعْتَكِفُ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ فِيمَا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَمُرُّ بِالْمَرِيْضِ فَيَمُرُّ وَلَا يُعَرِّجُ عَلَيْهِ وكان يسأل عنه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ إِذَا كَانَ مُؤَذِّنًا أَنْ يَصْعَدَ الْمَنَارَةَ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُعْتَكِفِ صُعُودَ الْمَنَارَةِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا إِذَا كَانَتِ الْمَنَارَةُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رِحَابِهِ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَلَوِ اعْتَكَفَ فِيهَا أَوْ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ، وَسَقَطَاتِهِ وَعَلَى سَطْحِهِ جَازَ، وَإِذَا جَازَ الِاعْتِكَافُ فِيهَا فَالْأَذَانُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْمَنَارَةُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ نُظِرَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ هَذَا الْمَسْجِدِ الَّذِي هُوَ(3/495)
فِيهِ مُعْتَكِفٌ مُنِعَ مِنْ صُعُودِهَا، فَإِنْ خَرَجَ إِلَيْهَا، وَصَعَدَهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمَسْجِدِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا فَإِنْ خَرَجَ إِلَيْهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ إِلَى مَوْضِعِ الْمَنَارَةِ لِلصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَةٍ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ لِلْأَذَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: إِنَّ لَهُ الْخُرُوجَ إِلَيْهَا، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَةً كَالرِّحَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ الْأَذَانَ بِالصَّلَاةِ لِلْوُلَاةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ كَرَاهَةَ قَوْلِهِ فِي أَذَانِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُعْتَكِفِ، وَغَيْرِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الزِّيَادَةِ فَإِنْ فَعَلَ الْمُعْتَكِفُ ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَهُوَ عَلَى اعْتِكَافِهِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إِذَا فَرَغَ مِنْ أَذَانِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَى بَابِ الْوَالِي، فَيَقُولُ الصَّلَاةَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، وَهَذَا ذَكَرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ بِلَالًا قَدْ كَانَ يُؤَذِّنُ أَذَانًا عَامًّا، ثُمَّ يَقْصِدُ حُجْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَيَخُصُّهُ بِإِعْلَامِ الصَّلَاةِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ، فَأَمَّا الْمُعْتَكِفُ فَإِنْ فَعَلَ هَذَا بَطَلَ اعتكافه، لأجل خروجه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ شهادةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ، فَإِنْ فَعَلَ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَظَائِرُهَا مُصَوَّرَةٌ فِي اعْتِكَافٍ وَجَبَ متتابعاً، فإذا اعتكف الشاهد، ثم دعي للإقامة الشَّهَادَةِ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِقَامَتُهَا لِوُجُودِ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُودِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنَ الْخُرُوجِ، فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ لِعَدَمِ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُودِ، فَهَذَا مأمورهم بِالْخُرُوجِ، لِإِقَامَتِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأقِيمُوا الشَّهَادَةِ للهِ) {الطلاق: 2) فَإِذَا خَرَجَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ مُضْطَرًّا، أَوْ مُخْتَارًا، فَإِنْ تَحَمَّلَهَا مُخْتَارًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ، لِأَنَّ فِي اخْتِيَارِهِ لِلتَّحَمُّلِ اخْتِيَارًا لِلْخُرُوجِ وَقْتَ الْأَدَاءِ وَإِنْ تَحَمَّلَهَا مُضْطَرًا لِعَدَمِ غَيْرِهِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ فَإِذَا أَعَادَ بَنَى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ لِأَمْرٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِي الطَّرَفَيْنِ، بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ، فَصَارَ كَالْخَارِجِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ فِيهَا وجهان:(3/496)
أَحَدُهُمَا: اعْتِكَافُهُ جَايزٌ، لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، فَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَجِيءُ إِلَيْهِ، ويسمع شهادته.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ مَرِضَ أَوْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ وَاعْتِكَافُهُ واجبٌ فإذا برئ أو خلى عَنْهُ بَنَى فَإِنْ مَكَثَ بَعْدَ بُرْئِهِ شَيْئًا مِنَ غَيْرِ عذرٍ ابْتَدَأَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ اعْتِكَافُ أَيَّامٍ سَابِقَةٍ فَمَرِضَ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ يَسِيرًا يُمْكِنُهُ الْمُقَامُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، كَالصُّدَاعِ ورجع الضِّرْسِ وَنُفُورِ الْعَيْنِ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ لِأَنَّهُ خَرَجَ مُخْتَارًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ زَائِدًا لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ، فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَإِذَا بَرَأَ عَادَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ لِأَنَّهُ خَرَجَ غَيْرَ مُخْتَارٍ فَصَارَ كَالْخَارِجِ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ قَوْلًا آخَرَ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ مِنَ الْمَرِيضِ إِذَا أَفْطَرَ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَفِي مَعْنَى الْمَرِيضِ مَنْ خَرَجَ خَوْفَ لِصٍّ أَوْ حَرِيقٍ، فَإِذَا زَالَ خَوْفُهُ عَادَ إِلَى اعْتِكَافِهِ، وَبَنَى عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ مِنَ اعْتِكَافِهِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ لَهُ ظَالِمًا، وَهُوَ فِي الْخُرُوجِ مَظْلُومٌ فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ، فَإِذَا أَطْلَقَ عَادَ وَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ مُحِقًّا فِي إِخْرَاجِهِ، وَهُوَ الظَّالِمُ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ، فَقَدْ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، لِأَنَّهُ خَرَجَ بِاخْتِيَارِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ السُّلْطَانُ مُحِقًّا فِي إِخْرَاجِهِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ وَلَا مُمْتَنِعٌ مَنْ حَقٍّ، وَإِنَّمَا أُخْرِجَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ قَطْعٍ أَوْ جَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، لِذَلِكَ لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا فَعَلَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَقَدْ صَارَ مُخْتَارًا لِلْخُرُوجِ، فَقَدْ وجب أن يبطل اعتكافه، إذا أخرج لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، قِيلَ: لَمْ يَفْعَلْ مَا وَجَبَ بِهِ الْحَدُّ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، وَاسْتِعَادَةِ الْمِلْكِ لِسَرِقَتِهِ، فَصَارَ كَالْمُعْتَدَّةِ تَبْنِي عَلَى اعْتِكَافِهَا، وَإِنْ فَعَلَتِ النِّكَاحَ بِاخْتِيَارِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَقْصِدْ بِالنِّكَاحِ وُجُوبَ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا قَصَدَتْ بِهِ اكْتِسَابَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَمَتَى قُلْنَا إِنَّ اعْتِكَافَهُ لَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِهِ فَعَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ، فَإِنْ وَقَفَ بَعْدَ فَرَاغِهِ شَيْئًا، وَإِنْ قَلَّ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ.(3/497)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ نَقَضَ اعْتِكَافَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اعْتِكَافُ التَّطَوُّعِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ، وَالْعَوْدُ إِذَا شَاءَ وَأَمَّا الْوَاجِبُ فَضَرْبَانِ:
مُتَتَابِعٌ، وَغَيْرُ مُتَتَابِعٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَتَابِعٍ لَمْ يَبْطُلْ بِخُرُوجِهِ، وَبَنَى عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَلَوْ كَانَ مُتَتَابِعًا بَطَلَ بِخُرُوجِهِ، وَإِنْ قَلَّ.
وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: إِنْ خَرَجَ أَكْثَرَ النَّهَارِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَإِنْ خَرَجَ أَقَلَّ النهار لم يبطل هذا خَطَأٌ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا هُوَ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ أَبْطَلَهَا الْخُرُوجُ الطَّوِيلُ، أَبْطَلَهَا الْيَسِيرُ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَعَكْسُهُ الْمُعْتَكِفُ إِذَا أُخْرِجَ لِمَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا بصومٍ فَأَفْطَرَ اسْتَأْنَفَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فِي رَجُلٍ نَذَرَ اعْتِكَافَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ بِصَوْمٍ فَأَفْطَرَ فِيهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصَّوْمَ وَالِاعْتِكَافَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ الصَّوْمَ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً مُفْرَدَةً، فَقَدْ صَارَ صِفَةَ الِاعْتِكَافِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِفْرَادُهُ عَنْهُ، وَإِذَا أُبْطِلَ أَحَدُ صِفَاتِ الِاعْتِكَافِ، لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ إِنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الصَّوْمَ، وَيَبْنِي عَلَى الِاعْتِكَافِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ فَلَمْ يَكُنْ فَسَادُ أَحَدِهِمَا قَادِحًا فِي صِحَّةِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا وَصَلَاةً لَمْ يَقْدَحْ فَسَادُ أَحَدِهِمَا فِي صِحَّةِ الْآخَرِ، فَأَمَّا إِنْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ، وهو صايم لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ جَمِيعًا لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ هو المقصود، والصوم تبع فإذا بطل المقصود بطل حكم توابعه.
مسألة:
وقال المزني قَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي بَابِ مَا جَمَعْتُ لَهُ مِنْ كِتَابِ الصِّيَامَ وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ لَا يُبَاشِرُ الْمُعْتَكِفُ فَإِنْ فَعَلَ أَفْسَدَ اعْتِكَافَهُ (وَقَالَ) فِي مَوْضِعٍ مِنْ مَسَائِلَ فِي الِاعْتِكَافِ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ مِنَ الْوَطْءِ إِلَّا مَا يُوجِبُ الحد (قال المزني) هذا أشبه بقوله لأنه منهي في الاعتكاف والصوم والحج عن الجماع فلما لم يفسد عنده صوم ولا حج بمباشرة دون ما يوجب الحد أو الإنزال في الصوم كانت المباشرة في الاعتكاف كذلك عندي في القياس ".(3/498)
أَحَدُهُمَا: فِي الْفَرْجِ.
وَالثَّانِي: دُونَ الْفَرْجِ فَإِنْ كانت في الفرج فضربان عامد وناسي فَإِنْ وَطِئَ نَاسِيًا لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ كَالْعَامِدِ وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَلِأَنَّ الصَّوْمَ مَعَ تَعْلِيقِهِ بِالْكَفَّارَةِ لَا يَبْطُلُ بِوَطْءِ النَّاسِي فَكَانَ الِاعْتِكَافُ بِذَلِكَ أَوْلَى، فإن وطئ عامداً من قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، فَقَدْ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَْنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِنْ كَانَ وَاجِبًا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ سَقَطَ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ، وَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِمَالٍ، وَلَا يَنُوبُ عَنْهَا الْمَالُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا كَالصَّلَاةِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فِي غَيْرِ الفرج، فضربان:
أحدهما: الشهوة.
وَالثَّانِي: لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَأَنْ مَسَّ بَدَنَهَا لِعَارِضٍ، وَقَبَّلَهَا عِنْدَ قُدُومِهَا مِنْ سَفَرٍ غَيْرِ قَاصِدٍ لِلَذَّةٍ، فَهَذَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ، وَلَا مُؤَثِّرٌ فِي الِاعْتِكَافِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كانت تُرَجِّلُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَدَنَهَا قَدْ مَسَّ بَدَنَهُ، وَإِنْ كَانَ لِشَهْوَةٍ كَأَنْ قَبَّلَهَا، أَوْ لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أَوْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ لَا يُخْتَلَفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ) {البقرة: 187) فَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى اعْتِكَافِهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ عَامِدًا فَفِي اعْتِكَافِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ أنزل أو لَمْ يُنْزِلْ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تُبْطِلَهَا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ حُرِّمَ فِيهَا الْوَطْءُ، يُدْرَأُ مِنْهُ كَانَ لِلْوَطْءِ مَزِيَّةٌ، وَاخْتَصَّ بِالتَّغْلِيظِ دُونَ غَيْرِهِ كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالْحَدِّ فَلَوْ بَطَلَ الِاعْتِكَافُ بِالْمُبَاشَرَةِ كَمَا بَطَلَ بِالْوَطْءِ، كَانَ فِي ذَلِكَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ حُكْمِ الْمُبَاشَرَةِ وَالْوَطْءِ، وَهَذَا خِلَافُ الْأُصُولِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ اعْتِكَافَهُ قَدْ بَطَلَ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا مُبَاشَرَةٌ مُحَرَّمَةٌ فِي الِاعْتِكَافِ فَوَجَبَ أَنْ تُبْطِلَهُ كَالْوَطْءِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُبَاشَرَةِ فِيهَا تَأْثِيرٌ كَالْحَجِّ فإن قيل فلم كان ك " صوم " لَا يَبْطُلُ بِالْإِنْزَالِ؟ قِيلَ: قَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ قَوْلًا ثَالِثًا يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ إِنَّهُ يَبْطُلُ إِنْ أَنْزَلَ وَلَا يَبْطُلُ إِنْ لَمْ يُنْزِلْ، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ هَذَا التَّخْرِيجِ، وَجَعَلُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي(3/499)
الِاعْتِكَافِ حَرَامٌ، وَفِي الصَّوْمِ حَلَالٌ فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي التَّحْرِيمِ جَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي الْإِفْسَادِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ لِأَصْحَابِنَا طُرُقٌ، وَهَذَا أَصَحُّهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شهرٍ، وَلَمْ يقل متتابعاً أحببته متتابعاً ". قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَفِي ذَلِكَ دليلٌ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مُتَفَرِّقًا.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، لَزِمَهُ اعْتِكَافُ جَمِيعِهِ مُتَتَابِعًا لَيْلًا وَنَهَارًا، لِأَنَّ الشَّهْرَ جَمِيعُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فَأَمَّا إِنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْهُ بَلْ أَطْلَقَ نَذْرَهُ فِيهِ فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ، لِأَنَّ الشَّهْرَ يَجْمَعُهُمَا، فَإِنْ تَابَعَ اعْتِكَافَهُ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ فَرَّقَهُ جَازَ، وَقَالَ أبو حنيفة يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ فَإِنْ فَرَّقَهُ لَمْ يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الِاعْتِكَافَ يَصِحُّ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَوَجَبَ إِذَا أَطْلَقَ شَهْرًا أَنْ يَلْزَمَهُ مُتَتَابِعًا، كَمَا لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا شَهْرًا لَزِمَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ كَلَامِهِ شَهْرًا متوالياً وقوله يصح ليلاً ونهاراً احترازاً مِنَ الصِّيَامِ، لِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ أَجْزَأَهُ مُتَفَرِّقًا عِنْدَ أبي حنيفة قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِالْمُدَّةِ الْمُطْلَقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَقْتَضِيَ إطلاق التَّتَابُعَ كَالْعِدَّةِ وَالْإِيلَاءِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الشَّهْرَ يَنْطَبِقُ عَلَى مَا بَيْنَ الْهِلَالَيْنِ وَعَلَى الْعَدَدِ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا مُجْتَمِعًا وَمُتَفَرِّقًا فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَيْفَ شَاءَ مُتَتَابِعًا وَمُتَفَرِّقًا لِانْطِلَاقِ اسْمِ الشَّهْرِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ نَذَرَ عِبَادَةَ شَهْرٍ مُطْلَقٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّتَابُعُ كَمَا لَوْ نَذَرَ مُطْلَقًا صِيَامَ شَهْرٍ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْيَمِينِ وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ هُوَ إِنَّا إِنَّمَا أَلْزَمْنَاهُ الْمُوَالَاةَ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ، وَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْمُوَالَاةِ فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ الْمُوَالَاةُ شَرْطًا فِيهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى زَمَانٍ لَا يُوصَفُ بِالْمُوَالَاةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا كَلَّمْتُ زَيْدًا يَوْمًا ابْتَدَأَ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ وَقْتِهِ فَعُلِمَ، أَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي ابْتِدَائِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ أَيِّ شَهْرٍ كَانَ إِنْ شَاءَ بَدَأَ فِيهِ مِنْ وَقْتِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُ، وَمِثَالُ الْعِدَّةِ مِنَ الِاعْتِكَافِ وَالْيَمِينِ، أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مِنْ وَقْتِي هَذَا فَيَلْزَمُهُ الْمُتَابَعَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِدَايَةِ بِهِ مِنْ وَقْتِهِ فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُ بِذَلِكَ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرًا بِالنَّهَارِ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ مُتَفَرِّقًا وَمُتَتَابِعًا، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى بِاشْتِرَاطِ النَّهَارِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ، فَذَهَبَ الشَّهْرُ بَعْدَ نَذْرِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ شَهْرًا سِوَاهُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَضَاءُ بِالنِّسْيَانِ، فَإِذَا أَرَادَ الْقَضَاءَ أَجْزَأَهُ مُتَفَرِّقًا، لِأَنَّ فَوَاتَ زَمَانِ التَّعْيِينِ يُسْقِطُ حُكْمَ الْمُوَالَاةِ، كَمَا سَقَطَ وُجُوبُ الْمُتَابَعَةِ والموالاة في قضاء(3/500)
رمضان لفوات زمانه، لأن مُوَالَاةَ صِيَامِهِ وَجَبَتْ بِالزَّمَانِ، لَا بِالْفِعْلِ فَأَمَّا إِذَا نَذَرَ شَهْرًا بِعَيْنِهِ، فَإِذَا الشَّهْرُ قَدْ ذَهَبَ قَبْلَ نَذْرِهِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ نذره لم ينعقد.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن نوى يوماً فدخل في نِصْفَ النَّهَارِ اعْتَكَفَ إِلَى مِثْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ مِنْ وَقْتِي هَذَا، وَهُوَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ مِنْ وَقْتِهِ، إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْغَدِ، فَيَعْتَكِفُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ مِنَ الْغَدِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَيَحْصُلُ لَهُ اعْتِكَافُ يَوْمٍ مِنْ جُمْلَةِ يَوْمَيْنِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ اعْتِكَافُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، لِأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ زَمَانَ اعْتِكَافِهِ فَصَارَتْ تَبَعًا لِلطَّرَفَيْنِ، كَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَزِمَهُ الدُّخُولُ فِيهِمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُمَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَتَكُونُ اللَّيْلَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ، دَاخِلَةً فِي الِاعْتِكَافِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةُ النهار دون الليل.
والمسألة الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ دَخَلَ فِيهِ قَبْلَ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَمْسِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ مُطْلَقَ الْيَوْمِ يَقَعُ عَلَى هَذَا الزَّمَانِ، وَلَا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ زَمَانَ الِاعْتِكَافِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنَ الْغَدِ كَالْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اسْمَ الْيَوْمِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَمَا كَانَ تَلْفِيقُ اليوم في الحيض.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ يَوْمَيْنِ فَإِلَى غُرُوبِ الشَمْسِ مِنَ الَيْوَمِ الثَّانِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةُ النَهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِمَا التَّتَابُعَ، فَيَلْزَمُهُ الدُّخُولُ فِيهِمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُمَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَتَكُونُ اللَّيْلَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ دَاخِلَةً فِي الِاعْتِكَافِ، إِلَّا أن يكون له نية النهار دون الليل، فَيَعْمَلُ عَلَى نِيَّتِهِ فَأَمَّا اللَّيْلَةُ الْأُولَى، فَلَا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا وَقَالَ أبو حنيفة يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا تَبَعًا لِلنَّهَارِ، فَيَدْخُلُ فِي اعْتِكَافِ يَوْمٍ قَبْلَ غروب الشمس وهذا خطأ لأن نذره نعقد عَلَى زَمَانِ النَّهَارِ فَلَمْ يَلْزَمْ دُخُولُ اللَّيْلَةِ أولى فيه كما نذر(3/501)
اعتكاف يَوْمٍ وَإِنَّمَا دَخَلَتِ اللَّيْلَةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ، لِأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ بَيْنَ زَمَانَيْنِ قَدْ لَزِمَهُ مُتَابَعَةُ اعْتِكَافِهِمَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَشْتَرِطَ التَّتَابُعَ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اعْتَكَفَهُمَا مُتَتَابِعًا، أَوْ مُتَفَرِّقًا، وَهَلْ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَ يَوْمَيْنِ، أَوْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَخَلُّلِهَا بَيْنَ زَمَانَيِ الِاعْتِكَافِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُهَا لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَتِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ، لَمْ يَكُنْ لِمَا تَخَلَّلَهُمَا مِنْ زَمَانِ اللَّيْلِ حكم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويجوز اعتكافه ليلةً ".
قال الماوردي: وهذا مستقر عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى صِيَامٍ فَجَازَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنَ اعْتِكَافِ لَيْلَةٍ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ اعْتِكَافَ ليلةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوْفِ بِنَذْرِكَ " فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ لَكُمُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ نُذُورَ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَكُمْ لَا تَلْزَمُ قُلْنَا: هِيَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ فَالْوَفَاءُ بِهَا مُسْتَحَبٌّ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ الإسلام وإن عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الِاعْتِكَافَ الشَّرْعِيَّ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَ يَقْدُمُ فلانٍ فَقَدِمَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ اعْتَكَفَ فِي مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ محبوساً فإذا قدر قضاه (قال المزني) يشبه أن يكون إذ قدم في أول النهار أن يقضي مقدار ما مضى من ذلك اليوم من يوم آخر حتى يكون قد أكمل اعتكاف يومٍ وقد يقدم في أول النهار لطلوع الشمس وقد مضى بعض يوم فيقضي بعض يومٍ فلا بد من قضائه حتى يتم يوم ولو استأنف يوماً حتى يكون اعتكافه موصولاً كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمَ يَقْدُمُ فُلَانٌ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ نَذْرَهُ قَدِ انْعَقَدَ، لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِمُوجِبِ النَّذْرِ أَوْ بِبَعْضِهِ مُمْكِنٌ فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ نَذْرُهُ بَاطِلًا، كَمَا لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ يَوْمَ يَقْدُمُ فَلَانٌ قُلْنَا: فِي نَذْرِ الصَّوْمِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ كَالِاعْتِكَافِ.
وَالثَّانِي: بَاطِلٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالِاعْتِكَافِ، أَوْ بَعْضِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالصَّوْمِ، وَلَا بِبَعْضِهِ لِأَنَّهُ إِنْ قَدِمَ لَيْلًا فَلَا نَذْرَ وَإِنْ قَدِمَ نَهَارًا لَمْ يُمْكِنْهُ صِيَامُ مَا(3/502)
بَقِيَ، وَيُمْكِنُهُ اعْتِكَافُ مَا بَقِيَ مِنْهُ، فَإِنْ صَحَّ أَنَّ نَذْرَهُ قَدِ انْعَقَدَ فَمَا لَمْ يَقْدُمْ فَلَانٌ، فَلَا اعْتِكَافَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَدِمَ حَيًّا مُخْتَارًا فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْدُمَ لَيْلًا.
وَالثَّانِي: نَهَارًا فَإِنْ قَدِمَ لَيْلًا فَلَا اعْتِكَافَ عَلَى النَّاذِرِ، لِأَنَّ شَرْطَ نَذْرِهِ لَمْ يُوجَدْ وَإِنْ قَدِمَ نَهَارًا، فَلِلنَّاذِرِ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَالِكُ التَّصَرُّفِ قَادِرًا عَلَى الِاعْتِكَافِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ بَقِيَّةَ نَهَارِهِ، لِأَنَّ شَرْطَ نذره وقد وُجِدَ، وَفِي قَضَاءِ مَا مَضَى مِنَ النَّهَارِ وَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَذَرَ أن يصوم يوم بِقُدُومِ فَلَانٍ.
أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ نَذْرَ الصَّوْمِ بَاطِلٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، إِذَا قِيلَ: إِنَّ نَذْرَ الصَّوْمِ صَحِيحٌ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ النَّاذِرُ مَمْلُوكَ التَّصَرُّفِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى التَّصَرُّفِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا هَلْ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إِذَا صَحَّ وَخَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَصَحُّهُمَا: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ فِعْلُ عِبَادَةٍ إِذَا كَانَ صَحِيحًا، فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا إِذَا أَتَى عَلَيْهِ زَمَانُهَا وَكَانَ مَرِيضًا كَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مُخْرَجٌ مِنْ أَحَدِ قَوْلَيْهِ، فِي نَذْرِ الصِّيَامِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَاجِزِ أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يتعلق بذمته.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَلْبِسَ الْمُعْتَكِفُ، وَالْمُعْتَكِفَةُ وَيَأْكُلَا وَيَتَطَيَّبَا بِمَا شَاءَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ، أَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَمْنُوعٌ مِنَ الطِّيبِ تَشْبِيهًا بِالْمُحْرِمِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ بِخِلَافِهِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَنَّهُ رَجَّلَ شَعْرَ رَأْسِهِ لِيُنَبِّهَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحْرِمِ وَالْمُعْتَكِفِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مُنِعَ مِنَ الطِّيبِ كَالْمُحْرِمِ لَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ حَلْقِ رَأْسِهِ، وَتَقْلِيمِ ظُفْرِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحَ، لَا تَمْنَعُ مِنَ الطِّيبِ أَصْلُهُ الصَّوْمُ، وَعَكْسُهُ الْحَجُّ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ هَلَكَ زَوْجُهَا خَرَجَتْ فَاعْتَدَّتْ ثُمَّ بَنَتْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَعْتَكِفَ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، لِمَا يَمْلِكُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَإِنِ اعْتَكَفَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا فِي الِاعْتِكَافِ ثُمَّ أَرَادَ مَنْعَهَا قَبْلَ تَمَامِ ذَلِكَ جَازَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى تَمْكِينُهَا مِنْ إِتْمَامِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ اعْتِكَافُهَا(3/503)
مُتَتَابِعًا، فَإِذَا اعْتَكَفَتِ الْمَرْأَةُ ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِطَلَاقِ زَوْجِهَا، أَوْ وَفَاتِهِ لَزِمَهَا الْخُرُوجُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَقْضِيَ فِيهِ عِدَّتَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ تُكْمِلُ اعْتِكَافَهَا، ثُمَّ تَخْرُجُ لِقَضَاءِ عِدَّتِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحَقَّيْنِ إِذَا وَجَبَا قُدِّمَ أَقْوَاهُمَا، وَالْعِدَّةُ أَقْوَى مِنَ الِاعْتِكَافِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْعِدَّةَ وَجَبَتِ ابْتِدَاءً مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاعْتِكَافُ وَجَبَ عَلَيْهَا بِإِيجَابِهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ الْعِدَّةَ لَا يَجُوزُ تَبْعِيضُهَا، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا قَبْلَ إِتْمَامِهَا، وَالِاعْتِكَافُ يَجُوزُ تَبْعِيضُهُ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ لِعَارِضٍ أَوْ حَاجَةٍ، فَلِهَذَيْنِ مَا وَجَبَ تقدم الْعِدَّةِ عَلَى الِاعْتِكَافِ، فَإِذَا قَضَتْ عِدَّتَهَا عَادَتْ إِلَى اعْتِكَافِهَا فَبَنَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا خَرَجَتِ اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْخُرُوجِ لِلْعِدَّةِ، وَالْخُرُوجِ لِلشَّهَادَةِ فِي بُطْلَانِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَوْ جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قِيلَ: قَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُخْرِجُ فِي الْعِدَّةِ قَوْلًا مِنَ الشَّهَادَةِ وَفِي الشَّهَادَةِ قَوْلًا مِنَ الْعِدَّةِ، فَيَجْعَلُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّهَادَةِ هُوَ الْأَدَاءُ، فَإِذَا تَحَمَّلَهَا مُخْتَارًا كَانَ خُرُوجُهُ لِأَدَائِهَا مُخْتَارًا وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ النِّكَاحِ الْفُرْقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْأُلْفَةُ فَلَمْ يَكُنِ اخْتِيَارُهَا لِلنِّكَاحِ اخْتِيَارًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ.
والثاني: أ، بِالْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ ضَرُورَةً، لِأَنَّهُ كَسْبُهَا، وَبِهِ تَسْتَفِيدُ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ وَلَيْسَتِ الشَّهَادَةُ كَسْبًا لِلشَّاهِدِ، فَلَمْ يَكُنْ بِهِ إِلَى تَحَمُّلِهَا ضَرُورَةٌ، وَمِثَالُ الْعِدَّةِ مِنَ الشَّهَادَةِ أَنْ يَضْطَرَّ إِلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَتَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ غَيْرِهِ، فَهَذَا إِذَا أخرج لِلْأَدَاءِ لَمْ يَبْطُلِ اعْتِكَافُهُ، وَمِثَالُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْعِدَّةِ أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْهَا طَلَاقَهَا، فَتَخْتَارُ الطَّلَاقَ، فَإِذَا خَرَجَتْ لِلْعِدَّةِ بَطَلَ اعْتِكَافُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِي اعْتِكَافِهَا، خَرَجَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا طَهُرَتْ عَادَتْ إِلَى اعْتِكَافِهَا وَبَنَتْ لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إِلَى الْخُرُوجِ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْمَقَامِ، فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ مِنَ اعْتِكَافِهَا لِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْمَقَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ خَرَجَتْ بَطَلَ اعْتِكَافُهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ تُوضَعَ الْمَائِدَةُ فِي الْمَسْجِدِ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ فِي الطِّشْتِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ، لَا يَمْنَعُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ أَكْلَهُ عَلَى الْمَائِدَةِ، وَغَسْلَ يَدَيْهِ فِي الطِّشْتِ، أَصْوَنُ لِلْمَسْجِدِ، وَأَحْرَى أَنْ لَا يَنَالَهُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ(3/504)
الْمُصَلِّي، وَالْأَوْلَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَيْثُ يَبْعُدُ عَنْ مَنْظَرِ النَّاسِ، وَعَنْ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ أَصْوَنُ وَكَيْفَ مَا فَعَلَ جَازَ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْكِحَ نَفْسَهُ وَيُنْكِحَ غَيْرَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، إِنَّمَا مَنَعَهُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَمْنُوعٍ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ مَمْنُوعًا مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ كَالصَّائِمِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَالْعَبْدُ وَالْمُسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ يَعْتَكِفُونَ حَيْثُ شَاءُوا لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِ، حَيْثُ شَاؤُوا مِنَ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ يَتَّصِلُ لَهُ الِاعْتِكَافُ، وَمَا أَحَبَّ فِي مَسْجِدٍ أَوْ جَامِعٍ وَمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، إِذَا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ اتَّصَلَ لَهُ الِاعْتِكَافُ مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ بِعَيْنِهِ، فَخَرَجَ مِنْهُ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ دَخَلَ إِلَيَّ مَسْجِدٍ آخَرَ فِي طَرِيقِهِ فَبَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ جَازَ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَتَعَيَّنُ فِي مَسْجِدٍ دُونَ مَسْجِدٍ، وَكَذَلِكَ لَوِ انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ، إِلَى غَيْرِهِ بَنَى عَلَى اعْتِكَافِهِ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ جَعَلَ الْمُعْتَكِفُ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ نَذْرًا لِلَّهِ إِنْ كَلَّمَ فُلَانًا فَكَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ، وَمَعْنَاهُ إِنَّهُ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّمَنِّي، فَقَالَ: إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ كَلَامَ، فُلَانٍ فَعَلَيَّ اعْتِكَافُ أَيَّامٍ فَهَذَا نَذْرٌ لَازِمٌ، لِأَنَّهُ نَذَرَ عَلَى وَجْهِ الْمُجَازَاةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ فَعَلَيْهِ اعْتِكَافُ شَهْرٍ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ، وَإِلَّا فَمَذْهَبُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اعْتِكَافِ شَهْرٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ نُصَّ عَلَيْهِ فِي النُّذُورِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْحَجِّ بَاقِيًا أَتَمَّ اعْتِكَافَهُ ثُمَّ خَرَجَ لِحَجِّهِ، وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ الْحَجِّ خَرَجَ مِنَ الِاعْتِكَافِ، وَمَضَى فِي حَجِّهِ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَقْوَى مِنَ الِاعْتِكَافِ، وَأَوْكَدُ فَإِذَا عَادَ اسْتَأْنَفَ لِأَنَّهُ اخْتَارَ قَطْعَ اعْتِكَافِهِ بِالْإِحْرَامِ، فَلَوْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ أَتَمَّ اعْتِكَافَهُ، ثُمَّ خَرَجَ لِعُمْرَتِهِ، لِأَنَّ وَقْتَ الْعُمْرَةِ لَا يَفُوتُهُ فَلَوْ خَرَجَ مِنَ اعْتِكَافِهِ قَبْلَ إِتْمَامِهِ اسْتَأْنَفَ.
فَصْلٌ
: لَيْسَ لِلْعَبْدِ، وَلَا لِلْمُدَبَّرِ، وَلَا لِأُمِّ الْوَلَدِ أَنْ يَعْتَكِفُوا إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِمْ فَإِنِ اعْتَكَفُوا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، كَانَ لَهُ مَنْعُهُمْ، وَإِنِ اعْتَكَفُوا بِإِذْنِهِ كَانَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ مَكَّنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ.
فَصْلٌ
: فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ فِي النَّذْرِ، فَنَذَرُوا الِاعْتِكَافَ بِإِذْنِهِ، وَأَرَادَ مَنْعَهُمْ مِنْهُ، فَذَلِكَ ضربان:(3/505)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ النَّذْرِ مُعَيَّنًا كَأَنَّهُمْ نَذَرُوا اعْتِكَافَ شَهْرِ رَجَبٍ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُمْ مِنَ اعْتِكَافِهِ، لِأَنَّ اعْتِكَافَهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَمَانُ النَّذْرِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَأَنَّهُمْ نَذَرُوا اعْتِكَافَ شَهْرٍ مُطْلَقٍ، فَلَمَّا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الِاعْتِكَافِ فَلَهُ مَنْعُهُمْ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَمِهِمْ، وَهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ تَأْخِيرِهِ وَإِنْ دَخَلُوا فِي الِاعْتِكَافِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَتَابِعًا.
وَالثَّانِي: غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَتَابِعٍ فَلَهُ مَنْعُهُمْ مِنْهُ، لِأَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ تَفْرِيقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَتَابِعًا، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُمْ مِنْهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ بِالدُّخُولِ فِيهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُكَاتِبُ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ أَمْلَكُ لِمَنَافِعِهِ وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ، إِلَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنْ قُوتِهِ، فَيَكُونَ حِينَئِذٍ لَهُ مَنْعُهُ بَعْدَ الْعَجْزِ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الَّذِي قَدْ عُتِقَ نِصْفُهُ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُهَايَأً، فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا وَيَخْدِمَ سَيِّدَهُ يَوْمًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُهَايَأٍ، فَلَيْسَ لَهُ الِاعْتِكَافُ، إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب.(3/506)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الحج
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْحَجَّ عَلَى كُلِّ حُرٍّ بالغٍ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْحَجُّ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْقَصْدُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الطَّرِيقُ مَحَجَّةً، لِأَنَّهُ يُوصِلُ إِلَى الْمَقْصِدِ. قَالَ الشاعر:
(يحج مأمومةً في قعرها لجفٌ ... فَاسْتُ الطَّبِيبِ قَذَاهَا كَالْمَغَارِيدِ)
فَعَلَى هَذَا سُمِّيَ بِهِ النُّسُكُ لِأَنَّ الْبَيْتَ مَقْصُودٌ فِيهِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ الْعَوْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمِنْهُ قول الشاعر:
(وأشهد من عوفٍ حلولاً كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُعَصْفَرَا)
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: يحجون أي يكثرون التردد إليه لسودده فَسُمِّي بِهِ الْحَجُّ حَجًّا، لِأَنَّ الْحَاجَّ يَأْتِي إِلَيْهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الْإِقَامَةِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مِنًى ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِ لِطَوَافِ الصَّدْرِ فَيَتَكَرَّرُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ حَجٌّ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْحَجُّ فِي الشَّرْعِ عَلَى قَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عَلَى أَوْصَافٍ نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ، وَالْأَصْلُ فِي إِثْبَاتِ فَرْضِ الْحَجِّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأًَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) {الحج: 27) فَخَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ يَبْلُغُ نِدَائِي فَقَالَ لَهُ تَعَالَى عَلَيْكَ النِّدَاءُ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ، فَصَعِدَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْمَقَامِ، وَقَالَ عِبَادَ اللَّهِ أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ، فَأَجَابَ مَنْ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، لبيك أداعي رَبِّنَا لَبَّيْكَ فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَحُجُّ إِلَّا مَنْ أَجَابَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُوِيَ عن(4/3)
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَجَابَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَجِّ بِالتَّلْبِيَةِ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَتِمّوا الحجَّ وَالعُمْرَةَ لِلهِ) {البقرة: 196) أي افعلوها عَلَى التَّمَامِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) الْآيَةَ وَفِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ) {آل عمران: 97) ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، {فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الإسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) {آل عمران: 85) قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحَجُّهُمْ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَحُجُّوا فَقَالَ لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا وَأَبَوْا أَنْ يَحُجُّوا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ الشافعي: وما أشبه ما قال عكرمة عن مسلم عن سعيد بما قال.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: ومن كفر هو من إن حَجَّ لَمْ يَرَهُ بِرًّا وَإِنْ جَلَسَ لَمْ يَرَهُ مَأْثَمًا وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، وَمَنْ كَفَرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالِمَيْنِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خمسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ " إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَقَامَ رجلٌ فَقَالَ أَفِي كُلِّ عامٍ فَلَمْ يُجِبْهُ فَأَعَادَ ثَالِثَةً فَقَالَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَكَفَرْتُمْ أَلَا وَادِعُونِي مَا وَادَعْتُكُمْ " وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حاجةٌ ظاهرةٌ أَوْ مرضٌ حابسٌ أَوْ سلطانٌ جَائِرٌ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا قِيلَ: مَنْ يَرَهُ وَاجِبًا كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَقِيلَ بَلْ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَالزَّجْرِ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحِجُّوا قَالُوا: وَمَا شَأْنُ الْحَجِّ قَالَ: يَقْعُدُ أَعْرَابُهَا عَلَى أَدْنَابِ أَوْدِيَتِهَا فَلَا يَصِلُ إِلَى الْحَجِّ أحدٌ.(4/4)
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَجِّ فَوُجُوبُهُ مُعْتَبَرٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: الْبُلُوغُ لِأَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لَا حَجَّ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثٍ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَلِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا بَلَغَ ". فَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ الْحَجِّ لَسَقَطَتِ الْإِعَادَةُ عَنْهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْلُ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ " وَذَكَرَ فِيهَا الْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ يُجَنُّ، وَيُفِيقُ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، فَإِذَا حَجَّ مُفِيقًا أَجْزَأَ عَنْهُ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا حَجَّ عَلَيْهِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَيُّمَا عبدٍ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا عُتِقَ.
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا حَجَّ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا هَاجَرَ يَعْنِي بِالْهِجْرَةِ الْإِسْلَامَ.
وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: الِاسْتِطَاعَةُ وَهِيَ ضَرْبَانِ:
اسْتِطَاعَةُ مَكَانٍ.
وَاسْتِطَاعَةُ زَمَانٍ وَسَنُبَيِّنُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) وَلِعَدَمِ تَكْلِيفِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْحَجِّ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْخَمْسَةِ فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، وَالْإِجْزَاءِ جَمِيعًا، وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ، فَإِنْ حَجَّ قَبْلَ كَمَالِهَا لَمْ يُجْزِهِ.
وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الْإِجْزَاءِ، فَإِنْ حج غير مستطيع أجزأ عنه.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ حَجَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي دَهْرِهِ فَلَيْسَ عليه غيرها ".(4/5)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ فَرْضُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا يَجِبُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَتَكَرَّرُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران 97) وَمَنْ حَجَّ مَرَّةً فَقَدِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ، وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ " فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَفِي كُلِّ عَامٍ فَلَمْ يُجِبْهُ فَأَعَادَ ثَانِيَةً فَلَمْ يُجِبْهُ فَأَعَادَ ثَالِثَةً فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمْتُمْ بِهَا، وَلَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَكَفَرْتُمْ أَلَا فَوَادِعُونِي مَا وَادَعْتُكُمْ " وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَجَّتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ لِلْأَبَدِ، وَرَوَى طَاوُسٌ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ جَعْشَمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لَنَا قضاء قومٌ كأنما ولدوا اليوم عمرتنا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ فَقَالَ: بَلْ لِلْأَبَدِ وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ وَالْتِزَامِ مَؤُونَةٍ وَفِي تَكْرَارِ وُجُوبِهِ مَشَقَّةٌ وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ سائر العبادات.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالِاسْتِطَاعَةُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ وَاجِدًا مِنَ مَالِهِ مَا يُبَلِّغُهُ الْحَجَّ بِزَادٍ وراحلةٍ لِأَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِطَاعَةُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " زَادٌ وَرَاحِلَةٌ " وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْضُوبًا فِي بَدَنِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَرْكَبٍ بحالٍ وَهُوَ قادرٌ عَلَى مَنْ يُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِطَاعَتِهِ لَهُ أَوْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ فَيَكُونُ هَذَا مِمَّنْ لَزِمَهُ فرض الحج كما قدر ومعروف من لسان العرب أن يقول الرجل أنا مستطيع لأن أبني داري أو أخيط ثوبي يعني بالإجارة أو بمن يطيعني وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مَنْ خثعمٍ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فهل ترى أن أحج عنه؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نعم " فقالت يا رسول الله فهل ينفعه ذلك؟ فقال: " نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه " (قال الشافعي) فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قضاءها الحج عنه كقضائها الدين عنه فلا شيء أولى أن يجمع بينه مما جمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بينه وروي عن عطاء عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَبَّيْكَ(4/6)
عن شبرمة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَ كُنْتَ حَجَجْتَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فَاحْجُجْ " وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال لشيخٍ كبيرٍ لم يحج إن شئت فجهز رجلاً يحج عنك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَالِاسْتِطَاعَةُ تَنْقَسِمُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ وَمَالِهِ قَادِرًا عَلَى زَادٍ وَرَاحِلَةٍ وَاجِدًا لِنَفَقَتِهِ، وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ مَعَ إِمْكَانِ الزَّمَانِ، وَانْقِطَاعِ الْمَوَانِعِ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ إِجْمَاعًا، وَاعْتِبَارُ زَادِهِ وَرَاحِلَتِهِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ فَإِنِ اسْتَطَاعَ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْقَتَبِ رَكِبَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا رُكُوبَ مَحْمَلٍ، أَوْ سَاقِطَةٍ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي اسْتِطَاعَتِهِ.
فصل
: قال الشافعي.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ عَادِمًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ، وَحَاضِرِيهِ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْحَرَمِ دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ، وَعَدِمَ الرَّاحِلَةَ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لِأَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ تَلْحَقُهُ فِي مَشْيِ هَذِهِ الْمَسَافَةِ، فَصَارَ كَمَنْ سَمِعَ آذَانَ الْجُمُعَةِ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِلَيْهَا، وَإِنْ عَدِمَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ جَمِيعًا، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَا صَنْعَةٍ يَكْتَسِبُ بِهَا قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، وَيَفْضُلُ لَهُ مَؤُونَةُ حَجِّهِ، فَعَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَا فَضَلَ عَنِ الْكِفَايَةِ، وَقَدْ فَضَلَ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكْتَسِبَ بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، وَمَتَى اشْتَغَلَ بِالْحَجِّ أَضَرَّ بِعِيلَتِهِ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ، وَمَقَامُهُ عَلَى عِيَالِهِ أَولَى لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كَفَى الْمَرْءَ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ".
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعِيدَ الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَمِ مَسَافَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَأَكْثَرُ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أبي حنيفة وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا كَانَ مُكْتَسِبًا إِمَّا بِصَنْعَةٍ، أَوْ مَسْأَلَةٍ، وَنَحْوِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ تَعَلَّقَا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً) {الحج: 27) وَقُرِئَ رِجَّالًا مُشَدَّدًا أَيْ مُشَاةً، وَلَهُ يَأْتُوكَ مَعْنَاهُ لِيَأْتُوكَ رِجَالًا فَأَخْبَرَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ عَلَى الْمُشَاةِ، وَالرُّكْبَانِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) وَذَلِكَ عَلَى عُمُومِ الظَّاهِرِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْأَبْدَانِ يَجِبُ عَلَى(4/7)
الْأَعْيَانِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِهِ الْمَالُ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) وَفِيهَا دَلِيلَانِ.
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ.
وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الْبَيَانِ فَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ، إِذَا وَرَدَ مُطْلَقًا، كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى أَدَائِهَا شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا، فَلَمَّا ضَمَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِطَاعَةِ، قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى غَيْرِ مُسْتَطِيعٍ، لَا يَجُوزُ دَلَّ عَلَى أَنَّ انْضِمَامَ ذَلِكَ لِفَائِدَةٍ، وَهُوَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، وَأَمَّا الْبَيَانُ، فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ) {آل عمران: 97) قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: زادٌ وَرَاحِلَةٌ فَصَارَ هَذَا بَيَانًا مِنْهُ لِجُمْلَةِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا سَأَلَ الرَّجُلُ عَنِ اسْتِطَاعَةِ نَفْسِهِ قِيلَ لَفْظَةُ السُّؤَالِ تَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ، لِأَنَّهُ قَالَ مَا الِاسْتِطَاعَةُ فَسَأَلَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْهُودٍ أَوْ مَذْكُورٍ وَالْمَذْكُورُ مَا فِي الْآيَةِ، وَالْمَعْهُودُ اسْتِطَاعَةُ كُلِّ النَّاسِ فَسَقَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ اسْتِطَاعَةَ السَّائِلِ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " السَّبِيلُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ " فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِحُكْمِ الْآيَةِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: من وجد زاد وَرَاحِلَةً، وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا عَلَّقَ الْوَعِيدَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، عُلِمَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ مَا يُوجِبُ الْحَجَّ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا كَالْجِهَادِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: {يَأْتُوكَ رِجَالاً) {الحج: 97) فَقِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ رِجَالًا، بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ.
فَصْلٌ
: وَالِاسْتِطَاعَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ مَعْضُوبًا فِي بَدَنِهِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى مَرْكَبٍ لِضَعْفِهِ وَزَمَانَتِهِ فَفَرْضُ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، إِذَا كَانَ فَرْضُهُ غَيْرَ مَرْجُوٍّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ قَدَرَ عَلَى(4/8)
الْحَجِّ قَبْلَ زَمَانَتِهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا حَجَّ عَلَيْهِ بِحَالٍ وَلَا يَجُوزُ، أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ جَازَ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى) {النجم: 39) وَفِعْلُ غَيْرِهِ لَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ، وَبُقُولِهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) وَالْمَعْضُوبُ لَا يَسْتَطِيعُ السَّبِيلَ إِلَيْهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهَا مَعَ الْعَجْزِ كَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ؟ فَقَالَ زادٌ وراحلةٌ فَصَارَ وُجُوبُ الْحَجِّ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ.
وَرَوَى سَلْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مَنْ خَثْعَمٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ تَرَى أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ، قال: نعم قالت: أو ينفعه ذَاكَ، فَقَالَ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، وَعَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ عَنْهُ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَعْضُوبِ كَالصِّيَامِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ للإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى) {النجم: 39) فَقَدْ وَجَدَ مِنَ الْمَعْضُوبِ السَّعْيَ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَالِ، وَالِاسْتِئْجَارُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ بِحَالٍ.
فَصْلٌ
: وَالِاسْتِطَاعَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ لِفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ لَكِنْ يَجِدُ مَنْ يَبْذُلُ لَهُ الطَّاعَةَ، وَيَنُوبُ عَنْهُ فِي الْحَجِّ فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ قَبْلَهُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ.
قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: لَا حَجَّ عَلَيْهِ تَعَلُّقًا بقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " السُّبِيلُ زادٌ وراحلةٌ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ بِبَذْلِ طَاعَةِ الْغَيْرِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ ضَرْبَانِ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْدَانِ، فَيَجِبُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا بِالْبَدَنِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْوَالِ، فَيُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهَا مِلْكُ الْمَالِ كَالزَّكَاةِ فَأَمَّا أَنْ تَجِبَ عِبَادَةٌ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ فَغَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُصُولِ، وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ هُوَ أَنَّهَا بَذَلَتِ الطَّاعَةَ لِأَبِيهَا وَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْحَجِّ عَنْهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ جَرَى لِلْمَالِ ذِكْرٌ، عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ، وَجَبَ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، لِأَنَّهُ السَّبَبُ الْمَنْقُولُ وَرَوَى عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شيخٌ كبيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ وَلَا الظَّعْنَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حج(4/9)
عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ إِلَّا بِبَذْلِ الطَّاعَةِ لَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ موسراُ فَلَزِمَهُ الْفَرْضُ بِيَسَارِهِ، لَا بِابْنِهِ قِيلَ الْفَرْضُ بِالْيَسَارِ، لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الِابْنِ وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَى الْأَبِ وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِنَّ أُمِّي أَسْلَمَتْ وَهِيَ كبيرةٌ لَا تَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهَا وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ الْحَجُّ نَذْرًا جَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْحَجُّ فَرْضًا كَالْمَعْضُوبِ الْمُوسِرِ، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ فَوَجَبَ، أَنْ يَلْزَمَهُ فَرْضُهُ كَالْقَادِرِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " السَّبِيلُ زادٌ وراحلةٌ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَنِ اسْتَطَاعَ زَادًا وَرَاحِلَةً، وَهُوَ بِطَاعَةِ الْغَيْرِ لَهُ مُسْتَطِيعٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، وَنَحْنُ نقول لا يلزمه بذل الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مِمَّا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِبَادَاتِ ضَرْبَانِ فَبَاطِلٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ، ثُمَّ تَجِبُ على الغير، وتبطل أيضاً بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَجَّ لَهُ لَازِمٌ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَاذِلُ مِنْ أَهْلِ الْحَجِّ فَيَجْمَعُ الْبُلُوغَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، لِأَنَّ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَّى فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ لِتَصِحَّ النِّيَابَةُ عَنْ غَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِلزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي الْمَبْذُولِ لَهُ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الْبَاذِلِ أَوْلَى إِذْ لَيْسَ حَالُ الْبَاذِلِ أَوْكَدَ مِنَ الْتِزَامِ الْفَرْضِ مِنَ الْمَبْذُولِ لَهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الشَّرْطَ فِي بَلَدِهِ لِلطَّاعَةِ، وَإِنِ اعْتَبَرَهُ فِي فَرْضِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْتِزَامَ الطَّاعَةِ بِاخْتِيَارِهِ، فَصَارَ كَحَجِّ النَّذْرِ، وَخَالَفَ بِهِمَا ابْتِدَاءً الْفَرْضَ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَبْذُولُ لَهُ وَاثِقًا بِطَاعَةِ الْبَاذِلِ، عَالِمًا أَنَّهُ مَتَى أَمَرَهُ بِالْحَجِّ امْتَثَلَ أَمْرَهُ، لِأَنَّ قُدْرَةَ الْبَاذِلِ قَدْ أُقِيمَتْ مَقَامَ قُدْرَتِهِ فَافْتَقَرَ إِلَى الثِّقَةِ بِطَاعَتِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَرَضًا لَا يُوثَقُ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الْأَرْبَعَةُ نُظِرَ حِينَئِذٍ فِي الْبَاذِلِ فَإِنْ كَانَ مِنْ وَالِدَيْهِ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوْ مَوْلُودٍ بِهِ ابْنًا أَوْ بِنْتًا فَقَدْ لَزِمَهُ الْفَرْضُ بِبَذْلِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَلَدٍ وَلَا وَالِدٍ فَفِي لُزُومِ الْفَرْضِ بِبَذْلِهِ وَجْهَانِ:(4/10)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الإملاء " والمبسوط، أَنَّهُ كَالْوَلَدِ فِي لُزُومِ الْفَرْضِ بِبَذْلِ طَاعَتِهِ، لِكَوْنِهِ مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ فِي الْحَالَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَلْزَمُ بِبَذْلِ غَيْرِ وَلَدِهِ لما يلحقه من. . فِي قَبُولِهِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْوَالِدِ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ فِي الْقِصَّاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ مُخَالِفٌ غَيْرَهُ فِي بَذْلِ الطَّاعَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ اعْتِذَارٌ وَتَقْرِيبٌ خَارِجٌ عَنْ مَعْنَى الْأَصْلِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا كَمُلَتِ الشَّرَائِطُ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا فَرْضُ الْحَجِّ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ، فَعَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ الطَّاعَةُ أَنْ يَأْذَنَ لِلْبَاذِلِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، بِوُجُوبِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ إِذَا أَذِنَ لَهُ، وَقَبِلَ الْبَاذِلُ إِذْنَهُ، فَقَدْ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مَتَى شَاءَ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَبُولِ، فَإِنْ قِيلَ: فَبَذْلُهُ لِلطَّاعَةِ وَقَبُولُهُ لِلْإِذْنِ جَارٍ مَجْرَى الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الرُّجُوعِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، قِيلَ: قَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ بَذْلَهُ لِلطَّاعَةِ قَدْ أَلْزَمَ غَيْرَهُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ، وَفِي رُجُوعِهِ إِسْقَاطٌ لِلْفَرْضِ قَبْلَ أَدَائِهِ، وَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ بَعْدَ وُجُوبِهِ إِلَّا بِأَدَائِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْبَذْلِ وَالْقَبُولِ، وَلَيْسَتِ الْهِبَةُ مِنْ هَذَا السَّبِيلِ عَلَى أَنَّ قَبُولَهُ الْإِذْنَ بَعْدَ الْبَذْلِ يَجْرِي مَجْرَى الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ بَذَلَ الْمَاءَ لِغَيْرِهِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِقْبَاضُهُ وَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَلْزَمَ غَيْرَهُ فَرْضًا بِبَذْلِهِ فَهَلَّا كَانَ فِي بَذْلِ الْحَجِّ كَذَلِكَ، قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَذْلَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِفَرْضِ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا غَيَّرَ صِفَةَ الْأَدَاءِ وَبَذْلُ الْحَجِّ أَوْجَبَ فَرْضَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَبْذُولَ لَهُ الْمَاءُ يَرْجِعُ إِلَى بذل يَقُومُ مَقَامَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ وَلَيْسَ لِلْحَجِّ بَدَلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمَبْذُولُ لَهُ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ، وَعَلَى الْبَاذِلِ أَنْ يَحُجَّ فَإِنِ امْتَنَعَ الْمَبْذُولُ لَهُ مِنَ الْإِذْنِ، فَهَلْ يَقُومُ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي الْإِذْنِ لِلْبَاذِلِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَقُومُ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، فَيَأْذَنُ لِلْبَاذِلِ فِي الْحَجِّ لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ لَزِمَهُ وَمَتَى امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، قَامَ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فِي اسْتِيفَاءِ مَا لَزِمَهُ كَالدَّيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنَّ إِذْنَ الْحَاكِمِ لَا يَقُومُ مَقَامَ إِذْنِهِ لِأَنَّ الْبَذْلَ كَانَ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَذِنَ الْمَبْذُولُ لَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ انْتَقَلَ الْفَرْضُ عَنْهُمْ إِلَى الْبَاذِلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ حَتَّى مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَفَرْضُ الْحَجِّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ حَجَّ الْبَاذِلُ بِغَيْرِ إِذَنِ الْمَبْذُولِ لَهُ كَانَتِ الْحَجَّةُ(4/11)
وَاقِعَةً عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْحَيِّ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَكَانَ فَرْضُ الْحَجِّ بَاقِيًا عَلَى الْمَبْذُولِ لَهُ.
فَصْلٌ
: وَالِاسْتِطَاعَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ وَفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ لَكِنْ يَبْذُلُ مِنَ الْمَالِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، فَإِنْ قَبِلَ الْمَالَ لَزِمَهُ الْحَجُّ لِحُدُوثِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ نُظِرَ فِي الْبَاذِلِ لِلْمَالِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ وَلَا وَلَدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولَ الْمَالِ، وَفَارَقَ قَبُولَ الطَّاعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لُحُوقُ الْمِنَّةِ فِي قَبُولِ الْمَالِ وَعَدَمُهَا فِي قَبُولِ الطَّاعَةِ، لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ مَا يَلْزَمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ فِيهَا بِالْغَيْرِ كَاسْتِعَارَةِ ثَوْبٍ وَتَعَرُّفِ الْقِبْلَةِ، وَلَيْسَ عِبَادَةً يَلْزَمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ فِيهَا بِمَالِ الْغَيْرِ.
وَالثَّانِي: أن في قبول المال ومملكه إِيجَابَ سَبَبٍ يَلْزَمُهُ بِهِ الْفَرْضُ، وَهُوَ الْقَبُولُ وَرُبَّمَا حَدَثَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ كَانَتْ سَاقِطَةً، فَيَلْزَمُهُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَيْهَا مِنْ وُجُوبِ نَفَقَةٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَذْلُ الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَهُ طَايِعًا، فَقَدْ لَزِمَهُ الْفَرْضُ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ سَبَبٍ، وَلَا خَوْفِ مَا يَلْزَمُهُ صَرْفُ الطَّاعَةِ إِلَيْهِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْبَاذِلُ وَالِدًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَصَحُّهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَالِ مِنْهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَالِ مِنْهُ لِأَنَّ الِابْنَ يُخَالِفُ غَيْرَهُ فِي بَابِ الْمِنَّةِ، فَأَمَّا إِنْ بَذَلَ لَهُ الْمَالَ صَارَ فَرْضًا فِي ذِمَّتِهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، وَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِمَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الدَّيْنِ بِذِمَّتِهِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ طَارِقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا وَجَدَ مَنْ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ أَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ فَقَالَ: " لَا ".
فَصْلٌ
: وَالِاسْتِطَاعَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِبَدَنِهِ قَادِرًا عَلَى نَفَقَةِ ذَهَابِهِ دُونَ عَوْدِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِهِ، أَوْ لَا أَهْلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ حَتَّى يَجِدَ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ انْقِطَاعِ أَهْلِهِ، وَتَضْيِيعِهِمْ وَمُقَاسَاةِ الْوَحْشَةِ فِي الْبُعْدِ عنهم ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِهِ وَقَدْ وَجَدَ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ دُونَ عَوْدِهِ، فَفِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ لِأَنَّ مُقَامَهُ بِمَكَّةَ كَمُقَامِهِ بِبَلَدِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ.(4/12)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَجَّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَوْحِشُ بِغُرْبَتِهِ، وَمُفَارَقَةِ وَطَنِهِ كَمَا يَسْتَوْحِشُ بِمُفَارَقَةِ أَهْلِهِ.
فَصْلٌ
: وَالِاسْتِطَاعَةُ السَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ، لَكِنَّهُ عَادِمٌ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ " فَكَانَ الْمُقَامُ عَلَى الْعِيَالِ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ أَوْلَى مِنَ الْحَجِّ.
فَصْلٌ
: وَالِاسْتِطَاعَةُ الثَّامِنَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ، لَكِنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ قَدْ أَحَاطَ بِمَا فِي يَدِهِ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالًّا فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالِاسْتِطَاعَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا، فَإِنْ كَانَ مَحَلُّهُ قَبْلَ عَرَفَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ أَيْضًا، كَمَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّهُ بِعَرَفَةَ فَفِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا حَجَّ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْحَجُّ، لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِهِ.
فَصْلٌ
: وَالِاسْتِطَاعَةُ التَّاسِعَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ تَاجِرٌ إِنَّ حَجَّ بِمَا فِي يَدَيْهِ، كَانَ قَدْرَ كِفَايَتِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَتَّجِرُ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَعِيشَةٌ، وَلَا صَنْعَةٌ غَيْرَ التِّجَارَةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْحَجَّ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ، وَنَفَقَةُ أَهْلِهِ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا بَعْدَهُ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَا حَجَّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَفْضُلَ مِنْ نَفَقَتِهِ قَدْرُ مَا يَتَّجِرُ بِهِ، خَوْفًا مِنْ فَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى الْمَسْأَلَةِ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ مَشَقَّةٍ.
فَصْلٌ: وَالِاسْتِطَاعَةُ الْعَاشِرَةُ
: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ، لَكِنَّ الطَّرِيقَ مُخَوِّفٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى سُلُوكِهِ، لِقِلَّةِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى، أَوْ خَوْفِ اللُّصُوصِ، فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) {البقرة: 195) .
فصل: والاستطاعة الحادية عشر
: أَنْ يَكُونَ بِمَالِهِ وَبَدَنِهِ، لَكِنَّ الْوَقْتَ يَقْصُرُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ لِبُعْدِ دَارِهِ وَدُنُوِّ زَمَانِهِ، فَلَا حَجَّ، عَلَيْهِ فِي عَامِهِ لِتَعَذُّرِ قُدْرَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَجِّ بِإِنْضَاءِ رَاحِلَتِهِ وَشِدَّةِ سَيْرِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ فِي عامه لعظم المشقة.
فصل: والاستطاعة الثانية عشر
: أَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا بِمَالِهِ، وَبَدَنِهِ لَكِنَّ فِي طَرِيقِهِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ مَالًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى بَذْلِ مَا طُلِبَ مِنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ بَذْلُ الْقَلِيلِ لَلَزِمَهُ بَذْلُ الْكَثِيرِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَى مَا لَا حَدَّ لَهُ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ فَإِنْ(4/13)
قِيلَ: فَالْأَوْلَى دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِمْ، وَالْحَجُّ مَعَهُمْ أَوِ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ الْمُقَامِ، قُلْنَا: إِنْ كَانَ طَالِبُ الْمَالِ كَافِرًا فَالْأَوْلَى الْكَفُّ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَالْقُعُودُ عَنِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ طَالِبُ الْمَالِ مُسْلِمًا، فَالْأَوْلَى دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ، وَالْخُرُوجُ مَعَهُ إِنْ كَانَ مَأْمُونًا، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِهِ، وَأَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ مَالِهِ وَنَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ حَصَرَهُ الْعَدُوُّ كَانَ لَهُ الْإِحْلَالُ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى قِتَالِهِ فَلِأَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ أَوْلَى، فَهَذِهِ أَقْسَامُ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
فَصْلٌ
: لَيْسَ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ، فَلَوْ أَنَّ مَرِيضًا تُرْجَى سَلَامَتُهُ، وَقَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَقَالَ أبو حنيفة لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، كَالْمَعْضُوبِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا فِي الْحَالِ، فَهُوَ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْهُ فَصَارَ كَالْمَحْبُوسِ، وَفَارَقَ الْمَعْضُوبَ، لِأَنَّهُ مَأْيُوسٌ مِنْهُ وَإِنِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ نُظِرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ، وَإِنْ مَاتَ فِي مَرَضِهِ نُظِرَ فِي مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، فَقَدْ أَجْزَأَهُ لِوُقُوعِ الْحَجِّ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي زَمَانٍ تَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ أَنْ حَجَّ عَنْهُ، فَفِي إِجْزَائِهِ قولان:
أصحهما: لا يجزي اعتباراً بالابتداء.
والقول الثاني: يجزي اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ، وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا تُرْجَى سلامته ولا برؤه لكونه زمناً أو معضوياً، جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ لِوُجُودِ الْإِيَاسِ مِنْ بُرْئِهِ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ قَبْلَ بُرْئِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ، وَصَارَ إِلَى حَالَةٍ يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ نُظِرَ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ بَعْدَ صِحَّتِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ حَجَّ عَنْهُ قَبْلَ صِحَّتِهِ، فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَنَّ مَا مَضَى لَا يُجْزِيهِ، وَفَرْضُ الْحَجِّ بَاقٍ عَلَيْهِ لِفَقْدِ مَا بِهِ مِنَ الْإِيَاسِ، وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُجْزِيهِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْأَعْمَى إِذَا قَدَرَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَوَجَدَ مَنْ يَقُودُهُ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ جَازَ قَالَ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ تَعَلَّقَتْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ الْأَعْمَى كَالْمُجَاهِدِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْعَمَى لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ فَقْدِ الْهِدَايَةِ بِالطَّرِيقِ، وَمَوَاضِعِ النُّسُكِ وَالْجَهْلُ بِذَلِكَ لَا يُسْقِطُ، وُجُوبَ الْقَصْدِ كَالْبَصِيرِ يَسْتَوِي حُكْمُ الْعَالَمِ بِهِ، وَالْجَاهِلِ إِذَا وَجَدَ دَلِيلًا فَكَذَلِكَ الْأَعْمَى وَلِأَنَّهُ فَقَدَ حَاسَّتُهُ فَلَمْ يَسْقُطْ بِهَا فَرْضُ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، كَالصَّمَمِ فَلَوْ كَانَ(4/14)
مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ مُسْتَطِيعًا أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، وَوَجَدَ قَائِدًا أَوْ مُعِينًا لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ، وَعِنْدَ أبي حنيفة أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ كَالْأَعْمَى، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا واحد.(4/15)
بَابُ إِمْكَانِ الْحَجِّ وَأَنَّهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ
قال الشافعي: رحمه الله تعالى: " وَإِذَا اسْتَطَاعَ الرَّجُلُ فَأَمْكَنَهُ مَسِيرُ النَّاسِ مِنْ بَلَدِهِ فَقَدْ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَإِنْ مَاتَ قُضِيَ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ لِبُعْدِ دَارِهِ وَدُنُوِّ الْحَجِّ مِنْهُ وَلَمْ يَعِشْ حَتَّى يُمْكِنَهُ مِنْ قَابِلٍ لَمْ يَلْزَمْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا الشَّرَائِطَ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ، فَأَمَّا الشَّرْطُ فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ، فَهُوَ أَنْ يُمْكِنَهُ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ الْمَسِيرُ مِنْ بَلَدِهِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ فِي سَيْرِهِمْ، فَيُوَافِي الْحَجَّ فِي عَامِهِ فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ مِثْلُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهِ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ فِي ذِمَّتِهِ لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، فَإِنْ مات قيل أَنْ يَحُجَّ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَسِيرُ فِي عَامِهِ لِبُعْدِ دَارِهِ، ودنوا الْحَجِّ مِنْهُ أَوْ أَمْكَنَهُ بِمُفَارَقَةِ عَادَةِ النَّاسِ فِي سَيْرِهِمْ، فَفَرْضُ الْحَجِّ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي ذِمَّتِهِ، لِتَعَذُّرِ الْأَدَاءِ فَإِنْ مَاتَ فِي عَامِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ، مِثَالُ ذَلِكَ الصَّلَاةُ تَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَيَسْتَقِرُّ فَرْضُهَا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ وَجَبَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَإِذَا مَرَّ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ فَلَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ زَمَانِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ، وَلَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَمَانِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ كَذَلِكَ فِي الْحَجِّ إِنْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، فَلَا قَضَاءَ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ، لَيْسَ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ وُجُوبِ الْحَجِّ وَقَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْ جُنَّ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ زَمَانِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَلَيْسَ هَذَا بِصَوَابٍ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا اسْتَقَرَّ فَرْضُ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، وَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَصَّى بِهِ أَمْ لَا وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، كَانَ الْوَارِثُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَضَاهُ عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْضِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ بِمَوْتِهِ وَصَّى بِهِ أَمْ لَا، فَإِنْ وَصَّى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ تَطَوُّعًا فِي ثَلَاثَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) وَالْمَيِّتُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِفَرْضٍ وَلَا مُسْتَطِيعٍ(4/16)
لِحَجٍّ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَعَلَّقَتْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْمَوْتِ كَالْجِهَادِ، وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى، فَشَبَّهَ الْحَجَّ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْحُكْمِ وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حَجَّ عَنْ وَالِدَيْهِ وَلَمْ يحجا أجزأه عنهما ونشرت أرواحهما وكتبت عِنْدَ اللَّهِ بَرًّا وَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ بِالْمَوْتِ كَالدُّيُونِ مَعَ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ " إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا حَجٌّ فَقَالَ لَهَا: " حُجِّي عَنْهَا " فَأَمَرَهَا بِالْحَجِّ عَنْهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا أَوْصَتْ لَهَا أَمْ لَا؟ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ ذَكَرَ مِنْهَا حَجٌّ يُقْضَى فأما الآية فلا دليل فيهما لِأَنَّ التَّكْلِيفَ وَالِاسْتِطَاعَةَ إِنَّمَا لَزِمَاهُ فِي حَالِ حياته وما على الصلاة فبعيد لأنهما لا تسقط بالموت إنما تصح النيابة فيهما فكذلك لم يؤمر لقضائها وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَصِحُّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، كَذَلِكَ بعد الوفاة.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا النِّيَابَةُ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ، فَلَا تَجُوزُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ، وَإِنْ وَصَّى بِهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ في أعمال الأبدان أن النيابة فيها لَا تَجُوزُ وَإِنَّمَا جَازَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ولأجل الضَّرُورَةِ وَتَعَذُّرِ أَدَاءِ الْفَرْضِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي التَّطَوُّعِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ كُلَّمَا صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهِ صَحَّتِ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهِ أَصْلُهُ: الصَّدَقَاتُ، وَعَكْسُهُ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ النِّيَابَةِ فِيهِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ، وَاسْتَحَقَّ الْأَجِيرُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ النِّيَابَةَ فِيهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَقَعَ الْحَجُّ عَنِ الْأَجِيرِ، وَهَلْ لَهُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا أُجْرَةَ لَهُ لِوُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ، كَمَا لَوِ اسْتُؤْجِرَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَزِمَهُ رَدُّ الْأُجْرَةِ لِوُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ.
وَالْقَوْلِ الثَّانِي: لَهُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَمَلَهُ بِأَدَائِهِ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، فَصَارَ كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِحُمُولَةٍ فَحَمَلَهَا، ثُمَّ بَانَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ أَعْطَاهُ حُمُولَةَ غَيْرِهِ، فَالْأُجْرَةُ لَهُ مُسْتَحَقَّةٌ، وَفَارَقَ أَنْ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ انْتِقَالَ الْحَجِّ إِلَى نَفْسِهِ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ.(4/17)
وَالثَّانِي: أَنَّ عَمَلَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْلَفْ لِأَنَّهُ قَدْ أُسْقِطَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ، فَبِهَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ اختلفا في رد الأجرة.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كان عام جذب، أَوْ عطشٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، أَوْ كَانَ خَوْفَ عَدُوٍّ، وَأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِلسَّبِيلِ، لَمْ يَلْزَمْهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا قَوْلُهُ: عَامَ جَدْبٍ يُرِيدُ بِهِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قِلَّةُ الْعُشْبِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْكَلَأِ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ الْمِيرَةِ، وَالزَّادِ أَوْ وُجُودُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فِي وَقْتِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَزَوَّدُوا مِنْهُ، لِأَنَّ الْوَاجِدَ لِلشَّيْءِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ، فِي حُكْمِ الْعَادِمِ لَهُ كَالْمُسَافِرِ يَتَيَمَّمُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فَإِذَا وَجَدَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ تَيَمَّمَ أَيْضًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ عَطَشٍ يُرِيدُ بِهِ عَدِمَ الْمَاءَ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ وُجُودَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يُرِيدُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَمَا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنْ قِرْبَةٍ، أَوْ مَحْمَلٍ أَوْ زَامِلَةٍ، وَالْحُكْمُ فِي عَدَمِهِ كَالْحُكْمِ فِي عَدَمِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ كَانَ خَوْفَ عَدُوٍّ يُرِيدُ مَانِعًا مِنَ الْحَجِّ، إِمَّا بِطَلَبِ مَالٍ، أَوْ نَفْسٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَامًّا فَأَمَّا إِنْ طَلَبَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي إِسْقَاطِ الْحَجِّ عَنْهُ، وَكَانَ كَالْمَرِيضِ لِإِمْكَانِ فِعْلِ الْحَجِّ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ، أَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا سَقَطَ فَرْضُ الْحَجِّ لِأَجْلِهَا وَبِاللَّهِ التوفيق.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمْ يَبْنِ عَلَى أنْ أُوجِبَ عَلَيْهِ رُكُوبَ الْبَحْرِ لِلْحَجِّ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَهْلُ الْبَرِّ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ رُكُوبُ الْبَرِّ لِخَوْفٍ فِيهِ، أَوْ مَانَعٍ وَأَمْكَنَهُمْ رُكُوبُ الْبَحْرِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ رُكُوبُهُ، وَفَرْضُ الْحَجِّ سَاقِطٌ عَنْهُمْ مَا كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُمْ لِمَا يَعْتَرِضُهُمْ في البحر من عظيم الخوف، ومن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْبَحْرُ نارٌ فِي نارٍ " وَأَمَّا سُكَّانُ الْبَحْرِ وَمَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ فِي الْبَرِّ، فَرُكُوبُ الْبَحْرِ يَلْزَمُهُمْ فِي الْحَجِّ إِذَا أَمْكَنَهُمْ سُلُوكُهُ، وَكَانَ غَالِبُهُ السَّلَامَةَ فَإِذَا اعْتَرَضَهُمُ الْخَوْفُ فَهُمْ كَأَهْلِ الْبَرِّ إِذَا خَافُوا، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ، فَلَا مَعْنَى لِمَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَنْهَارِ وَالْبِحَارِ الصِّغَارِ، بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ صِغَارِ الْبَحْرِ وَكِبَارِهَا وَاللَّهُ تعالى أعلم بالصواب.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنْ عطاءٍ وطاوسٍ أَنَّهُمَا قَالَا الْحَجَّةُ الْوَاجِبَةُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ".(4/18)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا مَاتَ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ بِمَوْتِهِ لِمَا دَلَّلَنَا عَلَيْهِ، وَوَجَبَ قَضَاؤُهَا عَنْهُ، وَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُوصِيَ فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا وَجَبَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ قِيَاسًا عَلَى الدُّيُونِ للآدميين ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فدين الله أحق أن يقضى " فأما النُّذُورُ وَالْكَفَّارَاتُ وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُخْرَجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، وَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُخْرَجُ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَزِمَهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَكَانَ أَضْعَفَ حَالًا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِالشَّرْعِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ هذا منكسر بالدين، فإذ تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونُ الْآدَمِيِّينَ، وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَإِنِ اتَّسَعَ مَالُهُ لِقَضَاءِ الْجَمِيعِ فَذَاكَ، فَإِنْ ضَاقَ عَنْهَا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: تُقَدَّمُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى ".
وَالثَّانِي: تُقَدَّمُ دُيُونُ الْآدَمِيِّينَ لِتَعَلُّقِهَا بِخَصْمٍ حَاضِرٍ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَعَلَيَّ دَيْنٌ قَالَ اقْضِ دَيْنَكَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُقَسَّمَ بِالْحِصَصِ.
فَصْلٌ
: فَإِنْ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ.
وَالثَّانِي: مِنْ ثُلُثِهِ.
وَالثَّالِثُ: تُطْلَقُ الْوَصِيَّةُ، فَإِنْ وَصَّى بِإِخْرَاجِهَا من رأس ماله، وكان وَصِيَّتُهُ أَفَادَتِ الْإِذْكَارَ وَالتَّأْكِيدَ، وَإِنْ وَصَّى بِإِخْرَاجِهَا مِنْ ثُلُثِهِ أُخْرِجَتْ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَكَأَنَّهُ قَدْ وَفَّرَ عَلَى وَرَثَتِهِ فَإِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا وَجَبَ إِتْمَامُهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ بِهَا فَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي ثُلُثِهِ، وَلَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوصِيَ مَعَهَا بِمَا يَكُونُ فِي الثُّلُثِ مِثْلَ عِتْقٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّةَ فِي رَأْسِ مَالِهِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة تكون(4/19)
فِي ثُلُثِهِ، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ مَا هُوَ فِي الثُّلُثِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ أَنْ تَكُونَ الْحَجَّةُ فِي الثُّلُثِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَا يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْحُكْمِ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوصِيَ بِإِخْرَاجِهَا مُفْرَدَةً، وَلَا يُوصِيَ مَعَهَا بِشَيْءٍ سِوَاهَا فَمَذْهَبُ سَائِرِ أَصْحَابِنَا، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَهُمْ أَنَّهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَكُونُ فِي الثُّلُثِ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ إِخْرَاجَهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، لَأَمْسَكَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِهَا وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهَا لَا تَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِهَا مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ إِذْكَارُ وَرَثَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويستأجر عَنْهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَقَلَّ مَا يُؤَجِّرُ مِنْ مِيقَاتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا جَوَازَ الْإِجَارَةِ فِي الْحَجِّ وَسَنَدُلُّ عَلَيْهِ فِي بَابِهِ، وَنَذْكُرُ خِلَافَ أبي حنيفة وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي تُفْعَلُ عَنِ الْغَيْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ عَنِ الْغَيْرِ، وَيَعُودُ ثَوَابُهُ إِلَيْهِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي جَوَازِ فِعْلِهِ بِإِجَارَةٍ لَازِمَةٍ، وَجَعَالَةٍ وَمَعُونَةٍ كَالْحَجِّ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَكَتْبِ الْمَصَاحِفِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الْغَيْرُ عَنِ الْغَيْرِ، فَإِنْ فُعِلَ عَادَ ثَوَابُهُ إِلَى الْفَاعِلِ، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِإِجَارَةٍ، وَلَا جَعَالَةٍ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ عَنِ الْغَيْرِ لَكِنْ إِنْ فَعَلَ عَنِ الْغَيْرِ عَادَ إِلَيْهِ نَفْعُهُ، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِإِجَارَةٍ لَازِمَةٍ، وَيَجُوزُ فِعْلُهُ بِرِزْقٍ وَجَعَالَةٍ كَالْجِهَادِ، وَالْأَذَانِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِمَامَةِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا وَجَبَ الْحَجُّ فِي مال اسْتُؤْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى هَذَا فَلَا تَجُوزُ إِلَّا بِوَصِيَّةٍ فِي الثُّلُثِ، لِأَنَّ أَوَّلَ أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَمَا قَبْلَهُ مَسَافَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ، كَمَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الطَّهَارَةِ بطل بالماء وَإِلَى الصَّلَاةِ، بِالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ، وَلَيْسَ ذلك من أفعال الطهارة والصلاة.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَحُجُّ عَنْهُ إِلَّا مَنْ قَدْ أَدَّى الْفَرْضَ مَرَّةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَجَّ فَهِيَ عَنْهُ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ فُلَانٍ فَقَالَ لَهُ " إِنَ كُنْتَ حَجَجْتَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فاحجج عن نفسك " وعن ابن عباس أنه سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ:(4/20)
" لبيك عن شبرمة " فقال: ويحك! " ومن شبرمة؟ " فأخبره فقال " احجج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يُؤَدِّ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَمْكَنَهُ الْحَجُّ أَمْ لَا. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ جَازَ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ قَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، فَهَلْ تَرَى أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ، تَقَدُّمَ حَجِّهَا عَنْ نَفْسِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَبَّهَ قَضَاءَ الْحَجِّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَبِرِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ نُبَيْشَةَ فَقَالَ: حُجَّ عَنْ نبيشةٍ ثُمَّ حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ وَهَذَا نَصٌّ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا مِثْلُهَا كَالزَّكَاةِ. وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شبرمةٍِ فَقَالَ لَهُ: أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ قَالَ: لَا قَالَ حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ.
وَرَوَى عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شبرمةٍ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَبِّ عَنْ نَفْسِكَ.
فَأَمَرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ حَجَّ نَفْسِهِ عَلَى حَجِّ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْخَبَرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَدِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِنَقْلِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ لِأَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْإِحْرَامَ قَدِ انْعَقَدَ عَنْهُ لَا عَنْ غَيْرِهِ.
قِيلَ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَنْقُلَ التَّلْبِيَةَ لَا الْإِحْرَامَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتَ حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ فَلَبِّ عَنْهُ وَإِلَّا فَلَبِّ عَنْ نَفْسِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ بِفَسْخِ مَا انْعَقَدَ مِنَ الْإِحْرَامِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ وَقْتٌ كَانَ الْفَسْخُ جَائِزًا فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَخَ الْحَجَّ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَنَقَلَهُمْ إِلَى الْعُمْرَةِ قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْفَسْخَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ(4/21)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَهُ وَكَانَ السَّبَبُ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِعْلَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَجُوزُ حَتَّى كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا برأ الدبر وعفي الْأَثَرُ وَانْسَلَخَ صَفَرٌ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا: أَنَّ الْإِحْرَامَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ.
أَصْلُهُ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَطَوَافٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْ غَيْرِهِ، مَعَ وُجُوبِ فَرْضِهَا عَلَيْهِ كَالْجِهَادِ فَأَمَّا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ، وَقَدْ رَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى فَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهَا، أَنَّهَا قَدْ أَدَّتْ فَرْضَ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهَا سِيَّمَا وَقَدْ شَاهَدَهَا فِي الْمَوَاقِفِ مَعَ النَّاسِ وَعَلَى أَنَّهَا قَصَدَتْ بِالسُّؤَالِ بِعَرَفَةَ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى أَبِيهَا، وَلَمْ تَقْصِدْ بِهِ صِفَةَ الْحَجِّ وَكَيْفِيَّةَ النِّيَابَةِ فِيهِ وَأَمَّا حَدِيثُ نُبَيْشَةَ فَرِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ، وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُ قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ نُبَيْشَةَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّكَاةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: جَوَازُ النِّيَابَةِ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ، وَالْحَجُّ لَا يَصِحُّ فِيهِ النِّيَابَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا صَحَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ، قَبْلَ أَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ بِخِلَافِ قَوْلِ دَاوُدَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اجْعَلْهَا عَنْ نَفْسِكَ " وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَبْطُلُ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ يَصِيرُ عُمْرَةً، وَلَوْ كَانَتِ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ لَزِمَهُ رَدُّ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، لِأَنَّهُ عَاوَضَهُ عَلَى عَمَلٍ لَمْ يحصل له.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَمَ مُتَطَوِّعًا وَعَلَيْهِ حَجٌّ كَانَ فَرْضَهُ أَوْ عُمْرَةٌ كَانَتْ فَرْضَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعَ أبي حنيفة وَاحِدٌ فَإِذَا أَحْرَمَ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ كَانَتْ عَنْ فَرْضِهِ وَعِنْدَ أبي حنيفة تَكُونُ تَطَوُّعًا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا جَعَلَ إِحْرَامَهُ عَلَى الْغَيْرِ إِحْرَامًا عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى بِحَالِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِحْرَامُهُ عَنِ التَّطَوُّعِ، إِحْرَامًا عَنِ الْفَرْضِ، لأنه(4/22)
الْأَوْلَى بِحَالِهِ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ أَنْ لَا يتطوع به، وعليه فرض كَمَنْ طَافَ يَنْوِي الْوَدَاعَ وَعَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ نَفْلُهَا مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ فَرْضُهَا، كَالصَّوْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَكَالْحَجِّ سَوَاءٌ لَيْسَ لِمَنْ لَمْ يَعْتَمِرْ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنِ اعْتَمَرَ عَنْ غَيْرِهِ كَانَتْ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الْأُجْرَةِ فَلَوْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ جَازَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوِ اعْتَمَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَحُجَّ جَازَ أَنْ يَعْتَمِرَ عَنْ غَيْرِهِ فَلَوْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فَقَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ عَنْ غَيْرِهِ كَانَ الْجَمِيعُ عَنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّ القِران كَالنُّسُكِ الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقَعَ بَعْضُهُ عَنْهُ وَبَعْضُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم بالصواب.(4/23)
بَابُ بَيَانِ وَقْتِ فَرْضِ الْحَجِّ وَكَوْنِهِ عَلَى التراخي
قال الشافعي رضي الله عنه: " أُنْزِلَتْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ وَتَخَلَّفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ تَبُوكَ لَا مُحَارِبًا ولا مشغولاً بشيء وتخلف أكثر المسلمين قادرين على الحج وَأَزْوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولو كان كمن ترك الصلاة حتى يخرج وقتها مَا تَرْكُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الفرض ولا ترك المتخلفون عنه ولم يحج - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد فرض الحج إلا حجة الإسلام وهي حجة الوداع وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقام بالمدينة تسع سنين ولم يحج ثم حج (قال الشافعي) فوقت الحج ما بين أن يجب عليه إلى أن يموت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ فَالْأَوْلَى بِهِ تَقْدِيمُهُ وَيَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ، وَفِعْلُهُ مَتَى شَاءَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ، وأبو يوسف فَرْضُ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لأبى حنيفة فِيهِ نَصٌّ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: هُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: تَعَجَّلُوا الْحَجَّ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ مَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَجِّلُوا الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ الصَّحِيحُ وَيَضِلَّ الضال وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا " فَأَمَرَ بِالْمُبَادَرَةِ، وَبِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ الْبَيْتَ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا وَقْتٌ مَعْلُومٌ، لَا تُفْعَلُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ كَالصِّيَامِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَاءِ الْحَجِّ مَاتَ آثِمًا، فَلَوْلَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَأْثَمْ بِتَأْخِيرِهِ وَدَلِيلُنَا، هُوَ أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَتَخَلَّفَ(4/24)
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ قَادِرِينَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ ثُمَّ حَجُّوا، فَإِنْ قِيلَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ عَشْرٍ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ منِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) {آل عمران: 97) نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ سَنَةَ عَشْرٍ فَبَادَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ قِيلَ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْرَمَ فِيهَا بِالْعُمْرَةِ، وَهِيَ عَامُ الْحُدَيْبِيَةِ فَأُحْصِرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَتِّمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ للهِ فَإنْ أحصْرِتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) {البقرة: 196) فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ، ولم يأمرهم أن يبتدوا حَجًّا قِيلَ: فَقَدْ يُرَادُ بِالْإِتْمَامِ الْبِنَاءُ تَارَةً وَالِابْتِدَاءُ تَارَةً عَلَى أَنَّهُمْ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ كَانُوا قَدْ أَحْرَمُوا بِعُمْرَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِإِتْمَامِ الْعِبَادَةِ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ إِنْشَاءَهَا، وَابْتِدَاءَهَا.
وَرُوِيَ أَنَّ ضمام بن ثعلة، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ فَكَانَ مِمَّا سَأَلَهُ أَنْ قَالَ: اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَحُجَّ هَذَا الْبَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ نَزَلَتْ قَبْلَ سَنَةَ عَشْرٍ، وَلَا يُنْكِرُ نُزُولُ قَوْله تَعَالَى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ) {آل عمران: 97) سنة تسع، أو عشر عَلَى وَجْهِ تَأْكِيدِ الْوُجُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: فَرْضُ الْحَجِّ إِنَّمَا اسْتَقَرَّ سَنَةَ عَشْرٍ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ سَنَةَ سِتٍّ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي حَجِّهِ سَنَةَ عشرٍ: أَلَا إِنَّ الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات وَالْأَرْضَ قِيلَ: فِي مُرَادِهِ بِهَذَا الْقَوْلِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ حُصُولَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا قَدَّمُوهُ إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ، وَرُبَّمَا أَخَّرُوهُ إِلَى الْمُحَرَّمِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ عَادَ تَحْرِيمُهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُبَاحًا، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَجَّ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ، لِاشْتِغَالِهِ بِالْحَرْبِ، وَخَوْفِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قِيلَ: مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَدْفَعُ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَذَاكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُحْصِرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي سَنَةِ سِتٍّ فَأَحَلَّ ثُمَّ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ، عَلَى أَنْ يَقْضِيَ الْعُمْرَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَيُقِيمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا فَقَضَاهَا سَنَةَ تِسْعٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَصَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ فَحَجَّ فِيهَا بِالنَّاسِ، ثُمَّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَحَجَّ بِالنَّاسِ وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، غَيْرَ مَشْغُولٍ بحربٍ وَلَا خَايِفٍ مِنْ عَدُوٍّ، ثُمَّ أَنْفَذَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ نُفُوذِ أَبِي بَكْرٍ، يَأْمُرُهُ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ(4/25)
بَرَاءَةٌ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فَلِمَ أَنْفَذَهُ؟ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَلِمَ أَخَّرَهُ؟ وَلَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَمْنُوعًا مِنَ الْحَجِّ، لَكَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْعُمْرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَلَوْ كَانَ خَائِفًا عَلَى أَصْحَابِهِ لَمَا أَنْفَذَهُمْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا تَأَخَّرَ لِيَتَكَامَلَ الْمُسْلِمُونَ فَيُبَيِّنَ الْحَجَّ لِجَمِيعِهِمْ، وَهَذَا مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، قِيلَ: هَذَا ظَنٌّ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، لِيُبَيِّنَ جَوَازَ التَّأْخِيرِ، وَلِيُبَيِّنَ لَهُمْ نُسُكَهُمْ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ، مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: من أراد الحج فليتعجل فعلته بِالْإِرَادَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِ الْإِمْكَانِ، ثُمَّ فَعَلَهُ فِيمَا بَعْدُ لَمْ يُسَمَّ قَاضِيًا، وَلَا نُسِبَ إِلَى التَّفْرِيطِ فَعُلِمَ أَنَّ وَقْتَهُ مُوَسَّعٌ، وَأَنَّ تَأْخِيرَهُ جَايِزٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا سُمِّيَ مَنْ أَخَّرَ فِعْلَهُ قَاضِيًا، وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرَتْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَيْهِ فَقُلْتَ: لِأَنَّهُ أُتِيَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتٍ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ اسْمُ الْأَدَاءِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لَهُ أَصْلُهُ إِذَا حَجَّ عُقَيْبَ الْإِمْكَانِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وُسِّعَ وَقْتُ افْتِتَاحِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُوَسَّعَ وَقْتُ أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عَجِّلُوا الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ يَمْرَضَ الصَّحِيحُ قِيلَ: قَدْ بَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَ بِالتَّعْجِيلِ، وَهُوَ الِاحْتِيَاطُ خَوْفَ الْمَرَضِ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَنَحْنُ نَأْمُرُ بِفِعْلِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّوْمِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ يُسَمَّى قَاضِيًا بِتَأْخِيرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ مَاتَ آثِمًا عَاصِيًا قُلْنَا: مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، كَمَا يُنْسَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا حَتَّى يَعْرِضَ لَهُ عَجْزٌ أَوْ مَوْتٌ إِلَى التَّفْرِيطِ لَا إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَهُ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ التَّأْخِيرُ مَا أَمِنَ الْفَوَاتَ، كَمَا أُبِيحَ لِلرَّجُلِ ضَرْبُ امْرَأَتِهِ عَلَى شُرُوطِ السَّلَامَةِ، فَإِنْ أَدَّى إِلَى التَّلَفِ عُلِمَ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِبَاحَةِ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُفْرِطٌ عَاصٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُفْرِطٌ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ إِمْكَانِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُفْرِطٌ مِنْ آخِرِ وَقْتِ إِمْكَانِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(4/26)
باب بيان وقت الحج والعمرة
قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (البقرة: 197) الْآيَةَ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وذو القعدة مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ فَمَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ إِلَى الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فقد فاته الحج وروي أن جابر بن عبد الله سئل أيهل بالحج قبل أشهر الحج؟ قال لا وعن عطاءٍ أنه قيل له أرأيت رجلاً مهلاً بالحج في رمضان ما كنت قائلاً له؟ قال: أقول له اجعلها عمرة وعن عكرمة قال لا ينبغي لأحدٍ أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قول اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (البقرة: 197) ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ أَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: شُهُورُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ إِلَى آخِرِ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، فَجَعَلَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ كُمَّلًا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ) {البقرة: 197) فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ حَرُمَ عليه الوطء في أشهر الحج، ووطء الحج فِي يَوْمِ النَّحْرِ حَرَامٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ لَيْلَةٍ كَانَتْ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ، كَانَ يَوْمُهَا مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ كَاللَّيْلَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ(4/27)
عَلَى أَنَّ شُهُورَ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ كَامِلَةٌ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) وَالْأَشْهَرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ ثَلَاثَةٌ وَلِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ، كَانَ أَوَّلُهُ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ، كَانَ آخِرُهُ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ كَالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) الآية وَفِيهَا دَلِيلَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَصَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ عِنْدُنَا جَوَازُ الْإِحْرَامِ فِيهَا بِالْحَجِّ وَعِنْدَهُمُ اسْتِحْبَابُ الْإِحْرَامِ فِيهَا بِالْحَجِّ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ فِيهِ بِالْحَجِّ لَا يَجُوزُ، وَعِنْدَهُمْ لَا يُسْتَحَبُّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ.
وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ زَمَانٌ لِإِدْرَاكِ الْحَجِّ، وَآخِرُ زَمَانِ الْإِدْرَاكِ طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ " فَعُلِمَ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَوِ اعْتَمَرَ فِيهِ الْمُتَمَتِّعُ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ بِوَجْهٍ، فَلَيْسَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَصْلُهُ رَمَضَانُ، لِأَنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الدَّمُ بِوَجْهٍ، وَلَوِ اعْتَمَرَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَمَا بَعْدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَدُلُّ عَلَى أبي حنيفة أَنَّهُ يَوْمٌ سُنَّ فِيهِ الرَّمْيُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة مِنْ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فَهُوَ مِنَ النَّحْرِ، قُلْنَا: قَدْ يُمْكِنُ إِبَاحَةُ الْوَطْءِ فِيهِ، وَهِيَ أَنْ يُعَجِّلَ الرَّمْي، وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ فَيَسْتَبِيحَ فِيهِ الْوَطْءَ وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ) {البقرة: 197) وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَقَلُّ الْجَمْعِ قُلْنَا: إِنَّمَا أَرَادَ أَفْعَالَ الْحَجِّ فِي أَشْهَرٍ مَعْلُومَاتٍ، لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ زَمَانًا وَإِنَّمَا تَقَعُ أَفْعَالُهُ فِي الزَّمَانِ، وَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ كَانَ وَاقِعًا فِي الشَّهْرِ، عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْجَمْعِ قَدْ يَقَعُ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ ثَالِثٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ) {البقرة: 228) وَالْمُرَادُ بِهِ قُرْآنُ، وَبَعْضُ ثَالِثٍ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَلَا يَجُوزُ لأحدٍ أَنْ يَحُجَّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَ فَإِنَهَا تَكُونُ عُمْرَةً كرجلٍ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا فَإِنَّهَا تَكُونُ نَافِلَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ عُمْرَةً.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وابن عباس.(4/28)
وَمِنَ التَّابِعِينَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ: يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهَرِهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (البقرة: 189) فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَهِلَّةَ كُلَّهَا وَقْتٌ لِلْحَجِّ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَدْخُلُ فِيهَا النِّيَابَةُ، وَتَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِزَمَانٍ كَالْعُمْرَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَالزَّمَانُ هُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ وَالْمَكَانُ هُوَ الْمِيقَاتُ فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ، جَازِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الزَّمَانِ وَعَكْسُ هَذَا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى زَمَانِهِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى مَكَانِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَدْ يَصِحُّ فِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُهُ إِيقَاعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهِ، وَهُوَ شَوَّالٌ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ {الحَجُّ أشْهُرٌ) {البقرة: 197) يُرِيدُ وَقْتَ الْحَجِّ فَجَعَلَ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهُرًا فَلَوِ انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ فِي غَيْرِهَا، لَمْ تَكُنِ الْأَشْهُرُ وَقْتًا لَهُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ فِي بَعْضِ وَقْتِهِ.
وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ وَقْتَ الْحَجِّ أَشْهُرًا مَعْلُومَاتٍ وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ الْإِحْرَامُ، وَالْوُقُوفُ، وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَكَانَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا، بَلْ يَصِحُّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنِ الْوُقُوفُ فِي جَمِيعِهَا حَصَلَ الِاخْتِصَاصُ لَهَا، بِالْإِحْرَامِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهَرٍ مَعْلُومَاتٍ، فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ الْإِحْرَامُ عِنْدَنَا مِنَ الْحَجِّ قُلْنَا هُوَ عِنْدَنَا مِنَ الحج، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا جُعِلَ وَقْتُ اسْتِحْبَابِ الْإِحْرَامِ أشهر إلا وَقْتَ انْعِقَادِهِ، وَجَوَازِهِ قِيلَ: يَفْسُدُ عَلَيْكُمْ بِيَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهُ عِنْدَكُمْ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الْإِحْرَامُ فِيهِ وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِوَقْتٍ، وَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ.
أَصْلُهُ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا يَصِحُّ اسْتِدَامَةُ الْعِبَادَةِ فِيهِ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فِيهِ.
أَصْلُهُ: الْجُمُعَةُ إِذَا صَارَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، لَمَّا لَمْ يَصِحَّ اسْتِدَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِحْرَامُ بِهَا فِيهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اخْتُصَّ بَعْضُ أَفْعَالِهَا بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ اخْتُصَّ الْإِحْرَامُ بِهَا بِزَمَانٍ مَخْصُوصٍ كَالصَّوْمِ، وَعَكْسُهُ الْعُمْرَةُ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْرَامُ بِهَا مُؤَقَّتًا كَالصَّلَاةِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للنَّاسِ وَالحَجِّ) {البقرة: 189) فَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:(4/29)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَجِّ هُوَ الْإِحْرَامُ بِهِ لَا جَمِيعُ أَفْعَالِهِ، وَلَيْسَ الْإِحْرَامُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَجِّ فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ الْأَهِلَّةَ وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، ثُمَّ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) {البقرة: 197) فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا أَطْلَقَ مِنَ الْأَهِلَّةِ مَا فَسَّرَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعُمْرَةِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بَعْضَ أَفْعَالِهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَلِذَلِكَ لَمَّ يَخْتَصَّ الْإِحْرَامَ لَهَا بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَخَالَفَ الْحَجَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ كَذَلِكَ عَلَى الزَّمَانِ قُلْنَا: إِنَّمَا جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَكَانِ، وَهُوَ الْمِيقَاتُ لِأَنَّ مُجَاوَزَتَهُ لَا تَجُوزُ وَلَمَّا كَانَتْ مُجَاوَزَةُ الزَّمَانِ تَجُوزُ كَانَ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ جَازَ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ كَمَا جَازَ مُجَاوَزَتُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ فَائِدَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ فِعْلُ الْحَجِّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، وَأَيُّ أَصْلٍ دَلَّكُمْ عَلَى هَذَا، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِالصَّلَاةِ يَصِحُّ الْإِحْرَامْ بِهَا عُقَيْبَ الزَّوَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ، لَا يَجُوزُ فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ، وَانْعَقَدَ عُمْرَةً.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ يَبْطُلُ إِحْرَامُهُ بِبُطْلَانِ مَا قَصَدَهُ، وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَالَ بِهِ جَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٌ فَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ رواية ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّنْ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ يُهِلُّ بِالْعُمْرَةِ وَلِأَنَّهُ جَمَعَ فِي قَصْدِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالْحَجِّ، فَإِذَا أَبْطَلَ الشَّرْعُ حَجَّهُ لَمْ يَبْطُلْ إِحْرَامُهُ، وَوَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى مَا اقْتَضَاهُ الْوَقْتُ، وَهُوَ الْعُمْرَةُ كَمَنْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ لَمَّا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ فَرْضًا لِمُنَافَاةِ الْوَقْتِ صَحَّتْ نَفْلًا.
مَسْأَلَةٌ
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَوَقْتُ الْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بَعْضَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِزَمَانٍ لَمْ يَخْتَصَّ الْإِحْرَامَ لَهَا بِزَمَانٍ كَالطَّوَافِ لَهَا وَالسَّعْيِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا صَحَّ أَنَّ جَمِيعَ السَّنَةِ وَقْتٌ لِلْعُمْرَةِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَاجٍّ أَحْرَمَ بِهَا مَتَى شَاءَ،(4/30)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاسْتُحِبَّ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ لِأَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَإِنْ كَانَ حَاجًّا، وَلَمْ يُرِدْ إِدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَلَيْسَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا قَبْلَ إِحْلَالِهِ وَرَمْيِهِ، فَيُمْنَعُ مِنْهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّهَا مِنْ بَقَايَا حَجِّهِ، وَإِنْ أَحَلَّ إِلَّا أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَيَجُوزُ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لسقوط الرمي عنه.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ قَالَ لَا يَعْتَمِرُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً خَالَفَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ أَعَمَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي شهرٍ واحدٍ مَرَّتَيْنِ، وَخَالَفَ فِعْلَ عَائِشَةَ نَفْسِهَا، وعلي وابن عمر وأنس ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعَلَيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَأَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَالْمُزَنِيُّ: لَا تَجُوزُ الْعُمْرَةُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً كَالْحَجِّ لِاقْتِرَانِهِمَا فِي الْأَمْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَمَرَ فِي سنةٍ مَرَّتَيْنِ فِي شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَعْمَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي سنةٍ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِالْعُمْرَةِ فَلِمَا دَخَلَتْ مَكَّةَ حَاضَتْ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ أَيِ ارْفُضِي عَمَلَ عُمْرَتِكِ فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنَ الْقِرَانِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كُلُّ نِسَائِكَ يَنْصَرِفْنَ بِنُسُكَيْنِ وَأَنَا بِنُسُكٍ واحدٍ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ فَحَصَلَ لَهَا عُمْرَتَانِ وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جزاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ والعمرتان تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ أَرْبَعَ عُمَرٍ وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ(4/31)
وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَقِيلَ: سُمِّيَتْ عُمْرَةً لِجَوَازِهَا فِي الْعُمُرِ كُلِّهِ وَسُمَّوا عُمَّارَ الْبَيْتِ لِمُدَوَامَتِهِمُ الِاعْتِمَارَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ جَمِيعُ السَّنَةِ وَقْتًا لِلْعُمْرَةِ، دَلَّ عَلَى تَكْرَارِهَا، وَجَوَازِ فِعْلِهَا مِرَارًا كَالنَّوَافِلِ في الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْحَجَّ لِأَنَّ الْحَجَّ وَقْتٌ يَفُوتُ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ، وَهُوَ عَرَفَةُ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.(4/32)
باب بيان أن العمرة واجبة كالحج
قال الشافعي رضي الله عنه: " قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَأَتِّمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةِ للهِ} (البقرة: 196) فَقَرَنَ الْعُمْرَةَ بِهِ وَأَشْبَهُ بِظَاهِرِ القرآن أن تكون العمرة واجبة واعتمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل الحج ومع ذلك قول ابن عباس والذي نفسي بيده إنها لقرينتها في كتاب الله {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ للهِ} وعَنْ عَطاء قال ليس أحد من خلق الله إلا وعليه حجة وعمرة واجبتان (قال) وقال غيره من مكيينا وسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قران العمرة مع الحج هدياً ولو كانت نافلةً أشبه أن لا تقرن مع الحج وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " وروي أن في الكتاب الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لعمرو بن حزم أن العمرة هي الحج الأصغر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْعُمْرَةُ فِي كَلَامِهِمْ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْقَصْدُ، وَكُلُّ قَاصِدٍ لِشَيْءٍ فَهُوَ مُعْتَمِرٌ قَالَ الْعَجَّاجُ:
(لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ ... مَغْزًا بَعِيدًا مِنْ بَعِيدٍ وَصَبَرْ)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هِيَ الزِّيَارَةُ وَقَالَ أَعْشَى باهلة:
(وجَاشت النفس لما جاء فَلُّهُمُ ... وَرَاكِبٌ جَاءَ مِنْ تَثْلِيثِ مُعْتَمِرًا)
يَعْنِي: زَائِرًا هَكَذَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، لَكِنَّ الْعُمْرَةَ فِي الشَّرْعِ تَشْتَمِلُ عَلَى إِحْرَامٍ، وَطَوَافٍ، وَسَعْيٍ، وَحِلَاقٍ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهَا فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَالْحَجِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وإسحاق.(4/33)
وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: وَأَحْكَامُ الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ عَامِرُ الشَّعْبِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وأبو حنيفة، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّمَا ذَكَرَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهَا سُنَّةٌ بِمَا رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ فَقَالَ لَا وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ وَبِمَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْحَجُّ جهادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُعٌ وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّتَبُّعِ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا كَطَوَافِ اللُّزُومِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَانَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعُمْرَةِ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ عُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالِاعْتِكَافِ قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اخْتُصَّتْ بِزَمَانٍ كَانَ جِنْسُهَا نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ، فِي غَيْرِ وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ نَفْلُ الْحَجِّ لِتَكَرُّرِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وجوبها قوله تعالى: {فَأَتِمّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) وفيه قرأتان:
إِحْدَاهُمَا: قَرَأَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إِذَا صَحَّتْ جَرَتْ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ) {البقرة: 196) وَالدَّلَالَةُ فِيهَا من وجهين:(4/34)
أحدهما: أن إتمامها أَنْ يُفْعَلَا عَلَى التَّمَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمهُنَّ) {البقرة: 124) أَيْ فَعَلَهُنَّ تَامَّاتٍ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: إِتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْإِتْمَامِ، وَحَقِيقَةُ الْبِنَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِتْمَامُ الْعُمْرَةِ وَاجِبًا وَإِتْمَامُهَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِيهَا، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْوَاجِبِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ لِلطَّهَارَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ عَنِ ابن عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ فَقَالَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ، وَتَعْتَمِرَ وَتَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتُتِمُّ الْوُضُوءَ قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ هَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: صَدَقْتَ فَجَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعُمْرَةَ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَرَنَهَا بِالْوَاجِبَاتِ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى النَّسَاءِ جهادٌ، فَقَالَ عَلَيْهِنَّ جهادٌ، لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى الطَّوَافِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ فِي إِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَتَنَوَّعَ فَرْضًا وَنَفْلًا كَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ رُوِيَ عَمَّنْ سَمِعَ وَعَمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ، حُمِلَ عَلَى سَائِلٍ سَأَلَ عَنْ عُمْرَةٍ ثَانِيَةٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْحَجُّ جهادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ أَبَا صَالِحٍ الْحَنَفِيَّ تَابِعِيٌّ عَلَى أَنَّهُ شَبَّهَ الْحَجَّ بِالْجِهَادِ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ وَثَوَابِهِ، وَالْعُمْرَةَ بِالتَّطَوُّعِ لِقِلَّةِ مَشَقَّتِهَا، وَإِنَّ ثَوَابَ الْحَجِّ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِهَا، وَكَذَا الْجَوَابُ عَمَّا رُوِيَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حَجَّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى الْفَرِيضَةَ وَمَنِ اعْتَمَرَ فَكَأَنَّمَا صَلَّى النَّافِلَةَ فَجَعَلَ الْعُمْرَةَ كَالنَّافِلَةِ فِي قِلَّةِ عَمَلِهَا، وَثَوَابِهَا، وَالْحَجَّ، كَالْفَرِيضَةِ فِي كَثْرَةِ عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ سُقُوطُ وُجُوبِهَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، وَأَشْهُرِهِ، لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا لَا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ، دَخَلَتْ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي الْقِرَانِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّوَافِ فَلَيْسَ طواف القدوم، ونسك بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ نُسُكٍ كَمَا أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ من(4/35)
جُمْلَةِ الصَّلَاةِ وَقَوْلُهُمْ يُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي طَوَافِ الْقُدُومِ جَوَازُ الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ، وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ لا تجب في إفساده، وإما قولهم أن لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَيَبْطُلُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِصَلَاةِ الْوِتْرِ ثُمَّ بِالزَّكَوَاتِ عَلَى أَنَّهُ قِيَاسُ الْعَكْسِ، وَلَا نَقُولُ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ نَفْلٌ مِنْ جِنْسِهِ يَتَكَرَّرُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ العمرة نفله والجواب: أن يقال إثماً كَانَ لِلصَّلَاةِ نَفْلٌ يَتَكَرَّرُ فِي وَقْتِهَا لِأَنَّ فرضها يفعل في وَقْتِهَا، وَغَيْرُ وَقْتِ الْحَجِّ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِفَرْضِ الْحَجِّ، لَمْ يَكُنْ لِلْحَجِّ نَفْلٌ يُفْعَلُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ.(4/36)
بَابُ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْعُمْرَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ إلى غيرها
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجْزِيهِ أَنْ يَقْرِنَ الْعُمْرَةَ مَعَ الْحَجِّ وَيُهْرِيقَ دماً، والقارن أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
وَالْقِرَانُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَائِزٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَ: الْقَارِنُ يَكْفِيهِ طوافٌ واحدٌ وَسَعْيٌ واحدٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَبَّيْكَ بِحِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا.
وَرَوِيَّ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَرَنَتْ بِإِذْنِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً بعمرةٍ فَحَاضَتْ فَأَمَرَهَا أَنْ تُهِلَّ بِالْحَجِّ وَقَالَ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ يَعْنِي فِي حَالِ حَيْضِهَا فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ قَالَ لَهَا طَوَافُكِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ حِينَ قَرَنَ، وَقَدْ أَنْكَرَ عليه زيد ابن صُوحَانَ وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقِرَانِ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ وَفِيهِ تأويلان:(4/37)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ أَدَبًا.
وَالثَّانِي: لِتَمَيُّزِ التَّمْرِ وَعِزَّتِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقِرَانِ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَسَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْ مَعْنَاهُ، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ بِضْعَةِ عَشَرَ وَجْهًا، مِنْهَا أن يدخل بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالتَّوَجُّهِ، أَوْ يُوَاصِلَ بَيْنَ التَّوَجُّهِ وَالْقِرَاءَةِ، أَوْ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِلَى أَنْ ذَكَرَ الْقِرَانَ بَيْنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا صَحَّ جَوَازُ الْقِرَانِ، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا معاًُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، فَهَذَا قَارِنٌ حَقِيقَةً لُغَةً وَشَرْعًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ يُدْخِلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَخْذِهِ فِي الطَّوَافِ جَازَ، وَدَلِيلُ جَوَازِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ عُمْرَتِهِ وَشَرَعَ فِي التَّحَلُّلِ مِنْهَا، فَلَوْ وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ لِيَأْخُذَ فِي الطَّوَافِ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ، قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ جَازَ، وَكَانَ قَارِنًا وَلَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَخَطَا خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَجْزِهِ لِأَخْذِهِ مِنَ الطَّوَافِ وَلَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَلَمْ يَمْشِ حَتَّى أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِلَامَ مُقَدِّمَةُ الطَّوَافِ.
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أُولَى أَبْعَاضِهِ، وَلَكِنْ لَوِ اسْتَلَمَ غَيْرَ مُرِيدٍ لِلطَّوَافِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَجْزَأَهُ لَا يُخْتَلَفُ، وَلَوْ شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا أَجْزَأَهُ قَالُوا: لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ عَلَى أَلَّا يَتَعَيَّنَ بِمَنْعٍ فَصَارَ كَمَنْ أَحْرَمَ وَتَزَوَّجَ، وَلَمْ يَدْرِ هَلْ كَانَ تَزْوِيجُهُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ أَجْزَأَهُ.
فصل: والضرب الثاني
: أي يَبْتَدِئَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَى حَجِّهِ عُمْرَةً قَالَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمُعْظَمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ فَفِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَجَازَ إِدْخَالُ إِحْدَيْهِمَا عَلَى الْأُخْرَى أَصْلُهُ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَضْعَفُ مِنَ الْحَجِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُزَاحِمَ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا بِالدُّخُولِ عَلَيْهَا، وَجَازَ لِلْحَجِّ مُزَاحَمَتُهَا لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْفِرَاشَ بِالنِّكَاحِ أَقْوَى مِنَ الْفِرَاشِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَلَوْ وَطِئَ أَمَةً بِمِلْكِ الْيَمِينِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ عليها أختها ثبت نكاحها، وحرم عليه وطؤ الْأَمَةِ، لِأَنَّ أَقْوَى الْفِرَاشَيْنِ زَاحَمَ أَضْعَفَهُمَا، وَإِنْ تَقَدَّمَ النِّكَاحُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ بِالْمِلْكِ، لِأَنَّهُ أَضْعَفُ الْفِرَاشَيْنِ زَاحَمَ أَقْوَاهُمَا، فَلَوْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى حَجِّهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ لَمْ يَجُزْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعْدَ أَنْ مر(4/38)
بِعَرَفَةَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا لَمْ يَجُزْ، وَلَكِنْ لَوْ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى حَجِّهِ فِي زَمَانِ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِهَا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا بِوَطْءٍ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجًّا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمَا الْإِفْرَادُ ثُمَّ وَرَدَتِ الرُّخْصَةُ فِي إِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى عُمْرَةٍ سَلِيمَةٍ، فَكَانَ الثَّانِي عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ الْفَاسِدَةَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْفَاسِدَةِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، كَذَلِكَ فِي جَوَازِ القِران فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ، وَفِي قَضَاءِ الْحَجِّ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِسَلَامَةِ الْحَجِّ مِنَ الْوَطْءِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَنَ إِدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ كَالْإِحْرَامِ بِهِمَا، فَصَارَ كَالْوَاطِئِ فِيهِمَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَعَلَيْهِ دَمٌ بِقِرَانِهِ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْقَارِنُ عَلَيْهِ شَاةٌ وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَبَحَ عَنْ جَمِيعِ نِسَائِهِ بَقَرَةً وَنَحْنُ قارناتٌ فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَالْقَارِنُ (أَخَفُّ حَالًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ) فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ عَلَى الْقَارِنِ بَدَنَةً، لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَعَ إِخْلَالِهِ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَتَمَتُّعِهِ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ، لَا تَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ فَالْقَارِنُ مَعَ اسْتِدَامَةِ إِحْرَامِهِ أَوْلَى أَنْ لَا تَلْزَمَهُ بَدَنَةٌ، وَعَلَى هَذَا نَصَّ فِي الْقَدِيمِ.
وَالثَّانِي: وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَسْقَطَ الدَّمَ عَنِ الْقَارِنِ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ، فَقَدْ أَتَى بِعَمَلَيْنِ كَامِلَيْنِ فِي زَمَانَيْنِ ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ، فَالْقَارِنُ مَعَ إِخْلَالِهِ بِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ أَوْلَى بإيجاب الدم عليه.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن اعتمد قبل الحج ثم أقام بمكة حتى ينشيء الْحَجَّ أَنْشَأَهُ مِنْ مَكَّةَ لَا مِنَ الْمِيقَاتِ وَلَوْ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَأَرَادَ الْعُمْرَةَ بَعْدَ الْحَجِّ خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ ثُمَّ أَهَلَّ مِنْ أَيْنَ شَاءَ فَسَقَطَ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ وأحرم من أقرب(4/39)
الْمَوَاضِعِ مِنْ مِيقَاتِهَا وَلَا مِيقَاتَ لَهَا دُونَ الْحِلِّ كَمَا يَسْقُطُ مِيقَاتُ الْحَجِّ إِذَا قَدَّمَ الْعُمْرَةَ قَبْلَهُ لِدُخُولِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ مَرَّ بِمِيقَاتِ بَلَدِهِ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، أَوْ قِرَانًا فَعَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ مِيقَاتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَهٍ حَدَّ الْمَوَاقِيتَ وَقَالَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهَا وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ممن أَرَادَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَأَحَلَّ مِنْهَا وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ فَتَحَ الْحَجَّ عَلَى أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُمْ بِالْعُمْرَةِ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهَا: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُهِلَّ قَالَ جَابِرٌ فَأَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ مِنْ بَطْحَاءِ مَكَّةَ، وَهَذَا هُوَ التَّمَتُّعُ فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ وَأَحَلَّ مِنْهُ وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ، أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَرَادَتِ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم فِي الْحِلِّ، وَهَذَا هُوَ الْإِفْرَادُ.
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِأَحَدِهِمَا مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ، وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْآخَرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ مَكَّةَ إِنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَإِنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ نُسُكٍ فِيهِمَا يَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يُجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ، لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِيهِمَا بِقَصْدِ الْبَيْتِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) {البقرة: 125) أَيْ: مَرْجِعًا قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:
(مثابٌ لِأَفْتَاءِ القبائل كلها ... تخب إِلَيْهَا الْيَعْمَلَاتُ الزَّوَامِلُ)
وَكُلُّ الْحَرَمِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْبَيْتِ، فَافْتَقَرَ إِلَى الْقَصْدِ إِلَيْهِ مِنَ الْحِلِّ فَإِنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَحْرَمَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ، أَوِ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الحل ضرورة للوقوف بعرفة، وعرفة حل لأحرم، وَإِذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ أَحْرَمَ بِهَا مِنَ الْحِلِّ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا فِي الْحَرَمِ وَهُوَ الطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ، فَلَوْ جَازَ لَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا مِنَ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا مِنْ حِلٍّ إلى حرم.(4/40)
فَصْلٌ
: فَإِذَا أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ، فَإِنْ عَادَ مُحْرِمًا إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ تَوَجَّهُ إِلَى عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ، وَإِنَّ تَوَجَّهَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى عَرَفَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعُودَ إِلَى مَكَّةَ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ.
وَالثَّانِي: مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ.
وَالثَّالِثُ: مِنْ حِلٍّ بَيْنَ الْحَرَمِ وَالْمِيقَاتِ فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ عَادَ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ مِنْ مَكَّةَ رُخْصَةٌ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحَرَمِ خَارِجَ مَكَّةَ كَانَ كَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، لِأَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ الْحَرَمِ وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ بِقَاعُهُ وَإِنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحِلِّ الَّذِي بَيْنَ الْمِيقَاتِ، وَالْحَرَمِ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّ لَهُ أَحَدُ مِيقَاتَيْنِ فَمِيقَاتُ بَلَدِهِ لِلْأَصْلِ وَمَكَّةُ رُخْصَةٌ فَإِذَا عَدَلَ عَنْهَا صَارَ مُحْرِمًا مِنْ غَيْرِ مِيقَاتٍ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ خَرَجَ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ وَاحِدٌ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمُفْرِدُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْحَرَمِ، فَقَدِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ وَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ ثُمَّ الرُّجُوعُ إِلَى الطَّوَافِ، وَالسَّعْيِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْزَأَهُ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَادَ خَيْرًا بِتَعْجِيلِ الْإِحْرَامِ مِنَ الْحَرَمِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِلِّ حَتَّى طَافَ، وَسَعَى وَحَلَقَ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ.
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ وَقَدْ تَحَلَّلَ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْحِلِّ لِأَنَّ الْحِلِّ مِيقَاتٌ، وَتَرْكُ الْمِيقَاتِ لَا يُوجِبُ بُطَلَانَ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الدَّمَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَفْعَالِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِحِلَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ، وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي فَسَادِهَا وَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِبَقَاءِ إِحْرَامِهِ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِهِ فَفِي فَسَادِ عُمْرَتِهِ بِوَطْئِهِ، قَوْلَانِ كَالنَّاسِي، وَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ إِلَى الْحِلِّ وَالرُّجُوعُ إِلَى الطَّوَافِ، وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ حِلٍّ، فَإِذَا طَافَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْحِلَّ صَارَ فِي مَعْنَى مَنْ طَافَ فِي الْحَجِّ، قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فلا يجزيه عن طواف الفرض.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب إلي أن تعتمر مِنَ الْجِعْرَانَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اعْتَمَرَ مِنْهَا فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنَ التَّنْعِيمِ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعَمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا وَهِيَ أَقْرَبُ الْحِلِّ إِلَى الْبَيْتِ فَإِنْ أَخْطَأَهُ ذَلِكَ فَمِنَ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِهَا وَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بعمرةٍ مِنْهَا ".(4/41)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ:
الْحِلُّ كُلُّهُ مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ فِي الشَّرْعِ مَا نَذْكُرُهُ فَأُولَى ذَلِكَ الْإِحْرَامُ بِهَا مِنَ الْجِعْرَانَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ وَلَمَّا أَرَادَ الْعَوْدَةَ إِلَى مَكَّةَ أَحْرَمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ. وَهِيَ أَبْعَدُ مَوَاقِيتِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ يَلِيهَا فِي الْفَضْلِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنْهَا ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ فِي الْفَضْلِ الْحُدَيْبِيَةُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَصَلَّى بِهَا وَأَرَادَ الدُّخُولَ لِعُمْرَتِهِ مِنْهَا، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْفَضْلِ وَالِاخْتِيَارِ، وَمِنْ أَيْنَ أَحْرَمَ مِنَ الحلي جَازَ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ فِي إِحْرَامِهِ بَيْنَ حِلٍّ وَحَرَمٍ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ الْجِعْرَانَةِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، فَكَانَ مُتَطَوِّعًا بِعُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ، فَعَلَى مَذْهَبِهِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، عُمْرَتَيْنِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ سنة ثمان عام الفتح، والثالث: مُخْتَلَفٌ فِيهَا إِنْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَارِنًا حَصَلَتْ لَهُ ثَلَاثُ عُمَرٍ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا فَلَهُ عُمْرَتَانِ.(4/42)
بَابُ بَيَانِ إِفْرَادِ الْحَجِّ عَنِ الْعُمْرَةِ وَغَيْرِ ذلك
قال الشافعي رضي الله عنه فِي مُخْتَصَرِ الْحَجِّ: " وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُفْرِدَ لِأَنَّ الثَّابِتَ عِنْدَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْرَدَ وَقَالَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ إِنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " (قال الشافعي) ومن قال إنه أفرد الحج يشبه أن يقول قاله على ما يعرف من أهل العلم الذي أدرك وفد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ أَحَدًا لَا يَكُونُ مُقِيمًا عَلَى حَجٍّ إلا وقد ابتدأ إحرامه بحج وأحسب عروة حين حدث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أحرم بحج ذهب إلى أنه سمع عائشة تقول يفعل في حجه على هذا المعنى وقال فيما اختلفت فيه الأحاديث عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في مخرجه لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ أَيْسَرَ مِنْ هَذَا وإن كان الغلط فيه قبيحاً من جهة أنه مباح لأن الكتاب ثم السنة ثم ما لا أعلم فيه خلافاً يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج وإفراد الحج والقران واسعٌ كله وثبت أنه خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو فيما بين الصفا والمروة وأمر أصحابه أن من كان منهم أهل ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة وقال " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سقت الهدي ولجعلتها عمرة " (فإن قال قائلٌ) فمن أين أثبت حديث عائشة وجابر وابن عمر وطاوس دون حديث من قال قرن؟ (قيل) لتقدم صحبة جابر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحسن سياقه لِابْتِدَاءِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ وَلِرِوَايَةِ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفَضْلِ حِفْظِهَا عَنْهُ وَقُرْبِ ابْنِ عُمَرَ مِنْهُ ولأن من وصف انتظار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - القضاء إذ لم يحج من المدينة بعد نزول فرض الحج طلب الاختيار فيما وسع الله من الحج والعمرة يشبه أن يكون أحفظ لأنه قد أتى في المتلاعنين فانتظر القضاء كذلك حفظ عنه في الحج ينتظر القضاء (قال المزني) إن ثبت حديث أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قرن حتى يكون معارضاً للأحاديث سواه فأصل قول الشافعي أن العمرة فرض وأداء الفرضين في وقت الحج أفضل من أداء فرضٍ واحدٍ لأن من كثر عمله لله كان أكثر في ثواب اللَّهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.(4/43)
لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَوْلَى، فَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الْآثَارِ، وَهُمَا أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَانِ وَقَالَ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْهَا تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنَسٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ، وَقَالَ أَنَسٌ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَحْرَمَا بِالْيَمَنِ، وَقَالَ إِهْلَالًا كِإِهْلَالِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال وهو بالعقيرة: أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ عمرةٌ فِي حجةٍ قَالُوا: فَإِذَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَنَ وَهُوَ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ قَالُوا: وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِلصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ وَقَدْ قَرَنَ: هُدِيتَ لِسُّنَّةِ نَبِيِّكَ قَالُوا: وَلِأَنَّ فِي القران تعجيل العملين، والإتيان بهما من أَشْرَفِ الزَّمَانَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى مِنْ إِفْرَادِهِمَا فِي زَمَانَيْنِ أَحَدُهُمَا أَشْرَفُ مِنَ الْآخَرِ قَالُوا: وَلِأَنَّ في القران زيادة، وهو دوم نُسُكٍ لَا جُبْرَانٌ وَنَقْصٌ لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: جَوَازُ أَكْلِهِ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا) {الحج: 36) وَلَوْ كَانَ دَمُ جُبْرَانٍ لَمَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ لِجَزَاءِ الصَّيْدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا دَخَلَهُ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ الْجُبْرَانِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ إِلَّا بِعُذْرٍ كَالْحَلْقِ وَاللِّبَاسِ، فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْقِرَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ عُلِّقَ عَلَى أَنَّ الدَّمَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ دَمُ نُسُكٍ.
فَصْلٌ
: وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ التَّمَتُّعُ أَفَضَلُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَمَتَّعَ بِالْحَجِّ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ النَّاسِ قَدْ حَلُّوا مِنْ عُمْرَتِهِمْ وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِكَ فَقَالَ: إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ فَلَمَّا سَأَلْتُهُ عَنْ سَبَبِ بَقَائِهِ عَلَى عُمْرَتِهِ أَخْبَرَهَا عَنِ السَّبَبِ الَّذِي لَمْ يَتَحَلَّلْ لِأَجْلِهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:(4/44)
لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَتَأَسَّفَ عَلَى فَوَاتِ الْعُمْرَةِ، وَهُوَ لَا يَتَأَسَّفُ إِلَّا عَلَى فَوَاتِ الْأَفْضَلِ وَهَذَا يُعَضِّدُ مَا تَقَدَّمَ.
فَصْلٌ
: وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْرَدَ الْحَجَّ.
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، وَهُوَ صَاحِبُ الْمَنَاسِكِ وَأَحْسَنُ الْجَمَاعَةِ سِيَاقًا لَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْرَمَ سَنَةَ تِسْعٍ إِحْرَامًا مَوْقُوفًا لَا بحجٍ وَلَا بعمرةٍ فَلَمَّا بَلَغَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَفَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ إِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال أقرن الْحَجَّ فَأَتَاهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ إِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَنْبَأْنَاكَ بِهِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَتَانَا فَقَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَنَ فَقَالَ إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يحج عَلَى النِّسَاءِ وَهُنَّ مُكَشَّفَاتِ الرُّؤُوسِ مِنْ صِغَرِهِ وَأَنَا تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمَسُّنِي لُعَابُهَا وَكُنْتُ اسْمَعُهُ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ ثَمَانٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَةَ تِسْعٍ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَهُ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَأَفْرَدَ الْحَجَّ ثُمَّ حَجَّ عُمَرُ فَأَفْرَدَ الْحَجَّ فِي تِسْعِ حِجَجٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ عُمَرُ، وَاسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ، فَأَفْرَدَ الْحَجَّ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَفْرَدُوا الْحَجَّ، وَلِأَنَّ الْمُفْرِدَ يَأْتِي بِعَمَلِ الْعِبَادَتَيْنِ عَلَى كَمَالِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْقَارِنِ الَّذِي قَدْ أَدْخَلَ إِحْدَى الْعِبَادَتَيْنِ فِي الْأُخْرَى، وَاقْتَصَرَ عَلَى عَمَلِ إِحْدَيْهِمَا وَلِأَنَّ إيقاع العشرة فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ رُخْصَةٌ، وَإِيقَاعُهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَزِيمَةٌ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَمْتَنِعُونَ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، حَتَّى أَرْخَصَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أُولَى مِنَ الرُّخْصَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا رُخْصَةً، كَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ منهما، في وقتها أفضل من الحج بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا وَلِأَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ يَجِبُ فِيهِمَا دَمٌ، وَالدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي(4/45)