[التحريم: 6] . وَرَوَى عُمَرُ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَده أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مُرُوهم بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ "، وَلِأَنَّ فِي تَعْلِيمِهِمْ ذَلِكَ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ إِلْفًا لَهَا وَاعْتِيَادًا لفِعلها، وَفِي إِهْمَالِهِمْ وَتَرْكِ تَعْلِيمِهِمْ مَا لَيْسَ يَخْفَى ضَرَرُهُ مِنَ التَّكَاسُلِ عَنْهَا عِنْدَ وُجُوبِهَا، وَالِاسْتِيحَاشِ مِنْ فِعْلِهَا وَقْتَ لُزُومِهَا، فَأَمَّا تَعْلِيمُهُمْ ذَلِكَ لِدُونِ سَبْعِ سِنِينَ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ في الغالب لَا يَضْبِطُونَ تَعْلِيمَ مَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى فِعْلِ مَا يُؤْمَرُونَ، فَإِذَا بَلَغُوا سَبْعًا مَيَّزُوا وَضَبَطُوا مَا عَلِمُوا، وَتَوَجَّهَ فَرْضُ التَّعْلِيمِ عَلَى آبَائِهِمْ، لَكِنْ لَا يَجِبُ ضَرْبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا، وَإِذَا بَلَغُوا عَشْرًا وَجَبَ ضَرْبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا مُمْرِضٍ، فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤْمَنُ عَلَيْهِمُ التَّلَفُ مِنْ ضَرْبِهَا، فَإِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ وَتَوَجَّهَ نَحْوَهُمُ الْخِطَابُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ فِعْلُ الطَّهَارَةِ والصلاة وجميع العبادات
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَمَنِ احْتَلَمَ أَوْ حَاضَ أَوِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَزِمَهُ الْفَرْضُ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. أَمَّا الْبُلُوغُ فِي الْغِلْمَانِ، فَقَدْ يَكُونُ بِالسِّنِّ وَالِاحْتِلَامِ، فَأَمَّا الِاحْتِلَامُ فَهُوَ الْإِنْزَالُ، وَهُوَ الْبُلُوغُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] . وَأَمَّا السِّنُّ فَإِذَا اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً صَارَ بَالِغًا لِحَدِيثِ ابْنِ عمر وخالفه أبو حنيفة فِي سِنِّ الْبُلُوغِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَمَّا غِلَظُ الصَّوْتِ، وَاخْضِرَارُ الشَّارِبِ، وَنُزُولُ الْعَارِضَيْنِ، فليس ببلوغ لا يختلف، فأما إِنْبَاتُ الشَّعْرِ فِي الْعَانَةِ فَإِنْ كَانَ زَغَبًا لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا، وَإِنْ كَانَ شَعْرًا قَوِيًّا كان بلوغاً في المشركين، ولما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَحَكَمَ بِقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، وَسَبَى الذَّرَارِيَّ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ، وَقَالَ: " لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ أَرْقِعَةٍ، يَعْنِي: سَبْعَ سموات. قَالَ وَكُنَّا نَكْشِفُ مُؤْتَزَرَهُمْ فَمَنْ أَنْبَتَ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ جَعَلْنَاهُ فِي الذَّرَارِيِّ. فَأَمَّا حُكْمُنَا فِي بُلُوغِ الْمُشْرِكِينَ بِالْإِنْبَاتِ فَهَلْ هُوَ بُلُوغٌ فِيهِمْ حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةٌ عَلَى بُلُوغِهِمْ، عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بُلُوغٌ فِيهِمْ
وَالثَّانِي: أنه دلالة على بلوغهم، فإن قُلْنَا: إِنَّهُ بُلُوغٌ فِيهِمْ كَانَ بُلُوغًا فِي الْمُسْلِمِينَ كَالِاحْتِلَامِ، وَإِذَا قُلْنَا دَلَالَةٌ فِيهِمْ فَهَلْ يَكُونُ دَلَالَةً فِي الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:(2/314)
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ دَلَالَةً فِيهِمْ
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يَكُونُ دَلَالَةً وَلَا يَحْكُمُ فِي بُلُوغِهِمْ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُ الْمُسْلِمَ فِي الْإِنْبَاتِ إِذَا جُعِلَ بُلُوغًا، لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ فِيهِ تَخْفِيفَ أَحْكَامِهِ فَلَهُ حَجْرُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، وَقَبُولُ شَهَادَتِهِ وَكَوْنُهُ مِنْ أهل الولايات، والكافر غير منهم لِأَنَّ أَحْكَامَهُ تُغَلَّظُ فَيُقْتَلُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا، وَلَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ إِنْ كَانَ وَثَنِيًّا، وَتُؤْخَذُ جِزْيَتُهُ إِنْ كَانَ كِتَابِيًّا
وَالثَّانِي: أَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى جَعْلِ الْإِنْبَاتِ بُلُوغًا فِي الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَنْسَابِهِمُ الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى جَعْلِ الْإِنْبَاتِ بُلُوغًا فِيهِمْ، فَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَتَبْلُغُ بِجَمِيعِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْغُلَامُ وَتَبْلُغُ أَيْضًا بِشَيْئَيْنِ آخَرَيْنِ: وَهُمَا الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ
فَأَمَّا الْحَيْضُ فَبُلُوغٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُنظر إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا "
وَأَمَّا الْحَمْلُ فَيُعْلَمُ بِهِ سِنُّ الْبُلُوغِ إِلَّا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ بُلُوغٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلق من ماءٍ دافق يخرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلب وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 45، 46] فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْحَمْلَ يُخْلَقُ مِنْ مَاءٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَتَرَائِبِ النِّسَاءِ، فَعُلِمَ بِالْحَمْلِ وُجُودُ الْإِنْزَالِ مِنْهَا
فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَيَكُونُ بَالِغًا بِالسِّنِّ، فَأَمَّا الْحَيْضُ وَالْإِنْزَالُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحِيضَ
وَالثَّانِي: أَنْ يُنْزِلَ
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْمَعَ الْأَمْرَيْنِ الْحَيْضَ وَالْإِنْزَالَ. فَأَمَّا الْحَيْضُ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ بُلُوغًا فِيهِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ خَرَجَ دَمُ الْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهِ أَوْ ذَكَرِهِ أَوْ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْإِنْزَالُ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَإِنْ كَانَ مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا لِجَوَازِ كَوْنِهِ رَجُلًا؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ فَرْجِهِ وَذَكَرِهِ مَعًا كَانَ بُلُوغًا يَقِينًا؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ بَلَغَ بِالْإِنْزَالِ مِنْ ذَكَرِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَقَدْ بَلَغَتْ بِالْإِنْزَالِ مِنْ فَرْجِهَا، وَأَمَّا الْإِنْزَالُ وَالْحَيْضُ إِذَا اجْتَمَعَا فَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ فَرْجِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا وَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ ذَكَرِهِ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا، وَإِنْ كَانَ الْإِنْزَالُ مِنْ ذَكَرِهِ وَدَمُ الْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهِ فمذهب الشافعي أنه بلوغ لجمع بَيْنَ بُلُوغِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " " إِنْ أَنْزَلَ وَحَاضَ لَمْ يَكُنْ بُلُوغًا " وَلَيْسَ هَذَا قَوْلًا ثَانِيًا، وَإِنَّمَا لَهُ أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ أَنْزَلَ أَوْ حَاضَ، فَأَسْقَطَ الْكَاتِبُ أَلِفًا وَإِنْ كَانَا مَعًا مِنْ أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ(2/315)
(بَابُ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِقَوْمٍ الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَجَاءَ قَوْمٌ فَصَلَّوْا خَلْفَهُ يَنْوُونَ الْعَصْرَ أَجْزَأَتْهُمُ الصَّلَاةُ جَمِيعًا وَقَدْ أَدَّى كُلٌّ فَرْضَهُ وَقَدْ أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ يُصَلِّيَ بِقَوْمِهِ هِيَ لَهُ نَافِلَةٌ وَلَهُمْ مَكْتُوبَةٌ وَقَدْ كَانَ عَطَاءٌ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ الْقُنُوتَ ثُمَّ يَعْتَدُّ بِهَا مِنَ الْعَتَمَةِ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ فَبَنَى رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْعَتَمَةِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَإِذَا جَازَ أَنْ يَأْتَمَ الْمُصَلِّي نَافِلَةً خَلْفَ الْمُصَلِّي فَرِيضَةً فَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي فَرِيضَةً خَلْفَ الْمُصَلِّي نَافِلَةً وَفَرِيضَةً وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ لِلْمُتَنَفِّلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمُفْتَرِضِ، وَالْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَالْمُفْتَرِضِ بِالْمُفْتَرِضِ، فِي فَرْضَيْنِ مِثْلَيْنِ، أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ، مِثْلُ الظُّهْرِ خَلْفَ الْعَصْرِ، أَوِ الْعَصْرُ خَلْفَ الظُّهْرِ، وَهَذَا أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالزُّهْرِيِّ وَشُعْبَةَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ نِيَّةُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِحَالٍ لَا فِي فَرْضٍ وَلَا فِي نَفْلٍ، فَلَا يَأْتَمُّ الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَلَا الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُفْتَرِضِ، وَلَا الْمُفْتَرِضُ بالمقترض فِي فَرْضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، حَتَّى يَكُونَا مِثْلَيْنِ، فِي فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ وَهَذَا أَضْيَقُ الْمَذَاهِبِ
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ الْمُتَنَفِّلُ بِالْمُفْتَرِضِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَلَا الْمُفْتَرِضُ بِالْمُفْتَرِضِ فِي فَرْضَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِلَّا أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مُفْتَرِضٍ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنَ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَلَى تَبَايُنِ مَذَاهِبِهِمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " فَكَانَ أَمْرُهُ بالإتمام عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِ أَوْ خَفِيَ مِنْ نِيَّتِهِ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ " وَفِي اخْتِلَافِ النِّيَّةِ اخْتِلَافُ الْقُلُوبِ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِنِيَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الِاقْتِدَاءُ فِيهَا بِالْإِمَامِ كَالْمُصَلِّي الْجُمُعَةَ خَلْفَ الْمُصَلِّي الظُّهْرَ(2/316)
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ إِمَامَهُ فِي مَفْرُوضِ صَلَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَادِحًا فِيهَا، قِيَاسًا عَلَى مُخَالِفِيهِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ إِلَى بَطْنِ النَّخْلِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ بَنِي سُلَيْمٍ، فَفَرَّقَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ ". وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَقِيلَ صَلَاةُ الْعَصْرِ
وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِطَائِفَةٍ الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَسَلَّمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فرضه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ وَالْأُخْرَى نَافِلَةٌ، وَكِلَاهُمَا لِلْمَأْمُومِينَ فَرِيضَةٌ، فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي كَانُوا يُصَلُّونَ الْفَرْضَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ
قُلْنَا: إِعَادَةُ الْفَرْضِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَا مَرْوِيٍّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى خَلْقِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً أَمَرَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ رَدَّهَا بِشَفَاعَتِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى خَمْسٍ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَفْرِضْهَا عَشْرًا، وَلَا أَمَرَ بِإِعَادَةِ فَرْضٍ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ أَدَائِهَا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْوَادِي وَصَلَّى الصُّبْحَ قِيلَ لَهُ: أَتَقْضِي الصُّبْحَ فِي وَقْتِهَا مِنَ الْغَدِ؟ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا ثُمَّ يَأْمُرُكُمْ بِهِ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَنِي سَلَمَةَ فَيُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ، فَأَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى مَعَهُ وَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَصَلَّاهَا بِهِمْ، وَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَخَرَجَ رجل من صلاته فأتم لنفسه، فلما قِيلَ لَهُ نَافَقْتَ؟ فَقَالَ: آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَسْأَلُهُ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَكَ، ثُمَّ يُصَلِّي بِنَا وَإِنَّكَ أَخَّرْتَ الْعِشَاءَ، فَصَلَّى مَعَكَ ثُمَّ صَلَّى بِنَا، وَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَنَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمعاذ: أقتانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ سُورَةِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى؛ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى
فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُؤَدِّي فَرْضَهُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثُمَّ يُصَلِّيهَا بِقَوْمِهِ، فَتَكُونُ لَهُمْ فَرِيضَةً وَلَهُ نافل
فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ أبي حنيفة: كَانَتْ صَلَاتُهُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَافِلَةً، وَبِقَوْمِهِ فَرِيضَةً، قِيلَ: هَذَا لَا يَصِحُّ لثلاثة أشياء:(2/317)
أَحَدُهَا: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ يَقُولُ: كَانَ معاذٌ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ، هِيَ لَهُمْ فَرِيضَةٌ وَلَهُ نَافِلَةٌ " وَجَابِرٌ لَا يَقُولُ هَذَا إِلَّا عَنْ عِلْمٍ
وَالثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ " فَكَيْفَ يَجُوزُ لِمُعَاذٍ مَعَ سَمَاعِ هَذَا أَنْ يُصَلِّيَ النَّافِلَةَ عِنْدَ قِيَامِ الْمَكْتُوبَةِ
وَالثَّالِثُ: أن معاذ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فَرْضَهُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِهِ إِمَامًا بِقَوْمِهِ، وَهُوَ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَفْضَلَ الْحَالَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ اخْتِيَارُ أَنْقَصِهِمَا
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ قَالَ: " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " قَالَتْ بَنُو سَلَمَةَ هَذَا أَقْرَؤُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَعْنُونَ عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ، وَكَانَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يؤمُّكم مُعَاذٌ، إِنَّ صَلَاةَ غَيْرِ الْبَالِغِ نَافِلَةٌ لَهُ، فَقَدْ جَوَّزَ لِلْمُفْتَرِضِينَ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِالنَّاسِ، فَسَمِعَ مِنْ خَلْفِهِ صَوْتًا، فَقَالَ عَزَمْتُ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهُ هَذَا إِلَّا قَامَ فَتَوَضَّأَ وَأَعَادَ صَلَاتَهُ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ أَعَادَ الثَّانِيَةَ فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ بَلْ قَالَ لَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَوْ عَزَمْتَ عَلَيْنَا كُلِّنَا فَقُمْنَا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ كُنْتُ سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسَيِّدًا فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ عَزَمْتُ عليكم كلكم وأنا معكم ثم مضوا فتوضؤا وَعَادُوا فَصَلَّى بِهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " فَكَانَتْ صَلَاةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَافِلَةً، وَصَلَاةُ مَنْ خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ فَرِيضَةً، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ تُؤَدَّى جَمَاعَةً وَفُرَادَى فَجَازَ أَنْ تُؤَدَّى إِحْدَاهُمَا خَلْفَ الْأُخْرَى
أَصْلُهُ: مَعَ أبي حنيفة صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ
وَقَوْلُنَا: مُتَّفِقَتَانِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، احْتِرَازًا مِنَ الْمُفْتَرِضِ يُصَلِّي خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي " الْكُسُوفَ "، وَقَوْلُنَا: فُرَادَى احْتِرَازًا مِنَ الْجُمُعَةِ خَلْفَ الظُّهْرِ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَمَّا اشْتُرِطَتْ لِلْفَضِيلَةِ لَا لِلْفَرِيضَةِ جَازَ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي النِّيَّةِ، كَالنَّوَافِلِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي النية شرطاً معتبر المنع الْمُتَنَفِّلَ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي النِّيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي النِّيَّةِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ "(2/318)
قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ الِاقْتِدَاءُ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ أَفْعَالِهِ دُونَ نِيَّتِهِ، وَمَا خَفِيَ مِنْ أَفْعَالِهِ لِأَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ بِهَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، فَلَمْ يَصْرِفِ الْخَبَرَ إلا إلى أَمْكَنَ تَكْلِيفُهُ مِنْ أَفْعَالِهِ الظَّاهِرَةِ، أَلَا تَرَاهُ قال: فإذا كبر فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا
وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ "
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ، فَالْمَعْنَى فِي الْجُمُعَةِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِهَا الْإِمَامُ كَانَ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ يُوَافِقَ نِيَّةَ الْإِمَامِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ شَرْطًا فِي سَائِرِ الْفَرَائِضِ لَمْ تَكُنْ مُوَافَقَةُ الْإِمَامِ فِي النِّيَّةِ شَرْطًا فِيهَا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ بِهِ حَنَفِيًّا: انْتَقَضَ عَلَيْهِ بِالْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ، وَإِنْ كَانَ مَالِكِيًّا: قيل قياسك هذا يعترض عليه بالسنة الثانية وَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ، وَيَنْكَسِرُ بِصَلَاةِ الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ قَدِ اخْتَلَفَتْ نِيَّاتُهُمَا وَتَفَاضَلَتْ أَفْعَالُهُمَا؟ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْتَ مَعَهُمْ عَلَى جَوَازِهَا
ثُمَّ يُقَالُ لأبي حنيفة قَدْ نَاقَضْتَ أَصْلَكَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ
أَحَدُهَا: أَنَّكَ مَنَعْتَ مِنَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ وَأَجَزْتَ النَّذْرَ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ
وَإِنْ قَالَ صَلَاةُ النَّذْرِ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ فَرْضًا قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا، ثُمَّ فِي الْمَنْعِ مِنَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ هُوَ أَنَّ نِيَّةَ الْمَأْمُومِ تَضَمَّنَتْ زِيَادَةً لَمْ تَتَضَمَّنْهَا نِيَّةُ إِمَامِهِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمَنْذُورَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّكَ قُلْتَ إِذَا سَجَدَ الْإِمَامُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ لِسَهْوٍ وَقَعَ فِيهَا ثُمَّ أَدْرَكَهُ مُؤْتَمٌّ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ سُجُودُ السَّهْوِ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَفِي هَذَا نَقْضٌ لِأَصْلِكَ، فَإِنْ قَالَ: سُجُودُ السَّهْوِ عِنْدِي وَاجِبٌ، فَقَدْ صَلَّى مُفْتَرِضٌ خَلْفَ مفترض(2/319)
قِيلَ: لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدِي فَلَا نَقُولُ إِنَّهُ فَرْضٌ، وَلَوْ جَعَلْتَهُ فَرْضًا لَمْ يَكُنْ ظُهْرًا، وَأَنْتَ تَمْنَعُ مِنَ اخْتِلَافِ الْفَرْضَيْنِ
وَالثَّالِثُ: إِنْ قُلْتَ لَوْ صَلَّى بِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ظُهْرًا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ فَلَوْ سَهَا الْإِمَامُ فَصَلَّاهَا كَانَتْ فَرْضَهُ، وَكَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْجَمَاعَةِ نَافِلَةً فَأَجَزْتَ صَلَاةَ الْفَرِيضَةِ خَلْفَ النَّافِلَةِ
فَإِنْ قِيلَ كَانَتْ لَهُمْ فَرْضًا حِينَ أَمَّهُمْ، وَإِنَّمَا صَارَتْ نَافِلَةً لِفِعْلِهِ الْجُمُعَةَ فَقَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ بِالْفَرْضِ
قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْفَرْضَ إِذَا صَحَّ لَمْ يَنْقَلِبْ نَفْلًا، وَلَوْ جَازَ لَكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا جَازَ لَنَا أَنْ نَقُولَ إِنَّ فَرْضَهُمْ سَقَطَ حِينَ صَارَتْ صَلَاتُهُمْ نَافِلَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَحَسَّ الْإِمَامُ بِرَجُلٍ وَهُوَ رَاكِعٌ لَمْ يَنْتَظِرْهُ وَلْتَكُنْ صَلَاتُهُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ المُزني: وَرَأَيْتُ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِانْتِظَارِهِ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ؛ لِتَقْدِيمِهَا عَلَى مَنْ قَصَّرَ فِي إِتْيَانِهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ انْتِظَارُ الْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ قَوْمًا يُدْرِكُونَ الْجَمَاعَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبَانِ يُكْرَهَانِ وَضَرْبٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَأَمَّا الضَّرْبَانِ الْمَكْرُوهَانِ:
فَأَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْتَظِرَ فِي صَلَاتِهِ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَتَكَاثُرَهُمْ، فَيُبْطِلُ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ وَقِرَاءَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ لِيَكْثُرَ جَمْعُهُمْ، وَيَتَلَاحَقَ آخِرُهُمْ بِأَوَّلِهِمْ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ انْتِظَارُهُ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ يَخُصُّهُ بِهِ، إِمَّا إِكْرَامًا لِذِي مَوَدَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ إِعْظَامًا لِذِي رِيَاسَةٍ أَوْ مَهَابَةٍ، فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنَ الِانْتِظَارِ مَكْرُوهَانِ لِأَنَّ فِيهِ إِسْقَاطَ حَقِّ السَّابِقِ الْحَاضِرِ بِانْتِظَارِ مَنْ لَيْسَ بِحَاضِرٍ، وَتَرْكَ الْخُشُوعِ بِقَضَاءِ الْحُقُوقِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ
وَصُورَتُهُ: أَنْ يُحِسَّ الْإِمَامُ وَهُوَ رَاكِعٌ بِرَجُلٍ يُرِيدُ الدُّخُولَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرْهُ وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ، كَانَ أَوْلَى وَأَفْضَلَ. وَإِنِ انْتَظَرَهُ لِيُدْرِكَ الرَّكْعَةَ مَعَهُ جَازَ، وَهَلْ يُكْرَهُ لَهُ وَيَكُونُ مُسِيئًا بِهِ أَمْ لَا، عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: لَا يُكْرَهُ لَهُ وَلَا يَكُونُ مُسِيئًا بَلْ هُوَ مُبَاحٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة؛ فَقَدْ أَشْرَكَ بَيْنَ الْعَمَلِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى(2/320)
وَبَيْنَ الْعَمَلِ لِلْمَخْلُوقِينَ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِشْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ، كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَفْتَى بِشِرْكِهِ وَإِبَاحَةِ دَمِهِ، فَأَخْرَجَهُ عَنِ الْمِلَّةِ بِوَهْمِهِ، وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَى قَوْلِهِ وَكَيْفَ يَكُونُ مُشْرِكًا بِالِانْتِظَارِ وَقَدِ اسْتَحَبَّهُ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَكَانَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ يُخَرِّجُونَ الْقَوْلَيْنِ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الْكَرَاهَةِ، فَإِذَا قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: فَوَجْهُهُ مَا رُوي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى وَأَجْلَسَ الْحَسَنَ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، فَلَمَّا سَجَدَ رَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَأَطَالَ السُّجُودَ، فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ أَطَلْتَ السُّجُودَ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ ابْنِي رَكِبَنِي فَأَطَلْتُ السُّجُودَ لِيَقْضِيَ وَطَرَهُ ". فَلَمَّا اسْتَجَازَ بِطَوِيلِهِ لِيَقْضِيَ الْحَسَنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَطَرَهُ جَازَ انْتِظَارُ الدَّاخِلِ لِيُدْرِكَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِ " ذَاتِ الرِّقَاعِ " وَانْتَظَرَ الطَّائِفَةَ الْأُولَى قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاتِهِ لِيُتِمَّ صَلَاتَهَا، ثُمَّ انْتَظَرَ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ جَالِسًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، لِيُتِمَّ صَلَاتَهَا ثُمَّ يُسَلِّمَ بِهَا، فَلَمَّا انْتَظَرَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ دَلَّ عَلَى جَوَازِ الِانْتِظَارِ لِإِدْرَاكِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ
وَإِذَا قِيلَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَوَجَّهَهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ ". وَفِي انْتِظَارِهِ تَطْوِيلٌ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ وَتَثْقِيلٌ، وَلِأَنَّهُ يَسْقُطُ خُشُوعُهُ بِانْتِظَارِهِ وَتَوَقُّعِ مَجِيئِهِ، وَإِتْيَانُ مَا يُسْقِطُ الْخُشُوعَ مَكْرُوهٌ؛ وَلِأَنَّ انْتِظَارَهُ لِيُدْرِكَ الصَّلَاةَ مَعَهُ يَدْعُوهُ إِلَى تَرْكِ الْمُبَادَرَةِ وَالتَّوَانِي عَنِ الْإِسْرَاعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَظِرْهُ تَخَوَّفَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ فَارْتَدَعَ عَنِ الْإِبْطَاءِ وَانْزَجَرَ عَنِ التَّوَانِي فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ أَتَمَّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَمْ يَحِلَّ لِلْإِمَامِ انْتِظَارُ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الِانْتِظَارُ في وسط الصلاة أولى:
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُؤْتَمُّ بِالْأَعْمَى وَالْعَبْدِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا تُكْرَهُ إِمَامَتُهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ لَا أُوثِرُهَا وَلَا أَكْرَهُهَا، وَلَا أُوثِرُ إِمَامَتَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا أَكْرَهُ إِمَامَتَهُ وَأُوثِرُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، يُرِيدُ أَنَّ إِمَامَةَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ فِي عَدَمِ الْكَرَاهَةِ سَوَاءٌ، غَيْرَ أَنَّ إِمَامَةَ الْبَصِيرِ أَفْضَلُ، وَلَوْ كَانَتْ إِمَامَةُ الْأَعْمَى لَا تُكْرَهُ، وَحُكِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْهُمُ ابْنُ سِيرِينَ وَرُبَّمَا أُضِيفَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا إِمَامَةَ الْأَعْمَى، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَتَوَقَّى الْأَنْجَاسَ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَقُومُ عَلَى صَوَابِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ حَتَّى يُقَامَ عَلَيْهَا وَيُصَوَّبَ نَحْوَهَا، فَاعْتَوَرَهُ النَّقْصُ بِهَذَيْنِ(2/321)
وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ مِرَارًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَكَانَ ضَرِيرًا. وَكَانَ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ يُصَلِّي بِقَوْمِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويعلمه وَكَانَ ضَرِيرًا، لَا يَنْهَاهُ وَلَا يَأْمُرُ قَوْمَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلُوا بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَنْكَفَّ بَصَرُهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، فَيَكْثُرُ خُشُوعُهُ وَيُخْلِصُ قَلْبُهُ، وَلِأَنَّ الْعَمَى فَقْدُ عُضْوٍ وَفَقْدُ الْأَعْضَاءِ لَا تَمْنَعُ مِنَ الْإِمَامَةِ كَالْأَقْطَعِ
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَا يَتَوَقَّى الْأَنْجَاسَ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ طَهَارَتُهُ وَالشَّيْءَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ وَظَاهِرِهِ وَلَوِ اعْتَبَرْنَا هَذَا لَرَأَيْنَا كَثِيرًا مِنَ الْبُصَرَاءِ بهذا الوصف فلم يكن الأعمى مختصاً به
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يُرشد إِلَى الْقِبْلَةِ وَيُوَجَّهُ نَحْوَهَا، فَذَاكَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَّا فِي وَقْتِ ائْتِمَامِهِمْ بِهِ فَإِنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ مِنَ الْقِبْلَةِ وَيَقِينٍ كَالْبَصِيرِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْعَبْدُ فَإِمَامَتُهُ جَائِزَةٌ وَلَا تُكْرَهُ، وَإِمَامَةُ الْحُرِّ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مِجْلَزٍ أَنَّهُ كَرِهَ إِمَامَتَهُ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ إِمَامَتَهُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِنَقْصِهِ بِالرِّقِّ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ إِمَامَتِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لِمَنْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ وُلّي عَلَيْكُمْ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ مَا أَقَامَ بِكُمُ الصَّلَاةَ ". وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى خَلْفَ مَوْلًى لَهُ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ صُهَيْبَ بْنَ سِنَانٍ الرُّومِيَّ فَصَلَّى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَكَانَ عَبْدًا لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. فَلَمْ يَكْرَهْ إِمَامَتَهُ أحد من الصحابة، وروى المسور بن محزمة قَالَ: كُنَّا نَخْتَلِفُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَجَمَاعَةٌ فَتَأْمُرُ عَبْدًا لَهَا يُقَالُ لَهُ أَبُو عَمْرٍو فَيُصَلِّي بِنَا عِنْدَ وَقْتِ الصَّلَاةِ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِمَامَتَهُ جَائِزَةٌ وَغَيْرُ مَكْرُوهَةٍ فَإِمَامَةُ الْحُرِّ أَفْضَلُ مِنْهُ، لِنَقْصِهِ بِرِقِّهِ وَكَمَالِ الْحُرِّ بَحُرِّيَّتِهِ، وَثُبُوتِ وِلَايَتِهِ وَجَوَازِ شَهَادَتِهِ، وَإِمَامَةُ الْحُرِّ الضَّرِيرِ أَفْضَلُ مِنْ إِمَامَةِ الْعَبْدِ الْبَصِيرِ، لِأَنَّ الرِّقَّ نَقْصٌ، فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ الْعَبْدَ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ فِي الْإِمَامَةِ، قِيلَ إِنْ كَانَتْ إِمَامَتُهُ بِقَدْرِ صَلَاتِهِ فِي الِانْفِرَادِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُهُ، وَإِنْ تَطَاوَلَ عَنْ حَدِّ الِانْفِرَادِ كَالْجُمُعَةِ لَزِمَهُ اسْتِئْذَانُهُ لِمَا فِيهَا مِنْ تَفْوِيتِ خِدْمَتِهِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَكْرَهُ إِمَامَةَ وَلَدِ الزِّنَا وَإِمَامَةَ مَنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَهَى رَجُلًا كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ. فَإِنْ أَمَّ(2/322)
قَوْمًا صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ، لِرِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَؤُمُّكُمْ أقرؤُكم وَإِنْ كَانَ وَلَدَ زِنًا ". وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ التَّابِعِينَ الْفُضَلَاءَ صَلَّوْا خَلْفَ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ، وَهُوَ مِمَّنْ فِي نَسَبِهِ نَظَرٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِجَمَاعَةٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يُصَلِّ أَحَدُكُمْ بِقَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ " وَرُوِيَ " مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ " فَإِنْ أَمَّهُمْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ وَإِيَّاهُمْ
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَكْرَهُ إِمَامَةَ مَنْ يُلْحِنُ، لِأَنَّهُ قَدْ يُحِيلُ الْمَعْنَى، فَإِنْ لحن أَوْ لَفَظَ بِالْعَجَمِيَّةِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَتْهُ دُونَهُمْ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا أَجْزَأَتْهُمْ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
أَمَّا اللحَنَة فِي الْقُرْآنِ فَإِمَامَتُهُ مَكْرُوهَةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يؤمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ". وَاللُّحَنَةُ لَا يَسْتَحِقُّ هَذِهِ الصِّفَةَ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا سَمِعَهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ وَمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَظَنَّ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ وَتُشْرَعُ الْقِرَاءَةُ بِهِ، فَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِ
فَإِنْ أَمَّ مَنْ يَلْحَنُ وَصَلَّى النَّاسُ خَلْفَهُ جَمَاعَةٌ لَمْ يَخْلُ لَحْنُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْفَاتِحَةِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ. فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ: فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحِيلَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُحِيلَهُ فَإِنْ لَمْ يُحِلِ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ جَائِزَةً، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَوِّمَ لِسَانَهُ بِقَصْدِ الصَّوَابِ، وَمُعَاطَاةِ الْإِعْرَابِ وَإِنْ أَحَالَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْبِقَ بِهِ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَعَهُّدٍ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا، فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا وَجَبَ مِنَ الْقُرْآنِ سَلِيمًا وَكَانَ النَّقْصُ فِيمَا لَا يَضُرُّ تَرْكُهُ، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ وَلَا أَثَّرَ فِي صِحَّتِهَا
وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ إِحَالَةَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالصَّوَابِ فِيهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ مَعَ إِسَاءَتِهِ وَإِثْمِهِ، لِأَنَّ إِحَالَةَ الْمَعْنَى تُزِيلُ إعجاز اللفظ، ويبطل حكمه، ويخرجه مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ إِلَى جِنْسِ الْكَلَامِ، فَيَصِيرُ كَالْمُتَكَلِّمِ عَامِدًا فِي صَلَاتِهِ، فَلِذَلِكَ بَطَلَتْ، فَأَمَّا مَنْ خَلْفَهُ مِنَ(2/323)
الْمَأْمُومِينَ فَإِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ كَالْمُصَلِّي خَلْفَ جُنُبٍ
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ يَكُونَ لَحْنُهُ فِي الْفَاتِحَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُحِيلَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُحِيلَهُ، فَإِنْ لَمْ يُحِلِ الْمَعْنَى فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ كَقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] بفتح الدال {وإياك نستعين اهْدِنَا الصِّرَاطَ} [الفاتحة: 5، 6] بِكَسْرِ النُّونِ مِنْ نَسْتَعِينُ وَفَتْحِ الْأَلِفِ مِنَ اهْدِنَا، فَهَذَا اللَّحْنُ وَأَشْبَاهُهُ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَبْطُلِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِلَفْظِهِ وَإِنْ أَسَاءَ فِي الْعِبَارَةِ بِلَحْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ سُوءُ عِبَارَتِهِ مَعَ اسْتِيفَاءِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُؤَثِّرًا فِي صَلَاتِهِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُحِيلَ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ، كَقَوْلِهِ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ بِضَمِّ التَّاءِ، وَلَا الظَّالِّينَ بِالظَّاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ عَلَى الشَّيْءِ، لَا مِنَ الضَّلَالِ إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ اللَّحْنِ الْمُحِيلِ لِلْمَعْنَى. فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِإِحَالَةِ الْمَعْنَى مَعَ مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ، فَهَذَا فَاسِقٌ بَلْ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنَادًا كَانَ كَافِرًا وَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَلَاتِهِ، عادل عن وَجَبَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بحاله فصلاتهم جائزة، إلا أن يحكم بكفر الْإِمَامُ لِاسْتِهْزَائِهِ فَلَزِمَهُمُ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بحاله كالمؤتم الكافر
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِإِحَالَةِ الْمَعْنَى، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّوَابِ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهَا سَاهِيًا أَوْ نَاسِيًا فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ قِرَاءَةَ بَعْضِ الْفَاتِحَةِ نَاسِيًا وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ سَلَامِهِ أَعَادَ قِرَاءَةَ مَا أَحَالَ مَعْنَاهُ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا عَرِيَتْ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ سَلَامِهِ وَقَدْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ. فَفِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ مَضَيَا
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ
وَأَمَّا مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ فَإِنْ جَوَّزْنَا صَلَاتَهُ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ وَإِنْ أَبْطَلْنَا صَلَاتَهُ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ، وَجَائِزَةٌ إِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يِقْدِرَ عَلَى الصَّوَابِ إِمَّا لِبُطْءِ ذِهْنِهِ وَقِلَّةِ ضَبْطِهِ، أَوْ لِاضْطِرَابِ لِسَانِهِ وَتَعَذُّرِ اسْتِقَامَتِهِ، فَصَلَاتَهُ فِي نَفْسِهِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا لَا يُمْكِنُهُ الزِّيَادَةُ عليه. فأما(2/324)
صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ حَالِهِ بِإِحَالَةِ الْمَعْنَى بِلَحْنِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّقْصِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَادِرًا عَلَى إِتْمَامِ الْقِرَاءَةِ بِإِصَابَةِ الْمَعَانِي وَاجْتِنَابِ اللَّحْنِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْقَارِئِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ الْأُمِّيِّ فَيَكُونُ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَلَوِ اخْتَلَفَ لَحْنُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَأَحَالَ الْإِمَامُ بِلَحْنِهِ مَعْنَى كَلِمَةٍ أَصَابَ الْمَأْمُومُ مَعْنَاهَا، وَأَحَالَ مَعْنَى كَلِمَةٍ سِوَاهَا فَفِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي اللَّحْنِ وَإِنِ اخْتَلَفَ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: بَاطِلَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ يَفْضُلُ عَلَى إِمَامِهِ فِيمَا قَصَّرَ عَنْهُ، وَإِنِ اعْتَوَرَهُ النَّقْصُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ وَيُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ لَا يَلْحَنُ فِيهِنَّ أَوْ لَا يُحْسِنُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ يُسَبِّحُ وَلَا يَلْحَنُ، فَفِي إِيجَابِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ يُحِيلُ بِلَحْنِهِ مَعْنَى الْفَاتِحَةِ وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْأَعْجَمِيُّ إِذَا لَفَظَ بِأَعْجَمِيَّةٍ فَأَحَالَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ بِعَجَمِيَّتِهِ كَأَنَّهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْهَاءِ أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْحَاءِ مُعْجَمَةً، فَهَذَا مُحِيلٌ لِلْمَعْنَى بِكُلِّ حَالٍ، وَهِيَ اللُّكْنَةُ، لِأَنَّ اللُّكْنَةَ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى الْكَلَامِ اللُّغَةُ الْأَعْجَمِيَّةُ، وَالطَّمْطَمَةُ، أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مُشَبَّهًا بِكَلَامِ الْعَجَمِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِيمَنْ أَحَالَ المعنى على ما مضى من الجواب سواه، وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ آلِ السَّائِبِ كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمَكَّةَ وَكَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ فَأَخَّرَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَقَدَّمَ غَيْرَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهَمَّ بِالْمِسْوَرِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ فَكَانَ فِي الْحَجِّ فَخَشِيتُ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ الْحَاجِّ فَيَأْخُذُ بِعَجَمِيَّتِهِ فَقَالَ لَهُ: أَصَبْتَ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَكْرَهُ إِمَامَةَ مَنْ بِهِ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ، فإنْ أَمَّ أَجْزَأَ إِذَا قَرَأَ مَا يُجزئُ فِي الصَّلَاةِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ
أَمَّا التَّمْتَمَةُ: فَهِيَ التَّرَدُّدُ فِي التَّاءِ، وَأَمَّا الْفَأْفَأَةُ فَهِيَ التَّرَدُّدُ فِي الْفَاءِ، فَتُكْرَهُ إِمَامَةُ التَّمْتَامِ وَالْفَأْفَاءِ؛ لِزِيَادَتِهِمْ عَلَى الْكَلِمَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَإِنْ أمُّوا جاز وصحت صلاته مَنِ ائْتَمَّ بِهِمْ، لِإِتْيَانِهِمْ بِالْوَاجِبِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَمَا أَتَوْهُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ، كَمَنْ كَرَّرَ الْفَاتِحَةَ نَاسِيًا
وَأَمَّا الْعُقْلَةُ فَهِيَ: الْتِقَاءُ اللِّسَانِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْكَلِمَةِ ثُمَّ تَأْتِي الْكَلِمَةُ سَلِيمَةً بَعْدَ جُهْدٍ فَهَذَا كَالتِّمْتَامِ تَجُوزُ إِمَامَتُهُ وَإِنْ كُرِهَتْ؛ وَكَذَلِكَ الرَّدَّةُ وَهِيَ: تَكَرُّرُ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ إِرَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ تَمَالُكٍ لِلْإِمْسَاكِ عَنْهَا، فَأَمَّا الْغُنَّةُ فَهِيَ: أَنْ يَشْرَبَ صَوْتُ الْخَيْشُومِ، وَالْخُنَّةُ أَشَدُّ مِنَ الْغُنَّةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الْإِمَامَةِ، لِأَنَّ الْكَلِمَةَ تَأْتِي سَلِيمَةً(2/325)
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَؤُمُّ الْأَرَتُّ، وَلَا الْأَلْتَغُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَرَتُّ فَهُوَ: الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلِمَةِ إِلَّا بِإِسْقَاطِ بَعْضِهَا، وَأَمَّا الْأَلْتَغُ فَهُوَ: الَّذِي يَعْدِلُ بِحَرْفٍ إِلَى حَرْفٍ فَيَجْعَلُ الرَّاءَ غَيْنًا وَاللَّامَ يَاءً وَالسِّينَ شِينًا، فَإِمَامَةُ هَذَيْنِ غير جائرة إِلَّا لِمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ حَالِهِمَا؛ وَإِنَّمَا لم تجز إمامتها، لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ بِجَمِيعِ حُرُوفِهَا، فَإِذَا عَدَلَ بِحَرْفٍ مِنْهَا أَوْ تَرَكَهُ كَانَ كَمَنْ تَرَكَ جَمِيعَهَا، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِمَا قَارِئٌ سَلِيمُ اللِّسَانِ كَانَ كَالْقَارِئِ الْمُصَلِّي خَلْفَ أُمِّيٍّ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ، فَلَوِ اخْتَلَفَتْ لُغَةُ رَجُلَيْنِ فَقَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرْفًا أَتَى بِهِ الْآخَرُ سَلِيمًا لَمْ يَجُزْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْجِزُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَرْفِ الَّذِي أَتَى بِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْصًا فِيهِ، وَيَجُوزُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّقْصِ، فَأَمَّا الْحُبْسَةُ فِي اللِّسَانِ فَهُوَ تَعَذُّرُ الْكَلَامِ عِنْدَ إِرَادَتِهِ
وَأَمَّا اللَّفَفُ فَهُوَ: إِدْخَالُ حَرْفٍ فِي حَرْفٍ
وَالْعَمْعَمَةُ: أَنْ يُسْمِعَ الصَّوْتَ وَلَا يُبَيِّنَ لَكَ تَقْطِيعَ الْحُرُوفِ؛ وَالْكَلَامُ فِي إِمَامَتِهِ هُوَ كَالْكَلَامِ فِي الْأَرَتِّ، وَالْأَلْتَغِ سَوَاءٌ، فَأَمَّا الْأَخْرَسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ نَاطِقًا وَيَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ مِثْلَهُ أَخَرَسَ
(القول في إمامة الرجل المرأة)
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَأْتَمُّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَلَا بِخُنْثَى، فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمَرْأَةِ بِحَالٍ، فَإِنْ فِعَلَ أَعَادَ صَلَاتَهُ، وَهَذَا قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَإِنَّهُ شَذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ فَجَوَّزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمَرْأَةِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يؤم القوم أقرأهم ". قَالَ: وَلِأَنَّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِالرِّجَالِ صح أن يكون إما ما لِلرِّجَالِ كَالرِّجَالِ. قَالَ: وَلِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ أَشَدُّ مِنْ نَقْصِ الْأُنُوثِيَّةِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ بِالْعَبْدِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ إِمَامًا لِلْأَحْرَارِ كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِإِمَامَتِهِمْ أَوْلَى وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 23] قال الشافعي فقصرت مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ وِلَايَةٌ وَقِيَامٌ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أخِّروهن مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ "، فَإِذَا وَجَبَ تَأْخِيرُهُنَّ حَرُمَ تَقْدِيمُهُنَّ؛ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إِلَى امْرَأَةٍ " ولأن المرأة عورة، وفي إمامتها افتنان بِهَا؛ وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّصْفِيقَ لَهَا بَدَلًا مِنَ التَّسْبِيحِ لِلرَّجُلِ فِي نوائب الصلاة(2/326)
خَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِصَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ فِي الِائْتِمَامِ بِهَا، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ وِلَايَةٌ وَمَوْضِعُ فَضِيلَةٍ وَلَيْسَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ، أَلَا تَرَاهَا لَا تَلِي الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى وَلَا الْقَضَاءَ وَلَا عَقْدَ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ إِمَامَةُ الصَّلَاةِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ " فَالْقَوْمُ يَنْطَلِقُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نساءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11] . فَلَوْ دَخَلَ النِّسَاءُ فِي الْقَوْمِ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَهُنَّ فِيمَا بَعْدُ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
(وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم الحصن أَمْ نِسَاءُ)
فَأَمَّا الرَّجُلُ: فَالْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهُ من أهل الولايات، وممن لا يخشى الافتنان بِصَوْتِهِ؛ وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ نَقْصَ الرِّقِّ دُونَ نَقْصِ الْأُنُوثِيَّةِ، لِأَنَّهُ عَارِضٌ يَزُولُ وَالْأُنُوثِيَّةُ نَقْصٌ ذَاتِيٌّ لَا يَزُولُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يُخْشَى الِافْتِتَانُ بِهِ
(فصل: [القول في إمامة الخنثى] )
لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْتَمَّ بِالْخُنْثَى، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَلَا لِلْخُنْثَى أَنْ يَأْتَمَّ بِالْمَرْأَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، لَكِنْ يَجُوزُ للخنثى أن يأتم بالرجل والمرأة والخنثى، فَلَوِ ائْتَمَّ رَجُلٌ بِخُنْثَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ، فَلَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ أَنَّ الْخُنْثَى رَجُلٌ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ لَوِ ائْتَمَّ بِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ خُنْثَى فَلَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ أَنَّهُ رَجُلٌ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ بِحَالِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ
وَقَدْ خُرِّجَ فِيهَا قَوْلٌ آخَرُ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ رَأَى سَوَادًا فَظَنَّ أَنَّهُمْ عَدْوٌ فَصَلَّى صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُمْ غَيْرُ عَدُوٍّ، وَلَكِنْ لَوِ ائْتَمَّ خُنْثَى بِامْرَأَةٍ فَلَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ أَنَّ الْخُنْثَى امْرَأَةٌ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ إِمَامَهُ امْرَأَةٌ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ عَلِمَ فَلَمْ يُعِدْ حَتَّى بَانَ امْرَأَةً فَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ، كَمَا إِذَا عَلِمَ بِحَالِهَا عِنْدَ إِحْرَامِهِ، وَيَجِيءُ تَخْرِيجُ قَوْلٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ فَلَوْ أَنَّ خُنْثَى مُشْكِلًا زَالَ عَنْهُ الْإِشْكَالُ وَبَانَ امْرَأَةً كَرِهْنَا لَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِامْرَأَةٍ فَإِنِ ائْتَمَّ بِهَا جَازَ، لِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ امْرَأَةً، وَلَوْ بَانَ رَجُلًا كَرِهْنَا لِغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يُعِدْ لِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ رَجُلًا، وَاللَّهُ تعالى أعلم بالصواب
(مسألة)
: فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَيَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي الْفَرَائِضِ كُلِّهَا إِذَا كَانَ مُرَاهِقًا، إِلَّا الْجُمُعَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ(2/327)
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَلَا تَجُوزُ إِمَامَتُهُ
وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ حَمَّادٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: كنتُ بالحاضرة وكان كل مَنْ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمُرُّ بِنَا فَإِذَا رَجَعَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَذَا وَكَذَا فَأَحْفَظُ، وَكُنْتُ عَاقِلًا حَافِظًا، فَحَفِظْتُ أَكْثَرَ الْقُرْآنِ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي قَوْمِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفْدًا، فَعَلَّمَهُمُ الصَّلَاةَ وَقَالَ يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ فَقَالُوا هَذَا أَقْرَؤُنَا يَعْنُونَنِي فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ وَعَلَى جَنَائِزِهِمْ وَأَنَا ابْنُ تِسْعٍ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا نَأْخُذُ الصِّبْيَانَ مِنَ الْكُتَّابِ لِيُصَلُّوا بِنَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَعْمَلُ لَهُمُ الْقَبَلِيَّةَ وَالْحَسَكَاتِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وأكرَه إِمَامَةَ الْفَاسِقِ، وَالْمُظْهِرِ لِلْبِدَعِ، وَلَا يُعِيدُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِمَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ، أَصْلُ الْفِسْقِ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] . أَيْ خَرَجَ مِنْ طَاعَتِهِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ فَاسِقٌ إِذَا كَانَ عريان قَدْ تَجَرَّدَ مِنْ أَثْوَابِهِ، وَتَقُولُ: فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا؛ فَالْفَاسِقُ فِي دِينِهِ: هُوَ الْخَارِجُ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فِكُرِهَ إِمَامَتُهُ، وَيُمْنَعُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ " فَأَجْهَرَ بِالْفَضْلِ فِي الذِّكْرِ وَنَبَّهَ عَلَى الْفَضْلِ فِي غَيْرِ الذِّكْرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أصلحكم وأودعكم وَأَرْشَدُكُمْ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لِيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ ". وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " انْتَقِدُوا أَئِمَّتَكُمُ انْتِقَادَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ "
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِمَامَةَ الْفَاسِقِ مَمْنُوعٌ مِنْهَا فَالْفِسْقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْمِلَّةِ وَيُبَايِنَ بِهِ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ وَيَصِيرَ بِهِ كَافِرًا، كَشَارِبِ الْخَمْرِ بِعَيْنِهَا وَيَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهَا وَتَحْلِيلَهَا، أَوْ مَنْ زَنَى أَوْ لَاطَ مُصِرًّا لَا يَرَى ذَلِكَ حَرَامًا، وَلَا أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَإِذَا اسْتَحَلَّ الْأَمْوَالَ الْمَحْظُورَةَ اسْتِخْفَافًا بِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، أَوِ اسْتباح سَفْكَ الدِّمَاءِ الْمَحْقُونَةِ اجْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنَ الْفِسْقِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِمَامَتُهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ، فَمَنِ ائْتَمَّ بِهِ كَانَ كَمَنِ ائْتَمَّ بِكَافِرٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ الْحُكْمَ فِيهِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْفِسْقِ مَا لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ، وَلَا يُبَايِنُ بِهِ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الِاعْتِقَادِ. فَالْفَاسِقُ بِفِعْلِهِ ك " شارب الْخَمْرِ " نَادِمًا، وَالْمُقْدِمِ عَلَى(2/328)
الْمَحْظُورَاتِ خَائِفًا مُسْتَنْفِرًا، وَالْفَاسِقُ بِاعْتِقَادِهِ كَمَنْ يَرَى سَبَّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَتَكْفِيرَهُمْ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ
فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنَ الْفِسْقِ لَا يَكُونُ بِهِمَا كَافِرًا وَإِمَامَةُ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مَكْرُوهَةٌ وَلَا إِعَادَةَ عَلَى مَنِ ائْتَمَّ بِهِ
قَالَ مَالِكٌ: الْفَاسِقُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَفِي الْمُتَأَوِّلِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ(2/329)
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، رِوَايَةُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ وَالصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَأَنَسًا صَلَّوْا خَلْفَ الْحَجَّاجِ، وَكَفَى بِهِ فَاسِقًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا صَحَّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا كَالْعَدْلِ
(الْقَوْلُ فِي صلاة القارئ خلف الأمي)
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ أَمَّ أُمِّيٌّ بِمَنْ يَقْرَأُ أَعَادَ الْقَارِئُ وإن ائتم به مثله أجزأه (قال المزني) قد أجاز صلاة من ائتم بجنب والجنب ليس في صلاة فكيف لا يجوز من ائتم بأمي والأمي في صلاة وقد وضعت القراءة عن الأمي ولم يوضع الطهر عن المصلي وأصله أن كلا مصل عن نفسه فكيف يجزئه خلف العاصي بترك الغسل ولا يجزئه خلف المطيع الذي لم يقصر وقد احتج بان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى قاعداً بقيام وفقد القيام أشد من فقد القراءة فتفهم (قال المزني) القياس أن كل مصل خلف جنب وامرأة ومجنون وكافر يجزئه صلاته إذا لم يعلم بحالهم لأن كل مصل لنفسه لا تفسد عليه صلاته بفسادها على غيره قياساً على أصل قول الشافعي في صلاة الخوف للطائفة الثانية ركعتها مع الإمام إذا نسي سجدةً من الأولى وقد بطلت هذه الركعة الثانية على الإمام وأجزأتهم عنده (قال) ولا يكون هذا أكثر ممن ترك أم القرآن فقد أجاز لمن صلى ركعة يقرأ فيها بأم القرآن وإن لم يقرأ بها إمامُهُ وهو في معنى ما وصفت "
قال الماوردي: أما الأمي في اللسان فَهُوَ: الْبَاقِي عَلَى أُمِّيَّتِهِ يَعْنِي: عَلَى خِلْقَتِهِ الأولة لَا يَعْلَمُ شَيْئًا وَكُلُّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُهُ جَازَ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أُمِّيٌّ من ذَلِكَ الشَّيْءِ لَكِنَّ الَّذِي أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ أُمِّيٌّ هُوَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ قَارِئٌ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ وَكَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ عِنْدَ إِحْرَامِهِ فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِفَسَادِ إِحْرَامِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ؛ أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا(2/330)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَعَلَيْهِ نَصٌّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ فِي الْقَدِيمِ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَأَوْجَبَهَا فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مُخَرَّجٌ عَلَى الْجَدِيدِ تَعْلِيلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ فِي الْقَدِيمِ فَقَالَ: لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَأْتِي بِفَرْضِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةٍ يُسِرُّ فِيهَا وَلَا تَلْزَمُهُ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي يَجْهَرُ فِيهَا، وَهُوَ فِي الْجَدِيدِ يَرَى وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا
فَإِنْ قِيلَ: بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَسُقُوطِ الْإِعَادَةِ فِيهِ؛ فَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا صَحَّتْ خَلْفَ الْجُنُبِ وَالْجُنُبُ عَاصٍ لَا طَهَارَةَ لَهُ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ، فَالْأُمِّيُّ الَّذِي لَيْسَ بعاصٍ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ يَصِحُّ مِنْهُ جَمِيعُ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ، إِلَّا الْقِرَاءَةَ الَّتِي قَدِ انْتَقَلَ إِلَى بَدَلِهَا أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لِمَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ الرُّكْنِ
أَصْلُهُ: ائْتِمَامُ الْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ وَهَذَا نُكْتَةُ هَذَا الْقَوْلِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَوْ نَسِيَ سجدة من الركعة الأولة حَتَّى قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ ثُمَّ أَحْرَمَتِ الطَّائِفَةُ الثانية خلفه كان عمله في الثانية كلا عَمَلٍ، إِلَّا السَّجْدَةَ يَجْهَرُ بِهَا الْأُولَى، وَصَحَّتْ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يُعْتَدَّ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا، فَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي خَلْفَ أُمِّيٍّ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ فَقْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ لَا تُؤَثِّرُ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ وَوُجُوبِ الْإِعَادَةِ هُوَ أَظْهَرُ الْأَقَاوِيلِ وَأَصَحُّهَا رواية ابن مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " يؤم القوم أقرأهم لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " يؤمكم أقرأكم " فَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنِ الْمَأْمُومِ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا وقراءة السُّورَةَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَإِذَا كَانَ أُمِّيًّا لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّحَمُّلِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ تَحَمُّلُهُ لَمْ تَصِحَّ إِمَامَتُهُ وبهذا المعنى فرقنا بين الأمي والجنب، والقاعدة؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ وَالْقِيَامَ لَا يَتَحَمَّلُهَا الْإِمَامُ فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُهُمَا قَادِحًا فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، وَأَمَّا إِذَا نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الخوف ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي الثَّانِيَةِ قَائِمًا اعْتَدَّ بِهَا للمأموم لِأَنَّ الْإِمَامَ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ، وَالْأُمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ الْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ عَدَمُ الْقِرَاءَةِ وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ فِيهَا أَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا أَلَا تَرَى لَوْ كَانَ الْإِمَامُ قَارِئًا فَنَسِيَ الْقِرَاءَةَ جَازَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، لِأَنَّ إِمَامَهُ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأُمِّيُّ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ
وَقَالَ أبو حنيفة: صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَاطِلَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ(2/331)
عَنِ الْمَأْمُومِ وَإِذَا تَضَمَّنَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهَا وَالْأُمِّيُّ عَاجِزٌ عَنْهَا وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَأْتِ بِهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ...
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ كُلَّ مَنِ ائْتَمَّ بِغَيْرِهِ فِي صَلَاةٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَجَبَ إِذَا أَمَّهُ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ
أَصْلُهُ الْإِمَامُ الْأُمِّيُّ بَدَلًا مِنَ الْقَارِئِ بِالْقَارِئِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ إِذَا أُئِم بِمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَهُ
أَصْلُهُ: إِمَامَةُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ وَلِأَنَّ الْأُصُولَ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ فَسَادَ صَلَاةِ الْإِمَامِ تَتَعَدَّى إِلَى صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَلَا يَتَعَدَّى فَسَادُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى لَوْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا إِذَا عَلِمَ بِحَالِهِ، وَعِنْدَ أبي حنيفة مَعَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ مُتَطَهِّرًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كَانَ جُنُبًا علماً بِجَنَابَتِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فَسَادَ صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ لَا تُبْطِلُ صَلَاةَ الْأُمِّيِّ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِوُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ تَحَمُّلَهَا بِالْإِمَامَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ إِذَا سَلَّمَ لَهُمْ ضَمَانَ تَحَمُّلِهَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا وَجَبَ تَحَمُّلًا عَنْ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لَا رُكْنًا مَفْرُوضًا مِنْ صَلَاتِهِ فَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا أَنْ تَبْطُلَ الصَّلَاةُ التي وجبت فيها الصلاة متحملها، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ضَمِنَ شَيْئًا ضَمَانًا فَاسِدًا أَنَّ الْحَقَّ لَازِمٌ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ دُونَ الضَّامِنِ فَلِذَلِكَ هَذَا
(فَصْلٌ)
: إِذَا صَلَّى مَنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ خَلْفَ مَنْ لَا يُحْسِنُهَا وَيُحْسِنُ مَا عَدَاهَا مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ كَصَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَالْعَاجِزُ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى غَيْرِهَا مَعَ مَنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ كَالْأُمِّيِّ مَعَ الْقَارِئِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ كَانَ يُحْسِنُهَا فَقَرَأَ غَيْرَهَا لَمْ تُجْزِهِ وَلَوْ كَانَا مَعًا لَا يُحْسِنَانِ الْفَاتِحَةَ. إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ وَالْآخَرَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَأَوْلَاهُمَا بِالْإِمَامَةِ أَكْثَرُهُمَا قِرَاءَةً لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ " فَإِنْ أَمَّ مَنْ يُحْسِنُ سَبْعَ آيَاتٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ تَسَاوَيَا فِي فَقْدِ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَانْفِرَادِ أَحَدِهِمَا بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَصَارَتْ مَنْزِلَتُهُ مَنْزِلَةَ مَنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا إِذَا أَمَّ مَنْ يُحْسِنُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ فَلَوْ صَلَّى قَارِئٌ خَلْفَ رَجُلٍ لَا يَعْلَمُ أَقَارِئٌ هُوَ أَمْ أُمِّيٌّ فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ إِسْرَارٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَدْ قَرَأَ وَتُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أُمِّيًّا، وَإِنْ كَانَتْ صلاة جهر ولم يسمعه قَرَأَ فِيهَا وَلَا عَلِمَهُ قَارِئًا فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهَا، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُسِرًّا بِقِرَاءَتِهَا أَوْ نَاسِيًا لَهَا، وَعَلَيْهِ الإعادة بغلبة الحكم الظَّاهِرِ
فَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ قَدْ قَرَأْتُ سِرًّا فِي نَفْسِي وَصَدَّقَهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ كَانَ أَوْلَى
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالِاخْتِيَارُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ فَصِيحَ اللِّسَانِ، حَسَنَ الْبَيَانِ، مرتلاً للقرآن(2/332)
( [القول في إمامة الكافر] )
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنِ ائْتَمَّ بكافرٍ ثُمَّ عَلِمَ أَعَادَ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا إِسْلَامًا مِنْهُ وَعُزِّرَ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَكُونُ إِمَامًا بِحَالٍ وَالْمُؤْمِنُ يَكُونُ إِمَامًا فِي الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ
إِذَا صَلَّى الْكَافِرُ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا فِي مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ صَلَّى جَمَاعَةً كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا، وَإِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ كَانَ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أولئك أن يكونوا من المهتدين} فَجَعَلَ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ دَلَالَةً عَلَى الْإِيمَانِ، وَلَيْسَتْ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ بُنْيَانَهُ، وَإِنَّمَا عِمَارَتُهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ
وَبِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا " وَرُوِيَ " فَهُوَ مُسْلِمٌ لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا " وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ رَأَيْتُمُوهُ مُلَازِمَ الْمَسْجِدِ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ "، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ ". فَلَمَّا حَقَنَ دَمَهُ بِالصَّلَاةِ فَيَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْلَامِهِ، ويقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ " قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَخْتَصُّ بِهَا الْبَيْتُ أَتَى بِهَا عَلَى كَمَالِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِإِسْلَامِهِ قِيَاسًا عَلَى الْأَذَانِ، لِأَنَّ مِنْ سُنَّتِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَقَوْلُهُمْ أَتَى بِهَا عَلَى كَمَالِهَا احْتِرَازًا مِنْ صَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ كَمَالِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى قِيَاسِهِمُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَيَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {واقتلوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَرَفَعَ حُكْمَ الشِّرْكِ وَاسْتِبَاحَةَ الْقَتْلِ بِالتَّوْبَةِ وَالصَّلَاةِ مَعًا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا بَاقِيًا عَلَى حُكْمِ الشِّرْكِ حَتَّى تُوجَدَ التَّوْبَةُ، وَهِيَ الشَّهَادَتَانِ(2/333)
وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وأمرت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ". فَجَعَلَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَمًا فِي تَحْرِيمِ قِتَالِهِمْ وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ دُونَ الصَّلَاةِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مَرَّ برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ فَقَالَ: " إِذَا لَمْ أَعْدِلْ أَنَا فَمَنْ يَعْدِلُ " وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَاءَهُ لِيَقْتُلَهُ، فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَرَجَعَ، وَقَالَ مَا قَتَلْتُهُ لِأَنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي وَقَدْ نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ، فَبَعَثَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَاءَهُ ليقتله، فرجع كَذَلِكَ، فَبَعَثَ بِعَلِيٍّ وَرَاءَهُ وَقَالَ إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَهُ فَذَهَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يَجِدْهُ
فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا بِالصَّلَاةِ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصَلَاتِهِ لَمْ يَأْمُرْ عُمَرَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِقَتْلِهِ
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِسْلَامًا مِنْهُ.
قِيلَ: تَرْكُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السُّؤَالَ عَنْ كَيْفِيَّةِ صَلَاتِهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّفَاقِ الْحُكْمِ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِفِعْلِهِ مُنْفَرِدًا لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِفِعْلِهِ جَامِعًا كَالْمُصَلِّي فِي السَّفَرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا يَكُونُ كَافِرًا بِتَرْكِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَ فِعْلِهِ، أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَوْ فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ يَجِبُ إِذَا فَعَلَهُ فِي جَمَاعَةٍ أَلَّا يُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ كَالْجِهَادِ، وَلِأَنَّهُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى إِسْلَامِهِ كَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِمَارَةِ الْبِنَاءُ دون إقامة الصلاة اعتباراً بحقيقة الاسم وعرفه، كيف وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهَا: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [التوبة: 18] فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعِمَارَةِ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ لَمْ يُعِدْ ذِكْرَ الْإِقَامَةِ ثَانِيَةً
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ لَوْ سَلَّمْنَا لَهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ مَنْ عَمَّرَ مَسَاجِدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُؤْمِنُ مَنْ يُعَمِّرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ، فَجَعَلَ الْإِيمَانَ دَلَالَةً عَلَى الْعِمَارَةِ ودلالة على الإيمان
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من استقبل قبلتنا. . الحديث " فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ، وَإِنْ صَلَّى صَلَاتَنَا كَانَ لَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا، غَيْرَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا صَلَاةَ لَهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لا تصح إلا بعد تقديم الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ "(2/334)
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُلَازِمُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ " فمتروك الظاهرة بِاتِّفَاقٍ، لِأَنَّهُ بِمُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا
فَإِنْ قَالُوا: أَرَادَ بِهِ إِذَا لَازَمَ الْمَسْجِدَ مُصَلِّيًا
قِيلَ لَهُمْ: إِنْ أَرَادَ بِهِ إِذَا لَازَمَ الْمَسْجِدَ مُتَشَهِّدًا بِالشَّهَادَتَيْنِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ " فَالْمُرَادُ بِهِ تَثْبِيتُ حُكْمِ تَارِكِهَا دُونَ فَاعِلِهَا، أَلَا تَرَاهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ " فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ " عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَذَانِ فَنُبَيِّنُ أَوَّلًا مَذْهَبَنَا فِيهِ، ثُمَّ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَتَى الْكَافِرُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنْ قَالَ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ قَالَ ابْتِدَاءً لَا عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا:
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَأْتِيَ رَجُلًا مُسْلِمًا بِنِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَيَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَاصِدًا بِإِتْيَانِهِ إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ كَمَا لَوْ قَالَ حَاكِيًا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكُونُ مسلماً إذا أتى يَصِيرُ الْأَذَانُ أَصْلًا لَهُمْ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: عِبَادَةٌ يَخْتَصُّ بِالْبَيْتِ أَنْ لَا يُسْلِمَ فِي الْأَذَانِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِالشَّهَادَتَيْنِ فَيَ الْأَذَانِ لَا بِالْأَذَانِ وَالْإِتْيَانُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْتِ، بَلْ يَجُوزُ مُسْتَقْبِلًا لِلْبَيْتِ وَمُسْتَدْبِرًا، وَقَوْلُهُمْ أَتَى بِكَمَالِهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَذَانُ لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَذَانِ صَارَ مُسْلِمًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلِ الْأَذَانَ وَإِذَا سَقَطَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهَا انْتَقَضَتِ الْعِلَّةُ بِالْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا، عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يُمْكِنُ
لِأَنَّهُمْ إِنْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا لَمْ يَصِحَّ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى إِسْلَامِهِ عِنْدَهُمْ وَإِنْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى إِسْلَامِهِ لَمْ يَصِحَّ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِي الْأَذَانِ يَصِيرُ مُسْلِمًا، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الشَّهَادَتَيْنِ إِنَّمَا صَارَ بِهَا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ مُنْفَرِدًا كَانَ مُسْلِمًا، وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا أَتَى بِهَا مُنْفَرِدًا لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ، عَلَى أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا صَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِكُفْرِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ إِمَامِهِ الْكَافِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:(2/335)
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُظْهِرًا لِكُفْرِهِ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهَدِينَ، فَصَلَاةُ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَاطِلَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ كَالْمُصَلِّي خَلْفَ جُنُبٍ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَافِرَ مَعَهُ عِلْمٌ ظاهر يدل على كفره، لأنه يوجد لا يدين بلبس الغيار، وشد الزُّنَّارِ، وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ، فَإِذَا خَفِيَ عَلَيْهِ فَلِتَفْرِيطِهِ وَقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ
وَالثَّانِي: أَنَّ إِمَامَةَ الْكَافِرِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ، وَإِمَامَةُ الْجُنُبِ قَدْ تَجُوزُ بِحَالٍ، وَهُوَ الْمُتَيَمِّمُ إِذَا صَلَّى بِالْمُتَطَهِّرِ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَجْنَبَ جَمَاعَةٌ وَلَا يَجِدُونَ مَاءً وَلَا تُرَابًا وَخَافُوا فَوَاتَ الْوَقْتِ جَازَ أَنْ يَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِجَنَابَتِهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وجب اختلاف حكمهما في الإتمام بهما، وبطلت صلات مَنِ ائْتَمَّ بِالْكَافِرِ مِنْهُمَا
وَإِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِكُفْرِهِ كَالزَّنَادِقَةِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنِ ائْتَمَّ بِهِ
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِزَوَالِ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَى كُفْرِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بُطْلَانِ إِمَامَةِ الْكَافِرِ بِكُلِّ حَالٍ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يُعْرَفُ بِالْكُفْرِ وَلَا بِالْإِسْلَامِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الدَّارِ إِسْلَامُ أَهْلِهَا إِلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِكُفْرِهِ مَنْ يَسْكُنُ إِلَيْهِ وثيق بِهِ فَيُعِيدُ صَلَاتَهُ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِمُرْتَدٍّ يَظُنُّهُ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فَلَوْ شَكَّ فِي إِسْلَامِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ رِدَّتِهِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِرَجُلٍ كَانَتْ لَهُ حَالَانِ: حَالُ رِدَّةٍ وَحَالُ إِسْلَامٍ، وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ فِي أَيِّ الْحَالَيْنِ أَمَّهُ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " أُحِبُّ أَنْ يُعِيدَ " وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْإِسْلَامِ لَهُ فِي الْحَالِ يَرْفَعُ حُكْمَ رِدَّتِهِ، وَيَدُلُّ فِي الظَّاهِرِ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ، وَلَوْ أَنَّ كَافِرًا أَسْلَمَ ثُمَّ جَحَدَ إِسْلَامَهُ وَقَدِ ائْتَمَّ بِهِ مُسْلِمُونَ. فَمَنِ ائْتَمَّ بِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَقَبْلَ جُحُودِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فِي الظَّاهِرِ، وَمَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَعْدَ جُحُودِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ بِالْجُحُودِ مُرْتَدٌّ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ أَحْرَمَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ جَاءَ الْإِمَامُ فَتَقَدَّمَ بِجَمَاعَةٍ فَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُكْمِلَ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمَ يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً وَيَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ مَعَهُ وَكَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَفْتَتِحَهَا صَلَاةَ انفرادٍ ثم يجعلها صلاة جماعةٍ وهذا يخالف صلاة الذين افتتح بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصلاة ثم ذكر فانصرف فاغتسل ثم رجع فأمهم لأنهم افتتحوا الصلاة جماعةً وقال في القديم قال قائل يدخل مع الإمام ويعتد بما مضى (قال المزني) هذا عندي على أصله أقيس لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يكن في صلاةٍ فلم يضرهم وصح إحرامهم ولا إمام لهم ثم ابتدأ بهم وقد سبقوه بالإحرام وكذلك سبقه أبو بكر ببعض الصلاة ثم جاء فأحرم وائتم به أبو بكر وهكذا القول بهذين الحديثين وهو القياس عندي على فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "(2/336)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَحْرَمَ الرجل منفرداً بفرض وقته من ظهر أبو عَصْرٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْإِمَامُ فَأَنْشَأَ الْإِحْرَامَ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً، فَيُخْتَارُ لِهَذَا الْمُنْفَرِدِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمَ، يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً، وَيَبْتَدِئُ الْإِحْرَامَ بِتِلْكَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ لِيُؤَدِّيَ فَرْضَهُ فِي جَمَاعَةٍ، وَإِنْ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَابْتَدَأَ الْإِحْرَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ جَازَ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا ابْتَدَأَهُ مُنْفَرِدًا، وَإِنْ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا وَلَمْ يَتْبَعِ الْإِمَامَ جَازَ، وَإِنْ تَبِعَ الْإِمَامَ بِإِحْرَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَعَلَّقَ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ فَقَدْ أَسَاءَ، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَيَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ لِمَا عَلَّلَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَمَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ بِإِمَامَيْنِ أَجَازَ هَذَا، وَمَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِإِمَامَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَ فِي صَلَاتِهِ قَوْلًا ثَالِثًا، إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهُ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهُ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ، وَجَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ، فَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا " فَأَمَرَ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرُ الْمَأْمُومِ عُقَيْبَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ، فَوَجَبَ إِذَا سَبَقَهُ بِالتَّكْبِيرِ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ عَقَدَ صَلَاتَهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الِائْتِمَامُ فِيهَا بِالْإِمَامِ أَصْلُهُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ لِيُحْرِمَ مَعَهُ فَسَبَقَ إِمَامَهُ بِالْإِحْرَامِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى بُطْلَانِهِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا لعلةة مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ فِي مَوْقِفِهِ وَأَفْعَالِهِ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّهُ إِنْ تَقَدَّمَ إِمَامَهُ فِي مَوْقِفِ الصَّلَاةِ، لَمْ يَجُزْ، فكذلك إذا تقدمه في أفعالها.
وإذا قبل بِصِحَّةِ صَلَاتِهِ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي، فَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْرَمَ بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ فَقَالَ لَهُمْ " كُونُوا كَمَا أَنْتُمْ " وَدَخَلَ وَاغْتَسَلَ وَخَرَجَ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً وَاسْتَأْنَفَ الْإِحْرَامَ وَبَنَى الْقَوْمُ عَلَى إِحْرَامِهِمْ، فَلَمَّا سَبَقُوهُ بِالْإِحْرَامِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِاسْتِئْنَافِهِ وَقَدْ خَرَجُوا بِالْجَنَابَةِ مِنْ إِمَامَتِهِ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا سَبَقَ الْإِمَامَ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الصَّلَاةِ، فَأَحْرَمَ بِهِمْ، ثُمَّ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِفَّةً فَتَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَلَّى النَّاسُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ سَبَقُوهُ بِالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ فَلَمَّا جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْتَتِحَ صَلَاةَ انْفِرَادٍ ثُمَّ يَأْتَمَّ(2/337)
بِهِ رَجُلٌ فَتَصِيرُ جَمَاعَةً، جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ يَأْتَمُّ بِرَجُلٍ فَتَصِيرُ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ نَقُولَ: إِنَّهَا صَلَاةٌ افْتَتَحَهَا مُنْفَرِدًا فَجَازَ أَنْ تَصِيرَ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ كَالْإِمَامِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ طَرَفَانِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهَا جَامِعًا وَفِي انْتِهَائِهَا مُنْفَرِدًا إِذَا أَحْدَثَ إِمَامُهُ أَوْ مَاتَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهَا مُنْفَرِدًا وَفِي انْتِهَائِهَا جَامِعًا، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الِانْفِرَادِ أَنْقَصُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَبِنَاءَ الْأَفْضَلِ عَلَى الْأَنْقَصِ جَائِزٌ فِيمَا يَصِحُّ إِتْيَانُهُ مُنْفَرِدًا، كَبِنَاءِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ عَلَى صَلَاةِ الْمُقِيمِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يُكْمِلَهَا رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمَ يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً " فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ نَقْلِ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِهِ فِي نَقْلِ صَلَاةٍ إِلَى صَلَاةٍ مَا أَنَا ذَاكِرُهُ، لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ، كَظُهْرٍ إِلَى عَصْرٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ الْأَوَّلِ، لِتَغْيِيرِ النِّيَّةِ، وَلَا عَنِ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْهُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ نَفْلٌ إِلَى نَفْلٍ، لِأَنَّهُمَا إِنْ كَانَا مِثْلَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِتَغْيِيرِ النِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ كَانْتِقَالٍ مِنْ وِتْرٍ إِلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لم يجب، لأن افتتاحها بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ نَفْلٍ إِلَى فَرْضٍ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهَا
فَأَمَّا نَقْلُ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: انْتِقَالُ حُكْمٍ، وَالثَّانِي: انْتِقَالُ فِعْلٍ، فَأَمَّا انْتِقَالُ الْحُكْمِ فَجَائِزٌ، كَمَنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ الْوَقْتِ قَبْلَ دُخُولِهِ، فَهِيَ لَهُ نَافِلَةٌ وَإِنْ نَوَاهَا فَرْضًا، فَأَمَّا انْتِقَالُ الْفِعْلِ فَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ إِحْرَامُهُ بِفَرْضٍ، ثُمَّ يُغَيِّرُ النِّيَّةَ وَيَنْقِلُ صَلَاتَهُ مِنَ الْفَرْضِ إِلَى النَّفْلِ
فَفِيهِ قَوْلَانِ، مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمَا بُطْلَانُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضٍ وَلَا نَفْلٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ
وَالثَّانِي: وَهُوَ مُخَرَّجٌ مِنْ قَوْلِهِ وَأُحِبُّ أَنْ يُكْمِلَ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ تَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً، فَيَجُوزُ نَقْلُ الْفَرْضِ إِلَى النَّافِلَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنِ امْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ وَحَمَلَ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُ انْتَقَلَتْ فِي الْحُكْمِ نَافِلَةً، لَا أَنَّهَا انْتَقَلَتْ بِتَغْيِيرِ النِّيَّةِ كَالضَّرْبِ الْأَوَّلِ(2/338)
(باب موقف صلاة المأموم مع الإمام)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أَمَّ رَجُلٌ رَجُلًا قَامَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ خُنْثَى مُشْكِلًا أَوِ امْرَأَةً قَامَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا خَلْفَهُ وَحْدَهُ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّ أَنَسًا وَعَجُوزًا مُنْفَرِدَةً خَلْفَ أَنَسٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَمَّ رَجُلٌ رَجُلًا فَالسُّنَّةُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقِفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: يَقِفُ الْمَأْمُومُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يَقِفُ خَلْفَهُ إِلَى أَنْ يَرْكَعَ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ آخَرُ وَقَفَا خَلْفَهُ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ تَقَدَّمَ وَوَقَفَ عَنْ يَمِينِهِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ رِوَايَةُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّهُ وَامْرَأَةً، فَأَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْمَرْأَةَ وَرَاءَهُ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا وَجَدَ خِفَّةً مِنْ مَرَضِهِ خَرَجَ وَوَقَفَ عَلَى يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَوَضَّأَ، وَقَامَ لِيُصَلِّيَ، فَقُمْتُ وَتَوَضَّأْتُ مِثْلَ وُضُوئِهِ، وَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ، فَأَخَذَنِي بِيَمِينِهِ وَأَدَارَنِي مِنْ وَرَائِهِ وَأَقَامَنِي عَلَى يَمِينِهِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَنْوِي بِهِ التَّحِيَّةَ لِلْمَأْمُومِينَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُحَيِّي فِيهَا، فَلَوْ خَالَفَ الْمَأْمُومُ ذَلِكَ فَوَقَفَ خَلْفَهُ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ فَنَقَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى يَمِينِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْشَأَ الصَّلَاةَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ
فَأَمَّا إِنْ أَمَّ رَجُلَيْنِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَا صَفًّا خَلْفَهُ، لِمَا رَوَى أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّهُ وَيَتِيمًا فَوَقَفَا خَلْفَهُ، وَوَقَفَتْ جَدَّةُ أَنَسٍ خَلْفَهُمَا وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَخَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ فَأَقَامَهُمَا خَلْفَهُ صَفًّا، فَلَوْ وَقَفَا عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ أَوْ وَقَفَ أَحَدُهُمَا عَنْ(2/339)
يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ فَصَلَاةُ جَمَاعَتِهِمْ جَائِزَةٌ، فَلَوْ أَمَّ رَجُلًا فَوَقَفَ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ لِيَأْتَمَّ بِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَأَخَّرَ الْمَأْمُومُ لِيَقِفَ هُوَ وَالْجَائِي صَفًّا، وَلَا يَتَقَدَّمُ الْإِمَامُ عَنْ مَوْقِفِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَقَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ يَسَارِهِ إِلَى يَمِينِهِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُصَلِّي وَحْدَهُ فَقُمْتُ عَنْ يَمِينِهِ، فَدَخَلَ أَبُو صَخْرٍ وَوَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَّرَنَا بِيَدَيْهِ حَتَّى صِرْنَا خَلْفَهُ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ تَابِعٌ وَالْإِمَامَ مَتْبُوعٌ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ انْتِقَالِ أَحَدِهِمَا فَالتَّابِعُ أَوْلَى
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ امْرَأَةً وَحْدَهَا وَقَفَتْ خَلْفَهُ وَلَمْ تَقِفْ إِلَى جَنْبِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، " خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا " وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَّ خُنْثَى مُشْكِلًا وَقَفَ خَلْفَهُ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً وَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الرَّجُلِ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَّ أَنَسًا وَعَجُوزًا مُفْرَدَةً خَلْفَ أَنَسٍ، فَلَوْ أَمَّ رَجُلًا وَخُنْثَى وَامْرَأَةً وَقَفَ الرَّجُلُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَالْخُنْثَى خَلْفَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْخُنْثَى فَلَوْ أَمَّ رِجَالًا وَصِبْيَانًا فَأَصَحُّ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الرِّجَالَ يَكُونُونَ أَمَامَ الصِّبْيَانِ، ثُمَّ يَقِفُ الصِّبْيَانُ خَلْفَ الرِّجَالِ، لِمَا رَوَى عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أَهْلُ الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى " وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْأَوْلَى أَنْ يَقِفَ كُلُّ صَبِيٍّ بَيْنَ رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى تَعْلِيمِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ أَمَّ رِجَالًا وَصِبْيَانًا وَخَنَاثَى وَنِسَاءً تَقَدَّمَ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ بَعْدَ الصِّبْيَانِ الْخَنَاثَى، ثم بعدهم النساء
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وركع أبو بكر وَحْدَهُ وَخَافَ أَنْ تَفُوتَهُ الرَّكْعَةُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اصْطَفَّ النَّاسُ خَلْفَ إِمَامِهِمْ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ الدُّخُولَ مَعَهُمْ، فَالْمُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَقِفَ فِي صَفِّهِمْ وَيَجْذِبَ إِلَيْهِ فَيَقِفَانِ جَمِيعًا خَلْفَهُ، فَإِنْ أَبَى وَوَقَفَ وَحْدَهُ مُنْفَرِدًا فَقَدْ أَسَاءَ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا تصح صلاته إذا انفرد تعلقاً برواية أبي سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ(2/340)
عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى فأبصر رجلاً صلى خلف الصف فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ، وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ علي بن شيبان عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَبْصَرَ رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ النَّاسِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " أَعِدْ صلاتك، فإنه لا صلاة لفذٍّ خَلْفَ الصَّفِّ "
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَلْهَثُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ الَّذِي رَكَعَ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ؟ فَقُلْتُ أَنَا، قَالَ: " زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تُعِدْ " فَلَوْ كَانَ انْفِرَادُهُ قَادِحًا فِي صَلَاتِهِ لَأَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ نَهَاهُ وَقَالَ: لَا تَعُدْ، قُلْنَا: فِي مَعْنَى نَهْيِهِ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ السَّعْيِ وَاللَّهْثِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُعِدْ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ خَلْفَ الصَّفِّ مَعَ غَيْرِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا كَالْمَرْأَةِ خَلْفَ الرِّجَالِ
فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَدَلَالَةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلَوْ كانت باطلة لأمره بالإعادة قبل اتهامها، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ فَغَيْرُ كَامِلَةٍ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ عَلَى إِمَامِهِ فِي الْمَوْقِفِ فَوَقَفَ قُدَّامَ إِمَامِهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: بِغَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى إِمَامِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ: صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ أَكْثَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَوْقِفِ الْمَسْنُونِ، وَمُخَالَفَةُ الْمَوْقِفِ الْمَسْنُونِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، كَالْمَأْمُومِ الْوَاحِدِ إِذَا وَقَفَ عَلَى يَسَارِ إِمَامِهِ أَوِ الْجَمَاعَةُ إِذَا وَقَفُوا عَلَى يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ.(2/341)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ: صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، وَالِائْتِمَامُ الِاتِّبَاعُ، وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى إِمَامِهِ لَا يَكُونُ تَابِعًا بَلْ يَكُونُ مَتْبُوعًا، وَلِأَنَّ عَلَى الْمَأْمُومِ اتِّبَاعَ إِمَامِهِ في موقفه وأفعاله، فلما لم لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ فِي إِحْرَامِهِ وأفعاله صَلَاتِهِ لَمْ يَجُزْ لْهُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ فِي مَوْقِفِ صَلَاتِهِ
وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهَا
وَالثَّانِي: فِي غَيْرِ مَسْجِدِهَا فِي مَنَازِلِهَا، فَإِنْ صَلَّى فِي غَيْرِ مَسْجِدِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُصَلِّي فِي غَيْرِهَا، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَى إِمَامِهِ قَوْلَانِ كَمَا مَضَى، وَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِهَا فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسْتَدِيرَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَرَاءَ الْإِمَامِ وَتُجَاهَهُ، وَيَكُونُ مَوْقِفُ الْإِمَامِ عِنْدَ الْمَقَامِ مُسْتَقْبِلًا لِبَابِ الْكَعْبَةِ، مُسْتَدْبِرًا لِبَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَإِنْ وَقَفَ مُسْتَقْبِلًا لِلْكَعْبَةِ أَجْزَأَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَقْرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنَ الْمَأْمُومِينَ فإن كان الإمام منها على النحو الذراع تأخر المأمومين نَحْوَ الذِّرَاعَيْنِ، فَإِنْ فَعَلَ هَذَا الَّذِينَ هُمْ وَرَاءَ الْإِمَامِ كَانَ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ كَمَا مَضَى، وَإِنْ فَعَلَهُ الَّذِينَ هُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " إِنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ، وَقَالَ فِي " الْجَامِعِ ": إِذَا تَوَجَّهَ الْإِمَامُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَائْتَمَّ بِهِ قَوْمٌ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ أَجْزَأَتْهُمْ صَلَاتُهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ أَقْرَبُ إِلَيْهَا مِنَ الْإِمَامِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قال أَبُو إِسْحَاقَ إِنَّ فِي صَلَاتِهِمْ قَوْلَيْنِ كَمَا مَضَى، وَحُمِلَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَحَدِهِمَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ إِنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا اسْتِعْمَالًا لِظَاهِرِ نَصِّهِ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا إِلَى الْبَيْتِ أَقْرَبُ مِنَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَوْصُوفِينَ بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِ وَمُحَاذَاتِهِ وَغَيْرُهُمْ إِذَا كَانَ إِلَى الْقِبْلَةِ أَقْرَبَ صَارَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ بِالتَّقَدُّمِ مِنَ اتِّبَاعِهِ، وَسَرَى ذَلِكَ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: إِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى الْبَيْتِ مِنَ الْإِمَامِ فَيُمْكِنُهُمْ مُشَاهَدَةُ أَفْعَالِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَغَيْرُهُمْ إِذَا تَقَدَّمَ إِمَامَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَلَا عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ، فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَبُطْلَانِهَا
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا سَبَقَ الْمَأْمُومُ إِمَامَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَرَكَعَ قَبْلَ رُكُوعِهِ وَسَجَدَ قَبْلَ سُجُودِهِ
فَإِنْ سَبَقَهُ قَاصِدًا لِمُخَالَفَتِهِ مُعْتَقِدًا إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ(2/342)
غَيْرُ مُؤْتَمٍّ بِهِ لِمُخَالَفَةِ أَفْعَالِهِ، وَلَا مُنْفَرِدًا عَنْهُ لِاعْتِقَادِ إِمَامَتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْتَمًّا وَلَا مُنْفَرِدًا كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً
وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ إِمَامِهِ فَإِنْ سَبَقَهُ بِرُكْنٍ وَاحِدٍ كَأَنْ رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ وَاسْتَدَامَ الرُّكُوعَ مَعَهُ فَقَدْ أَسَاءَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ رَأْسِ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوَّلَ رَأْسُهُ رَأْسَ حِمَارٍ " وَتُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مُقْتَدِيًا بِإِمَامِهِ فِي الركن الذي سبقه في فَاقْتَضَى أَنْ يُجْزِئَهُ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ مَعَهُ، وَإِنْ سَبَقَهُ بِرُكْنَيْنِ مِنَ الرَّكْعَةِ كَأَنْ رَكَعَ وَرَفَعَ ثُمَّ رَكَعَ الْإِمَامُ أَوْ رَفَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ الْإِمَامُ
قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمْ تَصِحَّ لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ إِمَامَهُ فِي مُعْظَمِ فِعْلِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ سَبَقَهُ بِالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَنْ تُجْزِئَهُ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ بِإِجْمَاعٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ صَلَّتْ بَيْنَ يَدَيْهِ امْرَأَةٌ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي وعائشة رضي الله عنها معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أبي حنيفة فِيهَا وَدَلَّلْنَا لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا يُغْنِي عَنِ الْإِعَادَةِ
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ صَلَّى رَجُلٌ فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ فِي طَرَفِهِ وَلَمْ تَتَّصِلِ الصُّفُوفُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أو فوق ظهر المسجد بصلاة أجزأه كذلك صلى أبو هريرة فوق ظهر المسجد بصلاةٍ الإمام في الْمَسْجِدِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صلى المأموم في طرق الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي طَرَفِهِ الْآخَرِ فَالِاعْتِبَارُ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِصَلَاةِ إِمَامِهِ، وَطَرِيقِ الْعِلْمِ بِهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أوجه
إما بمشاهدة وبسماع تَكْبِيرِهِ أَوْ بِمُشَاهَدَةِ مَنْ خَلْفَهُ أَوْ بِسَمَاعِ تَكْبِيرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ بِصَلَاتِهِ عَالِمًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، قَرُبَ مَا بَيْنَهُمَا أَوْ بَعُدَ، حَالَ مَا بَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَوْ لَمْ يَحُلْ، اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ إِلَيْهِ أَوْ لَمْ تَتَّصِلْ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْوَاحِدَ إِنَّمَا يُبْنَى لِجَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا لِقِلَّةِ جَمَاعَتِهِمْ وَكَثْرَتِهَا فَصَغُرَتْ مَسَاجِدُ الْمَحَالِّ لِقِلَّةِ جَمَاعَتِهَا، وَكُلُّ مَنْ أَحَاطَ بِهِ الْمَسْجِدُ فَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ(2/343)
وَاحِدَةٍ وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَعَ إِمَامِهِ فِي جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ وَرَاءَهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِصَلَاةِ إِمَامِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ عَلَيْهِ اتِّبَاعَهُ فِي أَفْعَالِهِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِهَا يَمْنَعُ مِنَ اتِّبَاعِهِ فِيهَا، فَلَوْ صَلَّى الْمَأْمُومُ فِي رِحَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ مُصْطَفًّا بِهِ أَوْ عَلَى سَطْحِهِ، وَكَانَ عَالِمًا بصلاة إمامه فصلاته جائزة؛ لما رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ سَطْحَ الْمَسْجِدِ وَرِحَابَهُ كَالْمَسْجِدِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْجُنُبَ مَمْنُوعٌ مِنَ اللُّبْثِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ
(فَصْلٌ)
: وَلَوْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَالْمَأْمُومُ فِي أَرْضِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى عُلُوٍّ مِنَ الْأَرْضِ لِيُعْلِمَ الْمَأْمُومِينَ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ كَانَ جَائِزًا مُسْتَحَبًّا، وَصَلَاةُ جَمَاعَتِهِمْ جَائِزَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ تَعْلِيمَهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ سَوَاءً
وَكَرِهَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْلُوَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ [هَمَّامٍ] قَالَ: صَلَّى بِنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَصَعِدَ دِكَّةً فَجَذَبَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَنْزَلَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قال له بان مَسْعُودٍ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ مَا قَبِلْتُ مِنْكَ
وَدَلِيلُنَا رواية أبي حازم عن سهل بن السَّاعِدِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَرَكَعَ وَرَفَعَ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى حتى نزل فسجد ثم رقا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي ". وَيُحْمَلُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَعْلِيمَ مَنْ خَلْفَهُ بَلْ هو الظاهر لأنهم صحابة وَقَدْ عَلِمُوا الصَّلَاةَ مِثْلَ عِلْمِهِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ صَلَّى قُرْبَ الْمَسْجِدِ، وَقُرْبُهُ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَتَّصِلَ بِشَيْءٍ بِالْمَسْجِدِ، لَا حَائِلَ دُونَهُ فَيُصَلِّي مُنْقَطِعًا عَنِ الْمَسْجِدِ أَوْ فِنَائِهِ عَلَى قَدْرِ مِائَتَيْ ذراعٍ أَوْ ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمَأْمُومِ إِذَا صَلَّى مَعَ إِمَامِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَالِاعْتِبَارُ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ بثلاثة شرائط:
أحدهما: الْعِلْمُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ مَضَتْ
وَالثَّانِي: الْقُرْبُ وَأَبْعَدُهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ بِثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ أَوْ نَحْوِهَا وَذَلِكَ أَبْعَدُ رَمْيَةِ سَهْمٍ، وَغَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فجعل الثلاث مائة ذِرَاعٍ حَدًّا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ ذَلِكَ تَقْرِيبٌ(2/344)
وَأَصْلُهُ حِرَاسَةُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابِهِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لِيَدْفَعُوا عَنْهُمْ أَذَى عَدُوِّهِمْ وَأَبْعَدُ أَذَاهُمْ رَمْيُ السِّهَامِ، وَغَايَتُهُ فِي الْغَالِبِ مَا ذَكَرْنَا
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَهُمَا غَيْرُ سُورِ الْمَسْجِدِ مِنْ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ حَالَ بَيْنَهُمَا سُورُ الْمَسْجِدِ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ إِلَى جَوَازِ صَلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ حَائِلٍ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهَا، لِأَنَّ سُورَ الْمَسْجِدِ مِنْ مَصَالِحِهِ وَبَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ فَصَارَ كَالسَّوَارِي الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ وَبَيْنَ الْإِمَامِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ: إِنَّ ذَلِكَ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ أَبْوَابُهُ الْمُغْلَقَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مُصْمَتَةً أَوْ مُشَبَّكَةً، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِنِسْوَةٍ صَلَّينَ فِي سُتْرَةٍ لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَنْزِلِهَا وَالْمَسْجِدِ إِلَّا سُورُ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ بَابَ مَنْزِلِهَا كَانَ يَنْفُذُ إِلَيْهِ فَإِذَا كَمُلَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الثَّلَاثَةُ صَحَّتْ صَلَاةُ مَنْ خَارِجُ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا بَيَّنْتُهُ وَإِنْ عُدِمَ شَرْطٌ مِنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالنَّخَعِيُّ وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يُصَلِّي بِصَلَاةِ الْإِمَامِ مَنْ عَلِمَهَا قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا حَالَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَمْ لَا، وَهَذَا غَلَطٌ وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَالَ [بِهِ] سائر الفقهاء والدلالة على صحة قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] . وَمَا قَالَهُ مِنْ إِيجَابِ السَّعْيِ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ لَهُمْ سَبِيلُ الْعِلْمِ بِهَا وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ " مَعْنَاهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا صَلَاةَ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِلَّا فَصَلَاتُهُ مُنْفَرِدًا فِي مَنْزِلِهِ جَائِزَةٌ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَضَلَلْتُمْ " يَعْنِي: بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلنِّسْوَةِ اللَّائِي صَلَّيْنَ فِي مَنْزِلِهَا: " لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ "
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّرَائِطِ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْمَأْمُومِ الْوَاقِفِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ الْإِمَامُ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ أَوْ وَرَاءَهُ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا إِلَّا أَنْ يكون محل ذيل الباب مفتوح يُشَاهَدُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَصَلَاةُ مَنْ فِيهِ وَيَكُونُ عَلَى قُرْبٍ، وَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ مِنْ سُورِ الْمَسْجِدِ لَا مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَلَا مِنَ انْتِهَاءِ الصُّفُوفِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ مُحَاذِيًا لِبَابِ الْمَسْجِدِ مُشَاهِدًا لَهُ وَلِأَصْلِهِ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سوره دون الثلاث مائة ذراع صحت صلاته وصلات مَنِ اتَّصَلَ بِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَوَرَاءً وَلَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ مَنْ يُقَدِّمُهُ إِمَامُهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَقَدِّمَ إِذَا لَمْ يُشَاهِدِ الْمَسْجِدَ صَارَ تَابِعًا لِمَنْ شَاهَدَهُ، فَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَى مَتْبُوعِهِ كَانَ كَالْمُتَقَدِّمِ عَلَى إِمَامِهِ فَلَوِ اتَّصَلَ الصَّفُّ عَنْ يَمِينِهِ أَمْيَالًا وَيَسَارِهِ أَمْيَالًا وَوَرَاءَهُ أَمْيَالًا صَحَّتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ مَا لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ حَائِلٌ مِنْ سُتْرَةٍ أَوْ جِدَارٍ، وَلَا يَبْعُدُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ فَإِنْ حَالَ بَيْنَهُمْ حَائِلٌ فصلات مَنْ وَرَاءَ الْحَائِلِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ بَعُدَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ فَصَلَاةُ الْمُنْقَطِعِ الْبَعِيدِ بَاطِلَةٌ وَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ مِنْ أَوَاخِرِ الصُّفُوفِ(2/345)
الْخَارِجَةِ وَلَيْسَ الطُّرُقُ النَّافِذَةُ حَائِلًا بَيْنَ بَعْضِهِمْ وبعض بل حكمها حكم غيرها مِنَ الْمَرْفُوعِ سَوَاءٌ
وَقَالَ أبو حنيفة: الطُّرُقُ النافذة حائلاً يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَنَسًا صَلَّى فِي بُيُوتِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف والمسجد طَرِيقٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ حَائِلًا يَمْنَعُ الِائْتِمَامَ لَمْ تَصِحَّ الْجُمَعُ فِي الصَّحْرَاءِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا طُرُقٌ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ لَوِ اتَّصَلَتْ فِي الصَّحْرَاءِ أَمْيَالًا جَازَ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ مَنْ قال إن الطريق حائل
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وكذلك الصحراء والسفينة والإمام في أخرى ولو أجزت أبعد من هذا أجزت أن يصلي على ميل ومذهب عطاء أن يصلي بصلاة الإمام من علمها ولا أقول بهذا (قال المزني) قد أجاز القرب في الإبل بلا تأقيت وهو عندي أولى لأن التأقيت لا يدرك إلا بخبر "
قال الماوردي: في أخرى أَمَّا الْمُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ وَجَوَازَ صَلَاتِهِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِصَلَاةِ إِمَامِهِ، أَوْ بِصَلَاةِ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وَكَانَ عَلَى قُرْبٍ وَاعْتِبَارُ الْقُرْبِ فِي أَوَاخِرِ الصُّفُوفِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ فَاعْتِبَارُ ذَلِكَ مِنْ مَوْقِفِهِ، فَأَمَّا الْمُصَلِّي فِي سَفِينَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ قَائِمًا، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ، أَوْ صِغَرِ السَّفِينَةِ صَلَّى كَيْفَ أَمْكَنَهُ، وَأَعَادَ إِذَا قَدَرَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ، كَالْمَرْبُوطِ عَلَى خَشَبَةٍ قَالَ: فَلَوْ غَرِقَتِ السَّفِينَةُ وَتَعَلَّقَ رَجُلٌ بِلَوْحٍ وَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ صَلَّى مُومِيًا، فَإِنِ اسْتَقْبَلَ بِهَا الْقِبْلَةَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَلَّاهَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ أَعَادَ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ مُومِيًا إِلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يُعِيدُ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ مُومِيًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَيُعِيدَ وَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى تَرْكِ الْقِبْلَةِ كَمَا هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَى الْإِيمَاءِ، أَنَّ غَيْرَ الْخَائِفِ قَدْ سَقَطَ فَرْضُهُ بِالْإِيمَاءِ وَهُوَ الْمَرِيضُ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ ها هنا غير الْخَائِفِ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ مَعَ تَرْكِ الْقِبْلَةِ فَلَمْ تَصِحَّ هَا هُنَا
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ أَرَادَ أَهْلُ السَّفِينَةِ أَنْ يَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ وَيُصَلُّوا جَمَاعَةً جَازَ، لِأَنَّ كُلَّ مَكَانٍ جَازَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ جَازَتْ فِيهِ الْجَمَاعَةُ كَالْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَتِ السَّفِينَةُ ذات طبقتين علوا وَسُفْلٍ فَإِنْ صَلَّوْا جَمِيعًا فِي إِحْدَى الطَّبَقَتَيْنِ عُلُوٍّ أَوْ سُفْلٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ صَلَّى بَعْضُهُمْ فِي سُفْلِهَا وَإِمَامُ جَمِيعِهِمْ وَاحِدٌ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ مَنْفَذٌ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَعْلَمُ بَعْضُهُمْ بِصَلَاةِ بَعْضٍ، صَحَّتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مَنْفَذٌ يشاهد الأسفلون منه الأعلون أَوْ بَعْضَهُمْ، وَالْأَعْلَوْنَ مِنْهُ الْأَسْفَلِينَ أَوْ بَعْضَهُمْ، فَصَلَاةُ مَنْ فِي طَبَقَةِ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي عُلُوِّهَا صَحَّتْ صَلَاةُ أَهْلِ الْعُلُوِّ، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ(2/346)
أَهْلِ السُّفْلِ، وَإِنْ كَانَ فِي سُفْلِهَا صَحَّتْ صَلَاةُ أَهْلِ السُّفْلِ وَبَطَلَتْ صَلَاةُ أَهْلِ الْعُلُوِّ، لِأَنَّ الْحَائِلَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِائْتِمَامِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ فِي سَفِينَةٍ وَالْمَأْمُومُ فِي أُخْرَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا يَخْلُو حَالُ السَّفِينَتَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُغَطَّاتَيْنِ، أَوْ مَكْشُوفَتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُغَطَّاةً وَالْأُخْرَى مَكْشُوفَةً، فَإِنْ كَانَتَا مُغَطَّاتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ فِي السَّفِينَةِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ فِي دَارٍ وَالْمَأْمُومُ فِي أُخْرَى، وَإِنْ كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ أَوْ كَانَا عَلَى ظَهْرِ سَفِينَتَيْنِ مُغَطَّاتَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَشْدُودَتَيْنِ أَوْ مُرْسَلَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ السَّفِينَتَيْنِ مَشْدُودَةً بِالْأُخْرَى صَارَتَا كَالسَّفِينَةِ الْوَاحِدَةِ، وَصَحَّتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، وَإِنْ كَانَتَا مُرْسَلَتَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا رَبْطٌ وَلَا شِدَادٌ
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ فِي السَّفِينَةِ الْأُخْرَى جَائِزَةٌ إِذَا عَلِمَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ قُرْبٌ وَكَانَ اعْتِبَارُ الْقُرْبِ مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ إِنْ كَانَ وَحْدَهُ أَوْ مِنْ آخَرِ صَفٍّ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ إِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى فِي سَفِينَةٍ وَالْمَأْمُومُ عَلَى الشَّطِّ، أَوِ الْإِمَامُ عَلَى الشَّطِّ وَالْمَأْمُومُ فِي سَفِينَةٍ، أَوِ الْإِمَامُ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ نَهْرٍ وَالْمَأْمُومُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِ جَائِزَةٌ إِذَا عَلِمَ بِصَلَاةِ إِمَامِهِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا قُرْبٌ، وَلَيْسَ الْمَاءُ حَائِلًا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ سَوَاءٌ كَانَ رَاكِدًا أَوْ جَارِيًا
وَقَالَ أبو حنيفة، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْمَاءَ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ فِيهِ كَانَ حَائِلًا كَالْحَائِطِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْحَائِلَ مَا اتُّخِذَ حَائِلًا وَمَنَعَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ، وَالْمَاءُ لَيْسَ بِحَائِلٍ، وَإِنَّمَا لَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ خَوْفًا مِنَ الْهَلَاكِ، فصار كالنار الحسك الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ خَوْفُ الْهَلَاكِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِائْتِمَامِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ حَائِلًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ السَّابِحِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَكُونُ حَائِلًا لِلسَّابِحِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ حَائِلًا لِغَيْرِ السَّابِحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ حَائِلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ صَلَّى فِي داء قُرْبَ الْمَسْجِدِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا بِأَنْ تَتَّصِلَ الصُّفُوفُ وَلَا حَائِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَأَمَّا فِي عُلُوِّهَا فَلَا يُجْزِئُ بِحَالٍ لِأَنَّهَا بَائِنَةٌ مِنَ المسجد وروي عن عائشة أن نسوة صلين في حجرتها فقالت لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حجاب "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا صَلَّى رَجُلٌ فِي دَارٍ تُجَاوِرُ الْمَسْجِدَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ(2/347)
فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ تَتَّصِلَ الصُّفُوفُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَمِنَ الطَّرِيقِ إِلَى الدِّهْلِيزِ، وَمِنَ الدِّهْلِيزِ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ فَتَكُونُ حِينَئِذٍ صَلَاةُ مَنْ فِي الصَّحْنِ وَصَلَاةُ مَنْ وَرَاءَهُمْ جَائِزَةً، وَصَلَاةُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ وَوَقَفَ أَمَامَهُمْ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ لَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُمْ، فَأَمَّا صَلَاةُ مَنْ فِي عُلُوِّ الدَّارِ وَسُورِهَا فَبَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ، لِتَعَذُّرِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا صَلَاةَ مَنْ فِي الدَّارِ إِذَا اتَّصَلَتْ بِهِ الصُّفُوفُ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي حُجْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حُجْرَتِهِ، فَلَوْ كَانَتِ الدَّارُ تُلَاصِقُ الْمَسْجِدَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا سُورٌ فَصَلَّى بِهَا قَوْمٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَالصُّفُوفُ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ سُورَ الْمَسْجِدِ لَيْسَ بِحَائِلٍ
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ صَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ اللَّاتِي صَلَّيْنَ فِي حُجْرَتِهَا لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ، وَلَمْ يكن بين حجرتها وبين المسجد إلى سُورُهُ، فَلَوِ اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ مِنْ سَطْحِ الْمَسْجِدِ إِلَى سَطْحِ الدَّارِ الْمُلَاصِقَةِ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ جَائِزَةً، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ أَبْطَلَهَا؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ مَعَ الْعِلْمِ بِالصَّلَاةِ يُوجِبُ صِحَّةَ الِائْتِمَامِ، كَمَا لَوِ اتَّصَلَتِ الصُّفُوفُ فِي أَرْضِ الْمَسْجِدِ إِلَى مَنْ فِي الدَّارِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ صَلَّى رَجُلٌ عَلَى جَبَلِ الصَّفَا أَوْ جَبَلِ الْمَرْوَةِ أَوْ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَازَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُتَّصِلٌ وَهُوَ فِي الْعُرْفِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَمَنْ خَرَجَ مِنْ إِمَامَةِ الْإِمَامِ فَأْتَمَّ لِنَفْسِهِ لَمْ يَبِنْ أَنْ يُعِيدَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ صَلَاةِ مُعَاذٍ بَعْدَمَا افْتَتَحَ مَعَهُ فَصَلَّى لِنَفْسِهِ، وأعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَلَمْ نَعْلَمْهُ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ وَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا جَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ وَيُجْزِئُهُ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ صَلَّى بِذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ فَرَّقَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ، فَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً، ثُمَّ خَرَجَتْ فَبَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا فَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا فَدَلَّتْ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ وَأَتَمَّ مُنْفَرِدًا لِنَفْسِهِ، فَلَا يخو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ معذور فقد أساء في بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ صَلَاةَ الِانْفِرَادِ تُخَالِفُ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ المنفرد(2/348)
يَلْزَمُهُ سَهْوُ نَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ سَهْوُ غَيْرِهِ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهُمَا جَرَيَا مَجْرَى الصَّلَاتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الِانْتِقَالُ مِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الِانْفِرَادِ كَمَا لَمْ يَجُزْ نَقْلُ ظُهْرٍ إِلَى عَصْرٍ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ، صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ إِمَامَةِ مُعَاذٍ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَلَمْ يَأْمُرْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْإِعَادَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا تَقْضِي بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، أَصْلُهُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ وَصَوْمُ النَّافِلَةِ، وَعَكْسُهُ صَلَاةُ الْفَرْضِ وَصَوْمُ الْفَرْضِ وَلِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْدَمَ بِمُفَارَقَةِ إِمَامِهِ مَا اسْتَفَادَهُ مِنَ الِائْتِمَامِ وَهُوَ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لَا جَوَازُ الصَّلَاةِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا لَا يَنْوِي إِمَامَةَ أَحَدٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ يَنْوِي الِائْتِمَامَ بِهِ، أَوْ فَعَلَتْ ذَلِكَ امْرَأَةٌ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: صَلَاةُ الْمُؤْتَمِّ بَاطِلَةٌ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الْمُؤْتَمُّ رَجُلًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً بَطَلَتْ صَلَاتُهَا
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَوَضَّأَ وَقَامَ لِيُصَلِّيَ فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأَخَذَنِي بِيَمِينِهِ وَأَدَارَنِي مِنْ وَرَائِهِ وَأَقَامَنِي عَلَى يَمِينِهِ، فَصَحَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاتَهُ وَلَمْ يَنْوِ إِمَامَتَهُ، وَرَوَى ثَابِتٌ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُصَلِّي فَقُمْتُ بِجَنْبِهِ فَجَاءَ آخَرُ وَقَامَ بِجَنْبِي حَتَّى صِرْنَا وَسَطًا، فَلَمَّا أَحَسَّ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى سَلَّمَ ثَمَّ دَخَلَ رَحْلَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قُلْتُ فَطِنْتَ بِنَا؟ قَالَ نَعَمْ، مَا صَنَعْتُ الَّذِي صنعته إلا لأجلكم وإنه لو أحرم بعشرة أَنْفُسٍ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَأْتَمَّ بِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إِمَامَتَهُ كَذَلِكَ الْمُنْفَرِدُ
(فَصْلٌ)
: إِذَا ائْتَمَّ بِرَجُلَيْنِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِمَا إِذْ قَدْ يَرْكَعُ أَحَدُهُمَا وَيَسْجُدُ الْآخَرُ فَإِنْ تَبِعَ السَّاجِدَ خَالَفَ الرَّاكِعَ، وَإِنْ تَبِعَ الرَّاكِعَ خَالَفَ السَّاجِدَ، وَالْمَأْمُومُ إِذَا اعْتَمَدَ خِلَافَ إِمَامِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَلَوِ ائْتَمَّ بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ إِمَامَهُ لَمْ يُمْكِنْهُ الِائْتِمَامُ بِهِ
(فَصْلٌ)
: لَوِ ائْتَمَّ بِرَجُلٍ هُوَ مُؤْتَمٌّ بِآخَرَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَنْ كَانَ مَتْبُوعًا وَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ وَجَدَ الْخِفَّةَ فِي مَرَضِهِ خَرَجَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَتَقَدَّمَ فأمر أَبَا بَكْرٍ، وَأَمَّ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ، قِيلَ لَهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِمَامًا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمِيعِ النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَرِّفُهُمْ أَفْعَالَ صَلَاتِهِ وَيُبَلِّغُهُمْ تَكْبِيرَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ إِمَامًا مُؤْتَمًّا
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، ثُمَّ شَكَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ هَلْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا؟ فَعَلَيْهِمَا الْإِعَادَةُ؛ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَشَكَّ كُلُّ(2/349)
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فِعْلِ مَا لَزِمَهُ مِنْ حُكْمِ صَلَاتِهِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ائْتَمَّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا الْإِمَامُ كَانَتْ صَلَاتُهُمَا جَمِيعًا جَائِزَةً، وَلَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَنْتَ أَنْتَ إِمَامِي وَأَنَا الْمُؤْتَمُّ بِكَ فَصَلَاتُهُمَا جَمِيعًا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَابِعًا لِتَابِعِهِ وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ(2/350)
(بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَصِفَةِ الْأَئِمَّةِ)
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَصَلَاةُ الْأَئِمَّةِ مَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ما صليت خلف أحد قط أخف ولا أَتَمُّ صَلَاةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ " فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يَحْتَاجُ الْإِمَامُ أَنْ يُخَفِّفَ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِوَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَمَسْنُونَاتِهَا وَهَيْئَاتِهَا، لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ ما صليت خلف أحد قط أخف ولا أَتَمَّ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَرَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ خَلْفَهُ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ، فَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطِلْ كَيْفَ شَاءَ " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً فِي تَمَامٍ، وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي لَأَهُمُّ أَنْ أُطِيلَ الْقِرَاءَةَ فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنْ آخِرِ الْمَسْجِدِ فَأُخَفِّفُ رَحْمَةً لَهُ ". وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْكَرَ عَلَى مُعَاذٍ حِينَ قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَقَالَ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ؟ أَيْنَ أَنْتَ مِنْ سُورَةِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَأَمَّا إِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فَالْخِيَارُ إِلَيْهِ وَالْإِطَالَةُ بِهِ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطِلْ كَيْفَ شَاءَ " وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ إِمَامًا يُصَلِّي بِجَمَاعَةٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ وَلَا يَسْتَطْرِقُهُمُ الْمَارَّةُ، جَازَ أَنْ يُطِيلَ الصَّلَاةَ بِهِمْ إِذَا اخْتَارُوا
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَيَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يؤم القوم أقرؤهم " فإن لم يجتمع ذلك في واحد فإن قدم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفي به في الصلاة فحسن، وإن قدم أقرؤهم إذا علم ما يلزمه فحسن، ويقدم هذا على أن منهما وإنما قيل يؤمهم أقرؤهم أسن من مضى كانوا يسلمون كباراً فيتفقهون قبل أن يقرؤوا ومن بعدهم كانوا يقرؤون صغاراً قبل أن يتفقهوا فإن استووا أمهم أسنهم فإن استووا فقدم ذو النسب فحسن وقال في القديم فإن استووا فأقدمهم هجرة وقال فيه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الأئمة من قريش "(2/351)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يتقدم إلى الإمامة من جميع أَوْصَافَهَا، وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْقِرَاءَةُ وَالْفِقْهُ وَالنَّسَبُ وَالسِّنُّ وَالْهِجْرَةُ بَعْدَ صِحَّةِ الدِّينِ وَحُسْنِ الِاعْتِقَادِ، فَمَنْ جَمَعَهَا وَكَمُلَتْ فِيهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِمَّنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ مَنْزِلَةُ اتِّبَاعٍ وَاقْتِدَاءٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُتَحَمِّلُهَا كَامِلَ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا، فَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ فِي وَاحِدٍ فَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ مَنِ اخْتَصَّ بِأَفْضَلِهَا، وَأَوَّلُهَا الْفِقْهُ وَالْقِرَاءَةُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، وَأَحَقُّ بِالتَّقَدُّمِ مِنَ الشَّرَفِ وَالسِّنِّ وَالْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَقْرَأُ وَالْأَفْقَهُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنَ الشَّرَفِ وَالسِّنِّ وَقَدِيمِ الْهِجْرَةِ إِذَا لَمْ يَكُونُوا فُقَهَاءَ وَلَا قُرَّاءَ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَلِمَا رَوَى أَبُو مَسْعُودِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْبَدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَحَقُّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءٌ فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً ". وَإِنَّ الْفِقْهَ وَالْقِرَاءَةَ يَخْتَصَّانِ بِالصَّلَاةِ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ شَرَائِطِهَا وَالْفِقْهَ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا وَالنَّسَبُ وَالسِّنُّ لَا تَخْتَصُّ بِهِ الصَّلَاةُ، فَكَانَ تَقْدِيمُ مَا اخْتَصَّ بِالصَّلَاةِ أَوْلَى فَإِذَا ثَبَتَ صَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا تَقْدِيمُ الْأَقْرَأِ أَوِ الْأَفْقَهِ، فَالْفَقِيهُ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنَ الْقَارِئِ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَحْصُورٌ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْفِقْهِ غَيْرُ محصور؛ لكثرة أحكامها، ووقوع حوادثها
وإن قِيلَ هَذَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ " قُلْنَا هَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ خَارِجٌ عَلَى حَسَبِ حَالِهِمْ، وَكَانَ أَقْرَؤُهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَفْقَهَهُمْ، بِخِلَافِ هَذَا الزَّمَانِ؛ لأنهم كانوا يتفقهون ثم يقرؤون ومن في زماننا يقرؤون ثُمَّ يَتَفَقَّهُونَ
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَتْ تَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا وَنَعْلَمُ أَمْرَهَا وَزَجْرَهَا وَنَهْيَهَا، وَالرَّجُلُ الْيَوْمَ يَقْرَأُ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا وَلَا يَعْرِفُ مِنْ أَحْكَامِهَا شَيْئًا، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ما كنا نجوز على عشرة أيام حَتَّى نَعْرِفَ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَأَمْرَهَا وَنَهْيَهَا، فَإِذَا تَقَرَّرَ تَقْدِيمُ الْأَفْقَهِ ثُمَّ الْأَقْرَأُ فَاسْتَوَوْا فِي الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ ذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ أَوْلَى مِنْ ذِي الْهِجْرَةِ الْقَدِيمَةِ
وهل يكون أولى من ذي النسب عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ ذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ أَوْلَى مِنَ الْمُسِنِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الأئمة من(2/352)
قريش " وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَتَقَدَّمُوهَا، وَتَعَلَّمُوا مِنْهَا وَلَا تُعَلِّمُوهَا "
وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الْمُسِنَّ أَوْلَى مِنْ ذِي النَّسَبِ لِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَتَيَاهُ أَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أكبركما " وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الشَّيْبُ وَقَارٌ وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ (إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ عَبْدِي وَأَمَتِي يَشِيبَانِ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ أُعَذِّبَهُمَا بِالنَّارِ) وَلِأَنَّ الْمُسِنَّ أَسْكَنُ نَفْسًا وَأَكْثَرُ خُشُوعًا لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِ وَقِلَّةِ شَهَوَاتِهِ، فَإِنِ اسْتَوَتْ أَحْوَالُهُمْ وَاتَّفَقَتْ أَصْوَاتُهُمْ فَهُمْ فِي الْإِمَامَةِ سَوَاءٌ
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يُقَدَّمُ أَحْسَنُهُمْ وَجْهًا لِرِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَؤُمُّكُمْ أَحْسَنُكُمْ وَجْهًا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ أحسنكم خلقاً "
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَمَّ مَنْ بَلَغَ غَايَةً فِي خِلَافِ الْحَمْدِ مِنَ الدِّينِ أَجْزَأَ، صَلَّى ابْنُ عُمَرَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ نَصَّ الْكَلَامُ وَذَكَرْنَا أَنَّ مَنِ ائْتَمَّ بِفَاسِقٍ لَمْ يُعِدْ وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، إِذَا لَمْ يُخْرِجْ نَفْسَهُ مِنَ الْمِلَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوْقَاتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُنَّةً " فَلَمَّا جَوَّزَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ وَمُؤَخِّرُ الصَّلَاةِ عَمْدًا فَاسِقٌ، دَلَّ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَتِهِ وَجَوَازِ الِائْتِمَامِ بِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ فِي النَّافِلَةِ صَحَّتْ فِي الْفَرِيضَةِ كَالْعَدْلِ
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَكَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِذَا صَلَّيَا خَلْفَ مروان بن لحكم يُعِيدَانِ الصَّلَاةَ فَقَالَ: لَا مَا كَانَا يَزِيدَانِ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَهُ غَيْرَ النَّوَافِلِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ فِي بَيْتِ رَجُلٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا فِي وِلَايَةِ سُلْطَانٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَلَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَأَذِّيهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كما قال(2/353)
إِذَا حَضَرَ جَمَاعَةٌ بَيْتَ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُمُ الصَّلَاةُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَنْزِلِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ أَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالسِّنِّ وَالشَّرَفِ، إِذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا تَصِحُّ بِهِ إِمَامَتُهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ أَمَّهُمْ أَوْ أَذِنَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمَعُوا وَإِلَّا صَلَّوْا فُرَادَى وَلَمْ يَجْمَعُوا
وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَحَقُّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا يَؤُمُّ رَجُلٌ رَجُلًا فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي وِلَايَةِ سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ". وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أَسَدٍ أَنَّهُ قَالَ جَاءَنِي أَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَلَمَّا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ تَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: وَذَا كَرَبِّ الْبَيْتِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ يَا ابْنَ مَسْعُودٍ؟ قَالَ: نَعَمْ رَبُّ الْبَيْتِ
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ أُمِّيًّا اعْتُبِرَتْ حَالُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا مِثْلَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقْرَأَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْإِمَامَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ صَلَّوْا فُرَادَى، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ امْرَأَةً فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْإِمَامَةِ، إِلَّا أن يكونوا نساء ليس لهن أن يأموا بِإِحْدَاهُنَّ إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا اسْتُؤْذِنَ وَلِيُّهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ جَمَعُوا، وَإِلَّا صَلَّوْا فُرَادَى، فَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ حَاضِرًا فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالْعَبْدُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّصَرُّفِ مِنْ غَيْرِهِ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ سَيِّدِهِ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ مِنْهُ، فَلَوْ حَضَرَ رَبُّ الدَّارِ وَمُسْتَأْجِرُهَا فَمُسْتَأْجِرُهَا أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ رَبِّهَا، لِأَنَّهُ أَمْلَكُ مِنْهُ لِمَنَافِعِهَا، فَلَوْ حَضَرَ إِمَامُ الْوَقْتِ أَوْ سُلْطَانُ الْبَلَدِ مَنْزِلَ رَجُلٍ فَفِي أَحَقِّهِمْ بِالْإِمَامَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: رَبُّ الدَّارِ أَحَقُّ بِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَبُّ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ، لِأَنَّهُ مَالِكُهَا وَأَحَقُّ النَّاسِ بِمَنَافِعِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا لِكَوْنِ الْإِمَامَةِ تَصَرُّفًا فِيهَا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْإِمَامَ وَالسُّلْطَانَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ رَبِّ الدَّارِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامَةِ عَامَّةٌ وَوِلَايَةَ رَبِّ الدَّارِ خَاصَّةٌ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ رَاعِي الْجَمَاعَةِ ووالٍ عَلَى الْكَافَّةِ، وَرَبُّ الدَّارِ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ، وَدَاخِلٌ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الْإِمَامَةِ الَّتِي هِيَ عَمُودُ الْوِلَايَةِ(2/354)
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِمَامُ الْعَصْرِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ فِي أَعْمَالِهِ مِنْ سَائِرِ رَعِيَّتِهِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَكَذَلِكَ وَالِي الْبَلَدِ وَسُلْطَانُهُ أَحَقُّ بِإِمَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلَا فِي سُلْطَانِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ " وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ وِلَايَتِهِ وَكَوْنِ الْجَمَاعَةِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ رَعِيَّتِهِ أَنْ يُنَصِّبَ نَفْسَهُ إِمَامًا لِجَامِعِ الْبَلَدِ إِلَّا بِإِذْنِ سُلْطَانِهِ لما في ذلك من الاستهانة به، وإلا فتيان عليه في ولايته وَإِنْ عُدِمَ السُّلْطَانُ فَارْتَضَى أَهْلُ الْبَلَدِ بِتَقْدِيمِ أَحَدِهِمْ جَازَ، فَأَمَّا مَسَاجِدُ الْعَشَائِرِ وَالْأَسْوَاقِ فَيَجُوزُ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَنْدُبَ نَفْسَهُ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ السُّلْطَانَ، لِمَا فِي اسْتِئْذَانِهِ مِنَ التَّعَذُّرِ الْمُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا انْتُدِبَ أَحَدُهُمْ لِإِمَامَةِ مَسْجِدِهِ وَعُرِفَ بِهِ وَرَضِيَتِ الْجَمَاعَةُ بِإِمَامَتِهِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَضَرَ مَسْجِدَ مَوْلًى لَهُ فَقِيلَ لَهُ تَقَدَّمْ فَقَالَ لِمَوْلَاهُ تَقَدَّمْ فَإِنَّكَ إِمَامُ الْمَسْجِدِ(2/355)
(باب إمامة المرأة)
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا صَلَّتْ بِنِسْوَةٍ الْعَصْرَ فَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا أَمَّتْهُنَّ فَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ جَارِيَةً لَهُ تَقُومُ بِأَهْلِهِ فِي رَمَضَانَ وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَرْأَةُ بِنِسَاءٍ تَقُومُ وَسَطَهُنَّ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي صَلَاةِ الْمَرْأَةِ بِالنِّسَاءِ جَمَاعَةً عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ النِّسَاءَ فَرْضًا وَنَفْلًا
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة يُكْرَهُ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ يُكْرَهُ لَهَا الْإِمَامَةُ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ "
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أُمَّ وَرَقَةَ بِنْتَ نَوْفَلٍ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا أَرَادَ غَزَاةَ بَدْرٍ قَالَتْ أَخْرُجُ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأُمَرِّضُ الْمَرْضَى فَلَعَلَّ اللَّهَ أن يرزقني الشهادة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَرِّي فِي بَيْتِكِ وَأَنْتِ شَهِيدَةٌ " قَالَ فَسُمِّيَتِ الشهيدة، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَزُورُهَا فِي وَقْتٍ فَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ بِمَنْ فِي مَنْزِلِهَا، وَجَعَلَ لَهَا مُؤَذِّنًا، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَرَأَيْتُ مُؤَذِّنَهَا شَيْخًا كَبِيرًا، وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمَّتِ النِّسَاءَ وَقَامَتْ وَسَطَهُنَّ، وَكَذَلِكَ أَمُّ سَلَمَةَ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْحُسَيْنِ وَصَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ يُرِيدُ بِهِ التَّأْخِيرَ عَنْ إِمَامَةِ الرِّجَالِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ جَمَاعَتَهُمْ مُسْتَحَبَّةٌ فَالْأَوْلَى لِمَنْ أَمَّ مِنْهُنَّ أَنْ تَقِفَ وَسَطَهُنَّ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا وَهَلْ جَمَاعَتُهُنَّ فِي الْفَضْلِ وَالِاسْتِحْبَابِ كَجَمَاعَةِ الرِّجَالِ عَلَى وَجْهَيْنِ:(2/356)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ كَالرِّجَالِ، بِفَضْلِ جَمَاعَتِهِنَّ عَلَى صَلَاةِ الفرد بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، لِعُمُومِ الْخَبَرِ
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ جَمَاعَةَ الرِّجَالِ أَفْضَلُ مِنْ جَمَاعَتِهِنَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228](2/357)
(بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ وَالْجَمْعِ فِي السَّفَرِ)
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا سَافَرَ الرَّجُلُ سَفَرًا يَكُونُ سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ ميلاً بالهاشمي فله أن يقصر الصلاة سافر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أميالاً فقصر وقال ابن عباس أقصر إلى جدة وإلى الطائف وعسفان. قال الشافعي وأقرب ذلك إلى مكة ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي وسافر ابن عمر إلى ريم فقصر قال مالك وذلك نحو من أربعة برذ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، جُمْلَةُ الْأَسْفَارِ عَلَى أربع أَضْرُبٍ، وَاجِبٌ، وَطَاعَةٌ، وَمُبَاحٌ وَمَعْصِيَةٌ
فَالسَّفَرُ الْوَاجِبُ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ وَالطَّاعَةِ، وَالسَّفَرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْمُبَاحُ سَفَرُ التِّجَارَةِ
وَالْمَعْصِيَةُ السَّفَرُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السُّبُلِ
فَأَمَّا سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَلَا يُفْطِرَ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ
وَأَمَّا السَّفَرُ الْوَاجِبُ وَالطَّاعَةُ وَالْمُبَاحُ فَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ إِلَّا فِي السَّفَرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالْجِهَادُ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . فَوَرَدَتِ الْآيَةُ بِإِبَاحَةِ الْقَصْرِ بِشَرْطِ الْخَوْفِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ، فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ فِي غَيْرِهِ قَالُوا وَلِأَنَّ الصَّوْمَ وَالْإِتْمَامَ وَاجِبٌ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ لَا يَجُوزُ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلَى وَاجِبٍ كَتَرْكِ التَّسَتُّرِ لِلْخِتَانِ، وَهَذَا غَلَطٌ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ فِي الْخَوْفِ فَمَا بَالُنَا نَقْصُرُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ قَدْ عَجِبْتُ مِمَّا قَدْ عَجِبْتَ(2/358)
مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " الْقَصْرُ رُخْصَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَصْرَ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ صَدَقَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سافر أيناً فَقَصَرَ الصَّلَاةَ "
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْآيَةِ فَهِيَ وَإِنِ اقْتَضَتْ جَوَازَ الْقَصْرِ فِي الْجِهَادِ فَالسُّنَّةُ تَقْتَضِي جَوَازَهُ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ، فَاسْتَعْمَلْنَاهُمَا مَعًا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ فَمُنْتَقَضٌ بِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا الْفِطْرُ، لِأَنَّ دَاوُدَ يُجَوِّزُهُ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ، وَالثَّانِي الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ جَائِزٌ وَهُوَ تَرْكُ وَاجِبٍ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَجَوَازِ قَصْرِهِ فِي الْوَاجِبِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ؛ لِأَنَّ الرُّخَصَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالسَّفَرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِسَفَرٍ مَحْدُودٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا، وَضَرْبٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِطَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَهُوَ شَيْئَانِ التَّيَمُّمُ وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ، وَضَرْبٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ
قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ إِلْحَاقًا بِالتَّيَمُّمِ وَصَلَاةِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ إِلْحَاقًا بِالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ يَجُوزُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَأَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِحَدٍّ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافَرَ فَرْسَخًا فَقَصَرَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْحَلْبَةِ فَرَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ وَقَصَرَ، وَقَالَ إِنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِأُعْلِّمَكُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ " وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الطَّائِفِ وَعُسْفَانَ
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قِيلَ قَدْ رَوَيْنَاهُ مُسْنَدًا عَنْهُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ الْخَبَرَ إِذَا رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمُسْنَدًا حُمِلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الرَّاوِي، وَالْمُسْنَدُ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ(2/359)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْقَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَجُوزُ فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمَيْنِ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَحْدُودٌ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ حَدِّهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالسَّفَرِ وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْحَضَرِ، فَكَانَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ وَعَدَمُهَا فِي الْحَضَرِ، وَالسَّفَرُ الْقَصِيرُ لَا تَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ فِيهِ غَالِبًا، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْرُ، فَأَمَّا عُمُومُ الْآيَةِ فَمَحْمُولٌ عَلَى السَّفَرِ الْمَحْدُودِ بِدَلِيلِنَا
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا، وَإِنَّمَا قَصَرَ فِي الْفَرْسَخِ الْأَوَّلِ لِيُعْلَمَ جَوَازُهُ قَبْلَ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْمَحْدُودَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِلرِّوَايَتَيْنِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَفَرَ الْقَصْرِ مَحْدُودٌ فَحَدُّهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، لِأَنَّ الْبَرِيدَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَهُوَ ثمانية وأربعون ميلاً، لأن الْفَرْسَخَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وَالْمِيلُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ قَدَمٍ، وَذَلِكَ عَلَى سَيْرِ النَّقْلِ وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ مَسَافَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ سَيْرًا مُتَّصِلًا، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَمَعَانٍ متفقة، فقال في هذا الموضوع سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ يُرِيدُ إِذَا لَمْ يُعَدَّ الْمِيلُ فِي الِابْتِدَاءِ وَالْمِيلُ فِي الِانْتِهَاءِ
وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ أَرْبَعِينَ مِيلًا يُرِيدُ أَمْيَالَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " لَيْلَتَيْنِ قَاصِدَتَيْنِ يُرِيدُ سِوَى اللَّيْلَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فَهَذَا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ فَمَعَانِيهِ مُتَّفِقَةٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَقَاوِيلَ مختلفة وتحقيق ذلك مرحلتان كل مرحة ثَمَانِيَةُ فَرَاسِخَ عَلَى غَالِبِ الْعَادَةِ فِي سَيْرِ النَّقْلِ وَدَبِيبِ الْأَقْدَامِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عباس وَإِسْحَاقُ
وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَهِيَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يجل لامرأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثلاثة أيامٍ إلا مع ذي محرمٍ "
قال الماوردي: فَلَمَّا جَعَلَ الْمَحْرَمَ شَرْطًا فِي الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَرْطًا فِيمَا دُونَهَا عُلِمَ(2/360)
أَنَّ الثَّلَاثَةَ حَدُّ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا لَيْسَ بِسَفَرٍ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ. وَبِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " يمسح المسافر ثلاثة أيامٍ ولياليهن " فَقَصَدَ بِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ جِنْسَ الْمُسَافِرِ فَأَبَاحَهُمُ الْمَسْحَ ثَلَاثًا، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَا يُكَرِّرُ الْمَسْحَ ثَلَاثًا لَيْسَ بِمُسَافِرٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الثَّلَاثَةَ أَقَلُّ الْكَثِيرِ وَأَكْثَرُ الْقَلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ فِي قَلِيلِ السَّفَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْكَثِيرِ وَهُوَ الثَّلَاثُ حَدًّا لَهُ
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ جَوَازَ الْقَصْرِ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ مِنْ مُسَافِرِهِ دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عَسَفَانَ "
وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ تُلْحِقُ الْمَشَقَّةَ فِي قَطْعِهَا غَالِبًا، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ الْقَصْرُ فِيهَا كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ تُسْتَوْفَى فِيهَا أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ فِي الْعَادَةِ، فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهَا كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّهُ زَمَانُ مَضْرُوبِ الْمَسْحِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ حَدَّ السَّفَرِ لِلْقَصْرِ كَالثَّلَاثِ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ تَكَرَّرَتْ فِيهِ الْفَرِيضَةُ الْوَاحِدَةُ لَمْ يَكُنْ حَدُّ السَّفَرِ الْقَصْرَ كَالْأُسْبُوعَيْنِ فِي تَكْرَارِ الْجُمُعَتَيْنِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أيامٍ إِلَّا مَعَ ذِي محرمٍ "
فَقَدْ رُوِيَ مَسَافَةَ يَوْمٍ، وَرُوِيَ مَسَافَةَ يَوْمَيْنِ فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَسْحِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مَسْحِ الثَّلَاثِ فِي مَسَافَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا سَارَ مَا فِي ثَلَاثٍ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الثَّلَاثُ أَقَلُّ حَدِّ الْكَثِيرِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الثَّلَاثَ فِي الشَّرْعِ مُعْتَبَرَةٌ بِحُكْمِ مَا دُونَهَا لَا بِحُكْمِ مَا زَادَ عَلَيْهَا كَشَرْطِ الْخِيَارِ، وَحَدِّ الْمُقَامِ، وَاسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ فَاقْتَضَى أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا فِي السَّفَرِ حُكْمُ مَا دُونَهَا وَنَحْنُ كَذَا نَقُولُ
وَالثَّانِي: أَنَّ اعْتِبَارَ الثَّلَاثِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّمَانِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي السَّفَرِ بِالسَّيْرِ لَا بِالزَّمَانِ، فَلَمْ يَكُنْ لِاعْتِبَارِهِ فِي الثَّلَاثِ وَجْهٌ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَصْرَ يَجُوزُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، فَلَا اعْتِبَارَ بِالزَّمَانِ مَعَهَا إِذَا كَانَ قَدْرُ الْمَسَافَةِ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ الزَّمَانَ قَدْ يُوجَدُ خَالِيًا(2/361)
مِنَ السَّيْرِ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ، فَلَوْ أَسْرَعَ فِي سَيْرِهِ وَسَارَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ فِي يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ لِوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ وَهُوَ الْمَسَافَةُ الْمَحْدُودَةُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وأكره ترك القصر رغبة عن السنة، فأما أنا فلا أحب أن أقصر في أقل من ثلاثة أيامٍ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي وَإِنَّ تَرْكَ الْقَصْرِ مُبَاحٌ لو قصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأتم
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
وَالْمُسَافِرُ عِنْدَنَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ وَبَيْنَ إِتْمَامِهَا أَرْبَعًا كَالْحَضَرِ فَيَكُونُ مَا أَتَمَّهُ مِنْ سَفَرِهِ صَلَاةُ حَضَرٍ لَا صَلَاةَ سَفَرٍ هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ أَبُو قِلَابَةَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ وَاجِبٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ أَفْسَدَهَا وَأَجْمَعُوا: أَنَّهُ لَوْ صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ أَتَمَّ وَلَمْ يَقْصُرْ وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ فَأَخْبَرَ أَنَّ فَرْضَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرَ
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ رَكْعَتَانِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِلظَّاعِنِ رَكْعَتَانِ وَلِلْمُقِيمِ أَرْبَعٌ "
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ سَافَرُوا قَصَرُوا الصَّلَاةَ وَأَفْطَرُوا "(2/362)
فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ شَرُّهُمْ مَنْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُفْطِرْ
وَهَذَا وَصْفٌ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ الْمُبَاحَ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالصَّحَابَةُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: قَدْ تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ الْمَعْنَى الَّذِي أَتَمَّ لِأَجْلِهِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا عُلِمَ أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ لِاعْتِذَارِهِ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ رُدَّتْ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا كَالْجُمُعَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَاجِبَةً أَوْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ: فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا جَازَ وَالْوَاجِبُ لَا يَسْقُطُ إِلَى غَيْرِ وَاجِبٍ، وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا كَالْمُصَلِّي الصُّبْحَ أَرْبَعًا. وَهَذَا خَطَأٌ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِوَضْعِ الْجُنَاحِ عَنَّا فِي الْقَصْرِ، وَالْجُنَاحُ الْإِثْمُ، وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُبَاحِ لَا الْوَاجِبِ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ
قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ لَهَا عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ اسْمُهُ أَسَافُ، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ اسْمُهُ نَائِلَةُ فَكَانَتْ تَطَّوَّفُ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَقَرُّبًا إِلَى الصَّنَمَيْنِ فَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ السَّعْيَ حَوْلَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ غَيْرَ جَائِزٍ فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِإِبَاحَتِهِ وَإِنَّهُ وَإِنْ شَابَهَ أَفْعَالَ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَ السَّعْيُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْآيَةُ مُبَاحًا وَغَيْرَ وَاجِبٍ لِأَنَّ السَّعْيَ الْوَاجِبَ: بَيْنَهُمَا وَالْآيَةُ وَارِدَةٌ بِالسَّعْيِ بِهِمَا
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ وَإِنْ تَضَمَّنَتِ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَالْمُرَادُ بِهَا الْمُبَاحُ لَا الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَإِنَّمَا كَانَ مُبَاحًا أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَا أَرَى أَنْ لَا جناحٍ عَلَيَّ إِذَا لَمْ أَطُفْ بِهِمَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: بِئْسَ مَا قُلْتَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ سَنَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ ذَلِكَ
فَإِنْ أَرَادَ [بِهِ] قَصْرَ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ وَتَحْقِيقَ أَفْعَالِهَا لَا تَقْصِيرَ أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا قيل هذا(2/363)
تَأْوِيلٌ قَبِيحٌ يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَيُبْطِلُهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ فِي الْخَوْفِ فَمَا بَالُنَا نَقْصُرُ فِي غَيْرِ الْخَوْفِ؟ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " الْقَصْرُ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " فَقَدْ فَهِمَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْآيَةِ مَعَ ظُهُورِهِ عَلَى أَنَّ قَصْرَ الْهَيْئَاتِ لَا تَخْتَصُّ بِالْخَوْفِ أَوِ السَّفَرِ الْمَشْرُوطِ فِي الْآيَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الْأَعْدَادِ، وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا رَوَاهُ عَطَاءٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرِهِ يُتِمُّ وَيَقْصُرُ وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا انْصَرَفْنَا قَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ مَاذَا صَنَعْتِ فِي سَفَرِكِ قُلْتُ أَتْمَمْتُ مَا قَصَرْتُ وَصُمْتُ مَا أَفْطَرْتُ فَقَالَ أَحْسَنْتِ
فَدَلَّ ذَلِكَ من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ رُخْصَةٌ
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمِنَّا الْمُتِمُّ وَمِنَّا الْمُقْصِرُ. وَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ. فَلَمْ يَعِبِ الْمُتِمُّ عَلَى الْمُقْصِرُ وَلَا الْمُقْصِرُ عَلَى الْمُتِمِّ وَلَا الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِغَرَضِ الْإِقَامَةِ فِيمَا يَصِحُّ فِعْلُهُ مُنْفَرِدًا فَوَجَبَ أَنْ يجز بِهِ
أَصْلُهُ: التَّمَامُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُقِيمِ
ولأنه عذر بغير فَرْضَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِغَرَضِ الرَّفَاهِيَةِ كَالْمَرَضِ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَصَحَّ أَنْ تُؤَدَّى فِي السَّفَرِ فَرْضَ الْحَضَرِ
أَصْلُهُ: الصَّلَوَاتُ الَّتِي لَا تُقْصَرُ وَهِيَ الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ. وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ صَلَّاهَا فِي سَفَرٍ لَمْ تُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ، وَلِأَنَّ الْأَعْذَارَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الصَّلَاةِ تَخْفِيفًا إِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِيهَا رُخْصَةً لَا وُجُوبًا كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ إِذَا اقْتَضَى رِفْقًا فِي الصَّلَاةِ كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لَا عَزِيمَةً كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ مِنْهُ الْقَصْرُ صَحَّ مِنْهُ الْإِتْمَامُ كَالْمُسَافِرِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ رَكَعَاتٍ اسْتَوْفَاهَا فِي فَرْضِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَجَبَ إِذَا انْفَرَدَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّكَعَاتُ فَرْضَهُ كَالْمُقِيمِ(2/364)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَفِيهِ جَوَابَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي جَوَازَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ بِإِجْمَاعٍ وَإِنَّمَا تَقُولُ إِنَّ الْمُسَافِرَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِصَلَاةِ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ بِصَلَاةِ الْحَضَرِ أَرْبَعًا
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا: مَا لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْهُ وَهُوَ رَكْعَتَانِ فِي السَّفَرِ وَأَرْبَعٌ فِي الْحَضَرِ
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِمَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: " خَيْرُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا سَافَرُوا أَفْطَرُوا وَقَصَرُوا ". فَهَذَا حَدِيثٌ مَوْقُوفٌ عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَلَمْ يَلْزَمْ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْفِطْرِ، وَالْقَصْرِ ثُمَّ لَوْ صَامَ جَازَ، كَذَلِكَ إِذَا أَتَمَّ
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ فَخَطَأٌ كَيْفَ يَكُونُ إِجْمَاعًا وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَنَسٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خالفوا
أما عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا أَتَمَّتْ وَأَمَّا أَنَسٌ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَصَرَ لَمْ يَعِبْ عَلَى مَنْ أَتَمَّ
وَأَمَّا سَعْدٌ فَلَمْ يَكُنْ يَقْصُرُ فِي سَفَرِهِ
وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ عَابَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِتْمَامَ بِمِنًى ثُمَّ صَلَّى فَأَتَمَّ. فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ تَعِيبُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِتْمَامَ وَتُتِمُّ فَقَالَ الْخِلَافُ شَرٌّ، فَعُلِمَ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ عَلَيْهِ تُرِكَ لِلْأَفْضَلِ لَا الْوَاجِبِ
لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لَا يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيمَا لَا يجوز فعله
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ. فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجُزِ الزِّيَادَةُ فِيهَا بِالْإِتْمَامِ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَلَمَّا جَازَ لِلْمُسَافِرِ الزِّيَادَةُ فِيهَا بِالْإِتْمَامِ لَمْ يَجِبِ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَاقْتَضَى بُطْلَانَ الصَّلَاةِ بِهَا
فَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ لَمْ تُجِبْ عَلَيْهِ الْإِتْمَامَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ الصُّبْحَ خَلْفَ الْمُصَلِّي الظُّهْرِ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ سَلَّمَ وَلَمْ يَتْبَعْ إِمَامَهُ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ
وَلَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ الْمُقِيمِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، عُلِمَ أنها واجبة(2/365)
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةً فَلِمَ جَوَّزْتُمْ تَرْكَهَا إِذَا قَصَرَ
قُلْنَا: نَحْنُ عَلَى مَا جَوَّزْنَا لَهُ تَرْكَ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِصَلَاةِ حَضَرٍ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَبَيْنَ أَنْ تَأْتِيَ بِصَلَاةِ سَفَرٍ رَكْعَتَيْنِ وَأَيَّهُمَا فَعَلَ فَقَدْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَأَجْزَاهُ عَنِ الْآخَرِ كَمَا تَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى عَلَى مَذْهَبَيْنِ
أَحَدُهُمَا: الْقَصْرُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِأَكْثَرِ أَفْعَالِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَكْثَرُ أَفْعَالِهِ الْقَصْرُ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْخِلَافِ خَارِجًا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. إِنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ عَزِيمَةٌ وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْفِطْرِ وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَأَكْرَهُ تَرْكَ الْقَصْرِ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ، وَالرَّاغِبُ عَنْهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
رَاغِبٌ بِتَأْوِيلٍ وَهَذَا غَيْرُ كَافِرٍ وَلَا فَاسِقٍ كَمَنْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْأَحَادِ وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ وَرَغِبَ عَنْهَا زَاهِدًا فِيهَا بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ بِعِلْمِ وُرُودِ السَّنَّةِ بِالْقَصْرِ وَلَا يَقُولُ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَأَمَّا أَنَا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ احْتِيَاطًا عَلَى نَفْسِي وَإِنَّ تَرْكَ الْقَصْرِ مُبَاحٌ لِي فَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِمَا قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ عِنْدَهُ ثُمَّ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ احْتِيَاطًا لَهَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ أَنْ لَا يَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيَكُونَ مِنَ الخلاف خارجاً وبالاستظهار آخذاً
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُقْصَرُ إِلَّا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَأَمَّا الصُّبْحُ وَالْمَغْرِبُ فَلَا يُقْصَرَانِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي الصَّلَوَاتِ الرُّبَاعِيَّاتِ وَهِيَ ثَلَاثٌ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالصُّبْحُ فَلَا يُقْصَرَانِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى إِلَيَّ كُلَّ صلاةٍ مِثْلَهَا إِلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وترٌ وَالصُّبْحَ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا وَكَانَ إِذَا سَافَرَ رَدَّهَا إِلَى أَصْلِهَا
وَلِأَنَّ الْقَصْرَ تَنْصِيفُ الصَّلَاةِ وَالْإِتْيَانُ بِشَطْرِهَا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَضَعْتُ عَنْ عِبَادِي شَطْرَ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِمْ "(2/366)
فَلَمْ يَكُنْ قَصْرُ الْمَغْرِبِ، لِأَنَّ نِصْفَهَا رَكْعَةٌ وَنِصْفُ رَكْعَةٍ وَرَكْعَةٌ وَنِصْفٌ لَا تَكُونُ صَلَاةً فَإِنْ أُضِيفَ إِلَيْهَا نِصْفُ رَكْعَةٍ صَارَتْ شَفْعًا. وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ لَمْ يَكُنْ شَطْرُ الْمَغْرِبِ
فَأَمَّا الصُّبْحُ فَلَمْ يَجُزْ قَصْرُهَا إِلَى رَكْعَةٍ لِأَنَّهَا مَقْصُورَةٌ وَالْمَقْصُورُ لَا يُقْصَرُ. وَإِنَّمَا يصح قصر الرباعيات لا مكان تَنْصِيفِهَا بِالْقَصْرِ بَعْدَ إِتْمَامِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ فِي سَفَرِهِ وَيَقْضِيَ. فَإِنْ صَامَ فِيهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ صام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في رمضان في سفر "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِي سَفَرِهِ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فعدةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وَلِمَا رَوَى حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ قَالَ كُنْتُ رَجُلًا أَسْرُدُ الصَّوْمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصُومُ فِي سَفَرِي أَوْ أفطر فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ
فَإِنْ أفطر في سفره فعله الْقَضَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فعدةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وَإِنْ صَامَ فِيهِ أَجْزَأَهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ فإن صام [فيه] لَمْ يُجْزِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تعلقاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ بِرًّا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ فَرْضِهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُرْبَةٌ
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ "
فَلَمَّا كَانَ عَلَى الْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ الْقَضَاءُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصَّائِمِ فِي السَّفَرِ القضاء لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ: " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ "(2/367)
وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرِهِ يَصُومُ وَيُتِمُّ وَيَقْصُرُ
وَلِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَالصَّوْمَ عَزِيمَةٌ وَفِعْلُ الْعَزِيمَةِ أَوْلَى مِنَ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْفِطْرِ وَأَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ وَفَوَاتُهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، فَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " فَهَذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَرَّ بِرَجُلٍ وَقَدْ أَحْدَقَ بِهِ النَّاسُ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ مُسَافِرٌ قَدْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ " وَعِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَجْهَدَهُ الصَّوْمُ فَفِطْرُهُ أَوْلَى بِهِ
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ جائز
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ نَوَى السَّفَرَ فَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يُفَارِقَ الْمَنَازِلَ إِنْ كَانَ حَضَرِيًّا وَيُفَارِقُ مَوْضِعَهُ إِنْ كَانَ بَدَوِيًّا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
إِذَا نَوَى سَفَرًا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي بَلَدِهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ قَبْلَ إِنْشَاءِ السَّفَرِ وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ
قَالَ عَطَاءٌ وَالْأَسْوَدُ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ إِذَا نَوَى السَّفَرَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِي مَنْزِلِهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ، وَهَذَا خَطَأٌ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101]
فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَصْرَ لِلضَّارِبِ فِي الْأَرْضِ وَالْمُقِيمُ لَا يُسَمَّى ضَارِبًا
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ فَأَتَمَّ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَقَصَرَ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّمَ النِّيَّةَ لِسَفَرِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَتَمَّ الظُّهْرَ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ
وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ إِذَا دَخَلَ بُنْيَانَ بَلَدِهِ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ إِجْمَاعًا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الْقَصْرُ فِي ابْتِدَاءِ خُرُوجِهِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِ بَلَدِهِ حِجَاجًا(2/368)
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ وَالسَّفَرُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْأَسْفَارِ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الْوَطَنِ، وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَ سَفَرًا لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عن أخلاق السفر وَالْمُقِيمُ فِي بَلَدِهِ وَإِنْ خَرَجَ عَنْ مَنْزِلِهِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ لِلتَّصَرُّفِ فِي أَشْغَالِهِ وَإِنْ لَمْ ينوي سَفَرًا فَكَذَلِكَ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيِ الْبَلَدِ إِلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ لَمْ يُسَمَّ مُسَافِرًا لِأَنَّهُ قَدْ نُسِبَ إِلَى الْبَلَدِ بِالْمُقَامِ فِي الطَّرَفِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِالْمُقَامِ فِي الطَّرَفِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ وَإِذَا لَمْ يَنْطَلِقِ اسْمُ السَّفَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ الْمُبِيحِ لَهُ
فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، فَغَلَطٌ بَلْ هما متفقان في المعنى لأنه لابد من الْإِقَامَةِ مِنَ الْفِعْلِ مِعَ النِّيَّةِ وَهُوَ اللُّبْثُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سَائِرًا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا أَوْ فِي سَفِينَةٍ وَنَوَى الْإِقَامَةَ كَانَتِ النِّيَّةُ لَغْوًا وَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ مَعَ اللُّبْثِ فَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بَلَدِهِ فَإِنْ كَانَ بَلَدُهُ ذَا سُورٍ فَفَارَقَ سُورَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سُورٌ فَفَارَقَ آخِرَ بُنْيَانِهِ وَإِنْ قَلَّ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ كَانَ سَفَرُهُ نَهَارًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَدْخُلَ اللَّيْلُ وَإِنْ كَانَ لَيْلًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَدْخُلَ النَّهَارُ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَعْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ما وري عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِالْعَقِيقِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ وَيَقْصُرُ بِذِي طُوًى إِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْقَصْرِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَضَرِيًّا أَوْ بَدَوِيًّا
فَأَمَّا الْحَضَرِيُّ فَإِنْ كان يسكن بلد أَوْ قَرْيَةً لَمْ يَقْصُرْ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ اتِّصَالِ الْبُنْيَانِ بِالْعُمْرَانِ وَبَيْنَ اتِّصَالِهِ بِالْخَرَابِ لِأَنَّ بَيْنَ جَامِعِ البصرة ومريدها وَالْعَقِيقِ خَرَابَاتٍ دَارِسَةً قَدْ غَطَّى سِرْبَهَا وَكُلَّ مَنْ حَوَاهُ سُورُهَا مُقِيمٌ بِالْبَصْرَةِ وَمَنْسُوبٌ إِلَيْهَا. فَإِذَا خَرَجَ مِنْ سُورِ الْبَلَدِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ. وَإِنِ اتَّصَلَ سُورُ الْبَلَدِ بِبُنْيَانِ الْبَسَاتِينِ كَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ مِنْ دَرْبِ سُلَيْمَانَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ، وَإِنْ كَانَتْ بُنْيَانُ الْبَسَاتِينِ متصلاً بالسور،(2/369)
لِأَنَّ هَذِهِ الْبُنْيَانَ لَمْ تُبْنَ لِلِاسْتِيطَانِ وَإِنَّمَا بُنِيَتْ لِلِانْتِفَاعِ وَالِارْتِفَاقِ فَهِيَ كَ " أَرْضِ الْبَسَاتِينِ "، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُقِيمًا إِذَا كَانَ فِي بُنْيَانٍ يَلْبَثُ فِيهِ لِلِاسْتِيطَانِ أَهْلُ الْبَلَدِ
فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي قَرْيَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِقَرْيَةٍ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ انْفِصَالٌ وَلَوْ كَذِرَاعٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا فَارَقَ بُنْيَانَ قَرْيَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ وَاتَّصَلَ بُنْيَانُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ حَتَّى يُفَارِقَ مَنَازِلَ الْقَرْيَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِالِاتِّصَالِ كَالْبَلَدِ الْجَامِعِ لِقَبِيلَتَيْنِ
فَأَمَّا أَهْلُ الْبَسَاتِينِ وَمَكَانِ الْقُصُورِ كَسَاكِنِي دِجْلَةِ والبصرة وَأَنْهَارِهَا الَّذِينَ لَا يَجْمَعُهُمْ بَلَدٌ وَلَا تَضُمُّهُمْ قَرْيَةٌ وَإِنَّمَا يَسْتَوْطِنُونَ قُصُورَ الْبَسَاتِينِ فَلَهُمُ الْقَصْرُ إِذَا فَارَقُوا الْمَوْضِعَ الْمَعْرُوفَ بَيْنَهُمْ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْبَدَوِيُّ فَلَهُ حَالَانِ
أَحَدُهُمَا: فِي صَحْرَاءَ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي وادٍ، فَإِنْ كَانَ فِي صحراء اعتبرت حَالُ الْخِيَمِ، فَإِنْ كَانَتْ حَيًّا وَاحِدًا وَبَطْنًا مُنْفَرِدًا لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ جَمِيعَ خِيَامِ الْحَيِّ سَوَاءٌ اجْتَمَعَتْ أَوْ تَفَرَّقَتْ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْحَيِّ دَارٌ لِأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخِيَمُ أَحْيَاءً مُخْتَلِفَةً وَبُطُونًا مُتَفَرِّقَةً فَإِنْ تَمَيَّزَتْ خِيَمُهُمْ فَكَانَ لكل بطن منهم حي منفرداً وَخِيَامٌ مُتَمَيِّزَةٌ قَصَرَ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ وَبُيُوتَ حَيِّهِ، وَإِنِ اخْتَلَطَتِ الْبُطُونُ وَلَمْ تَتَمَيَّزِ الْخِيَامُ لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يُفَارِقَ الْخِيَامَ كُلَّهَا فَإِذَا فَارَقَهَا قَصَرَ حينئذٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْقَرْيَتَيْنِ إِذَا اتَّصَلَتَا
فَإِنْ كَانَ فِي وَادٍ فإن أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ طُولَهُ قَصَرَ إِذَا فَارَقَ خيام قومه كالصحراء، وأن يَسْلُكَ عَرْضَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يَقْصُرْ حَتَّى يَقْطَعَ عَرْضَ الْوَادِي فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ الجواب في ظاهره ومنعه من القصر حتى يقطع عرض الوَادِي، وَإِنْ فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَتَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قال: لأن عرض الْوَادِي دَارٌ لَهُمْ أَوْ كَالدَّارِ لَهُمْ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يَقْصُرُ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قومهم وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ حَتَّى يقطع عرض الوادي: إذا كانت خيام قومي مُتَّصِلَةً بِعَرْضِهِ
(فَصْلٌ)
: إِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُنْيَانَ بَلَدِهِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ لِحَاجَةٍ ذَكَرَهَا أَوْ أَمْرٍ عَرَضِيٍّ وَأَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ بَلَدِهِ حَتَّى يُفَارِقَ آخِرَ بُنْيَانِهِ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ بِرُجُوعِهِ فِي دَارِ إِقَامَتِهِ فَلَوْ سَافَرَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَهِيَ وَطَنُهُ إِلَى الْكُوفَةِ يَنْوِي الْمُقَامَ بِهَا فَحِينَ قَرُبَ مِنَ الْكُوفَةِ بَدَا لَهُ مِنَ الْمُقَامِ شيئاً وَأَرَادَ الِاجْتِيَازَ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ بِالْكُوفَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ دَارُ إِقَامَةٍ، فَلَوْ رَجَعَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَهِيَ وَطَنُهُ يُرِيدُ الِاجْتِيَازَ فِيهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ بِالْبَصْرَةِ وَإِنْ كَانَ غَيَّرَ الْمُقَامَ فِيهَا لِأَنَّهَا دَارُ إِقَامَتِهِ
فَأَمَّا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي سَفَرِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ فِي حَجِّهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ(2/370)
يَقْصُرَ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي عَيَّنَ النِّيَّةَ فِيهِ حَتَّى يُفَارِقَهُ لِأَنَّهُ بِتَغَيُّرِ النِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا وَالْمُقِيمُ إِذَا نَوَى السَّفَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ إِلَّا بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَوْضِعِهِ، فَإِذَا فَارَقَ مَوْضِعَهُ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَلَدِهِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ نَوَى السَّفَرَ فَأَقَامَ أَرْبَعَةَ أيامٍ أَتَمَّ الصلاة واحتج فيمن أقام أربعةٌ يتم بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا وبأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقام بمنى ثلاثاً يقصر وقدم مكة فأقام قبل خروجه إلى عرفة ثلاثاً يقصر ولم يحسب اليوم الذي قدم فيه لأنه كان فيه سائراً ولا يوم التروية الذي خرج فيه سائراً وأن عمر أجلى أهل الذمة من الحجاز وضرب لمن يقدم منهم تاجراً مقام ثلاثة أيام فأشبه ما وصفت أن يكون ذلك مقام السفر وما جاوزه مقام الإقامة وروي عن عثمان بن عفان من أقام أربعاً أتم وعن ابن المسيب أقامة أربعٍ أتم "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
وَأَمَّا الْمُسَافِرُ إِذَا قَصَدَ بَلَدًا وَكَانَ الْبَلَدُ غَايَةَ سَفَرٍ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَتَى دَخَلَ ذَلِكَ الْبَلَدَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّ سَفَرَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِدُخُولِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إِنِ اسْتَطَابَ بَلَدًا فِي طَرِيقِهِ فَنَوَى الِاسْتِيطَانَ فِيهِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَنْتَهِ سَفَرُهُ وَلَا نَوَى الِاسْتِيطَانَ فِيهِ لَكِنْ نَوَى أَنْ يُقِيمَ فِيهِ مُدَّةً، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ دُونَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سِوَى الْيَوْمِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ وَالْيَوْمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ
وقال أبو حنيفة: يقصر إلى أَنْ يَجْمَعَ مُقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَخَرَجَ مِنْهَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ وَكَانَ يَقْصُرُ بِمَكَّةَ
فَعُلِمَ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ لَيْسَتْ حَدًّا لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ تَحْدِيدٌ لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَلَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ. وَالْإِجْمَاعِ. وَالتَّوْقِيفُ مَعْدُومٌ وَالْإِجْمَاعُ حَاصِلٌ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَمَا دُونَهُ مُخْتَلِفٌ فَلَمْ يَجْعَلْهُ مُدَّةً لِلْإِقَامَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلْزَامُ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا قِيَاسًا عَلَى أَقَلِّ الطُّهْرِ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ(2/371)
الصَّلاةِ} [النساء: 101] . فَأَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الضَّرْبِ وَالْعَازِمُ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعَةٍ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الْأَرْضِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَسْتَبِيحَ الْقَصْرَ، وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ مُدَّةُ الْإِقَامَةِ وَمَا دُونَهَا مُدَّةُ السَّفَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ أَوْجَبَ الْهِجْرَةَ حَرَّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ الْمُقَامَ بِمَكَّةَ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثة "، فَاسْتَثْنَى الثَّلَاثَ وَجَعَلَهَا مُدَّةَ السَّفَرِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ، وَأَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَنِ الْحِجَازِ وَجَعَلَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْهُمْ تَاجِرًا مُقَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ وَالْأَثَرُ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ حَدُّ السَّفَرِ وَمَا فَوْقَهَا حَدُّ الْإِقَامَةِ، وَلِأَنَّهَا أَيَّامٌ لَا يَسْتَوْعِبُهَا الْمُسَافِرُ بِالْمَسْحِ الْوَاحِدِ فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ إِذَا أَقَامَهَا كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلِأَنَّهَا أَيَّامٌ تَزِيدُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسَافِرًا وَلَا عَازِمًا كالخمسة عشر، لأنها مُدَّةٌ لَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ أَنْ يُقِيمَهَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَصَارَتْ كَالشَّهْرِ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَصْرِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فَغَيْرُ حُجَّةٍ لِأَنَّا نُجِيزُ الْقَصْرَ أَرْبَعًا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَرَ ثَلَاثًا سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ وَيَوْمِ خُرُوجِهِ فَبَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ تَحْدِيدَ مدة القصر لا يصار إليها إلا بالتوقف أَوْ إِجْمَاعٍ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمُسَافِرِ إِلَى كَمْ يَقْصُرُ وَإِجْمَاعُنَا وَإِيَّاهُمْ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْأَرْبَعِ وَالْخِلَافِ مِنْهُ وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجُزِ الْقَصْرُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْقِيفٍ أَوْ إِجْمَاعٍ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَعَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ تَوْقِيفًا. وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا "
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَقَلِّ الطُّهْرِ، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ أَنْ تَطْهُرَ مِنْ حَيْضِهَا ثُمَّ تَضَعُ حَمْلَهَا بَعْدَ يَوْمٍ وَتَرَى دَمَ النِّفَاسِ، فَيَكُونُ طُهْرُهَا الْيَوْمَ الَّذِي بَيْنَ حَيْضِهَا وَوَضْعِهَا وَإِنَّمَا أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِذَا كَانَ بَيْنَ حَيْضَيْنِ عَلَى إِلْزَامِ الصَّلَاةِ، وَإِتْمَامُهَا لَا يَتَعَلَّقُ بِمُدَّةٍ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يُعَدَّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَكُلُّ مَنْ نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ وَيَوْمِ خُرُوجِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ يَوْمُ دُخُولِهِ وَيَوْمُ خُرُوجِهِ لِأَنَّ السَّفَرَ يَجْمَعُ السَّيْرَ وَالنُّزُولَ وَالتِّرْحَالَ فَلَمْ يُحْسَبْ عَلَيْهِ يَوْمُ دُخُولِهِ لِأَنَّهُ فِيهِ نَازِلٌ وَلَا يَوْمُ خُرُوجِهِ لِأَنَّهُ فِيهِ رَاحِلٌ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَتَّصِلُ مَسِيرُهُ فِي جَمِيعِ يَوْمِهِ وَإِنَّمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالسَّيْرِ فِي بَعْضِهِ وَالْمُنَاخُ وَالِاسْتِرَاحَةُ فِي بَعْضِهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُحْتَسَبْ يَوْمُ دُخُولِهِ وَيَوْمُ خُرُوجِهِ لِوُجُودِ السَّيْرِ فِي بَعْضِهِ فَلَوْ دَخَلَ الْبَلَدَ لَيْلًا وَنَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةٍ فَقَدْ حَكَى أَبُو حَامِدٍ عَنِ الدَّارِكِيِّ أنه لا(2/372)
يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ لَيْلَةُ دُخُولِهِ وَلَا الْيَوْمُ الَّذِي بَعْدَهَا، وَإِنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي " الْأُمِّ " عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَإِذَا نَوَى مُقَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا أَتَمَّ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ تَابِعَةٌ لِيَوْمِهَا وَالْيَوْمَ تَابِعٌ لَهَا، فَلَمَّا لَمْ يَحْتَسِبْ لَيْلَةَ الدُّخُولِ لِوُجُودِ السَّيْرِ فِي بَعْضِهَا لَمْ يَحْتَسِبِ الْيَوْمَ الَّذِي بَعْدَهَا لأنه تبع لها
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا جَاوَزَ أَرْبَعًا لِحَاجَةٍ أَوْ مَرَضٍ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى الْخُرُوجِ أَتَمَّ وَإِنْ قَصَرَ أَعَادَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي خوفٍ أَوْ حربٍ فَيَقْصُرُ قَصْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عام الفتح لحرب هوازن سبعة عشرة أو ثمانية عَشْرَةَ (وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ) إِنْ أَقَامَ عَلَى شَيْءٍ يَنْجَحُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يقصر ما لم يجمع مكثاً أقام الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ حَتَّى خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ (قَالَ المزني) ومشهور عن ابن عمر أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر يقول أخرج اليوم وأخرج غداً (قال المزني) فإذا قصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في حربه سبع عشرة أو ثماني عشرة ثم ابن عمر ولا عزم على وقت إقامة فالحرب وغيرها سواءٌ عندي في القياس وقد قال الشافعي ولو قاله قائل كان مذهباً "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ بَلَدًا أَوْ قَرْيَةً أَوْ نَزَلَ أَرْضًا أَوْ قَبِيلَةً وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ بَلْ كَانَ يَنْتَظِرُ حَالًا يَرْجُوهَا أَوْ حَاجَةً يُنْجِزُهَا ثُمَّ يَخْرُجُ وَكَانَ يَرْجُو حُصُولَهَا فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ فَهَذَا لَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُحَارِبٍ:
فَإِنْ كَانَ مُحَارِبًا يَنْتَظِرُ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَيَخْرُجَ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقم بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ
فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَفِي جَوَازِ الْقَصْرِ قَوْلَانِ: نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي " الْإِمْلَاءِ ":
أَحَدُهُمَا: يَقْصُرُ مَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا قَصَرَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِبَقَاءِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَأَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُ الصلاة وأما أنس بن مالك أقام بِنَيْسَابُورَ سَنَتَيْنِ يَقْصُرُ وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ فَأَقَامَ بِفَارِسَ سَنَتَيْنِ(2/373)
وَقَصَرَ، وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ إِنَّا نَكُونُ عَلَى حَرْبٍ فَيَكْثُرُ مقامنا أفنقصر فَقَالَ أَقْصُرْ وَإِنْ بَقِيتُ عَشْرَ سِنِينَ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَقْصُرُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ عَزِيمَةٌ، وَالْقَصْرَ رُخْصَةٌ فِي السَّفَرِ وَالْمُقِيمُ غَيْرُ مُسَافِرٍ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ إِلَّا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا فَكَانَ مَا سِوَاهَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، وَإِنَّمَا قَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بِأَذْرَبِيجَانَ؛ لِأَنَّهُ إِقْلِيمٌ يَجْمَعُ بُلْدَانًا شَتَّى وَقُرًى مُخْتَلِفَةً كَالْعِرَاقِ فَكَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَمِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ يَقْصُرُ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى فِي الْحَرْبِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَصَحُّهُمَا: لَا يَقْصُرُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ وَقَدْ نَوَاهَا وَصَارَ بِهَا مُقِيمًا، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ لَجَازَ لِلْمُسْتَوْطِنِ فِي بَلَدِهِ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا كَانَ مُحَارِبًا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَقْصُرُ؛ لِأَنَّ أَعْذَارَ الْحَرْبِ تُخَالِفُ مَا سِوَاهَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَقْصُرُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا
وَالثَّانِي: يَقْصُرُ مَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ مُحَارِبًا وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ بِمُقَامِهِ خُرُوجَ قَافِلَةٍ تِجَارِيَّةٍ أَوْ بَيْعَ مَتَاعٍ أَوْ زَوَالَ مَرَضٍ ثُمَّ يَخْرُجُ فَهَذَا يقصر تماماً أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ
وَإِنَّمَا قُلْنَا يَقْصُرُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْعَزْمِ عَلَى الْإِقَامَةِ أَوْ بِوُجُودِ فِعْلِ الْإِقَامَةِ
فَإِذَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْإِقَامَةِ قَصَرَ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِقَامَةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ
وَإِذَا أَكْمَلَهَا سِوَى يَوْمِ دُخُولِهِ فَهَلْ يَقْصُرُ أَمْ لَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
مِنْهَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ؛ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ مُخَرَّجٌ
أَحَدُ الْأَقَاوِيلِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِقَامَةِ آكَدُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى الْمُقَامِ لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا وُجِدَ تَحَقَّقَ، وَقَدْ يَعْزِمُ عَلَى الْمُقَامِ وَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ بِالْعَزْمِ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعٍ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ كَانَ بِإِقَامَةِ أَرْبَعَةٍ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ
وَالْقَوْلُ الثاني: وهو قول فِي " الْإِمْلَاءِ " يَقْصُرُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ تَوَقُّعًا لِانْجِلَاءِ الْحَرْبِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِ إِذَا تَوَقَّعَ إِنْجَازَ أَمْرِهِ وَتَقَضِّيَ أَشْغَالِهِ(2/374)
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ تَخْرِيجُ الْمُزَنِيِّ: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ مَا كَانَ مُقِيمًا عَلَى تَنْجِيزِ أَمْرِهِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قِيَاسًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُحَارِبِ بِعِلَّةٍ أَنَّهُ مُسَافِرٌ عَازِمًا عَلَى الرَّحِيلِ عِنْدَ تَنْجِيزِ أَمْرِهِ فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَ " الْمُحَارِبِ " أَوْ قِيَاسًا عَلَى مَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْمُقِيمِ لِعُذْرٍ يَرْجُو زَوَالَهُ
فَأَمَّا إِذَا أَقَامَ غَيْرَ مُحَارِبٍ وَلَا مَشْغُولٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي إِقَامَةٍ وَلَا رَحِيلٍ فَهَذَا يَقْصُرُ تَمَامَ أَرْبَعٍ ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ إِقَامَتَهُ بَعْدَ أَرْبَعٍ أَوْكَدُ مِنْ عَزْمِهِ عَلَى مُقَامِ أَرْبَعٍ لِأَنَّهُ قَدْ حَقَّقَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا مَرَّ الْمُسَافِرُ فِي طَرِيقِهِ بِبَلَدٍ لَهُ فِيهَا دَارٌ أَوْ مَالٌ أَوْ ذُو قَرَابَةٍ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ فِيهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَصَرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ وَمَعَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَلَهُمْ بِمَكَّةَ دُورٌ وَمَالٌ وَقَرَابَةٌ، فَإِنْ دَخَلَ بَلَدًا أَوْ نَوَى إِنْ لَقِيَ فُلَانًا أَنْ يُقِيمَ فِيهِ شَهْرًا فَإِنْ لَقِيَهُ قَبْلَ أَرْبَعَةٍ صَارَ مُقِيمًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ سَفَرَهُ قَدِ انْتَهَى بِلِقَائِهِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ بَعْدَ انْتِهَاءِ سَفَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ وَلَا رَآهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا تَمَامَ أَرْبَعَةٍ ثُمَّ يُتِمُّ فِيمَا بَعْدُ
وَلَوْ سَافَرَ فِي ضَالَّةٍ لَهُ أَوْ عَبْدٍ آبِقٍ لِيَرْجِعَ أَيْنَ وَجَدَهُ فَبَلَغَ غَايَةً تُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ فِي سَفَرِهِ بُلُوغَ هَذِهِ الْغَايَةِ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ بِوُجُودِ الضَّالَّةِ وَجَعَلَ مَوْضِعَ وُجُودِهَا غَايَةَ سَفَرِهِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجِدَهَا مَعَ السَّاعَاتِ فَصَارَ كَمَنْ سَافَرَ إِلَى مَكَانٍ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ، فَإِذَا وَجَدَ ضَالَّتَهُ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى بَلَدِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا أَخَذَ فِي الرُّجُوعِ وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ يُقْصَرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ حِينَ سَافَرَ فِي طَلَبِ ضَالَّتِهِ وَرَدِّ آبِقِهِ نَوَى الْقَصْرَ إِلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ إِلَى مِثْلِهِ الصَّلَاةُ كَانَ لَهُ الْقَصْرُ، فَإِنْ وَجَدَ ضَالَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ وَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ كَالْمُسَافِرِ إِذَا بَدَا لَهُ فِي طَرِيقِهِ مِنْ إِتْمَامِ سَفَرِهِ
فَلَوْ كَانَ سَائِرًا فِي الْبَحْرِ فَمَنَعَتْهُ الرِّيحُ مِنَ الْخُطُوفِ وَالسَّيْرِ حَتَّى رَسَتِ السَّفِينَةُ مَكَانَهَا أَوْ أَقَامَتِ انْتِظَارَ السُّكُونِ لِلرِّيحِ وَإِمْكَانَ السَّيْرِ فَهَذَا فِي حُكْمِ التَّاجِرِ إذا أقام لبيع متاعه أو إنجازه أَمْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ وَفِيمَا بَعْدَ الْأَرْبَعِ عَلَى الْأَقَاوِيلِ الثَّلَاثَةِ. وَإِنِ اسْتَقَامَتْ لَهُمُ الرِّيحُ فَسَارَتِ السَّفِينَةُ عَلَى مَكَانِهَا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ سَيْرِهَا، فَإِنْ رَجَعَتِ الرِّيحُ فَرَكَدَتْ إِلَى مَوْضِعِهَا الْأَوَّلِ قَصَرَ تَمَامَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ فِيمَا بَعْدُ على الأقاويل الثلاثة أنه لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَحْبِسَهَا الرِّيحُ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي غَيْرِهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ على ذلك في " الأم "
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَرَجَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَصَرَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَقْصُرْ (قَالَ المزني) أشبه بقوله أن يتم لأنه يقول إن أمكنت المرأة الصلاة فلم تصل حتى حاضت أو أغمي عليها لزمتها وإن لم تمكن لم تلزمها فكذلك إذا دخل عليها وقتها(2/375)
وهو مقيم لزمته صلاة مقيم وإنما تجب عنده بأول الوقت والإمكان وإنما وسع له التأخير إلى آخر الوقت "
قال الماوردي: وهذا كما قال إذا الرَّجُلُ الْمُقِيمُ لَا يَخْلُو حَالُ سَفَرِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يُسَافِرَ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، أَوْ يُسَافِرَ بَعْدَ الْوَقْتِ، أَوْ يُسَافِرَ فِي الْوَقْتِ فَإِنْ سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ فَلَهُ قَصْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ فَلَهُ قَصْرُ تِلْكَ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ تِلْكَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ
وَإِنْ سَافَرَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُسَافِرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا فِي سَفَرِهِ. لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا إِلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يَحْيَى الْبَلْخِيِّ
وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا مُسَافِرًا فَجَازَ لَهُ الْقَصْرُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي سَفَرِهِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يُسَافِرَ وَقَدْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ أَرْبَعُ ركعات، مذهب الشَّافِعِيِّ وَكَافَّةِ أَصْحَابِنَا لَهُ أَنْ يَقْصُرَهَا وَلَا يَلْزَمُهُ إِتْمَامُهَا، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْرُهَا تَعَلُّقًا بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، فَإِذَا أَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَهُوَ مُقِيمٌ، فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ تَامَّةً، وإذا وجبت عليه الصلاة تامة لم تجز لَهُ الْقَصْرُ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: الْحَيْضُ أَقْوَى فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ مِنَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ بِأَسْرِهَا وَالسَّفَرَ يُسْقِطُ شَطْرَهَا، فَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَيْضَ إِذَا طَرَأَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَلَمْ يَكُنِ الْحَيْضُ مُغَيِّرًا لِحُكْمِهَا، كَانَ حُدُوثُ السَّفَرِ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ أَوْلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ. وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] وَلِأَنَّهُ سَافَرَ يَحِلُّ لِمِثْلِهِ الْقَصْرُ فَوَجَبَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُؤَدِّيًا لِلصَّلَاةِ أَنْ يَجُوزَ لَهُ قَصْرُهَا، أَصْلُهُ إِذَا سَافَرَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَاسْتِقْرَارَ وُجُوبِهَا بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَقَدْرِ الصَّلَاةِ، وَكَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْأَدَاءِ، أَلَا تَرَى لَوْ زَالَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَبْدٍ أَوْ مَرِيضٍ كَانَ فَرْضُهُمَا الظُّهْرُ أَرْبَعًا فَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ وَبَرَأَ الْمَرِيضُ وَالْوَقْتُ بَاقٍ لَزِمَهُمَا الْجُمُعَةُ، وَلَوْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَهُوَ صَحِيحٌ كَانَ فَرْضُهُ الْجُمُعَةَ، فَإِنْ مَرِضَ فِي الْوَقْتِ قَبْلَ حُضُورِ الْجُمُعَةِ كَانَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ أَرْبَعًا اعْتِبَارًا(2/376)
بِحَالِ الْأَدَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَعًا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي حَالِ أَدَائِهَا مُسَافِرًا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُقِيمٌ، وَفِي هَذَا جَوَابٌ لِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحَيْضِ فَغَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ الْحَيْضَ إِذَا طَرَأَ مَنَعَ مِنَ الْأَدَاءِ وَإِذَا طَهُرَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَالسَّفَرُ إِذَا طَرَأَ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْأَدَاءِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْقَصْرِ لِوُجُودِ الْأَدَاءِ وَعَدَمِ الْقَضَاءِ فَافْتَرَقَا
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يُسَافِرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرُ أَدَائِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ جَوَازُ قَصْرِهَا، وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بن سلمة يتم لا يَقْصُرُ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِيَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّمَامُ وَفَارَقَ أَوَّلَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِفَرْقِهِ بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَجْهٌ
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يُسَافِرَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَلَا يَقْصُرُهَا لِعَدَمِ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِهَا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ. وَبِهِ قَالَ أبو علي بن خيران يجوز قصرها، ولأن الصَّلَاةَ قَدْ تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ فِي أَصْحَابِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَاتِ كَوُجُوبِهَا فِي أَوَّلِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يستويا في جواز القصر
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ مَعَ الْإِحْرَامِ فَإِنْ أَحْرَمَ وَلَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ كَانَ عَلَى أَصْلِ فَرْضِهِ أَرْبَعٌ وَلَوْ كَانَ فَرْضُهَا رَكْعَتَيْنِ مَا صلى مسافر خلف مقيم (قال المزني) ليس هذا بحجةٍ وكيف يكون حجة وهو يجيز صلاة فريضة خلف نافلة وليست النافلة فريضةً ولا بعض فريضةٍ وركعتا المسافر فرضٌ وفي الأربع مثل الركعتين فرض "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ قَصْرُ الصَّلَاةِ إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ، السَّفَرُ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَا يقصرُ، وَأَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا لِلصَّلَاةِ لَا قَاضِيًا وَأَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ مَعَ الْإِحْرَامِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَنْوِ الْقَصْرَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ
وَقَالَ الْمُزْنِيُّ الْقَصْرُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ بَلْ إِذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ نَاوِيًا لِلْقَصْرِ مَعَ سَلَامِهِ جَازَ، وَإِنْ سَلَّمَ غَيْرُنَا وكان كمن سلم في صلاته لَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ أَوَّلِ الْعِبَادَةِ، أَلَا تَرَى لَوْ نَوَى الطَّهَارَةَ عَنْ غَسْلِ وَجْهِهِ كَانَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمِ النِّيَّةَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ لِأَنَّا مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي مَحَلِّهَا، وَكُلُّ صَلَاةٍ افْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ فَإِنَّ مَحَلَّ تِلْكَ النِّيَّةِ فِيهَا الْإِحْرَامُ، قِيَاسًا على نية(2/377)
الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَقْصُورَةٌ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي انْتِهَائِهَا مَوْجُودًا وَابْتِدَائِهَا كَالْجُمُعَةِ
(فَصْلٌ)
: إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ يَنْوِي الْإِتْمَامَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ نَوَى التَّمَامَ، قَالَ لِأَنَّ السَّفَرَ يَتَعَلَّقُ بِهِ رُخْصَةُ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ وَإِنْ نَوَى الصِّيَامَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَإِنْ نَوَى الْإِتْمَامَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ إِجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ هُوَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْحَضَرِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ صَرْفُهَا إِلَى صَلَاةِ السَّفَرِ
أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ صَارَ مُسَافِرًا بِسَيْرِ السَّفِينَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الصَّوْمِ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ فَلَمْ يَتَحَتَّمْ عَلَيْهِ الصَّوْمُ بِدُخُولِهِ فِيهِ وَالْقَصْرُ لَا يُضَمَّنُ بالقضاء فتحتم عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ بِدُخُولِهِ فِيهِ فَلَوْ أَحْرَمَ نَاوِيًا لِلْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِتْمَامِ قَدْ رَفَعَتِ حُكْمَ الرُّخْصَةِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ شَكَّ هَلْ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ أَوِ الْإِتْمَامِ لَزِمَهُ أَنْ يتم، لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ رَكْعَةٌ أَوْ رَكْعَتَانِ، فَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّهُ بِالشَّكِّ قَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَمَنْ لَزِمَهُ إِتْمَامُ صَلَاةٍ هُوَ فِيهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ قَصْرُهَا
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ نَسِيَ صَلَاةً فِي سَفَرٍ فَذَكَرَهَا فِي حَضَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا صَلَاةَ حَضَرٍ لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَصْرِ هِيَ النَّيَّةُ وَالسَّفَرُ فَإِذَا ذَهَبَتِ العلة القصر ذهب وَإِذَا نَسِيَ صَلَاةً حَضَرٍ فَذَكَرَهَا فِي سفرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا أَرْبَعًا لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَرْبَعٌ فَلَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْهَا وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لَهُ فِي الْقَصْرِ مَا دَامَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَهُوَ مسافرٌ فَإِذَا زَالَ وَقْتُهَا ذَهَبَتِ الرُّخْصَةُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
وَهَذَا الْفَصْلُ يَشْمَلُ أَرْبَعَ مَسَائِلَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْسَى صلاة ثم يذكرها في حضر ققيها قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَقْصُرُهَا إِنْ شَاءَ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُؤَدَّى وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهَا مِثْلَ أَدَائِهَا أَصْلُهُ إِذَا نَسِيَهَا فِي الْحَضَرِ وَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا تَامَّةً لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ تَامَّةً
وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ فِي الْأُصُولِ مِثْلُ مُبْدَلَاتِهَا أَوْ أَخَفُّ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي " الْأُمِّ " وَ " الْإِمْلَاءِ " عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا(2/378)
أَرْبَعَةً، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا كَالْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ الْعُذْرَ الْمُغَيِّرَ لِلْفَرْضِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَعَ وُجُودِهِ كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ مُسَافِرٍ أَصْلُهُ إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ إِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ الْقَصْرُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّمَامِ، فَإِذَا صَارَ مُقِيمًا فَقَدْ زَالَتِ الْمَشَقَّةُ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ التَّخْفِيفُ كَالْمُضْطَرِّ لَمَّا جُوِّزَ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا عِنْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ كَ " الْمُتَيَمِّمِ " وَلِأَنَّ السَّفَرَ يُبِيحُ قَصْرَ الصَّلَاةِ إِلَى شَطْرِهَا كَمَا يُبِيحُ بِالتَّيَمُّمِ قَصْرَ الطَّهَارَةِ إِلَى شَطْرِهَا. فَلَمَّا لَمْ يُسْتَبَحْ تَيَمُّمُ السَّفَرِ بعد انقضاء السفر لم يستبح قضاء السَّفَرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّفَرِ
(وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ)
: أَنْ تَفُوتَهُ فِي سَفَرٍ ثُمَّ يَذْكُرُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ لَهُ قَصْرُهَا إِنْ شَاءَ وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ إِمَّا بِحَالِ الْوُجُوبِ أَوْ بِحَالِ الْأَدَاءِ وَأَيُّهُمَا كَانَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فِي الْحَالَيْنِ مَعًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُؤَدَّى وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهَا مِثْلَ أَدَائِهَا أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُفْعَلُ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا قَضَاءً فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ قَصْرُهَا أَصْلُهُ إِذَا نَسِيَهَا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ ذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتٌ لَهُمَا مَعًا فَلِذَلِكَ جَازَ قَصْرُهَا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَرْدُودَةٌ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا كَالْجُمُعَةِ
(وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ)
: أَنْ يَنْسَى صَلَاةً فِي حَضَرٍ ثُمَّ يَذْكُرُهَا فِي حَضَرٍ فَلَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهِ إِتْمَامَهَا وَإِنْ سَافَرَ فِيمَا بَعْدُ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْوُجُوبِ فَهُوَ فِيهِ حَاضِرٌ وَإِنْ كَانَ بِحَالِ الْأَدَاءِ فَهُوَ فِيهِ حَاضِرٌ وَلَا اعْتِبَارَ بِحَالَةٍ حَادِثَةٍ فِيمَا بَعْدُ
(وَالْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ)
: أَنْ يَنْسَى صَلَاةً فِي حَضَرٍ ثُمَّ يَذْكُرُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي السَّفَرِ فَعَلَيْهِ إِتْمَامُهَا أَرْبَعًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَغْلَطُ فَيُجِيزُ لَهُ قَصْرَهَا اعْتِبَارًا بِحَالِ الْأَدَاءِ وهذا خطأ، لأن الصلاة قد استقر عليها فرضها أَرْبَعًا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَجُزْ لْهُ قَصْرُهَا وَقْتَ الْقَضَاءِ، كَمَا أَنَّ مَنْ نَسِيَ ظُهْرَ الْخَمِيسِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهَا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي " الْإِمْلَاءِ ": وَإِذَا نَسِيَ الظُّهْرَ فِي الْحَضَرِ فَلَمْ يَذْكُرْهَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ سَافَرَ وَذَكَرَ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ نَسِيَ الظُّهْرَ وَوَقْتُ الْعَصْرِ باقٍ لَمْ يَجُزْ لْهُ قَصْرُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ وَقْتَهَا قَدْ فَاتَ فِي الْحَضَرِ وَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ حَاضِرٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا إِذَا سَافَرَ، قَالَ: وَإِنْ نَسِيَ الظُّهْرَ فِي السَّفَرِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ صَارَ حَاضِرًا(2/379)
فَذَكَرَ فِي الْحَضَرِ أَنَّهُ نَسِيَ الظُّهْرَ وَوَقْتُ الْعَصْرِ بَعْدُ بَاقٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَ الظُّهْرَ، قَالَ لِأَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ فِي السَّفَرِ وَقْتُ الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ جَمِيعًا فَإِذَا ذَكَرَهَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَهُوَ حَاضِرٌ كَانَ كَمَا ذَكَرَهَا فِي وَقْتِهَا وَهُوَ حَاضِرٌ فَصَلَّى أَرْبَعًا صَلَاةَ حضر، لأنه مؤدٍ لا قاضي، فَلَوْ نَسِيَ صَلَاةَ ظُهْرٍ لَا يَدْرِي أَصَلَاةُ سَفَرٍ أَمْ صَلَاةُ حَضَرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا صَلَاةَ حَضَرٍ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَحْرَمَ يَنْوِي الْقَصْرَ ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَسَافِرِينَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ثُمَّ نَوَى الْمُقَامَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْرُهَا
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى التَّمَامِ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً ضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى وَكَانَتْ نَافِلَةً ثُمَّ اسْتَفْتَحَ صَلَاةَ الْإِقَامَةِ أَرْبَعًا وَهَذَا غَلَطٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاتِهِ وَوُجُوبُ إِتْمَامِهَا أَرْبَعًا أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ سَبَبُهَا السَّفَرُ فَوَجَبَ إِذَا زَالَ سَبَبُهَا وَهُوَ السَّفَرُ أن نزول رُخْصَةُ الْقَصْرِ كَالْمَرِيضِ يُصَلِّي قَاعِدًا لِعَجْزِهِ ثُمَّ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ لِزَوَالِ مَرَضِهِ وَكَالْأَمَةِ تُصَلِّي مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ لِرِقِّهَا ثُمَّ يَلْزَمُهَا تَغْطِيَةُ رَأْسِهَا لِعِتْقِهَا
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا قُلْتُمْ إِنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَصْرًا اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِحْرَامِ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ حُكْمِهِمَا وَهُوَ أَنَّ خُرُوجَ الْمُتَيَمِّمِ مِنْ صَلَاتِهِ لِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ يَبْطُلُ عَلَيْهِ مَا مَضَى فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَمَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ إِذَا أَتَمَّ لَمْ يَبْطُلْ عَلَيْهِ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَتِمُّ وَتُقْصَرُ فَوَجَبَ إِذَا زَالَ سَبَبُ قَصْرِهَا أَنْ يَلْزَمَهُ الْبِنَاءُ عَلَى التَّمَامِ. أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ خَرَجَ وَقْتُهَا
(وَالْفَصْلُ الثَّانِي)
: أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال أبو دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَطَاوُسٍ إِنَّ الْمُسَافِرَ يَقْصُرُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّمَامُ بِصَلَاتِهِ خَلْفَ مُقِيمٍ
لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِمَامِهِ لَجَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ إِذَا صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ اعْتِبَارًا بِحَالِ إِمَامِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُسَافِرِ اعْتِبَارًا بِحَالِ نَفْسِهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُسَافِرَ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُقِيمِ اعْتِبَارًا بِحَالِ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّهُ مؤدٍ لِلصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَجَازَ أَنْ يَقْصُرَهَا كَالْمُنْفَرِدِ
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا "(2/380)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ صَلَّيْنَا مَعَكُمْ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا وَإِنْ صَلَّيْنَا فِي بُيُوتِنَا صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ذَلِكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَلِأَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُقِيمٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ كَمَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ خَلْفَ الْمُقِيمِ لَجَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقْصُرَ خَلْفَ الْمُسَافِرِ
فَهُوَ أَنْ يُقَالَ الْإِتْمَامُ عَزِيمَةٌ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ عَلَى صِفَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِلْمُقِيمِ تَرْكُ الْعَزِيمَةِ وَالْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ تَبَعًا لِإِمَامِهِ وَوَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ تَرْكُ الرُّخْصَةِ وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ تَبَعًا لِإِمَامِهِ عِنْدَ عَدَمِ الصِّفَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمٍّ بِمُتَمِّمٍ فَلِذَلِكَ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَصْلَيْنِ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ وَاسْتَفْتَحَا الصَّلَاةَ جَمِيعًا بِنِيَّةِ الْقَصْرِ ثُمَّ إِنَّ الْإِمَامَ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي حَالِ صَلَاتِهِ، فَعَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ أَرْبَعًا، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَلْزَمُ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُتِمُّوا لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ قَدِ انْعَقَدَتْ مَقْصُورَةً خَلْفَ مُسَافِرٍ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَرْضُهُمْ بِنِيَّةِ إِمَامِهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " وَلِأَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُتَمِّمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ، أَصْلُهُ إِذَا أحرم بالصلاة خلف مقيم
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ أَحْرَمَ فِي مركبٍ ثُمَّ نَوَى السَّفَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ نَزَلَ فِي مَرْكَبٍ فِي بلد إقامته والمركب واقفاً قَدْ تَهَيَّأَ لِلسَّفَرِ، وَأَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ خُطِفَ الْمَرْكَبُ وَسَارَ فَصَارَ الرَّاكِبُ مُسَافِرًا فِي حَالِ صَلَاتِهِ فَعَلَيْهِ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَصْرُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ فَجَوَّزَ لَهُ الْقَصْرَ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَوَجَبَ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهَا الْحَضَرُ وَالسَّفَرُ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الحضر، أصله إذا أنشأ صوم فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الصَّلَاةِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ وَالسَّفَرِ وَجَبَ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا
لَيْسَ لِرَاكِبِ السَّفِينَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ قَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ صَلَّى قَاعِدًا لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَأَعَادَ إِذَا قَدَرَ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَتِ السَّفِينَةُ مَرْبُوطَةً لَمْ تَجُزِ الْفَرِيضَةُ إِلَّا قَائِمًا وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً أَجْزَأتهُ الْفَرِيضَةُ قَاعِدًا تَعَلُّقًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم " فجوز(2/381)
فِي الظَّاهِرِ صَلَاةَ الْقَاعِدِ وَجَعَلَ الْقِيَامَ أَفْضَلَ مِنْهُ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ سَائِرَةً فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَفَرْضُ الْقِيَامِ يَسْقُطُ بِزَوَالِ حَالِ الِاسْتِقْرَارِ كَالرَّاكِبِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ يُصَلِّي رَاكِبًا وَيَجْزِيهِ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْقِيَامِ فِي غَيْرِ السَّفِينَةِ لَزِمَهُ فَرْضُ الْقِيَامِ فِي السَّفِينَةِ، أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى فِي سَفِينَةٍ مَرْبُوطَةٍ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فِي السَّفِينَةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقِرَاءَةِ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْخَبَرِ فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ، لِأَنَّ صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَلَا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا أَجْزَأَهُ كَالْقَائِمِ فِي الْأَجْرِ سَوَاءً
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ كَالْخَائِفِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْخَوْفَ عُذْرٌ طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ دُونَ أَنْ يُنْسَبَ الْخَوْفُ إِلَى فِعْلِهِ، وَرُكُوبُ السَّفِينَةِ مِنْ فِعْلِهِ، وَالْعُذْرُ الدَّاخِلُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي الْمَعْنَى افْتَرَقَا في الإعادة والله أعلم
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ أَحْرَمَ خَلْفَ مقيمٍ أَوْ خَلْفَ مَنْ لَا يَدْرِي فَأَحْدَثَ الْإِمَامُ كَانَ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا وَإِنْ أَحْدَثَ إِمَامٌ مسافرٍ بِمُسَافِرِينَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلَّا رَكْعَتَانِ وَإِنْ شَكَّ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَرْبَعٌ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ مُقِيمٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ جَمْعَ الصَّلَاةِ أَوْ أَدْرَكَ قَدْرَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَتَمَّ، وَإِنْ أَدْرَكَ دُونَ الرَّكْعَةِ قَصَرَ، قَالَ: لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَعَهُ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّمَامُ كَالْجُمُعَةِ
وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّهُ مُؤْتَمٌّ بِمُتَمِّمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ، أَصْلُهُ إِذَا أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى إِذَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ لَزِمَهُ التَّمَامُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِذَا طَرَأَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّمَامُ
أَصْلُهُ: إِذَا نَوَى الْإِقَامَةَ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي إِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ انْتِقَالًا مِنَ الْكَمَالِ إِلَى النُّقْصَانِ، وَهُوَ رَكْعَتَانِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ ظُهْرًا أَرْبَعًا، فَاعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكٌ كَامِلٌ وَهُوَ رَكْعَةٌ وَفِي التَّمَامِ انْتِقَالٌ مِنَ النُّقْصَانِ إِلَى التَّمَامِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ إِلْزَامُ الصَّلَاةِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكُ جُزْءٍ وَإِنْ قَلَّ كَإِدْرَاكِ الْوَقْتِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ إِلْزَامُ الصَّلَاةِ اعْتُبِرَ فِيهِ إِدْرَاكُ جُزْءٍ وَإِنْ قَلَّ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ أَنْ يُتِمَّ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ إِذَا أتم برجل من أحد أربعة أقسام:(2/382)
[الأول] إما أن يعلم أنه مقيم [والثاني] أو يغلب على ظنه أنه مقيم
الثالث أو يعلم أنه مسافر الرابع أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ
فَإِنْ عَلِمَهُ مُقِيمًا كَانَ عَلَيْهِ التَّمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ كَأَنْ رَآهُ مُسَافِرًا أَوْ عَلَيْهِ لِبَاسُ الْحَضَرِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ سَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا بِقَصْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهِ الْإِقَامَةَ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ بِنِيَّةِ التَّمَامِ وَالصَّلَاةُ إِذَا انْعَقَدَتْ تَامَّةً لَمْ يَجُزْ قَصْرُهَا
وَإِنْ عَلِمَهُ مُسَافِرًا أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ بِأَنْ رَآهُ حَاضِرًا وَعَلَيْهِ ثِيَابُ السَّفَرِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا فَيَجُوزُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَنْ يَنْوِيَ السَّفَرَ أَوِ الْقَصْرَ قَطْعًا، أَوْ يَقُولَ إِنْ قَصَرَ إِمَامِي قَصَرْتُ، فَإِذَا نَوَى أَحَدٌ هَذَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ إِمَامَهُ مُتِمًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ، وَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ قَصَرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ حَالِ الْإِمَامِ فِي هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ أَنَّهُ مُسَافِرٌ كَانَ دَاخِلًا عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَمَا لَوْ دَخَلَ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِهِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُقِيمٌ فَيَلْزَمُهُ التَّمَامُ وَإِنْ بَانَ مُسَافِرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالظَّاهِرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ في ليلة الشك امرأة أو عبداً فَنَوَى صِيَامَهُ ثُمَّ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لِدُخُولِهِ فِيهِ بِاسْتِدْلَالٍ، وَلَوْ صَامَهُ بِغَيْرِ استدلال لم يجزه
(فصل: [مسألة الكتاب] )
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الْأَئِمَّةِ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُسَافِرٍ صَلَّى خَلْفَ مُسَافِرٍ ثُمَّ أَحْدَثَ الْإِمَامُ قَبْلَ تَمَامِ الصَّلَاةِ، فَلَا تَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا بِالْعِلْمِ أَوْ يَغْلِبُهُ الظَّنُّ وَإِمَّا أَنَّ يَكُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فَلَيْسَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إِقَامَتُهُ مِنْ سَفَرِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِمَامُ مُقِيمًا أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ، فَعَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ نَوَى التَّمَامَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَنْ يُخْبِرَهُ إِمَّا قَبْلَ إِحْرَامِهِ أَوْ بَعْدَ حَدَثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ أَوِ التَّمَامَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ إِمَامِهِ الْمُسَافِرِ أَنَّهُ قَدْ نَوَى الْقَصْرَ فَجَازَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِظَاهِرِ حَالِهِ وَيَقْصُرَ
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: وَلَوْ كَانَ الْمُحْدِثُ هُوَ الْمَأْمُومَ وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ إِمَامِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ(2/383)
قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُحْدِثَ الْمَأْمُومُ فَيَلْزَمُهُ التَّمَامُ وَبَيْنَ أَنْ يُحْدِثَ الْإِمَامُ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّمَامُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ فِعْلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إِتْمَامِهِ مِنْ قَصْرِهِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ عِنْدَ مَلَامِهِ فَإِذَا أَحْدَثَ الْمَأْمُومُ وَهُوَ شَاكٌّ فِي إِمَامِهِ لَزِمَهُ التَّمَامُ لِوُجُودِ مَا يَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، وَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ حَالِهِ، وَهُوَ السَّفَرُ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ، وَالتَّمَامُ عَلَى الْمَأْمُومِ وَاجِبٌ فِي كِلَا الْمَسْأَلَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَوَى الْإِتْمَامَ فَلَا يُجْزِئُهُ الْقَصْرُ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ، وَبِالشَّكِّ لَا يَسْتَبِيحُ الْقَصْرَ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ كَمَنْ شَكَّ هَلْ نَوَى الْقَصْرَ أَمْ لَا
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ رَعَفَ وَخَلْفَهُ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَقَدَّمَ مُقِيمًا كَانَ عَلَى جَمِيعِهِمْ وَعَلَى الرَّاعِفِ أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا لِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الصَّلَاةَ حَتَّى كَانَ فِيهَا فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ (قَالَ المزني) هذا غلط الراعف يبتدئ ولم يأتم بمقيم فليس عليه ولا على المسافر إتمام ولو صلى المستخلف بعد حدثه أربعاً لم يصل هو إلا ركعتان لأنه مسافر لم يأتم بمقيم "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي مُسَافِرٍ صَلَّى بِمُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ فَرَعَفَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ بِالرُّعَافِ، وَإِنْ غَسَلَ رُعَافَهُ وَعَادَ قَرِيبًا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِالرُّعَافِ فَعَلَى هَذَا لَهُمْ حَالَانِ: حَالٌ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ وَحَالٌ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ صَلَّوْا لِأَنْفُسِهِمْ صَلَّى المقيمون أربعاً والمسافرون ركعتين إن شاؤوا الْقَصْرَ وَكَانَ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ بِالْخِيَارِ إِذَا اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ بَيْنَ أَنْ يُتِمَّ أَوْ يَقْصُرَ
وَإِنْ صَلَّوْا بِإِمَامٍ مُسْتَخْلَفٍ فَلَهُ حَالَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَخْلِفُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنِ اسْتَخْلَفَهُ الْإِمَامُ الرَّاعِفُ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا أَوْ مُقِيمًا، فَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا وَنَوَى الْقَصْرَ صَلَّى هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّى الْمُقِيمُونَ أَرْبَعًا وَكَانَ لِلْإِمَامِ الرَّاعِفِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إِنْ شَاءَ الْقَصْرَ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا وَجَبَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُقِيمِينَ وَالْمُسَافِرِينَ أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا لِائْتِمَامِهِمْ بِمُقِيمٍ، فَأَمَّا الْإِمَامُ الرَّاعِفُ: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا
قَالَ الْمُزَنِيُّ: هَذَا غَلَطٌ يَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِتْمَامُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ
فَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ(2/384)
أَحَدُهَا: وَهُوَ جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَضْمُونَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّاعِفَ حِينَ غَسَلَ رُعَافَهُ رَجَعَ فَأَحْرَمَ خَلْفَ الْمُقِيمِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ وَصَلَّى لِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ كَمَا قَالَ الْمُزَنِيُّ
قَالَ: وَتَعْلِيلُ الشافعي يدل على هذا وهو قوله لأنه كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يُكْمِلِ الصَّلَاةَ حَتَّى حَمَلَ فِيهَا فِي صَلَاةِ مُقِيمٍ. فَهَذَا جَوَابٌ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ جَوَابُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الرُّعَافَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَإِذَا اسْتَخْلَفَ مُقِيمًا فِي صَلَاةٍ هُوَ فِيهَا لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤْتَمًّا بِمُتَمِّمٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: وَهُوَ جَوَابُ بَعْضِهِمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا سَوَاءٌ عَادَ فَدَخَلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ أَمْ لَا وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَالْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ فَرْعُهُ وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَوْكَدَ حَالًا مِنْ أَصْلِهِ، فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى الْفَرْعِ الْإِتْمَامُ كَانَ الْأَصْلُ به أولى
وإذا كان الراعف قد استخلفه الْقَوْمَ مَكَانَهُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى مَا مَضَى مِنَ اسْتِخْلَافِ الرَّاعِفِ لَهُ سَوَاءٌ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّاعِفَ إِذَا لَمْ يَسْتَخْلِفْهُ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ بِكُلِّ حَالٍ أَعْنِي الرَّاعِفَ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فَلَيْسَ بِفَرْعٍ لِلرَّاعِفِ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ صَلَاتِهِ فِي الْإِتْمَامِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اسْتَخْلَفَ الْمُقِيمُونَ مُقِيمًا وَالْمُسَافِرُونَ مُسَافِرًا جَازَ وَصَلَّى الْمُقِيمُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ أَرْبَعًا وَصَلَّى الْمُسَافِرُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوِ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ وَأَكْثَرَ وَقَدَّمَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ إِمَامًا جَازَ وَلَوْ كَانَ إِمَامُهُمْ قَبْلَ الْحَدَثِ وَاحِدًا إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ. نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ: " وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ مُقِيمًا لَمْ يَحْضُرِ الرَّكْعَةَ أَتَمَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَرْبَعًا، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ أَلْزَمَ الطَّائِفَةَ الْأُولَى الْإِتْمَامُ وَقَدْ فَارَقَتِ الْإِمَامَ وَخَرَجَتْ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قِيلَ: الْمَسْأَلَةُ مُصَوَّرَةٌ فِي الْإِمَامِ إِذَا أَحْدَثَ قَبْلَ الِاعْتِدَالِ وَالطَّائِفَةُ الْأُولَى مَعَهُ لِأَنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُمُ الْإِتْمَامُ لِحُصُولِهِمْ خَلْفَ مُقِيمٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ حَدَثُهُ بَعْدَ الِاعْتِدَالِ لَمْ يَلْزَمِ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لِخُرُوجِهِمْ مِنْ إِمَامَتِهِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِمْلَاءِ: وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ بَلَدًا وَصَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ خَلْفَ إِمَامٍ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ لَزِمَ الْمُسَافِرَ أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا، قَالَ لِأَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ مُقِيمٍ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ وَإِنْ كَانَتْ مَقْصُورَةً فَهِيَ فَرْضُ الْإِقَامَةِ وَالْإِمَامُ فِيهَا مُقِيمٌ فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ صَلَّى(2/385)
الْمُسَافِرُ الظُّهْرَ خَلْفَ إِمَامٍ مُقِيمٍ يُصَلِّي الصُّبْحَ لَمْ يَجُزْ لِلْمُسَافِرِ الْقَصْرُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا لِأَنَّهُ حَصَلَ مُؤْتَمًّا بِمُقِيمٍ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِمْلَاءِ: وَإِذَا اسْتَفْتَحَ بِنِيَّةِ التَّمَامِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَوَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقٍ لَزِمَهُ أَنْ يستأنفها تامة ولا يجوز له قصرها لأنه إِتْمَامَهَا قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلَكِنْ لَوِ افْتَتَحَهَا بِنِيَّةِ التَّمَامِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا مُحْدِثًا جَازَ إِذَا اسْتَأْنَفَهَا أَنْ يَقْصُرَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ إِحْرَامُهُ مَعَ الْحَدَثِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا وَقَعَ بَاطِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ فَصَارَ كَمَنْ نَوَى الْإِتْمَامَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الْقَصْرِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ: " وَإِذَا أَحْرَمَ مُسَافِرٌ بِمُسَافِرٍ وَنَوَيَا جَمِيعًا الْقَصْرَ ثُمَّ سَهَا الْإِمَامُ فَصَلَّى أَرْبَعًا سَاهِيًا يَظُنُّهَا رَكْعَتَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ لِأَنَّ فَرْضَهُ رَكْعَتَانِ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا سَهْوٌ، وَلَوْ ذَكَرَ سَهْوَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَتَى بِسُجُودِ السَّهْوِ وَسَلَّمَ وَوَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا لِأَنَّ إِتْمَامَهَا قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إِمَامَهُ قَدْ نَوَى الْإِتْمَامَ، وَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ سَاهِيًا لَمْ يَتْبَعْهُ، فَإِنْ تَبِعَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كَمَنْ تَبِعَ إِمَامًا قَامَ إِلَى خامسة "
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ لَهُ طَرِيقَانِ يَقْصُرُ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يَقْصُرُ فِي الْآخَرِ فَإِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ لِخَوْفٍ أَوْ حُزُونَةٍ فِي الْأَقْرَبِ قَصَرَ وَإِلَّا لَمْ يَقْصُرْ وَفِي الْإِمْلَاءِ إِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ قَصَرَ " (قَالَ الْمُزَنِيُّ) " وَهَذَا عِنْدِي أَقْيَسُ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مُبَاحٌ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَرَادَ قَصْدَ بَلَدٍ لَهُ إِلَيْهِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا قَرِيبُ الْمَسَافَةِ لَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ. وَالْآخَرُ بَعِيدُ الْمَسَافَةِ يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ فَإِنْ سَلَكَ الْأَقْصَرَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ لِقُرْبِ مَسَافَتِهِ، وَإِنْ سَلَكَ الْأَبْعَدَ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْلُكَهُ لِعُذْرٍ أَوْ غَرَضٍ مِثْلُ عَدُوٍّ فِي الْأَقْرَبِ يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِصٍّ يَخَافُهُ عَلَى مَالِهِ أَوْ طَالِبِ خِفَارَةٍ أَوْ سُلُوكِ عَقَبَةٍ شَدِيدَةٍ أَوْ يَخَافُ قِلَّةَ مَاءٍ أَوْ مَرْعًى أَوْ يَكُونُ لَهُ فِي الْأَبْعَدِ غَرَضٌ كَزِيَارَةِ قَرَابَةٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ أَوْ يَعْرِفُ خَيْرَ مَتَاعٍ فَهَذَا يَقْصُرُ فِي سُلُوكِ الْأَبْعَدِ إِنْ شَاءَ لَا يَخْتَلِفُ كَمَنْ لَا طَرِيقَ لَهُ سِوَاهُ
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَقْرَبِ عُذْرٌ وَلَا فِي الْأَبْعَدِ غَرَضٌ، فَفِي جَوَازِ قَصْرِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، وَلِأَنَّهَا مَسَافَةٌ يُقْصِرُ مِثْلُهَا الصَّلَاةَ فَجَازَ أَنْ يَقْصُرَ(2/386)
أَصْلُهُ: إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ أَوْ غَرَضٌ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْأَغْرَاضِ وَحُدُوثَ الْأَعْذَارِ لَا تُعْتَبَرُ فِي الْأَسْفَارِ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةً، أَلَا تَرَاهُ لَوْ سَافَرَ لِلنُّزْهَةِ وَالشَّهْوَةِ وَاخْتَارَ لَذَّةَ قَلْبِهِ وَطَلَبَ مُرَادِهِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْذُورًا كَذَلِكَ هَذَا
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ فِي سُلُوكِ الْأَبْعَدِ لِأَنَّ الْبَلَدَ الَّذِي قَصَدَهُ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ، وَإِذَا سَلَكَ الْأَبْعَدَ صَارَ كَأَنَّهُ قد طول المسافة لأجل القصر وتطول الْمَسَافَةِ لِأَجْلِ الْقَصْرِ يَمْنَعُ مِنَ الْقَصْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ مَسَافَةً لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةَ فِي مُدَّةٍ تَقْصُرُ فِي مِثْلِهَا الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ عَشَرَةَ أَمْيَالٍ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَكَذَلِكَ إِذَا سَافَرَ إِلَى بَلَدٍ لَا يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ فِي طَرِيقٍ يَقْصُرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ وَالْقَوْلُ الأول أصح
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ سَافَرَ فِي مَعْصِيَةٍ أَنْ يَقْصُرَ وَلَا يَمْسَحُ مَسْحَ الْمُسَافِرِ فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ ولا تخفيف على من سفره في معصية "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَافَرَ منشأ لِسَفَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ وَالسَّعْيِ بِالْفَسَادِ أَوْ خَرَجَ بَاغِيًا عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ أَوْ أَبَقًا مِنْ شِدَّةٍ أَوْ هَارِبًا مِنْ حَقٍّ لَزِمَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى بَذْلِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِشَيْءٍ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ بِحَالٍ
قَالَ: لَا يَقْصُرُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَا يُفْطِرُ فِي صِيَامِهِ وَلَا يَمْسَحُ ثَلَاثًا عَلَى خُفِّهِ وَلَا يَتَنَفَّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ إِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْمُزَنِيُّ: الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ كَالطَّائِعِ فِي اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ هَارِبٍ مِنْ طَائِعٍ أَوْ عَاصٍ، وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ " قالوا: ولأنه كُلَّ صَلَاةٍ جَازَ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ اسْتَوَى فِي فِعْلِهَا الطَّائِعُ وَالْعَاصِي كَالْجُمُعَةِ وَالصُّبْحِ
قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْمُقِيمِ رُخْصَةً وَلِلْمُسَافِرِ رُخْصَةً فَلَوْ مَنَعَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنْ رُخْصَةِ الْمُسَافِرِ لَمَنَعَتْ مِنْ رُخْصَةِ الْمُقِيمِ، فَلَمَّا جَازَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَتَرَخَّصَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا جَازَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَرَخَّصَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَقَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ سَفَرًا فِي طَاعَةٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ جِهَادٍ ثُمَّ جَعَلَهُ مَعْصِيَةً لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ جَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَ رُخَصَ السَّفَرِ، كَذَلِكَ إِذَا أَنْشَأَ سَفَرَهُ عَاصِيًا
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَبِيحَ الرُّخَصَ مَعَ الْمَعْصِيَةِ كَمَا لَوْ طَرَأَتِ الْمَعْصِيَةُ فِي سَفَرِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلْعَاصِي أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي سَفَرِهِ إِجْمَاعًا وَلَمْ تَمْنَعْهُ الْمَعْصِيَةُ مِنَ التَّيَمُّمِ كَذَلِكَ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ سَائِرِ الرُّخَصِ كالقصر وغيره(2/387)
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَوْ مَنَعَتْهُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فِي سَفَرِهِ لَاسْتَبَاحَ بِالْمَعْصِيَةِ قَتْلَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهَا أَفْضَى بِهِ الْجُوعُ إِلَى التَّلَفِ وَقَتْلُ النَّفْسِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، ولأن معصيته لَمَّا لَمْ تُبِحْ لَهُ قَتْلَ غَيْرِهِ لَمْ تُبِحْ لَهُ قَتْلَ نَفْسِهِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] فَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ عُمُومًا ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ مُضْطَرًّا لَيْسَ بِعَاصٍ فَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] أَيْ غَيْرَ مُرْتَكِبٍ لِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَاصِي الْمُضْطَرُّ كَالطَّائِعِ الَّذِي لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عَلَيْهِمَا لِعُمُومِ التَّحْرِيمِ
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] . فَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ تَحْرِيمًا عَامًّا، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ مُضْطَرًّا غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: غَيْرُ بَاغٍ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَادٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] أَيْ: غَيْرَ مُرْتَكِبٍ لِتَنَاوُلِ مَا زَادَ عَلَى سَدِّ رَمَقِهِ، وَبِقَوْلِهِ غَيْرَ بَاغٍ أَيْ غَيْرَ طَالِبٍ لِأَكْلِ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَيْهِ وَبِقَوْلِهِ، وَلَا عَادٍ، أَيْ: لَا مُتَعَمِّدٍ فِيهَا بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ
قِيلَ عَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَمْرَيْنِ وَحَمْلٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَرْضِيُّ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْمَيْتَةَ لِمُضْطَرٍّ غَيْرِ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ زَادَ عَلَى سَدِّ رَمَقِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ وَالْإِبَاحَةُ لِمُضْطَرٍّ عَلَى حَقٍّ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا عَدَمُ الْمَعْصِيَةِ
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: هُوَ أَنَّ رُخَصَ السَّفَرِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالسَّفَرِ وَمَنُوطَةٌ بِهِ فَلَمَّا كَانَ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ مَمْنُوعًا مِنْهُ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الرُّخَصِ مَمْنُوعًا مِنْهُ لِأَجْلِ المعصية
فإن قيل: هذا باطل بما جَرَحَ نَفْسَهُ فَعَجَّزَهُ عَنِ الْقِيَامِ، يَجُوزُ لَهُ أن يصلي قاعداً ووإن كَانَ الْجُرْحُ مَعْصِيَةً، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا ضَرَبَتْ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهِ فَإِنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلَاةُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ مَعْصِيَةً، قُلْنَا جَوَازُ الْقُعُودِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ وَالْعَجْزُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَعْصِيَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ معصية، وكذلك الصلاة إنما تقسط بِوُجُودِ النِّفَاسِ وَلَيْسَ النِّفَاسُ مَعْصِيَةً وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ عَنِ الْإِسْقَاطِ الْحَادِثِ عَنْ سَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَلِذَلِكَ مَا جَوَّزْنَاهُ وَسَبَبُ هَذِهِ الرُّخَصِ هُوَ السَّفَرُ لَا غَيْرَ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ(2/388)
مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ السَّفَرَ حَرَكَاتُهُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مُعَاقِبٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْلِبَ التَّخْفِيفَ وَالرُّخَصَ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ مِنْ رُخْصَةِ تَخْفِيفٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِيهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَعُونَةً لَهُمْ وَقُوَّةً عَلَى سَفَرِهِمْ، وَالْعَاصِي لَا يَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبِيحَ الرُّخْصَةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ مَانِعًا مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْ سَائِرِ الرُّخَصِ لِأَجْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ السَّبَبَ الْمَحْظُورَ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ كَالْخَوْفِ بِالْقِتَالِ الْمَحْظُورِ لَا يُبِيحُ صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَلِأَنَّ الرُّخَصَ إِذَا اسْتُبِيحَتْ بِشَرْطٍ وَكَانَ الشَّرْطُ مَرْدُودًا بِالشَّرْعِ صَارَ مَفْقُودًا كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَمَّا شُرِطَ فِي عَوْدِهَا إِلَى الْأَوَّلِ نِكَاحُ زَوْجٍ ثَانٍ ثُمَّ كَانَ نِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِفَسَادِهِ كَانَ وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الْأَوَّلِ كَذَلِكَ الْقَصْرُ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا بِالسَّفَرِ وَكَانَ سَفَرُهُ لِمَعْصِيَةٍ مَرْدُودًا بِالشَّرْعِ صَارَ كَالْمَعْدُومِ وَإِذَا عُدِمَ السَّفَرُ حُرِّمَتِ الرُّخْصَةُ
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَأَدِلَّتُنَا مُخَصَّصَةٌ لَهُمَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ وَالصُّبْحِ فَوَصْفُ الْعِلَّةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَصْلِ عِنْدَنَا وَفِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عِنْدَهُمْ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجُمُعَةِ وَفِي الصُّبْحِ أَنَّ الِاقْتِصَارَ فِيهِمَا عَلَى رَكْعَتَيْنِ لَا يَخْتَصُّ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ وَلَمَّا كَانَتْ رُخَصُ السَّفَرِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ السَّفَرُ وَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ فَاسْتَبَاحَ الرُّخَصَ مَعَ الطَّاعَةِ وَمَنَعَ مِنْهَا مَعَ الْمَعْصِيَةِ وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ مَعْصِيَةِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي جَوَازِ اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ يَمْنَعُ الْمُقِيمَ مِنْهَا كَمَا يَمْنَعُ الْمُسَافِرَ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي حَظْرِ الرُّخَصِ عَلَيْهِمَا فَعَلَى هَذَا بَطَلَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمُقِيمَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِقَامَةَ نَفْسَهَا لَيْسَتْ مَعْصِيَةً لِأَنَّهَا كَفٌّ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ الَّذِي تُوقِعُهُ فِي الْإِقَامَةِ مَعْصِيَةٌ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْإِقَامَةُ مَعْصِيَةً لَمْ تَمْنَعِ الرُّخَصَ وَالسَّفَرُ فِي نَفْسِهِ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهُ فِعْلٌ وَحَرَكَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمَعَاصِي فَكَانَتْ مَعْصِيَةً، وَإِذَا كَانَ السَّفَرُ مَعْصِيَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبِيحَ الرُّخَصَ
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَكُونُ نَفْسُ الْإِقَامَةِ مَعْصِيَةً وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ لِزِنًا أَوْ قَتْلِ إِنْسَانٍ
قِيلَ: لَا تكون الإقامة معصية وإنما المعصية هو الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ وَمَا نَوَاهُ مِنَ الزنا وَالْقَتْلِ، أَلَا تَرَاهُ يُعَاقَبُ عَلَى عَزْمِهِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى نِيَّةِ مُقَامِهِ وَالسَّفَرُ حَرَكَاتٌ هُوَ عَلَيْهَا مُعَاقِبٌ فَعُلِمَ أَنَّ السَّفَرَ مَعْصِيَةٌ وَالْإِقَامَةَ لَيْسَتْ بِمَعْصِيَةٍ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّنْ أَحْدَثَ الْمَعْصِيَةَ فِي سَفَرِهِ وَقَدْ أَنْشَأَهُ طَائِعًا فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهَانِ:(2/389)
أحدهما: وهو قول أبو الْقَاسِمِ الدَّارِكِيِّ وَعَزَاهُ لِأَصْحَابِنَا، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَرَخَّصَ كَالْمُنْشِئِ لِسَفَرِهِ فِي مَعْصِيَةٍ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ بِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ أَنْ يَتَرَخَّصَ لِأَنَّ الَّذِي جَلَبَ لَهُ هَذِهِ الرُّخَصَ إِحْدَاثُ السَّفَرِ وَإِحْدَاثُهُ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً وَفِي مَسْأَلَتِنَا إِحْدَاثُهُ مَعْصِيَةٌ فَافْتَرَقَا فِي اسْتِبَاحَةِ الرُّخَصِ
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّيَمُّمِ فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُنَا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ وَلَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ فَعَلَى هَذَا لَا تَخْفِيفَ
وَالثَّانِي: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الرُّخَصِ أَنَّ الرُّخْصَ يُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا، وَالتَّيَمُّمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ تَرْكِهِ وَفِعْلِهِ وَإِنْ تركه كان عاصياً يتركه وَلَوْ تَرَكَ الرُّخْصَةَ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِتَرْكِهَا فَافْتَرَقَا
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ فِي مَنْعِ الْمُضْطَرِّ الْعَاصِي مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ إِتْلَافَ نَفْسِهِ وَحِرَاسَةُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ، قُلْنَا: إِذَا اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِهَا وهو عاصي وَجَبَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ إِلَّا بَعْدَ إِحْدَاثِ التَّوْبَةِ، كَمَا أَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُحْدِثٌ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهَا مُحْدِثًا إِلَّا بَعْدَ الطَّهَارَةِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا كَمَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ الْعَاصِيَ قَادِرٌ عَلَى التَّوْبَةِ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَاصِيَ مَمْنُوعٌ فِي سَفَرِهِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ كُلِّهَا فَفِي جَوَازِ مَسْحِهِ عَلَى خُفِّهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ وَالْمَسْحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً رُخْصَةٌ لِلْمُقِيمِ،
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أن يمسح على خفيه أصلاً، لأنه عاصي فِي سَفَرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَرَخَّصَ
وَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَانَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَأْكُلُهَا مسافراً عاصياً بسفره
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ صَلَّى مُسَافِرٌ بِمُقِيمِينَ وَمُسَافِرِينَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي والمسافرون ركعتين ثم يسلم بهم وأمر المقيمين أن يتموا أربعاً وكل مسافر فله أن يتم وإنما رخص له أن يقصر الصلاة إن شاء فإن أتم فله الإتمام وكان عثمان بن عفان يتم الصلاة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ(2/390)
إِذَا اجْتَمَعَ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ فَأَرَادُوا الصَّلَاةَ جَمَاعَةً فإن كان فيهم إمام الوقت أن سُلْطَانُ الْبَلَدِ فَهُوَ أَوْلَاهُمْ بِالْإِمَامَةِ مُقِيمًا كَانَ أَوْ مُسَافِرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِمَامٌ وَلَا سُلْطَانٌ وَاسْتَوَوْا فِي الْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ فَإِمَامَةُ المقيم أولى لأمرين:
أحدهما: أن يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ
وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يَسْتَوِي مَنْ خَلْفَهُ فَيَكُونُ فَرَاغُهُمْ عَلَى سَوَاءٍ فَلِهَذَيْنِ كَانَتْ إِمَامَةُ الْمُقِيمِ أَوْلَى فَإِنْ قَدَّمُوا مُسَافِرًا جَازَ وَإِنْ كَانَ الْمُقِيمُ أَوْلَى، وَهَلْ تُكْرَهُ إِمَامَتُهُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لَهُمْ لِخُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَهُمْ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ لَا يُكْرَهُ لَهُمْ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ بِخِلَافِ الْمُقِيمِ فِي إِبَاحَةِ الرُّخْصَةِ وَلَيْسَ اسْتِبَاحَةُ الرُّخْصَةِ نَقْصًا فِيهِ، فَإِذَا أَمَّهُمْ صَلَّى وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ رَكْعَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا الْقَصْرَ وَوَجَبَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمُقِيمِينَ أَنْ يُتِمُّوا الصَّلَاةَ أَرْبَعًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرُوا لِأَنَّ فَرْضَهُمُ الْإِتْمَامُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ قَالَ: أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه صلاة بِقَوْمٍ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَتِمُّوا أَيُّهَا الْمُقِيمُونَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَالَ الشافعي، اختيروا أَنْ يَأْمُرَ الْمُقِيمِينَ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا، فَلَوْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ إِحْرَامِهِمْ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهُ رُبَّمَا جَهِلَ بَعْضُهُمْ فَسَلَّمَ بِسَلَامِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُقِيمُونَ إِتْمَامَ صَلَاتِهِمْ أَرْبَعًا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ فَاسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا مِنْهُمْ لِيُتِمَّ بِهِمْ أَوْ قَدَّمُوا أَحَدَهُمْ وَقِيلَ بِجَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فَفِي جَوَازِ هَذَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ تَمَامِ صَلَاتِهِ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ تَمَامِ صَلَاتِهِمْ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ عَلَيْهِمْ وَيُتِمُّونَ الصَّلَاةَ فُرَادَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَافَى مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَقَدْ صَلَّى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ رَكْعَةً فَصَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكْعَةً فَلَمَّا فَرَغَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَتَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَؤُمَّ الْمُغِيرَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ قَبْلَ فَرَاغِ(2/391)
الْإِمَامِ هُوَ أَنَّ كَمَالَ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَحْصُلْ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ لِتَكْمُلَ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُمْ كَمَالُ الْجَمَاعَةِ فَلَمْ يَجُزِ الِاسْتِخْلَافُ بَعْدَ الْكَمَالِ، فَأَمَّا جَوَازُ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مَعَ الْمُخَالِفِ قَدْ تَقَدَّمَ
فَأَمَّا صَلَاةُ النَّافِلَةِ فِي السَّفَرِ فمستحبة وغير مكروهة، وقد حكى الشافعي عن شَاذَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَتَهَا لِأَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْفَرْضِ مَنَعَ مِنَ النَّفْلِ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَنَفَّلُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ لِأَنَّ مَسْنُونَاتِ السَّفَرِ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ يَتَخَلَّلُهَا وَضَرْبٌ يَتَعَقَّبُهَا، فَلَمَّا جَازَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْنُونِ فِي حَالِ فَرْضِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالْقُنُوتِ وَغَيْرِهِ جَازَ أن يأتي بالمسنون عقيب فرضه
(مسألة)
: وَاحْتَجَّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ فِي سَفَرِهِ إِلَى تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ والعصر والمغرب والعشاء جميعاً وأن ابن عمر جمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء وأن ابن عباس قال ألا أخبركم عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّفَرِ؟ كَانَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وقت الزوال وإذا سافر قبل الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ العصر في وقت العصر (قال الشافعي) وأحسبه في المغرب والعشاء مثل ذلك وهكذا فعل بعرفة لأنه أرفق به تقديم العصر ليتصل له الدعاء وأرفق به بالمزدلفة تأخير المغرب ليتصل له السفر فلا ينقطع بالنزول للمغرب لما في ذلك من التضييق على الناس فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أن من له القصر فله الجمع كما وصفت والجمع بين الصلاتين في أي الوقتين " شاء
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا سَافَرَ الرَّجُلُ سَفَرًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجْمَعُ إِلَّا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَاتٍ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا حَاضِرًا، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] فَأَوْجَبَ فِعْلَهَا فِي أَوْقَاتِهَا وَمَنَعَ مِنْ تَأْخِيرِهَا وَتَقْدِيمِهَا، وَالْجَمْعُ تَأْخِيرٌ أَوْ تَقْدِيمٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَرِوَايَةُ قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَفْرِيطَ فِي النَّوْمِ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى " فَأَخْبَرَ أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى غَيْرِ وَقْتِهَا تَفْرِيطٌ
قَالَ: وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ لَا يَجُوزُ للمقيم الجمع بينهما مع زوال العذر، فيجب أن لا(2/392)
يَجُوزَ لِلْمُسَافِرِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالسَّفَرِ كَالْعَصْرِ مَعَ الْمَغْرِبِ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يجوز للمسافر أن يجمع بينها وبين غدها كَالصُّبْحِ. قَالَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ. قَالَ: وَعُمَرُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يَسُوغُ فِي الِاجْتِهَادِ مَعَ مُشَاهَدَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَسْفَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِ صَلَاتِهِ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ إِمَّا تَوْقِيفًا أَوْ إِجْمَاعًا، وهذا الذي قالوا خَطَأٌ وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي السَّفَرِ كَانَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ
وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَسَارَ فَلَمَّا أَمْسَى قُلْنَا الصَّلَاةَ فَسَارَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ وَتَصَوَّبَتِ النُّجُومُ ثُمَّ نَزَلَ وَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُصَلِّي صَلَاتِي هَذِهِ وَيَقُولُ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ لَيْلٍ أَيْ بَعْدَ مُضِيِّ هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ
وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ فَجَازَ فِيهِ الْجَمْعُ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ رُخْصَةٍ جَازَتْ فِي سَفَرِ الْحَجِّ جَازَتْ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَ " الْقَصْرِ " لِأَنَّ فِعْلَ الصلاة أكد مِنْ وَقْتِهَا وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِلسَّفَرِ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ بَعْضِ الصَّلَاةِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ الْوَقْتِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تَتَحَتَّمُ فِي الْحَضَرِ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ ثُمَّ يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا فِي السَّفَرِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ تَرْكُ الْوَقْتِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَهُوَ الْفِطْرُ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَإِنْ تَحَتَّمَ وَقْتُهَا فِي الْحَضَرِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجُوزَ تَأْخِيرُهَا عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي السَّفَرِ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ يَكُونُ وَقْتًا لَهُمَا، أَلَا تَرَاهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ فَخَبَرُنَا خَاصٌّ إِذِ الْوَصْفُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَجْمَعُ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَصْفَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّ الْمُقِيمَ قَدْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا(2/393)
وَالثَّانِي: أَنَّ خِلَافَنَا فِي السَّفَرِ هَلْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْجَمْعِ أَمْ لَا؟ وَكَيْفِيَّةُ الْجَمْعِ فَرْعٌ لَهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ الْأَصْلُ إِلَى فَرْعِهِ، عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالصَّلَاةِ لِأَجْلِ السَّفَرِ رُخْصَتَانِ الْقَصْرُ وَالْجَمْعُ فَلَمَّا اخْتَصَّ بِالْقَصْرِ بَعْضُ الصَّلَاةِ دُونَ بَعْضٍ كَذَلِكَ الرُّخْصَةُ الْأُولَى وَهِيَ الْجَمْعُ، ثُمَّ نَقُولُ إِنَّ الْمَعْنَى فِي الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ جَمْعُهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الصُّبْحُ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُجْمَعَ إِلَى غَيْرِهَا لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا الْعِشَاءُ وَهِيَ تُجْمَعُ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالَّتِي بَعْدَهَا الظُّهْرُ وَهِيَ تُجْمَعُ إِلَى الْعَصْرِ، فَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ. فَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِغَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالسَّفَرُ عُذْرٌ فَكَيْفَ يَصِحُّ مَا رَوَوْهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحَدِيثُ الْجَمْعِ مُسْتَفِيضٌ فِي الصَّحَابَةِ بِرِوَايَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا يَدْفَعُونَهُ وَلَا يُنْكِرُونَهُ حَتَّى رَوَاهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رَوَيْنَاهُ
فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الْجَمْعِ فِي سَفَرِ الْقَصْرِ فَفِي جَوَازِهِ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ وَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ لَا يَجْمَعُ لِأَنَّهُ سَفَرٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ الْجَمْعُ كَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ
وَالثَّانِي: وَهُوَ تَخْرِيجُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ كَجَوَازِهِ فِي طَوِيلِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مِنْ تَخْرِيجِ هَذَا الْقَوْلِ. فَإِنْ صَحَّ فَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا جَازَ الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ بِالْعُذْرِ كَجَوَازِهِ بِالسَّفَرِ اقْتَضَى أَنْ لَا يَقَعَ الْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ كالتيمم وأكل الميتة
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُؤَخِّرُ الْأُولَى عَنْ وَقْتِهَا إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ وَإِنْ صَلَّى الْأُولَى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَلَمْ يَنْوِ مَعَ التَّسْلِيمِ الْجَمْعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْجَمْعُ فَإِنْ نَوَى مَعَ التَّسْلِيمِ الْجَمْعَ كان له الجمع (قال المزني) هذا عندي أولى من قوله في الجمع في المطر في مسجد الجماعات بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء لا يجمع إلا من افتتح الأولى بنية الْجَمْعُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَرَادَ الْمُسَافِرُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى وَقْتِ الْعَشَاءِ، وَإِنْ شَاءَ قَدَّمَ الْعَصْرَ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَشَاءِ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَإِذَا أَرَادَ تَأْخِيرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا قَدْ يَكُونُ تَارَةً مَعْصِيَةً، وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَامِدًا لِغَيْرِ جَمْعٍ، وَقَدْ يَكُونُ تَارَةً مُبَاحًا وَهُوَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا لِلْجَمْعِ(2/394)
وَصُورَةُ التَّأْخِيرَيْنِ سَوَاءٌ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ نِيَّةِ الْجَمْعِ مَعَ التَّأْخِيرِ لِيُمَيِّزَ بَيْنَ تَأْخِيرِ المعصية وغير المعصية، فإذ نَوَى الْجَمْعَ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ قَدَّمَ الظُّهْرَ فَصَلَّاهَا أَوَّلًا ثُمَّ الْعَصْرَ بَعْدَهَا وَلَمْ يَتَنَفَّلْ بَيْنَهُمَا بَلْ يَأْتِي بِالْعَصْرِ عَقِبَ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلٍ وَلَا فَصْلٍ فَإِذَا أَتَى بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ أَعْنِي تَقْدِيمَ الظُّهْرِ وَقُرْبَ الزَّمَانِ صَحَّ لَهُ الْجَمْعُ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لِكِلَا الصَّلَاتَيْنِ، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتُ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ
وَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ قُرْبُ الزَّمَانِ فَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ تَنَفَّلَ أَوْ صَبَرَ زَمَنًا طَوِيلًا ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ لَمْ يَكُنْ جَامِعًا بَيْنَهُمَا وَكَانَ قَاضِيًا لِلظُّهْرِ مُؤَدِّيًا لِلْعَصْرِ وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ عَاصِيًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا وَالظُّهْرُ قَدْ كَانَ لَهُ تَأْخِيرُهَا، وَإِنْ كَانَ إِخْلَالُهُ بِالشَّرْطِ الْآخَرِ: وَهُوَ أَنْ يُقَدِّمَ الْعَصْرَ أَوَّلًا ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بَعْدَهَا فَلَا يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ وَيُجْزِئُهُ الصَّلَاتَيْنِ مَعًا
ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ عُقَيْبَ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ تَطَاوُلٍ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نَسِيَ صَلَاةَ الظُّهْرِ ثُمَّ ذَكَرَهَا وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَجَائِزٌ أَنْ يُقَدِّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ كَأَنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ صَبَرَ زَمَانًا طَوِيلًا ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ فَهَذَا عَاصٍ لِتَأْخِيرِ الظُّهْرَ بَعْدَ الْعَصْرِ إِذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ؛ لِأَنَّ لَهُ تَأْخِيرَهَا إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ، وَيَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ عَلَيْهَا إِذَا تَرَكَ الْجَمْعَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنْ أَخَّرَهَا كَانَ عَاصِيًا وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يَكُونُ الْجَوَابُ مِنْ إِخْلَالِهِ بِالشَّرْطَيْنِ مَعًا فَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَأْخِيرِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِثَلَاثِ شَرَائِطَ:
أَحَدُهَا: تَقْدِيمُ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوَّلًا ثُمَّ يَفْعَلُ الْعَصْرَ بَعْدَهَا لِأَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْعَصْرِ لَا فِي الْأَدَاءِ وَلَا فِي الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا تَقْدِيمُ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ فِي الْجَمْعِ تَبَعًا لَهَا فَإِنْ قَدَّمَ الْعَصْرَ عَلَى الظُّهْرِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَلَمْ تُجْزِهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْجَمْعِ يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الْأُولَى مِنْهُمَا
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ هَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَالنِّيَّةُ فِي الْجَمْعِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قُرْبُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، قَالَ: لِأَنَّ السَّفَرَ يَرْفَعُ نِيَّةَ الْجَمْعِ وَيَقْطَعُ حُكْمَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ وَجْهًا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ قَالَ: وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مع كونه جبر لِلصَّلَاةِ لَوْ سَهَا عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ قَبْلَ السَّلَامِ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ قُرْبَ الْفَصْلِ وَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى تَقْدِيمِ النِّيَّةِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَلَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَوْلَى(2/395)
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ غَلَطٌ: وَنِيَّةُ الْجَمْعِ فِي الصَّلَاةِ الْأُولَى وَاجِبَةٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ، بِدَلَالَةِ أَنَّهُ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لابد مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي ابْتِدَائِهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهَا فِي الْحَالِ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ كَانَ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ تَعَذُّرِ فِعْلِهَا أَوْلَى بِإِيجَابِ نِيَّةِ الْجَمْعِ لَهَا. وَإِنْ شِئْتَ حَرَّرْتَ ذَلِكَ قِيَاسًا فَقُلْتَ: لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مَجْمُوعَتَانِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ إِلَّا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ
أَصْلُهُ: إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا
فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ رَفْعِ نِيَّةِ الْجَمْعِ وَانْقِطَاعِ حُكْمِ الصَّلَاةِ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا فَدَعْوَى غَيْرُ مَدْلُولٍ عَلَيْهَا وَلَا مُوَافَقٍ عَلَى صِحَّتِهَا، إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَوْ يُشَارِكُهَا فِي حُكْمِهَا، أَلَا تَرَاهُ لَوْ نَسِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا رُكْنًا مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَتَى بِهِ وَلَمْ يَكُنِ السَّلَامُ رَافِعًا لِحُكْمِهِ. كَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَكُونُ السَّلَامُ رَافِعًا لِنِيَّةِ الْجَمْعِ، وَأَمَّا سُجُودُ السَّهْوِ فَإِنَّمَا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالنِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ، لأنه يَنْوِي الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا وَمَسْنُونِهَا وَسُجُودُ السَّهْوِ يَدُلُّ عَلَى الْمَسْنُونِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى نِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ، لِأَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ قَدْ تَضَمَّنَتْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ نِيَّةَ الْجَمْعِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ فَفِي مَحَلِّهَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعَ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ نَوَى الْجَمْعَ بعد إحرامه لم يجزه لأن الرخصة المتعقلة بِالصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ رُخْصَتَانِ قَصْرٌ وَجَمْعٌ فَلَمَّا لَمْ تُجْزِئْهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ إِلَّا مَعَ الْإِحْرَامِ لَمْ تُجْزِ نِيَّةُ الْجَمْعِ إِلَّا مَعَ الْإِحْرَامِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يَقُولَ: لِأَنَّهَا رُخْصَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ الْإِحْرَامِ كَالْقَصْرِ وَلِأَنَّ الْجَمْعَ جَمْعَانِ، جَمْعٌ هُوَ تَأْخِيرُ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ، وَجَمْعٌ هُوَ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى، فَلَمَّا وَجَبَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الْجَمْعَيْنِ مَعَ التَّأْخِيرِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ نِيَّةُ الْجَمْعِ الثَّانِي مَعَ التَّقْدِيمِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ نَوَى بَعْدَ إِحْرَامِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ الْجَمْعَ هُوَ الضَّمُّ وَالْمُتَابَعَةُ وَوَقْتُ الضَّمِّ حَالُ السَّلَامِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْوِيَ الْجَمْعَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الضَّمِّ وَهُوَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ، كَانَ يُجْزِئُهُ إِذَا نَوَى الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الضَّمِّ وَحِينَ الْفَرَاغِ أَوْلَى. وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ إِذَا نَوَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَقْتِ الضَّمِّ لِيَقْضِيَ الْأُولَى بِالْفَرَاغِ مِنْهَا فَلَا يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: الِاتِّصَالُ وَالْمُوَالَاةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَرَاخَى فِعْلُ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا عَنْ فِعْلِ الْأُولَى لِيَصِحَّ الضَّمُّ وَالْمُتَابَعَةُ وَإِنْ تَرَاخَى فِعْلُ الثَّانِيَةِ أَوْ تَطَاوَلَ أَوْ تَنَفَّلَ بَيْنَهُمَا أَوْ أَذَّنَ بَطَلَ الْجَمْعُ وَأَجْزَأَتْهُ الْأُولَى ولم تجزه الثانية ووجب عليه تأخير ما إِلَى وَقْتِهَا، وَلَكِنْ لَوْ أَقَامَ بَيْنَهُمَا(2/396)
جَازَ لَأَنَّ الْإِقَامَةَ عَمَلٌ يَسِيرٌ، فَلَوْ كَانَ مُتَيَمِّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَاءِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْأُولَى، فَإِنْ قَرُبَ عَلَيْهِ زَمَانُ الطَّلَبِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ وَإِنْ تَطَاوَلَ بَطَلَ الْجَمْعُ
(مسألة)
: وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ قَالَ مَالِكٌ أَرَى ذَلِكَ فِي مَطَرٍ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَالسُّنَّةُ فِي الْمَطَرِ كَالسُّنَّةِ فِي السَّفَرِ (قال المزني) والقياس عندي إن سلم ولم ينو الجمع فجمع في قرب ما سلم بقدر ما لو أراد الجمع كان ذلك فصلاً قريباً بينهما أن له الجمع لأنه لا يكون جمع الصلاتين إلا وبينهما انفصال فكذلك كل جمع وكذلك كل من سها فسلم من اثنتين فلم يطل فصل ما بينهما أنه يتم كما أتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقد فصل ولم يكن ذلك قطعاً لاتصال الصلاة في الحكم فكذلك عندي إيصال جمع الصلاتين أن لا يكون التفريق بينهما إلا بمقدار ما لا يطول
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْحَضَرِ فِي حَالِ الْمَطَرِ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَقَالَ أبو حنيفة: الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ غَيْرُ جَائِزٍ تَعَلُّقًا بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْحَضَرِ: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بين الطهر وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ. قَالَ مَالِكٌ أَرَى ذَلِكَ فِي الْمَطَرِ
وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ فِي الْمَطَرِ
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ وَلَا مَطَرٍ
قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى الْأُولَى فِي آخِرِ أَوْقَاتِهَا وَصَلَّى الثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا. فَاتَّصَلَ فِعْلُهُمَا فِي وَقْتَيْهِمَا جَمِيعًا فَقِيلَ جَمَعَ
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا التَّأْوِيلُ يَرْجِعُ عَلَيْكُمْ فِيمَا رَوَيْتُمْ مِنْ جَمْعِهِ فِي الْمَطَرِ قِيلَ: لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ لِمَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنَ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ لِمَا رُوِيَ مِنْ نَقْلِ السَّبَبِ فِي جَوَازِ جَمْعِهِ وَهُوَ الْمَطَرُ، وَالْمَطَرُ لَا يَخْتَصُّ بِجَوَازِ فِعْلِ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَالثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بَلْ يَجُوزُ ذلك في المطر وغيره على أن هذا التَّأْوِيلَ سَاغَ لَنَا فِي رِوَايَتِهِمْ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْحَضَرِ فِي غَيْرِ الْمَطَرِ فَتَأَوَّلْنَا بِهَذَا اسْتِعْمَالًا لِلرِّوَايَةِ وَلَيْسَ الْإِجْمَاعُ مَانِعًا مِنْ(2/397)
جَوَازِ الْجَمْعِ فِي المطر فَلَمْ يَسُغِ اسْتِعْمَالُ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي رِوَايَتِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاوِي وَلَا مَطَرٍ. أَبِي لَا يُصِيبُهُ الْمَطَرُ لِكَوْنِهِ مُسْتَظِلًّا تَحْتَ سَقْفٍ.
فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ: فَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي الْمَطَرِ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ فِي مَطَرِ اللَّيْلِ وَعَدَمِهَا فِي مَطَرِ النَّهَارِ، وَهَذَا غَلَطٌ يُوَضِّحُهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الْحَضَرِ وَفِي الْمَطَرِ وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي السَّفَرِ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَضَرِ كَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَازَ لَهُ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الْأُولَى بِأَرْبَعِ شَرَائِطَ: مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الْمَاضِيَةُ فِي جَمْعِ السَّفَرِ وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: اسْتِدَامَةُ الْمَطَرِ وَقْتَ إِحْرَامِهِ بِالْأُولَى إِلَى دُخُولِهِ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنِ انْقَطَعَ الْمَطَرُ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْأُولَى وَلَا مَطَرَ ثُمَّ جَاءَ الْمَطَرُ فِي تَضَاعِيفِهَا قُبَيْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا وَاسْتَدَامَ ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ الْخُرُوجِ مِنْهَا وَأَمْكَنَهُ الدُّخُولُ فِي الثَّانِيَةِ مَعَ بَقَاءِ الْمَطَرِ فَفِي جَوَازِ الْجَمْعِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى جَوَازِ نِيَّةِ الْجَمْعِ فِي حَالِ الصَّلَاةِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ حَالَ الْجَمْعِ
وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِيهَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ غَيْرِ الْجَمْعِ، وَلَكِنْ لَوِ افْتَتَحَ الْأُولَى وَالْمَطَرُ قَائِمٌ ثُمَّ انْقَطَعَ فِي خِلَالِهَا ثُمَّ اتَّصَلَ إِلَى أَنْ دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ صَحَّ لَهُ الْجَمْعُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ فِي الطَّرَفَيْنِ فَهَذَا إِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الْأُولَى
فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ تَأْخِيرَ الْأُولَى مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ لِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْهُمَا جُوِّزَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَالسَّفَرِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْجَمْعَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ فِي حَالِ الْجَمْعِ وَهُوَ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ يَتَيَقَّنُ بَقَاءَ الْمَطَرِ إِلَى وَقْتِ الْجَمْعِ لِأَنَّ انْقِطَاعَهُ لَيْسَ إِلَى اخْتِيَارِهِ فَجَازَ تَأْخِيرُ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ فِي السَّفَرِ وَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا فِي الْمَطَرِ
(فَصْلٌ)
: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَمَّا إِذَا(2/398)
أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي مَنْزِلِهِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا سَابَاطٌ يَرْفَعُ عَنْهُ أَذَى الْمَطَرِ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي " الْإِمْلَاءِ ": يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمَطَرِ وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْمَسْجِدِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ ": لَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ لَا فِي جَمَاعَةٍ وَلَا مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يَجُوزُ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَذَى الْمَطَرِ وَإِذَا عَدِمَ هَذَا الْمَعْنَى امْتَنَعَ جَوَازُ الْجَمْعِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ جَمْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَعَلَّهُ كَانَ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْزِلُ جَمِيعِ نِسَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا كَانَ مَنْزِلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَحْدَهَا فِيهِ
(فَصْلٌ)
: لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَطَرِ وَكَثِيرِهِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ إِذَا كَانَ قَلِيلُهُ يَبُلُّ الثَّوْبَ لِحُصُولِ الْأَذَى بِهِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَبُلَّ الثَّوْبَ لِقِلَّتِهِ كَالطَّلِّ وَالرَّذَاذِ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ لِعَدَمِ الْأَذَى بِهِ وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الثَّلْجِ فَإِنْ كَانَ يَذُوبُ مَعَ سُقُوطِهِ جَازَ كَالْمَطَرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَذُوبُ لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ، لِأَنَّهُ كَالْغُبَارِ وَأَمَّا الْبَرَدُ فَقَلَّ مَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْمَطَرِ الَّذِي يَبُلُّ الثَّوْبَ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ. بَلْ هُوَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَذَى بِهِ أَعْظَمُ
فأما الجمع في الزلازل والرياح والعاصفة وَالظُّلْمَةِ الْمُدْلَهِمَّةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وَكَذَلِكَ فِي الْعَتْمَةِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْخَوْفِ الْعَامِّ لِوُجُودُ كُلِّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ جَمَعَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ الْمَطَرِ وَأَمَّا الْوَحْلُ فَقَدَ جَوَّزَ مَالِكٌ الْجَمْعَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ وَعِنْدَنَا الْجَمْعُ لِأَجْلِ الْوَحْلِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عُذْرَ الْمَطَرِ يُؤْذِي مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ أَعْلَى، وَمِنْ أَسْفَلَ، وَالْوَحْلُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالرُّخْصَةُ إِذَا أُبِيحَتْ لِمَعْنَيَيْنِ لَمْ يَجُزْ تَعَلُّقُهَا بِأَحَدِهِمَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ(2/399)
(كتاب الجمعة وغيرها من أمرها)
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحْمَدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي وَائِلٍ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
الْجُمُعَةُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فَأَوْجَبَ السَّعْيَ إِلَيْهَا، وَأَوْجَبَ تَرْكَ الْبَيْعِ لِأَجْلِهَا ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11]
وكان سبب ذلك ما وري أَنَّ رَبَاحَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ صَيْفِيٍّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، قَالَ للنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْيَهُودِ يَوْمٌ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمٌ، فَلَوْ كَانَ لَنَا يوم، فنزلت سورة الجمعة
وقال سبحانه على سبيل " القسم " فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: الشَّاهِدُ: الْجُمُعَةُ، وَالْمَشْهُودُ: يَوْمُ عَرَفَةَ، وَقَدْ رَوَاهُ عَطَاءٌ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَهَذَا دَلِيلُ الْكِتَابِ(2/400)
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي ضَلَّ عَنْهُمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، النَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَالْيَوْمُ لَنَا، وَلِلْيَهُودِ غَدًا، وَلِلنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ "
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: " تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ عَزَ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ تَمُوتُوا، وَبَادِرُوا إِلَى رَبِّكُمْ سُبْحَانَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَاعَتِي هَذِهِ، فَرِيضَةً مَكْتُوبَةً، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَمَاتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ جُحُودًا بِهَا، وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ شَمْلًا، وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا لَا صَلَاةَ لَهُ. أَلَا لَا صَوْمَ لَهُ، أَلَا لَا حَجَّ لَهُ، أَلَا لَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا لَا صَدَقَةَ لَهُ، أَلَا وَلَا بِرَّ لَهُ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، إِلَّا مَرِيضًا، أَوْ مُسَافِرًا، أَوِ امْرَأَةً، أَوْ صَبِيًّا، أَوْ مَمْلُوكًا "
وَرَوَى أَبُو الْجَعْدِ الضَّمْرِيُّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَتْرُكُ الْجُمُعَةَ رَجُلٌ ثَلَاثًا تَهَاوُنًا بِهَا إِلَّا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ "
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ نَبَذَ الْإِسْلَامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ "
وَكَانَ ابْتِدَاءَ أَمْرِ الْجُمُعَةِ مَا حَكَاهُ أَهْلُ السِّيَرِ، وَنَقَلَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، أَنَّ رَسُولَ(2/401)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَفَذَ إِلَيْهَا وَهُوَ بِمَكَةَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ، وَكَانَ يُدْعَى الْقَارِئَ، فَخَرَجَ مُصْعَبٌ مِنْ مَكَّةَ حَتَى وَرَدَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَانَ مِنَ النُّقَبَاءِ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِ الْجُمُعَةِ وَأَحَبَّ مُصْعَبٌ أَنْ يُشَرِّفَ أَسْعَدَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَوَاتِ بِنَفْسِهِ، فَصَلَّى أَسْعَدُ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، فَيَ حَيِّ بَنِي بَيَاضَةَ بأمر مصعب " وكانت أول جمعة صليت في الإسلام، فإن قيل فلم أمر مصعباً بإقامتها بالمدينة، ولم يصلها هو وأصحابه بمكة؟ قِيلَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِلَّةُ أَصْحَابِهِ عَنِ الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا دُونَ الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَمُّوا بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه. والثاني: وكأنه أشهر أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْجُمْعَةِ إِظْهَارَهَا وَانْتِشَارَ أَمْرِهَا، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَائِفًا مِنْ قُرَيْشٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُجَاهَرَتِهِمْ بِهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلِّهَا، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْعَةُ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ، لَمْ تُفْرَضْ عَلَى الْأَعْيَانِ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَى الْأَعْيَانِ بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّ جَابِرًا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِهِ بِالْمَدِينَةِ " إِنَّ اللَّهَ عَزَ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَاعَتِي هَذِهِ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَقَدْ كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَرُوبَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
(نَفْسُ الْفِدَاءِ لِأَقْوَامٍ هُمُ خَلَطُوا ... يَوْمَ الْعَرُوبَةِ أَوْرَادًا بِأَوْرَادِ)
وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْأَحَدَ أَوَّلَ، وَالِاثْنَيْنِ أَهْوَنَ، وَالثُّلَاثَاءَ جُبَارًا، وَالْأَرْبِعَاءَ دُبَارًا، وَالْخَمِيسَ مُؤْنِسًا، وَالْجُمْعَةَ عَرُوبَةَ
قَالَ الشَّاعِرُ:
(أُؤَمِّلُ أَنْ أَعِيشَ وَإِنَّ يَوْمِي ... بِأَوَّلَ أَوْ بِأَهْوَنَ أَوْ جُبَارِ)
(أَوِ التَّالِي دُبَارَ فَإِنْ أَفُتْهُ ... فَمُؤْنِسَ أَوْ عَرُوبَةَ أَوْ شيار)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْجُمْعَةَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، فَوُجُوبُهَا مُعْتَبَرٌ بِسَبْعِ شَرَائِطَ، وَهِيَ الْبُلُوغُ، وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالصِّحَّةُ، وَالِاسْتِيطَانُ، فَهَذِهِ سبع(2/402)
شَرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ الْجُمْعَةِ اثْنَانِ مِنْهُمَا شرط في وجوب الجمعة وجوازها والخمسة الباقية شرط فِي وُجُوبِهَا دُونَ جَوَازِهَا
فَأَمَّا الشَّرْطَانِ اللَّذَانِ هما شرط في وجوبها وجوازها فيهما: الْعَقْلُ وَالْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ فَقْدَ الْعَقْلِ يُمْنَعُ مِنَ التَّكَلُّفِ، وَعَدَمَ الْإِسْلَامِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ. ثُمَّ النَّاسُ فِي الْجُمْعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ؛ ضَرْبٌ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ، وَضَرْبٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ، وَضَرْبٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ
فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُهُمْ إِتْيَانُهَا، وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوا فَهُمُ: الَّذِينَ قَدْ وُجِدَتْ فِيهِمُ الشَّرَائِطُ السَّبْعَةُ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ فَهُمُ الْمُقِيمُونَ فِي غَيْرِ أَوْطَانِهِمْ، كَرَجُلٍ دَخَلَ بِالْبَصْرَةِ فَنَوَى أَنْ يُقِيمَ فِيهَا سَنَةً لِطَلَبِ عِلْمٍ، أَوْ تِجَارَةٍ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى وَطَنِهِ، فَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ لِمُقَامِهِمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْعِقَادِ الْجُمْعَةِ بِهِمْ فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ انْعَقَدَتْ بِهِ الْجُمْعَةُ كَالْمُسْتَوْطِنِ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا حَجَّ حِجَّةَ الْوَدَاعِ، وَأَقَامَ يَوْمَ عَرَفَةَ يوم الجمعة، فلم يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجمعة، ولا أمر بها أهل مكة
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ اجْتَمَعَا عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَسَأَلَ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعَرَفَةَ، هَلْ كَانَتْ جُمْعَةً أَوْ ظُهْرًا؟ فَقَالَ: جُمْعَةٌ: لِأَنَّهُ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ جُمْعَةٍ لَأَخَّرَ الْخُطْبَةَ. ثُمَّ سَأَلَ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: كَانَتْ ظُهْرًا؛ لِأَنَّهُ أَسَرَّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَلَوْ كَانَتْ جُمْعَةً لَجَهَرَ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: صَدَقْتَ. وَقَدْ نُقِلَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأبي يوسف رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ فَهُمُ: الْمَرْضَى، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حضورها، وَانْعَقَدَتْ بِهِمُ الْجُمْعَةُ إِذَا حَضَرُوهَا لِزَوَالِ عُذْرِهِمْ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حُضُورُهَا وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوا فَهُمْ ثَلَاثَةُ(2/403)
أَصْنَافٍ: النِّسَاءُ، وَالْعَبِيدُ، وَالْمُسَافِرُونَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَثْنَاهُمْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ، فِي أَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِمْ إِذَا حَضَرُوهَا خِلَافَ الْمَرِيضِ؛ لِبَقَاءِ أَعْذَارِهِمْ وَإِنْ حَضَرُوهَا، وَهُوَ الْأُنُوثَةُ وَالرِّقُّ، والسفر، وزوال عذر المريض إذا حضر
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَتَجِبُ الْجُمْعَةُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ وَإِنْ كَثُرَ أَهْلُهُ حَتَى لَا يَسْمَعَ أَكْثَرُهُمُ النِّدَاءَ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ الْجَامِعِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنَ الْمِصْرِ إِذَا سمع النداء وكان المنادي صيتاً وكان ليس بأصم مستمعاً والأصوات هادئة والريح ساكنة ولو قلنا حتى يسمع جميعهم ما كان على الأصم جمعة ولكن إذا كان لهم السبيل إلى علم النداء بمن يسمعه منهم فعليهم الجمعة لقول الله تبارك وتعالى {إذا نودي للصلاة} الآية " قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
أَمَّا أَهْلُ الْبَلَدِ فَعَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ وَلَا اعْتِبَارَ بِسَمَاعِهِمُ النِّدَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنَ الْبَلَدِ مَوْضِعٌ لِلنِّدَاءِ، وَمَحَلٌّ لِإِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهَا اخْتِصَاصٌ بِمَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ؛ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ النِّدَاءِ، وَوَجَبَ عَلَى جَمِيعِهِمْ حُضُورُ الْجُمْعَةِ وَإِنْ كَثُرُوا
وَأَمَّا مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ فَعَلَى ثلاثة أضرب: [الأول] ضرب تلزمهم الجمعة بأنفسهم فحسب، [الثاني] وضرب لا تلزمهم بأنفسهم وتلزمهم بغيرهم. [الثالث] وَضَرْبٌ لَا تَلْزَمُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ
فَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِينَ تَلْزَمُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ: فَهُمْ أَهْلُ قَرْيَةٍ مُسْتَوْطِنُونَ، فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا أَحْرَارًا بَالِغِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، فَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ إِقَامَتُهَا، وَسَوَاءٌ قَرُبُوا مِنَ الْمِصْرِ أَوْ بَعُدُوا سَمِعُوا النِّدَاءَ أَوْ لَمْ يَسْمَعُوا؛ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْجُمْعَةِ قَدْ كَمُلَتْ فِيهِمْ، فَإِنْ تَرَكُوا إِقَامَتَهَا فِي مَوْضِعِهِمْ، وَقَصَدُوا البلد فصلوا الجمعة مع أهله فقد أساؤوا بِتَرْكِ إِقَامَتِهَا فِي مَوْضِعِهِمْ وَأَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ أَتَوْا بِالصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ
وَأَمَّا الَّذِينَ لَا تَلْزَمُهُمُ الْجُمْعَةُ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بِغَيْرِهِمْ: فَهُوَ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، عَلَى مَسَافَةٍ لَا يَبْلُغُهُمْ سَمَاعُ النِّدَاءِ، فَلَا تَلْزَمُهُمْ إِقَامَتُهَا بِأَنْفُسِهِمْ لِنُقْصِهِمْ عَنِ الْأَرْبَعِينَ، وَلَا بِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ نِدَاءَ الْجُمْعَةِ لَا يَبْلُغُهُمْ
وَأَمَّا الَّذِينَ لَا تلزمهم إقامتها بِأَنْفُسِهِمْ وَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِهِمْ: فَهُوَ أَنْ يَكُونُوا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، عَلَى مَسَافَةٍ يَسْمَعُونَ نِدَاءَ الْجُمْعَةِ مِنَ الْمِصْرِ، فَهَؤُلَاءِ تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ، وَيَلْزَمُهُمْ إِتْيَانُهَا فِي الْمِصْرِ، وَاعْتِبَارُ سَمَاعِ النِّدَاءِ بِأَنْ تَكُونَ الرِّيحُ سَاكِنَةً، وَالْأَصْوَاتُ هَادِئَةً، وَيَقِفَ الْمُؤَذِّنُ فِي طَرَفِ الْبَلَدِ أَوْ عَلَى سُورَةٍ مِنْ جانبه، ويكون صيتاً ولا يكون المستمع أصماً، فإذا سمعوا(2/404)
النِّدَاءَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ فَقَدْ لَزِمَهُمْ حُضُورُ الْجُمْعَةِ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانُوا إِذَا صَلَّوُا الْجُمْعَةَ فِي الْمِصْرِ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْوُوا بِاللَّيْلِ فِي مَنَازِلِهِمْ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ لَمْ يمكنهم أن لا يأووا لَيْلًا فِي مَنَازِلِهِمْ فَلَا جُمْعَةَ عَلَيْهِمْ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنْ كَانُوا عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ
وَقَالَ رَبِيعَةُ: إِنْ كَانُوا عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ كَانُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى أَكْثَرَ لَمْ تَلْزَمْهُمْ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا جُمْعَةَ عَلَى مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ بِحَالٍ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ جَامِعٍ " فَنَفَى وُجُوبَ الْجُمْعَةِ عَمَّنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِصْرٍ جَامِعٍ، قَالَ: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقِيمُ الْجُمْعَةَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا يَدْعُو أَهْلَ العوالي والسواد، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِهَا، قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا تَجِبُ فِيهِ صَلَاةُ الْجُمْعَةِ لَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِهِ الجمعة، قياساً على من لم يَسْمَعُ النِّدَاءَ
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ سَمَاعُ النِّدَاءِ فِي الْبَلَدِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْجُمْعَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ، وجب أن يبطل الاعتبار به فيمن خارج البلد، فلا تجب عليهم الجمعة وإن سمعوه، قَالَ: وَلِأَنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ فِي حُكْمِ مَا بَعُدَ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى السَّفَرَ، وَفَارَقَ بُنْيَانَ الْبَلَدِ، جَازَ لَهُ الْقَصْرُ وَالْمَسْحُ ثَلَاثًا كَمَا لَوْ بَعُدَ عَنْهُ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجُمْعَةُ عَلَى مَنْ بَعُدَ لَمْ تَجِبْ عَلَى مَنْ قَرُبَ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَفَسَادِ قَوْلِهِ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فَكَانَ عُمُومُ الظَّاهِرِ يَقْتَضِي إِيجَابَ السَّعْيِ إِلَيْهَا عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ النِّدَاءَ عَلَمًا لَهَا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ عموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا ". فَاسْتَثْنَى بَعْدَ عُمُومِ الْإِيجَابِ مَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمْعَةُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ، وَالْمَمْلُوكِ، فَدَخَلَ مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ فِي عُمُومِ الْإِيجَابِ، وَلَمْ يَدْخُلْ خُصُوصَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ جَيِّدٌ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَى قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الطَّائِفِيِّ(2/405)
عن أبي سلمة بْنِ نُبَيْهٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَجِبُ الْجُمْعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ". وَهَذَا نَصٌّ فِيمَنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ سَمَاعَ النِّدَاءِ فِي أَهْلِ الْمِصْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، فَإِنْ قِيلَ الْخَبَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، غَيْرُ مُسْنَدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قُلْنَا: أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ مَوْقُوفًا على عبد الله بن عمروا بْنِ الْعَاصِ وَقَدْ أَسْنَدَهُ قَبِيصَةُ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَالْخَبَرُ عِنْدَنَا إِذَا رَوَاهُ رَاوٍ تَارَةً مَوْقُوفًا وَتَارَةً مُسْنَدًا، حُمِلَ الْمَوْقُوفُ عَلَى فَتْوَاهُ وَحُمِلَ الْمُسْنَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ فَلَا يَحْضِرُونَ الْجُمْعَةَ أَوْ لَيَطْبَعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ ". وَلِأَنَّ أبا حنيفة خَالَفَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: الاعتبار بسماع النداء وابن عمر وأبا هريرة وأنس قالوا: إن الاعتبار بالإيواء إلى الوطن. ولم يرو عنهم غير هذا. وَالصَّحَابَةَ إِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ فإحداث قول ثالث محرم، كما إذا أجمعوا على قول واحد كان إحداث قول ثان محرماً، وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ سَمَاعِ النِّدَاءِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعَوَارِضِ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْجُمْعَةُ كَأَهْلِ الْمِصْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَلَمْ يُخْتَصَّ بِهَا أَهْلُ الأمصار كالظهر، ولأنها عبادة عَلَى الْبَدَنِ شَرْطٌ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ، فَجَازَ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهَا قَطْعُ مَسَافَةٍ كَالْحَجِّ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " لَا جُمُعَةَ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ جَامِعٍ " فَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ مُسْنَدًا لَحُمِلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعِ النِّدَاءَ، وَخُصَّ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ " لِأَنَّهُ عَامٌّ، وَهَذَا خَاصٌّ مِنْهُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْ أَهْلَ الْعَوَالِي وَالسَّوَادِ بِهَا فَبُهْتٌ مَعَ نَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُمْ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَرَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ "
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَالْمَعْنَى فِي أَصْلِهِ: أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ شِعَارُ الْجُمْعَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَمَّا بَطَلَ اعْتِبَارُ النِّدَاءِ فِي الْبَلَدِ بَطَلَ اعْتِبَارُهُ خَارِجَ الْبَلَدِ وَهُوَ نِدَاءُ الْجَامِعِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ وَلَا فِي الْخَارِجِينَ عَنْهُ، وَالنِّدَاءُ الَّذِي اعْتَبَرْنَاهُ خارج البلد اعتبرناه في البلد هو النِّدَاءُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ فَاسْتَوَيَا(2/406)
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَا قَرُبَ مِنَ الْبَلَدِ فِي حُكْمِ مَا بَعُدَ عَنْهُ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَوَى سَفَرَ مَا قَرُبَ لَمْ يَقْصُرْ، وَلَوْ نَوَى سَفَرَ مَا بَعُدَ جَازَ أَنْ يَقْصُرَ، فَعُلِمَ أَنَّ حُكْمَ مَا قَرُبَ قَدْ يُخَالِفُ حُكْمَ مَا بَعُدَ. فَإِذَا صَحَّ مَا ذكرناه فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَالَفَنَا
(فَصْلٌ)
: قال الشافعي في كتاب " الأم ": " وإذا خرب البلد، وتهدم بُنْيَانُهُ، وَبَقِيَ فِيهِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، وَهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى عِمَارَةِ مَا خَرِبَ، وَبِنَاءِ مَا انْهَدَمَ، لَزِمَتْهُمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّهُمْ مُسْتَوْطِنُونَ "
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَفِي الْقَرْيَةِ أَرْبَعُونَ مِمَّنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، وَكَانَ يَبْلُغُ أَهْلَ الْبَلَدِ النِّدَاءُ، لَزِمَهُمُ السَّعْيُ إِلَى الْقَرْيَةِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ، فَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ، وَفِي الْقَرْيَةِ دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَكَانُوا إِذَا اجمتعوا أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا، لَمْ تَلْزَمْهُمُ الْجُمْعَةُ، لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِذَا سَعَى إِلَى الْآخَرِينَ خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَوْطِنِينَ، فَلَمْ يَصِحَّ انْعِقَادُ الجمعة بهم
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن كَانَتْ قَرْيَةً مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ وَالْمَنَازِلِ وَكَانَ أَهْلُهَا لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا أَرْبَعِينَ رَجُلًا حُرًّا بَالِغًا غَيْرَ مَغْلُوبٍ عَلَى عَقْلِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الجمعة واحتج بما لا يثبته أهل الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين قدم المدينة جمع بأربعين رجلاً وعن عبيد الله بن عبد الله أنه قال " كل قرية فيها أربعون رجلاً فعليهم الجمعة " ومثله عن عمر بن عبد العزيز "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي المكان الذي تَنْعَقِدُ فِيهِ الْجُمْعَةُ، وَالثَّانِي: فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ
فَأَمَّا الْمَكَانُ: فَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا تَنْعَقِدُ فِي الْأَمْصَارِ، وَالْقُرَى إِذَا كَانَتِ الْقَرْيَةُ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ، وَكَانَ لَهَا عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبِ الْجُمْعَةُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى، وَلَا تَصِحُّ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِصْرًا جَامِعًا، فَيَلْزَمُهُمْ إِقَامَتُهَا. وَحَدُّ الْمِصْرِ عِنْدَهُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِمَامٌ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ، وَجَامِعٌ وَمِنْبَرٌ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْ نَصِّ قَوْلِهِ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ " قَالُوا: وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجُمْعَةِ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ وَالْقُرَى مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا عُمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى لَا يَجُوزُ أَنْ يبينه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيَانًا خَاصًّا، بَلْ يُشَرِّعُهُ شَرْعًا عَامًّا، وَلَا يُنْقَلُ آحَادًا بَلْ يُنْقَلُ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَذَلِكَ معدوم(2/407)
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ فِي الْغَالِبِ. فَوَجَبَ أَلَّا تَصِحَّ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهِ، كَالْمَفَاوِزِ وَالْبَوَادِي
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جمعوا حيث كنتم " ولم يخض بَلَدًا مِنْ قَرْيَةٍ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى قَرْيَةٍ مُزَنِيَّةٍ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَرُوِيَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ صَلَّى أَوَّلَ جُمْعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْخَضَمَاتُ وَلَمْ يَكُنْ مِصْرًا، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ جُمْعَةٍ جُمِّعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرِينِ تُسَمَّى جُوَاثَا وَلِأَنَّهَا إِقَامَةُ صَلَاةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يكون من شرطها المصر، كسائر الصلوات، ولأنه مَعْقِلٌ يَسْتَوْطِنُهُ عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ، فَجَازَ أَنْ يُقِيمُوا الْجُمْعَةَ قِيَاسًا عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ
الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جَامِعٍ " فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه على وهاء في إسناده ثم لَا يَصِحُّ لأبي حنيفة الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ لَوْ أَنَّ إِمَامًا أَقَامَ الْحُدُودَ، وَقَاضِيًّا نَفَّذَ الْأَحْكَامَ فِي قَرْيَةٍ وَجَبَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِيهَا، وَلَوْ خَرَجَ عَنِ الْمِصْرِ الْإِمَامُ وَالْقَاضِي وَلَمْ يَسْتَخْلِفَا، لَمْ تَلْزَمْهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ، فَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ فِي اعْتِبَارِ الْمِصْرِ، وبطل أن يكون له فيه دلالة ثُمَّ يَسْتَعْمِلَهُ، فَنَقُولُ لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ الْعَدَدَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ عَامًّا، وَلَا يَرِدُ بِهِ النَّقْلُ آحَادًا، فَيُقَالُ لَهُمْ يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ خَاصًّا، وَيَرِدُ النَّقْلُ بِهِ آحَادًا، فَلَمْ نُسَلِّمْ لَكُمْ هَذِهِ الدَّلَالَةَ، عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ عَامًّا إِذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَمْ يَرِدْ لَهُ فِي الْكِتَابِ ذِكْرٌ وَلَا بَيَانُ حُكْمٍ، وَقَدْ وَرَدَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِإِيجَابِ الْجُمْعَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامًّا، عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد عم البيان، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى مِنْبَرِهِ: " اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي عَامِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا، فِي سَاعَتِي هَذِهِ، فَرِيضَةً مَكْتُوبَةً " وَلَيْسَ فِي الْبَيَانِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَوَادِي: فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَوْطِنِينَ
فَإِذَا ثَبَتَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي الْقُرَى إِذَا اسْتَوْطَنَهَا عَدَدٌ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمْعَةُ وَكَانُوا مُجْتَمِعِي الْمُنَازِلِ اعْتُبِرَتْ حَالُ مَنَازِلِهِمْ: فَإِنْ كَانَتْ مَبْنِيَّةً بِالْآجُرِّ وَالْجَصِّ أَوْ بِاللَّبِنِ وَالطِّينِ، أَوْ بِالْخَشَبِ الْوَثِيقِ، فَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ خِيَامًا أَوْ بُيُوتَ شَعَرٍ، أَوْ مِنْ سَعَفٍ، أو(2/408)
قَصَبٍ، فَلَا جُمْعَةَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَنَازِلَ لَيْسَتْ أَوْطَانًا ثَابِتَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانُوا أَهْلَ مُنَازِلَ مُتَفَرِّقَةٍ وَبُنْيَانٍ مُتَبَاعِدَةٍ غَيْرِ مُجْتَمِعَةٍ، وَلَا مُتَّصِلَةٍ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِينَ، لَا الْمُسْتَوْطِنِينَ، لِأَنَّ الْأَوْطَانَ مَا اجْتَمَعَتْ، وَالْجُمْعَةَ لَا تنعقد بالمقيم حتى يكون مستوطناً
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمْعَةُ فَأَرْبَعُونَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، لِأَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ انْفِضَاضِ النَّاسِ عَنْهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ، عَلَى مَا رَوَاهُ جَابِرٌ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} وقال أبو حنيفة رحمه الله تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ
وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْمُزَنِيُّ، لِأَنَّهَا جَمَاعَةٌ وَاجِبَةٌ، فَافْتَقَرَتْ إِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، وَإِمَامٌ يُجَمِّعُ بِهِمْ، فَصَارُوا أَرْبَعَةً، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وأبو يوسف: تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ: إِمَامٌ وَاثْنَانِ لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ الْجَمْعِ مَعَ الْإِمَامِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ إِمَامٍ وَآخَرَ، كَمَا تَنْعَقِدُ بِهِمَا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ فِي عَدَدِهِمْ مُعْتَبَرٌ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ بِأَوْطَانِهِمْ، فَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةً مُجْتَمِعَةَ الْمَنَازِلِ، لَهَا أَزِقَّةٌ، وَفِيهَا أَسْوَاقٌ وَمَسْجِدٌ، فَعَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ، قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ الْأَوْطَانِ وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ مَوْجُودًا عُلِمَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْأَوْطَانِ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَذَاهِبِ مَنْ خَالَفَنَا فِي عَدَدِهِمْ، وَتَعْلِيلُ مَذْهَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ اسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى إِبْطَالِ مَذْهَبِنَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " تَجِبُ الْجُمْعَةُ فِي جَمَاعَةٍ "، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالدِّلَالَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ: مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي بَعْدَ ذَهَابِ بَصَرِهِ، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ إِنَّكَ تَتَرَحَّمُ عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى بِنَا الْجُمْعَةَ فِي حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ، فَقُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: كُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا: هُوَ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قَدْ كَانَ وَرَدَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ قِلَّةٌ، فَلَمَّا اسْتَكْمَلُوا أَرْبَعِينَ أَمَرَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ عَلَى مَا بَيَّنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَعُلِمَ أَنَّ تَأْخِيرَهَا إِنَّمَا كَانَ انْتِظَارًا لِاسْتِكْمَالِ هَذَا الْعَدَدِ، وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِهَا، لِأَنَّ فَرْضَهَا قَدْ كَانَ نَزَلَ بِمَكَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ، لَا يَصِحُّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، لِأَنَّهُ يُرْوَى(2/409)
تَارَةً أَنَّ مُصْعَبًا صَلَّى بِالنَّاسِ، وَيُرْوَى تَارَةً أُخْرَى أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ صَلَّى بِهِمْ، وَرُوِيَ تَارَةً بِالْمَدِينَةِ، وَتَارَةً بِبَنِي بَيَاضَةَ، فَلِأَجْلِ اضْطِرَابِهِ وَاخْتِلَافِ رِوَايَتِهِ لَمْ يَصِحَّ لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، قِيلَ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ، لِأَنَّ مُصْعَبًا كَانَ الْآمِرَ بِهَا، وَأَسْعَدُ الْفَاعِلَ لَهَا، فَمَنْ نَسَبَهَا إِلَى مُصْعَبٍ فَلِأَجْلِ أَمْرِهِ، وَمَنْ نَسَبَهَا إِلَى أَسْعَدَ فَلِأَجْلِ فِعْلِهِ، وَمَنْ رَوَى بِبَنِي بَيَاضَةَ فَعَيَّنَ مَوْضِعَ فِعْلِهَا، وَمَنْ رَوَى بِالْمَدِينَةِ فَنَقَلَ أَشْهَرَ مَوَاضِعِهَا، لِأَنَّ بَنِي بَيَاضَةَ مِنْ سَوَادِ الْمَدِينَةِ
وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ غَلِطَ عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَغَلِطَ أَصْحَابُنَا عَلَى الْمُزَنِيِّ، فَأَمَّا غَلَطُ الْمُزَنِيِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ: فَهُوَ قَوْلُهُ وَاحْتَجَّ بِمَا لَا يُثْبِتُهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَّعَ بِأَرْبَعِينَ، وَهَذَا لَعَمْرِي حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ بِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ هَذَا الْمُقَدَّمِ
وَأَمَّا غَلَطُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْمُزَنِيِّ فَهُوَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحَدِيثِ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ ضَعِيفًا، طَعَنَ فِيهِ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ضَعِيفًا، لِأَنَّ أَبَا دَاوُدَ قَدْ نَقَلَهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَدْ أَتْقَنَهُ وَقَدْ روي هذا الحديث من جهة عبد الرازق
فَلَمْ يَكُنْ ضَعْفُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَادِحًا فِي صِحَّتِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُزَنِيِّ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّهُ أَشَارَ بِضَعِيفِ الْحَدِيثِ إِلَى حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَغَلِطَ الْمُزَنِيُّ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ
ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: مَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ طَرِيفٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَعَلَيْهِمُ الْجُمُعَةُ وَسَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يَتَوَاضَعُونَ الْحَدِيثَ "، وَلِأَنَّ فَرْضَ الْجُمْعَةِ قَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ظُهْرًا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نُقِلَ الْفَرْضُ إِلَى رَكْعَتَيْنِ عَلَى شَرَائِطَ وَأَوْصَافٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْسَخَ الظُّهْرُ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ شَرْعًا ثَابِتًا لَمْ يَجُزْ الِانْتِقَالُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلَالَةِ التَّوْقِيفِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا تَوْقِيفَ مَعَهُمْ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ وَلَا إِجْمَاعَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ الظُّهْرَ، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْجُمْعَةِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِوَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا، وَلَيْسَ لبعض الأعداد مزية عَلَى بَعْضٍ، كَانَ مَا اعْتَبَرْنَا مِنْ عَدَدِ الْأَرْبَعِينَ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ(2/410)
مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ، وَمَا دُونَهُ مِنَ الْأَعْدَادِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَدَدٌ قَدْ وُجِدَ فِي الشَّرْعِ جُمْعَةٌ انْعَقَدَتْ بِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ أَسْعَدَ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرْعِ جُمْعَةٌ انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعَةٍ، فَكَانَ الْعَدَدُ الَّذِي طَابَقَ الشَّرْعَ أَوْلَى، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا اعْتَلُّوا بِهِ لِمَذْهَبِهِمْ
ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ مَا اعْتَبَرَهُ مِنَ الْعَدَدِ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَدَدٌ لَا تُبْنَى لَهُمُ الْأَوْطَانُ غَالِبًا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِمُ الْجُمْعَةُ كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ
فَأَمَّا مَا اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ فِي الْأَوْطَانِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْأَوْطَانَ وَالْعَدَدَ شَرْطَانِ مُعْتَبَرَانِ، فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ مَعْنًى يَخْتَصُّ بِمَنْ وَجَبَ الْفَرْضُ عَلَيْهِ
فَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَجِبُ الْجُمُعَةُ فِي جَمَاعَةٍ " فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّنَا نُوجِبُهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَلَكِنِ اخْتَلَفْنَا فِي عَدَدِهَا، وَالْخَبَرُ لَا يَقْضِي عَلَى أَحَدِ الْأَعْدَادِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا حِينَ انْفَضَّ عَنْهُ أَصْحَابُهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ انْفِضَاضَهُمْ كَانَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ
وَقَدْ كَانَتِ انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعِينَ، وَاسْتِدَامَةُ الْعَدَدِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى نَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شاء الله تعالى
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَطَبَ بِهِمْ وَهُمْ أَرْبَعُونَ ثُمَّ انْفَضُّوا عنه ثم رَجَعُوا مَكَانَهُمْ صَلَّوْا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَإِنْ لَمْ يَعُودُوا حَتَّى تَبَاعَدَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ فإن لم يفعل صلاها بِهِمْ ظُهْرًا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
وَأَمَّا الْخُطْبَتَانِ فَوَاجِبَتَانِ، وَشَرَائِطُ الْجُمْعَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِمَا فلا يجوز أن يخطبهما إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، إِذَا حَضَرَهَا أَرْبَعُونَ فَصَاعِدًا، وَوَجَبَ أَنَّ الْخُطْبَةَ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ، نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ سُنَنِهَا
فَإِنْ خَطَبَ فَأَتَى بِوَاجِبَاتِ الْخُطْبَةِ أَوْ بَعْضِهَا، وَالْعَدَدُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمْعَةَ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَ إِحْرَامِهِ أَرْبَعِينَ، حَتَّى يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ عَلَى أَرْبَعِينَ، وَيُحْرِمُ بِالصَّلَاةِ مِعِ أَرْبَعِينَ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي الْخُطْبَةِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الصَّلَاةِ، تَعَلُّقًا بِأَنَّ الْأَذْكَارَ الَّتِي تَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الِاجْتِمَاعُ كَالْأَذَانِ وَهَذَا خَطَأٌ
وَدَلِيلُنَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ بِحَضْرَةِ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ افْتَقَرَ إِلَى حُضُورِهِ فِي الصَّلَاةِ افْتَقَرَ إِلَى حُضُورِهِ فِي الْخُطْبَةِ كَالْإِمَامِ، وَلِأَنَّهَا أَذْكَارٌ(2/411)
مِنْ شَرَائِطِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ إِذَا اخْتَصَّ بِهَا الْإِمَامُ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ بِهَا عَنِ الْعَدَدِ كَالْقِرَاءَةِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَالَفَتِ الْأَذَانَ، لِأَنَّهُ إِعْلَامٌ، فَجَازَ تَقَدُّمُهُ قَبْلَ حُضُورِ الْعَدَدِ، لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ، وَالْخُطْبَةُ عِظَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَقَدُّمُهَا قَبْلَ حُضُورِ الْعَدَدِ، لِعَدَمِ الِاتِّعَاظِ بِهَا:
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا وَضَحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ، فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: أن يخطب بهم وهم أربعون فصاعد، ثُمَّ يَنْفَضُّوا عَنْهُ، لِعَارِضٍ مِنْ فِتْنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَهُمْ حَالَانِ: حَالٌ: يَعُودُونَ بَعْدَ انْفِضَاضِهِمْ.
وَحَالٌ: لَا يَعُودُونَ، فَإِنْ لَمْ يَعُودُوا صَلَّى الْإِمَامُ ظُهْرًا أَرْبَعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَادَ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمْعَةَ، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ لَا يَصِحُّ انْعِقَادُهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَإِنْ عَادُوا جَمِيعًا، أَوْ عَادَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَلَهُمْ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعُودُوا بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعُودُوا بَعْدَ زَمَانٍ بَعِيدٍ.
فَإِنْ قَرُبَ زَمَانُ عَوْدَتِهِمْ: بَنَى عَلَى مَا مَضَى، وَصَلَّى بِهِمْ جُمْعَةً، وَلَمْ يَكُنِ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد أوقع في خطبته فصل يسير فَإِنَّهُ كَلَّمَ سُلَيْكًا وَقَتَلَةَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ.
ثُمَّ بَنَى، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْفَصْلِ الْيَسِيرِ حُكْمًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ فِي الصَّلَاةِ مَانِعًا مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا، كَانَ فِي الْخُطْبَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا.
فَأَمَّا إِنْ بَعُدَ زَمَانُ عَوْدَتِهِمْ، اعْتُبِرَتْ مَا مَضَى مِنْ وَاجِبَاتِ الْخُطْبَةِ، فَلَا يخلو من أمرين: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى جَمِيعُ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ قَدْ مَضَى بَعْضُهَا، وَبَقِيَ بَعْضُهَا. فَإِنْ مَضَى بَعْضُ وَاجِبَاتِهَا: فَغَرَضُ الْخُطْبَةِ بَاقٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى، لِأَنَّ بُعْدَ الزَّمَانِ قَدْ أَبْطَلَهُ كَالصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ خُطْبَتَيْنِ، وَيُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ رَكْعَتَيْنِ، إِذَا كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا، لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ وَإِنْ مَضَى جَمِيعُ وَاجِبَاتِهَا: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَيَخْطُبُ اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا، لِأَنَّ فَرْضَ الْخُطْبَةِ قَدْ أَقَامَهُ مَرَّةً، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِقَامَتُهُ ثَانِيَةً، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَخْطُبْ صَلَّاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا، لِأَنَّ الْخُطْبَةَ شَرْطٌ فِي إِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْنَافُ الْخُطْبَةِ لِإِتْيَانِهِ بِهَا، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْخُطْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِبُعْدِ زَمَانِهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا وَإِنِ اسْتَأْنَفَ الْخُطْبَةَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا أَرْبَعًا(2/412)
وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْجُمْعَةُ لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا، وَهِيَ الْخُطْبَةُ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ وَكَمَالِ الْعَدَدِ، فَهَذَا أَحَدُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَخْطُبُ وَاجِبًا لَا اسْتِحْبَابًا وَيُصَلِّي الْجُمْعَةَ لَا ظُهْرًا، لِأَنَّ الْوَقْتَ بَاقٍ، وَالْعَدَدَ مَوْجُودٌ، قَالَ: وَقَدْ أَخْطَأَ الْمُزَنِيُّ فِي نَقْلِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: " أَحْبَبْتُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ " وَإِنَّمَا أَوْجَبْتُ وَيُصَلِّي بِهِمْ جُمْعَةً، قَالَ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَلَّى بِهِمْ ظُهْرًا أَرْبَعًا " أَرَادَ بِهِ: إِنْ لَمْ يعقد حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ وَهَذَا الْمَذْهَبُ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ، فَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْهُ، وَقَدْ أَخْطَأَ في تخطئته الْمُزَنِيَّ، لِأَنَّ الرَّبِيعَ هَكَذَا نَقَلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَحْبَبْتُ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ " أَوْجَبْتُ " فَعُلِمَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ لَمْ يُخْطِئْ فِي نَقْلِهِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ.
والمذهب الثالث: أنه إن كان العذر باقيا خطب استحبابا، وإن زال العذر خَطَبَ وَاجِبًا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْخُطْبَةِ ابْتِدَاءً لَمْ يَكُنْ عُذْرًا فِي سُقُوطِهَا انتهاء.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنِ انْفَضُّوا بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِهِمْ فَفِيهَا قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا إِنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ حَتَى تَكُونَ صَلَاتُهُ صَلَاةَ جَمَاعَةٍ أَجْزَأَتْهُمُ الْجُمُعَةُ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا تُجْزِئُهُمْ بِحَالٍ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ يكمل بهم الصلاة (قال المزني) قلت أنا ليس معني المنفرد في الجمعة ولا جماعة تجب بهم الجمعة عنده أقل من الأربعين فلو جازت باثنين لأنه احرم بالأربعين جازت بنفسه لأنه احرم بالأربعين فليس لهذا وجه في معناه هذا والذي هو أشبه به إن كان صلى ركعة ثم انفضوا صلى أخرى منفردا كما لو أدرك معه رجل ركعة صلى أخرى منفردا ولا جمعة له إلا بهم ولا لهم إلا به فأداؤه ركعة بهم كأدائهم ركعة به عندي في القياس ومما يدل على ذلك من قوله أنه لو صلى بهم ركعة ثم احدث بنوا وحدانا ركعة وأجزاتهم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: أَنْ يُحْرِمَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الجمعة مع أربعين رجلا فصاعدا، ثم ينفضوا عَنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، لِعَارِضٍ مِنْ فِتْنَةٍ أَوْ غيرها، بعد سلامة الخطبة، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا وَاسْتَدَامَتِهَا، فَمَتَى نَقَصَ مِنَ الْأَرْبَعِينَ واحدا بَنَى عَلَى الظُّهْرِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا، فَإِنْ بَقِيَ مَعَهُ بَعْدَ انْفِضَاضِهِمُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ.
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَنَقَلَهُمَا المزني إلى هذا الوضع.(2/413)
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ إن بقي معه بعد انعقادها بالأربعين واحدا بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ، وَإِنْ بَقِيَ وَحْدَهُ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا وَاسْتَدَامَتِهَا وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ وَأَوْلَاهَا فَوَجْهُهُ: شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ اخْتَصَّ بالجمعة في افْتِتَاحُهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ اسْتَدَامَتُهُ إِلَى إِثْبَاتِهَا، كَسَائِرِ الشروط مِنَ الْوَقْتِ وَالِاسْتِيطَانِ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ خُطْبَةَ الْجُمْعَةِ أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ مَنْ لَمْ يَسْمَعِ الْخُطْبَةَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْخُطْبَةِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي اسْتِدَامَةِ الْجُمْعَةِ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِهَا دُونَ اسْتَدَامَتِهَا وَمَتَى بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ جَازَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ فَوَجْهُهُ: تَقْدِيمُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا، ثُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ.
فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الِاسْتِدَامَةِ فَهُوَ:
أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ ضَبْطُهُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَهُوَ إِذَا أَحْرَمَ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاحْتِرَازُ مِنَ انْفِضَاضِهِمْ، وَيُمْكِنُهُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا فِي افْتِتَاحِهَا، لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ وَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي الِاسْتِدَامَةِ لِإِدْرَاكِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ، وَتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ، فَشَابَهَ النِّيَّةَ لَمَّا لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ اعْتِبَارُهَا مَعَ الْإِحْرَامِ كَانَ مُؤْخَذًا بِهَا، وَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ اسْتَدَامَتُهَا فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهَا قد تعذب عنه لم يكن مؤخذا بها إذا عذبت فِي أَثْنَائِهَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَارَقَ الْوَقْتَ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ اسْتَدَامَتِهِ يُمْكِنُ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ شَرْطًا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ دُونَ اسْتَدَامَتِهَا وَإِثْبَاتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا، كَذَلِكَ الْعَدَدُ فِي الْجُمْعَةِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَدَ الْمُعْتَبَرَ فِي افْتِتَاحِهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتَدَامَتِهَا فَالدَّلَالَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاثْنَيْنِ، وَجَوَازِ إِتْمَامِ الْجُمْعَةِ بِهَا هُوَ:
أَنَّ الْجُمْعَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْكَامِلِ ثَلَاثَةٌ.
وَإِذَا قِيلَ إِنَّهُ مَتَى بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ فَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ فِي افْتِتَاحِهَا شَرْطًا فِي اسْتَدَامَتِهَا، وَافْتَقَرَتْ إِلَى الْجَمَاعَةِ، كَانَ أَقَلُّهَا فِي الشَّرْعِ اثْنَيْنِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ ".(2/414)
فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْتَبَرُ فِي الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ وَصْفُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ حُرًّا، بالغا، مقيما. فإن كان عبدا أو امرأة صبيا أو مسافرا أو بَنَى عَلَى الظُّهْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَدَدٌ مُعْتَبَرٌ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَوْصَافُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ كَالْأَرْبَعِينَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ هَذَا الْوَصْفِ، وَمَتَى كَانَ الْبَاقِي عَبْدًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ مُسَافِرًا جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَدَلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي افْتِتَاحِ الْجُمْعَةِ إِلَى الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ فِي صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَعْتَبِرْ وَصْفَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ، وَاعْتَبَرَ حَالَ مَنْ تَصِحُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ.
فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ خَرَّجَ قَوْلًا رَابِعًا: إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُمْ رَكْعَةً بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَثْبَتَهُ، وَعَدَّهُ قَوْلًا رَابِعًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِهِ قَوْلًا رَابِعًا، فَمَنْ أَثْبَتَهُ فَوَجْهُهُ: أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ، فَلَمَّا جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً، جَازِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْمَأْمُومِينَ رَكْعَةً.
وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْرِيجِهِ انْفَصَلَ عَنْ هَذَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ حَالِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَقَالَ: إِنَّمَا جَازَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ لِانْعِقَادِ الْجُمْعَةِ وَحُصُولِهَا لِلْإِمَامِ، فَكَانَ تَابِعًا لِمَنْ كَمُلَتْ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْجُمْعَةِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مَعَ الْمَأْمُومِينَ، لِأَنَّهَا تَكْمُلُ بِعَدَدٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَابِعًا، وَلَا صِحَّةَ لَهُمْ فَتَصِحُّ لَهُ وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ولو ركع مع الإمام ثم زحم فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ حَتَى قَضَى الْإِمَامُ سُجُودَهُ تَبِعَ الْإِمَامَ إِذَا قَامَ وَاعْتَدَّ بِهَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأُولَى فَلَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ حَتَّى يَرْكَعَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ يكن له أن يسجد للركعة الْأُولَى إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِمَامَتِهِ لِأَنَّ أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا سَجَدُوا لِلْعُذْرِ قَبْلَ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ فَيَرْكَعُ مَعَهُ فِي الثَّانِيَةِ وَتَسْقُطُ الْأُخْرَى وَقَالَ فِي الإملاء فيها قولان: أحدهما لا يتبعه ولو ركع حتى يفرغ مما بقي عليه والقول الثاني: إن قضى ما فات لم يعتد به وتبعه فيما سواه (قال المزني) قلت أنا الأول عندي أشبه بقوله قياسا على أن السجود إنما يحسب له إذا جاء والإمام يصلي بإدراك الركوع ويسقط بسقوط إدراك الركوع وقد قال إن سها عن ركعة ركع الثانية معه ثم قضى التي سها عنها وفي هذا من قوله لأحد قوليه دليل وبالله التوفيق ".(2/415)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ مَعَ الْإِمَامِ بِصَلَاةٍ الْجُمْعَةِ، وَرَكَعَ بِرُكُوعِهِ، ثُمَّ زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ مَعَهُ، فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَهُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ، فَيَلْزَمُهُ السجود عيه، نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ. لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِذَا زُحِمَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ آخَرَ وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ صِفَةَ السُّجُودِ فِي الْأَدَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْإِمْكَانِ كَالْمَرِيضِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يُمْكِنَهُ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ حَتَّى يَرْفَعَ الْإِمَامُ مِنْ سُجُودِهِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَتَى سَجَدَ أَدْرَكَ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ مِعِ الْإِمَامِ، فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ أَوَّلًا، ثُمَّ يَرْكَعَ مَعَ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ أَدْرَكَهُ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ رَاكِعًا فِيهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ مُفَارَقَةُ الْإِمَامِ فِي أَفْعَالِهِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِينَ حَرَسُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَلَاتِهِ بِعُسْفَانَ سَجَدُوا بَعْدَ قِيَامِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - انه قال: " مهما أسبقتكم به إذا ركعت تدركوني إِذَا رَفَعْتُ لِأَنَّنِي بَدَّنْتُ " أَيْ كَبِرْتُ.
فَإِذَا سَجَدَ نُظِرَ فِي حَالِهِ: فَإِنْ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الثَّانِيَةِ، وَالرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ رَفْعِهِ مِنْهُ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ:
فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ إِمَامِهِ فَقَدْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا، وَإِنْ قِيلَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ إِمَامِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا يُجْزِئُهُ، وَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ مَنْ أَدْرَكَ إِمَامَهُ رَاكِعًا فَيَحْتَمِلُ عَنْهُ الْقِرَاءَةَ فِيهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ، فَصَارَ كَالنَّاسِي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَتَى سَجَدَ فَاتَهُ رُكُوعُ الثَّانِيَةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَهَلْ يَأْتِي بِالسُّجُودِ أَوْ يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي (الْإِمْلَاءِ) وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: يَأْتِي بِالسُّجُودِ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْأُولَى، وَلَا يَتْبَعُ الْإِمَامَ في ركوع الثانية ووجد هَذَا: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا سَجَدَ فاسجدوا "(2/416)
فَأَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، وَاتِّبَاعُهُ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ، وَقَدْ فَعَلَ السُّجُودَ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ، فَيَأْتِيَ بِهِ، وَلِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ الْإِمَامِ مُوَالَاةً بَيْنِ رُكُوعَيْنِ، وَإِيقَاعَ زِيَادَةٍ فِي الصَّلَاةِ لَا يُعْتَدُّ بِهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْبَعَهُ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إِلَى فَرْضٍ، وَهُوَ مِنَ الرُّكُوعِ إِلَى السُّجُودِ، وَإِذَا اشْتَغَلَ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ فَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ فَرْضٍ إِلَى مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَا نَفْلٍ، وَهُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَلَا يَشْتَغِلُ بِالسُّجُودِ وَوَجْهُ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ولا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ " فَمَنَعَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي أَفْعَالِهِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي اشْتِغَالِهِ بِالسُّجُودِ مُخَالَفَةٌ فِي أَفْعَالِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الصَّلَاةِ قَدْ سَقَطَ خَلْفَ الْإِمَامِ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا أَوْ مُتَشَهِّدًا أَحْرَمَ وَتَبِعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَرْضِهِ عَقِبَ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، فَكَذَا أَيْضًا يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ فِي الرُّكُوعِ وَإِنْ فَاتَهُ السُّجُودُ، وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَوْ لَهَا عَنِ السُّجُودِ وَسَهَا حَتَّى رَكَعَ الْإِمَامُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِيهِ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِالسُّجُودِ، فَكَذَلِكَ لَوْ أَدْرَكَهُ بِزِحَامٍ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، مَعَ كَوْنِهِ مَعْذُورًا فِيهِمَا.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا قُلْنَا: عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ مِنَ السُّجُودِ فَسَجَدَ نُظِرَ فِي حَالِهِ: فَإِنَّ سَجَدَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ: فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ. وَإِنْ سَجَدَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ شَكَّ: لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَإِذَا قُلْنَا عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ الْإِمَامَ في الركوع فتبع وَرَكَعَ مَعَهُ وَسَجَدَ: فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ، وَهَلْ هِيَ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا أَمِ الْأَوْلَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ هَا هُنَا إِنَّهَا الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا دُونَ الْأُولَى، لِتَكُونَ الرَّكْعَةُ مُرَتَّبَةً لَا يَتَخَلَّلُهَا رُكُوعٌ مقصود ولا يعتد بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ إِنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ فِي الْأَوْلَى قَدْ كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ قَبْلَ زِحَامِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَتَى فِي الْأَوْلَى بِقِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ لَمْ يَأْتِ بِهِمَا فِي الثَّانِيَةِ، فَكَانَتِ الْأُولَى أَوْلَى فِي الِاعْتِدَادِ بِهَا مِنَ الثَّانِيَةِ.
فَإِذَا قِيلَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّهَا الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا، فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ.
وَإِذَا قِيلَ إِنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ فَهَلْ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة "(2/417)
فَعَلَى هَذَا يَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا يُدْرِكُ الْجُمْعَةَ بِرَكْعَةٍ مُلَفَّقَةٍ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُهَا بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ غَيْرِ مُلَفَّقَةٍ، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ كَامِلَةُ الْأَوْصَافِ، فَاعْتُبِرَ فِي إِدْرَاكِهَا رَكْعَةٌ كَامِلَةٌ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَتَكُونُ ظُهْرًا فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ مَعْذُورًا جَازَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الزِّحَامِ هَلْ هُوَ مَعْذُورٌ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْذُورٌ بِهِ، فَعَلَى هَذَا يُتِمُّ صَلَاتَهُ ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِيَ: أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِهِ، لِأَنَّ أَعْذَارَ الْجُمْعَةِ أَمْرَاضٌ مانعة، وليس الزحام منها، فَعَلَى هَذَا فِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ جَائِزَةٌ، وَيَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ بَاطِلَةٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ أَمَرْنَاهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ السُّجُودِ فَخَالَفَ وَتَبَعِ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِفَرْضِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِهِ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِفَرْضِهِ وَأَنَّ مَا فَعَلَهُ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِإِخْلَالِهِ بِرُكْنٍ مِنْ صَلَاتِهِ عَامِدًا، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ وَرَاءَ الْإِمَامِ: فَإِنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا وَسَجَدَ مَعَهُ فَقَدْ أَدْرَكَ رَكْعَةً يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى وَقَدْ تَمَّتْ صلاته. فإن لم يدركه راكعا أدركه سَاجِدًا أَوْ مُتَشَهِّدًا لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَصَلَّاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبِعَ الْإِمَامَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ مُقَدِّرًا جَوَازَ ذَلِكَ أَلْغَى هَذَا الرُّكُوعَ، وَلَمْ يَعْتَدَّ بِهِ، لِأَنَّ فَرْضَهُ السُّجُودُ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِهِ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ، فَإِذَا سَجَدَ مَعَهُ احْتُسِبَ لَهُ بِهَذَا السُّجُودِ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ بِرُكُوعٍ مِنَ الْأُولَى وَسُجُودٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ أَمَرْنَاهُ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ، فَخَالَفَ وَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنَ السُّجُودِ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِفَرْضِهِ أَوْ عَالِمًا بِهِ. فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ فَرْضَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَتَبِعَ الْإِمَامَ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَبِعَهُ نُظِرَ فِيمَا أَدْرَكَهُ مَعَهُ، فَلَا يَخْلُو فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُدْرِكَهُ رَاكِعًا فَيَرْكَعَ مَعَهُ وَيَسْجُدَ، فَهَذَا يَكُونُ كَمَنْ أُمِرَ بِاتِّبَاعِ الإمام فتبعه،(2/418)
فَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ، وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ السُّجُودُ الَّذِي فَعَلَهُ، ثُمَّ هَلْ تَكُونُ هَذِهِ الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةَ بِكَمَالِهَا أَوِ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الثَّانِيَةُ، فَعَلَى هَذَا يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسُجُودِ الثَّانِيَةِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يُدْرِكُ بها الجمعة أم لا على الوجهبن. ثُمَّ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا مَضَى.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُدْرِكَهُ فِي السُّجُودِ فَيَسْجُدَ مَعَهُ: فَهَذَا تَحْصُلُ لَهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِالثَّانِيَةِ وَجْهًا وَاحِدًا ثُمَّ هَلْ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي إسحق يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ لَا يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ، وَيَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُدْرِكَهُ بَعْدَ السُّجُودِ مُتَشَهِّدًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَقَدْ بَقِيَ مِنَ الرَّكْعَةِ سَجْدَتَانِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهُمَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ رَكْعَةٌ، أَدْرَكَ بَعْضَهَا مَعَ الْإِمَامِ، فَهَذَا غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلْجُمْعَةِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَهَلْ يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهَا؟ عَلَى مَا مَضَى فِي الْجَوَابِ وَالتَّفْصِيلِ.
فَأَمَّا إِذَا اشْتَغَلَ بِالسُّجُودِ عَالِمًا أَنَّ فَرْضَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ فَلَهُ حَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ.
فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ: فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِمَا عَمَدَهُ مِنْ فِعْلِ مَا لَيَسَ مِنْهَا، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ بِالصَّلَاةِ، فَإِنِ اسْتَأْنَفَهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا وَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَنَوَى الِائْتِمَامَ بِهِ فَإِنْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا رَكْعَةٌ غَيْرُ مُلَفَّقَةٍ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ رَفْعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَإِنْ قَصَدَ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ إِمَامَتِهِ: فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ غَيْرِ الزِّحَامِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَيَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ، وَيُجْزِئُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ غَيْرُ الزِّحَامِ فَهَلْ يَكُونُ الزِّحَامُ عُذْرًا لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عُذْرًا لَهُ، فَعَلَى هَذَا صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَالْوَجْهَ الثَّانِيَ: أَنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيمَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ، فَلَهُ فِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِ أَنْ يستأنف صلاته ظهرا أربعا. والقول الثاني: جائز، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ هَذَا مُصَلِّيًا لِلظُّهْرِ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَيَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِ الْجُمْعَةِ غَيْرَ مَعْذُورٍ: أَحَدُهُمَا:(2/419)
وَهُوَ الْقَدِيمُ، صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَيُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ، صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ فِي الْأُولَى، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ حَتَّى سَجَدَ الْإِمَامُ فِي الثَّانِيَةِ: فَهَذَا يَتْبَعُهُ فِي السُّجُودِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَيَكُونُ لَهُ رَكْعَةٌ مُلَفَّقَةٌ بِرُكُوعٍ مِنَ الْأُولَى وَسُجُودٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى. فَإِنْ أَحْرَمَ مَعَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَزُحِمَ عَنِ الرُّكُوعِ فِيهَا مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى رَكَعَ فِي الثَّانِيَةِ: فَهَذَا يَتْبَعُهُ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ، وَيَسْجُدُ مَعَهُ، وَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَةٌ، وَهِيَ الثَّانِيَةُ بِكَمَالِهَا وَجْهًا وَاحِدًا فَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ بِهَا، وَلَيْسَ هَذَا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ أَدْرَكَ الْإِحْرَامَ مَعَهُ فِي رُكُوعِ الثَّانِيَةِ.
فَلَوْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فِي الثَّانِيَةِ فَرَكَعَ مَعَهُ، ثُمَّ زُحِمَ عَنِ السُّجُودِ فِيهَا حَتَّى جَلَسَ الْإِمَامُ مُتَشَهِّدًا: فَهَذَا يَشْتَغِلُ بِفِعْلِ السُّجُودِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا يَتْبَعُ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ بَنَى عَلَى الظُّهْرِ.
وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِيَارِهِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ: فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: اخْتِيَارُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: اخْتِيَارُهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ. وَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ. والله تعالى أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: وَإِنْ أَحْدَثَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَدْ كَانَ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ حَدَثِهِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ ركعتين وإن لم يكن أدرك معه التكبيرة صَلَّاهَا ظُهْرًا لِأَنَّهُ صَارَ مُبْتَدِئًا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قلت أنا يشبه أن يكون هذا إذا كان إحرامه بَعْدَ حَدَثِ الْإِمَامِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: مُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَصْلُهَا: جَوَازُ الِاسْتِخْلَافِ فِي الصَّلَاةِ، وَصِحَّةُ أدائها بإمامين قال الشافعي في ذلك قولان:
أحدهما: لا تجوز الصلاة بِإِمَامَيْنِ، وَلَا أَنْ يَخْطُبَ إِمَامٌ وَيُصَلِّيَ غَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَوَجْهُهُ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَحْرَمَ بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَانْصَرَفَ وَاغْتَسَلَ، وَرَجَعَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُومِينَ لَوْ أَدْرَكُوا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ ثُمَّ سَلَّمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُتِمُّ بهم ولا جاز لهم يَسْتَخْلِفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِجْمَاعًا، بَلْ يُتِمُّونَ فُرَادَى، كَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ خِلَالِهَا، وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ إِمَامٌ اسْتُخْلِفَ عَلَى مَأْمُومِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يصح، أصله ما ذكرنا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِإِمَامَيْنِ، وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَوَجْهُهُ: مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مرضه، ليصلي(2/420)
بالناس فأجرم بِهِمْ، ثُمَّ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِفَّةً فَخَرَجَ، وَوَقَفَ عَلَى يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِمْ، فَصَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَأْمُومًا بَعْدَ أَنْ كَانَ إِمَامًا.
فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بِإِمَامَيْنِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ، ثُمَّ تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ الْجَمَاعَةِ لَا يَتَغَيَّرُ بِبَدَلِ الْمَأْمُومِ، كَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِبَدَلِ الْإِمَامِ، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ شَخْصٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ، فَجَازَ أَنْ يَتَبَدَّلَ فِي الصَّلَاةِ كَالْمَأْمُومِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ يَخْطُبَ إِمَامٌ وَيُصَلِّيَ غَيْرُهُ إِذَا كان من شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ عَهِدَ الْوَاجِبَ مِنْهَا، فَأَمَّا إذا لم يشهد الخطبة فلا يجوز استخلافها فِيهَا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَجُوزُ اسْتِخْلَافُ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ كَمَا لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إِلَّا مَنِ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِعَمَلِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْخُطْبَةَ لَمْ يَتَّصِلْ عَمَلُهُ بِعَمَلِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الْمُحْدِثُ فِي الصَّلَاةِ مَنْ أَحْرَمَ قَبِلَ حَدَثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ شَهِدَ الْخِطْبَةَ، لِاتِّصَالِ الْعَمَلَيْنِ، فَكَانَ فَرْقًا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ القولين في جواز الصلاة بإمامين، فلا يَخْلُو حَالُ الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ أَوْ غَيْرَهَا فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ: وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ لَمْ يَخْلُ حَدَثُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ. فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: بَنَوْا عَلَى الظُّهْرِ، لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا. وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ عَلَى الظُّهْرِ، لِإِخْلَالِهِمْ بِاسْتِدَامَةِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْجُمْعَةِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُزَنِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الِانْفِضَاضِ يَبْنُونَ عَلَى الْجُمْعَةِ. فَإِذَا قُلْنَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ بعد حدثه لا يختلف، لأنه لم يعلق صلاته بصلاته، وإنما يستخلف من أحرم قبل حَدَثِهِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو حَدَثُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ.
فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ الإحرام أو الركوع، وَيَبْنِي هَذَا الْإِمَامُ الْمُسْتَخْلَفُ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ.
فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ: لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَدَثُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أو بعد. فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ: جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ، سَوَاءٌ أَدْرَكَ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى أَمْ لَا، وَيَبْنِي هُوَ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ مَعَهُمْ مِنْهَا رَكْعَةً. وَإِنْ أَحْدَثَ بَعْدَ الرُّكُوعِ مِنَ الثَّانِيَةِ: فَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَدْرَكَ معه(2/421)
الرَّكْعَةَ الْأُولَى أَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرُّكُوعَ مِنَ الثَّانِيَةِ جَازَ، وَبَنَى هَذَا الْمُسْتَخْلَفُ وَمَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ عَلَى الْجُمْعَةِ.
وَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ مَعَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ فِي الثَّانِيَةِ وَقَبْلَ حَدَثِهِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِخْلَافِهِ فَقَالَ بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ لَا يكون مدركا للجمعة. وقال آخرون: وهو قال الْأَكْثَرِينَ إِنَّ اسْتِخْلَافَهُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ رُكُوعَ الثَّانِيَةِ.
وَلَعَلَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ خَلْفَ الصَّبِيِّ الَّذِي تَصِحُّ لَهُ الْجُمْعَةُ.
وَإِذَا اسْتَخْلَفَهُ بَنَى هَذَا الْإِمَامُ عَلَى الظُّهْرِ، وَيُتِمُّ صلاته أربعا، وبنى المأمون عَلَى الْجُمْعَةِ، وَكَانُوا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْتَظِرُوهُ لِتَكْمُلَ صَلَاتُهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَدِّمُوا رَجُلًا يُسَلِّمُ بِهِمْ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمُوا لِأَنْفُسِهِمْ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فَرْضًا غير الصلاة: جَازَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيهَا مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمْعَةِ: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ أَدَاءُ الْفَرْضِ مُنْفَرِدًا صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ مَنْ لَمْ يُعَلِّقْ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَدَاءُ الْفَرْضِ مُنْفَرِدًا لَمْ يَصِحَّ اسْتِخْلَافُهُ مَنْ لَمْ يُعَلِّقْ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا نُظِرَ فِي حَدَثِ الْإِمَامِ: فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ فِيهَا: فَاسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ أَوْ بَعْدَهُ جَازَ. وَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ بَعْدَ رُكُوعِهِ فِي الْأُولَى: فَإِنِ اسْتَخْلَفَ مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ لَمْ يَجُزْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ أَحْرَمَ بَعْدَ حَدَثِهِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَيَجُوزُ وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَجُوزُ هُوَ: أَنَّ هَذَا الْمُحْرِمَ بَعْدَ حَدَثِهِ يَبْنِي عَلَى صَلَاةِ نَفْسِهِ لَا عَلَى صَلَاةِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَقَدِ اتَّفَقَ فِعْلُهُ وَفِعْلُ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ فَجَازَ اسْتِخْلَافُهُ، وَإِذَا كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَبَنَى عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ خَالَفَ فِعْلَ الْإِمَامِ الْمُحْدِثِ، لِأَنَّهَا لَهُ أُولَى، فَلِذَلِكَ لَمْ نُجِزْهُ.
أَوْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ قَبْلَ حَدَثِهِ بَنَى عَلَى صَلَاةِ الْمُحْدِثِ فَجَلَسَ فِي مَوْضِعِ جُلُوسِهِ وَقَامَ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ فَجَازَ اسْتِخْلَافُهُ.
(فَصْلٌ)
: إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ الْجُمْعَةَ بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ سَلَامِهِ أَنَّهُ جُنُبٌ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ خَلْفَهُ أَرْبَعُونَ فَصَلَّوْا أَجْزَأَتْهُمُ الصَّلَاةُ، وَأَعَادَ الْإِمَامُ صَلَاتَهُ ظُهْرًا، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا تجزئهم.
فإن كانوا مع الإمام أربعين لم تجزهم الصَّلَاةُ وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ، وَاسْتَأْنَفُوا الْجُمْعَةَ، لِأَنَّ فَرْضَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ.(2/422)
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا جُمُعَةَ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا مَرِيضٍ وَلَا مَنْ لَهُ عُذْرٌ وَإِنْ حَضَرُوهَا أَجْزَأَتْهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمْعَةُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ مُسَافِرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا ".
ثُمَّ مَنْ لَا جُمْعَةَ عَلَيْهِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوهَا: وَهُمُ الصِّبْيَانُ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمُسَافِرُونَ، وَمَنْ فِيهِمُ الرِّقُّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِمْ إِذَا حَضَرُوا لِبَقَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ سَقَطَتْ عَنْهُمُ الْجُمْعَةُ وَهُوَ: الرِّقُّ، وَالْأُنُوثِيَّةُ، وَالسَّفَرُ فَإِنْ صَلَّوُا الْجُمْعَةَ سَقَطَ فَرْضُهُمْ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ إِذَا أَتَى بِفَرْضِ غَيْرِ الْمَعْذُورِ أُسْقِطَ فَرْضُهُ، كَالْمُسَافِرِ إِذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَصَامَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِحُضُورِهَا وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا، بِالتَّأْخِيرِ عَنْهَا: وَهُوَ الْمَرِيضُ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ بِإِطْفَاءِ حَرِيقٍ، أَوْ إِحْفَاظِ مَالٍ، أَوْ خَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِعْلُهَا عليهم إذا حضروا لزوال أعذارهم.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمة الله تعالي: " وَلَا أُحِبُّ لِمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ بِالْعُذْرِ أَنْ يصلي حتى يتأخر انْصِرَافَ الْإِمَامِ ثُمَّ يُصَلِّي جَمَاعَةً فَمَنْ صَلَّى مِنَ الَّذِينَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْإِمَامِ أَجْزَأَتْهُمْ وَإِنْ صَلَّى مَنْ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَعَادَهَا ظُهْرًا بَعْدَ الْإِمَامِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْ حُضُورِ الْجُمْعَةِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ تَأَخَّرُوا عَنْهَا لِعُذْرٍ. وَضَرْبٌ تَأَخَّرُوا عَنْهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ.
فَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهَا لِعُذْرٍ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يُرْجَى زَوَالُ أَعْذَارِهِمْ: كَالْعَبْدِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ رِقِّهِ، وَالْمُسَافِرِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ سَفَرِهِ، وَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ، فَيُخْتَارُ لَهُمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا الظُّهْرَ إِلَّا بَعْدَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ فَحَضَرُوهَا، فَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُمْ، فَلَوْ زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْجُمْعَةُ قَائِمَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُضُورُهَا.
وَضَرْبٌ لَا يُرْجَى زَوَالُ أَعْذَارِهِمْ: كَالنِّسَاءِ لَا يُرْجَى لَهُنَّ زَوَالُ الْأُنُوثِيَّةِ، فَيُخْتَارُ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا الظهر لأول وقتها، ولا ينتظروا انْصِرَافَ الْإِمَامِ، لِيُدْرِكُوا فَضِيلَةَ الْوَقْتِ.
وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ: فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّ فَرْضَهُمُ الْجُمْعَةَ لَا الظُّهْرَ، فَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ بَعْدَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَجْزَأَهُمْ(2/423)
ذَلِكَ قَضَاءً عَنْ فَرْضِهِمْ، وَإِنْ صَلَّوُا الظُّهْرَ قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ: فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى حُضُورِ الْجُمْعَةِ لَزِمَهُمْ حُضُورُهَا، لِبَقَاءِ فَرْضِهِمْ، وَإِنْ فَاتَهُمْ حُضُورُهَا فَهَلْ تُجْزِئُهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ الَّتِي صَلَّوْهَا قَبْلَ انْصِرَافِ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ تُجْزِئُهُمْ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا تُجْزِئُهُمْ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُعِيدُوا ظُهْرًا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مُخَرَّجَانِ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَلَاةِ الْجُمْعَةِ هَلْ هِيَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ أَوْ هِيَ فَرْضٌ مَشْرُوعٌ بِذَاتِهِ؟ فَأَحَدُ قَوْلَيْهِ وَهُوَ الْقَدِيمُ: إِنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْجُمْعَةُ قَضَاهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضًا بِذَاتِهِ قَضَاهَا جُمْعَةً كَالْأَدَاءِ فَعَلَى هَذَا تُجْزِئُهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الْجَدِيدُ: إِنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ فَرْضٌ مَشْرُوعٌ بِذَاتِهِ، وَلَيْسَتْ بَدَلًا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، لِأَنَّ الْإِبْدَالَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: بَدَلٌ مُرَتَّبٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْعَجْزِ عَنِ الْمُبْدَلِ كَالتَّيَمُّمِ وَالرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَبَدَلٌ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، فَلَوْ كَانَتِ الجمعة بدل مِنَ الظُّهْرِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا بِتَرْكِهَا إِلَى الظُّهْرِ، وَلَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُمَا، فَعَلَى هَذَا لَا تُجْزِئُهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ.
(فَصْلٌ)
: إِذَا صَلَّى الْمَعْذُورُ ظُهْرًا قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا لَهُ، لَكِنْ تُكْرَهُ لَهُ الْمُظَاهَرَةُ بِفِعْلِ الجماعة خوف التهمة، سَوَاءٌ كَانَ عُذْرُهُ ظَاهِرًا كَالسَّفَرِ وَالرِّقِّ، أَوْ كَانَ بَاطِنًا كَالْمَرَضِ وَالْخَوْفِ، وَكَرِهَ أبو حنيفة أن يصلي جماعة ظاهرا باطنا.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن مرض له ولد أو والد فرآه مَنْزُولًا بِهِ أَوْ خَافَ فَوْتَ نَفْسِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدَعَ الْجُمُعَةَ وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو قَرَابَةٍ وَكَانَ ضَائِعًا لَا قَيِّمَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَهُ قَيَّمٌ غَيْرُهُ لَهُ شُغْلٌ عَنْهُ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدَعَ لَهُ الْجُمْعَةَ تَرَكَهَا ابْنُ عُمَرَ لِمَنْزُولٍ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
حُضُورُ الْجُمْعَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ ".
وَالْعُذْرِ ضربان: عام، خاص.
فَأَمَّا الْعَامُّ فَكَالْأَمْطَارِ، وَخَوْفِ الْفِتَنِ، وَحَذَرِ السُّلْطَانِ وَأَمَّا الْخَاصُّ: فَكَالْخَوْفِ مِنْ ظُلْمِ ذِي يَدٍ قَوِيَّةٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يَخَافُ تَلَفَ مَالٍ هُوَ مُقِيمٌ عَلَى حِفْظِهِ، أَوْ يَخَافُ مَوْتَ مَنْزُولٍ بِهِ، مِنْ ذِي نَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ أَوْ مَوَدَّةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ أَمْ لَا، قَدْ رُوِيَ عَنْ(2/424)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِمُّ لِلْجُمْعَةِ فَاسْتُخْرِجَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، فَتَرَكَ الْجُمْعَةَ وَذَهَبَ إِلَى سَعِيدٍ.
فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْزُولًا بِهِ، وَكَانَ مَرِيضًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرَضُ شَدِيدًا مُخَوِّفًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَرَضًا شَدِيدًا فَإِنْ كَانَ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنِ الْجُمْعَةِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ أَمْ لَا، لِاخْتِصَاصِ الْوَلَدِ بِفَضْلِ الْبِرِّ، وَالْوَالِدِ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَيِّمٌ بِأَمْرِهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ الْجُمْعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ قَيِّمٌ سِوَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحُضُورُ.
فَأَمَّا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ ثَابِتٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ كَالْأَمْوَالِ: فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا، وَكَانَ بِالتَّأْخِيرِ عَاصِيًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِهِ وَخَافَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَمَقَالِهِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنْهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ عَلَى يَدِهِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَلَا الصُّلْحُ عَلَيْهِ، كَحَدِّ الزِّنَا، وَقَطْعِ السَّرِقَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ، وَعَلَيْهِ الْحُضُورُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَالصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَالْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ، فَهَذَا عُذْرٌ فِي التَّأْخِيرِ، لِيَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ.
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنِ الْجَمَاعَةِ كَانَ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عن الجمعة.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَنْ طَلَعَ لَهُ الْفَجْرُ فَلَا يُسَافِرْ حَتَى يُصَلِّيَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. فَمَنْ أَرَادَ إِنْشَاءَ السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: حَالَانِ يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهِمَا، وَحَالٌ لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهَا، وَحَالٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا.
فَأَمَّا الْحَالَانِ فِي جَوَازِ السَّفَرِ:
فَأَحَدُهُمَا: قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْيَوْمِ. وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ لِيَقْضِيَ الْفَرْضَ، فَإِذَا بَدَأَ بِإِنْشَاءِ السَّفَرِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ جَازَ.
وَأَمَّا الْحَالُ الَّتِي لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهَا: فَهِيَ مِنْ وَقْتِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَفُوتَ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ، لِتَعَيُّنِ فَرْضِهَا، وَإِمْكَانِ فِعْلِهَا.(2/425)
وَأَمَّا الْحَالُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا: فَهِيَ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، فَفِي جَوَازِ إِنْشَاءِ السَّفَرِ فِيهِ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ العوام وأبو عبيد بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ: يُجَوِّزُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهِ السَّفَرَ، لِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَهَّزَ جَيْشَ مَؤْتَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا الَّذِي أَخَّرَكَ عَنْهُمْ؟ قَالَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَزْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فَرَاحَ مُنْطَلِقًا.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَافَرَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا بِهَيْئَةِ السَّفَرِ وَهُوَ يَقُولُ: لَوْلَا الْجُمْعَةُ لَسَافَرْتُ. فَقَالَ: اخْرُجْ، فَإِنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَمْنَعُ مِنَ السَّفَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَائِشَةُ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا يَجُوزُ لَهُ إِنْشَاءُ السَّفَرِ فِيهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمْعَةَ، لِأَنَّ هَذَا زَمَانٌ قَدْ يَتَعَلَّقُ حُكْمُ السَّعْيِ فِيهِ لِمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ فِي الْمِصْرِ أَوْ مَا قَارَبَهُ إِذَا كَانَ لَا يُدْرِكُ الْجُمْعَةَ إِلَّا بِالسَّعْيِ فِيهِ، فَكَانَ حُكْمُ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ كَحُكْمِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ فِيهِمَا، فَوَجَبَ أَنْ يستوي حكمهما في تحريم السفر فيهما والله أعلم.(2/426)
(بَابُ الْغُسْلِ لِلْجُمْعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَمَا يَجِبُ فِي صلاة الجمعة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالسُّنَّةُ أَنْ يَغْتَسِلَ لِلْجُمُعَةِ كُلُّ مُحْتَلِمٍ وَمَنِ اغْتَسَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَجْزَأَهُ وَمَنْ تَرَكَ الْغُسْلَ لَمْ يُعِدْ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من توضأ فيها وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا كَمَا قَالَ. غُسْلُ الْجُمْعَةِ، سُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ غَسَلَ وَاغْتَسَلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَشَهِدِ الْخُطْبَةَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ.
وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَسَلَ وَاغْتَسَلَ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: غَسَلَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، واغْتَسَلَ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ،
وَالثَّانِي: غَسَّلَ زَوْجَتَهُ لِمُبَاشَرَتِهَا، وَاغْتَسَلَ هُوَ لِنَفْسِهِ. وَزَمَانُ الْغُسْلِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى رَوَاحِهِ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَوَقْتُ الرَّوَاحِ أَفْضَلُ، وَقَبْلَهُ يُجْزِئُ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ لَا يُجْزِئُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ فَأَغْنَى عَنْ إعادته.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمة الله تعالى: " فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَجَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وأذن المؤذنون فَقَدِ انْقَطَعَ الرُّكُوعُ فَلَا يَرْكَعُ أَحَدٌ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ رَكَعَ فَيَرْكَعَ وروي أن سليكا الغطفاني دخل المسجد والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخطب فقال له " أركعت؟ " قال: لا قال: " فصل ركعتين " وأن أبا سعيد الخدري ركعهما ومروان يخطب وقال ما كنت لأدعهما بعد شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ،
وَجُمْلَةٌ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَقْتُ الْجُمْعَةِ.
وَالثَّانِيَةِ: جَوَازُ التَّنَفُّلِ فِيهِ.(2/427)
فَأَمَّا وَقْتُ الْجُمْعَةِ فَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَوَاءً: مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، فَإِنْ صَلَّاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ خُطِبَ لَهَا أَوْ أُذِّنَ لَمْ يُجْزِهِ، وَأَعَادَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: إِنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزَةٌ.
اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بن الأكوع عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الْجُمْعَةَ فَيَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ: رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الْجُمُعَةَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَرَوَى الْمُطَلِّبُ بْنُ حَنْطَبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي الجمعة وقد فاء في الْحِيطَانِ ذِرَاعًا أَوْ أَكْثَرَ.
وَلِأَنَّهَا ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا إِلَّا فِي وَقْتٍ يَجُوزُ فِيهِ فِعْلُ الْإِتْمَامِ، قِيَاسًا عَلَى صَلَاةِ السَّفَرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ: فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ تَزُولُ فِي الصَّيْفِ بِالْحِجَازِ وَلَيْسَ لِلشَّمْسِ فِي الْحِيطَانِ ظِلٌّ، وَإِنْ كَانَ فَهُوَ شَيْءٌ يَسِيرٌ. فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ " فَصَحِيحٌ، وَأَرَادَ بِهِ الْأَذَانَ الثَّانِيَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ السَّعْيُ وَيَحْرُمُ عِنْدَهُ الْبَيْعُ، وَفِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع} . [سورة الجمعة: 9] .
فَأَمَّا الْأَذَانُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مُحْدَثٌ، لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَا عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَهُ وَأَمَرَ بِهِ:
فَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ وَالسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَثُرَ النَّاسُ فِي أَيَّامِهِ وَحَكَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِهِ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مُعَاوِيَةُ. فَاتْرُكْهُ لَا بَأْسَ،(2/428)
(فصل)
: فأما جواز التنعل يَوْمَ الْجُمْعَةِ: فَمَا لَمْ يَظْهَرِ الْإِمَامُ، وَيَجْلِسْ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَمُسْتَحَبٌّ لِمَنِ ابْتَدَأَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ، وَلِمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِيهِ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ.
فَأَمَّا إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَدْ حَرُمَ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِصَلَاةِ النَّافِلَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي صلاة خففها وجلس، وَهَذَا إِجْمَاعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] فإنها نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ، فَسَمَّى الْخُطْبَةَ قُرْآنًا، لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
فَأَمَّا مَنِ ابْتَدَأَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يَزِيدَ عَلَيْهِمَا، تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فِيمَنْ يَجْلِسُ مِنْهُ وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَالصَّلَاةُ تُضَادُّ الْإِنْصَاتَ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ ".
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَمْنَعُ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَالْكَلَامِ قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ الْخُطْبَةَ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّلَاةِ كَالْجَالِسِ إِذَا أَتَى بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَالِسٌ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ بَيْنَ كَتِفَيَّ وَقَالَ لِي: " إِنَّ لِكُلِ شَيْءٍ تَحِيَّةً، وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ أَنْ تُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إِذَا دَخَلْتَ، قُمْ فَصَلِّ " فَكَانَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ.
وَرَوَى أَبُو سُفْيَانَ عَنْ جابر بن عبد الله أن سليك الْغَطَفَانِيَّ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ، فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزْ فِيهِمَا.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ يَجْلِسْ ".
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ، فَقَامَ لِيَرْكَعَ، فَقَامَ إِلَيْهِ(2/429)
الْأَحْرَاسُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ قَائِمًا، فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ هَمُّوا بِكَ، فَقَالَ مَا كُنْتُ لِأَدَعَهُمَا بَعْدَ شَيْءٍ رَأَيْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: وَمَا رَأَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؟ فَقَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يخطب، وعليه هيئة بَذَّةٌ، وَقَدِ اسْتَتَرَ بِخِرْقَةٍ، فَقَالَ: قُمْ فَارْكَعْ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَأَلْقَوُا الثِّيَابَ، فَأَعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ بِأَحَدِ ثَوْبَيْهِ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال ألا تروق إِلَى هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ لِيَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ إِذَا رَأَوْهُ.
قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ بِفِعْلِ رَاوِي الْحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَلِأَنَّ الأمر بالصدفة لَا يُبِيحُ فِعْلَ الْمَحْظُورِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَجْهُولٌ، وَإِنْ صَحَّ كَانَ مَخْصُوصًا
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْجَالِسِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدَّاخِلَ يَأْتِي بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ الْأَوْلَى أَوِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا دَخَلَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْكَعَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ ".
(مسألة)
: قال الشافعي رحمة الله تعالى: " وَيُنْصِتُ النَّاسُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
لَيْسَ يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي الْإِنْصَاتِ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِهِ، فَلَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ، فَمَنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا كَانَ عَاصِيًا، وَمَنْ تَكَلَّمَ جَاهِلًا كَانَ لَاغِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وَلرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: إذ قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتُ.
وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ صَهْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فَقَدْ لَغَا، وَمَنْ لَغَا فَلَا جمعة له.(2/430)
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ دَخَلَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ فَجَلَسَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَظَنَّ أَنَّهُ عَنْ مَوْجِدَةٍ، فَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ قَالَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إِنْ تَكَلَّمْتَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلَا جُمْعَةَ لَكَ، فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَهُ بِهِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صدق أبي، أو قال أَطِعْ أُبَيًّا.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ تَكَلَّمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَانَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا وَمَنْ قَالَ أَنْصِتْ فَلَا جُمُعَةَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عَلَى الْخَاطِبِ إِظْهَارُهَا إِلَّا وَتَعَلَقَّ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ اسْتِمَاعِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا حَظَرَ عَلَى الشَّاهِدِ كِتْمَانَ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى إِيجَابِ اسْتِمَاعِهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إنَّ الْإِنْصَاتَ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَلَّمَ سُلَيْكًا وَلَوْ حَرُمَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَإِذَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ الْكَلَامُ خَاطِبًا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَأْمُومِ الْإِنْصَاتُ مُسْتَمِعًا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث لجماعه من أَصْحَابَهُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى أبي الربيع بن أبي الحقيق وكان ألب عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بخيبر وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِهِ، فَرَجَعُوا وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ، فَلَمَّا رَآهُمْ مُقْبِلِينَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَفْلَحَتِ الْوُجُوهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَوَجْهُكَ أَفْلَحُ. فَقَالَ: أَقَتَلْتُمُوهُ؟ قَالُوا نَعَمْ، فَقَالَ: أَرُونِي سَيْفَهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا طَعَامُهُ فِي ذُبَابِهِ.
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قام والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ فَقَالَ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا أَعْدَدْتَ لِقِيَامِ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ لَا شَيْءَ وَاللَّهِ غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الإنصات لها لكان واجبا إِبْلَاغُهَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا وَاجِبًا، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْإِمَامِ إِبْلَاغُهَا، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَأْمُومِينَ الْإِنْصَاتُ لَهَا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يُفْسِدُهَا الْكَلَامُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُحَرَّمَ فِيهَا الْكَلَامُ كَالطَّوَافِ وَالصِّيَامِ.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَأَوَّلُ زَمَانِ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ إِذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ بِالْخُطْبَةِ، بِخِلَافِ الرُّكُوعِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَ ظُهُورِ الإمام.(2/431)
وَقَالَ أبو حنيفة: يَحْرُمُ الْكَلَامُ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِمَامِ كَالرُّكُوعِ.
قَالَ: لِأَنَّ الصَّلَاةَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ، فَإِذَا حَرُمَ الرُّكُوعُ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَانَ تَحْرِيمُ الْكَلَامِ عِنْدَ ظُهُورِهِ أَوْلَى.
وَدَلِيلُنَا: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْمَنْقُولُ مِنْ وَجْهَيْنِ: قَوْلٌ وَفِعْلٌ أَمَّا الْفِعْلُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْكَعُونَ حَتَّى يَصْعَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمِنْبَرَ، فإذا صعد قطعوا الركوع، ويتكلمون حتى يبتدأ بِالْخُطْبَةِ فَإِذَا ابْتَدَأَ بِهَا قَطَعُوا الْكَلَامَ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ: فَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا أَخَذَ الْإِمَامُ فِي الْكَلَامِ حَرُمَ الْكَلَامُ، وَلِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ مَعَ الْخُطْبَةِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِهِ، فَقَدَّمَ تَحْرِيمَ الرُّكُوعِ لِيَكُونَ مَا بَيْنَ ظُهُورِ الْإِمَامِ وَخُطْبَتِهِ زَمَانُ تَمَامِ الرُّكُوعِ، وَالْكَلَامُ يُمْكِنُ قَطْعُهُ مَعَ الْخُطْبَةِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ تَحْرِيمُهُ إِلَى زَمَانٍ يَتَقَدَّمُ الْخُطْبَةَ.
وَلَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الْكَلَامِ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْأَصَمِّ وَالسَّمِيعِ، كُلُّهُمْ فِي الْإِنْصَاتِ سَوَاءٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: أَنْصِتُوا فَإِنَّ حَظَّ الْمُنْصِتِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْ كَحَظِّ الْمُنْصِتِ السامع والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً خَفِيفَةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا فَيَخْطُبُ جَالِسًا ولا بأس بالكلام ما لم يخطب ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا، لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمْعَةِ إِلَّا بِهَا، فَهُوَ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ، كَافَّةً إِلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَإِنَّهُ شَذَّ عَنِ الْإِجْمَاعِ وَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ تَصِحُّ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْخُطْبَةَ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يَصِحَّ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ إِلَّا بِهَا. وَهَذَا خَطَأٌ، وَيُوَضِّحُهُ إِجْمَاعُ مَنْ قَبْلَ الْحَسَنِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ أَمْرَهُ بِالسَّعْيِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ الْخُطْبَةَ والصلاة، فاقتضى أن يكون الأمر بها وَاجِبًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الذِّكْرَ مُجْمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ: بِأَنْ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَأَكَّدَهُ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ".
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَتَعَلَّقَ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ بِحُضُورِهَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لَأَنَّ(2/432)
الرَّكْعَتَيْنِ وَاجَبَتَانِ بِإِجْمَاعٍ، ثُمَّ لَا يَتَعَلَّقُ إِدْرَاكُ الْجُمْعَةِ بِهَا، لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً صَحَّتْ لَهُ الْجُمْعَةُ، فَكَذَلِكَ الْخُطْبَةُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْخُطْبَةِ فَوُجُوبُهَا يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: قَوْلٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ وَتَفْصِيلُهُ.
وَالثَّانِي: فِعْلٌ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: قِيَامٌ فِي الْأُولَى، وَجِلْسَةٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا، وَقِيَامٌ فِي الثَّانِيَةِ إِلَى انْقِضَائِهَا، فَإِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ فِي الْأُولَى أَوْ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ تَرَكَ الْجَلْسَةَ بَيْنَهُمَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ جمعة قال الشافعي رحمه الله: فلوا أَتَى بِالْقِيَامَيْنِ وَلَمْ يَجْلِسْ وَسَكَتَ لَمْ تُجْزِهِمُ الْجُمْعَةُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا تَفْتَقِرُ الْخُطْبَةُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقِيَامَيْنِ وَالْجُلُوسِ، وَكَيْفَ مَا خَطَبَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَجْزَأَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ: بِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِلصَّلَاةِ يَتَقَدَّمُهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ الْقِيَامُ كَالْأَذَانِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَلْسَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ بِأَنْ قَالَ: الْخُطْبَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جَلْسَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: مُتَقَدِّمَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُتَوَسِّطَةٌ، فَلَمَّا لَمْ تجب الأولى منهما لم تجب الثانية. وهذا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (الجمعة: 295) .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمُ انْفَضُّوا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَالِ قِيَامِهِ فِي الْخُطْبَةِ. فَاقْتَضَى أَنْ يكون القيام واجبا فيهما، ليستحقوا الذي بتركه فيه، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ الْخُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ.
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ قَاعِدًا فَقَدْ كَذَبَ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْقِيَامُ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِ الْخُطْبَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْأَذَانِ: فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ الْقِيَامُ فِيهِ وَاجِبًا، وَلَمَّا وَجَبَتِ الْخُطْبَةُ وَجَبَ الْقِيَامُ فِيهَا.
وَأَمَّا جَمْعُهُ بَيْنَ الْجَلْسَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وأبو(2/433)
حنيفة يُسْقِطُ وُجُوبَهُمَا مَعًا، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، لِأَنَّ الْأُولَى لَيْسَتْ مِنَ الْخُطْبَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ جِلْسَةُ اسْتِرَاحَةٍ، وَالثَّانِيَةُ مِنَ الْخُطْبَةِ وأزيدت لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْقِيَامِ، فَكَانَتْ وَاجِبَةً كَالْجَلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ لَمْ يقل بمذهب أبي حنيفة وغيره وحكى الطحاوي أنه لم يقل بمذهب الشافعي رحمة الله غَيْرُهُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَاجِزًا عَنِ الْقِيَامِ خَطَبَ جَالِسًا، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ بَدَلًا مِنَ الْجَلْسَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْكُتْ وَوَصَلَ الثَّانِيَةَ جَالِسًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ وَاجِبَةٌ، لِكَوْنِهَا بَدَلًا مِنْ جَلْسَةٍ وَاجِبَةٍ، وَمَنْ أَخَلَّ بِوَاجِبٍ فِي خُطْبَتِهِ لَمْ تُجْزِ الْجُمْعَةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَخَلَّلَ كَلَامَهُ سَكَتَاتٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ، فَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ فَخَطَبَ قَاعِدًا لَمْ تُجْزِهِ وَإِيَّاهُمْ إِذَا عَلِمُوا بِحَالِهِ. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بحاله أجزائهم دُونَهُ. فَلَوْ خَطَبَ جَالِسًا وَذَكَرَ مَرَضًا يُعْجِزُهُ عَنِ الْقِيَامِ فَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ، وَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ مَأْمُونٌ، وَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا مَعَهُ الْجُمْعَةَ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوهُ قَادِرًا، وَيَعْتَقِدُوا خِلَافَ قَوْلِهِ، فَلَا يجوز لهم اتباعه.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُحَوِّلُ النَّاسُ وُجُوهَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ ".
وَهَذَا صَحِيحٌ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا ذَلِكَ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ أَوْ بَعُدَ عَنْهُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَلِأَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنَ الْأَدَبِ إِقْبَالُهُمْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَ الْخُطْبَةِ الْمَوْعِظَةُ وَالْوَصِيَّةُ، وَفِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ فَوَاتُ هَذَا الْمَعْنَى. وَيُخْتَارُ لِلْمُسْتَمِعِ أَنْ يجلس محتبيا.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِذَا فَرَغَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ يقرأ في الأولى بِأُمِّ الْقُرْآنِ يَبْتَدِئُهَا بِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم " وَبِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَيَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَ " إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ " ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويجهر الإمام بالقراءة ولا يقرأ من خلفه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ مَفْرُوضَتَانِ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُمَا، لِلْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ، وَالْفِعْلِ الْمَحْكِيِّ، وَالْإِجْمَاعِ الْعَامِّ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ الْجُمْعَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِذَا جَاءَكَ(2/434)
الْمُنَافِقُونَ، لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِذَلِكَ، وَلِأَخْذِ الصَّحَابَةِ بِهِ وَلِأَنَّ فِي الْأُولَى تَرْغِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَحْذِيرًا لِلْمُنَافِقِينَ.
فَإِذَا قَرَأَ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ جَازَ، وَقَدْ رَوَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْجُمْعَةِ وَالْعِيدَيْنِ. وَالْأُولَى أولى، وبما قرأ جاز.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُخَالِفَ تَرْتِيبَ الْمُصْحَفِ فِيمَا يَقْرَأُهُ مِنَ السُّورَتَيْنِ.
وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ، لِمَا روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ " وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا.
فَأَمَّا المأمومين فأحد قوليه فيهم: أنهم ينصتون ولا يقرأون والقول الثاني: وهو الجديد أنهم يقرأون الْفَاتِحَةَ لَا غَيْرَ وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " مَتَى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ مِنَ الْجُمُعَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ إِذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِصَلَاةِ الْجُمْعَةِ فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْعَصْرِ قَبْلَ سَلَامِهِ مِنْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً، لَكِنْ يُتِمُّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا بِتَحْرِيمِ الْجُمْعَةِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً إِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِيهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً، وَيَجُوزَ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا فِيهِ.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة قَدْ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ بِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا وَلَا جُمْعَةً.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا ".
قَالَ: وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ كَمَا أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِ الْجُمْعَةِ مَعَ الْعَدَدِ وَبَاقِيهَا بِلَا عَدَدٍ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبِبَاقِيهَا فِي خَارِجِ الْوَقْتِ. والدلالة(2/435)
عَلَيْهِ: هُوَ أَنَّهُ وَقْتٌ يَحِلُّ فِيهِ أَدَاءُ الْعَصْرِ بِكُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَجُزْ أَدَاءُ الْجُمْعَةِ فِيهِ، أَصْلُهُ: إِذَا أَرَادَ اسْتِئْنَافَ الْجُمْعَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ كُلُّ الْجُمْعَةِ لَمْ يَصْحَّ فِيهِ جُزْءٌ مِنْهَا، قِيَاسًا عَلَى الزَّوَالِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ: فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْجُمْعَةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعَدَدِ: فَإِنْ قَاسَهُ عَلَى الْمَأْمُومِ إِذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً فَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ لِأَدَاءِ الْجُمْعَةِ بِالْعَدَدِ الْكَامِلِ، فَكَانَ بَالِغًا لَهُمَا، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَمْ يُؤَدِّ الْجُمْعَةَ فِي وَقْتِهَا، فَلَمْ يَجُزِ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا، وَإِنْ قَاسَهُ عَلَى الْإِمَامِ قُلْنَا فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا.
وَالثَّانِي: يَبْنِي عَلَى الْجُمْعَةِ فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنَ انْفِضَاضِ الْعَدَدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا فِي فَوَاتِهِ، فَجَازَ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً، وَالِاحْتِرَازُ مِنْ خُرُوجِ الْوَقْتِ مُمْكِنٌ، فَكَانَ مُفَرِّطًا فِي فَوَاتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتِمَّهَا جُمْعَةً.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ يَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنْ وَقْتَ الظُّهْرِ مماذج لِوَقْتِ الْعَصْرِ، فَلِذَلِكَ جَوَّزَ اسْتِئْنَافَ الْجُمْعَةِ فِيهِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ مِنْ نَصِّ قَوْلِهِ بِأَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا تَحْرِيمَةٌ أَوْجَبَتِ الْجُمْعَةَ، فَلَمْ يَجُزْ بِنَاءُ الظُّهْرِ عَلَيْهَا، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا، قَالَ: وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، لَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا هِيَ الْأُخْرَى وَلَا بَعْضُهَا، بِدَلَالَةِ أَنَّ الْجُمْعَةَ يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَتُخْتَصُّ بِشَرَائِطَ لَا يُخْتَصُّ الظُّهْرُ بِهَا، وَإِذَا صَحَّ أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ لَمْ يَجُزْ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْأُخْرَى، كَالصُّبْحِ وَالظُّهْرِ.
وَهَذَا خَطَأٌ. وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّهُمَا صَلَاتَانِ يَسْقُطُ فَرْضُ أَحَدِهِمَا بِفِعْلِ الْأُخْرَى، فَجَازَ أَنْ يُبْنَى التَّمَامُ مِنْهُمَا عَلَى الْمَقْصُورِ، أَصْلُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ مُسَافِرًا ثُمَّ صَلَّى مُقِيمًا، وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورَةٌ بِشَرَائِطَ فَوَجَبَ إِذَا انْخَرَمَ بَعْضُ شَرَائِطِهَا أَنْ لَا تَبْطُلَ، وَتَعُودَ إِلَى حُكْمِ أَصْلِهَا أَرْبَعًا، كَمَا أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ إِذَا انْخَرَمَ بَعْضُ شَرَائِطِهَا لَمْ تَبْطُلْ، وَعَادَتْ إِلَى حُكْمِ أَصْلِهَا أَرْبَعًا، وَلِأَنَّ الْعَدَدَ شَرْطٌ كَمَا أَنَّ الْوَقْتَ شَرْطٌ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلِ الْجُمْعَةُ بِفَقْدِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ الْعَدَدُ إِذَا نَقَصَ، لَمْ تَبْطُلْ بِفَقْدِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْوَقْتُ إِذَا خَرَجَ وَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْجُمْعَةِ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَاءٌ، وَالْجُمْعَةُ لَا تُقْضَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا: فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْنَافُ الْجُمْعَةِ فِيهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الظُّهْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اسْتِئْنَافُ الْجُمْعَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ جَازَ الْبِنَاءُ عَلَى الظُّهْرِ.(2/436)
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُمَا صَلَاتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ: فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ مِنْ بِنَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى كَصَلَاةِ السَّفَرِ.
(فَصْلٌ)
: إِذَا شَكَّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ هَلْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الْعَصْرِ أَمْ لَا؟ بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْيَقِينِ.
وَلَوْ طَرَأَ الشَّكُّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ، كَمَنْ تَيَقَّنَ الطُّهْرَ ثُمَّ شَكَّ فِي الحدث والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ومن أدرك مع الإمام ركعة بسجدتين أتمهما جُمُعَةً وَإِنْ تَرَكَ سَجْدَةً فَلَمْ يَدْرِ أَمِنَ الَّتِي أَدْرَكَ أَمِ الْأُخْرَى حَسَبَهَا رَكْعَةً وَأَتَمَّهَا ظهرا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة " ومعنى قوله إن لم تفته ومن لم تفته صلى ركعتين وأقلها ركعة بسجدتيها ".
قال الماوردي: وهذا كما قال. قَالَ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمْعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ بِهَا الْجُمْعَةَ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ أُخْرَى وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، وَأَتَمَّهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وزفر، ومحمد بن الحسن.
وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ بِدُونِ الرَّكْعَةِ، حَتَّى لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ الْإِحْرَامَ قَبْلَ سَلَامِهِ بَنَى عَلَى الْجُمْعَةِ، وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ استدلالا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ لِحُصُولِ مَا أَدْرَكَهُ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي حَالٍ هُوَ فِيهَا بَاقٍ عَلَى الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُدْرِكًا لَهَا كَالرَّكْعَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَعَيَّنَ فَرْضُهُ بِالْإِتْمَامِ فَإِنَّ إِدْرَاكَ آخِرِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ كَإِدْرَاكِ أَوَّلِهَا، أَصْلُهُ الْمُسَافِرُ خَلْفَ الْمُقِيمِ يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بِإِدْرَاكِ آخِرِ الصَّلَاةِ، كَمَا يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ بَادَرَاكِ أَوَّلِهَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: مَا رَوَاهُ يَاسِينُ بْنُ معاذ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي(2/437)
هُرَيْرَةَ قَالَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الْجُمُعَةَ وَمَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْهَا صَلَّاهَا ظُهْرًا ".
وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا ". وَلِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنَ الْجُمْعَةِ مَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمْعَةِ، أَصْلُهُ الْإِمَامُ إِذَا انْفَضُّوا عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً. وَقَالَ أبو حنيفة - وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِنَا -: يَبْنِي عَلَى الظُّهْرِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " فَهُوَ أَنْ يُقَالَ وَقَدْ رُوِيَ " وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا " فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ حُجَّةً عَلَيْنَا فَالتَّمَامُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، فَيَسْقُطَانِ جَمِيعًا، أَوْ يُسْتَعْمَلَانِ مَعًا، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَاقْضُوا " إِذَا أَدْرَكُوا رَكْعَةً، وَ " أَتِمُّوا " إِذَا أَدْرَكُوا دُونَ الرَّكْعَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرَّكْعَةِ: فَالْمَعْنَى فِي إِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ: أَنَّهَا مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى صَلَاةِ الْمُسَافِرِ خَلْفَ الْمُقِيمِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّمَامَ خَلْفَ للمقيم لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْجَمَاعَةِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ إِدْرَاكُ مَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي جَمَاعَةٍ، وَالْجُمْعَةُ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ، فَاعْتُبِرَ فِي إِدْرَاكِهَا إِدْرَاكُ مَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي جَمَاعَةٍ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُسَافِرَ خَلْفَ الْمُقِيمِ يَنْتَقِلُ مِنْ إِسْقَاطٍ إِلَى إِيجَابٍ، وَمِنْ نُقْصَانٍ إِلَى كَمَالٍ، فَكَانَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي الْإِدْرَاكِ سَوَاءً، كَإِدْرَاكِ آخِرِ الْوَقْتِ، وَفِي الْجُمْعَةِ يَنْتَقِلُ مِنْ إِيجَابٍ إِلَى إِسْقَاطٍ، وَمِنْ كَمَالٍ إِلَى نُقْصَانٍ، فَلَمْ يَنْتَقِلْ إِلَّا بِشَيْءٍ كَامِلٍ فَسَقَطَ مَا قَالُوهُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِدْرَاكَ الْجُمْعَةِ يَكُونُ بِرَكْعَةٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُدْرِكَهُ قَارِئًا فِي قِيَامِ الثَّانِيَةِ أَوْ رَاكِعًا فِيهَا، فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا لِرَكْعَةٍ يُدْرِكُ بِهَا الْجُمْعَةَ.
فَأَمَّا إِنْ أَدْرَكَهُ رَافِعًا مِنْ رُكُوعِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُدْرِكٍ لِلْجُمْعَةِ، وَلَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ صَلَّى ظُهْرًا أَرْبَعًا.
فَلَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ، وَقَامَ فَأَتَى بِرَكْعَةٍ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنَ الثَّانِيَةِ أَتَى بِهَا، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَسَلَّمَ مِنْ جُمْعَةٍ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى، كَانَتِ الْأُولَى مَجْبُورَةً بِسَجْدَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَتُبْطُلُ الثَّانِيَةُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ تَمَامَ أَرْبَعٍ، وَيَسْجُدَ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمَ مِنْ ظهر.
وإن شك في تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ؟ عَمِلَ عَلَى أَسْوَأِ أَحْوَالِهِ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنَ الْأُولَى فَيَجْبُرَهَا بِالثَّانِيَةِ وَيَبْنِيَ عَلَى الظهر. والله أعلم.(2/438)
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَحُكِيَ فِي أَدَاءِ الْخُطْبَةِ اسْتِوَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ قَائِمًا ثُمَّ سلم وجلس على المستراح حتى فرغ المؤذنون ثم قام فخطب الأولى ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ الثَّانِيَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
يُخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمْعَةَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَلَا يُبَكِّرَ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَاقْتِدَاءً بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيَدْخُلَ الْمَسْجِدَ مَنْ أَقْرَبِ أَبْوَابِهِ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا دَخَلَ تَوَجَّهَ نَحْوَ مِنْبَرِهِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَلَا تَنَفُّلٍ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ مِنَ الْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِ مُسْتَقْبِلِهَا وَيَسَارِ مُسْتَدْبِرِهَا فَإِذَا انتهى إليه رقا خَاشِعًا مُسْتَكِينًا، غَيْرَ عَجِلٍ وَلَا مُبَادِرٍ، فَإِنْ كان المنبر صغيرا وقف منه على الدار الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا وَقَفَ على الدرجة السابقة، وَقَدْ كَانَ مِنْبَرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَ دَرَجٍ فَكَانَ يَقِفُ مِنْهُ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تَلِي الْمُسْتَرَاحَ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى الثَّانِيَةِ، دُونَ مَوْقِفِ، رَسُولِ اللَّهِ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَقَفَ عَلَى الْأُولَى، دُونَ مَوْقِفِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَرَجَةٍ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَعِدَ إِلَى الثَّانِيَةِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَوْقِفُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَجَعَ إِلَى الثَّالِثَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَوْقِفُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمَ قَلَعَ الْمِنْبَرَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَزَادَ فِيهِ سِتَّ دَرَجٍ، فَصَارَ عَدَدُ دَرَجِهِ تِسْعًا، وَكَانَ الْخُلَفَاءُ يَرْتَقُونَ إِلَى الدَّرَجَةِ السَّابِعَةِ، السِّتَّةُ الَّتِي زَادَهَا مَرْوَانُ، وَالسَّابِعَةُ هِيَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
وَأَيْنَ وَقَفَ مِنَ الْمِنْبَرِ جَازَ، فَإِذَا انْتَهَى الْإِمَامُ إِلَى مَوْقِفِهِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ، وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ، وَسَلَّمَ قَائِمًا، ثُمَّ جَلَسَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: السَّلَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ غَيْرُ مَسْنُونٍ. وَهَذَا خَطَأٌ، لِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا دَنَا مِنَ الْمِنْبَرِ سَلَّمَ، ثُمَّ صَعِدَ وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاسِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَإِذَا جَلَسَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ، فَإِذَا أَذَّنَ جَمَاعَةٌ جَازَ.
وَهَذِهِ الْجَلْسَةُ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ أَوْجَبَهَا.(2/439)
وَعَنْ أبي حنيفة: أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ.
فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنَ الْأَذَانِ قَامَ فَخَطَبَ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً خَفِيفَةً.
فَإِنْ خَطَبَ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ جَازَ، لَكِنْ يَقِفُ مِنَ الْقِبْلَةِ عَلَى يَسَارِ مُسْتَقْبَلِهَا وَيَمِينِ مُسْتَدْبِرِهَا، بِخِلَافِ خُطْبَتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَيْنَ وقف جاز.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا خَطَبَ اعْتَمَدَ عَلَى عَنَزَتِهِ اعْتِمَادًا وقيل على قوس (قال) وأجب أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَحْبَبْتُ أَنْ يُسَكِّنَ جَسَدَهُ وَيَدَيْهِ إِمَّا بِأَنْ يَجْعَلَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى أَوْ يُقِرَّهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ الِاعْتِمَادَ عَلَى شَيْءٍ لِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا خَطَبَ الْعِيدَ اعْتَمَدَ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا. لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لِرُوعِهِ، وَأَهْدَأُ لِجَوَارِحِهِ، وَأَمَدُّ لِصَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَسْدَلَ يَدَيْهِ أَوْ حَطَّهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ جَازَ.
فَأَمَّا لُبْسُ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَلْبَسُ الْبَيَاضَ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الْأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يعتم بعمامة سوداء، ويرتدي بردا أسحمي، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ السَّوَادَ بَنُو الْعَبَّاسِ فِي خِلَافَتِهِمْ شِعَارًا لَهُمْ، وَلِأَنَّ الرَّايَةَ الَّتِي عُقِدَتْ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَتْ سَوْدَاءَ، وَكَانَتْ رَايَاتُ الْأَنْصَارِ صَفْرَاءَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَلْبَسَ السَّوَادَ إِذَا كَانَ السُّلْطَانُ لَهُ مُؤْثِرًا لِمَا فِي تَرْكِهِ من مخالفته وتغير شعاره.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيُقْبِلُ بِوَجْهِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. من سنة الخطيب أَنْ يَسْتَدْبِرَ بِهَا الْقِبْلَةَ، وَيَسْتَقْبِلَ بِهَا النَّاسَ، لِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا خَطَبَ يَسْتَقْبِلُنَا بِوَجْهِهِ وَنَسْتَقْبِلُهُ بِوُجُوهِنَا، وَلِأَنَّهُ يَعِظُهُمْ بِخُطْبَتِهِ، وَيُوصِيهِمْ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمُرَاقِبَتِهِ، وكان إقباله(2/440)
عَلَيْهِمْ أَبْلَغَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا وَاسْتِقْبَالُهُمْ بِوَجْهِهِ أَبْلَغَ فِي الِاسْتِمَاعِ لَهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ بوجهه قصد وجهه، ولا يلتفت يمينا ولا شِمَالًا وَلَا يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ أَئِمَّةُ هَذَا الْوَقْتِ، مِنَ الِالْتِفَاتِ يَمِينًا وَشِمَالًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِيَكُونَ مُتَّبِعًا لِلسُّنَّةِ، آخِذًا بِحُسْنِ الْأَدَبِ، لِأَنَّ فِي إِعْرَاضِهِ عَمَّنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، وَقَصَدَ بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ، قُبْحَ عِشْرَةٍ، وَسُوءَ أَدَبٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ قَصْدَ وَجْهِهِ عَمَّ الْحَاضِرِينَ سَمَاعُهُ، وإذا التفت يمينا قصر عن سماعه يُسْرَتِهِ، وَإِذَا الْتَفَتَ شِمَالًا قَصَّرَ عَنْ سَمَاعِ يَمْنَتِهِ.
فَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، أَجَزَاهُمْ وَإِيَّاهُ بِحُصُولِ تَبْلِيغِهَا، وَالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ منها كالأذان الذي من سنته استقبال القبلة به، وَيُجْزِي وَإِنِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ بِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وأجب أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ حَتَّى يُسْمَعَ وَأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مُتَرَسِّلًا مُبِيَّنًا مُعْرَبًا بِغَيْرِ مَا يُشْبِهُ الْعِيَّ وَغَيْرِ التَّمْطِيطِ وَتَقْطِيعِ الْكَلَامِ وَمَدِّهِ، وَلَا مَا يُسْتَنْكَرُ مِنْهُ وَلَا الْعَجَلَةِ فِيهِ عَلَى الإفهام ولا ترك الإفصاح بالقصد وليكن كلامه قصيرا بليغا جامعا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الْمَقْصُودُ بِالْخُطْبَةِ شيئان: الموعظة، والإبلاغ، فينبغي للإمام أن يرفع صوته بالخطبة ليحصل الإبلاغ، وَيَقْصِدُ بِمَوْعِظَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: إِيرَادُ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ، وَاخْتِيَارُ اللَّفْظِ الْفَصِيحِ وَاجْتِنَابُ مَا يَقْدَحُ فِي فَهْمِ السَّامِعِ، مِنْ تَمْطِيطِ الْكَلَامِ وَمَدِّهِ، أَوِ الْعَجَلَةِ فِيهِ عَنْ إِبَانَةِ لَفْظِهِ، أَوْ رَكْبِ مَا يُسْتَنْكَرُ مِنْ غَرِيبِ الْكَلَامِ وَإِعْرَابِهِ. وَلَا يُطِيلُ إِطَالَةً تُضْجِرُ، وَلَا يُقَصِّرُ تَقْصِيرًا يُبْتِرُ، وَيَعْتَمِدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ عَلَى ذِكْرِ مَا يَلِيقُ بِالْحَالِ بَعْدَ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى، ويصلي على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خُطْبَتِهِ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمُدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَسْتَهْدِيهِ، وَنَسْتَنْصِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ فِي خُطْبَةٍ أُخْرَى عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يَأْكُلُ مِنْهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ أَجَلٌ صَادِقٌ، يقضي فيها ملك قادر، ألا وَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ، أَلَا وإن الشر كله بحذافيره في النار ألا فاعلموا وَأَنْتُمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى حَذَرٍ، اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مَعْرُوضُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذرة خير يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ خُطْبَةٍ مِنْهُمَا أن(2/441)
يحمد الله ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويوصي بتقوى الله وَطَاعَتِهِ وَيَقْرَأَ آيَةً فِي الْأُولَى وَيَحْمَدَ اللَّهَ ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويوصي بتقوى الله ويدعو في الآخرة لأن معقولا أن الخطبة جمع بعض الكلام من وجوه إلى بعض وهذا من أوجزه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. أَقَلُّ مَا يُجْزِي مِنَ الْخُطْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا ذَكَرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَدْ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9)
فَكَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " ذِكْرِ اللَّهِ " سُبْحَانَهُ الْخُطْبَةَ، فَاقْتَضَى الْعُمُومُ جَوَازَ أَيِّ ذِكْرٍ كَانَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ " فَسَمَّاهُ خَطِيبًا بِهَذَا الْقَدْرِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيَخْطُبَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ أُرْتِجَ عَلَيْهِ. فَنَزَلَ دَرَجَةً وَقَالَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا يُعِدَّانِ لِهَذَا الْمَقَامِ مَقَالَةً، وَإِنِّي مَا أَعْدَدْتُ لَهُ مَقَالًا، وَإِنَّكُمْ إِلَى إِمَامٍ فعال، أحوج منكم إلى إمام قوال، وسأعد مَا أَقُولُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَلَّى الْجُمْعَةَ، فَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصحابة. ولأن أي ما ذكرناه غير مجز وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ مِنْهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْوَارِدُ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَاسْعَوْا إلى ذكر الله " سُبْحَانَهُ، وَفِعْلُهُ الْمَنْقُولُ خُطْبَةٌ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَصَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا دُونَهُ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْمُتَعَارَفِ فِي الشرع إنما هي جمع كلام اختلف أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ، وَهُوَ بِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَا يَكُونُ خَطِيبًا عُرْفًا وَلَا شَرْعًا، وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ ظُهْرٌ مَقْصُورٌ بِشَرَائِطَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِي شَرَائِطِهَا إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَوْ مَا يُجْمَعُ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ ثَابِتٌ بِهِمَا جَمِيعًا، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ لِصَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِيَ مِنْهَا مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الذِّكْرِ كَالْأَذَانِ.
الْجَوَابُ: أَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ فِيهَا مُجْمَلٌ. أَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بئس الخطيب(2/442)
أَنْتَ " فَحُجَّةٌ لَنَا، لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ خَطِيبًا، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ لِيَصِحَّ اقْتِرَانُ الِاسْمِ بِهِ، كما نهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ فَسَمَّاهُ نِكَاحًا لِيُلْحِقَ الْفَسَادَ بِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أُرْتِجَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِتْيَانِهِ بِالْوَاجِبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خُطْبَةِ الْبَيْعَةِ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ: فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ بِهِمَا، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِحْرَامِ: انْعِقَادُ الصَّلَاةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخُطْبَةِ: الْمَوْعِظَةُ، وَبِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ لَا يَكُونُ وَاعِظًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذِّكْرَ لَا يُجْزِئُ فَلَا بُدَّ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ وَهِيَ: حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ أَقَلُّ الْخُطْبَةِ كَأَقْصَرِ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: إِنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَوَعَظَ، أَجْزَأَهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَقَاوِيلَ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ مُجْمَلٌ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْأُمِّ مُفَسَّرٌ. وَأَمَّا الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ فَتَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ أَيْضًا: حَمْدُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْوَصِيَّةُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَدَلًا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَى.
وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ خُطْبَةَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ تَجْمَعُ الْحَمْدَ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والوعظ، والقراءة في احديهما وَالدُّعَاءَ فِي الْأُخْرَى، فَاقْتَصَرْنَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأَخِيرَةِ بِآيَةٍ، لِتَكُونَ مُمَاثِلَةً لِلْأُولَى، وَيَقُولَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَخِيرَةِ جَازَ، وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأَخِيرَةِ وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُولَى جَازَ، فَقَدْ غَلِطَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَقَالَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ عَلَى جَوَازِهِ فَقَالَ: وَلَوْ قَرَأَ فِي الْأُولَى أَوْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى أَوْ قَرَأَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا أَجْزَأَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ بَعْضَ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى بَعْضٍ أَجْزَأَهُ، لَأَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا غَيْرُ وَاجِبٍ. نَصَّ عليه الشافعي.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الطَّهَارَةُ لِلْخُطْبَةِ فَمَأْمُورٌ بِهَا، فَإِنْ خَطَبَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَقَدْ أَسَاءَ وَفِي إجزائه قولان:(2/443)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْقَدِيمِ: " وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَحْبَبْتُ أَنْ يَنْزِلَ، وَيَتَطَهَّرَ، وَيَعُودَ لِيَبْنِيَ عَلَى خُطْبَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ وَمَضَى عَلَى خُطْبَتِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ ". وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِهِ كَالْأَذَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَا تُجْزِئُهُ إِلَّا بِطَهَارَةٍ، لِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ كَانَتِ الطَّهَارَةُ مِنْ شَرْطِ الرَّكْعَتَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مِنْ شَرْطِ الْخُطْبَتَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا حُصِرَ الْإِمَامُ لُقِّنَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْإِمَامُ إِذَا حُصِرَ فِي خُطْبَتِهِ وَأُرْتِجَ عَلَيْهِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ زَالَ حَصْرُهُ وَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ أَوْ فِي قِرَاءَتِهِ فَهَذَا يُلَقَّنُ، وَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ أَفِيكُمْ أُبَيٌّ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ هَلَّا ذَكَّرْتَنِي، فَقَالَ مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَرَى أَبَيًّا يُلَقِّنُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وروي عن علي ابن أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ " إِذَا اسْتَطْعَمَكُمُ الْإِمَامُ فَأَطْعِمُوهُ ". قِيلَ مَعْنَاهُ: إِذَا أُرْتِجَ عَلَى الْإِمَامِ فَلَقِّنُوهُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مِمَّنْ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ ازْدَادَ حَصْرُهُ، وَإِذَا تُرِكَ اسْتَدْرَكَ غَلَطَهُ، فَهَذَا يُتْرَكُ وَلَا يُلَقَّنُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السلام " إذا حصر الإمام فلا تلقنه ".
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا قَرَأَ سَجْدَةً فَنَزَلَ فَسَجَدَ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ كَمَا لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ (قَالَ) واجب أن يقرأ في الآخرة بآية ثم يقول أستغفر الله لي ولكم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْرَأَ فِي خُطْبَتِهِ آيَةَ سَجْدَةٍ، فَإِنْ قَرَأَ وَأَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى مِنْبَرِهِ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ السُّجُودُ عَلَى مِنْبَرِهِ فَإِنْ نَزَلَ وَسَجَدَ جَازَ، وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ وَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ وَسَجَدَ، ثُمَّ قَرَأَ بَعْدَ ذَلِكَ سَجْدَةً فَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَلَمْ يَسْجُدْ، وَقَالَ: عَلَى رِسْلِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ.(2/444)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْزِلَ لِلسُّجُودِ، لِأَنَّ السُّجُودَ سُنَّةٌ وَالْخُطْبَةَ وَاجِبَةٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ الْوَاجِبُ اشْتِغَالًا بِالسُّنَّةِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ سَلَّمَ رَجُلٌ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَرِهْتُهُ وَرَأَيْتُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ وينبغي تشميت العاطس لأنها سنة وقال في القديم لا يشمته ولا يرد السلام إلا إشارة (قال المزني) رحمه الله قلت: أنا الجديد أولى به لأن الرد فرض والصمت سنة والفرض أولى من السنة وهو يقول إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كلم قتله ابن أبي الحقيق في الخطبة وكلم سليكا الغطفاني وهو يقول يتكلم الرجل فيما يعنيه ويقول لو كانت الخطبة صلاة ما تكلم فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال المزني) وفي هذا دليل على وما وصفت، وبالله التوفيق ".
قال الماوردي: وهذا صحيح. قد ذكرنا حكم الْإِنْصَاتَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَأَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَاجِبٌ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَحُكْمُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ أَوِ اسْتِحْبَابِهِ سَوَاءٌ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ.
فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَالْكَلَامُ كُلُّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: مَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ.
وَالثَّالِثُ: مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ.
فَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ: كَإِنْذَارِ ضَرِيرٍ قَدْ كَادَ أَنْ يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ أَوِ الْإِنْذَارِ مِنْ سَبُعٍ أَوْ حَرِيقٍ.
وَأَمَّا مَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ: كَالرَّجُلِ الَّذِي قَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَنَا.
فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ غَيْرُ مُحَرَّمَيْنِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لَا يَخْتَلِفُ.
فَأَمَّا مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَعْنِيهِ فِي نَفْسِهِ: كَالْمُحَادَثَةِ وَالِاسْتِخْبَارِ فَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ الْكَلَامِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنَّهْيِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
فَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الرَّدَّ وَالتَّشْمِيتَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ.(2/445)
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّدَّ وَالتَّشْمِيتَ حَرَامٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ إِشَارَةً بِيَدِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ كَانَ مُحَرَّمًا وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ، قِيلَ: لِأَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَالرَّدَّ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَفُرُوضُ الْأَعْيَانِ أَوْكَدُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ رَدَّ السَّلَامِ مُحَرَّمٌ وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، لِأَنَّ السَّلَامَ وَضَعَهُ فَيَ غَيْرِ مَوْضِعِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ، وَالْعَاطِسَ عَطَسَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى وَضْعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فاستحق التشميت.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " والجمعة خلف كل إمام صَلَّاهَا مِنْ أَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ وَمُتَغَلِّبٍ عَلَى بَلَدٍ وَغَيْرِ أَمِيرٍ جَائِزَةٌ وَخَلْفَ عَبْدٍ وَمُسَافِرٍ كَمَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
صَلَاةُ الْجُمْعَةِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِ السُّلْطَانِ، وَمَنْ أَدَّاهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِشَرَائِطِهَا انْعَقَدَتْ بِهِ، وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ مِنْ قَاضٍ أَوْ شُرْطِيٍّ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُقِيمُهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يُوَلِّيهِ إِقَامَتَهَا مِنْ قِبَلِهِ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ " قَالُوا: وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ يَلْزَمُ الْكَافَّةَ لَا يُقِيمُهُ إِلَّا وَاحِدٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقِيمَهُ إِلَّا السُّلْطَانُ كَالْحُدُودِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَوَى السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ فِي جَوَازِ إِقَامَتِهَا لَاسْتَوَيَا فِي الِاخْتِيَارِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِمَامَةِ السُّلْطَانِ أَوْلَى دَلِيلٍ عَلَى عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي جَوَازِ الْإِمَامَةِ.
وَدَلِيلُنَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ " وَقِيلَ إِنَّ عليا بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمْعَةَ وَالْعِيدَ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْصُورٌ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَ صَلَّاهَا إِمَامًا وَلَا أَمِيرًا، وَقَدْ أَخْرَجَ النَّاسُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَقَدَّمُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ وَأَخْرَجُوا الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، وَقَدَّمُوا ابْنَ مَسْعُودٍ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمْعَةَ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهَا بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَفْتَقِرَ إِقَامَتُهَا إِلَى سُلْطَانٍ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِقَامَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بنفسه: فلذلك بَيَانٌ لِأَفْعَالِهَا، لِأَنَّ الْبَيَانَ إِذَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ لَمْ تُعْتَبَرْ فِيهِ صِفَاتُ الْفَاعِلِ، وَلَوِ اعْتُبِرَ كَوْنُهُ سُلْطَانًا لَاعْتُبِرَ كَوْنُهُ نَبِيًّا.
وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْحُدُودِ لَا يَصِحُّ، لِمَا يُتَخَوَّفُ مِنَ التَّحَامُلِ فِي الْحُدُودِ لِطَلَبِ التَّشَفِّي،(2/446)
وَذَلِكَ مَأْمُونٌ فِي الْجُمْعَةِ، عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ قَدِ اسْتَوَى فِي وُجُوبِهَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْحُدُودِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ جُمُعَتُهُ أَوْلَى دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِهِ: فَغَلَطٌ، لِأَنَّنَا قَدَّمْنَا جُمُعَتَهُ تَرْجِيحًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى، فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ إِتْيَانَهَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " خَلْفَ كُلِّ أَمِيرٍ " أَرَادَ بِهِ: الْإِمَامَ، وَقَوْلُهُ " أَوْ مَأْمُورٍ " أَرَادَ بِهِ مَنْ يُقِيمُهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَقَوْلُهُ " أَوْ مُتَغَلِّبٍ عَلَى بَلَدٍ " أَرَادَ بِهِ: الْخَارِجِيَّ وَمَنْ تَغَلَّبَ عَلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ، وَقَوْلُهُ " وَغَيْرِ أَمِيرٍ " أَرَادَ بِهِ: الْعَامِّيَّ الَّذِي لَيْسَ بِإِمَامٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْ إِمَامٍ ولا متغلب عليه.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْجُمْعَةُ خَلْفَ الْعَبْدِ فَجَائِزٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَصِحُّ الْجُمْعَةُ خَلْفَ الْعَبْدِ لِعَدَمِ كَمَالِهِ. وَدَلِيلُنَا: مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدًا كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمْعَةَ وَالصَّلَوَاتِ بِالرَّبَذَةِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ إِمَامَتَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَهُمْ فِي الْجُمْعَةِ كَالْحُرِّ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ فَفِي جَوَازِ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي الْجُمْعَةِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يؤمكم أقرأكم ".
وَالثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ لَا يَجُوزُ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي الْجُمْعَةِ وَإِنْ جَازَتْ فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ، لِوُجُوبِ الْجَمَاعَةِ لَهَا، فَلَمْ تَصِحَّ إِقَامَتُهَا إِلَّا بِكَامِلٍ يَلْزَمُهُ الْفَرْضُ. فَإِذَا جَازَتْ إِمَامَةُ الْعَبْدِ وَإِمَامَةُ الصَّبِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ تَنْعَقِدِ الْجُمْعَةُ إِلَّا بِأَرْبَعِينَ أَحْرَارٍ بَالِغِينَ سِوَى الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ حُرًّا بَالِغًا انْعَقَدَتْ بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا تَصِحُّ الْجُمْعَةُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ زَائِدًا عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْصُوصُهُ في جميع كتبه خلاف هذا.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يُجَمَّعُ فِي مِصْرٍ وَإِنْ عَظُمَ وَكَثُرَتْ مَسَاجِدُهُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. لَا تَنْعَقِدُ جُمْعَتَانِ فِي مِصْرٍ، وَلَا يَجُوزُ إِقَامَتُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي حنيفة.
وَقَالَ أبو يوسف: إِذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارَتَيْنِ انْعَقَدَتْ فِيهِ جُمْعَتَانِ. وَقَالَ محمد بن الحسن: تَنْعَقِدُ جُمْعَتَانِ فِي كُلِّ بَلَدٍ وَلَا تَنْعَقِدُ ثَلَاثُ جُمَعٍ. وَأَجْرَوْا ذَلِكَ مُجْرَى صَلَاةِ الْعِيدِ. وهذا غلط.(2/447)
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: أَنَّ الْجُمْعَةَ وَشَرَائِطَهَا مُرْتَبِطٌ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَحْدُودٌ فِيهِ، فَلَا يُتَجَاوَزُ حُكْمُهَا عَنْ شَرْطِهِ وَفِعْلِهِ، فَكَانَ مِمَّا وَصَفَ بِهِ الْجُمْعَةَ وَجَعَلَهُ شَرْطًا لَهَا أَنْ عَطَّلَ لَهَا الْجَمَاعَاتِ وَأَقَامَهَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ انْتِشَارِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتِهِمْ ثُمَّ جَرَى عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَهُ، وَلَوْ جَازَتْ فِي مَوْضِعَيْنِ لَأَبَانَ ذَلِكَ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً إِمَّا بِقَوْلِهِ أَوْ بِفِعْلِهِ، وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَصِحَّ انْعِقَادُهَا فِي كل مسجد إلحاقا بصلاة الجماعة، أولا يَصِحَّ انْعِقَادُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ اخْتِصَاصًا لَهَا بِتَعْطِيلِ الْجَمَاعَةِ إِذْ لَيْسَ أَصْلٌ ثَابِتٌ تُرَدُّ إِلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ انْعِقَادُهَا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ انْعِقَادُهَا إِلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ.
وَلِأَنَّهُ مِصْرٌ انْعَقَدَتْ فِيهِ الْجُمْعَةُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ فِيهِ غَيْرُهَا كَالْجُمْعَةِ الثَّالِثَةِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالسَّعْيِ عِنْدَ إِقَامَتِهَا، فَلَوْ جَازَ إِقَامَتُهَا فِي مَوْضِعَيْنِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ السَّعْيُ إِلَيْهِمَا، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ مِنَ الْآخَرِ، وَسَعْيُهُ إِلَيْهِمَا مُسْتَحِيلٌ، وَإِلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِهِ.
وَلِأَنَّ الْجُمْعَةَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الَّتِي شُرِطَ فِيهَا الْعَدَدُ وَالْجَمَاعَةُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ فِي مَوْضِعَيْنِ، كَمَا لَا تَنْعَقِدُ الْبَيْعَةُ لِإِمَامَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: إِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا فَالْبِلَادُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَ مُدُنًا مُتَقَارِبَةً وَقُرًى مُتَدَانِيَةً اتَّصَلَتْ بُنْيَانُهَا وَاجْتَمَعَتْ مَسَاكِنُهَا كَبَغْدَادَ فَيَجُوزُ أَنْ تُقَامَ فِيهِ الْجُمْعَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَكْثَرَ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَهْلِهَا، وَقَدْ دَخَلَ الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْبِلَادِ: مَا كَانَ مِصْرًا لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيُمْكِنُ جَمِيعَهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ كَالْكُوفَةِ فَهَذَا الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُقَامَ الْجُمْعَةُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنَ الْبِلَادِ: مَا كَانَ مِصْرًا لَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ جَمِيعَهُمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ لِسَعَتِهِ وَكَثْرَةِ أَهْلِهِ كَالْبَصْرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِقَامَةِ الْجُمْعَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا سَبَقَ مِنَ الدَّلَالَةِ، وَيُصَلِّي النَّاسُ إِذَا ضَاقَ بِهِمْ الشَّوَارِعِ وَالْأَفْنِيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَفْتَى بِهِ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ تَجُوزُ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ فِي مَوَاضِعَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ هَذَا الْمِصْرِ الْعَظِيمِ أَنْ(2/448)
يُصَلُّوا إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَطَالَ اتِّصَالُ الصُّفُوفِ، وَلَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْمُتَعَارَفِ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ إِنْ كَبَّرَ عَلَى الْعَادَةِ لَمْ يَصِلِ التَّكْبِيرُ إِلَى آخِرِهِمْ إِلَّا بَعْدَ تَكْبِيرِهِ لِرُكْنٍ ثَانٍ، فَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ التَّكْبِيرُ، وَتَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ، وَإِنْ كَبَّرَ وَانْتَظَرَ بُلُوغَ التَّكْبِيرِ إِلَى آخِرِهِمْ طَالَ الزَّمَانُ، وَتَفَاحَشَ الِانْتِظَارُ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِقَامَتِهَا فِي مَوَاضِعَ. فَزَعَمَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ الْجَوِينَ غَيْرُ الْبَصْرَةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ دَسْكَرَةً وَأُضِيفَتْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَازَ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ بِهَا وجها واحدا والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَيُّهَا جُمِّعَ فِيهِ فَبَدَأَ بِهَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَهِيَ الْجُمُعَةُ وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّمَا هِيَ ظُهْرٌ يصلونها أربعا لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ومن بعده صلوا في مسجده وحول المدينة مساجد لا نعلم أحدا منهم جمع إلا فيه ولو جاز في مسجدين لجاز في مساجد العشائر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا أُقِيمَتْ جمعتان في مصر واحدا قَدْ مُنِعَ أَهْلُهُ مِنْ إِقَامَةِ جُمْعَتَيْنِ فِيهِ فلهما حالان:
أحدهما: أن تتفق أَوْصَافِهِمَا. وَالثَّانِي: أَنْ تَخْتَلِفَ.
فَإِنِ اتَّفَقَتْ أَوْصَافُهُمَا فَكَانَا سَوَاءً فِي الْكَثْرَةِ، وَإِذْنِ السُّلْطَانِ، أَوْ حُضُورِ نَائِبٍ عَنْهُ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمُ السُّلْطَانُ، وَلَا حَضَرَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، فَهُمَا حِينَئِذٍ فِي الْأَوْصَافِ سَوَاءٌ، فَيُعْتَبَرُ السَّبْقُ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي السَّبْقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَا فِيهِ سَوَاءً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَتَعَيَّنَ
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ سَبَقَ وَقَدْ أُشْكِلَ
وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ هَلْ صَلَّيَا مَعًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ أَسْبَقَ.
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَسْتَوِيَا فَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ: فَقَدْ بَطَلَتِ الْجُمْعَتَانِ مَعًا، وَعَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمْعَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ، وَإِنَّمَا بَطَلَتَا مَعًا لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إِقَامَتُهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ أَبْطَلْنَاهُمَا مَعًا، كَمَنْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي حَالِهِ.
وَالْقِسْمِ الثَّانِي: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيَتَعَيَّنَ فَالْجُمْعَةُ لِلسَّابِقِ، وَيُعِيدُ الْآخِرُ ظُهْرًا أَرْبَعًا، لِأَنَّ انْعِقَادَ الْجُمْعَةِ لِلسَّابِقِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِهَا لِلثَّانِي، كَالْوَلِيَّيْنِ إِذَا أَنْكَحَا وَسَبَقَ بِالْعَقْدِ أَحَدُهُمَا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيُشْكِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا إِعَادَةُ الصَّلَاةِ،(2/449)
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمَا لِحُصُولِ الْجُمْعَةِ لَهُمَا فِي الظَّاهِرِ، فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهَا بِالشَّكِّ الطَّارِئِ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْيَقِينَ ثُبُوتُ الْجُمْعَةِ فِي الذِّمَّةِ، وَالشَّكَّ طَارِئٌ فِي سُقُوطِهَا عَنِ الذِّمَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ بَاقِيًا لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِيَقِينٍ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِعَادَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمَا فَهَلْ يُعِيدَانِ جُمْعَةً أَوْ ظُهْرًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّ فَرْضَهَا لَمْ يَسْقُطْ. وَالْقَوْلُ الثَّانِيَ: عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ أُقِيمَتْ مَرَّةً، وَلَيْسَ جَهْلُنَا بِأَيِّهِمَا الْجُمْعَةُ جَهْلًا بِأَنَّ فِيهِمَا جُمْعَةً، وَإِذَا أُقِيمَتِ الْجُمْعَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَجُزْ إِقَامَتُهَا ثَانِيَةً.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يُشْكِلَ الْأَمْرُ فِيهِمَا، فَلَا يُعْلَمُ هَلْ صَلَّيَا مَعًا أَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا إِعَادَةُ الْجُمْعَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَدْ صَلَّيَا مَعًا، فَلَا تنعقد الجمعة لواحد منهما.
(فصل)
: وإذا اختلف أَوْصَافُهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَعْظَمَ لِحُضُورِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِي السَّبْقِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْبِقَ الْأَعْظَمُ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْأَصْغَرُ: فَالْجُمْعَةُ لِلْأَعْظَمِ السَّابِقِ، وَيُعِيدُ الْأَصْغَرُ ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِيَ: أَنْ يَسْبِقَ الْأَصْغَرُ ثُمَّ يَتْلُوهُ الْأَعْظَمُ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُمْعَةَ لِلْأَصْغَرِ السَّابِقِ، لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي انْعِقَادِهَا، فَلَمْ يَكُنْ حُضُورُهُ مُؤَثِّرًا، وَوَجَبَ اعْتِدَادُ الْجُمْعَةِ لِلْأَسْبَقِ مِنْهُمَا، فَعَلَى هَذَا يُعِيدُ أَهْلُ الْأَعْظَمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْجُمْعَةَ للأعظم وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا، لِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ جُمْعَةِ الْأَصْغَرِ إِذَا كَانَ سَابِقًا افْتِيَاتًا عَلَى السُّلْطَانِ، وَتَعْطِيلًا لَجُمْعَتِهِ، وَإِشْكَالًا عَلَى النَّاسِ فِي قَصْدِ مَا تَصِحُّ بِهِ الْجُمْعَةُ، وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِفْسَادِ الصَّلَاةِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى السَّبْقِ طَمَعًا فِي حُصُولِ الْجُمْعَةِ، وَلَكَانَ ذَلِكَ مُؤَدِّيًا إِلَى أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ أَرْبَعُونَ فَأَقَامُوا الْجُمْعَةَ فِي مَسْجِدٍ لَا تَظْهَرُ إِقَامَتُهَا ظُهُورًا عَامًّا أَنْ يَمْتَنِعَ السُّلْطَانُ وَبَاقِي النَّاسِ مِنْ إِقَامَتِهَا، فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْفَسَادِ وَجَبَ تَصْحِيحُ جُمْعَةِ الْأَعْظَمِ وَإِنْ كَانَ مَسْبُوقًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَاهَا مَعًا وَلَا يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُمْعَةَ لِلْأَعْظَمِ وَعَلَى أَهْلِ الْأَصْغَرِ أَنْ يُعِيدُوا ظُهْرًا أَرْبَعًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ لَا جُمْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا إِقَامَتَهَا فِيهِ ثَانِيَةً.(2/450)
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَسْبِقَ أَحَدُهُمَا وَيُشْكِلَ: فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ الْجُمْعَةُ لِلْأَعْظَمِ إِذَا اعْتَبَرْنَا حُضُورَ السُّلْطَانِ دُونَ السَّبْقِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا جُمْعَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا اعْتَبَرْنَا السَّبْقَ، فَعَلَى هَذَا تَلْزَمُهُمُ الْإِعَادَةُ، قَوْلًا وَاحِدًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا قَدْ صليا معا.
(فصل)
: فأما ما يعتبر في السَّبْقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَذَكَرُهُ الْمُزَنِيُّ فِي " جَامِعِهِ " إِنَّ اعْتِبَارَ السَّبْقِ: بِالْإِحْرَامِ، فَأَيُّهُمَا أَحْرَمَ أَوَّلًا كَانَ سَابِقًا وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَسْبَقَ سَلَامًا، لِأَنَّ الْجُمْعَةَ تَنْعَقِدُ بِالْإِحْرَامِ، وَإِذَا انْعَقَدَتْ بِهِ مَنَعَتْ مِنَ انْعِقَادِ غَيْرِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالسَّلَامِ، فَأَيُّهُمَا سَلَّمَ أَوَّلًا كَانَ سَابِقًا وَإِنْ كَانَ الْأَخِيرُ أَسْبَقَ إِحْرَامًا، لِأَنَّ سُقُوطَ الْفُرُوضِ يَكُونُ بِصِحَّةِ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْفَرَاغِ دُونَ الْإِحْرَامِ. والأول أصح.(2/451)
(باب التبكير إلى الجمعة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أنبأنا سفيان بن عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهُرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أقرن وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قرب بيضة قال فإذا خرج الْإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالْبُكُورُ إِلَى الْجُمْعَةِ مُسْتَحَبٌّ بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَغَسَلَ وَاغْتَسَلَ وَغَدَا وَانْتَظَرَ وَأَنْصَتَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَتْ كَفَارَةً لَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ " وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَكَّرَ " يَعْنِي فِي الزَّمَانِ. وَ " ابْتَكَرَ " يَعْنِي فِي الْمَكَانِ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ حَضَرَتِ الْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، حَتَّى إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ " يَعْنِي الصُّحُفَ الَّتِي يُكْتَبُ فِيهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا بَكَّرَ مُنْتَظِرًا لِلصَّلَاةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّينَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي الصَّلَاةِ مَا كَانَ يَعْمِدُ لِلصَّلَاةِ " فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا لَهُ الْبُكُورَ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَوَّلِ زَمَانِ الْبُكُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْيَوْمِ الثَّانِي.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِيَكُونَ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ زَمَانَ غُسْلٍ وَتَأَهُّبٍ.
فَإِذَا بَكَّرَ فِي الزَّمَانِ فَيُخْتَارُ أَنْ يُبَكِّرَ فِي الْمَكَانِ، فَيَجْلِسَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، قَالَ(2/452)
الشَّافِعِيُّ: وَلَا فَضْلَ لِلْمَقْصُورَةِ عَلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّهُ شَيْءٌ مُحْدَثٌ، قِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُ مُعَاوِيَةُ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الصَّفَّ الْأَوَّلَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى " وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النداء والصف الأول ثم لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا ".
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أن الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَى الْإِمَامِ ثُمَّ عَلَى الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ عَلَى الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذين يلونهم ".
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأُحِبُّ التَّبْكِيرَ إِلَيْهَا وَأَنْ لَا تُؤْتَى إِلَّا مَشْيًا لَا يَزِيدُ عَلَى سَجِيَّةِ مِشْيَتِهِ وَرُكُوبِهِ وَلَا يُشَبِّكُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِقُوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلَاةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. يُكْرَهُ الرُّكُوبُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَيُخْتَارُ إِتْيَانُهَا مَشْيًا، لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: " مَا رَكِبَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ ". وَلِمَا فِيهِ مِنْ أَذَى النَّاسِ وَمُزَاحَمَتِهِمْ، وَيُخْتَارُ إِذَا مَشَى أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى سَجِيَّتِهِ فِي مِشْيَتِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْعَى إِلَى الْجُمْعَةِ سَعْيًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إلى ذكر الله} وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، وَهُوَ عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ وَتَسْعَوْنَ سَعْيًا فَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا ". وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِجَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ: " ائْتِ الْجُمُعَةَ عَلَى هِينَتِكَ " فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَؤُهَا: فَامْضُوا إلى ذكر الله، ومن قرأها " فاسعوا " قَالَ أَرَادَ بِهِ الْقَصْدَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقَالَ قيس بن الأسلت:
(أسعى على جل بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِئٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ السَّعْيُ لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي. وَيُخْتَارُ لِمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْجُمْعَةِ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ قَصْدِهِ، وَلَا يَعْبَثَ بِيَدِهِ، وَلَا يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا انْتَظَرَ أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَيْهَا ".(2/453)
(باب الهيئة إلى الجمعة)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي جُمْعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِيدَا لِلْمُسْلِمِينَ فَاغْتَسِلُوا وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ وَعَلَيْكُمْ بالسواك ". (قال الشافعي) رحمه الله تعالى وَأُحِبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِغُسْلٍ وَأَخْذِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَعِلَاجٍ لِمَا يَقْطَعُ تَغْيِيرَ الرِّيحِ مِنْ جَمِيعِ جسده وسواك ويستحسن ثيابه ما قدر عليه ويطيبها اتباعا للسنة ولئلا يؤذي أحدا قاربه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. قَدْ ذَكَرْنَا اسْتِحْبَابَ غُسْلِ الْجُمْعَةِ وَالْبُكُورِ إِلَيْهَا لَكِنْ يُخْتَارُ ذَلِكَ بَعْدَ حَلْقِ الشَّعْرِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ وَتَنْظِيفِ الْجَسَدِ مِنَ الْوَسَخِ، وَعِلَاجِ مَا يَقْطَعُ الرَّائِحَةَ والمؤذية مِنَ الْجَسَدِ، وَالسِّوَاكِ، وَمَسِّ الطِّيبِ، وَلُبْسِ أَنْظَفِ الثِّيَابِ لِيَكُونَ عَلَى أَحْسَنِ هَيْئَةٍ وَأَجْمَلِ زِيٍّ، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاسْتَاكَ، وَلَبِسَ أَحَسَنَ ثِيَابِهِ، وَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَهُ، وَأَتَى الْجُمُعَةَ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ، وَأَنْصَتَ حَتَى يَخْرُجَ الْإِمَامُ، كَانَتْ كَفَارَتُهُ مِنَ الْجُمْعَةِ إِلَى الَّتِي تَلِيهَا ".
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 16] .
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَحَبُّ مَا يُلْبَسُ إِلَيَّ الْبَيَاضُ فَإِنْ جَاوَزَهُ بِعُصَبِ الْيَمَنِ وَالْقَطَرِيِّ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يُصْنَعُ غَزْلُهُ وَلَا يُصْبَغُ بَعْدَ مَا يُنْسَجُ فَحَسَنٌ وأكره للنساء الطيب وما يشتهون به وأحب للإمام من حسن الهيئة أكثر وأن يعتم ويرتدي ببرد فإنه يقال كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعتم ويرتدي ببرد ".(2/454)
قال الماوردي: بعدما ينسج، فحسن. الباب إلى آخره وَهَذَا كَمَا قَالَ. يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ تَكُونَ ثِيَابُ جُمْعَتِهِ وَعِيدِهِ أَجْمَلَ مِنْ ثِيَابِهِ فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ، لِأَنَّهُ يَوْمُ زِينَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ جُمْعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مَهِنَتِهِ.
وَيُخْتَارَ من الثياب البياض، فيلبسه أحياءكم وَكَفِّنُوا بِهَا مَوْتَاكُمْ فَإِنِ اسْتَحْسَنَ لُبْسَ غَيْرِ الْبَيَاضِ فَالْمُخْتَارُ مِنْهُ مَا صُبِغَ غَزْلُهُ قَبْلَ نسجه كالحلل، والأبراد والقطري، وعصب اليمين، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْتَدِي بِرِدَاءٍ أَسْحَمِيٍّ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَعْتَمَّ وَيَرْتَدِيَ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ ".
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَعْمَلَ مِنَ الطيب ما كان ذكي الرَّائِحَةِ خَفِيَّ اللَّوْنِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " طِيبُ الرَّجُلِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَبَطُنَ لَوْنُهُ، وَطِيبُ الْمَرْأَةِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَبَطُنَ رِيحُهُ ". وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ وَجَمَالِ الزِّيِّ أَكْثَرُ مِمَّا يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ لِأَنَّهُ مُتَّبَعٌ.
فَأَمَّا النِّسَاءُ فَمَنْ كَانَتْ ذَاتَ هَيْئَةٍ وَجِمَالٍ مُنِعَتْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْجُمْعَةِ، صِيَانَةً لَهَا، وَخَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِهَا، فَأَمَّا غَيْرُ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ فَلَا يُمْنَعْنَ، وَيَخْرُجْنَ غَيْرَ مُتَزَيِّنَاتٍ، وَلَا مُتَطَيِّبَاتٍ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ ".
(فَصْلٌ)
: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا لَا يَصِلُ إِلَى مُصَلَّاهُ إِلَّا بِالتَّخَطِّي، أَوْ يَكُونَ مَأْمُومًا لَا يَجِدُ مَوْضِعًا وَيَرَى أَمَامَهُ فُرْجَةً، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَخَطَّى لِلضَّرُورَةِ صَفًّا أَوْ صَفَّيْنِ.
وَإِنَّمَا كَرِهْنَا التَّخَطِّيَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَذَى، وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَهُ: آنَيْتَ وَآذَيْتَ. يَعْنِي أَنَّهُ أبطأ بالمجيء(2/455)
وَآذَى النَّاسَ بِتَخَطِّي رِقَابِهِمْ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " لَأَنْ أُصَلِّيَ بِحَرَّةٍ رَمْضَاءَ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ " وَأَغْلَظُ فِي الْكَرَاهَةِ أَنْ يَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ بِنَعْلِهِ.
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " وَأَكْرَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيَجْلِسَ فِي مَوْضِعِهِ، لِمَا لِلْأَوَّلِ مِنْ حَقِّ السَّبْقِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى يَخْلُفَهُ فِيهِ وَلْيَقُلْ تَوَسَّعُوا وَتَفَسَّحُوا " فَإِنْ قَامَ الرَّجُلُ لَهُ مُخْتَارًا عَنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ، وَكَرِهْنَا ذَلِكَ لِلْقَائِمِ إِلَّا أَنْ يَعْدِلَ لِمِثْلِ مَجْلِسِهِ أَوْ خَيْرٍ مِنْهُ لِقُرْبِهِ مِنَ الْإِمَامِ، فَلَوْ بَعَثَ رَجُلًا يَأْخُذُ لَهُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَوْضِعًا لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِغُلَامِهِ لِيَأْخُذَ لَهُ مَوْضِعًا، فَإِذَا جَاءَ جَلَسَ فِيهِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ أَرَادَ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ كَرِهْنَا لَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مَوْضِعٍ أَفْضَلَ مِنْ مَوْضِعِهِ، أَوْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ فَأَرَادَ الِانْتِقَالَ لِطَرْدِ النَّوْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعَارِضٍ، ثُمَّ عَادَ وَقَدْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ فَالسَّابِقُ إِلَى الْمَوْضِعِ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَائِدِ إِلَيْهِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَحَّى لَهُ عَنِ الْمَوْضِعِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثم عاد إليه فهو أحق به ".
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْبَيْعُ قَبْلَ أَذَانِ الْجُمْعَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا بَعْدَ الْأَذَانِ فَمَكْرُوهٌ لِنَهْيِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ لَزِمَهُ الذَّهَابُ إِلَى الْجُمْعَةِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الذَّهَابُ إِلَيْهَا فَمُبَاحٌ لَهُ الْبَيْعُ، وَإِنْ بَاعَ لِمَنْ لزمه الذهاب إليها فمكروه، ويكره لا يَلْزَمُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَاوَنَهُ عَلَى مَحْظُورٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَالْبَيْعُ لا يبطل بحال وإن كن مَحْظُورًا، لِأَنَّ الْحَظْرَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِنَفْسِ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِاشْتِغَالِهِ عَنِ الذَّهَابِ.
(فَصْلٌ)
: رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ ".
وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَرَكَ الْجُمْعَةَ غَيْرَ مَعْذُورٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَلَا يَلْزُمُهُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِحَالٍ.(2/456)
(فَصْلٌ)
: وَتُخْتَارُ الزِّيَادَةُ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَالْإِكْثَارِ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ وَيَوْمِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنِّي فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُكُمْ صَلَاةً عَلَيَّ أَلَا فَأَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ فِي اللَّيْلَةِ الْغَرَّاءِ وَالْيَوْمِ الْأَزْهَرِ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَةِ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَرَأَهَا وُقِيَ فِتْنَةَ الدَّجَّالِ.
والله المعين وبالله التوفيق.(2/457)
(باب صلاة الخوف)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا صَلَّوْا فِي سَفَرٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ مِنْ عَدُوٍّ غَيْرِ مَأْمُونٍ صَلَى الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً وطائفة وجاءه الْعَدُوِّ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَامَ فَثَبَتَ قَائِمًا وَأَطَالَ الْقِيَامَ وَأَتَمَّتِ الطَّائِفَةُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ عليها تقرأ بأم القرآن وسورة وتخفف ثم تسلم وتنصرف فتقف وجاء العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي بقيت عليه فيقرأ فيها بعد إتيانهم بأم القرآن وسورة قصيرة ويثبت جالسا وتقوم الطائفة فتتم لأنفسها الركعة التي بقيت عليها بأم القرآن وسورة قصيرة ثم تجلس مع الإمام قدر ما يعلمهم تشهدوا ثم يسلم بهم وقد صلت الطائفة جميعا مع الإمام وأخذت كل واحدة منهما مع إمامها ما أخذت الأخرى منه واحتج بقول الله تبارك وتعالى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] الآية وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فعل نحو ذلك. يوم ذات الرقاع.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَالْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) {النساء: 102) الْآيَةَ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي مَوَاضِعَ ذَكَرَهَا أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ.
وَالصَّحِيحُ الثَّابِتُ مِنْهَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ: وَهِيَ صَلَاتُهُ بِ " ذَاتِ الرِّقَاعِ " وَصَلَاتُهُ بِ " عُسْفَانَ " وَصَلَاتُهُ بِ " بَطْنِ النَّخْلِ ".
فَأَمَّا صَلَاتُهُ بِ " ذَاتِ الرِّقَاعِ " فَرَوَاهَا مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ أَبِيهِ أَوْ قَالَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثَمَةَ.(2/458)
وَأَمَّا صَلَاتُهُ بِعُسْفَانَ: فَرَوَاهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَمَّا صَلَاتُهُ بِبَطْنِ النَّخْلِ فَرَوَاهَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَصَلَاةُ الْخَوْفِ جَائِزَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أُمَّتِهِ وَقَالَ أبو يوسف ومحمد وَالْمُزَنِيُّ صَلَاةُ الْخَوْفِ مَخْصُوصَةٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُونَ أُمَّتِهِ، وَهِيَ الْيَوْمَ مَنْسُوخَةٌ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] فَدَلَّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِفِعْلِهَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ فِعْلِهَا إِلَى الْيَوْمِ، فِعْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ".
وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " صَلَّى الْخَوْفَ بِأَصْحَابِهِ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْشَامِ ".
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِأَصْحَابِهِ وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِالنَّاسِ بِطَبَرِسْتَانَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] فَهَذَا وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُوَاجَهًا بِهَا، فَهُوَ وَسَائِرُ أُمَّتِهِ شُرَكَاءُ فِي حكمه إلا أن يرد النص بتخصصه كقوله تعالى: {خالصة لك} نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صدقة} ، وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) {الطلاق: 1) وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي) {التحريم: 1) وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1] فَكَانَ هُوَ وَأُمَّتُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُوَاجَهَ بِهِ، وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم} وَلَوْ سَاغَ لِهَذَا الْقَائِلِ تَأْوِيلُهُ فِي الصَّلَاةِ لَسَاغَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ فِي الزَّكَاةِ وَقَدْ أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى رَدِّ قَوْلِهِمْ وإبطال تأويلهم.(2/459)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ فِعْلِهَا إِلَى الْيَوْمِ فَلَا تَأْثِيرَ لِلْخَوْفِ فِي إِسْقَاطِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَلْ يُصَلِّيهَا أَرْبَعًا إِنْ كَانَ مُقِيمًا أَوْ رَكْعَتَيْنِ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي صِيَانَتِهَا وَتَغَيُّرِ صِفَةِ أَدَائِهَا وَحُكِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي السفر ركعة وبه قال الحسن وطاوس استدلال بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَبِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً ". قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ، وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْخَوْفِ شَطْرٌ آخَرُ لِتَزَايُدِ الْمَشَقَّةِ.
وَدَلِيلُنَا مَا نُقِلَ من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْأَمَاكِنِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى مَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ. فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا عن أحد فمن مَعَهُ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ مَنْ فَرْضِهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ مَا ثبت بالشرع إجماعا بما يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ وَلَا انْعَقَدَ بِهِ الْإِجْمَاعُ وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا سَاوَى الْإِمَامَ فِي صِفَتِهِ وَحَالِهِ سَاوَاهُ فِي قَدْرِ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّتِهَا كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ أَوْ مُسَافِرَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رَكْعَةٍ وَإِنْ كَانَ خَائِفًا لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى رَكْعَةٍ إِذَا كَانَ خَائِفًا.
الْجَوَابُ: أَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا رَوَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا نَقَلْنَاهُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِلَافَهُ فَلَمْ يَلْزَمْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ السَّفَرِ أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ بِهِ شَطْرُ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ كَذَلِكَ بِالْخَوْفِ: فَيَبْطُلُ بِالْإِمَامِ، عَلَى أَنَّ لِلْخَوْفِ تَأْثِيرًا فِي الصَّلَاةِ إِذَا اشْتَدَّ لِأَنَّهُ يُصَلِّي رَاكِبًا وَنَازِلًا إِلَى قِبْلَةٍ أَوْ إِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ حَسَبَ الْإِمْكَانِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخَوْفَ لَا يُسْقِطُ مِنْ عَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ شَيْئًا، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ وَصِفَةِ أَدَائِهَا، فَإِذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَيْرَ مَأْمُونٍ وَقَدِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ بِوَجْهِهِ وَاسْتَدْبَرَهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَأْمَنِ الْإِمَامُ نِكَايَةَ الْعَدُوِّ إِنْ وَلَّاهُ ظَهْرَهُ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٌ تُجَاهَ الْعَدُوِّ وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَةً، فَإِذَا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ فَارَقُوهُ وَأَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ وَالْإِمَامُ قَائِمٌ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِذَا فَرَغُوا وَقَفُوا تُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ فَصَلَّى الْإِمَامُ بِهَا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَامُوا فَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ وَالْإِمَامُ جَالِسٌ فِي التَّشَهُّدِ يَنْتَظِرُهُمْ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ سَلَّمَ بِهِمْ وَهَذِهِ صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَاتِ الرِّقَاعِ رَوَاهَا الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرِّقَاعِ وَوَصَفَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَرَوَاهُ صَالِحُ بْنُ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بن أبي خيثمة أَيْضًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُصَلِّي بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ركعة ثم تمضي فتقف بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ثُمَّ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ تَمْضِي هَذِهِ الطَّائِفَةُ وَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ثُمَّ تَخْرُجُ تِلْكَ فَتُتِمُّ(2/460)
صَلَاتَهَا وَتَقِفُ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ ثُمَّ تُتِمُّ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ صَلَاتَهَا وَنُسِبَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ إِلَى ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَذِي قَرَدَ وَرَوَاهَا سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ وَسَاقَ مَا حَكَاهُ.
وَإِذَا تَقَابَلَ الْحَدِيثَانِ وَجَبَ الِاسْتِدْلَالُ بِتَرْجِيحِ الْأَخْبَارِ وَتَقْدِيمِ أَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ بِشَوَاهِدِ الْأُصُولِ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَرَجَّحَ مَذْهَبَهُ بِشَوَاهِدِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أن قال: وجدت الأصول مبنية على الْمَأْمُومَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ إِمَامِهِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أَفْعَالِهَا مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، وَمَذْهَبُكُمْ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فِي الطَّائِفَةِ الْأُولَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ التَّرْجِيحِ أَنْ قَالَ: وَالْأُصُولُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَنْتَظِرُ الْإِمَامَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْتَظِرَ الْمَأْمُومَ، وَمَذْهَبُكُمْ يُؤَدِّي إِلَى هَذَا فِي الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ.
وَمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَصَحُّ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَقْتَضِيهِ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْأُصُولُ تَشْهَدُ لَهُ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَيَقْتَضِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] فَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] فَأَضَافَ فِعْلَ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ انْفِرَادَهُمْ بِهِ، ثُمَّ أَبَاحَهُمْ الِانْصِرَافَ بَعْدَ فِعْلِهِ فَصَارَ تَقْدِيرُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة، صَلَّيْتَ بِهِمْ رَكْعَةً} فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقِيَامِ الَّذِي هُوَ رَكْنٌ فِيهَا وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] أَيْ: صَلَّوُا الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ فَلْيَنْصَرِفُوا. فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّجُودِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِيهَا، فَسَقَطَ بِهِ مَذْهَبُ أبي حنيفة فِي الطَّائِفَةِ الْأُولَى.
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] فظاهر قوله تعالى: {لم يصلوا} أَيْ لَمْ يُصَلُّوا شَيْئًا مِنْهَا، وَظَاهِرُ قَوْله تعالى: {فليصلوا معك} أَيْ جَمِيعَ الصَّلَاةِ بِكَمَالِهَا، فَسَقَطَ بِهِ مَذْهَبُ أبي حنيفة فِي الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَيْنَاهُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَشْهَرُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رُوَاتَهُ أَكْثَرُ.
وَأَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِالْأُصُولِ: فَهِيَ تَشْهَدُ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَعَلَى تَرْجِيحِ مَذْهَبِنَا مِنْ وَجْهَيْنِ.(2/461)
فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي إِفْسَادِ مَذْهَبِهِ.
فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَشْيَ وَالْعَمَلَ إِذَا كَثُرَ فِي الصَّلَاةِ فِي حال الاجتياز أبطلها وَمَذْهَبُهُ يَقْتَضِيهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي تَرْجِيحِ مَذْهَبِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ فِي حَالِ الِاجْتِيَازِ يبطلها ومذهبه يقتضيه.
فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ تَسْوِيَةَ الْإِمَامِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْلَى ومذهبنا يقتضيه لأنه يجعل للأولى ركعة وإحرام والثانية ركعة وسلام فَتَسَاوَتِ الرَّكْعَتَانِ وَكَانَ الْإِحْرَامُ مُقَابِلًا لِلسَّلَامِ.
وَالثَّانِي: ما كان أبلغ يفي الِاحْتِرَازِ مِنَ الْعَدُوِّ كَانَ أَوْلَى وَمَذْهَبُنَا يَقْتَضِيهِ من وجهين:
أحدهما: لسرعة الفراغ.
والثاني: مَنْ يَحْرُسُ غَيْرَ مُصَلٍّ يَقْدِرُ عَلَى خَوْفِ الْعَدُوِّ وَقِتَالِهِ فَأَمَّا تَرْجِيحُهُ الْأَوَّلُ: فَيَفْسُدُ بِالْإِمَامِ إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ وَأَمَّا تَرْجِيحُهُ الثَّانِي فيفسد إِذَا كَانَ رَاكِعًا فَانْتَظَرَ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا صَحَّ أَنَّ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ أَوْلَى وَأَصَحُّ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَةً أَنْ يَقُومَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مُنْتَظِرًا لِفَرَاغِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَدُخُولِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنِ اعْتَدَلَ قَائِمًا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَخْرَجَتْ حِينَئِذٍ الطَّائِفَةُ الْأُولَى نَفْسَهَا مِنْ صَلَاتِهِ وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوُوا الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ فَإِنْ فَارَقُوهُ بغير نية بطلت صلاته لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَسْبِقَ إِمَامَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُؤْتَمٌّ بِهِ، فَإِذَا نَوَوْا إِخْرَاجَ أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ قِيَامِهِمْ أَتَمُّوا الصَّلَاةَ وَأَجْزَأَتْهُمْ.
فَلَوْ خَالَفَ الْإِمَامُ فَانْتَظَرَهُمْ جَالِسًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ فَرْضَهُ الْقِيَامُ وَمَنِ اسْتَدَامَ الْجُلُوسَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُمْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ قَبْلَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ، لِأَنَّ صَلَاتَهُ بَطَلَتْ بِاسْتِدَامَةِ الْجُلُوسِ لَا بِابْتِدَائِهِ وَهُمْ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مَعَ ابْتِدَاءِ جُلُوسِهِ فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ وَجَائِزَةٌ إِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ.
فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْتَظِرُهُمْ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ، فَهَلْ يَقْرَأُ فِي انْتِظَارِهِ قَائِمًا أَمْ لَا؟ : عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْأُمِّ: يَذْكُرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيُسَبِّحُهُ وَلَا يَقْرَأُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الطَّائِفَةِ مَعَهُ لِيُسَوِّيَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَا يُفَضِّلَ.(2/462)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ بِأَنَّهُ يَقْرَأُ، لِأَنَّ الْقِيَامَ مَحَلٌّ لِلْقِرَاءَةِ لَا لِلْإِنْصَاتِ وَالذِّكْرِ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَيَقُولُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ لَا يَقْرَأُ: إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ قَرَأَ لَمْ تُدْرِكِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مَعَهُ الْقِرَاءَةَ وَقَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ يَقْرَأُ: إِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يُدْرِكُونَ مَعَهُ الْقِرَاءَةَ وَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْكَعَ قبل دخول الثانية ومعه فَإِنْ رَكَعَ وَأَدْرَكُوهُ رَاكِعًا أَجْزَأَتْهُمُ الرَّكْعَةُ.
وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُخَالِفًا صَلَاةَ الْخَوْفِ، مُفَضِّلًا لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ فَإِذَا رَفَعَ رَأَسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، فَهَلْ يُفَارِقُونَهُ قَبْلَ تَشَهُّدِهِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَعْدَ تَشَهُّدِهِ لِأَنَّ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعَهُ إِلَى آخِرِ صَلَاتِهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَأْمُومِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ يُفَارِقُونَهُ قيل تَشَهُّدِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْرَعُ فِي الْفَرَاغِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا فَارَقُوهُ قَبْلَ التَّشَهُّدِ فَهَلْ يَتَشَهَّدُ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ.
أَحَدُهُمَا: يَتَشَهَّدُ فِي انْتِظَارِهِ، فَإِذَا أَتَمُّوا تَشَهَّدَ بِهِمْ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَجْلِسَ مُنْتَظِرًا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُسَبِّحُهُ فَإِذَا أَتَمُّوا تَشَهَّدَ بِهِمْ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِذَا فَارَقُوهُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِمْ أَنْ يَنْوُوا الْخُرُوجَ مِنْ إِمَامَتِهِ بِخِلَافِ مَا قُلْنَا فِي الطَّائِفَةِ الْأُولَى.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْأُولَى تُرِيدُ سَبْقَ الْإِمَامِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ سَبْقُهُ مع الإتمام بِهِ، وَالثَّانِيَةَ تُرِيدُ لِحَوْقَ الْإِمَامِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُمُ الْخُرُوجُ عَنْ إِمَامَتِهِ:
(فَصْلٌ)
: إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ كَقَوْلِ أبي حنيفة فَصَلَاةُ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ: نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ.
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ الْمُنَافِي لَهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَائِزَةٌ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالطَّائِفَةُ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُ وَأَكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ طَائِفَةٍ وَأَنْ تَحْرُسَهُ أَقَلُّ مِنْ طَائِفَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الطَّائِفَةُ فَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِهَا فِي مَوَاضِعَ يَخْتَلِفُ الْمُرَادُ بِهَا مِنَ الْأَعْدَادِ لِاخْتِلَافِ مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) {النساء: 102)(2/463)
وقَوْله تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) {النساء: 102) أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ: لِأَنَّ الْمَأْمُورَ فِيهَا أَنْ يُصَلِّيَ بِجِمَاعَةٍ وَأَنْ تَحْرُسَهُ جَمَاعَةٌ فَكَانَتِ الطَّائِفَةُ عِبَارَةً عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ في الإطلاق ثلاثا وَإِنَّمَا يُعَبَّرُ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ بِدَلِيلٍ لَا بِمُطْلَقِ الْعِبَارَةِ وَظَاهِرِهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) {الحجرات: 9) فَحَمَلَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَالْقَبِيلَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] فَحَمَلَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ فِي الْآيَاتِ لِتَعَلِّقِهِ بِالزِّنَا وَلَا يَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] فَحَمَلَ عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْإِنْذَارَ يَقَعُ بِهِ فَكَانَ ذِكْرُ الطَّائِفَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَخْتَلِفُ حَمْلًا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا وَيُقَارِنُهَا فِي مَوْضِعِهَا، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ طَائِفَةٌ أَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ فَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ طَائِفَةٍ وَتَحْرُسَهُ أَقَلُّ مِنْ طَائِفَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْتَقُمْ طائفة منهم معك} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فليصلوا معك} فَإِنْ صَلَّى بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَوْ صَلَّى بِثَلَاثَةٍ وَحَرَسَهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَقَدْ أَسَاءَ وصلاتهم مجزئة.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: (وإن كانت صلاة المغرب فإن صلى بالطائفة الأولى ركعتين وَثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فَحَسَنٌ وَإِنْ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ فَجَائِزٌ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهَا مَا بَقِيَ ثُمَّ يَثْبُتُ جَالِسًا حَتَّى تَقْضِيَ مَا بَقِيَ عَلَيْهَا ثُمَّ يُسَلِّمُ بِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ فَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَثَلَاثُ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْخَوْفِ بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ: فَالْأَوْلَى وَالْمَسْنُونُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى وَيُتِمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً، وَيُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَتُتِمَّ لِأَنْفُسِهَا رَكْعَتَيْنِ.
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَخَفُّ انْتِظَارًا وَأَسْرَعُ فَرَاغًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَالَ كَانَتْ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَلَمَّا تَعَذَّرَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الرَّكْعَةَ لَا تَتَبَعَّضُ كَانَ تَكْمِيلُ ذَلِكَ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى أَخَفَّ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: لِمَا لَهَا مِنْ حَقِّ السَّبْقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ الصلاة أكمل من آخرها لما يتضمنها من قراءة السورة بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، فَلَمَّا اخْتَصَّتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى بِأَكْمَلِ الطَّرَفَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِأَكْمَلِ الْبَعْضَيْنِ، فَلَوْ خالف(2/464)
الْإِمَامُ الْأَوْلَى فِي الْمُسْتَحَبِّ: وَصَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً وبالثانية ركعتين لو كَانَ مُسِيئًا وَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةً لَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَوْلَى فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا وَلَا سُجُودَ عليها.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ مَا أُمِرَ بِهِ وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ رَكْعَةً، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى مَحَلِّ الِانْتِظَارِ، فَلَا يَخْتَلِفُ أَنَّهُ إِنِ انْتَظَرَهُمْ جَالِسًا فِي تَشَهُّدِ الثَّانِيَةِ جَازَ، وَإِنِ انْتَظَرَهُمْ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ جَازَ وَفِي الْمُسْتَحَبِّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ جَالِسًا فِي تَشَهُّدِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَهَذَا قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْأُمِّ يَنْتَظِرُهُمْ قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ وَهَذَا أَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قِيَامَهُ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ قُعُودِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَخْفِيفَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَوْلَى مِنْ إِطَالَتِهِ، فَإِنِ انْتَظَرَهُمْ قَائِمًا فَعَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى أَنْ تَتَشَهَّدَ مَعَهُ، فَإِذَا اعْتَدَلَ قَائِمًا فَارَقُوهُ وَأَتَمُّوا ثُمَّ دَخَلَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مَعَهُ، وَإِنِ انْتَظَرَهُمْ جَالِسًا تَشَهَّدَتِ الْأُولَى مَعَهُ ثُمَّ فَارَقُوهُ جَالِسًا بَعْدَ تَشَهُّدِهِ، فَإِذَا أَتَمُّوا أَحْرَمَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ خَلْفَهُ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ قِيَامِهِ فَإِذَا كَبَّرَ لِقِيَامِهِ كَبَّرُوا مَعَهُ بَعْدَ إِحْرَامِهِمْ تَبَعًا لَهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ حَضَرٍ فَلْيَنْتَظِرْ جَالِسًا فِي الثَّانِيَةِ أَوْ قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ حَتَى تُتِمُّ الطَّائِفَةُ الَّتِي مَعَهُ ثُمَّ تَأْتِي الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَيُصَلِّي بِهَا كَمَا وَصَفْتُ فِي الْأُخْرَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْحَضَرِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي السَّفَرِ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَتْ صُبْحًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْحَضَرِ، وَإِنْ كَانَتْ مَغْرِبًا صَلَّى ثَلَاثًا عَلَى مَا مَضَى وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعَشَاءِ فَرَّقَ أَصْحَابَهُ فِرْقَتَيْنِ وَصَلَّى لِكُلِّ فَرِيقٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِانْتِظَارُ جَالِسًا فِي الثَّانِيَةِ أَوْ قَائِمًا فِي الثَّالِثَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِنْ صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثًا أَوْ بِالْأُولَى ثَلَاثًا وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً كَانَ مُسِيئًا وَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةٌ وَعَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَلَوْ فَعَلَ فِي الْمَغْرِبِ لَمْ يَلْزَمْهُ سُجُودُ السَّهْوِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَغْرِبَ في العدد تنصيفها إِلَى تَفْضِيلِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ اجْتِهَادًا فَسَقَطَ سُجُودُ السَّهْوِ لِمُخَالَفَتِهِ وَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الظُّهْرِ شَرْعًا لا اجتهاد ألزم سجود السهو لمخالفته.(2/465)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعَ فِرَقٍ فَصَلَّى بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا ثُمَّ بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا ثُمَّ بِفِرْقَةٍ رَكْعَةً وَثَبَتَ جَالِسَا وأتموا كان فيها قولان أحدهما أنه أساء ولا إعادة عليه. والثاني أن صلاة الإمام فاسدة وتتم صلاة الأولى والثانية لأنهما خرجتا من صلاته قبل فسادها لأن له انتظارا واحدا بعد آخر وتفسد صلاة من علم ما الباقيتين بما صنع وائتم به دون من لم يعلم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ فِي الْحَضَرِ أَنْ يُفَرِّقَ أَصْحَابَهُ أَرْبَعَ فِرَقٍ فَيُصَلِّي بِكُلِّ فِرْقَةٍ رَكْعَةً. فَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا فَعَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَفِي بُطْلَانِ صلاتهم قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ فِي صَلَاتِهِ أَرْبَعَ انْتِظَارَاتٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِاثْنَيْنِ مِنْهَا فَصَارَ كَمَنْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ فِي رُكُوعِهِ دَاخِلًا فِي صَلَاتِهِ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ لَمْ تُبْطَلْ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ، فَلَأَنْ لَا تَبْطُلَ بِانْتِظَارٍ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِمِثْلِهِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ فِي انْتِظَارِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَطْوِيلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ إِنِ انْتَظَرَ جَالِسًا يُسَبِّحُ، وَإِنِ انْتَظَرَ قَائِمًا قَرَأَ وَتَطْوِيلُ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: " أَطْوَلُهَا قُنُوتًا ".
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَمَذْهَبُ الشافعي أَنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ بِانْتِظَارِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الزَّائِدُ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، فَعَلَى هَذَا صَلَاةُ الطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ جَائِزَةٌ لِخُرُوجِهَا مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ فَسَادِهَا. وَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ فَسَادِهَا. فَإِنْ لَمْ يعلموا بحاله فصلاتهم جائزة كما صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ لَا يَعْلَمُ بِجَنَابَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْإِمَامِ بِانْتِظَارِ الطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ، لِأَنَّ الِانْتِظَارَ الزَّائِدَ هُوَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَبِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ خَرَجَتْ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ الِانْتِظَارِ الثَّالِثِ لِأَنَّ الِانْتِظَارَ الْأَوَّلَ لِلطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ وَالِانْتِظَارَ الثَّانِيَ لِلطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ وَالِانْتِظَارَ الثَّالِثَ وَالرَّابِعَ لِلطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ وَحْدَهَا عِنْدَ دُخُولِهَا وَالْآخَرُ عِنْدَ خُرُوجِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ جَائِزَةً لِخُرُوجِهَا مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ فَسَادِهَا وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا فِي الِاجْتِهَادِ فَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَمْ تُبْطُلْ صَلَاتُهُ بِالِانْتِظَارِ الثَّالِثِ وَإِنَّمَا أَبْطَلَهَا بِانْتِظَارِ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ لِمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في تفريق أصحابه وانتظارهم.(2/466)
وإذا قيل بجواز صَلَاةُ الْإِمَامِ فَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الرَّابِعَةِ جَائِزَةٌ لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ بِخُرُوجِهِ، فَأَمَّا الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمْ، هَلْ هُمْ مَعْذُورُونَ بِذَلِكَ أَمْ لَا: عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْذُورِينَ لِأَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ أَنْ تُخْرِجَ نَفْسَهَا بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمْ يُعْذَرُوا بِإِخْرَاجِ أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ رَكْعَةٍ، فَعَلَى هَذَا فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ قولان مبينان على اختلاف قوله فمن أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ غَيْرَ مَعْذُورٍ.
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ.
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ فَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَشْهَرُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ لِأَنَّ إِخْرَاجَ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يَكُنْ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَلَوْ أَرَادُوا الْمُقَامَ عَلَى الْإِتْمَامِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُمْ، فَعَلَى هَذَا صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وإذا أراد الإمام أن يصلي الجمعة بأصحاب صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا لَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا خَارِجَ الْمِصْرِ وَفِي ظَاهِرِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْجُمْعَةَ لَا يَصِحُّ إِقَامَتُهَا إِلَّا فِي مِصْرٍ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا مُتَوَطِّنًا فِي مِصْرٍ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ الْجُمْعَةَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَإِذَا أَفْرَدَ أَصْحَابَهُ فَرِيقَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا أَهْلَ الْجُمْعَةِ فَإِنْ كَانَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى، أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ كَانَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ لَمْ يَجُزْ، فَإِذَا أَكْمَلَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ، خَطَبَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ جُمْعَةً، فَإِنْ خَطَبَ عَلَى الْأُولَى وَصَلَّى بالثانية لم يجز أن بين عَلَى الْجُمْعَةِ لِأَنَّهُ صَارَ مُبْتَدِئًا بِالْجُمْعَةِ جَمَاعَةً لَمْ يَحْضُرُوا الْجُمْعَةَ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْخَوْفِ صَلَاةَ الْعِيدِ وَالْكُسُوفِ صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَةً وَأَتَمُّوا وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَأَتَمُّوا وَخَطَبَ بِهِمْ والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَأْخُذَ سِلَاحَهُ فِي الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا أَوْ يَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ يُؤْذِيَ بِهِ أَحَدًا وَلَا يَأْخُذُ الرمح إلا أن يكون في ماشية الناس ".
قال الماوردي: وهذا صحيح ليس يختلف مَذْهَبُهُ فِي اسْتِحْبَابِ أَخْذِهِ وَالْأَمْرِ بِهِ وَإِنَّمَا قَوْلُهُ فِي إِيجَابِهِ فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: أَخْذُهُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: أَخْذُهُ فِي الصَّلَاةِ اسْتِحْبَابٌ.
وَذَكَرَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:(2/467)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَخْذَهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) {النساء: 102) فَكَانَ الْأَمْرُ بِأَخْذِهِ دَالًّا عَلَى وُجُوبِهِ ثُمَّ أَعَادَ الْأَمْرَ تَأْكِيدًا وَحَذَّرَ مِنَ الْعَدُوِّ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) {النساء: 102) ثُمَّ رَفَعَ الْجُنَاحَ عَنْ تَارِكِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُنَاحَ لَاحِقٌ بِتَارِكِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَخْذَهُ اسْتِحْبَابٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِأَخْذِهِ لِعُذْرٍ فَقَدَّمَ حَظْرَهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، وَلِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُصَلِّيَةَ مَعَ الْإِمَامِ مَحْرُوسَةٌ بِغَيْرِهَا وَالْقِتَالُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ عَلَيْهَا وَحَمْلُ السِّلَاحِ يُرَادُ إِمَّا لِحِرَاسَةٍ أَوْ قِتَالٍ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجِبْ حَمْلُ السِّلَاحِ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ قَادِحًا فِي الصَّلَاةِ وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ. والموضع الذي أوجبت فيه حمل السلاح وهو مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَالسِّكِّينِ وَالْخِنْجَرِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي اسْتُحِبَّ فِيهِ حَمْلُ السِّلَاحِ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَدْفَعُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ كَالْقَوْسِ وَالنُّشَّابِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي كيفية السلاح يترتب على طريقين: فَمَنْ قَالَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ جَعَلَ السِّلَاحَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ حَرُمَ حَمْلُهُ فِيهَا وَضَرْبٌ كُرِهَ حَمْلُهُ فِيهَا وَضَرْبٌ يَجِبُ حمله فيها وضرب يستحب فِيهَا وَضَرْبٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُصَلِّي.
فَأَمَّا الذي يحرم حمله فيها ضربان: نجس ومانع.
فالنجس ما غش جِلْدَ مَيْتَةٍ لَمْ يَدْبَغْ أَوْ نَجِسَ بِدَمِ جَرِيحٍ أَوْ طُلِيَ بِسُمِّ حَيَوَانٍ وَالْمَانِعُ الْبَيْضَةُ السابقة على جبهته، والنور المانع مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ حَمْلُهُ فِيهَا: فَهُوَ السِّلَاحُ الثَّقِيلُ الَّذِي يَتَأَذَّى بِحَمْلِهِ فِيهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ حَمْلُهُ فَهُوَ السِّكِّينُ وَالْخِنْجَرُ وَمَا يَمْنَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يُسْتَحَبُّ حَمْلُهُ فِيهَا: فَهُوَ الْقَوْسُ وَالنُّشَّابُ وَمَا يَمْنَعُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُصَلِّي فَكَالرُّمْحِ إِنْ كَانَ فِي وَسَطِ النَّاسِ كَانَ مَكْرُوهًا لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِهِ مَنْ جِوَارَهُ. وَإِنْ كَانَ فِي حَاشِيَةِ النَّاسِ كَانَ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ عَنْ غيره.
ومن قال المسألة على قوليه جَعَلَ السِّلَاحَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:(2/468)
مُحَرَّمٌ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَكْرُوهٌ وَمَا وَصَفْنَاهُ، وَعَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ، وَمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ مَا دَفَعَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ دَفَعَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ سَهَا فِي الْأُولَى أَشَارَ إِلَى مَنْ خلفه بما يفهمون أنه سَهَا فَإِذَا قَضَوْا سَجَدُوا لِلسَّهْوِ ثُمَّ سَلَّمُوا وَإِنْ لَمْ يَسْهُ هُوَ وَسَهَوْا هُمْ بَعْدَ الْإِمَامِ سَجَدُوا لِسَهْوِهِمْ وَتَسْجُدُ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مَعَهُ لِسَهْوِهِ فِي الْأُولَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ السَّهْوُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ كَحُكْمِهِ فِي صَلَاةِ الْأَمْنِ فَإِذَا حَدَثَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَهْوٌ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَأْمُومِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أن يكون في الركعة الأولى أوفى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ كَانَ سَهْوُهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَعَلَى جَمَاعَتِهِمْ سُجُودُ السَّهْوِ أَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَلِائْتِمَامِهِمْ بِهِ فِي حَالِ سَهْوِهِ، وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَلِدُخُولِهِمْ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ سَهْوِهِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُشِيرَ إِلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى بِمَا يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَهَا إِنْ كَانَ سَهْوُهُ خَفِيًّا حَتَّى يَسْجُدُوا لِلسَّهْوِ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ فَرُبَّمَا لَمْ يَعْلَمُوا بِسَهْوِهِ، فَإِنْ كَانَ سَهْوُهُ ظَاهِرًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْإِشَارَةِ، فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَلَا تَحْتَاجُ مَعَهُمْ بِحَالٍ إِلَى الْإِشَارَةِ: قَالَ: سَوَاءٌ كَانَ سَهْوُهُ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا لِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الصَّلَاةِ بِخُرُوجِهِ فَهَذَا حُكْمُ سَهْوِهِ إِذَا كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ سَهْوُهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا سُجُودَ عَلَى الطَّائِفَةِ الْأُولَى لِخُرُوجِهِمْ مِنْ صَلَاتِهِ قَبْلَ سَهْوِهِ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ سُجُودُ السهو، فإن قلنا: أنهم يفارقوه قَبْلَ تَشَهُّدِهِ قَامُوا فَأَتَمُّوا مَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ سَجَدُوا لِلسَّهْوِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ يُفَارِقُونَهُ بَعْدَ تَشَهُّدِهِ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ الْإِمَامُ إِلَّا بعد فراغهم ليسجدوا ومعه فَإِنْ سَجَدَ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ وَفِرَاقِهِمْ جَازَ وَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ فَإِذَا أَتَمُّوا مَا عَلَيْهِمْ فَهَلْ عَلَيْهِمْ إِعَادَةُ سُجُودِ السَّهْوِ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَضَيَا فِيمَنْ أحرم مع الإمام بعد سهوه.
فأما إن كان السهو من قبل المأمومين فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنْ سَهَتِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى، نَظَرَ فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُؤْتَمُّونَ بِمَنْ يَتَحَمَّلُ السَّهْوَ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ سَهْوُهُمْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَعَلَيْهِمْ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَنَّهُمْ سَهَوْا وَلَا إِمَامَ لَهُمْ فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ فِرَاقِهِ وَسَهَوْا هُمْ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ(2/469)
فَرَاغِهِ، فَهَلْ يَتَدَاخَلُ السَّهْوَانِ أَمْ يَلْزَمُ لِكُلِّ سَهْوٍ مِنْهُمَا سَجْدَتَانِ، عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا أَصَحُّهُمَا قَدْ تَدَاخَلَا وَعَلَيْهِ لَهُمَا سَجْدَتَانِ لَا غَيْرَ.
والثاني: يسجد لكل سهو منهما سجدتين لِاخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا، فَهَذَا حُكْمُ سَهْوِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَأَمَّا سَهْوُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ خَلْفَ إِمَامٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ فِرَاقِ الْإِمَامِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا سُجُودَ عليهم. وإن سها الإمام لزمهم لِأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى الِائْتِمَامِ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بن خيران: " عليهم السجود لسهوهم ". وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إِقَامَتِهِمْ عَلَى الاتهام به.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنْ كَانَ خَوْفًا أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْمُسَايَفَةُ وَالْتِحَامُ الْقِتَالِ وَمُطَارَدَةُ الْعَدُوِّ حَتَّى يَخَافُوا إن ولوا أن يركبوا أكتافهم فتكون هزيمتهم فيصلوا كيف أمكنهم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وقعودا على دوابهم وقياما في الأرض على أقدامهم يؤمنون برءوسهم واحتج بقول الله عز وجل {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} (البقرة: 239) وقال ابْنُ عُمَرَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا قَالَ نَافِعٌ لَا أَرَى ابن عمر ذكر ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قال الماوردي: وهو كَمَا قَالَ: وَالْخَوْفُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً عَلَى مَا وَصَفْنَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً لِشِدَّةِ الْخَوْفِ وَمُطَارَدَةِ الْعَدُوِّ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ وَالْمُسَايَفَةِ وَالْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَاخْتِلَاطِ الْعَسْكَرَيْنِ فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَيْفَ أَمْكَنَهُمْ قِيَامًا وَقُعُودًا أَوْ رُكْبَانًا وَنُزُولًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ إِلَى وَقْتِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَمِنَ ثُمَّ قَضَى.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) {البقرة: 239) قَالَ ابْنُ عُمَرَ مَعْنَاهُ " مُسْتَقْبِلُو الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا " قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَدْ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكان ذلك قضاء مَرْوِيًّا، وَلِأَنَّ شِدَّةَ الْخَوْفِ عُذْرٌ يُغَيِّرُ(2/470)
صِفَةَ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ كَالْمَرَضِ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ. فَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْخَوْفِ فَلَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا رَاكِبًا وَعَلَى اسْتِدْبَارِهَا نَازِلًا لَاسْتَقْبَلَهَا رَاكِبًا لِأَنَّ فَرْضَ الِاسْتِقْبَالِ أَوْكَدُ من فرض القيام.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ صَلَّى عَلَى فَرَسِهِ فِي شِدَّةِ الْخَوْفِ رَكْعَةً ثُمَّ أَمِنَ نَزَلَ فَصَلَّى أُخْرَى مُوَاجِهَةَ القبلة وإن صلى ركعة آمنا ثم سار إلى شدة الخوف فركب. ابتدأ لأن عمل النزول خفيف والركوب أكثر من النزول (قال المزني) قلت أنا قد يكون الفارس أخف ركوبا وأقل شغلا لفروسيته من نزول ثقيل غير فارس ".
قال الماوردي: وإذ ابتدأ الصلاة خائفا على فرسه فصلى بعضا إِلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ ثُمَّ أَمِنَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْزِلَ وَيَبْنِيَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُصَلِّي جَالِسًا لِعَجْزِهِ ثُمَّ يَصِحُّ فَأَمَّا إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ آمِنًا مستقبلا للقبلة وأظله العدو فخاف فركب فرسه.
قال الشافعي: ها هنا اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ، وَعَلَّلَ بِأَنْ قَالَ الرُّكُوبُ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْأُمِّ: بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ.
وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا يَحْمِلُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي أَبْطَلَ صَلَاتَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا إِذَا رَكِبَ مُخْتَارًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَمْ يُبْطِلْهَا وَأَجَازَ لَهُ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا إِذَا دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى الرُّكُوبِ وَشِدَّةُ الْخَوْفِ وَهُجُومُ الْعَدُوِّ، فَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَى تَعْلِيلِ الشَّافِعِيِّ لِيُفْسِدَهُ. فَقَالَ: " قَدْ يَكُونُ رُكُوبُ الْفَارِسِ السَّرِيعِ النَّهْضَةِ أَخَفَّ مِنْ نُزُولِ غَيْرِهِ ".
وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَعْتَبِرْ رُكُوبَ وَاحِدٍ وَنُزُولَ غَيْرِهِ وإنما اعتبر ركوبه بنزوله ومن حق رُكُوبُهُ كَانَ نُزُولُهُ أَخَفَّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِتَعْلِيلِهِ غَالِبَ أَحْوَالِ النَّاسِ دُونَ مَنْ شذ منهم وَنَدَرَ وَغَالِبُ أَحْوَالِهِمْ ثِقَلُ رُكُوبِهِمْ وَخِفَّةُ نُزُولِهِمْ فَصَحَّ تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَبَطَلَ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا بأس أَنْ يَضْرِبَ فِي الصَّلَاةِ الضَّرْبَةَ وَيَطْعَنَ الطَّعْنَةَ فأما إن تابع الضرب أو ردد الطَّعْنَةَ فِي الْمَطْعُونِ أَوْ عَمِلَ مَا يَطُولُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا ضَرَبَ ضَرْبَةً أَوْ ضَرْبَتَيْنِ أَوْ طَعْنَةً أَوْ طَعْنَتَيْنِ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ وَنَاكِيًا فِي عَدُوِّهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فَكَانَ جَوَازُهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أولى فأما إن تابع الضَّرْبَ وَكَرَّرَ الطَّعْنَ حَتَّى طَالَ وَكَثُرَ فَعَلَى قول أبي عباس(2/471)
وَأَبِي إِسْحَاقَ إِنْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ فَعَلَهُ لِضَرُورَةٍ لَمْ تَبْطُلْ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ، وَحَمَلَا جَوَابَ الشَّافِعِيِّ عَلَى فِعْلِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، لِأَنَّ صَلَاةَ الخوف مفارقة ل " صلاة الْأَمْنِ " مِنَ الضَّرُورَةِ أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ فِيهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِدْبَارُهَا فِي صَلَاةِ الْأَمْنِ مَعَ الضَّرُورَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا: قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ مع الضرورة والاختيار اعتبارا بظاهر نصه وأخذ بِمُوجَبِ تَعْلِيلِهِ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ وَأَمَّا إِذَا تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ مَهِيبًا أَوْ مُسْتَنْجِدًا أَوْ مُحَذِّرًا أَوْ مُخْتَارًا أَوْ مُضْطَرًّا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا لِأَنَّ يَسِيرَ الْعَمَلِ مُبَاحٌ وَيَسِيرَ الْكَلَامِ غَيْرُ مُبَاحٍ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ إِبِلًا فظنوهم عدوا فصلوا صلاة شدة الخوف يؤمنون إيماء ثم بان لهم أنه ليس عدو أَوْ شَكُّوا أَعَادُوا وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ لَا يُعِيْدُونَ لِأَنَّهُمْ صَلَّوْا وَالْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قلت أنا أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ عِنْدِي أَنْ يُعِيدُوا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وأصل هذا أن صلاة الْخَوْفِ بِالْإِيمَاءِ رُخْصَةٌ لِلضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ، فَإِذَا كَانُوا فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ فَرَأَوْا سَوَادًا مُقْبِلًا أَوْ إِبِلًا سَائِرَةً فَظَنُّوا أَنَّ الْعَدُوَّ قَدْ أَظَلَّهُمْ فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ إِيمَاءً إِلَى قِبْلَةٍ وَإِلَى غَيْرِهَا ثُمَّ بَانَ لَهُمْ خِلَافُ مَا ظَنُّوا فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْإِمْلَاءِ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ هَذِهِ الصَّلَاةَ عِنْدَ وُجُودِ الْخَوْفِ لَا عِنْدَ وُجُودِ الْعَدُوِّ وَقَدْ كَانَ الْخَوْفُ الْمُبِيحُ مَوْجُودًا وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ مَعْدُومًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْأُمِّ: عَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا فَتَرْكُهُ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ كَتَرْكِهِ عَمْدًا فِي الْإِيجَابِ وَقَدْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَاسْتِيفَاءَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ خَاطِئًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلصَّلَاةِ قَاضِيًا.
قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ كان ببلاد الإسلام قرأوا سَوَادًا فَظَنُّوا عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ عَدُوٍّ فَعَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ ظَنَّهُمْ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ أَقْوَى مِنْ ظَنِّهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا قَوْلُهُمْ وَلَمْ أَرَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خالف ولا وجه للشافعي يُعَضِّدُهُ أَوْ يُعَارِضُهُ إِلَّا الْحُجَّاجَ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَسْوِيَةَ الْحُكْمِ فِي الْحَالَيْنِ.
فَلَوْ غَشِيَهُمُ الْعَدُوُّ فَظَنُّوا أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ نَهْرًا أَوْ جَيْشًا حَائِلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَانِعًا فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ، ولكن(2/472)
لو صلوا كصلاة ذات الرقاع أوعسفان أَوْ بَطْنِ النَّخْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْقِطُوا فَرْضًا وَلَا غَيَّرُوا رُكْنًا.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ قَلِيلًا مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ والمسلمون كثيرا يأمنونهم في مستوى لَا يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ إِنْ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ رَأَوْهُمْ صلى الإمام بهم جميعا وركع وسجد بهم جميعا إلا صفا يليه أو بعض صف ينظرون العدو فإذا قاموا بعد السجدتين سجد الذين حرسوه أولا إلا صفا أو بعض صف يحرسه منهم فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين حرسوهم ثم يتشهدون ثم يسلم بهم جميعا معا وهذا نحو صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوم عسفان ولو تأخر الصف الذي حرسه إلى الصف الثاني وتقدم الثاني فحرسه فلا بأس ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِ (عُسْفَانَ) رَوَاهَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَعِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَالْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَلَى مُسْتَوًى مِنَ الْأَرْضِ، فصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِمُ الظُّهْرَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ غرة قد أصبنا منهم غفلة نهجهم عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ تَأْتِيهِمْ صَلَاةٌ هِيَ أَعَزُّ عَلَيْهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ يُرِيدُونَ الْعَصْرَ فَنَزَلَ الْوَحْيُّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا صَلَّى الْعَصْرَ صَفَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَأَحْرَمَ بهم، وركع فركعوا ورفع فرفعوا وسجد فسجدوا إلا الصف الذي يليه فإنهم لم يسجدوا لِحِرَاسَتِهِمْ فَلَمَّا رَفَعَ سَجَدُوا وَتَأَخَّرُوا وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْأَخِيرُ، فَرَكَعَ بِهِمْ وَرَفَعَ وَسَجَدَ بِهِمْ إِلَّا الصَّفَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْجِدُوا لِحِرَاسَةِ النَّاسِ، فَلَمَّا رَفَعَ سَجَدُوا وَلَحِقُوهُ فَهَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعُسْفَانَ.
فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْحَرْبِ بِأَصْحَابِهِ مِثْلَهَا احْتَاجَ إِلَى ثَلَاثَةِ شَرَائِطَ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ عَلَى مُسْتَوًى الْأَرْضِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مَوْجُودَةً صَلَّى حِينَئِذٍ عَلَى وَصْفِنَا فَإِنْ حَرَسَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا وَلَمْ يَتَأَخَّرُوا قَالَ الشَّافِعِيُّ كَانَ حَسَنًا، وَإِنْ حَرَسَ الصَّفُّ الثَّانِي فِي الرَّكْعَتَيْنِ مَعًا جَازَ وَحِرَاسَةُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ:(2/473)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْعَدُوِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أقدر على حراسة الجميع.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ صَلَّى فِي الْخَوْفِ بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سلم ثم صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَهَكَذَا صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ببطن نخل (قال المزني) وهذا عندي يدل على جواز فريضة خلف من يصلي نافلة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى بالطائفة الثانية فريضة لهم ونافلة له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ فَخَافَ فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْعَصْرَ فَقَسَمَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَصَلَّى بِفِرْقَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَبِفِرْقَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلَهُمْ رَكْعَتَانِ وَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ كَذَلِكَ لَهُ سِتٌّ وَلَهُمْ ثَلَاثٌ فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْخَوْفِ كَصَلَاةِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِبَطْنِ النَّخْلِ وَكَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَعَلَ كَفِعْلِهِ فَصَلَّى بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعَ الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ.
(فَصْلٌ)
: فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ بِأَصْحَابِهِ فِي الْأَمْنِ كَصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَوْفِ فَإِنْ كَانَتْ كَصَلَاةِ بَطْنِ النَّخْلِ، فَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ كَصَلَاةِ عُسْفَانَ، فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ لَمْ يَحْرُسْ مِنَ الْمَأْمُومِينَ جَائِزَةٌ وَفِي صَلَاةِ مَنِ انْتَظَرَ مِنْهُمْ رَفْعَ الْإِمَامِ وَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا: صَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُمْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْإِمَامِ بِرُكْنٍ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ كَصَلَاةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَفِي صَلَاةِ الْإِمَامِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِطُولِ انْتِظَارِهِمْ.
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ، لِأَنَّ انْتِظَارَهُ، قَدْ تَضَمَّنَ ذِكْرًا فَلَمْ يَقْدَحْ فِي صَلَاةٍ.
فَإِذَا قِيلَ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَصَلَاةُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ بَاطِلَةٌ إِنْ عَلِمُوا بِحَالِهِ، لِأَنَّهُمُ ائْتَمُّوا بِهِ بَعْدَ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ.
فَأَمَّا الطائفة الأولى ففي صلاتهم قولان مبينان عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ غَيْرَ مَعْذُورٍ أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ. وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ.
وَإِذَا قِيلَ بِجَوَازِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَفِي صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ.(2/474)
وَالثَّانِي: جَائِزَةٌ.
فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَصَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى الِائْتِمَامِ بِمَنْ خَالَفُوهُ فِي أَفْعَالِهِ، وَفِيهَا وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ صَلَاتَهُمْ جَائِزَةٌ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ قَالَ: لَا تَلْزَمُ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ سَهْوُ إِمَامِهِمْ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ لِأَنَّهُ أَمِنَ وَطَلَبُهُمُ تَطَوُّعٌ وَالصَّلَاةُ فَرْضٌ وَلَا يُصَلِّيهَا كَذَلِكَ إِلَّا خَائِفًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَاةُ الْخَوْفِ مُبَاحَةٌ مَعَ وُجُودِ الْخَوْفِ وَالطَّالِبُ أَمِنَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ الْعَدُوِّ، أَوْ فِي أَرْضِهِ يَخَافُونَ هُجُومَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ إِنِ اشْتَغَلُوا بِالصَّلَاةِ قَالَ الشافعي فلهم أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ.(2/475)
(بَابُ مَنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ شِدَّةِ الخوف)
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " كُلُّ قِتَالٍ كَانَ فَرْضًا أَوْ مُبَاحًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَمَنْ أَرَادَ دَمَ مُسْلِمٍ أَوْ مَالَهُ أَوْ حَرِيمَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ فَلِمَنْ قَاتَلَهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَمَنْ قَاتَلَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
الْقِتَالُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: وَاجِبٌ، وَطَاعَةٌ، وَمُبَاحٌ، وَمَعْصِيَةٌ.
فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَقِتَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالْبُغَّاءِ. فَلِلْمُقَاتِلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِمَا صَلَاةَ الْخَوْفِ وَأَمَّا الْمُبَاحُ: فَقِتَالُ الرَّجُلِ عَنْ مَالِهِ وَحَرِيمِهِ. وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ: فَقِتَالُ الْإِمَامِ اللُّصُوصَ وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ. وَتَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْخَوْفِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ: لِأَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ رُخْصَةٌ، وَالرُّخَصُ تُسْتَبَاحُ فِي الْمُبَاحِ كَاسْتِبَاحِهَا فِي والواجب قِيَاسًا عَلَى الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ فَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ كَاللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِذَا طُلِبُوا فَخَافُوا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَمْنَعُ مِنَ الرُّخَصِ، فَإِذَا صَلَّوْا صَلَاةَ الْخَوْفِ كَانُوا كَالْآمِنِينَ إِذَا صَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ أَعَادُوا، وَإِنْ صَلَّوْا غَيْرَهَا مِنْ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْنِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " لو كَانُوا مُوَلِّينَ لِلْمُشْرِكِينَ أَدْبَارَهُمْ غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ وَكَانُوا يُومِئُونَ أَعَادُوا لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ عَاصُونَ وَالرُّخْصَةُ لَا تَكُونُ لِعَاصٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَوْجَبَ فِي أول الإسلام على كل رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الذين كفروا} كلما كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَخَفَّفَهُ عَنْهُمْ وَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يقاتل اثنين(2/476)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 66)
وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ فَانْهَزَمُوا مِنْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلَيْهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ، وَإِنِ انْهَزَمُوا مِنْ مِثْلِهِمْ فَمَا دُونَ نُظِرَ فِي حَالِهِمْ، فَإِنِ انْهَزَمُوا لِيَتَحَرَّفُوا لِقِتَالٍ أَوْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى فِئَةٍ جَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَإِنِ انْهَزَمُوا غَيْرَ مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَوْفِ لِأَنَّهُمْ عَاصُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (الأنفال: 14) وَلَا فَرْقَ فِي الْفِئَةِ الَّتِي تَنْحَازُ إِلَيْهَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بَعِيدَةً أَوْ قَرِيبَةً فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ انْهَزَمُوا مِنَ الْعِرَاقِ أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِهِمْ إِذَا لَمْ يُطِيقُوا قِتَالَ مِثْلَيْهِمْ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُوَلُّوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَرَّفُوا لِقِتَالٍ أَوْ يَتَحَيَّزُوا إِلَى فِئَةٍ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) {البقرة: 286) .
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ، إِذْ لَا يُعْدَمُ الِانْحِيَازُ إِلَى فِئَةٍ قَرُبَتْ أَمْ بَعُدَتْ وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ أبو حنيفة: كَانَ هَذَانِ الْحُكْمَانِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَا مَعًا وَعَلَيْهِمْ أن يقاتلوا ما أمكن.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ غَشِيَهُمْ سَيْلٌ وَلَا يَجِدُونَ نَجْوَةً صَلَّوْا يومئون عدوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَرِكَابِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا غَشِيَهُمْ سَيْلٌ أَوْ ظَلَّهُمْ سَبُعٌ أَوْ ضال عَلَيْهِمْ فَحْلٌ أَوْ أَظَلَّهُمْ حَرِيقٌ وَلَمْ يَجِدُوا نَجْوَةً عَالِيَةً وَلَا جَبَلًا مَنِيعًا وَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَوْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ دُونَ أَنْفُسِهِمْ فسعوا لصلاحهم فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ فَإِنْ غَشِيَهُمْ غَرَقٌ إِذَا تَنَحَّوْا عَنْ سَنَنِهِ أَوْ هَدْمٌ إِنْ تَنَحَّوْا عَنْ مَسْقَطِهِ أَوْ حَرِيقٌ فِي صَحْرَاءَ إِذَا تَنَحَّوْا عَنْ سَنَنِ الرِّيحِ سَلِمُوا لَمْ تُجْزِهِمْ إِلَّا صَلَاةٌ لَوْ كَانَتْ في غير الخوف أجزأتهم.(2/477)
(باب في كراهية اللباس والمبارزة)
قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ لُبْسَ الدِّيْبَاجِ وَالدِّرْعِ الْمَنْسُوجَةِ بِالذَّهَبِ وَالْقَبَاءِ بِأَزْرَارِ الذَّهَبِ فَإِنْ فَاجَأَتْهُ الْحَرْبُ فَلَا بَأْسَ ".
قال الماوردي: وهذا كما قال: ليس الْحَرِيرِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ مُبَاحٌ عَلَى النِّسَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ وَفِي إِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَفِي الْأُخْرَى ذَهَبٌ فَقَالَ: " هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهَا ".
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَى حُلَّةً تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا لِلْجُمْعَةِ وَالْوُفُودِ، فَقَالَ: " هَذَا لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ " فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لُبْسِهِ وَافْتِرَاشِهِ.
وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة جَوَازُ افْتِرَاشِهِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِهِ.
وَهَذَا غَلَطٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهَا " وَلِأَنَّ فِي افْتِرَاشِهِ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الْخُيَلَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي لُبْسِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالنَّهْيِ أَوْلَى.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الثَّوْبُ الْمَنْسُوجُ مِنْ إِبْرَيْسِمٍ وَقُطْنٍ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَيْسِمُ أَكْثَرَ وَأَغْلَبَ فَلَا يَجُوزُ لُبْسُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقُطْنُ أَكْثَرَ فَيَجُوزُ لُبْسُهُ.(2/478)
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَوَاءً فَمَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أصحابنا جواز لبسه مغليا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ تَحْرِيمُ لُبْسِهِ تعليقا لحكم الحظر وهذا الأصح لأن الإباحة والخطر إذا استويا غلب حكم الخطر فَأَمَّا الْجُبَّةُ الْمَحْشُوَّةُ بِالْخَزِّ وَالْإِبْرَيْسِمِ فَلَا بَأْسَ يَلْبَسُهَا وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَحَدُ جَانِبَيْهَا حَرِيرًا وَالْآخَرُ قُطْنًا لَمْ يَجُزْ لُبْسُهُ سَوَاءٌ كَانَ الحرير ظاهره أو باطنه لأن لَابِسٌ لَهُ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمُفَاجَأَةِ الْحَرْبِ أَوْ لِعِلَّةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى لُبْسِهِ فَلَا بَأْسَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرخص للزبير ابن الْعَوَّامِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي لُبْسِ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الذَّهَبُ فَمُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ خَالِصًا مُنْفَرِدًا أَوْ مَشُوبًا مُخْتَلِطًا بِخِلَافِ الْحَرِيرِ الَّذِيِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ يَسِيرِهِ إِذَا كَانَ مُسْتَهْلَكًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الذَّهَبَ يَظْهَرُ قَلِيلُهُ كَظُهُورِ كَثِيرِهِ يَغْلِبُ لَوْنُهُ عَلَى لَوْنِ مَا اخْتَلَطَ بِهِ وَالْإِبْرَيْسِمُ بِخِلَافِهِ فَإِنْ طُلِيَ الذَّهَبُ بِغَيْرِهِ حَتَّى لَمْ يَظْهَرْ أَوْ صَدِيَ حَتَّى خَفِيَ لَوْنُهُ جَازَ لُبْسُهُ كَالْقَزِّ إِذَا كَانَ حَشْوَ الْجُبَّةِ.
فَإِنِ اسْتُعْمِلَ الذَّهَبُ لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن طرفة أن عرفجة بن أسعد أُصِيبَتْ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَدَّ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَكْرَهُ اللُّؤْلُؤَ إِلَّا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْأَدَبِ وَأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ وَلَا أَكْرَهُ الْيَاقُوتَ وَالزَّبَرْجَدَ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَكْرَهُ لِمَنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ بَلَاءً أَنْ يُعَلَّمَ وَلَا أَنْ يَرْكَبَ الْأَبْلَقَ قَدْ أَعْلَمَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَا بَأْسَ بِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ بَأْسًا وَإِقْدَامًا أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ(2/479)
بِالْأَعْلَامِ وَرُكُوبِ الْأَبْلَقِ، لِمَا رُوِّينَا أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْلَمَ بِرِيشِ نَعَامَةٍ يَوْمَ بَدْرٍ غَرَزَهَا فِي صَدْرِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا دُجَانَةَ كَانَ يُعَلَّمُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مِحْجَنٍ كَانَ يَرْكَبُ الْأَبْلَقَ، وَرُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان يعلم بذاؤبة مُلَوَّنَةٍ، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْإِحْجَامَ عَنْ لِقَاءِ عَدُّوِهِ فَيُكْرَهُ لَهُ الْأَعْلَامُ خَوْفًا من هزيمة المسلمين.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَكْرَهُ الْبِرَازَ قَدْ بَارَزَ عُبَيْدَةُ وَحَمْزَةُ وعلي بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إِذَا اسْتَدْعَى الْمُشْرِكُ الْبِرَازَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَارِزَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَيْهِ قَدْ بَرَزَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ: لِيَبْرُزْ إِلَيَّ مُحَمَّدٌ فَإِنِّي قَدْ حَلَفْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ " وَبَرَزَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إليه فرماه بحرية فِي صَدْرِهِ فَخَدَشَهُ بِهَا فَمَاتَ مِنْهَا، فَقِيلَ لَهُ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ أَيَقْتُلُكَ بِمِثْلِ هَذَا الْخَدْشِ فَقَالَ - وَاللَّهِ لَوْ تَفَلَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) {الأنفال: 17) وَرُوِيَ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ اسْتَدْعَيَا الْبِرَازَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ، فَقَالُوا: الْأَنْصَارُ قَالُوا: مَا نُعْدِيكُمْ، لِيَقُمْ إِلَيْنَا أَكْفَاؤُنَا، فَبَرَزَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَتَلَهُ، وَبَرَزَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ.
وبرز عبيد بْنُ الْحَارِثِ إِلَى شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَتَلَهُ، وَقَطَعَ شَيْبَةُ رِجْلَ عُبَيْدَةَ وَخَلَصَ حَيَّا فَمَاتَ بِالصَّفْرَاءِ بَيْنَ بَدْرٍ وَالْمَدِينَةِ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَارَزَ عَمْرَو بْنَ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ بِيَوْمِ الْأَحْزَابِ فَقَتَلَهُ وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ قِتَالِ الْأَنْصَارِ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً وأما إذا بدا الرجل(2/480)
الْمُسْلِمُ فَاسْتَدْعَى الْبِرَازَ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قال لا تبرزن محمدا ولا تَدْعُوَنَّ إِلَى الْبِرَازِ، فَإِنْ دُعِيتَ فَأَجِبْ فَإِنَّ الداعي باغ والباغي بمصروع.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْرَهْهُ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِلشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ، قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَثَّ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمًا وَشَوَّقَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَنَا خَرَجْتُ فَقَاتَلْتُ حَتَّى أُقْتَلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا أَيَحْجِزُنِي عَنِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا إِلَّا الدَّيْنَ قَالَ: فَخَرَجَ فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة: أَنَّهُ كَرِهَ الْبِرَازَ دَاعِيًا وَمُجِيبًا.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويلبس فَرَسَهُ وَأَدَاتَهُ جِلْدَ مَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخَنْزِيرِ من جلد قرد وقيل وأسد ونحو ذلك لأنه جنة للفرس ولا تعبد على الفرس ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجُلُودُ الطَّاهِرَةُ الذَّكِيَّةُ وَالْمَدْبُوغَةُ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهَا، وَالصَّلَاةِ فِيهَا وَعَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ لُبْسُ غَيْرِ الْجُلُودِ أَوْلَى، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَمَرَ بِنَزْعِ الْخِفَافِ وَالْفِرَاءِ عَنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ فَأَمَّا الْجُلُودُ النَّجِسَةُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَهَا جُنَّةً لِفَرَسِهِ، وَآلَةً لِسِلَاحِهِ، لِأَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ عَلَى فَرَسٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهَا، لَكِنْ لَا يُصَلِّي فِيهَا. لِأَنَّ تَوَقِّيَ النَّجَاسَةِ إِنَّمَا يَجِبُ لِلصَّلَاةِ، فَأَمَّا جِلْدُ مَا كَانَ نَجِسًا فِي حَيَاتِهِ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ بِحَالٍ لَا فِي آلَةِ السِّلَاحِ وَلَا فِي جُنَّةِ فَرَسٍ، لِأَنَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا بِحَالٍ، إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ الْكَلْبُ مِنْ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ حَيًّا فِي الصَّيْدِ، وَالْمَاشِيَةِ، فَكَانَ بَاقِي الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ ".(2/481)
(باب صلاة العيدين)
قال الشافعي رضي الله عنه: " ومن وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حُضُورُ الْعِيدَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر: 25) قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ إِنَّهَا صَلَاةُ الْعِيدِ، رَوَى حَمَّادٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم المدينة وللأنصار يوما يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ فَقَالُوا يَوْمَانِ كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا الْعِيْدَيْنِ الْفِطْرَ وَالْأَضْحَى " وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ عِيدٍ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاةُ الْعِيدِ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ وَفِيهَا فُرِضَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَسُمِّيَ عِيدًا لِأَنَّهُ يَعُودُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَ عِيدًا لِأَنَّ السُّرُورَ يَعُودُ فِيهِ إليهم.
(فَصْلٌ)
: لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ لَيْسَتْ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.
فَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أنها مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، لِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ ك (الجهاد) فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ حَتَّى يُقِيمَهَا مَنْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِإِقَامَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، إِنَّهَا سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا فَرْضَ إِلَّا الْخَمْسَ " فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا، لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ وَعُنِّفُوا عَلَى تَرْكِهَا تَعْنِيفًا بَلِيغًا، وَقِيلَ بَلْ يُقَاتِلُهُمْ، لِاسْتِخْفَافِهِمْ بِالدِّينِ.
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " ومن وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حُضُورُ الْعِيدَيْنِ " هَذَا نَقْلُ الْمُزَنِيِّ فِي الْقَدِيمِ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الصَّلَاةِ:(2/482)
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق، من وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمْعَةِ فَرْضًا وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْعِيدَيْنِ نَدْبًا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمْعَةِ فِي عَيْنِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ حُضُورُ الْعِيدَيْنِ فِي جُمْلَةِ غَيْرِهِ.
(فَصْلٌ)
: لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْجُمْعَةُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، إِمَّا نَدْبًا أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَأَمَّا مَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمْعَةُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَالْمُسَافِرِينَ وَالْمَعْذُورِينَ فَهَلْ هُمْ مَأْمُورُونَ بِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، أَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُورِينَ بِهَا، وَكُلُّ مَوْضِعٍ تُصَلَّى فِيهِ الْجُمْعَةُ يُصَلَّى فِيهِ الْعِيدَانِ، وَمَا لَا تُصَلَّى فِيهِ الْجُمْعَةُ لَا يُصَلَّى فِيهِ الْعِيدَانِ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ الْأَئِمَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَعْدَهُ حَضَرُوا منى فلم يروا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ صَلَّى الْعِيدَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْجُمْعَةِ فِي سُقُوطِهَا عَنِ الْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْمُنْفَرِدِ، وَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَطَوَّعَ مُنْفَرِدًا صَلَّاهَا كَسَائِرِ النَّوَافِلِ بِلَا تَكْبِيرٍ زَائِدٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ مِنَ الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِهَا، لِعُمُومِ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِذَلِكَ مَا ارْتَادَ لَهَا مَكَانًا وَاسِعًا، لِأَنَّهَا يَحْضُرُهَا مَنْ لَا يَحْضُرُ الْجُمْعَةَ، فَمَنْ صَلَّى مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا صَلَّى كَصَلَاةِ الْإِمَامِ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ، فأما تركه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَلِكَ بِمِنًى فَلِانْعِكَافِهِ عَلَى الْحَجِّ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ لا لكونه مسافرا.
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ الْغُسْلَ بَعْدَ الْفَجْرِ لِلْغُدُوِّ إِلَى الْمُصَلَّى فَإِنْ تَرَكَ الْغُسْلَ تَارِكٌ أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غُسْلُ الْعِيدَيْنِ فَسُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي جُمْعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ " إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جعله الله تعالى عيدا فَاغْتَسِلُوا " فَنَبَّهَ عَلَى غُسْلِ الْعِيدِ لِتَشْبِيهِهِ بِهِ وَيُخْتَارُ أَنْ يَغْتَسِلَ بَعْدَ الْفَجْرِ الثَّانِي، فَإِنِ اغْتَسَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لا يجزئه كَالْجُمْعَةِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يُجْزِئُهُ بِخِلَافِ الْجُمْعَةِ. لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبُكُورِ بَعْدَ الْغُسْلِ، وَلَا يُمْكِنُ الْبُكُورُ غَالِبًا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَّا بِتَقَدُّمِ الْغُسْلِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلِأَنَّ وَقْتَ الْعِيدِ يَضِيقُ عَلَى الْمُتَأَهِّبِ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الفجر، فجاز تقدمه قبله.(2/483)
(باب القول في تكبير العيدين وإظهاره)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ إِظْهَارَ التَّكْبِيرِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى فِي لَيْلَةِ الفطر وليلة النحر مقيمين وسفرا في منازلهم ومساجدهم وأسواقهم ويغدون إذا صلوا الصبح ليأخذوا مجالسهم وينتظرون الصلاة ويكبرون بعد الغدو حتى يخرج الإمام إلى الصلاة وقال في غير هذا الكتاب حتى يفتتح الإمام الصلاة (قال المزني) هذا أقيس لأن من لم يكن في صلاة ولم يحرم إمامه ولم يخطب فجائز أن يتكلم واحتج بقول الله تعالى في شهر رمضان {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وعن ابن المسيب وعروة وأبي سلمة وأبي بكر يكبرون ليلة الفطر في المسجد يجهرون بالتكبير وشبه ليلة النحر بها إلا من كان حاجا فذكره التلبية} .
قال المارودي: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ فَسُنَّةٌ إِجْمَاعًا، فَأَمَّا فِي لَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ الْفِطْرِ، فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ أَيْضًا، وَحُكِيَ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَبَّرَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَقَالَ كَبَّرَ إِمَامُهُ قِيلَ لَا، قَالَ ذَاكَ رَجُلٌ أَحْمَقُ وَحُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ التَّكْبِيرُ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ عمل الحركة.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى دَافِعًا صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ التَّكْبِيرَ يَوْمَ الْفِطْرِ سُنَّةٌ فَابْتِدَاؤُهُ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يَبْتَدِي بِالتَّكْبِيرِ يَوْمَ الْعِيدِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] فَأَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ إِكْمَالِ الصَّوْمِ، وَذَلِكَ لِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ شَوَّالٍ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَوَّلَ زَمَانِ التَّكْبِيرِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْعِيدَيْنِ من غروب(2/484)
الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَتِهِمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيُّ الْعِيدَيْنِ أَوْكَدُ فِي التَّكْبِيرِ، فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَيْلَةُ النَّحْرِ أَوْكَدُ، لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَيْهَا، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَيْلَةُ الْفِطْرِ أَوْكَدُ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] .
(فَصْلٌ)
: فأما هذا التكبير، فقد قال الشافعي ها هنا فِي الْأُمِّ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ إِلَى انْصِرَافِ الْإِمَامِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنْ يَفْتَتِحَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ، لِأَنَّهُ زَمَانُ التَّأَهُّبِ لِلصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: إِلَى إِحْرَامِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَحْرُمُ قَبْلَ إِحْرَامِهِ، فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّكْبِيرِ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: إِلَى انْصِرَافِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْعِيدِ يَنْقَضِي بِفَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافِ أَقَاوِيلَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُكَبِّرُونَ مَا لَمْ يَتَعَلَّقُوا بِالصَّلَاةِ، فَتَارَةً عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِحْرَامِ، وَتَارَةً عَبَّرَ عَنْهُ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ يُوجِبُ الْإِحْرَامَ وَتَارَةً عَبَّرَ عَنْهُ بِانْصِرَافِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ انْصِرَافَهُ يَتَعَقَّبُ الْإِحْرَامَ.
(فَصْلٌ)
: التَّكْبِيرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ.
فَالْمُقَيَّدُ: مَا انْتُظِرَ بِهِ أَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ.
وَالْمُطْلَقُ: مَا لَمْ يُنْتَظَرْ بِهِ حَالٌ دُونَ حَالٍ، فَالتَّكْبِيرُ الْمُقَيَّدُ بِالصَّلَوَاتِ مَسْنُونٌ فِي عِيدِ الْأَضْحَى وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَتَكْبِيرُ لَيْلَةِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ، فَيُكَبِّرُ فِي الْأَحْوَالِ قَائِمًا وَقَاعِدًا أَوْ مَاشِيًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَكْبِيرَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِالزَّمَانِ، فَلَمْ يُخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ، وَتَكْبِيرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَوَاتِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ لِغَيْرِهَا، فَإِنْ كَبَّرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَكْبِيرًا مُطْلَقًا جَازَ، وَإِنْ كَبَّرَ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ تَكْبِيرًا مُقَيَّدًا، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: أن يكون مضيا لِلسُّنَّةِ قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُمْتَثِلًا لِمَا أمر به من سنة التكبير.
(فصل: القول في رفع الصوت بالتكبير)
وَيُخْتَارُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا يَرْفَعُ الْحَاجُّ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَيُخْتَارُ لَهُ الْإِكْثَارُ مِنَ الْقُرَبِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِمَّا مُسْنَدًا أَوْ مَوْقُوفًا، أنه قال:(2/485)
" مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ حِينَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ " وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي لَيْلَةِ عِيدٍ فَكَأَنَّمَا عَصَاهُ فِي لَيْلَةِ الْوَعِيدِ وَمَنْ عَصَاهُ وَهُوَ يَضْحَكُ دَخَلَ النَّارَ وَهُوَ يَبْكِي " وَيُخْتَارُ لَهُ الْبُكُورُ إِلَى الْمُصَلَّى لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ السَّبْقِ، وَلِيَرْتَادَ أَشْرَفَ الْبِقَاعِ، وَأَقْرَبَهَا إِلَى الْإِمَامِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ حَيْثُ هُوَ أَرْفَقُ بِهِمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْإِمَامَ رَاعٍ عَلَيْهِمْ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ العيد به فِي أَرْفَقِ الْمَوَاضِعِ بِهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْبَلَدِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاسِعَ الْمَسْجِدِ يَسَعُ جَمِيعَ أَهْلِهِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ، مِثْلَ مَكَّةَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِلَى الْيَوْمِ يُصَلُّونَ الْعِيدَ فِي مَسْجِدِهِمْ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّحْرَاءِ وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِتَحِيَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ أَصْوَنُ مِنَ الْأَنْجَاسِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ البلاد ما اتسعت وضاق سجاها عَنْ سَعَةِ جَمِيعِهِمْ، فَهَذَا الْأَوْلَى بِالْإِمَامِ أَنْ يصلي بهم العيد في جنايه وَمُصَلَّاهُ، وَيَسْتَخْلِفُ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي الْفِطْرَ وَالْأَضْحَى فِي الصَّحْرَاءِ طَلَبًا لِلسِّعَةِ وَقَدْ صَارَ مُصَلَّى الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ دَاخِلَ البلد، لأن العمارة زادت واتصلت حتى غيرت الْجِبَالَ فَصَارَ مُصَلَّاهُمُ الْيَوْمَ فِي وَسَطِهِ عِنْدَ رَحْبَةِ دَارِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ أَوْ ربح صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ، رُوِيَ أَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الْفِطْرَ فِي مَسْجِدٍ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ حَدِّثِ النَّاسَ بِمَا حَدَّثْتَنِي بِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: صَلَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْفِطْرَ فِي الْمَسْجِدِ في يوم مطير.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَنْ يَمْشِيَ إِلَى الْمُصَلَّى وَيَلْبَسَ عِمَامَةً وَيَمْشِي(2/486)
النَّاسُ وَيَلْبَسُونَ الْعَمَائِمَ وَيَمَسُّونَ مِنْ طِيبِهِمْ قَبْلَ أن يغدوا وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ (قال الشافعي) وأحب ذلك إلا أن يضعف فيركب ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ الْمُصَلَّى لِصَلَاةِ الْعِيدِ، أَنْ يَكُونَ مَاشِيًا لَا رَاكِبًا، لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ قَالَ مَا رَكِبَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في عيد ولا جنازة قط، ولأنه إذا مشى قصرت خطاه فكثر ثوابه، ولأن لا يُؤْذِيَ بِرُكُوبِهِ مَنْ جَاوَرَهُ أَوْ خَالَطَهُ، إِلَّا أَنْ يَضْعُفَ عَنِ الْمَشْيِ لِمَرَضِهِ أَوْ لِطُولِ طَرِيقِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْكَبَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا لِأَهْلِ الْجِهَادِ يَقْرُبُ مِنْ بَلَدِ الْعَدُوِّ فَرُكُوبُهُمْ وَإِظْهَارُ زِيِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ أَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْزَازِ الدِّينِ وَتَحْصِينِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الرَّاجِعُ إِلَى مَنْزِلِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَإِنْ شَاءَ مَشَى.
(فَصْلٌ)
: الْمُخْتَارُ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الزِّينَةِ، وَحُسْنِ الْهَيْئَةِ وَلُبْسِ الْعَمَائِمِ، وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ وَتَنْظِيفِ الْجَسَدِ، وَأَخْذِ الشَّعْرِ وَاسْتِحْسَانِ الثِّيَابِ، وَلُبْسِ الْبَيَاضِ مَا يَخْتَارُهُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ وَأَفْضَلُ، لِأَنَّهُ يَوْمُ زِينَةٍ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي جُمْعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ " إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِيدًا لَكُمْ فَاغْتَسِلُوا " فَلَمَّا أُمِرَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْعَةِ تَشْبِيهًا بِالْعِيدِ كَانَ فِعْلُهُ فِي الْعِيدِ أَوْلَى.
(مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ في وقت العيد)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُ الْإِمَامِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُوَافِي فِيهِ الصَّلَاةَ وَذَلِكَ حِينَ تَبْرُزُ الشَّمْسُ وَيُؤَخَّرُ الْخُرُوجُ فِي الْفِطْرِ عَنْ ذَلِكَ قليلا وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ " أَنْ عَجِّلِ الأضحى وأخر الفطر وذكر الناس " وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يلبس برد حبرة ويعتم في كل عيد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَدَاءُ صَلَاةِ الْعِيدِ هُوَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَتَمَامُ طُلُوعِهَا فَذَلِكَ أَوَّلُ وَقْتِهَا، وَآخِرُهُ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى أَطْرَافِ الْجِبَالِ كَالْعَمَائِمِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّاهَا وَالشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ وَرُوِيَ قِيدَ رُمْحَيْنِ فَإِنْ صَلَّاهَا مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ سَوَاءً لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ وَقْتٌ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ، فَأَمَّا الْوَقْتُ الَّذِي يُخْتَارُ فِيهِ(2/487)
الْبُكُورُ إِلَى الْمُصَلَّى فَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى أَنْ يَكُونَ إِمَامًا، فَيَأْتِي الْمُصَلَّى فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الصَّلَاةُ.
(فَصْلٌ)
: يُخْتَارُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَجِّلَ صَلَاةَ الْأَضْحَى وَيُؤَخِّرَ صَلَاةَ الْفِطْرِ عَنْهَا قَلِيلًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ " أَنْ عَجِّلِ الْأَضْحَى وَأَخِّرِ الْفِطْرَ وَذَكِّرِ النَّاسَ "، وَلِأَنَّ النَّاسَ فِي الْفِطْرِ قَدْ أُمِرُوا بِتَفْرِيقِ زَكَاتِهِمْ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ فَوَسَّعَ لَهُمْ فِي زَمَانِهَا لِاشْتِغَالِهِمْ وَأُمِرُوا فِي الْأَضْحَى بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى نَحْرِ أَضَاحِيِّهِمْ فَقَدَّمَ فعلها لإعجالهم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويطعم يوم الفطر قبل الغدو وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كان يطعم قبل الخروج إلى الجبان يوم الفطر ويأمر به وعن ابن المسيب قال كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل الصلاة ولا يفعلون ذلك يوم النحر وروي عن أبن عمر أنه كان يغدو إلى المصلى في يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبر حتى يأتي المصلى فيكبر بالمصلى حتى إذا جلس الإمام على المنبر ترك التكبير وعن عروة وأبي سلمة أنهما كانا يجهران بالتكبير حين يغدوان إلى المصلى (قال) وأحب أن يلبس أحسن مَا يَجِدُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَطْعَمَ النَّاسُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ، وَلَا يَطْعَمُونَ فِي الْأَضْحَى إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِمْ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَطْعَمُ فِي الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَفِي الْأَضْحَى إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ وَرَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يأكل الْفِطْرِ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الصَّلَاةِ تَمَرَاتٍ ثَلَاثًا خَمْسًا سَبْعًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَكْلَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ كَانَ مُحَرَّمًا فَاسْتُحِبَّ الْأَكْلُ فِيهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيُعْلَمَ زَوَالُ التَّحْرِيمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْأَضْحَى.
الثاني: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ تَفْرِقَةُ الْأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ كَانَتْ السُّنَّةُ فِي الْأَكْلِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَلَمَّا كَانَتْ تَفْرِقَةُ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَانَتِ السُّنَّةُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيُسَاوِيَ الْفُقَرَاءَ فِي أَكْلِهِمْ مِمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ فِي يَوْمِهِمْ.(2/488)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا بَلَغَ الْإِمَامُ الْمُصَلَّى نُودِيَ الصَّلَاةَ جَامِعَةً بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذَّنَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَا أَنْ يُقَامَ لَهَا وَإِنَّمَا يُنَادَى لَهَا الصَّلَاةَ جَامِعَةً أَوْ الصَّلَاةَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يأمر أن ينادى للعبد وَالِاسْتِسْقَاءِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْوُلَاةِ أَحْدَثَ الْأَذَانَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ، فَرَوَى أَبُو قِلَابَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَذَّنَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَذَّنَ لَهَا مُعَاوِيَةُ، وَخَطَبَ لَهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَكَانَ مَرْوَانُ مِنْ قِبَلِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَامَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى مَرْوَانَ وَقَالَ لَقَدْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ، وَلَا إِقَامَةٍ وَيَخْطُبُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، قَالَ تِلْكَ سُنَّةٌ مَتْرُوكَةٌ، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ أَدَّى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: أَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِكَ وَذَلِكَ لَضَعْفُ الْإِيْمَانِ ثُمَّ جَرَى عَلَيْهِ بَنُو أُمَيَّةَ أَيَّامَ مُلْكِهِمْ إِلَى أَنْ وَلِيَ بَنُو الْعَبَّاسِ، وَرَدُّوا الْأَمْرَ إِلَى حَالِهِ، وَهُوَ الْيَوْمَ سِيرَةُ الْأَنْدَلُسِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي أُمَيَّةَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ قَالَ هَلُمُّوا إِلَى الصَّلَاةِ، أَوْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، أَوْ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ كرهنا ذلك وأجزأه.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم يحرم بِالتَّكْبِيرِ، فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صَلَاةُ الْعِيدِ فَرَكْعَتَانِ إِجْمَاعًا، وَيَتَضَمَّنُ تَكْبِيرًا زَائِدًا قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَدَدِهِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّكْبِيرَ الزَّائِدَ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، سَبْعٌ فِي الْأُولَى سِوَى الْإِحْرَامِ وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ سِوَى الْإِحْرَامِ وَكُلُّ التَّكْبِيرِ مِنْ قَبْلِ الْقِرَاءَةِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: التَّكْبِيرُ الزَّائِدُ إِحْدَى عَشْرَةَ سِتٌّ فِي الْأُولَى وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ.(2/489)
وَقَالَ أبو حنيفة: يُزَادُ فِي الْأُولَى ثَلَاثُ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَيُزَادُ فِي الثَّانِيَةِ ثَلَاثًا بَعْدَ الْقِرَاءَةِ اسْتِدْلَالًا بِخَبَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ سَأَلَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى كَبَّرَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْعِيْدِ أَرْبَعًا، كَتَكْبِيرِ الْجِنَازَةِ، وَوَالَى بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا بِالْبَصْرَةِ حَيْثُ كُنْتُ بِهَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ صَدَقَ.
وَالْخَبَرُ الثَّانِي: مَا رَوَاهُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ فِي الْعِيدِ أَرْبَعًا وَالْتَفَتَ وَقَالَ أَبْلِغْ كَتَكْبِيرٍ الْجِنَازَةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَبَّرَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، فِي الْأُولَى سَبْعًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ، وَهَذَا أَصَحُّ إِسْنَادًا وَأَوْثَقُ رِجَالًا، وَأَثْبَتُ لَفْظًا لِأَنَّهُ جَاءَ بِقَوْلِهِ سَمِعْتُ، وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُسْنَدًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: التَّكْبِيرُ فِي الْأُولَى فِي الْفِطْرِ سَبْعًا وَفِي الْآخِرَةِ خَمْسًا كِلْتَاهُمَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَهَذَا نَصٌّ قَدْ رُوِيَ قَوْلًا، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَنَسٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَهُ فَكَانَ مَا رَوَيْنَاهُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:(2/490)
أحدهما: زيادة تكبير.
والثاني: كثرة رواته.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويرفع كُلَّمَا كَبَّرَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَيَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ آيَةٍ لَا طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ يُهَلِّلُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُمَجِّدُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَحْرَمَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ نَوَاهَا مَعَ إِحْرَامِهِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، وجهت وجهي للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ ثُمَّ يُكَبِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعًا ثُمَّ يَتَعَوَّذُ ثُمَّ يَقْرَأُ، وَقَالَ محمد بن الحسن يَأْتِي بِالتَّوَجُّهِ بَعْدَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ مَعَ الِاسْتِعَاذَةِ، وَقَالَ أبو يوسف يَتَعَوَّذُ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ مَعَ التَّوَجُّهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ التَّوَجُّهِ وَتَأْخِيرِ الِاسْتِعَاذَةِ أَوْلَى، لِأَنَّ التَّوَجُّهَ يَتَعَقَّبُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَالتَّعَوُّذَ يَتَعَقَّبُهُ الْقِرَاءَةُ.
(فَصْلٌ)
: وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ الْإِحْرَامِ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ الزَّوَائِدِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا تَتْبَعُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَيَسْتَوْفِي فِي حَالِ الْقِيَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَنِهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.
(فَصْلٌ)
: وَيَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ آيَةٍ وَسَطًا، يُهَلِّلُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُكَبِّرُهُ وَيُمَجِّدُهُ وَلِيَنْتَهِيَ تَكْبِيرُهُ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، وَقَالَ أبو حنيفة، يُكَبِّرُ تِسْعًا مُتَوَالِيَاتٍ، وَقَالَ مَالِكٌ يَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ سَاكِنًا، وما ذهبنا إِلَيْهِ أَوْلَى، لِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ فِي حَالِ الْقِيَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا الذِّكْرُ كَتَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ، وَيَضَعَ يُمْنَى يَدَيْهِ عَلَى الْيُسْرَى بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنْ سَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ويجهر بقراءته ثم يركع ويسجد فإذا قام في الثانية كبر خمس تكبيرات سوى تكبيرة القيام من الجلوس ويقف بين كل تكبيرتين كقدر قراءة آية لا طويلة ولا قصيرة كما وصفت فإذا فرغ من خمس تكبيرات قرأ بأم القرآن وب {اقتربت الساعة وانشق القمر} ثم يركع ويسجد ويتشهد ويسلم ولا يقرأ من خلفه وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبا بكر وعمر كبروا في العيدين سبعا وخمسا وصلوا قبل الخطبة وجهروا بالقراءة وروي أ، النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يقرأ في الأضحى والفطر ب {ق والقرآن المجيد} و {اقتربت الساعة وانشق القمر} .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّكْبِيرَاتِ السَّبْعِ اسْتَعَاذَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ مُبْتَدِئًا " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ثُمَّ قَرَأَ بَعْدَهَا سُورَةَ {قَافْ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} فَإِذَا رَكَعَ وَسَجَدَ قام(2/491)
إلى الثانية فكبر خمسا، وقرأ الفاتحة {واقتربت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ الْقِرَاءَةَ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ بِمَاذَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَلَاةِ الْعِيدِ؟ فَقَالَ فِي الْأُولَى بِ {قاف} وفي الثانية ب {اقتربت الساعة} فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَدَقْتَ فَلَوْ قرأ في الأولى بسبح وفي الثانية بالغاشية، أَوِ اقْتَصَرَ فِيهِمَا عَلَى الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَهُ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، وَيَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ، لِمَا روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، فَإِنْ أَسَرَّ فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَأَجْزَاهُ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُنْصِتُ مُسْتَمِعًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ.
(فَصْلٌ)
: فَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ حَتَّى أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ فَهَلْ يَعُودُ إِلَى التَّكْبِيرِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْقَدِيمُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ يَعُودُ فَيُكَبِّرُ، لِأَنَّ الْقِيَامَ مَحَلٌّ لِلتَّكْبِيرِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فِي مَحَلِّهِ فَعَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ فَعَلَى هَذَا إِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنَ الفاتحة فعاد إِلَى التَّكْبِيرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْفَاتِحَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى، لِقَطْعِهِ ذَلِكَ بِأَخْذِهِ فِي التَّكْبِيرِ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الْقِرَاءَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجَزْأَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَدِيدُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حنيفة يَمْضِي فِي الْقِرَاءَةِ وَلَا يَعُودُ إِلَى التَّكْبِيرِ، لِأَنَّهُ هَيْئَةٌ وَالْهَيْئَاتُ لَا تُقْضَى بَعْدَ فَوَاتِهَا وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ فِيهَا.
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ وَقَدْ فَاتَهُ بَعْضُ التَّكْبِيرِ كَبَّرَ مَعَهُ مَا بَقِيَ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا فَاتَ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِمَامِ فَرْضٌ وَالتَّكْبِيرَ هَيْئَةٌ مَسْنُونَةٌ، وَالْفَرْضُ لَا يُتْرَكُ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَبَّرَ مَعَهُ خَمْسًا، وَإِنْ كَانَتْ أَوَّلِيَّةً لِأَنَّهُ تابع الإمام كَبَّرَ خَمْسًا، فَإِذَا قَامَ لِيَقْضِيَ الرَّكْعَةَ الْفَائِتَةَ كبر خمسا، لأنها ثانية والركعة الثانية من صلاة العيد مضمنة خمس تكبيرات.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَخْطُبُ فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُسَلِّمُ ويرد الناس عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى غَالِبًا وَيُنْصِتُونَ وَيَسْتَمِعُونَ مِنْهُ وَيَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جِلْسَةً خفيفة وأحب أن يعتمد على شيء وأن يثبت يديه وجميع بدنه فإن كان انفطر أمرهم بطاعة الله وحضهم على الصدقة والتقرب إلى الله جل وثناؤه والكف عن معصيته ثم ينزل فينصرف ".(2/492)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْخُطَبُ الْمَشْرُوعَةُ عَشْرُ خُطَبٍ: خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْخُسُوفِ، وَالْكُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَأَرْبَعُ خُطَبٍ فِي الْحَجِّ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيَوْمَ الْعَاشِرِ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ، وَهُوَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ هِيَ نَوْعَانِ نَوْعٌ مِنْهَا يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، وَنَوْعٌ يَتَعَقَّبُ الصَّلَاةَ، فَأَمَّا الَّذِي يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، فخطبتان الجمعة وعرفة، وأما التي تنعقب الصَّلَاةَ فَالثَّمَانِي الْبَاقِيَةُ، وَمَا يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ وَاجِبٌ، وَمَا يَتَعَقَّبُهَا سُنَّةٌ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَخُطَبُ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ تُفْعَلُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ لِلْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ تَوَجَّهَ إلى منبره فرقأ عَلَيْهِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى مَوْقِفِهِ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى غَالِبًا يَعْنِي السَّلَامَ وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ غَالِبًا فِي الصَّحَابَةِ منتشرا فيهم.
والثاني: يريد فعل السلام ويروى غَالِبًا عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا سَلَّمَ فَهَلْ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً لِلِاسْتِرَاحَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ يَجْلِسُ بَعْدَ سَلَامِهِ ثُمَّ يَقُومُ إِلَى خُطْبَتِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَجْلِسَ، لِأَنَّهُ فِي الْجُمْعَةِ يَجْلِسُ انْتِظَارًا لِلْأَذَانِ، وَلَيْسَ لِلْعِيدِ أَذَانٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجْلِسُ لِلِاسْتِرَاحَةِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْكَنَ لِجَسَدِهِ وَأَمْضَى لِخَاطِرِهِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَ قَائِمًا، فَإِنْ خَطَبَ جَالِسًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ أَجْزَاهُ بِخِلَافِ الْجُمْعَةِ لِأَنَّ خُطْبَةَ الْجُمْعَةِ فَرْضٌ كَالصَّلَاةِ، فلم يجز أَنْ يَفْعَلَهَا جَالِسًا، وَخُطْبَةُ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ كَالصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهَا جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ ابْتَدَأَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى فَكَبَّرَ تِسْعًا تِسْعًا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا جَلَسَ جِلْسَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ قَامَ إِلَى الثانية فكبر سبعا لرواية عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ " مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ فِي الْأُولَى تِسْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ سَبْعًا " وَقَوْلُهُ مِنَ السُّنَّةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَوْ سُنَّةَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالِاقْتِدَاءُ بِهِ حَسَنٌ، وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ، فَالْأُولَى تَتَضَمَّنُ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ، وَالثَّانِيَةُ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ مَعَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ، فَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَتَيْنِ، قَالَ الشافعي وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُدْخِلَ بَيْنَ ظَهَرَانَيِ(2/493)
التَّكْبِيرِ التَّحْمِيدَ وَالثَّنَاءَ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَتَرْكُهُ أَوْلَى، وَيُخْتَارُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى شَيْءٍ، لِيَكُونَ أَسْكَنَ لِجَسَدِهِ، فَإِنْ أَسْدَلَ يَدَيْهِ أَوْ تَرَكَهُمَا تَحْتَ صَدْرِهِ جَازَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى بَعْدَ وَاجِبَاتِهَا بِأَمَانَةٍ مَا يَلِيقُ بِزَمَانِهِ، فَإِنْ كَانَ الْعِيدُ فِطْرًا بَيِّنَ حُكْمَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، عَلَى مَنْ وَجَدَهَا فَاضِلَةً عَنْ قُوتِهِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ زَمَانَ وُجُوبِهَا، وَالْحُبُوبَ الَّتِي يَجُوزُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْهَا، وَقَدْرَ الصَّاعِ الْمُؤَدَّى، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ الْعِيدُ أَضْحَى بَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ الضَّحَايَا، وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَوَّلَ زَمَانِ النَّحْرِ وَآخِرَهُ، وَالْعُيُوبَ الْمَانِعَةَ وَالْأَسْنَانَ الْمُعْتَبَرَةَ، وَقَدْرَ مَا يَأْكُلُ وَيَتَصَدَّقُ، وَحُكْمَ التَّكْبِيرِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا ذَكَرَ خِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّحَايَا وَزَكَاةِ الْفِطْرِ، لِيَعْلَمَ بِبَيَانِهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ فَيَعْلَمَ الجاهل ويتذكر العالم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَنَفَّلَ الْمَأْمُومُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا فِي بَيْتِهِ وَالْمَسْجِدِ وَطَرِيقِهِ، وَحَيْثُ أَمْكَنَهُ كَمَا يُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا وَرُوِيَ أَنَّ سَهْلَ بْنَ السَّاعِدِيِّ وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ كَانَا يُصَلِّيَانِ قَبْلَ الْعِيدِ وَبَعْدَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَعْدَ خُرُوجِهِ، لَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَلَا بَعْدَهَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ مُنْتَظَرٌ وَبَعْدَهَا خَاطِبٌ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا إِذَا فَرَغَ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا كَالْإِمَامِ.
وَقَالَ أبو حنيفة يُكْرَهُ لَهُ التَّنَفُّلُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا يُكْرَهُ لَهُ بَعْدَهَا.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) {العنكبوت: 45) وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الصَّلَاةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ " وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنَّ الْإِمَامَ مُتَّبَعٌ فِي أَفْعَالِهِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا لَهُ التَّنَفُّلَ لَتَبِعَهُ النَّاسُ فِيهِ وَصَارَ ذَلِكَ مسنونا، وليس كذلك المأموم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويصلي العيدين الْمُنْفَرِدُ فِي بَيْتِهِ، وَالْمَسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الصَّلَاةِ، وَحُكْمَ مَنْ يُؤْمَرُ بِهَا وَمَنْ لَا تَلْزَمُهُ الْجُمْعَةُ هَلْ يُؤْمَرُ بِصَلَاةِ الْعِيدِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
قَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا يُؤْمَرُ بِهَا.
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَصَحُّ: يُؤْمَرُ بِهَا وَذَكَرْنَا تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ حُضُورَ الْعَجَائِزِ غَيْرِ ذَاتِ الْهَيْئَةِ الْعِيدَيْنِ(2/494)
وَأُحِبُّ إِذَا حَضَرَ النَّسَاءُ الْعِيدَيْنِ أَنْ يَتَنَظَّفْنَ بالماء ولا يلبسن شهرة مِنَ الثِّيَابِ وَتُزَيَّنُ الصِّبْيَانُ بِالصَّبْغِ وَالْحُلِيِّ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ يُسْتَحَبُّ لِلْعَجَائِزِ الْمُسِنَّاتِ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ أَنْ يَحْضُرْنَ صَلَاةَ الْعِيدِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تحرموا إماء الله مساجد الله ولتخرجن تَفِلَاتٍ ".
وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ جَاءَ إِلَى النِّسَاءِ ماشيا متكئا على قوس فَوَقَفَ عَلَيْهِنَّ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ اللَّهَ تَعَالَى، وَحَثَّهُنَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، قَالَ جَابِرٌ فَتَصَدَّقَتْ هَذِهِ بِثَوْبِهَا وَهَذِهِ بِبَعْضِ حُلِيِّهَا وَهَذِهِ بِبَعْضِ مَا سَنَحَ لَهَا فَأَمَّا حُضُورُ النِّسَاءِ الشَّبَابِ فَقَدِ اسْتَحَبَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ تَعَلُّقًا بِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُخَدَّرَاتِ إِلَى الْمُصَلَّى فَقِيلَ إِنَّهُنَّ يَحِضْنَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيَشْهَدْنَ الدُّعَاءَ وَالْخَيْرَ وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ خُرُوجُهُنَّ مَكْرُوهٌ، لِمَا يُخَافُ مِنَ افْتِتَانِهِنَّ بِالرِّجَالِ، وَافْتِتَانِ الرِّجَالِ بِهِنَّ، وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِنِسَائِهِ هِيَ هَذِهِ ثُمَّ على طهر، قَالَتْ عَائِشَةُ لَوْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ أَشَدَّ الْمَنْعِ وَمَنِ اخْتَرْنَا حُضُورَهُ مِنَ النِّسَاءِ فَيُكْرَهُ لَهُنَّ الطيب والزينة، ولبس الشهوة مِنَ الثِّيَابِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، وَيُخْتَارُ زِينَتُهُمْ بِالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى ذُكُورِهِمْ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ مِنَ الذَّهَبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ لِإِطْلَاقِ النَّهْيِ بتحريمهما عَلَى ذُكُورِ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ صَغِيرٍ مِنْ كَبِيرٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ، لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِيمَنْ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ وَتَتَوَجَّهُ الْعِبَادَةُ نَحْوَهُ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَغْدُو مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعُ مِنْ أُخْرَى وَأُحِبُّ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ".(2/495)
قال الماوردي: وهذا كما قَالَ وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَيَحْتَمِلُ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وُجُوهًا مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، لِيُسَاوِيَ فِي مُحَرَّفِهِ وَمَمَرِّهِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِذَلِكَ فِي مَحَالِّهِمْ، فَيَقُولُونَ مَرَّ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي أَصْحَابِهِ، فَكَانَ إِذَا مَضَى إِلَى الْمُصَلَّى فِي أَحَدِ الْحَيَّيْنِ رَجَعَ فِي الْحَيِّ الْآخَرِ لِيُسَاوِيَ بَيْنَهُمَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَصَدَّقُ عَلَى مَسَاكِينِ الطَّرِيقِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِهِ لِيَتَصَدَّقَ عَلَى مَسَاكِينِهِ، وَمِنْهَا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْصِدُهُ الْفُقَرَاءُ بِالسُّؤَالِ وَلَا يَحْضُرُهُ مَا يُغْنِيهِمْ، فَكَانَ يَرْجِعُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ تَوَقِّيًا لمسئلتهم، ومنها أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ سُئِلَ فِي طَرِيقِهِ عَنْ مَعَالِمِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَأَحَبَّ أَنْ يَعُودَ فِي آخَرَ لِيُعَلِّمَ أَهْلَ الطَّرِيقَيْنِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِلَسَّعَةِ وَقِلَّةِ الزِّحَامِ، وَقِيلَ بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَنْتَشِرَ الْمُسْلِمُونَ فِي الطَّرِيقِ لِيَزْدَادَ غَيْظًا لِلْيَهُودِ، وَقِيلَ بَلْ فَعَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ تَجَنُّبًا لِمَكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِبْطَالًا لِكَيْدِهِمْ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا تَرَصَّدُوا لَهُ بِالْمَكْرِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ، وَقِيلَ بَلْ لِتَشْهَدَ الْبِقَاعُ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ مَنْ مَشَى فِي خَيْرٍ وَبِرٍّ شَهِدَتْ لَهُ الْبِقَاعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ فِي شَهَادَةِ الْبِقَاعِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْطِقُهَا فَتَشْهَدُ بِذَلِكَ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ مَلَائِكَةُ الْمَوْضِعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَشْهَدُ لَهُ سُكَّانُ الْمَوْضِعِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ) {الدخان: 29) يَعْنِي سُكَّانَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ مَا يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ وَيَطُولُ ذِكْرُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعَانِي، فَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَمْ يُسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لمعنى يشاركه فيه غيره استحببناه لِمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ شَكَكْنَا هَلْ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ أَوْ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ مِثْلُ فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اقتداء به، وقال أبو علي ابن أَبِي هُرَيْرَةَ سَوَاءٌ فَعَلَهُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ أَوْ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، فَالْمُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ ثُمَّ يَصِيرُ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ، كَالِاضْطِبَاعِ وَالرَّمَلِ، إِلَّا أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ وَأَبَا عَلِيٍّ قَدِ اتَّفَقَا أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ فِي وَقْتِنَا.(2/496)
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَعْنًى يختص به هل يكون مستحبا وفي وَقْتِنَا أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يستحب، وعند أبي علي يستحب لقول الله تعالى.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا كَانَ الْعُذْرُ مِنْ مَطَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أمرته أن يصلي في المساجد وروي أن عمر صلى بالناس في يوم مطير في المسجد في يوم الفطر (قال) ولا أرى بأسا أن يأمر الإمام من يصلي بضعفه الناس في موضع من المصر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حَالَ الْبِلَادِ، وَأَنَّ مَا كَانَ وَاسِعَ الْجَامِعِ لَا يَضِيقُ بِأَهْلِهِ أُقِيمَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ لِلْعِيدِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا ضَيِّقَ الْمَسْجِدِ لَا يَكْفِي جَمِيعَ أَهْلِهِ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي مُصَلَّاهُ، فَإِنْ بَعُدَتْ أَقْطَارُ الْبَلَدِ وَأَطْرَافُهُ وَشَقَّ عَلَى ضَعَفَةِ أَهْلِهِ الْخُرُوجُ إِلَى مُصَلَّاهُ اسْتَخْلَفَ فِي جَامِعِهِ مَنْ يُصَلِّي بِالْعَجَزَةِ وَمَنْ لَا نَهْضَةَ فِيهِ وَلَا حَرَكَةَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرِ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ أَوْ خَوْفٍ صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْجَامِعِ، فَإِنْ ضَاقَ بِالنَّاسِ اسْتَخْلَفَ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ مَنْ يُصَلِّي بِبَاقِيهِمْ وَاللَّهُ سبحانه أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ومن جاء والإمام يخطب جلس حتى يفرغ فَإِذَا فَرَغَ قَضَى مَكَانَهُ أَوْ فِي بَيْتِهِ (قال) وإذا كان العيد أضحى علمهم الإمام كيف ينحرون وأن على من نحر من قبل أن يجب وقت نحر الإمام أن يعيد ويخبرهم بما يجوز من الأضاحي وما لا يجوز ويسن ما يجوز من الإبل والبقر والغنم وأنهم يضحون يوم النحر وأيام التشريق كلها (قال) وكذلك قال الحسن وعطاء ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ تَوَجَّهَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ فَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْخُطْبَةِ بعد فراغه من الصلاة، فلا تخلو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْمُصَلَّى، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَمِعَ الْخُطْبَةَ، وَلَا يُصَلِّي حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ صَلَّى حِينَئِذٍ إِنْ شَاءَ فِي مَوْضِعِهِ بِالْمُصَلَّى، وَإِنْ شَاءَ فِي مَنْزِلِهِ، لِأَنَّ وَقْتَهَا بَاقٍ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْمَوَاضِعِ أَحَقَّ بِهَا فِي الِانْفِرَادِ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنْ خَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ صَلَّى وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا مَعَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا وَتَعَذُّرِ قَضَائِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الإمام في المسجد فينبغي لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالصَّلَاةِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا اسْتَمَعَ بَاقِيَ الْخُطْبَةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الدَّاخِلَ إِلَى الْمَسْجِدِ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ فِيهِ تَحِيَّةً لَهُ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الدَّاخِلِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ بِالرُّكُوعِ قَبْلَ الِاسْتِمَاعِ تَحِيَّةً لَهُ، وَلَيْسَ كذلك المصلي، فإذا ثبت أنه يصلي وإن كَانَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ أَوْ تَحِيَّةَ(2/497)
الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدِ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ وَيَنُوبُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَأَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي صَلَاةِ فَرِيضَةٍ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي مَعَهُ، وَيَنُوبُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ يَجْلِسُ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ صَلَّى الْعِيدَ، لِأَنَّ الْمَأْمُومَ تَبَعٌ لِإِمَامِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ اتِّبَاعِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْخُطْبَةِ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ فِي صَلَاةِ فَرِيضَةٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ لَا يَزَالُ يُكَبِّرُ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ مِنَ الظُّهْرِ مِنَ النَّحْرِ إِلَى أَنْ يُصُلِّيَ الصُّبْحَ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيُكَبِّرُ بَعْدَ الصُّبْحِ ثُمَّ يَقْطَعُ وَبَلَغَنَا نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَالصُّبْحُ آخِرُ صَلَاةٍ بِمِنًى وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَكْبِيرَ الْعِيدَيْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، فَالْمُطْلَقُ مَا تَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ وَتَشْرِيفِهِ وَعَظِيمِ حُرْمَتِهِ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَضْحَى وَالْفِطْرُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ صَلَاةٌ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ مَضَى تَفْصِيلُهُ، وَإِنَّ أَوَّلَ زَمَانِهِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وآخره إلى عِنْدِ ظُهُورِ الْإِمَامِ، فَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِالصَّلَوَاتِ وَأَتَى بِهِ فِي أَعْقَابِهَا، فَهَذَا يَخْتَصُّ بِهِ الْأَضْحَى دُونَ الْفِطْرِ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُرْمَةِ الْحَجِّ، وَيَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّحْرِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْأَضْحَى، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، يَقْطَعُهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخر أيام التشريق، فيكبر عقيب خمس عشر صَلَاةً وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الْمَغْرِبِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَتَكُونُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ صَلَاةً، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ إِنَّهُ كَانَ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى بَعْدِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَتَكُونُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً ثُمَّ قَالَ وَأَسْتَخِيرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُكَبِّرُ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاسَ فِي التَّكْبِيرِ تَبَعٌ لِلْحَاجِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] فَخَاطَبَ الْحَاجَّ بِذَلِكَ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالْمَنَافِعِ شُهُودَ عَرَفَةَ، وَقِيلَ أراد به النحر، والحاج يبتدؤن بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ النحر.(2/498)
والقول الثاني: يبتدؤن بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الْمَغْرِبِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ إِلَى بَعْدِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهَا لَيْلَةُ عِيدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهَا مَسْنُونًا كَالتَّكْبِيرِ الْمُطْلَقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهُ يِبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ التَّشْرِيقِ، وَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: لِأَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يُخْتَصُّ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهِ مَسْنُونًا كَيَوْمِ النَّحْرِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَيْسَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَقَاوِيلَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُهُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَقَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنَّهُ يَبْتَدِئُ مِنْ بَعْدِ الْمَغْرِبِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ التَّكْبِيرَ الْمُطْلَقَ وَقَوْلُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنَّمَا قَالَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ غيره، والله تعالى أعلم.(2/499)
(باب التكبير)
قال الشافعي: رضي الله عنه: " والتكبير كَمَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الصلوات (قال) فأجب أَنْ يَبْدَأَ الْإِمَامُ فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا نَسَقًا وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَحَسَنٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ السُّنَّةُ الْمَأْثُورَةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا نَسَقًا فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كثيرا، وسبحان الله بكرا وَأَصِيلًا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، ونصر عبده، وسبحان الله وَحْدَهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ كَانَ حَسَنًا، وَمَا زَادَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَحَسَنٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلَيْهِ عَمَلُ الناس في وقتنا، وما ذكرنا مِنَ الثَّلَاثِ النَّسَقِ أَوْلَى، لِأَنَّنَا رُوِّيْنَا عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ عَلَى الصَّفَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الزِّيَادَةِ، وَلِأَنَّهَا تَكْبِيرَاتٌ زِيدَتْ شِعَارًا لِلْعِيدِ فَكَانَتْ وِتْرًا كَتَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ، وَكَيْفَ كَبَّرَ جَازَ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ فَاتَهُ شِيْءٌ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَضَى ثُمَّ كَبَّرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ فِي أَفْعَالِ صَلَاتِهِ وَلَيْسَ التَّكْبِيرُ مِنْهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِسَلَامِ الْإِمَامِ قد خرج من إمامته فلم يلزم الِاقْتِدَاءُ بِهِ، فَإِنْ كَبَّرَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَقْصِدْ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ بِاتِّبَاعِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ التَّكْبِيرَ مزاده كارها.(2/500)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويكبر خلف الفرائض والنوافل، قال المزني الذي قبل هذا عندي أَوْلَى بِهِ لَا يُكَبِّرُ إِلَّا خَلْفَ الْفَرَائِضِ ".
قال الماوردي: وهذا صحيح أما التكبير فسن لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة التَّكْبِيرُ سُنَّةٌ لِلرَّجُلِ الْمُقِيمِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَالْمُسَافِرِ وَمَا ذَكَرْنَا أَوْلَى، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكَبِّرُوا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] .
وإذا صَحَّ أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ لِلْكَافَّةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ خَلْفَ الْفَرَائِضِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ الْمُزَنِيُّ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُونَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُكَبِّرُ خَلْفَ الْفَرَائِضِ دُونَ النَّوَافِلِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَبِهِ جَرَى الْعَمَلُ تَوَارُثًا فِي الْأَمْصَارِ بين الأئمة، فمن قال تمهيدا لهم عما نَقْلِهِ الْمُزَنِيَّ مِنْ تَكْبِيرِهِ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَلِطَ فِي النَّقْلِ مِنَ التَّنْبِيهِ إِلَى التَّكْبِيرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَلِطَ فِي الْمَعْنَى دُونَ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالتَّكْبِيرِ خَلْفَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ مَا تَعَلَّقَ بِالزَّمَانِ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ، دُونَ مَا تَعَلَّقَ بِالصَّلَوَاتِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَقَالَ آخَرُونَ، بَلِ النَّوَافِلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا سُنَّ مُنْفَرِدًا فَلَا يُكَبَّرُ خَلْفَهُ.
وَالثَّانِي: مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْخَسُوفَيْنِ فَهَذَا يُكَبَّرُ خَلْفَهُ، وَلَهُ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ تَشْبِيهًا بِالْفَرَائِضِ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُكَبَّرُ خَلْفَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُكَبَّرُ لِفِعْلِهِ فِي جَمَاعَةٍ.
وَالثَّانِي: لَا يُكَبَّرُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صَلَاةً شَرْعِيَّةً ذَاتَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، وَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ وَتَرَحُّمٌ فَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَضَاهَا بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَمْ يُكَبِّرْ خَلْفَهَا، وَلَوْ ذَكَرَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ صَلَّاهَا فَائِتَةً قَضَاهَا، وَكَبَّرَ خَلْفَهَا، لِأَنَّ التَّكْبِيرَ من سنة الوقت.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ فِي الْفِطْرِ بِأَنَّ الْهِلَالَ كَانَ بِالْأَمْسِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ صَلَّى بِالنَّاسِ الْعِيدَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لم يصلوا لأنه(2/501)
عمل في وقت وإذا جاوزه لم يعمل في غيره كعرفة وقال في كتاب الصيام وأحب إن ذكر فيه شيئا وإن لم يكن ثابتا أن يعمل من الغد ومن بعد الغد (قال المزني) قوله الأول أولى به لأنه احتج فقال لو جاز أن يقضي كان بعد الظهر أجوز وإلى وقته أقرب (قال المزني) وهذا من قوله على صواب أحد قوليه عندي دليل وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَ الْإِمَامِ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَقَدْ أَصْبَحُوا صِيَامًا عَلَى الشَّكِّ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِأَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ مِنَ اللَّيْلِ، فَإِنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ أَفْطَرَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، لأن ذلك وقت للصلاة، ما لم تزول الشَّمْسُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُمَا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِهِ، وَفِي إِعَادَةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْغَدِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ لَا تُعَادُ، لِأَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْفَوَاتِ كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُعَادُ مِنَ الْغَدِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ دائبة فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ، وَقَدْ رَوَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِقَضَائِهَا مِنَ الْغَدِ، إِلَّا أَنَّ فِي الحديث اضطراب وَلَوْلَا اضْطِرَابُهُ لَأُعِيدَتِ الصَّلَاةُ مِنَ الْغَدِ قَوْلًا وَاحِدًا.
فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّةِ تَأْخِيرِهَا إِلَى الْغَدِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قوله أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَأْخِيرِهَا تَعَذُّرُ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِتَفَرُّقِهِمْ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ الْبَلَدُ لَطِيفًا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ أَهْلِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِهِمْ صُلِّيَتْ فِي الْيَوْمِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى وَقْتِهَا الْغَالِبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَأْخِيرِهَا إِلَى الْغَدِ، أَنْ يُؤْتَى بِهَا فِي وَقْتِهَا الْمَسْنُونَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهَا فِي الْيَوْمِ بِحَالٍ.
(فَصْلٌ)
: إِذَا كَانَ الْعِيدُ فِي يَوْمِ الْجُمْعَةِ فَعَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ أَنْ يُصَلُّوا الْجُمْعَةَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُهَا، كَمَا قَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْفُقَهَاءُ كَافَّةً، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُمْ فَرْضُ الْجُمْعَةِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَلِأَنَّ الْعِيدَ سُنَّةٌ وَالْجُمْعَةَ فَرْضٌ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ بِالسُّنَّةِ، فَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَفِي سُقُوطِ الْجُمْعَةِ عَنْهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ كَأَهْلِ الْمِصْرِ.(2/502)
والوجه الثاني: وهو نص الشافعي أنه سَقَطَتْ عَنْهُمْ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال لأهل العوالي: " وفي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَنْصَرِفَ فَلَيَنْصَرِفْ فإنا مُجَمِّعُونَ " وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَالسَّوَادِ: أَنَّ أَهْلَ السَّوَادِ إِذَا انْصَرَفُوا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ شَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَوْدُ، لِبُعْدِ دَارِهِمْ وَلَا يَشُقُّ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ لِقُرْبِ دَارِهِمْ.(2/503)
(باب صلاة خسوف الشمس والقمر)
قال الشافعي رضي الله عنه: " فِي أَيِ وَقْتٍ خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ فَسَوَاءٌ وَيَتَوَجَّهُ الْإِمَامُ حَيْثُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ فَيَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ والشمس والقمر تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي الْمَنْعِ مِنَ السُّجُودِ لِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَرَدَ بِالسُّجُودِ عِنْدَ حدوث معنى هاتين الآيتين، فأحتج إِلَى بَيَانٍ، فَبَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَلَاتِهِ عِنْدَ خُسُوفِهَا دُونَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي اليوم الذي مات فيه إِبْرَاهِيمَ ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ خَسَفَتْ بِمَوْتِهِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ خَطَبَ وَقَالَ " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَر آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْرَغُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالصَّلَاةِ " فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَأَيُّ وَقْتٍ خَسَفَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ صَلَّى فِيهِ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ تُصَلَّى الْجُمْعَةُ، لَا حَيْثُ تُصَلَّى الْأَعْيَادُ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي مَسْجِدِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ فَوَاتِ الصَّلَاةِ بِتَجَلِّي الْخُسُوفِ إِذَا خَرَجَ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ نَادَى " الصَّلَاةَ جَامِعَةً " بِلَا أَذَانٍ ولا إقامة والله تعالى أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم يكبروا وَيَقْرَأُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بسورة البقرة إن كان يحفظها أو قدرها من القرآن إن كان لا يحفظها ثم يركع فيطيل ويجعل ركوعه قدر قراءة مائة آية من سورة البقرة ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ربنا لك الحمد ثم يقرأ بأم القرآن وقدر مِائَتَيْ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ ما يلي ركوعه الأول ثم يرفع فيسجد(2/504)
سجدتين ثم يقوم في الركعة الثانية فيقرأ بأم القرآن وقد مِائَةٍ وَخَمْسِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بقدر سبعين آية من البقرة ثم يرفع فيقرأ بأم القرآن وقدر مِائَةَ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ خمسين آية من البقرة ثم يرفع ثم يسجد وإن جاوز هذا أو قصر عنه فإذ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ أَجْزَأَه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَاةُ الْخُسُوفِ رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا رُكُوعَانِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ مِنْ غير ركوع زائد استدلالا براوية الحسن عن أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةَ الْخُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاتِكُمْ هَذِهِ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ كَأَحَدِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا قَالَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ لَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِيهِمَا بِرُكُوعٍ زَائِدٍ قَالَ: وَلِأَنَّ الصَّلَوَاتِ تَخْتَلِفُ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَلَا تَخْتَلِفُ فِي زِيَادَةِ أَرْكَانِهَا، فَكَانَ مَذْهَبُكُمْ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ فِيهَا.
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّاسُ مَعَهُ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رَفَعَ وقام قياما طويلا وهو دون الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الركوع الأول ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَفَعَ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا دُونَ قِيَامِهِ الْأَوَّلِ ثُمَّ سَاقَ الْخَبَرَ إِلَى آخِرِهِ وَرَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الْخُسُوفَ رَكْعَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ وروي مثل ذلك جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ يُسَنُّ فِيهَا اجْتِمَاعُ الْكَافَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِمَعْنًى تُبَايِنُ بِهِ غَيْرَهَا مِنَ النَّوَافِلِ كَالْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ الْمُخْتَصِّ بِزِيَادَةِ التَّكْبِيرَاتِ.(2/505)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ.
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أوجه.
أحدهما: أَنَّ أَخْبَارَنَا أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَصَحُّ إِسْنَادًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَزْيَدُ وَأَكْثَرُ عَمَلًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عَمَلُ الْأَئِمَّةِ وَفِعْلُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، قَدْ عَمِلَ بِهِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِأَخْبَارِنَا أَوْلَى لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ التَّرْجِيحِ، وَأَمَّا الاستعمال فمن ثلاثة أوجه:
أحدهما: اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّاوِي وَقَوْلِهِ كَصَلَاتِكُمْ هَذِهِ أَيْ: يَتَضَمَّنُهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ بِخِلَافِ الْجِنَازَةِ، وَقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ الْآخَرِ " كَأَحَدِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا " يَعْنِي: مِنْ صَلَاةِ الْخُسُوفِ.
وَالثَّانِي: تَسْلِيمُ الرِّوَايَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا وَحَمْلُهَا عَلَى الْجَوَازِ، وَحَمْلُ مَا رُوِّينَاهُ عَلَى الْأَفْضَلِ وَالْمَسْنُونِ، كَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً لِيَدُلَّ عَلَى الْجَوَازِ، وَثَلَاثًا لِيَدُلَّ عَلَى الْأَفْضَلِ.
وَالثَّالِثُ: حَمْلُ رِوَايَتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْخُسُوفَ تَجَلَّى سَرِيعًا وَلَمْ يَطُلْ، فَرَكَعَ رُكُوعًا وَاحِدًا، وَحَمْلُ رِوَايَتِنَا عَلَى أَنَّهُ أَطَالَ فَرَكَعَ رُكُوعَيْنِ، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ رَكَعَ رُكُوعًا وَاحِدًا ليدل على الجواز، والسنة، فالأولى أن يركع ركوعين في تطويل الخسوف وتجليه فالسنة في طويل الخسوف ركوعان وَفِي قَصِيرِهِ رُكُوعٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، لَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْخُسُوفَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَلَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا رُكُوعٌ زَائِدٌ، فَيُقَالُ الصَّلَوَاتُ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي هَيْئَاتِهَا وأركانا، وَلِكُلِّ صَلَاةٍ هَيْئَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا، فَلِصَلَاةِ الْعِيدِ هَيْئَةٌ، وَلِصَلَاةِ الْخُسُوفِ هَيْئَةٌ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُبْطِلًا لِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ تَغْيِيرُ هَيْئَاتِهَا، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبْطِلًا لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِتَغْيِيرِ هَيْئَاتِهَا وَاخْتِلَافِ أَوْصَافِهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الصَّلَاةَ تَخْتَلِفُ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا، إِلَّا فِي زِيَادَةِ أَرْكَانِهَا فَوَاضِحُ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ أَعْدَادِهَا تُوجِبُ زِيَادَةَ أَرْكَانِهَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ مَعْنَى يَقْتَضِي الِانْفِصَالَ عَنْهُ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا صِفَةُ الصَّلَاةِ وَكَيْفِيَّتُهَا، فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْإِحْرَامِ نَاوِيًا صَلَاةَ الْخُسُوفِ، ثُمَّ يَتَوَجَّهَ وَيَسْتَعِيذَ، وَيَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيَقْرَأُ بَعْدَهَا بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ إِنْ كَانَ يُحْسِنُهَا، أَوْ بِقَدْرِهَا مِنْ غَيْرِهَا عَلَى مَا قَرَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطَالَ الْقِيَامَ الْأَوَّلَ بِنَحْوٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ بِقَدْرِ مِائَةِ آيَةٍ، يُسَبِّحُ(2/506)
فِي رُكُوعِهِ وَلَا يَقْرَأُ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَهَلْ يَسْتَعِيذُ قَبْلَهَا أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِقَدْرِ مِائَتَيْ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ ثَمَانِينَ آيَةً دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَكُونُ فِي رَفْعِ رَأْسِهِ مِنَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ مُكَبِّرًا، وَفِي الثَّانِي قَائِلًا سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا يُطِيلُ فِيهِمَا، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيَسْتَعِيذُ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ يَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقْرَأُ بِقَدْرِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ سَبْعِينَ آيَةً، ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا، وَهَلْ يَسْتَعِيذُ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ؟ ثُمَّ يَقْرَأُ مِائَةَ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَرْكَعُ بِقَدْرِ خَمْسِينَ آيَةً يُسَبِّحُ، ثُمَّ يَرْفَعُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا يُطِيلُ فِيهِمَا، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، هَكَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَدْ حَكَى الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ، وَقَرَأَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِي بِسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِي الثَّالِثِ بِسُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِي الرَّابِعِ بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَكَيْفَ قَرَأَ أَجَزْأَهُ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَاتِحَةِ جَازَ، وَلَوْ نَسِيَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى حَتَّى سَجَدَ عَادَ فَانْتَصَبَ قَائِمًا وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ قَامَ إلى الثانية، وسجد للسهو، فلو أدركه مؤتمر فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، لِأَنَّ مَا فَاتَهُ مِنْهَا أَكْثَرُهَا، فَصَارَ بِخِلَافِ مَنْ أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فِي فَرْضٍ، فَلَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ زَائِدٍ، فَإِنْ تَأَوَّلَ مَذْهَبَ أبي حنيفة فَلَيْسَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِنْ سهَا وَكَانَ شَافِعِيًّا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ:
وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو يوسف، لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَخْطُبَ لَهَا.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَسُمُرَةَ بْنُ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الْخُسُوفَ ثُمَّ خَطَبَ وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ سُنَّ لَهَا اجْتِمَاعُ الْكَافَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ من شرطها الخطبة كالعيدين.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُسَرُّ فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا مِنْ صلاة النهار واحتج بأن ابن عباس قال خسفت الشمس فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والناس معه فقام قياما طويلا قال نحوا من سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا ثُمَّ رفع فقام قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا(2/507)
وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله " ووصف عن ابن عباس أنه قال كنت إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فما سمعت منه حرفا لأنه أسر ولو سمعه ما قدر قراءته وروي أن ابن عباس صلى في خسوف القمر ركعتين في كل ركعة ركعتين ثم ركب فخطبنا فقال إنما صليت كما رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي قال وبلغنا عن عثمان أنه صلى في ركعة ركعتين ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا صَلَاةُ كُسُوفِ الْقَمَرِ فَالْجَهْرُ فِيهَا مَسْنُونٌ إِجْمَاعًا لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَأَمَّا صَلَاةُ خُسُوفِ الشَّمْسِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسَرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ.
وَقَالَ أبو يوسف ومحمد وَإِسْحَاقُ: يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ. اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى لِخُسُوفِ الشَّمْسِ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَفْلٍ كَالْعِيدَيْنِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاةَ خُسُوفِ الشَّمْسِ فَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ وَلَا حَرْفًا، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ يُفْعَلُ مِثْلُهَا فِي اللَّيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهَا الْإِسْرَارُ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لِخُسُوفِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ سُنَّتُهَا كَسُنَّةِ الصَّلَوَاتِ الرَّاتِبَةِ فِي وَقْتِهَا.
أَصْلُهُ: خُسُوفُ الْقَمَرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهَا خِلَافَهُ، عَلَى أَنَّنَا نَحْمِلُ قَوْلَهَا جَهَرَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَسْمَعَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ يُسَمَّى جَهْرًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا أَسَرَّ مَنْ أَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُعَارَضٌ بِقِيَاسِنَا وَهُوَ أولى لشهادة الأصول له.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اجْتَمَعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ وَاسْتِسْقَاءٌ وَجِنَازَةٌ بُدِئَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَضَرَ الإمام أمر من يقوم به وَبُدِئَ بِالْخُسُوفِ ثُمَّ يُصَلّي الْعِيد ثُمَّ أُخِّرَ الاستسقاء إلى يوم آخر وإن خاف فوت العيد صلاها وخفف ثم خرج منها إلى صلاة الخسوف ثم يخطب للعيد وللخسوف ولا يضره أن يخطب بعد الزوال لهما(2/508)
وإن كان في وقت الجمعة بدأ بصلاة الخسوف وخفف فقرأ في كل ركعة بأم القرآن وقل هو الله أحد وما أشبهها ثم يخطب للجمعة ويذكر فيها الخسوف ثم يصلي الجمعة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ يَجْتَمِعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ، وَاسْتِسْقَاءٌ، وَجِنَازَةٌ، فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُ الِاسْتِسْقَاءِ، لِإِمْكَانِ فِعْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إِنْ حَضَرَتْ، لِتَأْكِيدِهَا، وَلِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْمُبَادَرَةِ بِهَا، مَعَ مَا يُخَافُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَيِّتِ وَالتَّأَذِّي بِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْخُسُوفَ، ثُمَّ الْعِيدَ بَعْدَهُ، لِأَنَّ بَقَاءَ وقت للعيد مُتَيَقَّنٌ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ، وَبَقَاءَ الْخُسُوفِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، وَرُبَّمَا أَسْرَعَ تَجَلِّيهِ، فَإِنْ ضَاقَ وَقْتُ الْعِيدِ وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنِ اشْتَغَلَ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ لَمْ يُدْرِكْ صَلَاةَ الْعِيدِ بَدَأَ بِصَلَاةِ الْعِيدِ أَوَّلًا، ثُمَّ صَلَّى الْخُسُوفَ بَعْدَهَا، لِأَنَّ فَوَاتَ الْعِيدِ مُتَيَقَّنٌ وَبَقَاءَ الْخُسُوفِ مُجَوِّزٌ، فَكَانَتِ الْبِدَايَةُ بِمَا يُتَيَقَّنُ فَوَاتُهُ أَوْلَى، فَإِذَا صَلَّى الْعِيدَ لَمْ يَخْطُبْ، وَصَلَّى لِلْخُسُوفِ، ثُمَّ خَطَبَ لَهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ، لِأَنَّ خُطْبَةَ الْعِيدِ سُنَّةٌ، فَجَازَ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ خُطْبَةُ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: تَصَوُّرُ الشَّافِعِيِّ اجْتِمَاعَ الْخُسُوفِ وَالْعِيدِ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْعِيدَ إِمَّا أَنْ يكون في أول للشهر إِنْ كَانَ فِطْرًا، أَوْ فِي الْعَاشِرِ إِنْ كَانَ نَحْرًا، وَالْخُسُوفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ إِنْ كَانَ لِلشَّمْسِ، وَفِي الرَّابِعَ عَشَرَ إِنْ كَانَ لِلْقَمَرِ، فَاسْتَحَالَ اجْتِمَاعُ الْخُسُوفِ والعيد.
قيل عن هذا أجوبة.
أحدهما: أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَكُنْ غَرَضُهُ فِي هَذَا تَصْحِيحَ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضُهُ الْكَشْفَ عَنْ مَعَانِي الْأَحْكَامِ بِإِيقَاعِ التَّفْرِيعِ فِي الْمَسَائِلِ لِيَتَّضِحَ الْمَعْنَى، وَيَتَّسِعَ الْفَهْمُ، وَبِذَلِكَ جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْرِيِعِ الْمَسَائِلِ، حَتَّى قَالُوا فِي الْفَرَائِضِ مِائَةُ جَدَّةٍ وَخَمْسُونَ أُخْتًا، وَإِنْ كَانَ وُجُودُ ذَلِكَ مُسْتَحِيلًا.
جَوَابٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ تكلم على ما يقتضيه قَوْلُ أَهْلِ النُّجُومِ الَّذِي لَا يُسَوِّغُ قَبُولَ قَوْلِهِمْ، وَقَدْ نَقَلَ الْوَاقِدِيُّ وَأَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ فِي الْيَوْمِ الذي مات فيه إبراهيم بن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَكَانَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنَ الشَّهْرِ، وَرَوَى ذَلِكَ عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ كَانَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ الْعَاشِرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ الشَّمْسُ خَسَفَتْ يَوْمَ مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.
جَوَابٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ فيما ذكروا فقد ينقص عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ وَوُجُودِ أَشْرَاطِهَا، فَبَيَّنَ الْحُكْمَ فِيهَا قَبْلَ وُجُودِهَا، فَلَوِ اجْتَمَعَ عِيدٌ وَخُسُوفٌ وَجُمْعَةٌ وَضَاقَ وَقْتُ الْجَمِيعِ بَدَأَ بِالْعِيدِ أَوَّلًا، لِتَعْجِيلِ فَوَاتِهِ، ثُمَّ الْجُمْعَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ الْخُسُوفِ،(2/509)
فَلَوْ تَعَجَّلَ وَقْتَ الْخُسُوفِ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ لَهُ وَلَمْ يَخْطُبْ، ثُمَّ صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ خَطَبَ لِلْجُمْعَةِ وَذَكَرَ فِيهَا الْخُسُوفَ وَالْعِيدَ، ثُمَّ صَلَّى الْعِيدَ، ثُمَّ خَطَبَ لِلْجُمْعَةِ وَذَكَرَ فِيهَا الْخُسُوفَ والعيد، ثم صلى الجمعة.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ خَسَفَ الْقَمَرُ صَلَّى كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا صَلَاةُ اللَّيْلِ فَإِنْ خَسَفَ بِهِ فِي وَقْتِ قُنُوتٍ بَدَأَ بِالْخُسُوفِ قَبْلَ الوتر وقبل ركعتي الفجر وإن فاتتا لأنهما صَلَاةُ انْفِرَادٍ وَيَخْطُبُ بَعْدَ صَلَاةِ الْخُسُوفِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَيَحُضُّ النَّاسَ عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ والتقرب إلى الله عز وجل ويصلي حيث يصلي الجمعة لا حيث يصلي الْأَعْيَادَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، السُّنَّةُ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ أَنْ يُصَلِّي لَهَا جَمَاعَةً كَخُسُوفِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة يُصَلِّي النَّاسُ أَفْرَادًا، لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ.
وَدَلِيلُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَى لِخُسُوفِ الشَّمْسِ جَمَاعَةً، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ فَرَاغِهِ: " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْرَغُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَإِلَى الصَّلَاةِ " وَأَشَارَ إِلَى الصَّلَاةِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَكَانَتْ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) {فصلت: 37) .
وَرَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِالْبَصْرَةِ لِكُسُوفِ الْقَمَرِ في جماعة، ثم ركب بعيره وخطب، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَمْ أَبْتَدِعْ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِدَعَةً، وَإِنَّمَا فَعَلْتُ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَلُ، وَلِأَنَّهُ خُسُوفٌ سُنَّ لَهُ الصَّلَاةُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهَا الْجَمَاعَةُ كَخُسُوفِ الشَّمْسِ، ولأنهما صلاتان يتجانسان، فَإِذَا سُنَّ الْإِجْمَاعُ لِأَحَدِهِمَا سُنَّ لِلْأُخْرَى كَالْعِيدَيْنِ، وَيُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَيُخْطَبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ كَمَا يُخْطَبُ فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن لم يصل حتى تغيب كَاسِفَةً أَوْ مُنْجَلِيَةً أَوْ خَسَفَ الْقَمَرُ فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى تَجَلَّى أَوْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ لَمْ يُصَلِّ لِلْخُسُوفِ فَإِنْ غَابَ خَاسِفًا صَلَّى لِلْخُسُوفِ بعد الصبح ما لم تطلع الشمس ويخفف للفراغ قبل طلوع الشَّمْسُ فَإِنْ طَلَعَتْ أَوْ أَحْرَمَ فَتَجَلَّتْ أَتَمُّوهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الشَّمْسِ حَتَّى غَرَبَتْ لَمْ يُصَلِّ لَهَا لِفَقْدِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا بِذَهَابِ زَمَانِ الشَّمْسِ وَسُلْطَانِهَا، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ زَمَانُهَا لَكِنْ لم يصل(2/510)
لَهَا حَتَّى تَجَلَّتْ سَقَطَتِ الصَّلَاةُ لَهَا لِفَقْدِ الصِّفَةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا، فَإِنْ تَجَلَّى عَنْ بَعْضِهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا صَلَّى لِمَا بَقِيَ، لِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهَا، وَأَمَّا كُسُوفُ الْقَمَرِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ لَهُ حَتَّى غَابَ كَاسِفًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أحوال:
أحدهما: أَنْ يَغِيبَ كَاسِفًا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَهَذَا يُصَلِّي لِبَقَاءِ سُلْطَانِ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِبَقَاءِ الْوَقْتِ لَا بِبَقَاءِ الطُّلُوعِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ خَاسِفًا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَمْ يُصَلِّ لَهُ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخُسُوفُ مَوْجُودًا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُصَلِّي لَهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَقَدْ سَقَطَتِ الصَّلَاةُ لِفَوَاتِ الْوَقْتِ بِذَهَابِ نُورِ الْقَمَرِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَمَرُ طَالِعًا أَوْ غَائِبًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُصَلِّي لَهُ حَتَّى يَغِيبَ كَاسِفًا بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يُصَلِّي لَهُ، لِأَنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ آيَةُ النَّهَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12] فَلَمَّا لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الشَّمْسِ إِذَا تَقَضَّى النَّهَارُ، لَمْ يُصَلِّ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ إِذَا تَقَضَّى اللَّيْلُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إنَّهُ يُصَلِّي لَهُ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، لِبَقَاءِ سُلْطَانِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِضَوْئِهِ، وَخَالَفَ الشَّمْسَ الَّذِي يَذْهَبُ ضَوْءُهَا بِدُخُولِ اللَّيْلِ، فَلَوْ لَمْ يَغِبِ الْقَمَرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ عَلَى كُسُوفِهِ فَفِي الصَّلَاةِ لَهُ قَوْلَانِ أَيْضًا، كَمَا لَوْ غَابَ خَاسِفًا، فَلَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ فَتَجَلَّى قَبْلَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ، أَوْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَإِنَّهُ يُتَمِّمُ الصَّلَاةَ ولا تبطل بفوات الوقت.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فأن جللها سحاب أو حائل فهي على الخسوف حتى يستيقن تجلى جميعها وإذا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فَخَافَ فَوتَ أَحَدِهِمَا بَدَأَ بِالَّذِي يخاف فوته ثم رجع إلى الآخر وإن لم يقرأ في كل ركعة من الخسوف إلا بأم القرآن أجزأه ولا يجوز عندي تركها لمسافر ولا لمقيم بإمام ومنفردين ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا تَيَقَّنَ الْخُسُوفَ ثُمَّ جَلَّلَهُ سَحَابٌ أَوْ حَالَ دُونَهُ حَائِلٌ يمنع من النظر إليه فلو يعلم هل تجلى أمر لَا يُصَلِّي لَهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْخُسُوفِ إِلَّا بَعْدَ تَيَقُّنِ تَجَلِّيهِ، فَلَوْ كَانَ الْقَمَرُ طَالِعًا غَيْرَ كَاسِفٍ فَغَابَ ضَوْءُهُ فَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ ذَلِكَ لِكُسُوفِهِ أَوْ حَائِلٍ تَجَلَّلَهُ مِنْ سَحَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُصَلِّ لَهُ، لِأَنَّ الأصل أنه غير كاسف.(2/511)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِنِ اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فَخَافَ فَوَاتَ أَحَدِهِمَا، بَدَأَ بِالَّذِي يَخَافُ فَوْتَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْآخَرِ " وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ عَلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَحْدَهَا أَجْزَأَهُ.
وَصَلَاةُ الْخُسُوفِ سُنَّةٌ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى، لِتَعَلُّقِهَا بِآيَةٍ عَامَّةٍ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكَافَّةُ، فَإِنْ صَلَّاهَا النِّسَاءُ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ صَلَّاهَا الرِّجَالُ فُرَادَى لَمْ يُخْطَبْ بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لِلْغَيْرِ ".
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَلَا آمُرُ بصلاة فِي سِوَاهِمَا وَآمُرُ بِالصَّلَاةِ مُنْفَرِدِينَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ لِشَيْءٍ مِنَ الْآيَاتِ سِوَى خُسُوفِ الشَّمْسِ وَكُسُوفِ الْقَمَرِ، فَأَمَّا الزِّلَازِلُ وَالرِّيَاحُ وَالصَّوَاعِقُ وَانْقِضَاضُ الْكَوَاكِبِ فَلَا يُصَلَّى لِشَيْءٍ مِنْهُ، كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ في جماعة لا فُرَادَى.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَيُصَلَّى جَمَاعَةً فِي كُلِّ آيَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُصَلَّى فُرَادَى.
وَمَذْهَبُنَا أَصَحُّ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آيَاتٌ، مِنْهَا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَالزِّلَازِلُ وَالرِّيَاحُ وَالصَّوَاعِقُ، فَلَمْ يُصَلِّ لِشَيْءٍ مِنْهَا، وَصَلَّى لِلْخُسُوفِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ إِذَا هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ اصْفَرَّ لَوْنُهُ " وَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا " وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الرِّيَاحَ رَحْمَةً وَالرِّيحَ نِقْمَةً، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) {الروم: 46) فَكَانَتْ رَحْمَةً، وَقَالَ تَعَالَى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) {الأحزاب: 9) فَكَانَتْ نِقْمَةً، فَإِنْ تَنَفَّلَ النَّاسُ بِالصَّلَاةِ لِهَذِهِ الْآيَاتِ جَازَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ صَلَّى جَمَاعَةً فِي زَلْزَلَةٍ.
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ صَحَّ قُلْتُ بِهِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْنَا بِهِ، وَإِلَى وَقْتِنَا هَذَا لَمْ يَصِحَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْنَا بِهِ، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى مَذْهَبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنْ صَحَّ قُلْنَا بِهِ فِي الزَّلْزَلَةِ.
وَالثَّانِي: إِنْ صَحَّ قُلْنَا بِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ.(2/512)
(باب صلاة الاستسقاء)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " ويستسقي الإمام حيث يصلي العيد ويخرج متنظفا بِالْمَاءِ وَمَا يَقْطَعُ تَغَيُّرَ الرَّائِحَةِ مِنْ سِوَاكٍ وغيره في ثياب تواضع وفي استكانة وما أحببته للإمام من هذا أحببته للناس كافة ويروى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه خرج في الجمعة والعيدين بأحسن هيئة وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خرج في الاستسقاء متواضعا وقال أحسب الذي رواه مبتذلا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) {الشورى: 42) وقال تعالى: {وإذا استسقى موسى لقومه فقلت اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) {البقرة: 60) وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ) {الأعراف: 160) فَقَدْ قِيلَ إِنَّ الِانْبِجَاسَ أَضْيَقُ من الانفجار وقال تعالى: {استغفر ربكم إنه كان غفارا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10، 11] وَرُوِيَ أَجْدَبُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَجْدَبُوا فَسَأَلُوا مُوسَى أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ فَسُقُوا، فَلَوْ سَأَلْتُمْ صَاحِبَكُمْ فَدَعَا لَكُمْ اسْتُجِيبَ لَهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَكَ تَرَى الْجَدْبَ وَمَا نَزَلَ بِنَا، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَا إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ السَّنَةَ يَعْنِي الْجَدْبَ لِأَنْ أَسْتَنْصِرَ بِهِ عَلَى أَهْلِ نَجْدٍ، فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ فَسَأَفْعَلُ فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسُقُوا كَأَفْوَاهِ الْعَزَالِي وَرَوَى شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَخْطُبُ لِلْجُمْعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى لَنَا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمُطِرْنَا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ تَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى رَءُوسِ الْجِبَالِ(2/513)
وَالْآكَامِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ قَالَ فَانْجَابَ كانجباب الثَّوْبِ وَرَوَى أَبُو مُسْلِمٍ الْمُلَائِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَتَى أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَتَيْنَاكَ وَمَا لَنَا بَعِيرٌ يَثِبُ وَلَا صَبِيٌّ يَصِيحُ ثُمَّ أنشد:
(أتيناك والعذر يَدْمَى لَبَانُهَا ... وَقَدْ شُغِلَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَنِ الطِّفْلِ)
(وَلَا شَيْءَ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ عِنْدَنَا ... سِوَى الْحَنْظَلِ الْعَامِيِّ وَالْعِلْهِزِ الْغَسْلِ)
(وَلَيْسَ لَنَا إلا إليك قرارنا ... وأي قرار النَّاسِ إِلَّا إِلَى الرُّسْلِ)
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجر رداء حَتَى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، سَحًّا طَبَقًا غَيْرَ رَائِثٍ تُنْبِتُ بِهِ الزَّرْعَ، وَتَمْلَأُ بِهِ الضَّرْعَ، وَتُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ فَمَا اسْتَتَمَّ الدُّعَاءُ حَتَى أَلْقَتِ السَّمَاءُ بِأَبْرَاقِهَا فَجَاءَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْغَرَقُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَانْجَابَ السَّحَابُ عَنِ الْمَدِينَةِ كَالْإِكْلِيلِ، وَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَقَالَ لِلَّهِ دَرُّ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ حَيًّا لَقَرَّتْ عَيْنَاهُ، مَنِ الَّذِي يُنْشِدُنَا شِعْرَهُ فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ أَرَدْتَ قوله:
(وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل)
(يَلُوذُ بِهِ الْهلال مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي نِعْمَةٍ وَفَوَاضِلِ)
(كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ يبزي مُحَمَّدَا ... وَلَمَّا نُقَاتِلْ دُوْنَهُ وَنُنَاضِلِ)
(وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نصرع حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ)
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ كِنَانَةَ فَأَنْشَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك:
(لله الحمد والحمد من شكرٍ ... سُقِينَا بِوَجْهِ النَّبِيِّ الْمَطَرْ)
(دَعَا اللَّهَ خَالِقَهُ دَعْوَةً ... وَأَشْخَصَ مَعْهَا إِلَيْهِ الْبَصَرْ)
(فَلَمْ يك إلا كإلغاء الرواء ... وَأَسْرَعَ حَتَّى رَأَيْنَا الدُّرَرْ)
(رِقَاقُ الْعَوَالِي جَمُّ العنان ... أَغَاثَ بِهِ اللَّهُ عُلْيَا مُضَرْ)
(وَكَانَ كَمَا قَالَهُ عَمُّهُ ... أَبُو طَالِبٍ أَبْيَضُ ذُو غُرَرْ)
(بِهِ اللَّهُ يَسْقِي صَوْبَ الْغَمَامِ ... وَهَذَا الْعِيَانُ لذاك الخبر)(2/514)
فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ يَكُنْ شَاعِرا يُحْسِنُ فَقَدْ أَحْسَنْتَ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَقِيَّةِ آبَائِهِ وَكُبْرِ رِجَالِهِ فَاحْفَظِ اللَّهُمَّ نَبِيَّكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي عَمِّهِ، فَقَدْ دَنَوْنَا إِلَيْكَ مُسْتَعْفِينَ إِلَيْكَ وَمُسْتَغْفِرِينَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَيْنَاهُ تَنْضُجَانِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الرَّاعِي لَا تُهْمِلِ الضَّالَّةَ، فُقِدَ الضَّرْعُ الصَّغِيرُ وَدَقَّ الْكَبِيرُ، وَارْتَفَعَتِ الشَّكْوَى، وَأَنْتَ تَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، اللَّهُمَّ فَأَغِثْهُمْ بِغِيَاثِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْنَطُوا فَيَهْلِكُوا فَإِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ، قَالَ فَنَشَأَتِ السَّحَابُ وَهَطَلَتِ السَّمَاءُ فَطَبَّقَ النَّاسُ بِالْعَبَّاسِ يَمْسَحُونَ أَرْكَانَهُ وَيَقُولُونَ هَنِيئًا لَكَ سَاقِيَ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
(سَأَلَ الْإِمَامُ وَقَدْ تَتَابَعَ جَدْبُنَا ... فَسَقَى الْإِمَامَ بِغُرَّةِ الْعَبَّاسِ)
(عَمِّ النَّبِيِّ وَصِنْوِ وَالِدِهِ الَّذِي ... وَرِثَ النَّبِيَّ بذاك دون الناس)
(أحيي الْإِلَهُ بِهِ الْبِلَادَ فَأَصْبَحَتْ ... مُخْضَرَّةَ الْأَجْنَابِ بَعْدَ الْيَأسِ)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا كَانَ الْجَدْبُ وَمُنِعَ النَّاسُ الْقَطْرَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْرُجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ إِلَى الجبانة، وَحَيْثُ يُصَلِّي لِلْأَعْيَادِ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاقْتِدَاءً بِخُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَوْسَعُ وَأَوْفَقُ بِالنَّاسِ، لِكَثْرَةِ جَمْعِهِمْ وَيُخْتَارُ أَنْ يَتَنَظَّفَ بِالْمَاءِ، وَيَسْتَاكَ، وَيَقْطَعَ تَغْيِيرَ الرَّائِحَةِ عَنْ بَدَنِهِ، ويَخْرُجُ مُبْتَذَلًا فِي ثِيَابِ تَوَاضُعٍ وَاسْتِكَانَةٍ نظاف غير جددا، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَخْرُجُ لِلِاسْتِسْقَاءِ مُبْتَذِلًا مُتَوَاضِعًا وَلِأَنَّهُ يَوْمُ اعْتِذَارٍ وَتَنَصُّلٍ وَسُؤَالٍ وَاسْتِغَاثَةٍ وَتَرَحُّمٍ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّعْظِيمِ فِي تَحْسِينِ الْهَيْئَةِ، وَخَالَفَ الْعِيدُ لِأَنَّهُ يوم سرود وَزِينَةٍ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ لِلْإِمَامِ مِنْ هَذا اخْتَرْنَاهُ للناس كافة.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب أن تخرج الصبيان ويتنظفوا للاستسقاء وكبار النساء وَمَنْ لَا هَيْئَةَ لَهَا مِنْهُنَّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ لَوْلَا مَشَايُخُ رُكعٌ وَأَطْفَالٌ رُضَّعٌ، وَبَهَائِمُ رُتَّعٌ، لَصُبَّ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ صَبًّا " وَلِأَنَّ الصِّبْيَانَ أَحَقُّ بِالرَّحْمَةِ، وَأَقْرَبُ إِلَى إِجَابَةِ(2/515)
الدَّعْوَةِ، وَقِلَّةِ ذُنُوبِهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي لِقَوْمِهِ فَمَا أُسْقِيَ، فَقَالَ مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَلْيَرْجِعْ فَانْصَرَفُوا كُلُّهُمْ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا، فَالْتَفَتَ فَرَآهُ أَعْوَرَ، فَقَالَ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلِي، قَالَ قَدْ سَمِعْتُ وَإِنَّهُ لَا ذنب لي إلا واحد، نَظَرْتُ إِلَى امْرَأَةٍ فَقَلَعَتْ عَيْنِي هَذِهِ، فَاسْتَسْقَى به فسقي.
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " وَلَا آمُرُ بِإِخْرَاجِ الْبَهَائِمِ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِلِاسْتِسْقَاءِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ، قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ: إِخْرَاجُهُمْ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَرِدِ السُّنَّةُ بِإِخْرَاجِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَتَأَذَّى بِالْجَدْبِ فَكَانُوا كَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي، فَرَأَى نَمْلَةً قد وقعت على ظهرها، فرفعت يدها وهو تَقُولُ اللَّهُمَّ نَحْنُ مِنْ خَلْقِكَ فَارْزُقْنَا أَوْ أهلكنا، فسقوا فقال للقوم ارْجِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ بِغَيْرِكُمْ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا الْأَوْلَى تَرْكُ الْبَهَائِمِ، وَإِخْرَاجُهَا مَكْرُوهٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِهِمْ، وَاشْتِغَالِ النَّاسِ بِأَصْوَاتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ مِنْ غير أهل التكليف.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأكره إخراج من يخالف الْإِسْلَامَ لِلِاسْتِسْقَاءِ فِي مَوْضِعِ مُسْتَسْقَى الْمُسْلِمِينَ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ خَرَجُوا مُتَمَيِّزِينَ لَمْ أَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهْنَا إِخْرَاجَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الذي آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) وفي إخراجهم معنا رضى به وتولي لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ عُصَاةٌ لَا يُرْجَى لَهُمْ إِجَابَةُ دَعَوْتِهِمْ، وَرُبَّمَا رُدَّتْ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِينَ بِمُخَالَطَتِهِمْ وَالسُّكُونِ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ خَرَجُوا إِلَى بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ لَمْ يُمْنَعُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَبُ رِزْقٍ وَرَجَاءُ فَضْلٍ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ وَاسِعٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُمْ فِي يَوْمٍ غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي يخرج فيه المسلمون، لأن لا تَقَعَ بَيْنَهُمُ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُضَاهَاةُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ خَرَجُوا فِيهِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَهُمْ وَمِنْهُمْ من تركهم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَأْمُرُ الْإِمَامُ النَّاسَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثًا وَيَخْرُجُوا مِنَ الْمَظَالِمِ وَيَتَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ عز وجل بِمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ بِهِمْ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِلَى أَوْسَعِ مَا يَجِدُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا أَرَادَ الِاسْتِسْقَاءَ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ أَنْ يَصُومُوا ثَلَاثًا وَيَخْرُجُوا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِمَّا صِيَامًا وَهُوَ أَوْلَى، وَإِمَّا مُفْطِرِينَ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ(2/516)
أَعْمَالِ الْقُرْبِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ هُوَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وأنا أجازي به} ، لأن الصَّوْمَ مَعُونَةٌ عَلَى رِيَاضَةِ النَّفْسِ وَخُشُوعِ الْقَلْبِ وَالتَّذَلُّلِ لِلطَّاعَةِ، وَالدُّعَاءُ فِيهِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَمْتُ الصَّائِمِ تَسْبِيحٌ وَنَوْمُهُ عِبَادَةٌ وَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ، وَعَمَلُهُ مُضَاعَفٌ ".
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا مَنَعْتُمُوهُ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ الرَّابِعِ لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ كَمَا مَنَعْتُمْ مِنْ صِيَامِ عَرَفَةَ، قُلْنَا: لِأَنَّ دُعَاءَ يَوْمِ عَرَفَةَ فِي آخِرِهِ، فَرُبَّمَا أَضْعَفَ الصِّيَامُ عَنِ الدُّعَاءِ فِيهِ، وَدُعَاءُ هَذَا الْيَوْمِ فِي أَوَّلِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلصَّوْمِ تَأْثِيرٌ فِي إِضْعَافِهِ، وَيَأْمُرُهُمُ الْإِمَامُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِ وَالْمُشَاجِرِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، وَالتَّطَوُّعِ بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حَصِّنُوا أَمْوَالكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بالصدقة ".
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُنَادِي " الصَّلَاةَ جَامِعَةً " ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمُ الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدَيْنِ سَوَاءً وَيَجْهَرُ فيهما وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كانوا يجهرون بالقراءة في الاستسقاء ويصلون قبل الخطبة ويكبرون في الاستسقاء سبعا وخمسا عن عثمان بن عفان أنه كبر سبعا وخمسا وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يكبر مثل صلاة العيدين سبعا وخمسا ".
قال الماوردي: يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَيَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةِ قَافْ، وَيُكَبِّرُ فِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا سِوَى تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ، وَيَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَيَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الصَّلَاةُ لِلِاسْتِسْقَاءِ بِدْعَةٌ، فَإِنْ صَلَّى كَانَتْ نَافِلَةً، يُسِرُّ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ زَائِدٍ.
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يصل.(2/517)
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى لِلِاسْتِسْقَاءِ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَاسْتَقْبَلَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا وَاسْتَسْقَى، وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا لِلِاسْتِسْقَاءِ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَجَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ، وَرَوَى أَصْحَابُنَا عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ مُخَالِفٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ مَا سُنَّ لَهُ الْإِجْمَاعُ وَالْبِرَازُ سُنَّ لَهُ الصَّلَاةُ كَالْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفِ، فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَلَا يُعَارَضُ بِمَا رَوَيْنَاهُ، لِأَنَّنَا نُجَوِّزُهُ وَنَسْتَعْمِلُ أَحَادِيثَنَا عَلَى فِعْلِ الْأَفْضَلِ، وَالْمَسْنُونِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ لِزِيَادَتِهَا وَكَثْرَةِ رُوَاتِهَا، وَمُعَاضَدَةِ فِعْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله عنهم لها.
(فصل: القول في وقت صلاة الاستسقاء)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ فَوَقْتُهَا فِي الِاخْتِيَارِ كَوَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي الصِّفَةِ، فَإِنْ صَلَّاهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ إِمَّا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ بَعْدَ زَوَالِهَا أَجْزَأَهُ، بِخِلَافِ الْعِيدِ، لِاسْتِوَاءِ الْوَقْتَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ، نَادَى الصَّلَاةَ جَامِعَةً بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ صَلَّى عَلَى مَا وَصَفْتُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ بِتَكْبِيرٍ زَائِدٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ يُصَلِّي بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ زَائِدٍ، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَدْفَعُ قَوْلَهُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ نُوحٍ كَانَ حَسَنًا، لِمَا تَضَمَّنَهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَنُزُولِ الغَيْثٍ، فَلَوْ قَرَأَ بِغَيْرِ ما ذكرنا، أو اقتصر على الفاتحة، أو زاد في التكبير، أو نقص منه جاز، لا سجود للسهو عليه.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم يخطب الْخُطْبَةَ الْأُولَى ثُمَّ يَجْلِسُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ يقصر الخطبة الآخرة مستقبل الناس في الخطبتين ويكثر فيهما الاستغفار ويقول كثيرا {استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا} ثم يحول وجهه إلى القبلة ويحول رداءه فيجعل طرفه الأسفل الذي على شقه الأيسر على عاتقه الأيمن وطرفه الأسفل الذي على شقه الأيمن على عاتقه الأيسر وإن حوله ولم ينكسه أجزأه وإن كان عليه ساج جعل ما على عاتقه الأيسر على عاتقه الأيمن وما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر(2/518)
ويفعل الناس مثل ذلك وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كانت عليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت عليه قلبها (قال) ويدعو سرا ويدعو الناس معه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ خُطْبَةُ الِاسْتِسْقَاءِ مَسْنُونَةٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى لِلِاسْتِسْقَاءِ مِثْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ سَلَّمَ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا يَجْلِسُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ يَبْتَدِئُ الْخُطْبَةَ الْأُولَى بِالِاسْتِغْفَارِ، وَيَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تِسْعًا نَسَقًا، بَدَلًا مِنَ التَّكْبِيرِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ، ثُمَّ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ويقول {استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10، 11، 12] وَيُبَالِغُ فِي الزَّجْرِ وَالْوَعْظِ، وَالتَّخْوِيفِ، وَذِكْرِ نِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَالِفِ أَيَادِيهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ، وَيَسْتَغْفِرُ فِي ابْتِدَائِهَا سَبْعًا نَسَقًا، وَيَدْعُو جَهْرًا، ثُمَّ يَسْتَدْبِرُ النَّاسَ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، وَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سِرًّا، وَيَجْهَرُ فِي اسْتِقْبَالِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ خَاطِبٌ، وَيُسِرُّ فِي اسْتِدْبَارِهِمْ لِأَنَّهُ دَاعٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 9] فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الجهر والإسرار أولى.
(فَصْلٌ)
: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِذَا أَرَادَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ أَنْ يُحَوِّلَ رِدَاءَهُ وَيُنَكِّسَهُ، وَتَحْوِيلُهُ أَنْ يَجْعَلَ مَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ وَمَا عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَتَنْكِيسُهُ: أَنْ يَجْعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُحَوِّلُ وَلَا يُنَكِّسُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُحَوِّلُ وَلَا يُنَكِّسُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَسْقَى وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ أَسْفَلَهَا أَعْلَاهَا فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ فَحَوَّلَهَا، فَثَبَتَ عَنْهُ التَّحْوِيلُ، وَنَبَّهَ عَلَى التَّنْكِيسِ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ، وَلِأَنَّ فِي التَّحْوِيلِ تَفَاؤُلٌ بِالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مَنْ حال القحط إلى حال السعة والخصب.
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِمْ " اللَّهُمَّ أَنْتَ أَمَرْتَنَا بِدُعَائِكَ وَوَعَدْتَنَا إِجَابَتَكَ فَقَدْ دَعَوْنَاكَ كَمَا أَمَرْتَنَا فَأَجِبْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا اللَّهُمَّ فَامْنُنْ عَلَيْنَا بِمَغْفِرَةِ مَا قارفنا وإجابتك(2/519)
إِيَّانَا فِي سُقْيَانَا وَسَعَةِ رِزْقِنَا " ثُمَّ يَدْعُو بما يشاء من دين ودنيا ويبدءون ويبدأ الإمام بالاستغفار ويفصل به كلام ويختم به ثم يقبل على الناس بوجهه فيحضهم على طاعة ربهم ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ويقرأ آية أو آيتين ويقول أستغفر الله لي ولكم ثم ينزل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَسْقَى فَكَانَ أَكْثَرَ دُعَائِهِ الِاسْتِغْفَارُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنِّي لَأَعْجَبُ مِمَّنْ يُبْطِئُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُهُ، فَقِيلَ لَهُ وَمَا مَفَاتِيحُهُ فَقَالَ الِاسْتِغْفَارُ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ الْجُفَاةِ أَنَّهُ اسْتَسْقَى فَقَالَ:
(رَبَّ الْعِبَادِ مَا لَنَا وَمَا لَكَا ... قَدْ كُنْتَ تَسْقِينَا فَمَا بَدَا لَكَا)
(أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ لا أبالكا)
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ مَعْنَاهُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا أَبَا لَكَ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظَةِ جَفَاءٍ فَهُوَ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ صَحِيحٌ، فإذا فرغ من الدعاء استقبل الناس وأتى بباقي الْخُطْبَةِ ثُمَّ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الرِّدَاءِ وَتَحْوِيلِهِ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى نَزَعُوهَا مَتَى نَزَعَهَا، وَيَخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ عَقِيبَ دُعَائِهِ بِقَوْلِهِ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} يونس: 89) وقَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84] وقَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) {الأنبياء: 88) وَمَا أَشبه ذلك من الآيات تفاؤلا لإجابة الدعوة.
(فصل)
: (قال الشافعي) فإن سقاهم الله وَإِلَّا عَادُوا مِنَ الْغَدِ لِلصَّلَاةِ وَالِاسْتِسْقَاءِ حَتَّى يسقيهم الله (قال) وإذا حولوا أرديتهم أقروها محولة كما هي حتى ينزعوها متى نزعوها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا حَسَنٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَتْ نَاحِيَةً جَدْبَةً وَأُخْرَى خِصْبَةً فَحَسَنٌ أَنْ يَسْتَسْقِيَ أَهْلُ الْخِصْبَةِ لِأَهْلِ الْجَدْبَةِ وَلْلِمُسْلِمِينَ ويسأل اللَّهَ الزِّيَادَةَ لِلْمُخْصِبِينَ فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَاسِعٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) {المائدة: 2) وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " المسلمون تتكافأ(2/520)
دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ " وَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ لَتَحْفَظُ مَنْ وَرَاءَهُمْ، فَلِذَلِكَ مَا اخْتَرْنَا لِأَهْلِ النَّوَاحِي الْخِصْبَةِ أَنْ يَسْتَسْقُوا لِأَهْلِ النَّوَاحِي الْجَدْبَةِ، رَجَاءً لِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِمْ، ورفع الضرر عن أحوالهم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَسْتَسْقِي حَيْثُ لَا يُجَمَّعُ مِنْ بَادِيَةٍ وَقَرْيَةٍ ويفعله المسافرون لأنه سنة وليس بإحالة فرض ويفعلون ما يفعل أهل الأمصار من صلاة وخطبة ويجزئ أن يستسقي الإمام بغير صلاة وخلف صلواته ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَالْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ، وَالْحَاضِرِ وَالْبَادِي، لِاشْتِرَاكِ جَمِيعِهِمْ فِي الْإِضْرَارِ بِامْتِنَاعِ الْقَطْرِ وَنُزُولِ الْغَيْثِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ فَرِيقٌ دُونَ فَرِيقٍ، وَلَا مَكَانٌ دُونَ مَكَانٍ، فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ شُرَكَاءَ وَالْبِقَاعُ فِيهِ سَوَاءً، وَيُخْتَارُ لِلْإِمَامِ إِذَا رَأَى مِنَ النَّاسِ كَسَلًا وَافْتِرَاقًا وَقِلَّةَ رَغْبَةٍ فِي الْخُرُوجِ أَنْ يَخْرُجَ بِنَفْسِهِ فَيَسْتَسْقِي وَحْدَهُ، لِأَنَّ الْغَرَضَ فِيهِ الدُّعَاءُ وَالِابْتِهَالُ، فَلَوِ اسْتَسْقَى الْإِمَامُ بِغَيْرِ صَلَاةٍ وَدُعَاءٍ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ أَجْزَأَهُ، قَدِ اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةِ وَدَعَا فَسُقِيَ.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا كَانَ جَدْبٌ أَوْ قِلَّةُ مَاءٍ فِي نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ فِي حَاضِرٍ أَوْ بَادٍ لَمْ أُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ الِاسْتِسْقَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَرَكَ السُّنَّةَ، فَجَعَلَ قِلَّةَ مَاءِ الْعَيْنِ وَالنَّهْرِ كَامْتِنَاعِ الْقَطْرِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ لَهُمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ مَلُحَ الْمَاءُ فَمُنِعَ شُرْبُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ اسْتَسْقَى لِذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَجْلِ الضَّرَرِ بِهِ وَخَوْفِ الْجَدْبِ مِنْهُ.
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَإِذَا تَهَيَّأَ الْإِمَامُ لِلْخُرُوجِ فَمُطِرُوا مَطَرًا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَحْبَبْتُ أَنْ يَمْضِيَ النَّاسُ حَتَّى يَشْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى سُقِيَاهُ، ويسألونه الزِّيَادَةَ مِنَ الْغَيْثِ لِسَائِرِ الْخَلْقِ، وَلَا يَتَخَلَّفُوا وَيُصَلُّوا كَمَا يُصَلُّونَ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَإِنْ كَانُوا يُمْطَرُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ بِهِمُ الْخُرُوجَ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ لِلِاسْتِسْقَاءِ إِنِ احْتَاجُوا إِلَى الزِّيَادَةِ، وَأَخَّرُوا الْخُرُوجَ لِلشُّكْرِ إِلَى أَنْ يُقْلِعَ الْمَطَرُ ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِنِ اسْتَسْقَى الْإِمَامُ فَسُقُوا لَمْ يَخْرُجُوا بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا اسْتَسْقَى وَأُجِيبُ لَمْ يَخْرُجْ ثَانِيًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِذَا خَافُوا الْغَرَقَ مِنْ سَيْلٍ أَوْ نَهْرٍ، أَوْ خَافُوا انْهِدَامَ الدُّورِ دَعَوُا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَكُفَّ الضَّرَرَ عَنْهُمْ، وَأَنْ يَصْرِفَ الْمَطَرَ عَمَّا يَضُرُّ إِلَى مَا يَنْفَعُ من رؤوس الجبال،(2/521)
وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ وَالْآكَامِ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا سَأَلَهُ الرَّجُلُ أَنْ يَدْعُوَ بِكَفِّ الْمَطَرِ عَنْهُمْ قَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَدَعَا وَلَمْ يُصَلِّ " وَقَالَ: حَوَالَيْنَا يَعْنِي: الْجِبَالَ وَمَنَابِتَ الشَّجَرِ، حَيْثُ يَنْفَعُ فِيهِ دَوَامُ الْمَطَرِ، وَكَذَلِكَ نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، مِثْلَ تَعَذُّرِ الْأَقْوَاتِ وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ وَضِيقِ الْمَكَاسِبِ، فَيَنْبَغِي لهم أن يدعو اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِكَشْفِهَا مُجْتَمِعِينَ أَوْ مُفْتَرِقِينَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ألظوا فِي الدُّعَاءِ بِيَاذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ نَذَرَ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ اسْتَسْقَى وَحْدَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ، لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ لَوْ خَرَجَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ الِاسْتِسْقَاءَ وَيَخْطُبَ صَلَّى وَخَطَبَ جَالِسًا ". لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقِيَامُ لِلْخُطْبَةِ، وَلَا فِي رُكُوبِ الْمِنْبَرِ بِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَمَاعَةٌ ذَكَرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَالِسًا وَسَقَطَ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَكَيْفَ خَطَبَ أَجْزَأَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَوْ نَذَرَ الْإِمَامُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ فَسُقِيَ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوَفِّيَ بِنَذْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَيَخْرُجُ مَنْ أَطَاعَهُ، وَإِذَا نَذَرَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ فِي الْمَسْجِدِ، وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ فِي بَيْتِهِ، فَلَوْ خَرَجَ وَالنَّاسُ مَعَهُ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ إِلَّا بِالْخُطْبَةِ قَائِمًا " لِأَنَّ الطَّاعَةَ إِذَا كَانَ مَعَهُ نَاسٌ أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا، وَلَوْ خَطَبَ رَاكِبًا لِبَعِيرٍ جَازَ.(2/522)
(باب الدعاء في الاستسقاء)
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَدٍ قَالَ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ رَبَاحٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان إذا استسقى قال " اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ وَلَا سُقْيَا عَذَابٍ وَلَا مَحْقَ وَلَا بَلَاءَ وَلَا هَدْمَ وَلَا غَرَقَ اللَّهُمَّ عَلَى الظِّرَابِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَرُوِيَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ " اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا هَنِيئًا مَرِيعًا غَدَقًا مُجَلَّلًا عَامَّا طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ وَالْبَهَائِمِ وَالْخَلْقِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْجَهْدِ وَالضَّنْكِ مَا لَا نَشْكُو إِلَّا إِلَيْكَ اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السماء وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَاكْشِفْ عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُكَ اللَّهُمَّ إِنَا نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا " وَأُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا كُلَّهُ وَلَا وَقْتَ فِي الدُّعَاءِ لَا يُجَاوِزَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
وَذَلِكَ هُوَ الْمُخْتَارُ، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَنْقُولٌ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ وَلَا التَّقْصِيرُ عَنْهُ، وَبِمَا دَعَا جَازَ.
(فَصْلٌ)
: حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَسْقِي فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ أَمْطِرْنَا، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرِ الْمَطَرَ فِي كِتَابِهِ إِلَّا لِلْعَذَابِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) {الشعراء: 137) وَهَذَا عِنْدَنَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَمَدَّ يَدَيْهِ بَسْطًا اللَّهُمَّ أمطرنا ".(2/523)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَثَرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ: " أَتَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وجل؟ " قال اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: يَقُولُ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا في دركم مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ وَكَافِرٌ بِي ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ عَلَى مَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُ أَنَّ النَّوْءَ هُوَ الْمَطَرُ فَكَانُوا كُفَّارًا بِذَلِكَ، وَالنَّوْءُ: هُوَ النَّجْمُ الَّذِي يَسْقُطُ فِي الْمَغْرِبِ وَيَطْلُعُ مَكَانَهُ فِي الْمَشْرِقِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَ: الْعَبْدُ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَا يُمْطَرُ وَلَا يُفْعَلُ إِلَّا بالله سبحانه، وأما من قال مطرنا ينوء كَذَا عَلَى مَا كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَطَرِ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَاطِرُ فَهَذَا كَافِرٌ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّ النَّوْءَ وَقْتٌ أَوْ نَجْمٌ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ ضَرَرٍ أَوْ نَفْعٍ فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا يَعْنِي: أَنَّا مُطِرْنَا فِي وَقْتِ نَوْءِ كَذَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ كُفْرًا، كَقَوْلِهِ مُطِرْنَا فِي شَهْرِ كَذَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ الْعَادَةَ أَنَّ يُمْطَرَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَنْشَأَتْ نَجْدِيَّةٌ ثُمَّ اسْتَحَالَتْ شَامِيَّةً فَذَلِكَ عَيْنٌ عَذِيقَةٌ " يَعْنِي فِيمَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعَادَةِ.
(فَصْلٌ)
: يُخْتَارُ لِلنَّاسِ أَنْ يَسْتَمْطِرُوا الْغَيْثَ أَوَّلَ نُزُولِهِ فَيَبْرُزُونَ لَهُ حَتَّى يُصِيبَ ثِيَابَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَنْزِعُ ثِيَابَهُ فِي أَوَّلِ مَطْرَةِ، إِلَّا الإزار يئتزر بِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَمَرَ جَارِيَتَهُ بِإِخْرَاجِ رَحْلِهِ إِلَى الْمَطَرِ، وَقَالَ: إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " تَوَقَّعُوا الْإِجَابَةَ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجُيُوشِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَنُزُولِ الْغَيْثِ، وَكَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الْإِشَارَةَ إِلَى الرَّعْدِ، وَيَقُولُونَ عِنْدَ ذَاكَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ، فَيُخْتَارُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(2/524)
(باب الحكم في تارك الصلاة متعمدا)
قال الشافعي رضي الله عنه: " يُقَالُ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ حَتَى يَخْرُجَ وَقْتُهَا بلا عذر لا يصليها غيرك فَإِنْ صَلَّيْتَ وَإِلَّا اسْتَتَبْنَاكَ فَإِنْ تُبْتَ وَإِلَّا قتلناك كما يكفر فنقول إن آمنت وإلا قتلناك وقد قيل يستتاب ثلاثا فإن صلى فيها وإلا قتل وذلك حسن إن شاء الله (قال المزني) قد قال في المرتد إن لم يتب قتل ولم ينتظر به ثَلَاثًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من ترك دينه فاضربوا عنقه " وقد جعل تارك الصلاة بلا عذر كتارك الإيمان فله حكمه في قياس قوله لأنه عنده مثله ولا ينتظر به ثلاثا ".
قال الماوردي: وهذا كَمَا قَالَ تَارِكُ الصَّلَاةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَهَا جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتْرُكَهَا مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا كَانَ كَافِرًا، وَأجْرى عَلَيْهِ حُكْم الرِّدَّةِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ تَرَكَهَا مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهَا، قِيلَ لَهُ لِمَ لَا تُصَلِّي؟ فَإِنْ قَالَ أَنَا مَرِيضٌ قِيلَ لَهُ صَلِّ كَيْفَ أَمْكَنَكَ، قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَمَّنْ عَقَلَهَا، وَإِنْ قَالَ لَسْتُ مَرِيضًا وَلَكِنْ نَسِيتُهَا قِيلَ لَهُ صَلِّهَا فِي الْحَالِ فَقَدْ ذَكَرْتَهَا، وَإِنْ قَالَ لَسْتُ أُصَلِّيهَا كَسَلًا وَلَا أَفْعَلُهَا تَوَانِيًا فَهَذَا هُوَ التَّارِكُ لَهَا غَيْرُ مَعْذُورٍ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَأَجَابَ إِلَى فِعْلِهَا تُرِكَ، فَلَوْ قَالَ أَنَا أَفْعَلُهَا فِي مَنْزِلِي وُكِّلَ إِلَى أَمَانَتِهِ، وَرُدَّ إِلَى دِيَانَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَأَقَامَ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنْ فِعْلِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّ دَمَهُ مُبَاحٌ وَقَتْلَهُ وَاجِبٌ، وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: هُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَالْمُزَنِيِّ أَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، لَكِنْ يضرب عند صلاة كل فريضة أدبا وتعزيزا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه أنه كان كَافِر كَالْجَاحِدِ، تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ.(2/525)
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا أبو حنيفة وَمَنْ تَابَعَهُ فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى حَقْنِ دَمِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ فَإِنْ قَالُوا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " وَهَذَا قَدْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَمُهُ مَحْقُونًا، وَأَيْضًا وَمَا رَوَاهُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ " وَهَذَا لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَ هَذِهِ فَوَجَبَ أن يكون محقون الدَّمِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تُؤَدَّى وَتُقْضَى، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِتَرْكِهَا كَالصَّوْمِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْقَتْلَ بِتَرْكِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِبَاحَةِ دَمِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ شَرْطَيْنِ: التَّوْبَةُ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا وَهُوَ التَّوْبَةُ دُونَ الصَّلَاةِ كَانَ الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ بَاقِيًا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَلَا إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ " فَلَمَّا كَانَ فِعْلُهَا سَبَبًا لِحَقْنِ دَمِهِ كَانَ تَرْكُهَا سَبَبًا لِإِرَاقَتِهِ "، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الإسلام الذي لا يدخله النيابة ببدل وَلَا مَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ بِتَرْكِهَا كَالْإِيمَانِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالْإِيمَانَ يَشْتَرِكَانِ فِي الِاسْمِ وَالْمَعْنَى، فَأَمَّا اشْتِرَاكُهُمَا فِي الِاسْمِ فَهُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ تُسَمَّى إِيمَانًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ، وَأَمَّا اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْإِيمَانُ لَزِمَهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ لا يلزمه الصيام إذا كان شيخا هما، وَمَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِيمَانُ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مِنْ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ مَا لَا يَقَعُ إِلَّا طَاعَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَالْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا وَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الِاسْمِ وَالْمَعْنَى وَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ يشتمل على أوامر ونواهي، فَلَمَّا قُتِلَ بِفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ اقْتَضَى أَنْ يُقْتَلَ بِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِ " إِلَّا بِحَقِّهَا " وَالصَّلَاةُ مِنْ حَقِّهَا، كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَانِعِي الزكاة.(2/526)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي وَقَوْلِهِ " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ " فَأَبَاحَ دَمَهُ بِالْكُفْرِ مَعَ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا وَأَحْكَامُ الْكُفْرِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ على الصوم والعيادات فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ مُمْكِنٌ مِنْهُ، وَاسْتِيفَاءَ الصَّلَاةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ كَالْإِيمَانِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فَاسْتَدَلُّوا عَلَى إِثْبَاتِ كُفْرِهِ بِرِوَايَةِ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيْمَانِ تَرْكُ الصَّلَاةِ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ ".
وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِسْلَامِهِ أن الشرع يشتمل على أوامر ونواهي، فَلَمَّا لَمْ يَكْفُرْ بِفِعْلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ إِذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ، لَمْ يَكْفُرْ بِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ إِذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِوُجُوبِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا بِتَرْكِهَا لَكَانَ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهَا لَمْ يكن كافرا بتركها.
فأما الجوال عن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ " فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الزَّجْرِ، كَمَا قَالَ: " لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ".
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ إِسْلَامُهُ وَتَقَرَّرَ وُجُوبُ قَتْلِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي زَمَانِ وَجُوبِهِ.
وَالثَّانِي: فِي صِفَةِ قَتْلِهِ.
فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي زَمَانِ وُجُوبِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَصْحَابِنَا: أَنَّ قَتْلَهُ يَجِبُ إِذَا تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً وَدَخَلَ وَقْتُ الْأُخْرَى وَضَاقَ حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ إِيقَاعُ غَيْرِهَا فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ قَتْلَهُ يَجِبُ إِذَا تَرَكَ ثَلَاثَ صَلَوَاتٍ وَدَخَلَ وَقْتُ الرَّابِعَةِ، وَضَاقَ حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ إِيقَاعُ غَيْرِهَا فِيهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فَهَلْ يُقْتَلُ لِمَا فَاتَ أَمْ لِصَلَاةِ الْوَقْتِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، يُقْتَلُ لِمَا فَاتَ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَسِيَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَهَا فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهَا قُتِلَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يقتل لصلاة الوقت إذا ضاق يعلم فَوَاتُهَا، اسْتِدْلَالًا بِمَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى هَذَا إِنْ نَسِيَ صَلَوَاتٍ فَوَائِتَ ثُمَّ ذَكَرَهَا فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهَا لَمْ يُقْتَلْ.(2/527)
فَصْلٌ
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي صِفَةِ قَتْلِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُقْتَلُ صَبْرًا بِضَرْبِ الْعُنُقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَاخْتِيَارُ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ يُضْرَبُ بِالْخَشَبِ حَتَّى يَمُوتَ طَمَعًا فِي عَوْدِهِ، ثُمَّ إِذَا أُرِيدَ قَتْلُهُ فَهَلْ يُقْتَلُ فِي الْحَالِ أَوْ يُنْتَظَرُ ثَلَاثًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُرْتَدِّ، فَإِذَا قُتِلَ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَا يَمْنَعُ مِنْ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَاللَّهُ تعالى أعلم.(2/528)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الجنائز
باب إغماض الميت
قال الشافعي رضي الله عنه " أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ أَنْ يَتَوَلَّى أَرْفَقُهُمْ بِهِ إِغْمَاضَ عَيْنَيْهِ بِأَسْهَلِ مَا يقدر عليه وأن يشد لَحْيَهُ الْأَسْفَلَ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَرْبُطَهَا مِنْ فَوْقِ رأسه لئلا يسترخي لحيه الأسفل فينفتح فوه فلا ينطبق ويرد ذراعيه حتى يلصقهما ثم يمدهما بعضديه أو يردهما إلى فخذيه ويفعل ذلك بمفاصل ركبتيه ويرد فخذيه إلى بطنه ثم يمدهما ويلين أصابعه حتى يتباقى لينه على غاسله ويخلع عنه ثيابه ويجعل على بطنه سيف أو حديد ويسجى بثوب بغطي به جميع جسده ويجعل على لوح أو سرير ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمَوْتَ حَتْمًا عَلَى عِبَادِهِ، وَمَصِيرًا لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، خَتَمَ بِهِ أَعْمَالَ الدُّنْيَا، وَافْتَتَحَ بِهِ جَزَاءَ الْآخِرَةِ، وَسَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَنْ أَطَاعَهُ وَمَنْ عَصَاهُ {لِيَجْزِيَ الّذينَ أسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِين أحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) {النجم: 31) فَيَنْبَغِي لِمَنْ يُقِرُّ بِالْمَوْتِ أَنْ يَتَّعِظَ بِهِ، وَلِمَنِ اعْتَرَفَ بِالْآخِرَةِ أَنْ يَعْمَلَ لَهَا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقاَلَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) {الزلزلة: 7، 8) .
وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ " قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ عَزَ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ قَالَ: " مَنْ حَفِظَ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَالْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَتَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، وَذَكَرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، فقد استحى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " وَيَخْتَارُ الْإِكْثَارَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ أَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَأَمْنَعُ مِنَ الْمَعَاصِي.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وثوابها
يُسْتَحَبُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " عائد المريض في محرف من محارف الْخَيْرِ إِلَى أَنْ يَعُودَ ".(3/3)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " ما عَادَ مَرِيضًا شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ ملكٍ إِلَى أَنْ يَعُودَ ".
وَقَدْ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَعْدًا وَجَابِرًا وَعَادَ غُلَامًا يَهُودِيًّا.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُودَ لِعِيَادَتِهِ جَمِيعَ الْمَرْضَى وَلَا يَخُصَّ بِهَا قَرِيبًا مِنْ بَعِيدٍ وَلَا صَدِيقًا مِنْ عَدُوٍّ، ليحرز بِهَا ثَوَابَ جَمِيعِهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِيَادَةُ غِبًّا، وَلَا يُوَاصِلُهَا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَغِبُّوا عِيَادَةَ الْمَرِيضِ أَوْ أَرْبِعُوا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَغْلُوبًا " وَيُكْرَهُ إِطَالَةُ الْعِيَادَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِضْجَارِ الْمَرِيضِ، فَإِنْ رَأَى في المريض إمارات الصحة وعلامات البرء دعاء لَهُ بِتَعْجِيلِ الْعَافِيَةِ، لِتَقْوَى بِذَلِكَ نَفْسُهُ، فَقَدْ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَعْدًا وَوَعَدَهُ بِالْعَافِيَةِ وَالْعُمْرِ وَإِنَّ اللَّهَ سَيَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنْ رَأَى فِيهِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ ذَكَّرَهُ الْوَصِيَّةَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَحَثَّهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ بِالرِّفْقِ وَالْكَلَامِ اللَّطِيفِ ثُمَّ يُعَجِّلُ الِانْصِرَافَ فَإِذَا قَارَبَ أَنْ يَقْضِيَ حَضَرَهُ أَقْوَى أَهْلِهِ نَفْسًا، وَأَثْبَتُهُمْ عَقْلًا، وَلَقَّنَهُ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إِضْجَارٍ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ".
وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ " ثُمَّ يُوَجِّهُهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوَجُّهِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ وَتَكُونُ رِجْلَاهُ فِي الْقِبْلَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُضْجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ الْقِبْلَةَ، فَإِذَا مَاتَ تَوَلَّى مِنْهُ سَبْعَ خِصَالٍ:
أَوَّلُهَا: إِغْمَاضُ عَيْنَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْمَضَ عَيْنَ ابْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَقَالَ إِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ " وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ فِي كَرَامَتِهِ وَأَبْلَغُ فِي جَمَالِ عِشْرَتِهِ، ولأن لا يُسْرِعَ إِلَيْهَا الْفَسَادُ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا آخِرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ الرُّوحُ وَأَوَّلُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُطَبِّقَ فَاهُ وَيَشُدَّ لَحْيَهُ الْأَسْفَلَ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَرْبُطَهَا مِنْ فَوْقِ رأسه، لأن لا يَفْتَحَ فَاهُ فَيَقْبُحَ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ إِلَيْهِ، ولأن لا يَلِجَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِ.(3/4)
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُلَيِّنَ مَفَاصِلَهُ مِنْ يَدَيْهِ وَعَضُدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَفَخِذَيْهِ فَيَمُدَّهَا وَيَرُدَّهَا مَنْ لَهُ رِفْقٌ وسهولة لئلا تجسو فتقح، وَلِأَنْ تَبْقَى لَيِّنَةً عَلَى غَاسِلِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَخْلَعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا جَمَرَ فِيهَا فَتُغَيَّرُ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ وَمَوْضِعٍ مرتفع من لوح أو سرير، لأن لا تُسْرِعَ إِلَيْهِ عُفُونَةُ الْأَرْضِ وَيَبْعُدَ عَنِ الْهَوَامِ.
وَالسَّادِسُ: أَنْ يُسَجَّى بِثَوْبٍ يُغَطَّى بِهِ جَمِيعُ بَدَنِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " سُجِّيَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ " وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لِجَسَدِهِ، وَأَبْلَغُ فِي كَرَامَتِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْطِفَ مَا فَضَلَ مِنْ طَرَفَيْهِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ؛ لِكَيْ لَا يَنْكَشِفَ عَنْهُ إِنْ هَبَّتْ رِيحٌ.
وَالسَّابِعُ: أَنْ يُوضَعَ عَلَى بَطْنِهِ سَيْفٌ أَوْ حَدِيدَةٌ أو طين مبلول؛ لأن لا يَرْبُوَ فَيُنْفَخَ بَطْنُهُ فَيُقَبَّحَ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَتَوَلَّى الرِّجَالُ أَمْرَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ أَمْرَ النِّسَاءِ، فَإِنْ تَوَلَّى خِلَافَ ذَلِكَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ جَازَ.
فَصْلٌ
: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُسْتَحَبُّ الْإِنْذَارُ بِالْمَيِّتِ وَإِشَاعَةُ مَوْتِهِ فِي النَّاسِ بِالنِّدَاءِ وَالْإِعْلَامِ؟ فَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ؛ لِمَا فِي إِنْذَارِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَالدَّاعِينَ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ إِخْفَاءً لِأَمْرِهِ وَمُبَادَرَةً بِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْغَرِيبِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لِأَنَّ الْغَرِيِبَ إِذَا لَمْ يُنْذَرِ النَّاسُ بِهِ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ.(3/5)
بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَغَسْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةِ زوجها
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُفْضِي بِالْمَيِّتِ إِلَى مُغْتَسَلِهِ، وَيَكُونُ كَالْمُنْحَدَرِ قَلِيلًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا غُسْلُ الْمَوْتَى وَتَكْفِينُهُمْ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ وَدَفْنُهُمْ فَفَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكُلُّ بِهِ مُخَاطَبُونَ، فَإِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ بَاقِيهِمْ، وَإِنْ لم يقم البعض خرج الْكُلُّ لِأَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَاتِ وَفُرُوضَ الْأَعْيَانِ قَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْفِعْلِ، فَمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَمْ يَلْزَمِ الْكُلَّ، وَيسقط عَنْهُمْ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ يَلْزَمُ الْكُلَّ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْبَعْضُ سقط من فَاعِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِيجَابِ غُسْلِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَدَفْنُهَا ".
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْمَوْتَى فَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَالْفَضْلُ لِمَنْ قَامَ بِهِ دُونَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَوْ أَنَّ رُفْقَةً فِي طَرِيقٍ مِنْ سَفَرٍ فَمَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ فَلَمْ يُوَارُوهُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَرِيقٍ آهِلٍ يَخْتَرِقُهُ النَّاسُ وَالْمَارَّةُ، أَوْ بِقُرْبِ قَرْيَةٍ أَوْ حِصْنٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَسَاءُوا بِتَرْكِهِمُ الْفَضْلَ، وَتَضْيِيعِ حَقِّ أَخِيهِمْ، وَكَانَ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوَارُوهُ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُوَارُوهُ وَتَرَكُوهُ فِي صَحْرَاءَ أَوْ مَوْضِعٍ لَا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَجْتَازُ بِهِ أَهْلُ قَرْيَةٍ فَقَدْ أَثِمُوا وَعَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى، وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِتَضْيِيعِهِمْ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِمُ الْمُسْلِمِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا فِي مَخَافَةٍ مِنْ عَدُوٍّ، وَيَخَافُونَ إِنِ اشْتَغَلُوا بِالْمَيِّتِ أَظَلَّهُمْ، فَالَّذِي يُخْتَارُ أَنْ يُوَارُوهُ مَا أَمْكَنَهُمْ، فَإِنْ تَرَكُوهُ لَمْ يَحْرَجُوا لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَوْ أَنَّ مُجْتَازِينَ مَرُّوا عَلَى مَيِّتٍ فِي الصَّحْرَاءِ فَقَدْ لَزِمَهُمُ الْقِيَامُ بِهِ، رَجُلًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ تَرَكُوهُ حرجوا أو أثموا، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَ بِثِيَابِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرُ غُسْلٍ وَلَا كَفَنٍ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ، وَيُكَفِّنُوهُ، وَيُصَلُّوا(3/6)
عَلَيْهِ، وَيَدْفِنُوهُ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أثر الغسل والكفن والحنوط فإنهم يدفنوه، فَإِنِ اخْتَارُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ صَلَّوْا عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنْ قَدْ صُلِّيَ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ لَمْ يُعَجَّلْ بِهِ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ بِعَلَامَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، افْتِرَاقُ الزَّنْدَيْنِ، وَاسْتِرْخَاءُ الْعَضُدَيْنِ، وَمَيْلُ الْأَنْفِ، وَتَغْيِيرُ الرَّائِحَةِ، وَإِنْ كَانَ غَرِيقًا أَوْ حَرِيقًا أَوْ تَحْتَ هَدْمٍ، أَوْ مُتَرَدِّيًا مِنْ عُلُوٍّ فَأُحِبُّ أَنْ يُنْتَظَرَ بِهِ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ زَالَ مِنْهُ عَقْلُهُ فَيَثُوبُ، فَإِذَا عُلِمَ مَوْتُهُ عَلَى الْيَقِينِ بُودِرَ بِغُسْلِهِ، وَأُفْضِيَ بِهِ إِلَى مُغْتَسَلِهِ، وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ قُدُومُ غَائِبٍ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَسْفَلُ الْمُغْتَسَلِ مُنْحَدِرًا وَرَأْسُهُ أَعْلَى، لِكَيْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ الماء.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُعَادُ تَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ وَيُطْرَحُ عَلَيْهِ مَا يُوَارِي مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى سُرَّتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إِعَادَةُ تَلْيِينِ مَفَاصِلِهِ فَلَمْ يُوجَدْ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ إِلَّا فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَهَذَا دُونَ جَامِعِهِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ، لِتَمَاسُكِ أَعْضَائِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَعَادَ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَا وَقْتَ غُسْلِهِ، لِتَبْقَى لَيِّنَةً عَلَى غَاسِلِهِ، فَإِنْ أَعَادَ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ وَقْتَ غُسْلِهِ جَازَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي غُسْلِهِ فَقَالَ قَوْمٌ يُغَسَّلُ فِي ثِيَابِهِ، وَقَالَ قومٌ لَا يُغَسَّلُ فِيهَا فَغَشِيَنَا النُّعَاسُ، فَسَمِعْنَا هَاتِفًا يَهْتِفُ فِي الْبَيْتِ وَلَا نَرَاهُ يَقُولُ أَلَا غَسِّلُوهُ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَغُسِّلَ فِي الْقَمِيصِ، فَإِنْ لم يكن غُسْلُهُ فِي الْقَمِيِصِ لِصَفَاقَتِهِ سُتِرَ مِنْهُ قَدْرُ عَوْرَتِهِ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ عَوْرَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَحُكْمِ عَوْرَتِهِ فِي حَيَاتِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَلِيٍّ: " لَا تَنْظُرْ لِفَخِذِ حي وَلَا مَيِّتٍ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " حرمة المسلم بعد موته كحرمته قَبْلَ مَوْتِهِ وَكَسْرُ عَظْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْرِهِ قبل موته ".
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويستر موضعه الَّذِي يُغَسَّلُ فِيهِ فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا غَاسِلُهُ وَمَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعُونَتِهِ عَلَيْهِ وَيَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ عَنْهُ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ لِيَعْرِفَ الْغَاسِلُ مَا غُسِلَ وَمَا بقي ".(3/7)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَادَ لِغُسْلِ الْمَيِّتِ مَوْضِعٌ مَسْتُورٌ لِيَخْفَى عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ فَلَا يُشَاهِدُوهُ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُخْتَارُ غُسْلُهُ تَحْتَ سَقْفٍ أَوْ سَمَاءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَحْتَ سَقْفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُ وَأَحْرَى، وَقَالَ آخَرُونَ: تَحْتَ السَّمَاءِ لِتَنْزِلَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْغَاسِلِ إِنْ أَمْكَنَهُ تَرْكُ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتَعَانَ بِمَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَيَقِفُ حَيْثُ لَا يَرَى الْمَيِّتَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا الدُّنُوُّ مِنْهُ دَنَا وَغَضَّ طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ، فَأَمَّا الْغَاسِلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، عَارِفًا بِغُسْلِهِ وَنَظَافَتِهِ، غَاضًّا طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ حَسَبَ طَاقَتِهِ وَإِمْكَانِهِ، لِكَيْمَا يُشَاهِدَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ سَاتِرًا عليه.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَتَّخِذُ إِنَاءَيْنِ: إِنَاءً يَغْرِفُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَجْمُوعِ فَيَصُبُّ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي يَلِي الْمَيِّتَ، فَمَا تَطَايَرَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ إِلَى الْإِنَاءِ الَّذِي يَلِيهِ لَمْ يُصِبِ الْآخَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُخْتَارُ اتِّخَاذُ إِنَاءَيْنِ كَبِيرٌ بِالْبُعْدِ، وَصَغِيرٌ بِالْقُرْبِ، وَإِنَاءٌ يَغْتَرِفُ بِهِ مِنَ الْكَبِيرِ وَيَصُبُّهُ فِي الصَّغِيرِ، حَتَّى لَا يَفْسُدَ الْمَاءُ بِمَا يَتَطَايَرُ مِنْ غُسْلِهِ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ إِمَّا بِكَثْرَةِ مَا يَتَطَايَرُ مِمَّا يَنْفَصِلُ مِنْ غُسْلِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا، وَإِمَّا لِنَجَاسَةٍ تَخْرُجُ مِنْهُ تُنَجِّسُ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ بَلْ ذَلِكَ لِنَجَاسَةِ الْمَيِّتِ، فَذَهَبَا إِلَى تَنْجِيسِهِ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَلِأَنَّ مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ نَجِسٌ لِفَقْدِ الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ جُمْلَتُهُ بَعْدَ الْوَفَاةِ.
وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا: إِلَى طَهَارَةِ الْمَيِّتِ كَطَهَارَةِ الْحَيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70) فَلَمَّا طُهِّرُوا أَحْيَاءً لِأَجْلِ الْكَرَامَةِ وَجَبَ أَنْ يُخَصُّوا بِهَا أَمْوَاتًا لِأَجْلِ الْكَرَامَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ " وَقَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدِّهِ فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا قَبَّلَهُ مَعَ رُطُوبَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا تَعَبَّدْنَا بِغَسْلِهِ، لَأَنَّ غَسْلَ مَا هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ يَزِيدُ تَنْجِيسًا وَلَا يُفِيدُهُ الْغُسْلُ تَطْهِيرًا، فَأَمَّا مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَقَدْ كَانَ الصَّيْرَفِيُّ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهِ أَيْضًا،(3/8)
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْمَيِّتِ بِهِ لِضَعْفِهِ عَنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيِّ، وَلَوْ وُجِدَ لِلْمَيِّتِ طَرَفٌ مُنْفَصِلٌ صُلِّيَ عليه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَغَيْرُ الْمُسَخَّنِ مِنَ الْمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بردٌ أَوْ يَكُونَ بِالْمَيِّتِ مَا لا ينقيه إلا المسخن فيغسل به ويغسل في قميص ولا يمس عورة الميت بيده ويعد خرقتين نظيفتين لذلك قبل غسله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِنَّمَا اخْتَرْنَا الْمُسَخَّنَ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَلِأَنَّ الْمُسَخَّنَ يُرْخِي لَحْمَ الْمَيِّتِ، وَالْبَارِدَ يَشُدُّ لَحْمَهُ وَيُقَوِّيهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِهِ ضَرُورَةٌ لِتَسْخِينِهِ، لِشِدَّةِ الْبَرْدِ الْمَانِعِ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، أَوْ يَكُونُ بِالْمَيِّتِ مِنَ الْوَسَخِ مَا لَا يَعْمَلُ الْبَارِدُ فِي إِزَالَتِهِ، فَلَا بَأْسَ بِتَسْخِينِ الْمَاءِ وَتَغْيِيرِهِ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مِلْحًا مِنْ مَوْضِعٍ وَاسِعٍ كَثِيرِ الْحَرَكَةِ وَالْجَرَيَانِ، وَيُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُتِرَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، وَلَا يَمَسُّ الْغَاسِلُ عَوْرَتَهُ بِيَدِهِ، وَيَغْسِلُهَا بِالْخِرْقَةِ الَّتِي يَلُفُّهَا عَلَى يَدِهِ، وَيُعِدُّ خِرْقَتَيْنِ نَظِيفَتَيْنِ قَبْلَ غَسْلِهِ، إِحْدَاهُمَا لِعَوْرَتِهِ وَالْأُخْرَى لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَقِيلَ بَلِ الخرقتان مَعًا لِعَوْرَتِهِ، لِيَكُونَ إِذَا ألقى أحديهما وَاتَّخَذَ الْأُخْرَى غَسَلَ الْأُولَى؛ لِيَعُودَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا ولا ينتظر غسلها فيطول.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُلْقِي الْمَيِّتَ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَبْدَأُ غَاسِلُهُ فَيُجْلِسُهُ إِجْلَاسًا رَفِيقًا وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ إمراراً بليغاً والماء يصب عليه ليخفى شيء إن خرج منه وعلى يده إحدى الخرقتين حتى ينقي ما هنالك ثم يلقها لتغسل ثم يأخذ الأخرى ثم يبدأ فيدخل أصبعه في فيه بين شفتيه ولا يفغر فاه فيمرها على أسنانه بالماء ويدخل طرف إصبعيه في منخريه بشيء من ماء فينقى شيئاً إن كان هناك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْغَاسِلُ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْمَيِّتِ عَلَى ظَهْرِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ.
أَوَّلُهَا: أَنْ يُجْلِسَهُ إِجْلَاسًا رَفِيقًا مِنْ غَيْرِ عَجَلَةٍ وَلَا عُنْفٍ وَيَكُونُ جُلُوسًا مَائِلًا إِلَى ظَهْرِهِ، وَلَا يَكُونَ مُعْتَدِلًا فَيَحْتَبِسَ الْخَارِجُ مِنْهُ، ثُمَّ يُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ إِمْرَارًا بَلِيغًا فِي التَّكْرَارِ لَا فِي شِدَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَالْمَاءُ يُصَبُّ مِنْ خَلْفِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ لِيَخْفَى شَيْءٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ " لِيَخْفَى " لِيَظْهَرَ شَيْءٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ وَعُدُولٌ عَنْ مَعْنَى الظَّاهِرِ، ثُمَّ يَأْخُذُ إِحْدَى الْخِرْقَتَيْنِ فَيُنْجِيهِ بِهَا مِنْ قُبُلِهِ وَدُبُرِهِ، فَإِنْ أَنْقَى ذَلِكَ أَلْقَى الْخِرْقَةَ تُغْسَلُ وَأَخَذَ الْأُخْرَى وَاسْتَعْمَلَهَا على(3/9)
أحد الوجهين في إنقاء أسفله، وأنجا قُبُلَهُ وَدُبُرَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْقَى عَلَى يَدِهِ، وَيَسْتَعْمِلُهُمَا فِي فَمِهِ وَأَعْلَى جَسَدِهِ، وَيُمِرُّهَا عَلَى أَسْنَانِهِ لِيُزِيلَ أَذًى إِنْ كَانَ بِهَا، وَلَا يَفْغَرُ فَاهُ لِمَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا، أَوْ يُفْسِدَ لَهُ عُضْوًا.
مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُوَضِّئُهُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، وَيَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ حَتَّى ينقيهما ويسرحهما تسريحاً رفيقاً ".
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءٍ أَيْضًا:
فَأَحَدُهَا: وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَا أن يوضئه وضوءه للصلاة فيمضمضه وينشفه مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ، وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ وَتَشْبِيهًا بِالْحَيِّ، ثُمَّ يَغْسِلُ شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، لِأَنَّ رَأْسَهُ أَشْرَفُ جَسَدِهِ وَأَوْلَى مَا ابْتُدِئَ بِهِ ثُمَّ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ تَسْرِيحًا رَفِيقًا بِمُشْطٍ وَاسِعِ الْأَسْنَانِ، وَإِنْ كَانَ شَعْرُ رَأْسِهِ مُلَبَّدًا سَرَّحَهُ أَيْضًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُغَسِّلُهُ مِنْ صَفْحَةِ عُنُقِهِ الْيُمْنَى وَشِقِّ صَدْرِهِ وَجَنْبِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيَصْنَعُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَحْرِفُهُ إِلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ فَيَغْسِلُ ظَهْرَهُ وَقَفَاهُ وفخذه وساقه اليمنى وهو يراه متمكناً ثم يحرفه إلى شقه الأيمن فيصنع به مثل ذلك ويغسل ما تحت قدميه وما بين فخذيه وإليتيه بالخرقة ويستقصي ذلك ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى جَمِيعِهِ الْمَاءَ الْقَرَاحَ وَأُحِبُّ أن يكون فيه كافور (قال) وأقل غسل الميت فيما أحب ثلاثاً فإن لم يبلغ الإنقاء فخمساً لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لمن غسل ابنته " اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كافورٍ " (قال) ويجعل في كل ماءٍ قراحٍ كافوراً وإن لم يجعل إلا في الآخرة أجزأه ويتتبع ما بين أظافره بعودٍ ولا يخرج حتى يخرج ما تحتها من الوسخ وكلما صب عليه الماء القراح بعد السدر حسبه غسلاً واحداً ويتعاهد مسح بطنه في كل غسلةٍ ويقعده عند آخر غسلة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ فِي غُسْلِهِ بَعْدَ تَسْرِيحِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِمَيَامِنِ جَسَدِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال لأم عطية حين غسلت بنته: " ابْدَئِي بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا ".(3/10)
وَيُلْقِيهِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَيَغْسِلُ الْأَيْمَنَ وَيَبْدَأُ بِصَفْحَةِ عُنُقِهِ الْيُمْنَى وَيَدِهِ وَشِقِّ صَدْرِهِ وَجَنْبِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَيَغْسِلُ مَا تَحْتَ قَدَمِهِ، ثُمَّ يُلْقِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَيَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ عَلَى مَا وَصَفْتُ، وَيَغْسِلُ مَا بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ، وَمَا كَانَ يَغْسِلُهُ حَيًّا فِي جَنَابَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَاءِ السِّدْرِ، وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الْخِطْمِيِّ، لِأَنَّهُ أَمْسَكُ لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى لِلْجَسَدِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ بِهِ وَسَخٌ مُتَلَبِّدٌ رَأَيْتُ أَنْ يُغَسَّلَ بِأُشْنَانٍ، وَيَرْفُقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِذَا غَسَّلَهُ بِالسِّدْرِ صَبَّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الْمَاءَ الْقَرَاحَ، وَكَانَ الِاجْتِنَابُ بِمَاءِ الْقَرَاحِ دُونَ مَاءِ السِّدْرِ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى غَسْلِهِ ثَانِيًا بِالسِّدْرِ فَعَلَ، وَإِنِ اكْتَفَى بِالْأَوَّلِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ وَاقْتَصَرَ عَلَى غَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ، فَإِنْ غَسَّلَهُ بِالسِّدْرِ فِي كُلِّ دُفْعَةٍ وَأَفَاضَ بَعْدَهُ مَاءَ الْقَرَاحِ جَازَ، وَكَانَ الِاجْتِنَابُ بِمَاءِ الْقَرَاحِ دُونَ مَاءِ السِّدْرِ، وَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا وَأَوْسَطُهُ خَمْسًا، وَأَكْثَرُهُ سَبْعًا، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا سَرَفٌ.
فَصْلٌ
: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي الْمَاءِ الْقَرَاحِ كَافُورًا يَسِيرًا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ فَيَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ لَمْ يُحْتَسَبْ به في عداد غسلانه.
وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنَ اسْتِعْمَالِ الْكَافُورِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ عَطِيَّةَ الْخَفَّاضِيَّةِ حِينَ غَسَّلَتْ بنته اغْسِلِيهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وسدرٍ، وَاجْعَلِي فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُتْبِعُ مَا بَيْنَ أَظْفَارِهِ بِعُودٍ لَا يَجْرَحُ، حَتَّى يُخْرِجَ مَا تَحْتَهَا مِنَ الْوَسَخِ، وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَتَعَاهَدُ مَسْحَ بَطْنِهِ فِي كُلِّ غَسْله، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَمَرَ أَنْ يَتَعَاهَدَ مَسْحَ بَطْنِهِ بِيَدِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي وَقْتِنَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أراد بالتعاهد تفقد الموضع الممسوس، لأن لا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُفْسِدَهُ، وَلَمْ يُرِدْ مُعَاهَدَةَ مسحه بيده.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شيءٌ أَنْقَاهُ بِالْخِرْقَةِ كَمَا وصفت وأعاد عليه غسله ثم ينشف في ثوب ثم يصير في أكفانه وإن غسل بالماء القراح مرةً أجزأه ".(3/11)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ ذَلِكَ: أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بَعْدَ كَمَالِ غَسْلِهِ خَارِجٌ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يُعِيدُ غُسْلَهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ نَاقِضٌ لِحُكْمِ غَسْلِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ طَهَارَةٌ غَيْرَ غُسْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَغْسِلَ النَّجَاسَةَ وَيُوَضِّئَهُ كَالْحَيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يَغْسِلُ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ لَا غَيْرَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وأبي حنيفة لِاسْتِقْرَارِ غُسْلِهِ وَاسْتِحَالَةِ الْحَدَثِ فِيهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: ثُمَّ يُنَشِّفُهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ يَصِيرُ فِي أَكْفَانِهِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نُشِّفَ فِي ثَوْبٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْسَكُ لِبَدَنِهِ وأوفى لكفنه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَأَى حَلْقَ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الأظفار ومنهم من لم يره (قال المزني) وتركه أعجب إليّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى بِلًى عَنْ قَلِيلٍ وَنَسْأَلُ الله حسن ذلك المصير ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَخْذُ شَعْرِهِ وَتَقْلِيمُ ظُفُرِهِ فَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا، وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَفَحُشَ فَأَخْذُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَفِي اسْتِحْبَابِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ أَخْذَهُ مَكْرُوهٌ وَتَرْكَهُ أَوْلَى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْمُزَنِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخِتَانُ الْوَاجِبُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يُفْعَلُ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَانَ هَذَا أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ كَانَ مَأْخُوذًا بِقَلْعِهِ فِي الْحَيَاةِ وَلَا يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ، فَهَذَا أَوْلَى، قَالَ الْمُزَنِيُّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى بِلًى عَنْ قَلِيلٍ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ ذَلِكَ الْمَصِيرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إنَّ أَخْذَهُ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكَهُ مَكْرُوهٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ، وَلِأَنَّ تَنْظِيفَ سِنٍّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَإِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، فَعَلَى هَذَا يُخْتَارُ أَنْ يُؤْخَذَ شَعْرُ عَانَتِهِ وَإِبِطَيْهِ بِالنَّوْرَةِ لَا بِالْمُوسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِهِ، وَيُقَصِّرُ شَعْرَ شَارِبِهِ وَلَا يَحْلِقُ، وَيَتْرُكُ لِحْيَتَهُ وَلَا يَمَسَّهَا، فَأَمَّا شَعْرُ رَأْسِهِ فَإِنْ كَانَ ذَا جُمَّةٍ فِي حَيَاتِهِ تُرِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا جُمَّةٍ حُلِقَ وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَ أَطْرَافِهِ، ثُمَّ حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ يُدْفَنُ مَعَهُ، وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ يُعْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا أَثَرٌ يُسْتَنَدُ إليه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُقَرِّبُ الْمُحْرِمَ الطِّيبَ فِي غُسْلِهِ وَلَا حنوطه ولا يخمر رأسه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ولا تخمروا رأسه "(3/12)
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وإن ابنا لعثمان توفي محرماً فلم يخمر رأسه ولم يقربه طيباً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ:
الْإِحْرَامُ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ لَمْ يُغَطَّ رَأْسُهُ، وَلَمْ يُمَسَّ طِيبًا، وَلَمْ يُلْبَسْ مَخِيطًا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: عَطَاءٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ إِحْرَامُهُ بِالْمَوْتِ، وَجَازَ تَطْيِيبُهُ وَتَغْطِيَةُ رَأْسِهِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " خمروا مَوْتَاكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ " وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وولدٍ صالحٍ يَدْعُو لَهُ " فَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إِحْرَامِهِ.
قَالُوا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا تَحْرِيمُ الطِّيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالْعِدَّةِ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ إِحْرَامِهِ بَاقِيًا بَعْدَ مَوْتِهِ لَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ فِي تَطْيِيبِهِ وَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ، كَمَنْ طَيَّبَ مَجْنُونًا مُحْرِمًا، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ عَلَى مَنْ فَعَلَ بِهِ دَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إِحْرَامِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا: رِوَايَةُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخَرَّ رَجُلٌ عَنْ بَعِيرِهِ فَوُقِصَ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اغْسِلُوهُ بماءٍ وسدرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَهُ يُبْعَثُ يوم القيامة ملبياً ".
فإن قيل: فقد عَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذلك بأنه قَالَ: " يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِهِ، وَلَيْسَ يُعْلَمُ هَلْ يُبْعَثُ غَيْرُهُ مُلَبِّيًا أَمْ لَا؟ قُلْنَا: إِنَّمَا عَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا الحكم بموته محرماً لا لِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " حرمةُ المسلم بعد موته كحرمته قبل(3/13)
مَوْتِهِ، وَكَسْرُ عَظْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ " فَسَوَّى بَيْنَ حُرْمَتِهِمَا فَاقْتَضَى تَسَاوِي حُكْمِهِمَا.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " يُحْشَرُ الْمَرْءُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا " قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يُحْشَرُ فِي عَمَلِهِ الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ثُبُوتِ إِحْرَامِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْجُنُونِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى بَعْضُ أَحْكَامِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ثَبَتَتْ حُكْمًا، يَفْعَلُهُ تَارَةً وَيَفْعَلُ غَيْرَهُ أُخْرَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالْإِيمَانِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ كالإغماء والجنون، ولأنه ليس محرم فِي حَيَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ تَحْرِيمُهُ بِوَفَاتِهِ كَالْحَرِيرِ وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خَمِّرُوا رُءُوسَ مَوْتَاكُمْ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ سِوَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ قَالَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَيْسَ فِي الْيَهُودِ مُحْرِمٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وإذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ " فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَوْ لَزِمَنَا فِي سَائِرِ الْمُحْرِمِينَ لَلَزِمَهُمْ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ لَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، فَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ لَهُمْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْمُحْرِمِ لَمْ يَمْتَنِعْ لَنَا تَخْصِيصُ سَائِرِ الْمُحْرِمِينَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ خَمْسٍ ذَكَرَ فِيهَا حَجٍّ يُؤَدَّى وَدِينٍ يُقْضَى، فَثَبَتَ بنص الخير تَخْصِيصُ الْمُحْرِمِ.
وَأَمَّا قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ: أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا نَصٌّ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهَا اخْتِلَافٌ، عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ حُكْمَ الْعِدَّةِ بَاقٍ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَدِ انْقَطَعَ حُكْمُ الْعِدَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِحْرَامِ أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ عَلَى بَدَنٍ فَانْقَطَعَ حُكْمُهُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا سُقُوطُ الْعِدَّةِ فَلِأَجْلِ عَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَتَحْرِيمُ الطِّيبِ بَاقٍ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ، كَالْمَيِّتِ يَحْرُمُ تَكْسِيرُ عَظْمِهِ لِبَقَاءِ حُرْمَتِهِ، وَسَقَطَ إرشه لزوال منفعته.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ الْمَيِّتِ مِجْمَرَةٌ لَا تَنْقَطِعُ حَتَى يَفْرُغَ مِنْ غَسْلِهِ فَإِذَا رَأَى مِنَ الْمَيِّتِ شَيْئًا لَا يَتَحَدَّثُ بِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ سِتْرِ أَخِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اسْتِحْدَاثُ الْمِجْمَرِ مِنْ حِينِ غَسْلِهِ إِلَى وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنْهُ: فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " وَلِيَقْطَعَ رَائِحَةً إن ندرت مِنْهُ، صِيَانَةً لَهُ، وَمَنْعًا مِنْ أَذَى مَنْ حَضَرَهُ، وَأَمَّا كِتْمَانُهُ لِمَا يَرَى مِنْ تَغْيِيرِ الْمَيِّتِ وَسُوءِ أَمَارَةٍ فَمَأْمُورٌ بِهِ لَا يَحِلُّ لِلْغَاسِلِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَكَتَمَ عَلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعِينَ(3/14)
مَرَّةً " فَأَمَّا مَا يَرَى مِنْ مَحَاسِنِهِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَأْمُرُ بِسِتْرِهَا وَيَمْنَعُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهَا لِأَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَهُ مَحَاسِنَ وَعِنْدَ غَيْرِهِ مَسَاوِئَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِذَاعَتِهَا وَمَنْدُوبٌ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى كَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غُسْلِهِ مَا رَآهُ مِنَ النُّورِ وَشَمَّهُ مِنْ رَوَائِحِ الْجَنَّةِ وَمَا كَانَ مِنْ مَعُونَةِ الملائكة.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَوْلَاهُمْ بِغُسْلِهِ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا فَأَوْلَى أَهْلِهِ أَنْ يُغَسِّلَهُ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، فَيَكُونُ أَقْرَبُ عِصَابَتِهِ أَوْلَى بِغُسْلِهِ مِنْ زَوْجَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً: فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ فَأَحَقُّ عِصَابَتِهَا بِغَسْلِهَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَعَلَى وجهن:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَصَبَةَ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا أَوْلَى بِغَسْلِهَا مِنَ الزَّوْجِ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ: إِنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِغَسْلِهَا وَإِنْ كَانَ عَصَبَتُهَا أَحَقَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا ما ليس للعصبات النظر إليه.
مسألة المرأة تغسل زوجها الميت
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويغسل الرجل امرأته والمرأة زوجها غسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وعلي امرأته فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقالت عائشة لَوِ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا نساؤه (قال) وليس للعدة معنىً يحل لأحدهما فيها ما لا يحل له من صاحبه ".
قال الماوردي: وهذا صحيح: أما الزوجة فلها أَنْ تُغَسِّلَ زَوْجَهَا إِذَا مَاتَ، لَا يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: " أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُغَسِّلَهُ زَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَقَالَ: إِنْ كُنْتِ صَائِمَةً فَأَفْطِرِي "، وَيُعِينُكِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي(3/15)
بِكْرٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَغَسَّلَتْهُ وَهِيَ صَائِمَةٌ ثُمَّ ذَكَرَتْ عَزْمَةَ أَبِي بَكْرٍ فَدَعَتْ بِمَاءٍ فَشَرِبَتْهُ وَقَالَتْ: كِدْتُ أُتْبِعُهُ مَعْصِيَةً.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " لَوِ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا نِسَاؤُهُ " فَأَمَّا إِذَا مَاتَتِ الزَّوْجَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ غُسْلُهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امرئٍ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ امرأةٍ وَبِنْتِهَا " قَالُوا فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى بِنْتِ امْرَأَتِهِ إِذَا مَاتَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاسْتَبَاحَ بِالْعَقْدِ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِهَا دَلَّ على أن الأمر قد حرم عليه النظر إليها؛ لأن لا يَكُونَ نَاظِرًا إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا، قَالُوا وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتِ زَوْجَتِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إِلَى زَوْجَتِهِ، كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ غَيْرَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا، وَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ حَلَّ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ لِارْتِفَاعِ الْعِصْمَةِ بِمَوْتِهَا وَبَقَاءِ الْعِصْمَةِ بِمَوْتِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: وَارَأْسَاهُ فَقُلْتُ لَا بَلْ وَارَأْسَاهُ فَقَالَ مَا عَلَيْكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ " فَلَمَّا أَخْبَرَهَا أَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَهُ لَغَسَّلَهَا، وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَمُوتُ: دَلَّ على أنه قصد بذلك بيان حكم غيرها مِنَ الْأَزْوَاجِ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ، وَرَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَتْ أَسْمَاءُ فَغَسَّلَهَا عَلِيٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَا مَعَهُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُنْكِرًا فِعْلَهُ فَدَلَّ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا جَازَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سببي ونسبي " قلنا قد بين مَعْنَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،(3/16)
وَالنِّكَاحُ فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعٌ بِالْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أنه عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزَوَّجَ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِي بَعْدَ فَاطِمَةَ وَهِيَ بِنْتُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنْتَيْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَوْ كَانَ سَبَبُ النِّكَاحِ بَاقِيًا لَحَرُمَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزْوِيجُ أُمَامَةَ، وَعَلَى عُثْمَانَ تَزْوِيجُ أُمِّ كُلْثُومٍ بَعْدَ رُقَيَّةَ، وَلِأَنَّهَا زَوْجِيَّةٌ زَالَتْ بِالْوَفَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا تَحْرِيمُ النَّظَرِ قِيَاسًا عَلَى موت الزوج، ولأنه معنى تزيل التكليف فوجب أن لا يحرم كَالْجُنُونِ، وَلِأَنَّ أُصُولَ النِّكَاحِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ نَظَرِ أَحَدِهِمَا لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ نَظَرِ الْآخَرِ كَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ نَظَرِ الزَّوْجِ اقْتَضَى أَنْ لَا يُوجِبَ تَحْرِيمَ نَظَرِ الزَّوْجَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امرئٍ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا " فَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُمْنَعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَلَمَّا جَازَ لَهَا النَّظَرُ فِي الْمَوْتِ إِلَيْهِ جَازَ لَهُ النظر إليها.
وأما الجواب على قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ غَيْرَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا: فَدَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ تَفَرُّدُهَا بِالْعِدَّةِ مُوجِبًا لِتَفَرُّدِهَا لِعِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ وَحَظْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَمَاتَ فِي عِدَّتِهَا لَمْ يَحِلَّ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ، وَلَوْ مَاتَ مِنْهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَوَضَعَتْ قَبْلَ غُسْلِهِ جَازَ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ، فَعَلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِدَّةِ كَعَدَمِهَا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ وَحَظْرِهِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُغَسِّلَ زَوْجَتَهُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسِّلَهَا ذَاتُ مَحْرَمٍ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَذَاتُ رَحِمٍ مِنْهُنَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَامْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ النِّسَاءَ أَوْلَى بِالنِّسَاءِ، وَالزَّوْجُ أَوْلَى الرِّجَالِ بِزَوْجَتِهِ، فَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا مَاتَتْ لَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ جَازَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا إِنْ رَضِيَ أَوْلِيَاؤُهَا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهَا، وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا مَاتَ وَلَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ كَرِهْتُ أَنْ تُغَسِّلَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ غَسَّلَتْهُ جَازَ لِحُصُولِ الْغُسْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ أَنَّ مَيِّتًا غَسَّلَهُ السَّيْلُ أَوِ الْمَطَرُ لَمْ يُجْزِهِ وإن كان الغسل موجود قُلْنَا لِأَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا فِي الْمَيِّتِ فَإِذَا غَسَّلَهُ السَّيْلُ وَالْمَطَرُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنَّا لَمْ يُوجَدْ وَكَذَا الْغَرِيقُ غُسْلُهُ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا وَجَبَتِ النِّيَّةُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ وَاجِبَةٌ قُلْنَا فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا طهار وَاجِبَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهُوَ أَشْبَهُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ فِيهِ النِّيَّةُ وَإِنْ وَجَبَتْ في غيره.(3/17)
فَصْلٌ
: يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُغَسِّلَ أُمَّ وَلَدِهِ إِذَا مَاتَتْ، وَكَذَلِكَ أَمَتَهُ وَمُدَبَّرَتَهُ، لِأَنَّ حُكْمَ الرِّقِّ فِي جَمِيعِهِمْ بَاقٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يلزمه موؤنة دَفْنِهِمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ، فَإِن مَاتَ السَّيِّدُ لَمْ يَكُنْ لِأَمَتِهِ وَلَا لِمُدَبَّرَتِهِ وَلَا لِأُمِّ وَلَدِهِ أَنْ تُغَسِّلَهُ، أَمَّا الْأَمَةُ فَلِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فَلِزَوَالِ الرِّقِّ عَنْهُمَا، وَارْتِفَاعِ الْعَصَبَةِ بَيْنَ السَّيِّدِ وَبَيْنَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَالنِّكَاحُ يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ كَمَا أَنَّ الرِّقَّ يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنِ ارْتِفَاعُ النِّكَاحِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْغُسْلِ، كَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَكُونُ ارْتِفَاعُ الرِّقِّ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْغُسْلِ؟ قُلْنَا وُجُودُ النِّكَاحِ مُوجِبٌ لِلِاسْتِبَاحَةِ، فَإِذَا اتَّصَلَتِ الِاسْتِبَاحَةُ بِالْمَوْتِ جَازَ أَنْ يَبْقَى لَهَا حُكْمٌ بعد الموت، وليس دوام الولده المدبرة مُوجِبٌ لِاسْتِبَاحَتِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّقُّ فِيهَا مَوْجُودًا وَهُمَا فِي إِبَاحَةِ زَوْجٍ، فَضَعُفَ الرِّقُّ عَنْ مَعْنَى النِّكَاحِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ فِي بَقَاءِ الِاسْتِبَاحَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكَلُ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ التَّيَمُّمُ دُونَ الْغُسْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَلِأَنَّ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي الرجال ولا في النساء فجاز لكلي الْفَرِيقَيْنِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَسَدِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَجُلًا فَيَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ امْرَأَةً فَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ.
وَهَذَا غَلَطٌ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غُسْلُ مَوْتَاهَا " وَلَوْ جَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ غُسْلِهِ لِإِشْكَالِ عَوْرَتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ بِذَلِكَ مِنْ تَيَمُّمِهِ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ، وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فِي ذِرَاعَيْهَا كَعَوْرَتِهَا فِي سَائِرِ جَسَدِهَا، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُبَاشَرَتَهُ بِحَرَامٍ كَمُبَاشَرَةِ سَائِرِ الْجَسَدِ، فَكَانَ التَّيَمُّمُ فِي تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ مُسَاوِيًا لِلْغُسْلِ، فَإِذَا تَسَاوَيَا فَاسْتِعْمَالُ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ أَوْلَى، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْخُنْثَى وَاجِبٌ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ، وَيَكُونَ مَوْضِعُ غُسْلِهِ مُظْلِمًا، وَيَتَوَلَّى غُسْلَهُ أَوْثَقُ مَنْ يُقْدَرُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَتْ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْهُمْ، تُيَمَّمُ وَلَا تُغَسَّلُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُغَسَّلُ فِي قَمِيصٍ، وَيَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً كَيْ لَا يَمَسَّهَا، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ وَهَذَا أَصَحُّهُمَا عِنْدِي. وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا النِّسَاءُ الْأَجَانِبُ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُنَّ يُغَسِّلْنَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُيَمَّمَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ إِيجَابَ غسل المرأة.(3/18)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُغَسِّلُ الْمُسْلِمُ قَرَابَتَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر علياً فغسل أَبَا طَالِبٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ " إِذَا مَاتَ الْمُشْرِكُ وَلَهُ قَرَابَةٌ ٌمسلمون فَلَهُمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ وَيُكَفِّنُوهُ وَيَتْبَعُوا جِنَازَتَهُ " وَكَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) {لقمان: 15) وَرُوِيَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ مَاتَ عَمُّكَ الضَّالُّ، فَقَالَ: غَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُصَلِّ عَلَيْهِ "، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ غَسْلِهِ وَدَفْنِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَلَا يَزُورُوا قَبْرَهُ، وَلَا يَدْعُوا لَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) {التوبة: 84) وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أولِي قُرْبَى) {التوبة: 113) فَأَمَّا إِنْ تَرَكَ الْمُشْرِكُ قَرَابَةً مُشْرِكِينَ وَمُسْلِمِينَ، فَالْمُشْرِكُونَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ وَزِيَادَتِهِمْ بِالْمِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(3/19)
باب عدد الكفن وكيف الحنوط
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَحَبُّ عَدَدِ الْكَفَنِ إِلَيَّ ثَلَاثَةُ أثوابٍ بيضٍ رياطٍ ليس فيها قميص ولا عمامةٌ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كفن فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قميص ولا عمامة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ أَمَّا تَكْفِينُ الْمَوْتَى واجب إِجْمَاعًا، بِهِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ وَعَلَيْهِ جَرَى الْعَمَلُ، إِذَا كَانَ وَاجِبًا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى عَدَدِهِ وَصِفَتِهِ، فَأَمَّا عَدَدُهُ فَالْمُخْتَارُ فِيهِ وَمَا جَرَى الْعَمَلُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ، لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثَةِ أثوابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ كُفِّنَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ جَازَ وَلَا يُزَادُ عَلَى الْخَمْسَةِ، لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا فَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ واحدٍ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ جَازَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَتْ له نمرةٌ واحدةٌ إذا غَطَّى بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غَطَّى بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غَطُّوا رَأْسَهُ وَاطْرَحُوا عَلَى قَدَمَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْإِذْخِرِ " فَإِنْ غَطَّى مِنَ الْمَيِّتِ قَدْرَ عَوْرَتِهِ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَدْ أَسْقَطَ الْفَرْضَ، وَلَكِنْ أَخَلَّ بِحَقِّ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا أُجِيزَ؛ لِأَنَّ نَمِرَةَ مُصْعَبٍ لَمْ تَسْتُرْ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَلَمْ يَأْمُرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُكَفَّنَ فِي غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ مِنْ سِتْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ يَجِبُ مِنْ سِتْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ قَدْرُ عَوْرَتِهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا صِفَةُ الْأَكْفَانِ فَيُخْتَارُ أَنْ تَكُونَ بِيضًا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ ثِيَابِكُمُ البياضُ فَأَلْبِسُوهَا أَحْيَاءَكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ " وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ(3/20)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بيضٍ رياطٍ سُحُولِيَّةٍ، فَالرِّيَاطُ هِيَ الْأُزُرُ الْبِيضُ الْخِفَافُ الَّتِي لَا فق فِيهَا وَلَا خِيَاطَةَ، وَالسُّحُولِيَّةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا سُحُولُ، وَيُخْتَارُ أَنْ تَكُونَ الثِّيَابُ الْبَيَاضُ جُدُدًا لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَاخْتَارَ مَالِكٌ الْعِمَامَةَ لِلْمَيِّتِ رجلاً كانت أَوِ امْرَأَةً، وَاخْتَارَ أبو حنيفة الْقَمِيصَ.
فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ عَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عُمِّمَ فِي كَفَنِهِ.
وَأَمَّا أبو حنيفة فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ " النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ "، وَلِأَنَّهُ أَجْمَلُ زِيِّ الْأَحْيَاءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي الْمَوْتَى كَالْإِزَارِ.
وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِرِوَايَةِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قيمصٌ وَلَا عمامةٌ " وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْمَيِّتُ كَالسَّرَاوِيلِ، فَأَمَّا تَعْمِيمُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِصَابَةً شَدَّ بِهَا رَأْسَهُ لِأَجْلِ الضَّرْبَةِ الَّتِي كَانَتْ بِهِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ كفن في قميص فأما الرِّوَايَةُ أَنَّهُ غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْ بِخِلَافِهِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجَمَّرُ بِالْعُودِ حَتَى يَعْبَقَ بِهَا ثُمَّ يَبْسُطُ أحسنها وأوسعها ثم الثانية عليها ثم التي تلي الميت ويذر فيها بينها الحنوط ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فَوْقَ الْعُلْيَا مِنْهَا مستلقياً ثم يأخذ شَيْئًا مِنْ قُطْنٍ مَنْزُوعِ الْحَبِّ فَيَجْعَلُ فِيهِ الحنوط والكافور ثم(3/21)
يدخله بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ إِدْخَالًا بَلِيغًا وَيُكْثِرُ لِيَرُدَّ شَيْئًا إِنْ جَاءَ مِنْهُ عِنْدَ تَحْرِيكِهِ إِذَا حُمِلَ وزعزع ويشد عليه خرقةٌ مشقوقة الطرف تأخذ إليتيه وعانته ثم يشد عليه كما يشد التبان الواسع (قال المزني) لا أحب ما قال من إبلاغ الحشو لأن في ذلك قبحاً يتناول به حرمته ولكن يجعل كالموزة من القطن فيما بين إليتيه وسفرة قطن تحتها ثم يضم إلى أليتيه والشداد من فوق ذلك كالتبان يشد عليه فإن جاء منه شيءٌ يمنعه ذلك من أن يظهر منه فهذا أحسن في كرامته من انتهاك حرمته. (قال الشافعي) ويأخذ القطن فيضع عليه الحنوط الكافور فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَمَوْضِعِ سجوده وإن كانت به جراح نافذةٌ وضع عليها ويحنط رأسه ولحيته بالكافور وعلى مساجده وَيُوضَعُ الْمَيِّتُ مِنَ الْكَفَنِ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَبْقَى منه من عند رجليه أقل مما يبقى من عند رأسه ثم يثني عليه ضيق الثَّوْبِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يثني ضيق الثوب الآخر على شقه الأيسر كما وصفت كما يشتمل الحي بالسياج ثم يصنع بالأثواب كلها كذلك ثم يجمع ما عند رأسه من الثياب جمع العمامة ثم يرده على وجهه ثم يرد ما على رجليه على ظهور رجليه إلى حيث بلغ فإن خافوا أن تنتشر الأكفان عقدوها عليه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ في كتاب الربيع ويجمر بالند، وإنما اخترنا ذلك، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي كَرَامَةِ الْمَيِّتِ، وَأَجْمَلُ فِي عِشْرَةِ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَيَبْسُطُ أَحْسَنَ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ وَأَوْسَعَهَا، ثُمَّ يَبْسُطُ فَوْقَهُ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْحُسْنِ، ثُمَّ يَبْسُطُ فَوْقَهُ الَّذِي هُوَ دُونَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَ أَحْسَنُهَا أَظْهَرَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي جَمَالِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَاخْتَارَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَذُرُّ بَيْنَهَا الْحَنُوطَ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَذْكُرْهُ غير الشافعي من الفقهاء، وإنما اختاره لأن لا يُسْرِعَ بِلَى الْأَكْفَانِ، وَلِيَقِيَهَا عَنْ بَلَلٍ يَمَسُّهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فَوْقَ الْعُلْيَا مِنْهَا مُسْتَلْقِيًا، وَيَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ قُطْنٍ مَنْزُوعِ الْحَبِّ فَيَجْعَلُ فِيهِ الْحَنُوطَ وَالْكَافُورَ، ثُمَّ يُدْخِلُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ إِدْخَالًا بَلِيغًا، وَيُكْثِرُ لِيَرُدَّ شَيْئًا إِنْ جَاءَ مِنْهُ عِنْدَ تَحْرِيكِهِ إِذَا حمل ورغرغ ويشد عليه كما يشد التبان الْوَاسِعُ، فَإِنْ كَانَ بِهِ إِنْزَالٌ يُخْشَى عَلَى الثَّوْبِ مِنْهُ فَاحْتَاجَ أَنْ يَجْعَلَ فَوْقَ الْخِرْقَةِ مِثْلَ السُّفْرَةِ مِنْ لُبُودٍ فَعَلَ ذَاكَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا كُلَّهُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَإِكْرَامًا لِلْمَيِّتِ، وَحِفْظًا لِلْأَكْفَانِ.
وَلَمْ يُرِدِ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ وَيُدْخِلُهُ إِدْخَالًا بَلِيغًا فِي الْحَلْقَةِ كَمَا تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِدْخَالًا بَلِيغًا بَيْنَ الْإِلْيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ انْتِهَاكِ حرمته.(3/22)
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَيَأْخُذُ الْقُطْنَ فَيَضَعُهُ عَلَى الْحَنُوطِ وَالْكَافُورِ فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَمَوْضِعِ سُجُودِهِ وَجَمِيعِ مَنَافِذِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِهِ جِرَاحٌ أَوْ قُرُوحٌ وَضَعَ عَلَيْهَا، وَيَحْفَظُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْكَافُورِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِمَسَاجِدِهِ وَهِيَ أَعْضَاؤُهُ السَّبْعَةُ لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوكِلُ بِهِ مَنْ يَذُبُّ عَنْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ النَّارَ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ) {الفتح: 29) وَاخْتَرْنَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَنَافِذِهِ وَجِرَاحِهِ حِفَاظًا لِلْخَارِجِ مِنْهُ وَصِيَانَةً لِلْأَكْفَانِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الطراز: وهو طيب ومسك يخلط ويداف فَيُوضَعُ عَلَى جَبِينِهِ فَلَا يَخْتَارُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْأَحْيَاءِ مِنْ أَهْلِ الصِّيَانَةِ مَعَ مَا فِيهِ منْ تَشْوِيهِ الْبَشَرَةِ، وَتَغْيِيرِ اللَّوْنِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَأَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي عَيْنَيْهِ الزَّاوُوقَ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى بَدَنِهِ الْمُرْدَاسَنْجَ، وَالزَّاوُوقُ هُوَ شَيْءٌ لَزِجٌ كَالصَّمْغِ يُمْسِكُهُ وَيَحْفَظُهُ، وَإِنَّمَا كَرِهْتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ أَحَدٍ يُتَّبَعُ.
وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الصَّبْرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَا يُجْعَلُ الْمَيِّتُ فِي صُنْدُوقٍ وَهُوَ التَّابُوتُ، وَإِنَّمَا نهي عَنْهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَوْصَى فَقَالَ: لَا تَجْعَلُونِي فِي الصُّنْدُوقِ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُوضَعُ الْمَيِّتُ مِنَ الْكَفَنِ بِالْمَوْضِعِ الذي يبقى من عند رجليه أولى مِمَّا يَبْقَى عِنْدَ رَأْسِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّ نَمِرَةَ مُصْعَبٍ لَمَّا قَصُرَتْ عَنْهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُهَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لِيُغَطَّى بِهَا جَمِيعُ وَجْهِهِ، وَلِأَنَّ الرَّأْسَ أَشْرَفُ مِنْ جَمِيعِ الْجَسَدِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ يُثْنى عَلَيْهِ ضَفَّة الثَّوْبِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يُثْنى ضَفَّة الثَّوْبِ الْآخَرِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ كَمَا يَشْتَمِلُ الْحَيُّ، وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُدْرِجَهُ فِي أَكْفَانِهِ بَدَأَ بِمَا يَلِي شِقَّهُ الْأَيْسَرَ فَأَلْقَاهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَمَا يَلِي شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَأَلْقَاهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَ مَا عِنْدَ رأسه فألقاه على وجهه، لأن لا يَكْشِفَهُ الرِّيحُ وَأَخَذَ مَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَأَلْقَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا يَخَافُ أَنْ يَكْشِفَهُ الرِّيحُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرِقَ مِنْهُ ضَفَّةً دَقِيقَةً فَيَشُدَّهَا عَلَيْهِ، فَإِذَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ حُلَّتْ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ قَرِيبًا لَمْ يَشُدَّ، لِأَنَّ عَادَةَ السَّلَفِ بِالْحَرَمَيْنِ لَمْ تجر بمثله.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا أَدْخَلُوهُ الْقَبْرَ حَلُّوهَا وَأَضْجَعُوهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَوَسَّدُوا رَأْسَهُ بلبنةٍ وَأَسْنَدُوهُ لِئَلَّا يَسْتَلْقى عَلَى ظَهْرِهِ وَأَدْنَوْهُ إِلَى اللَّحْدِ مِنْ مُقَدَّمِهِ لئلا(3/23)
ينكب على وجهه وينصب اللبن على اللحد ويسد فرج اللبن ثم يهال التراب عليه والإهالة أن يطرح من على شفير القبر التراب بيديه جميعاً ثم يهال بالمساحي ولا أحب أن يرد في القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع جداً ويشخص عن وجه الأرض قدر شبر ويرش عليه الماء ويوضع عليه الحصباء ويوضع عند رأسه صخرة أو علامة ما كانت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا دَفْنُ الْمَوْتَى فَوَاجِبٌ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَكَانَ أَصْلُهُ أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ لَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ بِهِ {فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتِي أَعَجِزْتُ أنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} (المائدة: 31) فَتَنَبَّهَ قَابِيلُ بِفِعْلِ الْغُرَابِ عَلَى دَفْنِ أَخِيهِ فَدَفَنَهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أحْيَاءُ وَأَمْوَاتاً) {المرسلات: 25) يَعْنِي تَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً وَتَضُمُّهُمْ أَمْوَاتًا، وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهاَ نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) {طه: 55) فَإِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ وَاجِبًا فَيُخْتَارُ تَعْمِيقُ الْقُبُورِ، وَأَنْ يَكُونَ نَحْوَ الْقَامَةِ وَالْبَسْطَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " عمقوا قبور موتاكم لأن لا تريح عليكم ".
فَصْلٌ
: اللَّحْدُ فِي الْقُبُورِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الشق الضَّرِيحِ فِي وَسَطِهِ، بِخِلَافِ مَذْهَبِ أبي حنيفة، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " اللحد لنا والشق لغيرها " وقد كلف عَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ الضَّرِيحَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَكَانَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اللَّحْدَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ " فَلَمَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَوْمٌ اجْعَلُوا لَهُ ضَرِيحًا وَقَالَ آخَرُونَ لَحْدًا، فَأَنْفَذَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولًا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَرَسُولًا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ وَقَالَ الْعَبَّاسُ اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ فَسَبَقَ الرَّسُولُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَجَاءَ بِهِ فَأَلْحَدَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ أَضْجَعُوهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيُوَسَّدُ رَأْسُهُ بِلَبِنَةٍ وَيُكْرَهُ الْمِخَدَّةُ وَالْمُضْرِبَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَفَاخُرِ الْأَحْيَاءِ وَفِعْلِ الْمُتَنَعِّمِينَ، فَإِذَا انصب في اللحد قرب منه لأنه لا يَنْكَبَّ، وَأُسْنِدَ مِنْ وَرَائِهِ لِئَلَّا يَسْتَلْقِيَ، ثُمَّ يُنْصَبُ عَلَيْهِ اللَّبِنُ نَصْبًا قَائِمًا لَا بَسْطًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كذلك فعل به، ولأنه(3/24)
أحكم في عمارة وَأَبْعَدُ فِي بِلَى أَكْفَانِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي اللَّحْدِ فُرُجٌ سَدُّوهَا بِقِطَعِ اللَّبِنِ، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ، وَالْإِهَالَةُ أَنْ يَطْرَحَ مِنْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ التُّرَابَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهَالَ عَلَى قَبْرِ ميتٍ بِكَفَّيْهِ ثَلَاثًا " ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ بِالْمِسَاحِي، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْرَعُ فِي عَمَلِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُزَادَ في القبر أكثر من ترابه، لأن لا يَعْلُوَ جِدًّا، وَيَخْتَارُ أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ عَنِ الأرض قدر شبر أو نحوه ليعلم أن قبر، فيترحم عليه، ولأن لا يَنْسَاهُ مَنْ يَجْهَلُ أَمْرَهُ.
فَصْلٌ
: الْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ تُسْطَحَ الْقُبُورُ وَلَا تُسْنَمَ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أبي حنيفة أَنْ تُسْنَمَ وَلَا تُسْطَحَ، وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَطَحَ قَبْرَ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُوِيَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَرَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فَسَطَحَ قَبْرَهُ " وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّهْ اكْشِفِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَشَفَتْ فَرَأَيْتُ قَبْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُسَطَّحَةً.
فَصْلٌ
: فَإِذَا سَطَحَ الْقَبْرَ وَفَرَغَ مِنْهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَاءَ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَقَاءً، وَلَا يُبَرِّكُهُ الْمَاءَ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُبَرِّدُ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لِلْقَبْرِ وَأَبْقَى لِأَثَرِهِ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى الْقَبْرِ حَصًا، وَهُوَ الْحَصَا الصِّغَارُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَصْبَاءِ الْعَرْصَةِ، ثُمَّ يُوضَعُ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ صَخْرَةً أَوْ عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ أَيْضًا مِثْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا قَبَرَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَضَعَ عِنْدَ قَبْرِهِ حَجَرَيْنِ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ: أَجْعَلُ لِقَبْرِ أَخِي عَلَامَةً أَدْفِنُ عِنْدَهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ ".
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الدَّفْنُ فِي الصَّحْرَاءِ لَا فِي الْبُيُوتِ وَالْمَسَاكِنِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ الدَّاعِي لَهُ إِذَا دَرَسَ قَبْرُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ الْقُبُورِ الدَّارِسَةِ " وَيُخْتَارُ لِمَنْ مَرَّ بِالْقُبُورِ أَنْ يَدْعُوَ لِأَهْلِهَا بالرحمة، ويسلم(3/25)
عَلَيْهِمْ وَيَقُولَ أَنْتُمْ لَنَا سَابِقُونَ وَنَحْنُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَأَيْتُ مَنْ أَوْصَى بِالْقِرَاءَةِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَهُوَ عِنْدَنَا حَسَنٌ.
فَصْلٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا أُحِبُّ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ فِي بَلْدَةٍ أَنْ يُنْقَلَ إِلَى غَيْرِهَا وَبِخَاصَّةٍ إِنْ كَانَ مَاتَ بِمَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَخْتَارُ أَنْ يُنْقَلَ إِلَيْهَا لِفَضْلِ الدَّفْنِ فِيهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بُعِثَ مِنَ الْآمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ، وَزَادَ الزُّهْرِيُّ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ قُبِرَ بِالْمَدِينَةِ كُنْتُ عَلَيْهِ شَاهِدًا وَلَهِ شَافِعًا وَمَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ فَكَأَنَّمَا مَاتَ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا ".
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ لَيْلًا، وَقَدْ كَرِهَ الْحَسَنُ ذَلِكَ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُفِنَتْ لَيْلًا، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُفِنَ لَيْلًا، وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُفِنَ لَيْلًا.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا فِي مَرْكَبٍ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ وَيُكَفِّنُوهُ وَيُصَلُّوا عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرُونَ فَإِنْ كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي صُعُودِهِمْ مَخَافَةٌ مِنْ عَدُوٍّ وَلَا سَبُعٍ، كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَدِّمُوهُ إِلَى قَبْرِهِ فِي الْأَرْضِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ بُعْدٌ يُخَافُ أَنْ يَفْسُدَ الْمَيِّتُ إِلَى الْبُلُوغِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ قُرْبٌ وَلَكِنَّهُمْ يَخْشَوْنَ مِنْ صُعُودِهِمْ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ عَدُوٌّ أَوْ سَبُعٌ فَإِنَّهُمْ يَشُدُّونَهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ وَيُلْقُونَهُ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَلْقَوْهُ فِي الْبَحْرِ رَجَوْتُ أن يسعهم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْقَبْرِ فَقَدْ أَكْمَلَ وَيَنْصَرِفُ مَنْ شَاءَ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِذَا ووري فذلك له واسع (قال) وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سطح قبر ابنه إبراهيم عليه السلام ووضع عليه حصباء من حصباء العرضة وأنه عليه السلام رش على قبره وروي عن القاسم قال رأيت قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبي بكر وعمر مسطحة ".
قال الماوردي: ووري، فذلك له واسع (وَهَذَا صَحِيحٌ) ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ شَيَّعَ جِنَازَةً وَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنِ انْتَظَرَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قيراطان، فلا(3/26)
يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إِذَا صَلَّى عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ قِيرَاطًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِيرَاطِ الْآخَرِ مَتَى يَسْتَحِقُّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا وُورِيَ فِي لَحْدِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَبْرِهِ، وَيَخْتَارُ لِمَنْ يَحْضُرُ دَفْنَهُ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ يس وَيَدْعُوَ لَهُ وَيَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَرَّ بِقَوْمٍ يَدْفِنُونَ مَيِّتًا فَقَالَ تَرَحَّمُوا عَلَيْهِ فإنه الآن يسأل ".
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تُبْنَى الْقُبُورُ وَلَا تُجَصَّصُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَجْصِيصُ الْقُبُورِ فَمَمْنُوعٌ مِنْهُ، فِي مِلْكِهِ وَغَيْرِ مِلْكِهِ، لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن تجصيص الْقُبُورِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يَعْنِي تَجْصِيصَهَا، وَأَمَّا الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ كَالْبُيُوتِ وَالْقِبَابِ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن بناء القبور، ولأن فيه تضييق عَلَى غَيْرِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَرَأَيْتُ الْوُلَاةَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يَبْنُونَ مِنْهَا، وَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ مُسَبَّلَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَتَنَازَعَ اثْنَانِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ تَسَاوَيَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا دُفِنَ مَيِّتٌ فِي أَرْضٍ مُسَبَّلَةٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْبِشَهُ وَيُنْزِلَ عَلَيْهِ مَيتَه، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا، فَإِنِ اسْتَعْجَلَ فِي نَبْشِهِ وَكَانَ أَثَرُ الْمَيِّتِ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ رَدُّ تُرَابِهِ وَعِظَامِهِ إِلَيْهِ، وَإِعَادَةُ الْقَبْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا أَعَارَهُ بُقْعَةً لِلدَّفْنِ فَدُفِنَ فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي إِعَارَتِهَا، مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا، فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَإِنْ دُفِنَ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَمَوْضِعُ الدَّفْنِ غَصْبٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْرَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ، لِأَنَّهُ نَهْكُ حُرْمَتِهِ، فَإِنْ نَقَلَهُ جَازَ، فَلَوْ غَصَبَ كَفَنًا وَكَفَّنَ لَهُ مَيِّتًا ودفن قال أبو حامد لم يخرج، وكان عَلَى غَاصِبِ الْكَفَنِ قِيمَتُهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْأَرْضِ أوكد؛ لأن الانتفاع بها مؤيد، والانتفاع بالثوب مؤبداً.(3/27)
وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَنَ رُبَّمَا تَعَيَّنَ عَلَى صَاحِبِهِ بتكفين الْمَيِّتِ بِهِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، وَالْأَرْضُ الْمَمْلُوكَةُ لَا يَتَعَيَّنُ الدَّفْنُ فِيهَا لِوُجُودِ غَيْرِهَا مِنَ الْمُبَاحِ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَرْضِ أَغْلَظَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ وَيُمْكِنُ قَلْبُ الْفُرُوقِ بِمَا هو أولى منها.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَالْمَرْأَةُ في غسلها كالرجل وتتعهد بأكثر ما يتعهد به الرجل وأن يضفر شعر رأسها ثلاثة قرون فيلقين خلفها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر بذلك أم عطية في ابنته وبأمره غسلتها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي غُسْلِهِمَا حَيَّيْنِ اسْتَوَيَا فِي غُسْلِهِمَا مَيِّتَيْنِ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِغَاسِلِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَزِيدَ في تفقد بدنها وتعاهد جسدها لمالها مِنَ الْعُكَنِ الَّتِي يَعْدِلُ الْمَاءُ عَنْهَا ثُمَّ يَجْعَلُ شَعْرَ رَأْسِهَا ثَلَاثَ ضَفَائِرَ خَلْفَهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يجعل ضفيرتين تلتقيان عَلَى صَدْرِهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى: لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قالت: ظفرنا شَعْرَ أُمِّ كُلْثُومٍ ابنةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا، وَأُمُّ عَطِيَّةَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ أَمْرٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتُكَفَّنُ بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ خمارٌ وإزارٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهَا دِرْعًا لِمَا رَأَيْتُ فِيهِ مِنَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً مَعَهَا ثُمَّ خَطَّ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوَاجِبُ مِنْ كَفَنِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهَا إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، أَمَّا الْمَسْنُونُ مِنْهُ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَمْسَةُ أَثْوَابٍ، لِأَنَّ حُكْمَ عَوْرَتِهَا أَغْلَظُ وَلِبَاسَهَا فِي الْحَيَاةِ أَكْمَلُ، وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ فِي غَسْلِهَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُنَاوِلُهَا بِيَدِهِ ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى دَفَعَ إِلَيْهَا خَمْسَةً. فَأَمَّا صِفَةُ هَذِهِ الْأَثْوَابِ الْخَمْسَةِ فَهِيَ مِئْزَرٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارَانِ، وَفِي الخامس قولان:
أحدهما: إزار ثان.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ دِرْعٌ لِمَا رَوَتْ لَيْلَى الثَّقَفِيَّةُ أَنَّهَا قَالَتْ: " كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَوَّلُ مَا نَاوَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِزَارَ ثُمَّ الدِّرْعَ، ثُمَّ الْخِمَارَ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ الثَّوْبَ الَّذِي أَدْرَجْنَاهَا فِيهِ " فَعَلَى هَذَا تُؤَزَّرُ أَوَّلًا ثُمَّ تُدْرَعُ ثُمَّ تُخَمَّرُ ثُمَّ تُلَفُّ فِي ثَوْبَيْنِ، وَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا بِثَوْبٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذَا الثَّوْبُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَمْسَةِ أَوْ زَائِدٍ عَلَيْهَا، فَقَالَ(3/28)
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ هُوَ ثَوْبٌ مِنْ جُمْلَةِ الْخَمْسَةِ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا وَيُدْفَنُ مَعَهَا، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ ثَوْبٌ سَادِسٌ غَيْرُ الْخَمْسَةِ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُحَلُّ عِنْدَ دفنها أم لا على وجهين؟ أحدهما يُحَلُّ عَنْهَا وَيُؤْخَذُ عِنْدَ دَفْنِهَا.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَمُؤْنَةُ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْ أَصْلِ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِنَفَقَتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى منه بمؤونته بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتُهُ إِذَا مَاتَ مُعْدِمًا لَزِمَ ذَلِكَ فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ إِذَا مَاتَتْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَفَقَتِهَا: فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِنَّهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَيَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، كَالْمُنَاسِبِينَ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّ مَؤُونَتَهَا وَاجِبَةٌ فِي تَرِكَتِهَا دُونَ زَوْجِهَا، لِأَنَّ نَفَقَتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالنِّكَاحِ لِأَجْلِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَبِمَوْتِهَا قَدِ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ، وَزَالَ التَّمَكُّنُ، فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ مُوجِبُهَا مِنَ النَّفَقَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُنَاسِبِينَ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْكَفَنِ هَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ أَوْ عَلَى مِلْكِ وَارِثِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وَرَثَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى مِلْكِ وَارِثِهِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ لما منع من ابتداء المالك مَنَعَ مِنَ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ.
فَصْلٌ
: أَمَّا إِذَا كُفِّنَ الْمَيِّتُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَدُفِنَ وَأَقْسَمَ الْوَرَثَةُ تَرِكَتَهُ ثُمَّ نُبِشَ وَسُرِقَتْ أَكْفَانُهُ وَتُرِكَ عريان فَالْمُسْتَحَبُّ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُكَفِّنُوهُ ثَانِيَةً، وَلَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ ثَانِيَةً لَلَزِمَهُمْ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَيُؤَدِّي إِلَى اسْتِيعَابِ التركة، وإذا الْخُرُوجِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فغير لازم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فِي الْكَفَنِ فَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ إِنْ كَانَ وَسَطًا لَا مُوسِرًا وَلَا مُقِلًّا وَمِنَ الْحَنُوطِ بِالْمَعْرُوفِ لَا سَرَفًا وَلَا تَقْصِيرًا ".(3/29)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَاتَ رجل وترك ما لا يَضِيقُ عَنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ فَاخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ وَالْغُرَمَاءُ فِي كَفَنِهِ وَمَؤُونَةِ دَفْنِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ اخْتِلَافِهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِفَةِ الْأَكْفَانِ أَوْ فِي عَدَدِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي صِفَةِ الْأَكْفَانِ فَدَعَا الْوَرَثَةُ إِلَى تَكْفِينِهِ بِأَرْفَعِ الثِّيَابِ وَأَعْلَاهَا كَالسَّرْبِ وَالدِّيبَقِيِّ، وَدَعَا الغرماء إلى تكفينه بأدون الثياب كالناف وَغَلِيظِ الْبَصْرِيِّ، فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَ الْفَرِيقَيْنِ التَّعَارُفَ لِمِثْلِ الْمَيِّتِ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِنْ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ وَسَطًا لَا مَا دَعَا إِلَيْهِ السَّرَفُ، وَلَا مَا صَنَعَ مِنْهُ الشَّحِيحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) {الفرقان: 67) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كَلَّ البَسْطِ) {الإسراء: 29) فَذَمَّ الْحَالَيْنِ، وَمَدَحَ التَّوَسُّطَ بَيْنَهُمَا.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأَكْفَانِ فَقَالَ الْوَرَثَةُ نُكَفِّنُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ وَقَالَ الْغُرَمَاءُ مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُصَارُ إِلَى قَوْلِ الْغُرَمَاءِ وَيُكَفَّنُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ تَطَوُّعٌ، وَلِلْغُرَمَاءِ مَنْعُ الْوَرَثَةِ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَالِ فِي التَّطَوُّعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُصَارُ إِلَى قَوْلِ الْوَرَثَةِ وَيُكَفَّنُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ لَا يُنْقَصُ مِنْهَا اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَرُجُوعًا إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا مُفْلِسًا لَقَدَّمَ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ عَلَى الْغُرَمَاءِ، فَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ بِهَا مَيِّتًا، وَلَوْ قَالَ الْوَرَثَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَقَالَ الْغُرَمَاءُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُرَمَاءِ لَا يُخْتَلَفُ، وَلَوْ قَالَ الْوَارِثُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَقَالَ الْغُرَمَاءُ فِي خِرْقَةٍ تَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لَا يُخْتَلَفُ، فَأَمَّا الْحَنُوطُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَاجِبٌ كَالْكَفَنِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّ طِيبَ الْحَيِّ غَيْرُ وَاجِبٍ فَكَذَلِكَ طِيبُ الْمَيِّتِ فَعَلَى هَذَا لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَمْنَعُوا منه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُغَسَّلُ السَّقْطُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ إِنِ اسْتَهَلَّ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَدُفِنَ وَالْخِرْقَةُ الَّتِي تُوَارِيهِ لِفَافَةُ تَكْفِينِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَخْلُو حَالُ السَّقْطِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا أَوْ يَسْقُطَ مَيِّتًا، فَإِنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يصل(3/30)
عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ لَهُ حِينَ مَاتَ سِتَّةَ عَشَرَ وَقِيلَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، قَالَ: وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ شَفَاعَةٌ وَدُعَاءٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالطِّفْلُ لَا ذَنْبَ لَهُ وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مع الظاهر الْعَامَّةِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ وَوُرِّثَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ " وَرَوَى أَنَسٌ وَالْمُغِيرَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صُلِّيَ عَلَيْهِ " وَلِأَنَّهُ كَالْكَبِيرِ فِي مِيرَاثِهِ وَإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى قَاتِلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْكَبِيرِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَمْ يُصَلِّ عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى ابْنِهِ، وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ فَمَنْ رَوَى أَنَّهُ صَلَّى يَعْنِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فَعَنَى بِنَفْسِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الصَّلَاةَ شَفَاعَةٌ لِأَهْلِ الْخَطَايَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ لَكَانَ الْمَجْنُونُ وَالْأَبْلَهُ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا ينبغي أن يصلي، لأنه ممن لا ذنب عليه، ولكان الأنبياء عليهم السلام لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ الْجَمِيعُ إِنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْوَاجًا وَزُمَرًا بِغَيْرِ إِمَامٍ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا قَالَهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ وَلَا اسْتِهْلَالٍ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْقُطَ لِدُونِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، بَلْ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَيُدْفَنُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْقُطَ وَقَدْ بَلَغَ الزَّمَانَ الَّذِي يَنْفُخُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ الرُّوحَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " يُخْلَقُ أَحَدُكُمْ فَيَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً، ثُمَّ يَأْتِي ملكٌ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيَكْتُبُ أَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَأَنَّهُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ " وَإِذَا بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَفِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قولان:(3/31)
أَحَدُهُمَا: حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَخْرِيجًا عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنَ الْقَدِيمِ إنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ قَبْلَ وَضْعِهِ فَصَارَ كَثُبُوتِ الْحَيَاةِ لَهُ بَعْدَ وَضْعِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ إنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ فِي الصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجِبُ غُسْلُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
فَصْلٌ
: إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمَيِّتِ أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة يُصَلِّي عَلَى أَكْثَرِهِ وَلَا يُصَلِّي عَلَى أَقَلِّهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالرَّأْسِ قِيَاسًا عَلَى مَا قُطِعَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيِّ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ طَائِرًا أَلْقَى يَدًا بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّاسُ، وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ صَلَّى عَلَى رُؤُوسِ الْقَتْلَى بِالشَّامِ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَلَيْسَ لمن ذكرنا مخالف فثبت أن إِجْمَاعٌ، فَأَمَّا الْعُضْوُ الْمَقْطُوعُ مِنَ الْإِنْسَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ أَصَحُّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عُضْوَ الْحَيِّ إِنَّمَا لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى جُمْلَتِهِ الْبَاقِيَةِ، وَلَمَّا صلّي عَلَى الْمَيِّتِ صلّي عَلَى بَعْضِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُصَلى عَلَى مَا وَجَدَ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَيِّتِ وَأَبْعَاضِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ينوي الصلاة جُمْلَةَ الْمَيِّتِ أَوْ مَا وُجِدَ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْوِي بِالصَّلَاةِ مَا وُجِدَ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا غَيْرَ بَعْدِ غُسْلِ الْعُضْوِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُكَفِّنْهُ جَازَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعُضْوُ مِنْ عَوْرَةِ الْمَيِّتِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَنْوِي بِالصَّلَاةِ جُمْلَةَ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْعُضْوِ لَزِمَتْهُ لِحُرْمَةِ جُمْلَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ جُمْلَةَ الْمَيِّتِ قَدْ صَلَّى عَلَيْهِ، فَيَخُصُّ بِالصَّلَاةِ الْعُضْوَ الْمَوْجُودَ وَجْهًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(3/32)
باب الشهيد ومن يصلي عليه ويغسل
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالشُّهَدَاءُ الَّذِينَ عَاشُوا وَأَكَلُوا الطَّعَامَ أَوْ بَقَوْا مُدَّةً يَنْقَطِعُ فِيهَا الْحَرْبُ وَإِنْ لَمْ يَطْعَمُوا كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى وَالَّذِينَ قَتَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي المعترك يكفنون بثيابهم التي قتلوا بها إن شاء أولياؤهم وتنزع عنهم الخفاف والفراء والجلود وما لم يكن من عام لباس الناس ولا يغسلون ولا يصلى عليهم وروي عن جابر بن عبد الله وأنس ابن مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه لم يصل عليهم ولم يغسلهم (قال) وعمر شهيدٌ غير أنه لما لم يقتل في المعترك غسل وصلي عليه والغسل والصلاة سنة لا يخرج منها إلا من أخرجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُغَسَّلُوا، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ أبو حنيفة بِقَوْلِنَا فِي تَرْكِ غُسْلِهِمْ، ويقول سَعِيدٍ فِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى عَشَرَةٍ عَشَرَةٍ وَحَمْزَةُ مَعَهُمْ، حَتَّى كَبَّرَ عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً، وَرَوَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلَّى عَلَى قَتْلَى أحدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ ".
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ " أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايَعَهُ وَآمَنَ بِهِ، وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ مَعَكَ، ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَنِمَ فَقَسَمَ لَهُ، فَقَالَ مَا هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا حَظُّكَ مِنَ(3/33)
الْغَنِيمَةِ فَقَالَ مَا عَلَى هَذَا بَايَعْتُكَ، إِنِّمَا بَايَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُدْمِيَ هَذَا وَأَشَارَ إِلَى حلقةٍ، ثُمَّ نَهَضُوا فَأَصَابَهُ سهمٌ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فَمَاتَ، فَكَفَّنَهُ وَصَلَى عَلَيْهِ " قَالَ وَلِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا فَوَجَبَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَنْ قُتِلَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ، قَالَ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ اسْتِغْفَارٌ لَهُ وَتَرَحُّمٌ عَلَيْهِ وَالشَّهِيدُ بِذَلِكَ أَوْلَى.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) {آل عمران: 169) فَأَخْبَرَ بِحَيَاتِهِمْ وَالْحَيُّ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ قَتْلَى أحدٍ وَقَالَ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخُبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ " قَالَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ ثُمَّ لَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ " وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ " وَلِأَنَّهُ مَيِّتٌ لَا يَجِبُ غُسْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالسَّقْطِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ فِي السَّقْطِ لَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ فِي الشَّهِيدِ، كَالْغُسْلِ فَلَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالسَّقْطِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ قُرِنَتْ بِطَهَارَةٍ فَوَجَبَ إِذَا سَقَطَ فَرْضُ الطَّهَارَةِ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُ الصَّلَاةِ كَالْحَائِضِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عقبة عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ لِي شُعْبَةُ أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الْمَجْنُونِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ جَاءَنِي يَسْأَلُنِي أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ فِي الْحَسَنِ بْنِ عمارة وهو يروي عن الحكم بن عيينة عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَتْلَى أحدٍ " هَذَا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أحدٍ " عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ترجيح.(3/34)
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ رَاوِي خَبَرِنَا شَاهَدَ الْحَالَ، وَهُوَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَرَاوِي خَبَرِهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُشَاهِدِ الْحَالَ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَامَ أُحُدٍ سَنَتَانِ، وَمَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ.
وَالثَّانِي: مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَخَبَرُهُمْ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَنَا نَاقِلٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ الصَّلَاةِ، وَخَبَرَهُمْ مُبْقٍ لِحُكْمِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْجِيحِ، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ نَحْمِلَ رِوَايَتَهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ دُونَ الصَّلَاةِ الَّتِي يَدْخُلُهَا بِإِحْرَامٍ وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِسَلَامٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ نَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ بِإِجْمَاعِنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَلِأَنَّهُ قُتِلَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُنْتَقِضٌ بِالَّذِي إِذَا قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ هُوَ مَقْتُولٌ ظُلْمًا ثُمَّ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيمَنْ قُتِلَ فِي غير الْمُعْتَرَكِ أَنَّهُ يُغَسَّلُ، فَلِذَلِكَ صَلَّى عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي الْمُعْتَرَكِ لَا يُغَسَّلُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا اسْتِغْفَارٌ فَيَفْسُدُ بِالسَّقْطِ.
فَصْلٌ
: إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ فِي الْمُعْتَرَكِ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ وَاجِبٌ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَثِيَابُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا حَقٌّ لِوَلِيِّهِ، إِنْ شَاءَ نَزَعَهَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ كَفَّنَهُ فِيهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " زَمِّلُوهُمْ فِي كُلُومِهِمْ ".
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ " أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَلِيفًا لَهُ لَمَّا قُتِلَا يَوْمَ أُحُدٍ هَمَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيَدْفِنَهُمَا بِثِيَابِهِمَا فَمَنَعَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطْلِبِ مِنْ ذَلِكَ وَجَاءَتْ بِثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ فَكَفَّنَهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِمَا وَدَفَنَهُمَا مَعًا " فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِوَلِيِّهِمَا الْخِيَارَ فِي تَرْكِهَا أَوْ أَنْ يَنْزِعَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي غَيْرِهَا وَيَدْفِنَهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا كَانَ أَوْلَى إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ الْخِفَافَ وَالْفِرَاءَ وَمَا لَيْسَ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ غَالِبًا عَامًّا، وَيَتْرُكَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ غَالِبِ اللِّبَاسِ مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَخِيطٍ.
فَصْلٌ
: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْقَتِيلِ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ، وَسَوَاءٌ قُتِلَ بِالْحَدِيدِ أَوْ بِحَجَرِ المنجنيق، أو رفس حيوان، أو تردي مِنْ جَبَلٍ، أَوْ سقوط فِي بِئْرٍ أَوْ عُصِرَ فِي زَحْمٍ، عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، أَوْ مَاتَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ بِسَبَبٍ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ قَتْلُ شَهَادَةٍ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ جُرِحَ فِي حَرْبٍ ثُمَّ خَلَصَ حَيًّا فَمَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، أَوْ(3/35)
مَاتَ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ بِزَمَانٍ قَرِيبٍ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ كَالْقَتِيلِ فِي الْمُعْتَرَكِ، سَوَاءٌ أَكَلَ الطَّعَامَ أَمْ لَا، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ وَانْكِشَافِهَا بِزَمَانٍ بَعِيدٍ غُسِّلَ وصلى عليه.
وقال أبو حنيفة إذا مَاتَ قَبْلَ أَكْلِ الطَّعَامِ لَمْ يُغَسَّلْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ غُسِّلَ، وَالِاعْتِبَارُ بِقُرْبِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عبيدة ابن الْحَارِثِ أُصِيبَتْ رِجْلُهُ بِبَدْرٍ فَحُمِلَ وَعَاشَ حَتَّى مَاتَ بِالصَّفْرَاءِ، فَغَسَّلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَلَّى عَلَيْهِ، فَلَوْ أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ رَجُلًا وَقَتَلُوهُ بِأَيْدِيهِمْ صَبْرًا فَفِي غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْجَرِيحِ إِذَا خَلَصَ حَيًّا وَمَاتَ، لِأَنَّ خُرُوجَ رُوحِهِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا بِيَدِ مُشْرِكٍ حَرْبِيٍّ كالقتيل في المعترك، فأما من مات شهيداً بغرق أَوْ حَرْقٍ أَوْ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ قُتِلَ غِيلَةً أَوْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَكُلُّ هؤلاء لا يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ فَقَدْ قُتِلَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ شُهَدَاءَ فَغُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ.
فَصْلٌ
: إِذَا قُتِلَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَرْأَةُ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ، وَوَافَقَنَا أبو حنيفة فِي الْمَرْأَةِ، وَخَالَفَنَا فِي الصَّبِيِّ، فَقَالَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ تَطْهِيرٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّبِيُّ لَا ذَنْبَ لَهُ فَلَا يَلْحَقُهُ التَّطْهِيرُ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَسَّلَ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْبَالِغَ مُخَاطَبٌ فِي حَيَاتِهِ بِطَهَارَتَيِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ النَّجَسِ وَلَا يَلْزَمُ الصَّبِيُّ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَلَمَّا سَقَطَ لِلشَّهَادَةِ الْغُسْلُ فِيمَنْ تَلْزَمُهُ الطَّهَارَتَانِ فِي حَيَاتِهِ فَلَأَنْ تَسْقُطَ بِهَا عَمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ حُكْمَ الصَّلَاةِ وَالْغُسْلِ يَجْرِيَانِ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَلَى سَوَاءٍ كَالْمَوْتَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَرْكُ الْغُسْلِ تَطْهِيرٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا تُرِكَ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِكَرَامَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُ.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ قَبْلَ الْمَعْرَكَةِ جُنُبًا فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي إِيجَابِ غُسْلِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجِبُ غُسْلُهُ لِلْجَنَابَةِ لَا لِلْمَوْتِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فَمَنْ أَوْجَبَ غُسْلَهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ " أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِلَ يوم(3/36)
أحدٍ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ فَبَعَثَ إِلَى أَهْلِهِ فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِهِ فَقَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ وَاقَعَ أَهْلَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْحَرْبِ جُنُبًا " فَلَمَّا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تُغَسِّلُهُ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ غُسْلَهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَزِمَهُ غُسْلُ جَمِيعِ بَدَنِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْقَتْلِ، كَمَا إِذَا كَانَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ قُتِلَ شَهِيدًا.
وَمَنْ قَالَ لَا يَجِبُ غُسْلُهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْقَتْلِ كَالطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، وَلِأَنَّ الْحَيَّ الْجُنُبَ إِنَّمَا يُغَسَّلُ لِأَنْ يُصَلِّيَ وَالْمَيِّتَ إِنَّمَا يُغَسَّلُ لِأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَتِيلُ الْجُنُبُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِغُسْلِهِ، فَأَمَّا إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ مِنْ بَدَنِهِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَجِبْ إِزَالَتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الشَّهَادَةِ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَجَبَ إِزَالَتُهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَنَابَةِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ إِزَالَةُ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَجَبَ إِزَالَةُ كَثِيرِهَا، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ إِزَالَةُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ لَمْ يَجِبْ إِزَالَةُ الْأَكْبَرِ.
فَصْلٌ
: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَأَمَّا مَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَلَهُ حَالَانِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاغِيًا أَوْ عَادِلًا، فَإِنْ كَانَ بَاغِيًا غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ اسْتِهَانَةً به، لأنه باين جميع الْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغَسَّلَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْحَرْبِيِّ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَخَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُكَفِّرُوا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَإِنْ عَمِلُوا الْكَبَائِرَ وَجَاهِدُوا مَعَ كُلِّ أميرٍ، وَصَلُّوا عَلَى كُلِّ ميتٍ " وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مقتول فوجب أن يغسل ويصلى عليه ك " الزاني " الْمُحْصَنِ، وَالْقَاتِلِ الْعَامِدِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْتِغْفَارٌ وَرَحْمَةٌ وَالْبَاغِي إِلَيْهَا أَحْوَجُ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَهْلِ الحرب فغلط لوقوع الفرق بينهما.
فصل
: وإن كان المقتول عادلاً ففي غسل وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:(3/37)
أَحَدُهُمَا: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى عَلَى قَتْلَاهُ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَوَجَبَ أَنْ يُغَسَّلَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْمَقْتُولِ غِيلَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ لَمَّا قُتِلَ بِصِفِّينَ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ بِوَصِيَّةِ عَمَّارٍ، وَأَمْرِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ ظُلْمًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغَسَّلَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْقَتِيلِ فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ.
فَصْلٌ
: إِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ صَلَّى عَلَى جَمَاعَتِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَنَوَى بِالصَّلَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَطَ مُسْلِمٌ بِمِائَةِ مُشْرِكٍ، أَوْ مُشْرِكٌ بِمِائَةِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ صَلَّى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ أَوْ كَانُوا سَوَاءً لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكَثُرَ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَقَلَّ، وَإِنْ كَانَ لَا يصلى عليهم إذا كان المسلون أَقَلَّ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً عَلَى كُلِّ كَافِرٍ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكَثَرَ، فَعُلِمَ فَسَادُ مَا اعْتَبَرُوهُ وَاللَّهُ أعلم.(3/38)
باب حمل الجنازة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَمَلَ فِي جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ معاذٍ بين العمودين وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ حَمَلَ سَرِيرَ ابْنِ عَوْفٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ وَأَنَّ عثمان حمل بين عمودي سرير أمه فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى وُضِعَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَمَلَ بَيْنَ عمودي سرير المسور (قال) ووجه حملها من الجوانب أن يضع ياسرة السرير المقدمة على عاتقه الأيمن ثم ياسرته المؤخرة ثم يامنة السرير المقدمة على عاتقه الأيسر ثم يامنته المؤخرة فإن كثر الناس أحببت أن يكون أكثر حمله بين العمودين ومن أين حمل فحسن ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: السُّنَّةُ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا خَمْسَةٌ، أَرْبَعَةٌ فِي جَوَانِبِهَا وَوَاحِدٌ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةٌ فِي جَوَانِبِهَا، وَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ.
وَدَلِيلُنَا فِي ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ حَمَلَ سَرِيرَ ابْنِ عَوْفٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ ابنه فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى وُضِعَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَمَلَ بَيْنَ عمودي سرير المسور [ابن مَخْرَمَةَ] وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ وَأَحْصَرُ لِلْمَحْمُولِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَوَجْهُ حَمْلِهَا مِنَ الْجَوَانِبِ، أَنْ يوضع بأسرة السَّرِيرِ مِنْ مُقَدَّمِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَيَتَأَخَّرَ، ويوضع بأسرة(3/39)
السَّرِيرِ مِنْ مُؤَخَّرِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ وَيَضَعُ السَّرِيرَ مِنْ مُقَدَّمِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الأيسر، ثم يتأخر ويضع ثامنة السَّرِيرِ مِنْ مُؤَخَّرِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمَ، ثُمَّ يَحْمِلَ الْخَامِسُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ، فَإِنْ ثَقُلَتِ الْجِنَازَةُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَهَا سِتَّةٌ، وَثَمَانٍ، وَعَشْرٌ، وَأَنْ يُجْعَلَ تَحْتَهَا أَعْمِدَةٌ مُعَارَضَةٌ تَمْنَعُ الْجِنَازَةَ، كَذَا حُمِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ مُبَدَّنًا ثَقِيلًا، فَأَمَّا النِّسَاءُ فَيُخْتَارُ لَهُنَّ إِصْلَاحُ النَّعْشِ كَالْقُبَّةِ عَلَى السَّرِيرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَاتَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَتْ خَلِيقَةً ذَاتَ جِسْمٍ، فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا رَأَى النَّاسُ جُثَّتَهَا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: قَدْ رَأَيْتُ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ نُعُوشًا لِمَوْتَاهُمْ فَعَمِلَتْ نَعْشًا لِزَيْنَبَ فَلَمَّا عُمِلَ قَالَ عمر رضي الله عنه نعم خبا الظَّعِينَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ دَنَاءَةٌ وَلَا إِسْقَاطُ مُرُوءَةٍ، بَلْ ذَلِكَ مَكْرُمَةٌ وَثَوَابٌ وَبِرٌّ، وَفِعَالُ أَهْلِ الْخَيْرِ، قَدْ فَعَلَهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَيَتَوَلَّى حَمْلَ الْجِنَازَةِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ، سَوَاءٌ كَانَ الميت رجلاً أو امرأة، وكيف ما حملت الجنازة جاز.(3/40)
باب المشي بالجنازة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْمَشْيُ بِالْجِنَازَةِ الْإِسْرَاعُ وهو فوق سجية المشي ".
قال الماوردي: وهو كَمَا قَالَ.
الْمُخْتَارُ لِحَامِلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى سَجِيَّةِ مَشْيِهِ كَالْمُسْرِعِ، وَلَا يَسْعَى لِرِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا تُقَدِّمُونَهَا إليه، وإن كان غير شَيْءٌ وَضَعْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ ".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَأَلْنَا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْإِسْرَاعِ بِالْجِنَازَةِ فَقَالَ: " دُونَ الْخَبَبِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا تُعَجَّلُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذلك فبعد الأهل النَّارِ ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنْ كَانَ بِالْمَيِّتِ عِلَّةٌ يَخَافُ النَّجَاسَةَ يَعْنِي انْفِجَارَهُ تَرَفَّقَ به في المشي.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ، وَرَوَاهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنْ كَانَ رَاكِبًا فَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا كَانَ بِالْخِيَارِ وَرَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى فَضْلِ الْمَشْيِ خَلْفَهَا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:(3/41)
" الْجِنَازَةُ متبوعةٌ لَا تَتْبَعُ لَيْسَ مِنْهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا " وَبِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ، سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي خَلْفَهَا، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَامَهَا، فَقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَعْلَمَانِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ، وَلَكِنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ عَلَى النَّاسِ.
قَالُوا: وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْجِنَازَةَ تَقُولُ قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي ".
ودليلنا على فضل الشيء رِوَايَةُ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَلَفْظَةُ كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ وَالْمُقَامِ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَلُ الْجَائِزَ مَرَّةً وَلَا يَدُومُ إِلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ مَشَى خَلْفَ الْجِنَازَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّاسِ فِي جِنَازَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ امْشُوا أَمَامَ أُمِّكُمْ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَنْهَى بِفِعْلِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا لِفَضْلِ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى مَا نَهَى عَنْهُ، وَلِأَنَّ أَفْضَلَ مَنْ مَشَى مَعَ الْجِنَازَةِ حَامِلُهَا لأن له أجرين، والماشي مَعَ الْجِنَازَةِ أَجْرٌ، ثُمَّ كَانَ مَنْ حَمَلَ قدام الجنازة أفضل من حَمَلَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا، كَذَلِكَ مَنْ مَشَى أَمَامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ مَشَى خَلْفَهَا.
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضَعِيفُ الْإِسْنَادِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا " يُحْمَلُ عَلَى مَنْ تَبَاعَدَ عَنْهَا وَانْقَطَعَ مِنْهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَأَضْعَفُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مُطَرِّفِ بْنِ يَزِيدَ وَكَانَ كَذَّابًا يَضَعُ الْحَدِيثَ، عَلَى أن خبرنا أولى منه، لأنه يفعل فعل دوام عليه.(3/42)
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَوْلُهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَعْلَمَانِ فَضْلَ الْمَشْيِ خَلْفَهَا وَلَكِنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ عَلَى النَّاسِ، فَحَدِيثٌ غَيْرُ ثَابِتٍ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ بَحْرِ بْنِ جَابِرٍ وَكَانَ ضَعِيفًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَحْرًا قِيلَ لَهُ مَنْ حَدَّثَكَ فَقَالَ: طَائِرٌ مَرَّ بِنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن الْجِنَازَة تَقُولُ قَدِّمُونِي " فَمَعْنَاهُ: أَسْرِعُوا بِي.
فَصْلٌ
: يُكْرَهُ لِمَنْ تَبِعَ الْجِنَازَةَ، أَنْ يَرْكَبَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا، أَوْ يَكُونَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ ".(3/43)
وَرَوَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ، فَإِذَا عَادَ مِنَ الدَّفْنِ جَازَ أَنْ يَرْكَبَ، وَلَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ لَهُ، وَرَوَى سَمُرَةَ بْنُ جُنْدُبٍ لَمَّا مَاتَ ثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ تَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جِنَازَتَهُ مَاشِيًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ أُتِيَ بفرسٍ فَرَكِبَهُ، وَرَجَعَ عَلَيْهِ.(3/44)
بَابُ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْوَلِيُّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ مِنَ الْوَالِي لِأَنَّ هَذَا من الأمور الخاصة ".
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الْوَلِيَّ الْمُنَاسِبَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ وَالِي الْبَلَدِ، وَسُلْطَانِهِ وَقَالَ أبو حنيفة وَالِي الْبَلَدِ وَسُلْطَانُهُ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ سَائِرِ أَوْلِيَائِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَؤُمَّنَّ رجلٌ رَجُلًا فِي سُلْطَانِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ".
وَرُوِيَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - عليهما السلام - قَدَّمَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ حَتَّى صَلَّى عَلَى أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: " لَوْلَا السُّنَّةُ لَمَا قَدَّمْتُكَ " وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي بِإِقَامَتِهَا أَوْلَى مِنَ الْوَلِيِّ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَوَجَّهَ فِي الْجَدِيدِ عُمُومَ قوله تعالى: {وَأَولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) {الأنفال: 75) وَلِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالنَّسَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَحَقَّ مِنَ الْوَالِي كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فِي النِّكَاحِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، كَالْقَرِيبِ عَلَى الْبَعِيدِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّرَحُّمُ وَالِاسْتِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْأَبُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَشْفَقُ وَأَحْنَى وَأَرَقُّهُمْ عَلَيْهِ، قُلْنَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَوْلَى لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى.
فَأَمَّا الْخَبَرُ فمحمول على الصلوات المفروضات.
وأما تقديم الحسين عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسَعِيدٍ، وَقَوْلُهُ: لَوْلَا السُّنَّةُ لَمَا قَدَّمْتُكَ، يَعْنِي: أنَّ مِنَ السُّنَّةِ تَقْدِيمَ الْوُلَاةِ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ لَا الْوَاجِبُ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَعِيدًا اسْتَأْذَنَ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهُ لَمَا اسْتَأْذَنَ فِيهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا ثُبُوتُ الْحَقِّ فِيهَا، بِالْوِلَايَةِ دون النسب.(3/45)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَحَقُّ قَرَابَتِهِ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ثَمَّ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ ثُمَّ أَقْرَبُهُمْ بِهِ عَصَبَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَالِي، فَأَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ الْأَبُ، لأنه قد شارك الابن في البعضية، وَاخْتُصَّ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ، وَمَنْ عَلَا مِنْهُمْ لِمُشَارَكَتِهِمُ الْأَبَ فِي هذا المعنى، ثم الأب لاختصاصه بالبعضية وقربه بالتعصيب، ثُمَّ بَنُو الِابْنِ وَإِنْ سَفُلُوا لِمُشَارَكَتِهِمُ الِابْنَ في هذا لاختصاصهم المعنى، ثم الإخوة للأب والأم تتقدم على الإخوة للأب، بالرحم مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي التَّعْصِيبِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا، أَنَّهُمْ سَوَاءٌ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا امْتَنَعُوا مِنْ تَخْرِيجِهِ فِي الصَّلَاةِ، احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرْتُ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ مَدْخَلًا فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي غُسْلِهِ، فَقَوِيَ الْأَخُ بِهَا وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يَزْدَدِ الْأَخُ بِهَا قُوَّةً، فَهُنَاكَ ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ، وَالْأُمِّ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ ثُمَّ بَنُوهُمْ يَتَرَتَّبُونَ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ من لا ولي له.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن اجتمع له أولياء فِي دَرَجَةٍ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ أَسَنُّهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ حَالُهُ فَأَفْضَلُهُمْ وَأَوْفَقُهُمُ، فَإِنِ اسْتَوَوْا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَالْوَلِيُّ الْحُرُّ أَوْلَى مِنَ الْوَلِيِّ الْمَمْلُوكِ "، وهو كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلِيَاءَ قَدِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجِ، كَالْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُحْسِنُهَا، فَالَّذِي يُحْسِنُهَا مِنْهُمْ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ بَاقِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُمْ يُحْسِنُهَا، فَأَسَنُّهُمْ إِذَا كان محمود أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسِنُّ أَوْلَى مِنَ الْفَقِيهِ بِخِلَافِ إِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، الِاسْتِغْفَارُ لَهُ، وَالتَّرَحُّمُ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُسِنِّ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ (مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِكْرَامُ ذي الشيبة المسلمين) فإن استوت أحوالهم في السن، وتشاحنوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، كَانَ أَوْلَى، فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُنَاسِبُ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَاتِ.
فَصْلٌ
: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَوْلِيَائِهِ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهُ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ.(3/46)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ فَلَمْ تُنَفَّذْ فِيهِ وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَمِثَالُ هَذَا: وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ لِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(3/47)
باب وقت صلاة الجنازة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ، لَا يَخْتَصُّ بِهَا وَقْتٌ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا تُكْرَهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَكَرِهَ أبو حنيفة فِعْلَهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا أَسْبَابٌ، وَاسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ نُصَلِّيَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ تَقُومُ الظَّهِيرَةُ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تصفر للغروب حتى تغرب ".
قال الماوردي: وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عَيْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَا رُوِيَ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاتَ فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عِنْدَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ، فَجَازَ فِعْلُهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَالْمَفْرُوضَاتِ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ قَبْرِ الْمَوْتَى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ منه إجماعاً.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَأَرَادُوا الْمُبَادَرَةَ جَعَلُوا النِّسَاءَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ثَمَّ الصِّبْيَانَ يَلُونَهُمْ ثَمَّ الرِّجَالَ مِمَا يَلِي الْإِمَامَ (قال المزني) قلت أنا والخناثى في معناه يكون النساء بينهن وبين الصبيان كما جعلهم في الصلاة بين الرجال والنساء ".(3/48)
باب هل يسن القيام عند ورود الجنازة للصلاة وفي كيفية الصلاة والدفن
(قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا الربيع عن الشافعي قال: القيام في الجنائز منسوخ واحتج بحديث علي رضي الله عنه قال إبراهيم قال حدثنا يوسف بن مسلم المصيصي قال حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال أخبرني موسى بن عقبة عن قيس بن مسعود بن الحكم عن أبيه أنه شهد جنازة مع علي بن أبي طالب فرأى الناس قياماً ينتظرون أين توضع فأشار إليهم بدرةٍ أو سوطاً اجلسوا فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد جلس بعد ما كان يقوم قال ابن جريج وأخبرني نافع بن جبير عن مسعود عن علي مثله.
ثُمَّ إِذَا اجْتَمَعَتْ عِدَّةُ جَنَائِزَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخُصَّ كُلَّ جِنَازَةٍ بِصَلَاةٍ مُنْفَرِدَةٍ، وَتُقَدَّمَ الصَّلَاةُ عَلَى السَّابِقِ، فَإِذَا جَاءُوا عَلَى سَوَاءٍ وَلَمْ يتشاحنوا فَالصَّلَاةُ عَلَى أَفْضَلِهِمْ نَسَبًا وَدِينًا، إِلَّا أَنْ يُخَافَ مِنْ غَيْرِهِ الْفَسَادُ، فَيُبْدَأَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فإن تشاحنوا فِي التَّقْدِيمِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَبَدَأَ بِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مُنْفَرِدِينَ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ مُجْتَمِعِينَ، فَإِنْ كَانُوا جِنْسًا وَاحِدًا رجالاً غَيْرَ أَوْ نِسَاءً كَذَلِكَ، فَالْمُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ، ثُمَّ بَعْدَهُ مَنْ يَلِيهِ فِي الْفَضْلِ، حَتَّى يَكُونَ أَقَلُّهُمْ فَضْلًا أبعدهم من الإمام وأقربهم الْقِبْلَةِ، كَمَا يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَقْرَبُ الْأَحْيَاءِ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَتْ إِلَى الْمَوْضِعِ جِنَازَةُ غَيْرِهِ، فَأَمَّا إِنْ سَبَقَتْ جِنَازَةُ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَفْضَلَ وَوُضِعَتْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَخَّرَ لِجِنَازَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، كَالْحَيِّ إِذَا سَبَقَ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، لَمْ يَكُنْ لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانُوا أَجْنَاسًا بَدَأَ فَقَدَّمَ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الْخَنَاثَى ثُمَّ بَعْدَهُمُ النِّسَاءَ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنَ الْإِمَامِ، وَاخْتَارَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ضِدَّ هَذَا، فَقَالَ: يَكُونُ الرِّجَالُ أَقْرَبَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَالنِّسَاءُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ كَالدَّفْنِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى في الاختيار، لما رَوَاهُ نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى عَلَى تِسْعِ جَنَائِزَ، فَجَعَلَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِيهِ، وَالنِّسَاءَ صُفُوفًا وَرَاءَ الرِّجَالِ.(3/49)
وَرَوَى عَمَّارٌ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَةَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا امْرَأَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَابْنِهَا زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَا مَاتَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَوُضِعَا جَمِيعًا فِي الْمُصَلَّى، وَالْإِمَامُ يَوْمَئِذٍ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَهُوَ الْأَمِيرُ، وَفِي النَّاسِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو قَتَادَةَ، فَوَضَعَ الْغُلَامَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، قَالَ: فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ، فَنَظَرْتُ إِلَى هَؤُلَاءِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذِهِ السُّنَّةُ، وَلِأَنَّهُمْ إِذَا صَلَّوْا خَلْفَ الْإِمَامِ، كَانَ الرِّجَالُ أَقْرَبَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ، كَذَلِكَ إِذَا صَلَّى عَلَيْهِ الْإِمَامُ، فَأَمَّا الدَّفْنُ، فَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ أَقْرَبَ إِلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ، أَبْعَدَ الْجَمَاعَةِ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ " وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْفَضْلَ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْإِمَامِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ؛ كَانَ الْفَضْلُ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ خُولِفَ مَا اخْتَرْنَاهُ أَجْزَأَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا مَوْقِفُ الْإِمَامِ مِنَ الْمَيِّتِ؛ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نص، لكن قال أصحابنا البصريين: يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ عَجُزِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: يَقِفُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجُزِ الْمَرْأَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِرِوَايَةِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ بِالنِّفَاسِ، يُقَالُ لَهَا أُمُّ كَعْبٍ، فَوَقَفَ عِنْدَ وَسَطِهَا، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَلِأَنَّ عَجُزَهَا أَعْظَمُ عَوْرَتِهَا فَاخْتَرْنَا أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ لِيَسْتُرَهُ.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ في المسجد
كَرِهَ مَالِكٌ وأبو حنيفة أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ الْمَسْجِدَ، وَأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ مَاتَ، أُدْخِلَ الْمَسْجِدَ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الناس، فقال عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهِ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أبي سهيلٍ واجباً إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ ".
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى صُهَيْبٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.(3/50)
فصل: القول في صلاة الغائب
يَجُوزُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى مَيِّتٍ مات ببلد آخر.
وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ رَدٌّ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَعَى النَّجَاشِيَّ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ مَاتَ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
فَصْلٌ: الْقَوْلُ في الصلاة على المقتول في حد
المتقول فِي حَدٍّ وَقِصَاصٍ يَجِبُ غُسْلُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْمَقْتُولُ حَدًّا بِالرَّجْمِ، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَالْمَقْتُولُ قَوَدًا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَقْتُولٍ بِحَدٍّ فِي قَوَدٍ، أَوْ حَدٍّ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ أَوْلِيَاؤُهُ:
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا مَاتَتِ الْمَرْأَةُ فِي نِفَاسٍ مِنْ زِنًا، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَى وَلَدِهَا، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا ".(3/51)
بَابُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَمَنْ أَوْلَى بِأَنْ يدخله القبر
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأولى وروي عن ابن عباس أنه قرأ بفاتحة الكتاب وجهر بها وقال إنما فعلت لتعلموا أنها سنة وعن ابن عمر أنه كان يرفع يديه كلما كبر على الجنازة وعن ابن المسيب وعروة مثله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَوْتَى: فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا " فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فَهِيَ صَلَاةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ فِيهَا طَهَارَةُ الْأَعْضَاءِ، وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ، إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ وَابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَتْ صَلَاةً شَرْعِيَّةً وَإِنَّمَا دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ، يَجُوزُ فِعْلُهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، هَذَا قَوْلٌ خَرَقَا فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَخَالَفَا فِيهِ الْكَافَّةَ، مَعَ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا صَلَاةً فِي الشَّرْعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً ولاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) {التوبة: 84) وَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ تَجُزْ إِلَّا بِطَهَارَةٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طهورٍ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى إِحْرَامٍ وَسَلَامٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى الطَّهَارَةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلِأَنَّهَا لَمَّا اعْتُبِرَ فِيهَا شُرُوطُ الصَّلَاةِ، كَسِتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَجَبَ اعْتِبَارُ الطَّهَارَةِ فِيهَا.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا مَا يَتَضَمَّنُهَا فَشَيْئَانِ تَكْبِيرٌ وَأَذْكَارٌ فَأَمَّا عَدَدُ تَكْبِيرِهَا: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ، وَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ أَجْمَعِينَ، أَنَّهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، يُكَبِّرُ ثَلَاثًا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: يُكَبِّرُ خَمْسًا.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُكَبِّرُ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَلَكِنْ مَذْهَبُ مَنْ هُوَ خَبَرٌ مَرْوِيٌّ وَالْأَرْبَعُ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا؛ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:(3/52)
أَحَدُهَا: أَكْثَرُ رِوَايَةٍ فِي أَمْوَاتٍ شَتَّى، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ عَلَى النَّجَاشِيِّ أَرْبَعًا، وَرَوَى سَهْلُ بْنُ حنيف أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كبر على قبر سكينة أَرْبَعًا.
وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعًا، آخر فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَانَ نَاسِخًا لِمُتَقَدِّمِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى أَنَّ آخِرَ مَا كَبَّرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْجَنَائِزِ أَرْبَعًا، جِنَازَةَ سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ.(3/53)
وَالثَّالِثُ: عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَهُ وَانْعِقَادُ إِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا عَمَلُ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَبَّرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أربعاً، وكبر علي عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ صُهَيْبٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ الْحَسَنُ على علي ابن أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَرْبَعًا.(3/54)
فَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ، فَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ قَالَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ مَوْتِهِ فِي التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: يُكَبِّرُ أَرْبَعًا، وَقَالَ قَوْمٌ ثَلَاثًا، وَقَالَ قَوْمٌ: خَمْسًا، فَجَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُكَبِّرَ فِيهَا أَرْبَعًا، فَكَانَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مُزِيلًا لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجْعَلُ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، وَلَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ يُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَعْدَادِ التَّكْبِيرِ، فَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعٌ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، وَكَبَّرَ الْإِمَامُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَهَلْ يُسَلِّمُونَ أَوْ يَنْتَظِرُونَ سَلَامَهُ، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُسَلِّمُونَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ مَا لَيْسَ مِنْ صَلَاتِهِمْ.
وَالثَّانِي: يَنْتَظِرُونَ فَرَاغَهُ لِيُسَلِّمُوا مَعَهُ، حَتَّى يَكُونَ خروجهم بخروجه.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويكبر المصلي على الميت ويرفع يديه حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُصَلِّي أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، نَاوِيًا الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ تُجْزِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كُلَّمَا كَبَّرَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى لَا غَيْرَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّهَا تَكْبِيرَةٌ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ فِيهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ، كَالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَلِأَنَّ مَا سُنَّ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأَوْلَى سُنَّ فِي الثَّانِيَةِ، كَمَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدَ فِي الْقِيَامِ مِنْ سُنَنِهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَاتِ العيدين.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِيهَا، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما.(3/55)
وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة، لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، إِلْحَاقًا بِالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَإِنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا لِيَكُونَ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا: رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأَوْلَى، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّ فِيهَا قِرَاءَةً وَلِأَنَّهَا صلاة تتضمن القيام فوجب أن تتضمن القراءة كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِيهَا وَاجِبَةٌ فَيَبْتَدِئُ بِالتَّعَوُّذِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، فأما قوله: " وجهت وجهي " فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مُسْتَحَبٌّ كَالتَّعَوُّذِ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ كَالسُّورَةِ، ثُمَّ إِنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ نَهَارًا، أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ، وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهَا لَيْلًا، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجْهَرُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ.
وَالثَّانِي: يُسِرُّ بِهَا وَلَا يَجْهَرُ، كَمَا يُسِرُّ لِلدُّعَاءِ وَلَا يَجْهَرُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ".
ذكر المزني هاهنا، وإذا كبر الثانية ذكر الله تعالى، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ودعا للمؤمنين والمؤمنات، فذكر ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فَأَمَّا التَّحْمِيدُ: فَلَمْ يَحْكِ عَنِ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ الْمُزَنِيِّ ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْغَلَطِ فِيمَا نَقَلَهُ مِنَ التحميد، ولم يخيره، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ التَّحْمِيدِ مَأْخُوذٌ بِهَا، وَالْمُزَنِيُّ لَمْ يَنْقُلْهَا مِنْ كِتَابٍ، وَإِنَّمَا رَوَاهَا سَمَاعًا مِنْ لَفْظِهِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ التَّحْمِيدَ فِي الثَّانِيَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِحْبَابِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واجبة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِيهَا " وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ يُرْجَى إِجَابَتُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ دُعَاءٍ فَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَدٍ وَعَلَى آلِهِ " وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ اسْتِحْبَابٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِيهِ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلًا، وَبِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثانياً،(3/56)
وَبِالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثَالِثًا، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَقُلُوبِهِمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ، وَثَبِّتْهُمْ عَلَى مِلَّةِ نبيك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عُقَيْبَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِيَكُونَ أَسْرَعَ إِلَى الْإِجَابَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِذَا سَأَلَ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ فِي حَاجَتِهِ فَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا سئل في حاجتين لم يجب في أحدها وَتَرَكَ الْأُخْرَى " فَلَوْ قَدَّمَ بَعْضَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى بَعْضٍ جَازَ، وَلَوِ اقْتَصَرَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جاز.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُكَبِّرُ الثَّالِثَةَ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَيَدْعُو للميت فيقول " اللهم عبدك وابن عبدك خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحباؤه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه وكان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به اللهم نزل بك وأنت خير منزولٍ به وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه ولقه برحمتك رضاك وقه فتنة القبر وعذابه وافسح له في قبر وجاف الأرض عن جنبيه ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين " ثم يكبر الرابعة ثم يسلم عن يمينه وشماله ويخفي القراءة والدعاء ويجهر بالسلام ".
قال الماوردي: وإذا كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً قَالَ: اللَّهُمَّ أَمَتُكَ، وَابْنَةُ عَبْدِكَ، وَأَتَى بِجَمِيعِ الدُّعَاءِ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ طِفْلًا، دَعَا لِأَبَوَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَهُمَا فَرَطًا وَسَلَفًا، وَذُخْرًا وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا، وثقل به موازنيهما، وَأَفْرِغِ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا، وَلَا تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الدُّعَاءَ، لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنِ السَّلَفِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ جَازَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ، وَلَمْ يُحْكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الرَّابِعَةِ ذِكْرٌ غَيْرُ السَّلَامِ، وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ: إِذَا كَبَّرَ الرَّابِعَةَ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الرَّابِعَةِ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْكِيٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ حَسَنًا وَيسَلّم تَسْلِيمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ إِنْ كَانَ الْجَمْعُ يَسِيرًا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ وَتِلْقَاءَ وجهه.(3/57)
فصل شروط صحة صلاة الجنازة
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شُرُوطَ الصَّلَاةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَهِيَ طَهَارَةُ الْأَعْضَاءِ مِنْ حَدَثٍ وَنَجَسٍ، وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ بِلِبَاسٍ طَاهِرٍ، وَالْوُقُوفُ عَلَى مَكَانٍ طَاهِرٍ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا عَلَيْهَا، فَلَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ، وَكُلُّهُمْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لَمْ تُجْزِهِمْ، وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّوْا قُعُودًا أَجْمَعِينَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ عَلَى طَهَارَةٍ وَبَعْضُهُمْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، أَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ قِيَامًا وَبَعْضُهُمْ قُعُودًا، فَإِنْ كَانَ الْقَائِمُ وَالْمُتَطَهِّرُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً وَأَكْثَرَ أَجْزَأَ وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِعَادَةِ الصَّلَاةِ، لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِمُ الْمُتَطَهِّرُ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، لَمْ يَجْزِهِمْ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكِفَايَةَ لَا تَقَعُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِذَا وُجِدُوا.
فَصْلٌ
: إِذَا مَاتَ رَجُلٌ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا النِّسَاءُ صَلَّيْنَ عَلَيْهِ فُرَادَى بِغَيْرِ إِمَامٍ، لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ صَلَّيْنَ جَمَاعَةً جَازَ، فَلَوْ حَضَرَ الرِّجَالُ فِيمَا بَعْدُ، لَمْ تَلْزَمْهُمْ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَيِّتُ امْرَأَةً وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهَا إِلَّا النِّسَاءُ صَلَّيْنَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ النِّسَاءَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى النساء.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ افْتَتَحَ وَلَمْ يَنْتَظِرْ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَضَى مَكَانَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي يوسف.
وَقَالَ أبو حنيفة ومحمد: يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَلَا يُكَبِّرُ قَبْلَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ كَبَّرَ مَعَهُ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، قَضَى مَا فَاتَهُ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّجُلُ إِذَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا ثُمَّ يَدْخُلَ مَعَهُ، كَذَلِكَ إذا فاته تكبيرة لم يجز أن يبدئها ثُمَّ يُكَبِّرَ مَعَهُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا " وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ ما أدرك معه إلا بتقديم التَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مَعَ الْإِمَامِ بِتَقَدُّمِ التَّكْبِيرِ، فَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَمَا يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أبو حنيفة فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَلْزَمَ الْمَأْمُومُ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرُهُ مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أنه لو كبر بعد تكبيرة الإمام جاز، وإذا جاز جاز لمن أتى بعده.
فإذا تقرر أن يُكَبِّرَ وَلَا يَنْتَظِرَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ، فَإِنْ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ جَمِيعِهَا قَبْلَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ قَرَأَ(3/58)
بَعْضَهَا ثُمَّ كَبَّرَ الْإِمَامُ قَطَعَ الْقِرَاءَةَ وَكَبَّرَ الثَّانِيَةَ مَعَهُ، وَقَدْ يَحْمِلُ الْإِمَامُ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ فَدَخَلَ مَعَهُ، كَانَتْ لَهُ أُولَةٌ يَقْرَأُ فِيهَا الْفَاتِحَةَ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاةِ نَفْسِهِ وَهِيَ لِلْإِمَامِ ثَانِيَةٌ يُصَلِّي فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ سَوَاءً كَانَتِ الجنازة موضوعة أو مرفوعة.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ مِثْلُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَغَيْرِ أَوْلِيَائِهِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً قَبْلَ الدَّفْنِ عَلَى جِنَازَتِهِ، وَبَعْدَ الدَّفْنِ عَلَى قَبْرِهِ، وَهُوَ أَوْلَى بَلْ قَدْ كَرِهَ الشَّافِعِيُّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدفن لما يخاف من انفجاره، وَاسْتَحَبَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ إِذَا صَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ وَلِيُّهُ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً سَوَاءً دُفِنَ أَوْ لَمْ يُدْفَنْ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه منع من الصلاة على القبر وغلط الْأَمْرَ فِيهِ وَقَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " قَالُوا وَلَوْ جَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ، لَجَازَتْ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّةً فَقَطْ سَقَطَ الْغَرَضُ وَصَارَتِ الثَّانِيَةُ نَفْلًا، وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، ثُبُوتُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: رِوَايَةُ سَهْلِ بن حنيف أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَبْرِ مسكينةٍ.
وَثَانِيهَا: رِوَايَةُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ أَسْوَدَ كَانَ يُنَظِّفُ الْمَسْجِدَ فَدُفِنَ لَيْلًا.(3/59)
وَثَالِثُهَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بقبرٍ دُفِنَ حَدِيثًا فَصَلَّى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا فَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ مِنَ الثِّقَةِ مِمَّنْ شَهِدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ.
وَرَابِعُهَا: رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
وَخَامِسُهَا: رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى على قبر حدث بعد بعد ثلاث.
وسادسها: رواية الشعبي عن الن عباس أنه صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ شَهْرٍ فَكَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثابتة بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ، فَمَنْ أَنْكَرَهَا كَانَ مُبَاهِتًا، وَلِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْمَيِّتِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ مَا لَمْ يُبْلَ، كَالْوَلِيِّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ، فَالْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الطَّهَارَةِ لِلْمَكَانِ.
وَأَمَّا رِوَايَتُهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، فَغَيْرُ ثَابِتٍ بوجه، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِقَبْرِهِ، وَأَنْ يُؤَدِّيَهُمْ تَعْظِيمُهُ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا قَبْرُ غَيْرِهِ فَأَصَحُّ مَذَاهِبِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَصِرْ رَمِيمًا، وَقِيلَ بَلْ يُصَلِّي عَلَيْهِ مَنْ عَاصَرَهُ وَقِيلَ بَلْ يُصَلِّي عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ التَّنَفُّلَ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ، فَيَفْسُدُ بِصَلَاةِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ، ثُمَّ لم تكن ممنوعة.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُدْخِلُ الْمَيِّتَ قَبْرَهُ إِلَّا الرِّجَالُ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ وَيُدْخِلُهُ مِنْهُمْ أَفْقَهُهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ بِهِ رحماً ويدخل المرأة زوجها وأقربهم بها رحما ويستر عليها بثوب إذا أنزلت القبر (قال الشافعي) وأحب أن يكونوا وتراً ثلاثة أو خمسة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى إِدْخَالَ الْمَيِّتِ قَبْرَهُ إِلَّا الرِّجَالُ رَجُلًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوِ امْرَأَةً، لِأَنَّ الرِّجَالَ بِذَلِكَ أَعْرَفُ وَعَلَيْهِ أَقْدَرُ، وَتَنَزُّلَهُمْ فِيهِ أَهْوَنُ وَقَرَابَاتِ الْمَيِّتِ وَأَهْلَ رَحِمِهِ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي النَّسَبِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُدِّمَ أَفْقَهُهُمْ، يُرِيدُ أَعْلَمَهُمْ بِإِدْخَالِهِ الْقَبْرَ، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَعْلَمَهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَوَلَّى إِدْخَالَهَا الْقَبْرَ زَوْجُهَا، ثُمَّ أَبُوهَا وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.(3/60)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْأَبُ أَحَقُّ مِنَ الزَّوْجِ كَالْغُسْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَخُوهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَخَادِمٌ لَهَا مَمْلُوكٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَخِصْيَانٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونُوا وِتْرًا ثَلَاثًا، فَإِنْ زَادُوا فَخَمْسَةً، لِأَنَّ الَّذِي تَوَلَّى إِدْخَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةٌ، الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ فَقَالُوا: الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَقِيلَ: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، ثُمَّ جَاءَتْ بَنُو زُهْرَةَ فَسَأَلُوا إِدْخَالَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُدْخِلُوا أَحَدًا مِنْهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ أَدْخَلُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَصَارُوا أَرْبَعَةً، فَدَعَوْا مَوْلًى لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَالُ لَهُ شُقْرَانُ فَأَدْخَلُوهُ مَعَهُمْ حَتَّى صَارُوا خَمْسَةً، وَيُخْتَارُ أَنْ يُسْتَرَ الْمَيِّتُ بِثَوْبٍ عِنْدَ إدخاله القبر، لا سيما إذا كَانَتِ امْرَأَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويسل الميت سلا من قبل رأسه وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سل من قبل رأسه (قال) حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا الفضل بن أبي الصباح قال حدثنا يحيى بن المنهال عن خليفة عن حجاج عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل قبراً ليلاً فأسرج له وأخذه قبل من القبلة (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا ابن منيع عن هشيم عن خالد الحذاء عن ابن سيرين أن رجلاً من الأنصار مات فشهده أنس بن مالك فأدخله من قبل رجل القبر. ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَهُوَ: أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُسَلُّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا، وَاخْتَارَ أبو حنيفة أَنْ تُوضَعَ بَعِيدًا مِنَ الْقَبْرِ عِنْدَ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ تُحَطُّ عَرْضًا.
رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُدِّمَ إِلَى الْقَبْرِ مُعْتَرِضًا.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُسَلَّ مِنْ قِبَلِ رِجْلِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى فِي الِاخْتِيَارِ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا، وَلِأَنَّ الْحَائِطَ فِي قَبْرِهِ قِبْلَةٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَنْ شَاهَدَ الْمَوْضِعَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُ الْجِنَازَةِ إِلَيْهِ عَرْضًا " وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(3/61)
فصل: حكم نبش القبر
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ وَلَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُمَاطَ عنه التراب ويغسل ويكفن يصلى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَإِنْ تَغَيَّرَ وَرَاحَ لَمْ يُنْبَشْ، وَتُرِكَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُنْبَشُ وَإِنْ تَغَيَّرَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يُنْبَشْ وَصَلِّي عَلَى قَبْرِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ وَبَعْدَهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلَّى عَلَى قبرٍ مِنْ بَعْدِ شهرٍ ".
فَأَمَّا إِذَا غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُكَفَّنَ فَهَلْ يُنْبَشُ وَيُكَفَّنُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُنْبَشُ كَمَا يُنْبَشُ لِلْغُسْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُتْرَكُ وَلَا يُنْبَشُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَنِ الْمُدَارَاةُ، وَقَدْ حَصَلَتْ، فَإِنْ دُفِنَ بَعْدَ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُنْبَشُ وَيُوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ وَيُرِيحُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وُجِّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي قَبْرِهِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ أَوْصَى بِذَلِكَ ثُمَّ صَارَ سُنَّةً.
فصل: القول في استخراج الجنين من بطن أمه وهي ميتة
إِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ حَيٌّ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ، لَكِنْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، يُخْرَجُ جَوْفُهَا وَيُخْرَجُ وَلَدُهَا، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَوْكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ كَانَ الْوَلَدُ لِمُدَّةٍ يجوز أن يعيش لستة أشهر فساعداً شُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ، وَإِنْ كَانَ لِمُدَّةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ فِيهَا: تُرِكَ.
فَصْلٌ
: إِذَا ابْتَلَعَ الْمَيِّتُ جَوْهَرَةً فِي حَيَاتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ أُخْرِجَتْ مِنْ جَوْفِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تُخْرَجُ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ مَا قَدْ أَتْلَفَهُ فِي حَاجَاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُخْرَجُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِوَرَثَتِهِ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِهِ.
فَصْلٌ
: فَإِنْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى أَهْلِ دِينِهَا لِيَتَوَلَّوْا غُسْلَهَا، وَدَفْنَهَا، وَحُكِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تُدْفَنُ بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ(3/62)
وَالْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى المشركين، لكن قد روي عن عمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَصْرَانِيَّةً مَاتَتْ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ فَأَمَرَ بِدَفْنِهَا فِي مقابر المسلمين.(3/63)
بَابُ مَا يُقَالُ إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ قَالَ الَّذِينَ يُدْخِلُونَهُ " بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ سَلَّمَهُ إِلَيْكَ الْأَشِحَّاءُ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ وَنَزَلَ بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ إِنْ عَاقَبْتَهُ فَبِذَنْبِهِ وَإِنْ عَفَوْتَ فَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ اللَّهُمَّ اشْكُرْ حَسَنَاتِهِ وَاغْفِرْ سَيِّئَاتِهِ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِكَ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ وَاكْفِهِ كُلَّ هولٍ دُونَ الْجَنَّةِ اللَّهُمَّ اخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ وَعُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الدُّعَاءَ، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ وَمُوَافِقٌ لِلْحَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُ وَلَا نَقْصٌ عَنْهُ وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا جَازَ.(3/64)
باب التعزية وما يهيأ لأهل الميت
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ تَعْزِيَةَ أَهْلِ الْمَيِّتِ رَجَاءَ الْأَجْرِ بِتَعْزِيَتِهِمْ وَأَنْ يُخَصَّ بِهَا خِيَارُهُمْ وَضُعَفَاؤُهُمْ عَنِ احْتِمَالِ مصيبتهم ويعزى المسلم بموت أبيه النصراني فيقول " أعظم الله أجرك وأخلف عليك " ويقول في تعزية النصراني لقرابته " أخلف الله عليك ولا نقص عددك ".
وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ التَّعْزِيَةَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَالْتِمَاسًا لِلْأَجْرِ، فَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ ".
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعْنَا هَاتِفًا فِي الْبَيْتِ يُسْمَعُ صَوْتُهُ، وَلَا يرى شخصه، ألا إن في الله عزا عَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ ثِقُوا، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، فَقِيلَ هَذَا الْخَضِرُ جَاءَ يُعَزِّي زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَيُسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَرَابَتِهِ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمَنْ شَيَّعَ الْجِنَازَةَ وَأَرَادَ الِانْصِرَافَ قَبْلَ الدَّفْنِ عَزَّى وَانْصَرَفَ، وَمَنْ صَبَرَ حَتَّى يُدْفَنَ عَزَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ، إِلَّا أَنْ يَرَى مِنْ أَهْلِهِ جَزَعًا شَدِيدًا وَقِلَّةَ صَبْرٍ، فَتُقَدَّمُ تَعْزِيَتُهُمْ، لِيُسَلُّوا، وَيَخُصُّ التَّعْزِيَةَ أَقَلَّهُمْ صَبْرًا وَأَشَدَّهُمْ جَزَعًا، وَيَخُصُّ أَكْثَرَهُمْ فَضْلًا وَدِينًا، أَمَّا الْقَلِيلُ الصَّبْرِ فَلْيُسَلُّوا، وَأَمَّا الْكَثِيرُ الْفَضْلِ، فَإِنَّمَا يُرْجَى مِنْ إِجَابَةِ رَدِّهِ وَدُعَائِهِ.
فَصْلٌ: القول في ألفاظ التعزية
فَأَمَّا أَلْفَاظُ التَّعْزِيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى مُسْلِمًا عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاكَ، وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى كَافِرًا عَلَى كَافِرٍ قَالَ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَلَا نَقَصَ عَدَدَكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَيِّتَ بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، أَمَّا الْخَيْرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَمَّا الشَّرُّ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَدِّ عَنْ ذِي قَبْرٍ، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي الْحَيَّ.(3/65)
رُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسُبُّونَ أَبَا جَهْلٍ بِحَضْرَةِ ابْنِهِ عِكْرِمَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَسُبُّوا الْمَوْتَى لِتُؤْذُوا بِهِ الْأَحْيَاءَ ".
وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى مُسْلِمًا عَلَى كَافِرٍ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاكَ، وَأَخْلَفَ عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى كَافِرًا عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا نَقَصَ عَدَدَكَ وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِقَرَابَةِ الْمَيِّتِ وَجِيرَانِهِ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ طَعَامًا يَسَعُهُمْ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ وَفِعْلُ أَهْلِ الْخَيْرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَرِهَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ فِعْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ مَوْتِهِ قَالَ لِأَهْلِهِ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ ثُمَّ اسْتَدْعَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ ثَلَاثَةً إِلَى انْقِضَاءِ الْمُصِيبَةِ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، قَالَ الرَّاوِي: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ حُلِقَ رَأْسُهُ في الإسلام.(3/66)
باب البكاء على الميت
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأُرَخِّصُ فِي الْبُكَاءِ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نياحةٍ لِمَا فِي النَّوْحِ مِنْ تَجْدِيدِ الْحُزْنِ وَمَنْعِ الصبر وعظيم الإثم وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " وذكر ذلك ابن عباس لعائشة فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه " ولكن قال " إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه " (قال) وقالت عائشة حسبكم القرآن {لا تَزِر وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى} وقال ابن عباس عند ذلك الله أضحك وأبكى (قال الشافعي) ما رَوَتْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشبه بدلالة الكتاب والسنة قال الله جل وعز {لا تزرُ وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى} وقال {لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} وقال عليه السلام لرجل في ابنه " إنه لا تجنى عليك ولا تنجني عليه " وما زيد في عذاب الكافر فباستيجابه له لا بذنب غيره (قال المزني) بلغني أنهم كانوا يوصون بالبكاء عليه وبالنياحة أو بهما وهي معصيةٌ ومن أمر بها فعملت بعده كانت له ذنباً فيجوز أن يزاد بذنبه عذاباً - كما قال الشافعي - لا بذنب غيره ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ.
أَمَّا النَّوْحُ، وَالتَّعْدِيدُ، وَلَطْمُ الْخُدُودِ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ حَرَامٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَعَنَ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ، وَنَهَى عَنِ الصِّيَاحِ وَالْمَأْتَمِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَنْهَاكُمْ عَنْ صَوْتَيْنِ فَاجِرَيْنِ صَوْتٍ عند المصيبة، وصوت عند نغمةٍ " قيل: المراد به النياحة عند المصيبة، والمزمار عند النغمة.
وَرَوَتِ امْرَأَةُ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ أَوْ سَلَقَ " فالحلق هو(3/67)
حَلْقُ الشَّعْرِ، وَالسَّلْقُ هُوَ أَنْ تَنُوحَ بِلِسَانِهَا، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} (الأحزاب: 19) .
وَرَوَى قُتَيْبَةُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَنَ مِنَ النِّسَاءِ السَّالِقَةَ وَالْحَالِقَةَ، وَالْخَارِقَةَ وَالْمُمْتَهِشَةَ.
فَالسَّالِقَةُ: الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالصُّرَاخِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَالْحَالِقَةُ: الَّتِي تَحْلِقُ شَعْرَهَا، وَالْخَارِقَةُ: الَّتِي تَخْرِقُ ثَوْبَهَا، وَالْمُمْتَهِشَةُ: أن تَخْمُش وَجْهَهَا فَتَأْخُذُ لَحْمَهُ بِأَظْفَارِهَا مِنْهُ، وَقِيلَ نَهْشَةُ الْكِلَابِ، وَالْمُمَهِّشَةُ: الَّتِي تحلق وجهها بالموسى للتزين.
فصل البكاء على الميت
فَأَمَّا الْبُكَاءُ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نِيَاحَةٍ فَمُبَاحٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْفِيفِ الْحُزْنِ وَتَعْجِيلِ السُّلُوِّ، وَقَدْ رَوَى ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ لَوْلَا أَنَّهُ مَوْعِدٌ صادقٌ، ووعدٌ جامعٌ، وَأَنَّ الْمَاضِيَ فَرَطٌ لِلْبَاقِي، وَأَنَّ الْآخِرَ لاحقٌ بِالْأَوَّلِ، لَحَزِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ مَحْزُونُونَ الْحَقْ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ.
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ تَبْكِي عَلَى هَذَا السَّخْلِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ دَفَنْتُ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا كُلُّهُمْ أَشَفُّ مِنْهُ كُلُّهُمْ أَدْفِنُهُمْ فِي التُّرَابِ أَحْيَاءً فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَا ذَنْبِي إِنْ كَانَتِ الرَّحْمَةُ ذَهَبَتْ مِنْكَ " وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ " لَمَّا مَاتَتْ رُقَيَّةُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توجه عثمان بن مظعون بالحصبة " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الحق لبلغنا الخير أيجهر عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَ: وَبَكَى النِّسَاءُ فَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ، وَقَالَ دَعْهُنَّ يَا عُمَرُ وقَالَ إِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَهْمَا يَكُنْ مِنَ اللِّسَانِ وَالْيَدِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ وَبَكَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ الدُّمُوعَ عَنْ عَيْنِهَا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، وَقِيلَ إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَوَّجَ عُثْمَانَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ عَلَى شَفِيرِ قبر رقية.(3/68)
فَأَمَّا رِوَايَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمَيِّتَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " فَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه " حسبكم القرآن " {لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) {فاطر: 18) وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ يَفْتَقِرُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ حَمْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: مَا رَوَتْهُ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اجْتَازَ عَلَى قَبْرِ يَهُودِيٍّ، وَأَهْلُهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ إِنَّهُ لَيُبْكَى عَلَيْهِ، وَإِنَهُ لَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ فَقَالَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ حَالِهِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يُبْكَى بِهِ الْجَاهِلِيُّ مِنْ حُرُوبِهِ، وَقَتْلِهِ، وَغَارَاتِهِ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ لَهُ فَيَكُونُ عَذَابًا عَلَيْهِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ وصل بِالْبُكَاءِ، فَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَقَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ:
(فَإِنْ مِتُّ فَانْعي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا أم مَعْبَدِ)
فَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ بَعْدَهُ كَانَ زَائِدًا فِي عَذَابِهِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَصْلٌ
: يُكْرَهُ الْوَطْءُ عَلَى الْقَبْرِ، وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ، وَإِيقَادُ النَّارِ عِنْدَهُ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَيْهِ، خَلَعَ نَعْلَهُ مِنْ رِجْلِهِ، وَمَشَى مَا أَمْكَنَ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَمْشِي بَيْنَ الْقُبُورِ، فَرَأَى رَجُلًا يَمْشِي بَيْنَ الْمَقَابِرِ بِنَعْلَيْهِ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتَيْنِ اخْلَعْ سِبْتَيْكَ قَالَ: فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَإِذَا بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فخعلهما فَرَمَى بِهِمَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَكْرَهُ الْمَبِيتَ عِنْدَ الْقُبُورِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَحْشَةِ وَإِزْعَاجِ القلب.(3/69)
فَصْلٌ
: وَأَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَقَدْ كَرِهَهَا مَالِكٌ، وَهِيَ عِنْدَنَا مُسْتَحَبَّةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْهُجْرُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " زُورُوا قُبُورَ مَوْتَاكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا اعْتِبَارًا " والله تعالى أعلم.(3/70)
كتاب الزكاة
أَمَّا الزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ فَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ يُقَالُ: زَكَا الْمَالُ إِذَا نَمَا وَزَادَ، وَزَكَا الزرع إذا زاد ربعه ويقال: رجل زاك، إذا كان كثير الخير والمعروف، قال الله تعالى: {قَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) {الكهف: 74) أَيْ نَامِيَةً كَثِيرَةَ الْخَيْرِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(قَبَائِلُنَا سبعٌ وَأَنْتُمْ ثَلَاثَةٌ ... وَلَسَبْعٌ أَزْكَى مِنْ ثلاثٍ وَأَكْثَرُ)
وَقَالَ الرَّاجِزُ الْمِنْقَرِيُّ:
(فَلَا زَكَا عَدِيدُهُ وَلَا خَسَا ... كَمَا شِرَارُ الْبَقْلِ أَطْرَافُ السَّفَا)
غَيْرَ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الشَّرْعِ، اسْمٌ صَرِيحٌ لِأَخْذِ شَيْءٍ مَخْصُوصٍ، مِنْ مال مخصوص، على أوصافه مَخْصُوصَةٍ لِطَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: الزَّكَاةُ، اسْمٌ مَا عُرِفَ إِلَّا بِالشَّرْعِ وَلَيْسَ لَهُ فِي اللُّغَةِ أَصْلٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَيْسَ الْخِلَافُ فِيهِ مؤثراً في أحكام الزكاة.
فصل
: والأصل فِي وُجُوبِهَا الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاّةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ) {البينة: 5) وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) {النور: 56) وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُجْمَلَةٌ أم لا؟ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ مُجْمَلَةٌ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إِلَّا فِي مَالٍ مَخْصُوصٍ إِذَا بَلَغَ قَدْرًا مَخْصُوصًا، وَالْآيَةُ لَا تَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، فَعُلِمَ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَبَيَانُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، إِلَّا أَنَّهَا تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَقَالَ عدة مِنْ أَصْحَابِنَا لَيْسَتْ مُجْمَلَةً، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ ما يتناوله اسم الزكاة فلأنه يقتضي وُجُوبَهُ، فَإِذَا أَخْرَجَ مِنَ الْمَالِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّكَاةِ فَقَدِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّنَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ(3/71)
وَالمَحْرُومِ) {الذاريات: 19) وقَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) {التوبة: 103) فَقَوْلُهُ تَعَالَى خُذْ صَرِيحٌ فِي الْأَخْذِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْوُجُوبِ، وقوله تعالى: {وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) {المعارج: 24) صَرِيحٌ فِي الْوُجُوبِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْأَخْذِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: 34) وَالْكَنْزُ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا أَوْ ظَاهِرًا، وَمَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا أَوْ ظَاهِرًا هَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ دَاوُدَ الْأَصْبَهَانِيُّ، فَأَمَّا ابْنُ دَاوُدَ فَقَالَ: الْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَالُ الْمَدْفُونُ، سَوَاءٌ أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ أَمْ لَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ.
وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ: الْكَنْزُ الْمُحَرَّمُ بِالْآيَةِ، هُوَ مَا لَمْ يُنْفَقْ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، وَكِلَا التَّأْوِيلَيْنِ غَلَطٌ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْكِتَابَ يَشْهَدُ لَهُ، / وَالسُّنَّةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ يُعَضِّدُهُ، فَأَمَّا مَا يَشْهَدُ من كتاب الله سبحانه، فما ورد فيه مِنَ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) {التوبة: 34) إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) {التوبة: 35) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَعِيدُ وَارِدًا فِي حِرْزِ الْأَمْوَالِ وَدَفْنِهَا، كَمَا قَالَ ابْنُ دَاوُدَ لِإِبَاحَتِهِ ذَلِكَ، وَلَا فِي إِنْفَاقِهَا فِي الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، وكما قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، لِأَنَّ فَرْضَهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ، وَلَيْسَ فِي الْأَمْوَالِ حَقٌّ يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلَّا الزَّكَاةَ فَعُلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ.
وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ، فَمَا رَوَى عَطَاءٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ، أكنزٌ هي؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ مالٍ بَلَغَ الزَّكَاةَ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بكنزٍ، وَمَا لَمْ يُزَكِّهِ فَهُوَ كنزٌ ".
وَأَمَّا مَا يُعَضِّدُهُ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ لَمْ يُدْفَنْ، وَكُلُّ مَالٍ أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ دُفِنَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هريرة قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعٌ أَقْرَعُ، يَطْلُبُ صَاحِبَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ: فما روى عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خمسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وصومِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ".(3/72)
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ".
وَرَوَى أَبُو وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: مَا مِنْ رجلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ، إِلَّا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ وَهُوَ يَفِرُّ مِنْهُ، حَتَّى يُطَوِّقَهُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {سَيُطَوَقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ) {آل عمران: 180) وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ ".
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أُمِرْتُ بِثَلَاثٍ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُقِيمُوا الصلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ". وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: " ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ".
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّمَا صَاحِبِ إبلٍ أَوْ بقرٍ وغنمٍ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا طُرِحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بقاعٍ فرقرٍ، تنطحه بقرونها، وتكأه بأظلافها، كلما بعدت أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا ".
فَهَذَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ.
فَأَمَّا طَرِيقُ وُجُوبِهَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا قُبِرَ، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ كَفَرَ، وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مَنِ امْتَنَعَ، فَهَمَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقِتَالِهِمْ، وَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِيهِمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، قَالَ: فَوَكَزَ أَبُو بَكْرٍ فِي صَدْرِي وَقَالَ: وَهَلْ هَذَا إِلَّا حَقُّ حَقِّهَا، وَاللَّهِ لَا فَرَّقْتُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا أَوْ عَنَاقًا مِمَّا أَعْطَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقاتلتهم عليه، قال عمر: وشرح الله تعالى صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ مَعَهُ عَلَى وُجُوبِهَا بَعْدَ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ، وَأَطَاعُوهُ عَلَى قِتَالِ مَانِعِيهَا بَعْدَ إِنْكَارِهِمْ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.(3/73)
باب فرض الإبل السائمة
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ أَوِ ابْنِ فُلَانِ بن أنس شك الشافعي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ هَذِهِ الصَّدَقَةُ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على المسلمين التي أمر الله جل وعز بها فَمَنْ سُئِلَهَا عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاضٍ فإن لم تكن بنت مخاضِ فابن لبونٍ ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمسٍ وأربعين ففيها بنت ليونٍ أنثى فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقه طروقة الجمل فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائةٍ ففيها حقتان طروقتا الجمل ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا بَدَأَ الشَّافِعِيُّ بِزَكَاةِ الْإِبِلِ لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا غَالِبُ أَمْوَالِهِمْ، فَبَدَأَ بِهَا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَعْدَادَ نُصُبِهَا أسنان الواجب فيها فصعب ضَبْطُهُ، فَبَدَأَ بِذِكْرِهِ لِتَقَعَ الْعِنَايَةُ بِمَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ رَوَى الشَّافِعِيُّ مَا قَدَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ نُصُبِهَا، وَأَبَانَهُ مِنْ فَرْضِهَا، وَأَثْبَتَهُ فِي صَحِيفَةٍ، وَأَخَذَ بِهَا عُمَّالُهُ فِي حَيَاتِهِ، وَاقْتَدَى بها خلفاؤه رضي الله عنهم من بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَجُمْلَةُ مَنْ رَوَى فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُسْتَوْفَاةً أَرْبَعَةٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَمْرُو بْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِرِوَايَةِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ، دُونَ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ سَنَدًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ حَزْمٍ، وَلِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ.(3/74)
أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ الْمُثَنَّى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
وَالثَّانِي: رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طريقين ثابتين.
أحدهما: عن يونس بن يزيد عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَالثَّانِي: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَوَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ ضَعِيفًا، وَالْآخَرُ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ الْحَارِثُ ضَعِيفًا وَكَانَ الشَّعْبِيُّ إِذَا رَوَى عَنِ الْحَارِثِ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَكَانَ وَاللَّهِ كَذَّابًا، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَارِدٌ مِنْ طَرِيقَيْنِ غَيْرِ ثَابِتَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَبُو بَكْرِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
وَالثَّانِي: يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الْأَيْلِيُّ قَالَ: أَقْرَأَنِي سَالِمٌ كِتَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الَّذِي عِنْدَ آلِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَصَحَّ سَنَدًا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَابْنِ حَزْمٍ، كَانَ الْأَخْذُ بِهِمَا، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِمَا أولى.(3/75)
وَالثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ عَمِلَ عَلَيْهِ إِمَامَانِ، أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَرَّمَ اللَّهُ وجهيهما، ولم يعملا على رواية علي عليه السلام وَابْنِ حَزْمٍ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا اتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ: خَمْسُ شِيَاهٍ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ مُجْمَعٌ عَلَى العمل به.
فإن قيل: لما خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الزكاة بأن كتبها في صحيفة دون سائرها من الْفُرُوضِ، مِنَ الصَّلَاةِ وَمَوَاقِيتِهَا، وَالصِّيَامِ وَأَحْكَامِهِ، وَالْحَجِّ ومناسكه، ولا اقتصر على القول كَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْلِ فِي غَيْرِهِ.
قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ ونصبها، ومقاديرها، الواجب فِيهَا وَأَسْنَانَ الْمَأْخُوذِ مِنْهَا، لَمَّا طَالَ وَصَعُبَ احْتَاجَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، دُونَ سَائِرِهِمْ، فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، بِخِلَافِ الْفُرُوضِ الْمُتَرَادِفَةِ عَلَى الْكَافَّةِ، أَوْدَعَ ذَلِكَ كِتَابًا لِيَكُونَ أَحْفَظَ لَهُ، وَأَضْبَطَ، فَكَانَتْ نُسْخَةُ ذَلِكَ فِي قِرَابِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخَذَهَا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ فَكَانَ يَعْمَلُ عَلَيْهَا مُدَّةَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَمِلَ بِهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مدة حياته.
فَصْلٌ
أَوَّلُ مَا ابْتَدَأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي نُسْخَتِهِ أَنْ كَتَبَ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِثْبَاتِ التَّسْمِيَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ، وَدَلَّ عَلَى نَسْخِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، مِنْ قَوْلِهِمْ بِاسْمِكِ اللَّهُمَّ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بحمد الله تعالى فهو أبتر " يريد لمن يبدأ فيه بحمد اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ قَالَ هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ، فَبَدَأَ بِإِشَارَةِ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهَا مُؤَنَّثًا، وَقَوْلُهُ فَرِيضَةُ، يَعْنِي نُسْخَةُ فَرِيضَةِ الصَّدَقَةِ، فَحَذَفَ ذكر النسخة وأقام الفريضة مَقَامِهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أبو حنيفة ثُمَّ قَالَ: الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْمُسْلِمِينَ، يَعْنِي: الَّتِي قَدَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَمَا يُقَالُ فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ أَيْ قَدَّرَهَا، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا، فَكَانَ فِي ذَلِكَ بَيَانٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدرها، ثم أكد ذلك ما روي عن ضمام بن ثعلبة أَنَّهُ قَامَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ: اللَّهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فمن يسألها فَلْيُعْطِهَا، يُرِيدُ مَنْ سَأَلَكُمُ الزَّكَاةَ مِنَ الْوُلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَثْبَتُّهُ، وَكَانَ عَدْلًا، فَأَعْطُوهُ ثم قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ " يُرِيدُ مَنْ(3/76)
سُئِلَ فَوْقَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يُنْظَرَ، فَإِنْ كَانَ طَالِبُ الزِّيَادَةِ مُتَأَوِّلًا بِطَلَبِهَا، كالمالكي الذي يرى أخذ الكبيرة من الصِّغَارِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَا يُعْطِهِ " رَاجِعًا إِلَى الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ طالب الزيادة غير متأول فيها، والزيادة لا وجه له في الاجتهاد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَلَا يُعْطِهِ " فِيهِ لِأَصْحَابِنَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الزِّيَادَةِ، فَعَلَى هَذَا يُعْطِيهِ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ وُلِّيَ عَلَيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْوَاجِبِ وَالزِّيَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْوَاجِبَ وَلَا الزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فَاسِقٌ، وَالْفَاسِقُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَطِيعُوهُمْ مَا أَطَاعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا عَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى فَلَا طَاعَةَ لَهُمْ عَلَيْكُمْ " ثُمَّ ابتدأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بذكر الإبل فقال: " فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ "، فَكَانَ هَذَا تَفْسِيرًا مِنْ وَجْهٍ، وَإِجْمَالًا مِنْ وَجْهٍ، فَالتَّفْسِيرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَمَا دُونَهَا إِلَّا الْغَنَمُ، وَالْإِجْمَالُ أَنَّهُ لَا يُدْرَى قَدْرُ الْوَاجِبِ فِيهَا، ثُمَّ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ ذَلِكَ مُفَسِّرًا لِهَذَا الْإِجْمَالِ، " فِي كُلِّ خمسٍ شَاةٌ " فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِابْتِدَاءِ النِّصَابِ، وَقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ.
فَصْلٌ
لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ العلماء أن أول النصاب فِي الْإِبِلِ خَمْسٌ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا شَاةٌ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي كُلِّ خمسٍ شاةٌ " وَلِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ليس فيما دون خمس ذودٍ من الإبل صدقة " والذوذ مِنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى التِّسْعَةِ فَإِذَا صَارَتْ عَشْرًا فما فوق صرة من الإبل، فإذا بلغت مائة قيل هنيدة، وَيُقَالُ هُنَيْدِيَّةٌ، فَإِذَا نَقَصَتْ إِبِلُ الرَّجُلِ عَنْ خَمْسٍ فَلَا شَيْءَ فِيهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا فَفِيهَا شَاةٌ إِلَى تِسْعٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ عَشْرًا إلى أربع عشرة ففيها شاتان فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى تِسْعَ عَشْرَةَ، فَإِذَا بَلَغَتْ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، إِلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ غَايَةُ الْعَدَدِ الَّذِي يَجِبُ فِي فَرِيضَةِ الْغَنَمِ.
فَأَمَّا صفة هذه الشياه، وهي كُلُّ شَاةٍ يَجُوزُ أُضْحِيَّتُهَا إِمَّا جَذَعَةٌ مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةٌ مِنَ الْمَعْزِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا، كُلُّ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ أَجْزَأَتْ وَإِنْ لَمْ تُجْزِ فِي الضَّحَايَا، لِأَنَّ مُطْلَقَ هَذَا الِاسْمِ فِي الشرع يتناول ما قيد وصفه من الضَّحَايَا كَالدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ، ثُمَّ لِأَصْحَابِنَا فِي هَذِهِ الشَّاةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا تجزي ذكراً وأنثى كَالضَّحَايَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.(3/77)
والثاني: أنها لا تجزي إلا أنثى كالواجبة فِي الزَّكَاةِ.
وَالثَّالِثُ: وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْإِبِلُ إِنَاثًا لَمْ تُجْزِ الشَّاةُ إِلَّا أُنْثَى، وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا أَجْزَأَ ذَكَرًا وَأُنْثَى، اعْتِبَارًا بِوَصْفِ الْمَالِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْكِرَامِ كَرِيمٌ، وَمِنَ اللِّئَامِ لَئِيمٌ، فَأَمَّا الْوَقْصُ فَهُوَ مَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ كالأربعة إلى الخمس وَالْعَشَرَةِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ البويطي، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ محمد بن الحسن، أَنَّ الْفَرْضَ مَأْخُوذٌ مِنْ جَمِيعِهِ، فَتَكُونُ الشَّاةُ مَأْخُوذَةً مِنَ التِّسْعَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أبو حنيفة وأبو يوسف، أَنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ، وَالْوَقْصَ الزَّائِدَ عَلَى ذَلِكَ عَفْوٌ، وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سبحانه، وإذا صَارَتِ الْإِبِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، انْتَقَلَ الْفَرْضُ مِنَ الْغَنَمِ إِلَى الْإِبِلِ، وَوَجَبَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ وَزُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ خَمْسُ شياه، وفي ستة وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ " وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرُ ثَابِتَةٍ وَالْحِكَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ وَالشَّعْبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَلَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَكَانَتْ رِوَايَةُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي خمسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مخاضٍ " أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: ثِقَةُ الرُّوَاةِ، وَصِحَّةُ الْإِسْنَادِ.
وَالثَّانِي: اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ مُتَّصِلٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَشَكُّهُمْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ أَوْ مُتَّصِلٌ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لأن زهيراً يقول: أجبته عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَكَانَ الْحَدِيثُ الْمُتَّصِلُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إجماعاً أولى.
والثالث: أنه رواية أنس وابن عمر معول على جميعها، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِ بَعْضِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الزكاة من حديث عليّ عليه السلام، لأنه سَائِرَ النُّصُبِ لَا تَقْتَرِنُ حَتَّى يَتَخَلَّلَهَا وَقْصٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي الزَّكَاةِ، فَأَمَّا صِفَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ، فَهِيَ: الَّتِي لَهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِنْتَ مَخَاضٍ، لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ مَخَضَتْ(3/78)
بِغَيْرِهَا، أَيْ: حَمَلَتْ، وَالْمَاخِضُ: الْحَامِلُ، وَهَذَا السِّنُّ هو أولى للانتفاع بالإبل، لأن ما دون ذلك لا انتفاع بِهِ فِي الْغَالِبِ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ النَّاقَةَ إِذَا وَضَعَتْ وَلَدَهَا لِدُونِ وَقْتِهِ وَأَوَانِهِ قِيلَ خدجت الناقة وقيل: سمي خديج إذا وَضَعَتْهُ لِوَقْتِهِ وَزَمَانِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ نَاقِصُ الْخَلْقِ في نفسه، قيل: أخدجت الناقة، وسمي مخدوج، فَإِذَا وَضَعَتْهُ تَامًا قِيلَ لَهُ هُبَعٌ وَرُبَعٌ، ثُمَّ فَصِيلٌ، ثُمَّ مَلِيلٌ، ثُمَّ حُوَارٌ، ثُمَّ جاسر فإذا تم سَنَةً قِيلَ ابْنُ مَخَاضٍ لِلذَّكَرِ، وَبِنْتُ مَخَاضٍ للأنثى.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ بِنْتِ مَخَاضٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَهِيَ فَرْضُهَا، إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فإذا لَمْ يَكُنْ فِي إِبِلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ وَكَانَ في إبله ابن لبون ذكراً، أُخِذَ مِنْهُ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وهذا غلط.
وقال أبو حنيفة يجوز أن يأخذ مِنْهَا ابْنُ لَبُونٍ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ ابن لبون مع وجود بنت مخاض في ماله، قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ " فَشَرْطُ أَخْذِ ابْنِ لَبُونٍ مَعَ عَدَمِ بِنْتِ مَخَاضٍ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يُؤْخَذُ مَعَ وُجُودِهَا، فلو لم يكن في ماله بنت خاض، وَلَا ابْنُ لَبُونٍ فَابْتَاعَ ابْنَ لَبُونٍ، جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يَبْتَاعَ بِنْتَ مَخَاضٍ، فَإِنِ ابْتَاعَ ابْنَ لَبُونٍ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، وَلِأَنَّ كل من يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَالِكًا يَجُوزُ إخراجه إذا ابتاعه، قياساً على ابن مخاض، فلو لم يكن فِي مَالِهِ جَمِيعًا، وَأَرَادَ السَّاعِي مُطَالَبَتَهُ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَفِي كَيْفِيَّةِ مُطَالَبَتِهِ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: يخير فِي الْمُطَالَبَةِ بَيْنَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَابْنِ لَبُونٍ ذَكَرٍ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَدَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يطالبه ببنت مخاض لأنه الْأَصْلُ، فَإِنْ جَاءَ بِابْنِ لَبُونٍ أُخِذَ مِنْهُ، فلو أَعْطَى حِقًّا ذَكَرًا بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَفِي جَوَازِ قَبُولِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا يُقْبَلُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَعْلَى سِنًّا مِنَ ابن لبون وأنفع، والوجه الثاني وهو مذهب ضَعِيفٌ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الزَّكَاةِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً وَبَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ، فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَتَانِ كَامِلَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ أُمَّهَا قَدْ وَضَعَتْ وَدَرَّ لَبَنُهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا، وَلَا فِي بِنْتِ مَخَاضٍ، بَلْ الِاسْمُ وَاقِعٌ عَلَيْهِمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأُمُّ مَاخِضًا وَلَا لَبُونًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَأَعْطَى بَدَلَهَا حِقًّا لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ قِيَاسًا عَلَى ابْنِ لَبُونٍ، وَهَذَا خَطَأٌ.(3/79)
والفرق بينهما: أن الحق مقارب لبنت اللبون في المنفعة والحمل، ثم يختص ببعض الزكاة فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ بَدَلًا مِنْهَا لِنَقْصِهِ، وَابْنُ اللبون وإن كان فيه بعض الذُّكُورَةِ فَفِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ مَا لَيْسَ فِي بِنْتِ مَخَاضٍ، فَجَازَ أَخْذُهُ بَدَلًا مِنْهَا.
فَصْلٌ
: فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً، فَبَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ، فَفِيهَا حِقَّةٌ، إِلَى السِّتِّينَ، وَالْحِقَّةُ: الَّتِي لَهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَحَقَّتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ، وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدِ اسْتَحَقَّتْ أَنْ تُرْكَبَ، وَيُحْمَلَ عَلَيْهَا الْحُمُولَةُ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. والجذعة: التي مالها أَرْبَعُ سِنِينَ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَقَدْ خَرَجَ جَمِيعُ أَسْنَانِهَا.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ جَذَعَةً لِأَنَّ أَسْنَانَهَا لَمْ تَسْقُطْ فَيُبَدَّلُ عَلَيْهَا، والجذعة أعلى الأسنان الواجبة على الزَّكَاةِ، وَيُقَالُ لِمَا زَادَ عَلَى الْجَذَعِ ثَنِيٌّ، ثُمَّ رُبَاعٌ، ثُمَّ سَدِيسٌ، ثُمَّ بَازِلٌ، ثُمَّ مُخَلَّفُ عَامٍ، وَمُخَلَّفُ عَامَيْنِ، وَالْجَذَعُ هُوَ نِهَايَةُ الْإِبِلِ فِي الْحُسْنِ وَالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالْقُوَّةِ، وَمَا زاد عليه وجوع، كَالْكِبَرِ وَالْهَرَمِ، فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ، فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَبَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْفَحْلِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ ذَلِكَ فَرْضُهَا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى المائة وَعِشْرِينَ، تَغَيَّرَ هَذَا الِاعْتِبَارُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهِيَ نَصُّ الْخَبَرِ، وَإِجْمَاعُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ إِلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فإذا بلغت ستة وسبعين ففيها بنت لَبُونٍ إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ يَسْتَقِرُّ الفرض لما زاد على الحقاق وبنات اللبون.
فصل
: قال الشافعي فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ.
وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَهُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَا اعْتِبَارَ بِالزِّيَادَةِ حَتَّى تَكُونَ خَمْسًا، فَتَبْلُغُ مِائَةً وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَيَكُونَ فِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ، فَالْحِقَّتَانِ فِي مِائَةٍ، وَبِنْتُ(3/80)
مَخَاضٍ فِي خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْهُ: لَا اعْتِبَارَ بِالزِّيَادَةِ حَتَّى تَكُونَ عَشْرًا فَتَبْلُغَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ، فَيَكُونَ فِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: يَسْتَأْنِفُ الْفَرْضَ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَيَكُونُ فِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ حِقَّتَانِ وَشَاةٌ، وَفِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ حِقَّتَانِ وَثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَأَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، كَقَوْلِنَا ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ فَرْضَ الشِّيَاهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِرِوَايَةِ زُهَيْرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بن ضمرة عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ استؤنفت الفريضة، في كل خمس شاة، ولرواية أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَيْهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ إِلَى الْيَمَنِ: وَفِيهِ الْعَقْلُ، وَالْأَسْنَانُ، وَنُصُبُ الزَّكَوَاتِ، فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، قَالُوا وَلِأَنَّ الشَّاةَ فَرْضٌ يَتَكَرَّرُ قَبْلَ الْمِائَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ بَعْدَهَا كَالْحِقَاقِ وبنات اللبون، قالوا: وَلِأَنَّكُمْ إِذَا أَوْجَبْتُمْ بِالْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ لَمْ تَنْفَكُّوا مِنْ مخالفة الخبر ومخالفة أُصُولِ الزَّكَوَاتِ، لِأَنَّكُمْ إِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ تَجِبُ فِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، فَقَدْ خَالَفْتُمُ الْخَبَرَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ " وَأَنْتُمْ أَوْجَبْتُمْ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ وَثُلُثٍ، وَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ بَنَاتِ اللَّبُونِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَإِنَّ الْوَاحِدَةَ الزَّائِدَةَ وَقْصٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْفَرْضُ، خَالَفْتُمْ أُصُولَ الزَّكَوَاتِ لِأَنَّ كُلَّ مُغَيِّرٍ لِلْفَرْضِ فِي أُصُولِ الزَّكَوَاتِ يَتَعَلَّقُ الْفَرْضُ بِهِ، وَيَكُونُ الْفَرْضُ مَأْخُوذًا مِنْهُ وَمِنَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، كَالسَّادِسِ وَالثَّلَاثِينَ وَالسَّادِسِ وَالْأَرْبَعِينَ وَالْوَاحِدِ الزَّائِدِ عَلَى السِّتِّينَ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: فإذا بلغت أحد وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَالدَّلَالَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِلَى غَايَةٍ وَحَدٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْحَدِّ وَالْغَايَةِ بِخِلَافِهِ قَبْلَهُ.
وَالثَّانِي قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " فَاقْتَضَى ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ قَلِيلُ الزِّيَادَةِ وَكَثِيرُهَا مُغَيِّرًا لِلْفَرْضِ عَلَى مَا أَبَانَهُ مِنْ وُجُوبِ بِنْتِ لَبُونٍ فِي أَرْبَعِينَ وَحِقَّةٍ فِي خَمْسِينَ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ "، لأن حُكْمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ، وَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ، لِأَنَّهُ(3/81)
أَرَادَ بِذَلِكَ جُمْلَتَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنْهَا بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَبْطُلُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِخِلَافِهِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ، فَالْحِقَّتَانِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَبِنْتُ اللَّبُونِ فِي الْأَرْبَعِينَ الزَّائِدَةِ، وَفِي الْمِائَةِ وَسَبْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَهَذَا قَوْلٌ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ، فَكَانَ التَّأْوِيلُ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا زَادَتْ " شَرْطٌ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " حُكْمٌ وَالْحُكْمُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَسُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ " فَكَانَ هَذَا نَصًّا يُبْطِلُ كُلَّ تَأْوِيلٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، هُوَ أَنَّ الشَّاةَ أَحَدُ طَرَفَيِ الْإِيجَابِ فِي الْإِبِلِ قَبْلَ الْمِائَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ كَالْجَذَعَةِ، وَلِأَنَّ بِنْتَ مَخَاضٍ سِنٌّ لَا يَتَكَرَّرُ قَبْلَ المائة فوجب أن لا يعود بعد المائة كالجذعة، فثبت بهذين القياسين انتفاء وجوب الشاة وبنت المخاض بعد المائة، ثم نقول بابتداء لما ذكرنا، ولأنها نصب مختلفة الترتيب فِي اسْتِفْتَاحِ الْفَرِيضَةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ تَرْتِيبُهَا الْأَوَّلُ فِيمَا بَعْدُ كَالْغَنَمِ، وَلِأَنَّا وَجَدْنَا النُّصُبَ الَّتِي قَبْلَ الْمِائَةِ أَقْرَبَ إِلَى فَرْضِ الْغَنَمِ مِنَ النُّصُبِ الَّتِي بَعْدَ الْمِائَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَعُدِ الشَّاةُ إِلَى النُّصُبِ الَّتِي هِيَ أقرب إليها، فالتي لَا تَعُودَ إِلَى النُّصُبِ الَّتِي هِيَ أَبْعَدُ منها أولى، فأما الجواب على ما اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ.
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ، فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَا رَوَيْنَاهُ أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَأَوْثَقُ رِجَالًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ بِهِ عَمِلَ الْإِمَامَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ خبرنا متفق على اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ، فَالْمُتَّفَقُ عَلَى مَا اسْتُعْمِلَ مِنْهُ فيما دون المائة والعشرين، والمختلف منه فيما زاد على ذلك، وغيرهم مُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِ بَعْضِهِ، مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ، فَمَا اتُّفِقَ عَلَى تَرْكِهِ مِنْهُ: إِيجَابُ خَمْسِ شِيَاهٍ، وَمَا اخْتُلِفَ فِي اسْتِعْمَالِهِ مِنْهُ فما زاد على المائة وعشرين.(3/82)
وَالرَّابِعُ: أَنَّ خَبَرَنَا مُسْنَدٌ، وَخَبَرَهُمْ يُوقَفُ مَرَّةً، وَيُسْنَدُ أُخْرَى، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ " وَقَوْلُهُ " فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ " مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاسْتِئْنَافِ ابْتِدَاءَ الْفَرِيضَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ، وَقَوْلُهُ اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ، يُرِيدُ بِهِ اسْتِئْنَافَهَا عَلَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْتِيبِهَا، وَهُوَ الَّذِي أَبَانَهُ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ اسْتُؤْنِفَتِ الفريضة في كل خمس شاة فإسناد مِنْ غَيْرِ أَعْيَانِهَا كَأَنَّهُ مَلَكَ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثم استأنفت فِي حَوْلِهَا خَمْسًا أَوْ عَشْرًا مِنْ غَيْرِ بناتها، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ بِهَذَا الْحَوْلِ وَيُخْرِجَ مَنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاةً، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّا نَقُولُ إِنَّ الشَّاةَ قَدْ تُؤْخَذُ بَعْدَ المائة بين الستين، على أنا عَارَضْنَاهُمْ بِمِثْلِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّكُمْ لَا تَنْفَكُّونَ من مخالفة الخبر وأصول الزَّكَاةِ: فَالْجَوَابُ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْكُلِّ أَعْنِي مِنَ المائة والإحدى والعشرين، ولم يخالف الْخَبَرَ لَكِنْ خَصَّصْنَاهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَالْوَاحِدَةُ الزَّائِدَةُ عليها لا يتعلق الفرض عليها، تَمَسُّكًا بِالْخَبَرِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةً لِلْأُصُولِ، لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ مَنْ يُغَيِّرُ فَرْضَ غَيْرِهِ، وَلَا يُغَيِّرُ فَرْضَ نَفْسِهِ، فَمِنْهُمُ الْأَخَوَانِ يُغَيِّرَانِ فَرْضَ الْأُمِّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السدس، ولا يغيران حال نفسيهما وَالْعَبْدُ إِذَا وَطِئَ حُرَّةً بِنِكَاحٍ حَصَّنَهَا وَجَعَلَ فَرْضَهَا الرَّجْمَ، وَلَمْ يُغَيِّرْ فَرْضَ نَفْسِهِ فِي الْحَدِّ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مائةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حقة " وكان المعتبر في الزيادة اجتماع الثلاث حقاق وَبَنَاتُ اللَّبُونِ، وَذَلِكَ لَا يَجْتَمِعُ فِي أَقَلِّ مِنْ مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، وَهَذَا خَطَأٌ بِدَلَالَةِ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، ثُمَّ يَبْطُلُ ما ذكره مِنَ اجْتِمَاعِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ لَا غَيْرَ، وَبِمِائَةٍ وَسِتِّينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ لَا غَيْرَ، وَأَمَّا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى خَبَرٍ وَلَا أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ، فَبَطَلَ قَوْلُهُ وأما ابن جرير الطبري فله مذهب خامس أَنَّ الْمُصَدِّقَ بِالْخِيَارِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَعِشْرِينَ بَيْنَ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَبَيْنَ حِقَّتَيْنِ وَشَاةٍ، كَمَا قَالَ أبو حنيفة وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ لِأَنَّنَا قَدْ أَسْقَطْنَا مَا رَوَاهُ أبو حنيفة، وَأَسْقَطَ أبو حنيفة مَا رَوَيْنَاهُ، وَأَسْقَطَ ابْنُ جَرِيرٍ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا،(3/83)
لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَهُ بَنَاتُ اللَّبُونِ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ الشَّاةِ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَهُ الشَّاةُ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ بَنَاتِ اللَّبُونِ فَاعْتِبَارُهُمَا إِسْقَاطُهُمَا.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ الزائدة على مائة وعشرين بغير الْفَرْضَ مُوجِبَةٌ لِثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الزَّائِدَةِ إِذَا كَانَتْ بَعْضَ وَاحِدَةٍ، هَلْ تُغَيِّرُ الْفَرِيضَةَ أَمْ لَا فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَتَغَيَّرُ بِهَا الْفَرْضُ، فَيَجِبُ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَسُدُسٍ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أَنَسٍ " فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وفي كل خمسين حقة " فجعل تغير الْفَرْضِ مُعْتَبَرًا بِالزِّيَادَةِ وَالزِّيَادَةُ لَا تَخْتَصُّ بِكَثِيرٍ دُونَ قَلِيلٍ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَعَامَّةُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ أَصَحُّ أن الفرض لا يتغير إلا بتغير كَامِلٍ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ بَعْضَ تَغْيِيرٍ لَمْ يَتَغَيَّرِ الْفَرْضُ بِهَا، وَوَجَبَ فِيهَا حِقَّتَانِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ "، وَلِأَنَّهُ وَقْصٌ مُحَدَّدٌ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ بَعِيرٍ كَامِلٍ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ الْفَرْضُ بِهَا كَسَائِرِ الْأَوْقَاصِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَرْضَ يَتَغَيَّرُ بِمَا زَادَ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي اعْتِبَارِ كَثِيرِ الزِّيَادَةِ وَقَلِيلِهَا، وَاعْتِبَارِ بَعِيرٍ كَامِلٍ يَزِيدُ عَلَيْهَا، فَفِيهَا بَعْدَ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ، أَمَّا بِنْتَا لَبُونٍ فَفِي ثَمَانِينَ، وَأَمَّا الْحِقَّةُ فَفِي خَمْسِينَ، ثُمَّ ذَلِكَ فَرْضُهَا إِلَى مِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ إِلَى مِائَةٍ وَسِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَسَبْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ إِلَى مِائَةٍ وَتِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أو خمس بنات لبون.
مسألة:
قال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ منه ويجعل معها شاتين إن استيسرتا عليه أو عشرين درهماً فإذا بلغت عليه الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين " (قال الشافعي) حديث أنس بن مالك ثابت من جهة حماد بن سلمة وغيره عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروي عن ابن عمر أن هذه نسخة كتاب عمر في الصدقة التي كان يأخذ عليها فحكي هذا المعنى من أوله إلى قوله " فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خمسين حقة، (قال الشافعي) وبهذا كله نأخذ ".(3/84)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ.
وَأَصْلُهُ: أَنَّ مَنْ وَجَبَتِ الْفَرِيضَةُ فِي مَالِهِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، فَلَهُ الصُّعُودُ فِي السِّنِّ وَالْأَخْذِ أَوِ النُّزُولُ وَالرَّدِّ وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يَبْتَاعَ الْفَرْضَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ جَذَعَةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا إِنِ اسْتَيْسَرَ شَاتَيْنِ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ حِقَّةً وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ جذعة أخذها وأعطاه المصدق شاتين، أو أعطاه المصدق عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَلِأَنَّ أَمْرَ الزَّكَاةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَالرِّفْقِ بِرَبِّ الْمَالِ وَالْمَسَاكِينِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْفَرْضُ مَوْجُودًا فِي مَالِهِ جَعَلَ لَهُ الصُّعُودَ وَالنُّزُولَ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَرِفْقًا بِهِ، إِذْ فِي تَكْلِيفِهِ ابْتِيَاعَ الْفَرْضِ مَشَقَّةٌ لَاحِقَةٌ، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصُّعُودِ فِي السِّنِّ وَالْأَخْذِ وَالنُّزُولِ فِيهَا وَالرَّدِّ، فَالْوَاجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ شَاتَانِ أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي كُلِّ سِنٍّ شَاتَيْنِ، أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ خلفاً بِأَنَّ نِصَابَ الدَّرَاهِمِ لَمَّا كَانَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَنِصَابُ الْغَنَمِ أَرْبَعِينَ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ شَاةٍ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّاتَانِ فِي مُقَابَلَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَهَذَا مَذْهَبٌ يَدْفَعُهُ نَصُّ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، عَلَى مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَكَانَ مُطْرَحًا، وَلَيْسَ نُصُبُ الزَّكَوَاتِ بَعْضُهَا مُقَدَّرًا بِقِيمَةِ بَعْضٍ، لِأَنَّ نِصَابَ الْبَقَرِ ثَلَاثُونَ، وَالْغَنَمِ أَرْبَعُونَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْبَقَرَةَ فِي الشَّرْعِ مُقَدَّرَةٌ فِي الضَّحَايَا بِسَبْعٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَنِصَابَ الْإِبِلِ خَمْسٌ، وَهِيَ فِي الضَّحَايَا كَالْبَقَرِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ فَسَادُ اعْتِبَارِهِ وَعُدُولِهِ عَنِ النَّصِّ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ.
فَصْلٌ
: إِذَا تَمَهَّدَ وُجُوبُ شَاتَيْنِ أَوْ عشرين درهماً في كل شيء زَائِدٍ أَوْ نَاقِصٍ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفَرِيضَةُ وَكَانَتْ فِي مَالِهِ مَوْجُودَةً، فَلَيْسَ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى الصُّعُودِ فِي الْأَسَنِّ وَالْأَخْذِ، ولا النزول فيها، ولا الرد لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرَطَ فِي جَوَازِ الْعُدُولِ عَنِ الْفَرِيضَةِ عَدَمَهَا فِي الْمَالِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ومن بلغت صدقته جذعة ولم تكن عنده وعنده حقة أخذت منه " فلو وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ لبون أخذت منه، وأخذ معها شاتان أو عشرون دِرْهَمًا، وَالْخِيَارُ إِلَيْهِ فِي دَفْعِ مَا اسْتَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّاتَيْنِ أَوِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِتَخْيِيرِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّةٌ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ جَذَعَةٌ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمُصَدِّقُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلَهُ الْخِيَارُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْمَسَاكِينِ فِي دَفْعِ مَا كَانَ فَقْدُهُ أَقَلَّ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ، فَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مخاض وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ فَأَعْطَى ابْنَ لَبُونٍ لِيَقُومَ مَقَامَ بنت مخاض، وأعطى الجيران كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ:(3/85)
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ فِي حُكْمِ بِنْتِ الْمَخَاضِ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَصَارَ كَمُعْطِي بِنْتَ مَخَاضٍ، وَالْجُبْرَانِ بَدَلًا مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ أُقِيمَ مقامه بِنْتِ مَخَاضٍ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْفَرْضَ، وَالْفَرْضُ هَاهُنَا بِنْتُ لَبُونٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مكانها ذكر أو جبرها.
فَصْلٌ
: فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُصَدِّقُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي الصُّعُودِ فِي السِّنِّ وَالنُّزُولِ فِيهَا فَقَالَ الْمُصَدِّقُ أَصْعَدُ إِلَى السِّنِّ الْأَعْلَى وَأُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ أَنْزِلُ إِلَى السن الأدنى وأعطى شاتين وعشرين درهماً ففيه وجهان: ظاهر مذهب الشافعي فيهما: أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُصَدِّقِ فَيَأْخُذُ الْأَعْلَى وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُ أَقْوَى يَدًا فِي أَخْذِ الْأَفْضَلِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِيُ أَنَّ الْخِيَارَ لِرَبِّ الْمَالِ فَيُعْطِي الْأَدْنَى فِي السِّنِّ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُ أَقْوَى تَصَرُّفًا فِي مَالِهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافُ الْمُصَدِّقِ وَرَبِّ الْمَالِ فِي أَخْذِ الْحِقَاقِ، وَبَنَاتِ اللَّبُونِ مِنْ ثمانين مِنَ الْإِبِلِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَدِّقُ آخُذُ الْأَدْنَى وَآخُذُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ أُعْطِي الْأَعْلَى وَآخُذُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُصَدِّقُ وَاجِدًا لِمَا يُعْطِيهِ فَالْخِيَارُ لَهُ، ويأخذ الأدنى من شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَلِرَبِّ الْمَالِ الْخِيَارُ مع الشاتين والعشرين درهماً، فإن كَانَ الْمُصَدِّقُ وَاجِدًا لِمَا يُعْطِيهِ إِنْ أَخَذَ الْأَعْلَى كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ أَحَدُهُمَا الْخِيَارُ لِلْمُصَدِّقِ، وَالثَّانِي لِرَبِّ الْمَالِ.
فَصْلٌ
: وَيَجُوزُ لَهُمَا النُّزُولُ مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ إِلَى بِنْتِ مَخَاضٍ، كَمَا جَازَ لَهُمَا النُّزُولُ مِنَ الْحِقَّةِ إِلَى بِنْتِ لَبُونٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمَا النُّزُولُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إِلَى سِنٍّ هُوَ أَدْنَى مِنْهَا، وَلَكِنْ يَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إِلَى بِنْتِ لَبُونٍ، كَمَا يَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ بِنْتِ لَبُونٍ إِلَى حِقَّةٍ، وَيَجُوزُ الصُّعُودُ مِنْ حِقَّةٍ إِلَى جَذَعَةٍ، فَأَمَّا الصُّعُودُ مِنَ الْجَذَعَةِ إِلَى الثَّنِيَّةِ فَإِنْ دَفَعَهَا رَبُّ الْمَالِ مُتَطَوِّعًا بِفَضْلِهَا قُبِلَتْ مِنْهُ لَا يُخْتَلَفُ، كَمَا يُقْبَلُ فِي الْغَنَمِ فَوْقَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا، وَإِنْ دَفَعَهَا لِيَأْخُذَ فَضْلَ السِّنِّ الزَّائِدِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْفَضِيلَةِ.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَتْ إِبِلُهُ إحدى وستين بنت مخاض، فأعطى واحد مِنْهَا وَهِيَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تؤخذ فَرْضًا، وَلَا يُكَلَّفُ غَيْرَهَا جُبْرَانًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْحَافِ بِهِ.(3/86)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، لِأَنَّهَا فرض بعضٍ هذه الجملة إلى أن يعطي جبراناً من الْجَذَعَةِ فَتُؤْخَذُ حِينَئِذٍ مَعَ الْجُبْرَانِ.
فَصْلٌ
: إِذَا لم تكن الفريضة موجودة في ماله وأراد أَنْ يَصْعَدَ سِنِينَ وَيَأْخُذَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ سِنِينَ وَيُعْطِيَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، أَوْ أراد أن يصعد بثلاثة أسنان أو ينزل بثلاثة أَسْنَانٍ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السِّنُّ الَّذِي يَلِي الْفَرِيضَةَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي مَالِهِ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ جَذَعَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَلَا حِقَّةٌ وَكَانَتْ عِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ، فَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُؤْخَذُ مَعَهَا إِمَّا أَرْبَعُ شِيَاهٍ أَوْ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بنت مخاض فلم يكن عنده بنت مخاض ولا بنت لبون فكان عِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ أَرْبَعَ شِيَاهٍ، أَوْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، هَذَا مَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّرَ جُبْرَانَ السِّنِّ الْوَاحِدِ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ درهماً تنبيهاً على السنين والثلاثة توخياً للرفق وطلب المواساة.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ السِّنِّ الَّذِي يَلِي الْفَرِيضَةَ، فَفِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إلى السن الثاني وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: جَوَازُهُ اعْتِبَارًا بِالتَّنْبِيهِ عَلَى مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْفَرِيضَةِ كَمَا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْفَرِيضَةِ إِلَى غَيْرِهَا مَعَ وُجُودِهَا.
فَصْلٌ
: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخِيَارَ فِي دَفْعِ الشَّاتَيْنِ أَوِ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا لِمُعْطِيهَا دُونَ آخِذِهَا، فَإِنْ كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ دَفْعِ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ الْمُصَدِّقَ كَانَ بِالْخِيَارِ على معنى النظر للمساكين، ليس على دَفْعِ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ الْمُعْطِي رَبَّ الْمَالِ أَوِ الْمُصَدِّقَ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَ شَاةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خيره بين شاتين وعشرين دِرْهَمًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ خِيَارًا ثالثاً، وكما لَا يَجُوزُ لِلْمُكَفِّرِ أَنْ يُبَعِّضَ كَفَّارَةً، فَيُخْرِجُ بَعْضَهَا كِسْوَةً، وَبَعْضَهَا طَعَامًا، لَكِنْ لَوِ انْتَقَلَ إِلَى سِنِينَ جَازَ أَنْ يُعْطِيَ شَاتَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، لِأَنَّهُمَا فَرْضَانِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ، كَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ فَكَفَّرَ عَنْ أحديهما بالكسوة وعن الأخرى بالإطعام ".
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلَّا بِالْحَوْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.(3/87)
الْأَمْوَالُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: مَالٌ نَامٍ بِنَفْسِهِ، وَمَالٌ مُرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ، وَمَالٌ غَيْرُ نَامٍ بِنَفْسِهِ، فَأَمَّا النَّامِي بِنَفْسِهِ، فَمِثْلُ الْمَوَاشِي وَالْمَعَادِنِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَأَمَّا الْمُرْصَدُ لِلنَّمَاءِ وَالْمُعَدُّ لَهُ فَمِثْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَالَيْنِ: أَنَّ النَّمَاءَ فِيمَا هُوَ نَامٍ بِنَفْسِهِ تَابِعٌ لِلْمِلْكِ لَا لِلْعَمَلِ، وَالنَّمَاءَ فِيمَا كَانَ مرصد النماء تَابِعٌ لِلْعَمَلِ وَالتَّقَلُّبِ لَا لِلْمِلْكِ، أَلَا تَرَى: أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ مَاشِيَةً فَنَتَجَتْ أَوْ نَخْلًا فَأَثْمَرَتْ كَانَ النِّتَاجُ وَالثَّمَرَةُ لِرَبِّ الْمَاشِيَةِ، وَالنَّخْلِ دُونَ الْغَاصِبِ، وَلَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فنمت بالتقلب والتجارة كان النماء الزايد لِلْغَاصِبِ دُونَ رَبِّ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَأَمَّا الَّذِي ليس بنام في نفسه ولا مرصداً لِلنَّمَاءِ، فَهُوَ كُلُّ مَالٍ كَانَ مُعَدًّا لِلْقِنْيَةِ، كَالْعَبْدِ الْمُعَدِّ لِلْخِدْمَةِ، وَالدَّابَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلرُّكُوبِ، وَالثَّوْبِ الْمُعَدِّ لِلُّبْسِ، فَأَمَّا مَا لَا يُرْصَدُ لِلنَّمَاءِ، وَلَا هُوَ نَامٍ فِي نَفْسِهِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ إِجْمَاعًا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صدقة " فنص عليها تَنْبِيهًا عَلَى مَا كَانَ فِي مَعْنَى حُكْمِهَا، وَأَمَّا الْمَالُ النَّامِي بِنَفْسِهِ، فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ بِوُجُودِهِ، وَقِسْمٌ لَا يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ إِلَّا بِمُضِيِّ مُدَّةٍ بَعْدَ وُجُودِهِ، فَأَمَّا مَا يَتَكَامَلُ نَمَاؤُهُ بِوُجُودِهِ فَمِثْلُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ إِجْمَاعًا، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ زَكَاتِهِ بعد حصاد زرعة، ودياسه، وجداد ثمرته، وجفافها، والتزام المؤن فيها، وما لا يتكامل نماؤه إلا بمضي مدة بعد وجوده، فمثل المواشي والحكم فِيهَا وَفِيمَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ مِثْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ وَاحِدٌ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَكَافَّةِ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ عَبْدُ الله بن عباس: إذا استفاد مالاً بهبة، أو بميراث أَوْ بِالْعَطَاءِ لَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ يُعْتَبَرُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يُزَكِّي الْعَطَاءَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَا، لِأَنَّ نَمَاءَ ذَلِكَ مُتَكَامِلٌ بِوُجُودِهِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حَوْلٍ كَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عَلَيْهِ الْحَوْلُ ".
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ".(3/88)
وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ وَجَبَتْ لِنَمَائِهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ زَمَانُ النَّمَاءِ وَهُوَ الْحَوْلُ مُعْتَبَرًا فِيهَا، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نِعْمَةً وَتَطْهِيرًا وَالْجِزْيَةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ نِقْمَةً وَصَغَارًا، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجِزْيَةُ إِلَّا بِالْحَوْلِ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ إلا بالحول، وإذا ثَبَتَ أَنَّ النِّصَابَ وَالْحَوْلَ مُعْتَبَرٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِهِمَا أَوْ بِشَرْطٍ ثَالِثٍ يَنْضَمُّ إِلَيْهِمَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ بِهِمَا وَبِشَرْطٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ وُجُوبُهَا بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ، بِالنِّصَابِ، وَالْحَوْلِ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي:
قَالَهُ فِي " الْأُمِّ ": إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ بِشَرْطَيْنِ لَا غَيْرَ: النِّصَابُ وَالْحَوْلُ، فَأَمَّا إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فَمِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، وَسَنُفَرِّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِمَا يُوَضِّحُ عَنْهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شيءٌ ولا فيما بين الفريضتين شيءٌ وإن وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِنْتُ مخاضٍ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ فابن لبون ذكر فإن جاء بابن لبون وابنة مخاض لم يكن له أن يأخذ ابن لبون ذكر وابنة مخاضٍ موجودةٍ وإبانة أن فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خمسين حقة أن تكون الإبل مائة وإحدى وعشرين فيكون فيها ثلاث بنات لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وثلاثين فإذا كملتها ففيها حقة وابنتا لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وأربعين فإذا كملتها ففيها حقتان وابنة لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وخمسين فإذا كملتها ففيها ثلاث حقاق ولا شيء في زيادتها حتى تكمل مائة وستين فإذا كملتها ففيها أربع بنات لبون وليس في زيادتها شيء حتى تكمل مائة وسبعين فإذا كملتها ففيها حقة وثلاثة بنات لبون ولا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وثمانين فإذا بلغتها ففيها حقتان لبون وليس في زيادتها شيء حتى تبلغ مِائَةٍ وَتِسْعِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وابنة لبون ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نِصَابَ الْإِبِلِ خَمْسٌ وَلَا شَيْءَ، فِيمَا دُونَهَا، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ، فإذا بلغت كالإبل خمساً ففيها شاة، وهي فرض إلى تسع، والأربعة الزَّائِدَةُ عَلَى الْخَمْسِ تُسَمَّى وَقْصًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الشَّاةِ هَلْ تَجِبُ فِيهَا وَفِي الْخَمْسِ، أَوْ تَجِبُ فِي الْخَمْسِ وَحْدَهَا والوقص عَفْوٌ، وَكَذَا كُلُّ وَقْصٍ بَيْنَ فَرْضَيْنِ، فَفِيهِ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ: وَالْبُوَيْطِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ محمد بن الحسن: أَنَّ الشَّاةَ واجبة في الخمس، وهي النصاب، والوقص الذي عَلَيْهَا عَفْوٌ، وَكَذَا فَرَائِضُ الزَّكَوَاتِ فِي الْمَوَاشِي(3/89)
كلها مأخوذة من الأوقاص والنصب، وَالْأَوْقَاصُ الزَّائِدَةُ عَلَيْهَا عَفْوٌ لَيْسَ لَهَا فِي الْوُجُوبِ مَدْخَلٌ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فِي خَمْسٍ شَاةٌ " وَفِيهِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أَوْجَبَ الشَّاةَ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ غَيْرَ واجبة في الزائد عليها.
والثاني: أن الشاة في خمس والوقص الزَّائِدَ عَلَيْهَا دُونَ خَمْسٍ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي فَرَائِضِ الْغَنَمِ فِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ شَيْءٌ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَلِأَنَّهُ وَقْصٌ قَصَّرَ عَنِ النِّصَابِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِهِ الزَّكَاةُ كَالْأَرْبَعَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ لَكَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الزِّيَادَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الزِّيَادَةِ لَمْ يَكُنْ تَعَلُّقٌ بِالْوُجُوبِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أبي العباس، رِوَايَةَ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ " فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ وَفِيهِ دَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا وَجَبَتِ الغنم في الأربعة والعشرين كلها فوجب أن لا يختلف الإيجاب بِبَعْضِهَا.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَذَكَرَ النِّصَابَ وَالْوَقْصَ، وَأَضَافَ الْفَرِيضَةَ الْوَاجِبَةَ إِلَيْهِمَا، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ ماله الذي يجزي فِي حُكْمِ حَوْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الزَّكَاةُ فِي جَمِيعِهِ كَالْخَامِسِ وَالْعَاشِرِ، وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِنْ تعلق الحكم به، وبالزيادة معها أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَلَوْ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الدَّمُ، وَلَوْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ قُطِعَ، وَلَوْ سَرَقَ أَلْفَ دِينَارٍ قُطِعَ ذَلِكَ الْقَطْعَ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْقَطْعَ وَجَبَ فِي رُبُعِ دِينَارٍ دُونَ الزيادة لعدم تأثيرها، ولأن الدَّمَ وَجَبَ فِي ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ دُونَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، كَذَلِكَ الْوَقْصُ الزَّائِدُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ تَأْثِيرٌ.
فَصْلٌ
: الْقَوْلُ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هو شرط في الوجوب أو الضمان؟
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى التفريع عليهما وعلى اختلاف قوله فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ؟ لِأَنَّهُمَا أَصْلَانِ مُتَّفِقَانِ، وَفِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْهُمَا قَوْلَانِ، وَلَيْسَ لهذين القولين تَأْثِيرٌ مَعَ بَقَاءِ الْمَالِ وَسَلَامَتِهِ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُهُمَا مع تلف المال وعطيه، وَلَيْسَ يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ،(3/90)
فَإِنْ كَانَ تَلَفُ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَحُكْمُ التألف منه حكم ما لا يُوجَدْ، فَإِنْ تَلِفَ جَمِيعُ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ اعْتُبِرَ حُكْمُ بَاقِيهِ إِذَا حال حوله، فإذا بَلَغَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ نِصَابٍ فَلَا زَكَاةَ، فَهَذَا حُكْمُ التَّالِفِ قَبْلَ الْحَوْلِ.
وَأَمَّا التَّالِفُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، فَهَذَا الزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، سَوَاءٌ تَلِفَ بَعْضُ المال أو جميعه، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا وَحَرُمَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُهَا، وصار بعد الأمانة ضامناً ك " الوديعة " الَّتِي يَجِبُ رَدُّهَا فَيَضْمَنُهَا الْمُودَعُ بِحَبْسِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ إِخْرَاجَهَا عِنْدَهُ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ، فَيُخْرِجُهَا مَتَى شَاءَ وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ إِخْرَاجُهُ وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهُ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ، كَالْوَدَائِعِ وَسَائِرِ الْأَمَانَاتِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ إمكان الأداء، فذلك ضربان:
أحدهما: إن تلف جَمِيعُ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا لَا يَخْتَلِفُ، سَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَقَبْلَ الْإِمْكَانِ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَقَدْ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ بِالْحَوْلِ غَيْرَ أَنَّهَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لِلْمَسَاكِينِ لَا يَضْمَنُهَا إِلَّا بِالْإِمْكَانِ، وإن كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا بالتلف ك " الوديعة ".
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ بَعْضُ الْمَالِ وَيَبْقَى بعضه، فعند ذلك يتضح تبيين القولين في كل وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ، وَسَنَذْكُرُ لِفُرُوعِهِمَا وَبَيَانِ تَأْثِيرِهِمَا فَصْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: فِي الْغَنَمِ.
وَالثَّانِي: فِي الْإِبِلِ لنبني عليهما جميع الفروع، فأما الفضل فِي الْغَنَمِ فَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَمَانُونَ شاة يحول عليها الحول ثم تتلف منها أربعون قبل إمكان الأداء وتبقى الأربعون، فَهَذَا تَرْتِيبٌ عَلَى الْأَصْلَيْنِ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ وعفو الأوقاص، وإن قلنا: إن إمكان الأداء مند شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ كَامِلَةٌ لِوُجُودِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ يَمْلِكُ أَرْبَعِينَ، وَمَا تَلِفَ قَبْلَ الْإِمْكَانِ كَمَا لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، وَإِنَّ الْوُجُوبَ بِالْحَوْلِ انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْوَقْصِ هَلْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْوُجُوبِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ، وَإِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأَرْبَعِينَ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ فَعَلَيْهِ شَاةٌ أَيْضًا، لِأَنَّ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوَقْصَ دَاخِلٌ فِي الْوُجُوبِ وَإِنَّ الشَّاةَ مأخوذة(3/91)
مِنَ الْكُلِّ فَعَلَيْهِ نِصْفُ شَاةٍ، لِأَنَّ الشَّاةَ وجبت في ثمانين، فتلف نصفها أمانة لِتَلَفِ نِصْفِ الْمَالِ، وَوَجَبَ نِصْفُهَا لِبَقَاءِ نِصْفِ الْمَالِ، فَحَصَلَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: شَاةٌ.
وَالثَّانِي: نِصْفُ شَاةٍ.
وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ وَمَعَهُ ثَمَانُونَ فَتَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الْحَوْلِ سِتُّونَ، وَبَقِيَ عِشْرُونَ، فَيُخْرِجُ زَكَاتَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: لَا زَكَاةَ فِيهَا إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فِيهَا نِصْفَ شَاةٍ إِذَا قيل إن الإمكان من شرائط الضمان، وإن الشَّاةَ وَجَبَتْ فِي الْأَرْبَعِينَ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهَا رُبُعَ شَاةٍ إِذَا قيل إن الإمكان من شرائط الضمان، وإن الشَّاةَ وَجَبَتْ فِي الثَّمَانِينَ لِبَقَاءِ رُبُعِهَا وَتَلَفِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا، فَهَذَا فَصْلٌ فِي الْغَنَمِ يُوَضِّحُ جَمِيعَ فُرُوعِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ وَبَدَأْنَا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَوْضِعُهُ، لِأَنَّهُ أَبْيَنُ وَالتَّفْرِيعُ عَلَيْهَا أَسْهَلُ.
وَأَمَّا الْفَصْلُ فِي الْإِبِلِ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قَسْمٌ يَكُونُ فَرِيضَةَ الْغَنَمِ، وَقِسْمٌ يَكُونُ فَرِيضَةَ الْإِبِلِ، وَجَوَازُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَالٌّ عَلَى وُجُوبِ الْآخَرِ، لَكِنْ فِي ذِكْرِهِمَا زِيَادَةُ بيان.
فأما فريضة الْغَنَمُ، فَكَرَجُلٍ كَانَ مَعَهُ تِسْعٌ مِنَ الْإِبِلِ حَالَ حَوْلُهَا، ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا أَرْبَعٌ قَبْلَ إمكان الأداء وبقي خمسة، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ حَدَثَ وَهُوَ يَمْلِكُ خَمْسًا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْوُجُوبَ بِالْحَوْلِ وَالْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ من التسع فعليه خَمْسَةِ أَتْسَاعِ الْمَالِ، فَحَصَلَ فِي قَدْرِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: شَاةٌ كَامِلَةٌ.
وَالثَّانِي: خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شاة، فلو حال حول عَلَى تِسْعٍ مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الْإِمْكَانِ خَمْسٌ وَبَقِيَ أَرْبَعٌ، فَفِي زَكَاتِهَا ثلاثة أوجه:
أحدها: لا زكاة فيها، إذا قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ.
وَالثَّانِي: فِيهَا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ شَاةٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الإمكان من شرائط الضمان، لأن الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْخَمْسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَتْسَاعِ شَاةٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الشَّاةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التِّسْعِ.(3/92)
وَأَمَّا الْإِبِلُ الَّتِي فَرِيضَتُهَا مِنْهَا: فَكَرَجُلٍ مَعَهُ خمسة وَثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ حَالَ حَوْلُهَا، ثُمَّ تَلِفَ منها قبل الإمكان عشرة، وَبَقِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَعَلَيْهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ: فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ بِنْتَ مَخَاضٍ وَجَبَتْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا عَفْوٌ، فَعَلَيْهِ أَيْضًا بِنْتُ مَخَاضٍ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْخَمْسِ وَالثَّلَاثِينَ فَعَلَيْهِ خَمْسَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ، لِبَقَاءِ خَمْسَةِ أسباع المال، وفي قدر زكاتها وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِنْتُ مَخَاضٍ.
وَالثَّانِي: خَمْسَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ فَلَوْ حَالَ حَوْلُهُ عَلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا قَبْلَ الإمكان خمسة عشر وبقي خمس وعشرون، فَفِي قَدْرِ زَكَاتِهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَرْبَعُ شِيَاهٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الْإِمْكَانَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ.
وَالثَّانِي: أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ بِنْتِ مَخَاضٍ، إِذَا قيل إن الإمكان من شرائط الضمان وإن بِنْتَ مَخَاضٍ وَجَبَتْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ بِنْتِ مَخَاضٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّهَا وجبت في خمس وثلاثين لبقاء أربعة أتساع الْمَالِ وَعَلَى هَذَا، وَقِيَاسُهُ يَكُونُ جَوَابُ مَا يَتَفَرَّعُ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَبِاللَّهِ تعالى التوفيق.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعُ حِقَاقٍ مِنْهَا خَيْرًا مِنْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ أَخَذَهَا الْمُصَدِّقُ وإن كانت خمس بنات لبون خيراً منها أَخَذَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِبِلَ إِذَا بَلَغَتْ مائتين إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمَالِ إِلَّا أَحَدُ الْفَرْضَيْنِ أَخَذَهُ الْمُصَدِّقُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ، حِقَاقًا كَانَتْ أَوْ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَأَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ الْفَرْضَانِ مَعًا فِي الْمَالِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْفَرْضَ فِي أَحَدِهِمَا إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَخَرَّجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ مِنْ كَلَامٍ ذَكَرَهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ الْمُصَدِّقَ يَأْخُذُ الْحِقَاقَ لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ تَخْرِيجُ هَذَا الْقَوْلِ صَحِيحًا، بَلْ مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي جَوَازِ أَخْذِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرْضَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْآخَرِ، لِتَعْلِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْفَرْضَ بِهِمَا، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَخْذِ أَفْضَلِهِمَا، فَإِنْ كَانَتِ الْحِقَاقُ أَفْضَلَ أَخَذَهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَنَاتُ لَبُونٍ أَفْضَلَ أَخَذَهَا وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يمنعه.(3/93)
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ الْخِيَارُ إِلَى رَبِّ الْمَالِ فِي دَفْعِ الْحِقَاقِ إِنْ شَاءَ أَوْ بَنَاتِ اللَّبُونِ إِنْ شَاءَ، كَمَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِيمَا بَيْنَ السِّنِينَ بَيْنَ شَاتَيْنِ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْمَالَ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى صِنْفَيْنِ جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُ فَرْضِهِ مِنَ الرَّدِيءِ، وَلَزِمَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ فِي مَالِهِ صِحَاحٌ وَمِرَاضٌ أَوْ صِغَارٌ وَكِبَارٌ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي الْخِيَارِ عَلَى الدَّرَاهِمِ، أَوِ الشَّاتَيْنِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوِ الشَّاتَيْنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ دُونَ ماله، ومن لزمه في الذمة أخذ حقتين كَانَ مُخَيَّرًا فِي دَفْعِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَالْفَرْضُ فِي الْحِقَاقِ أَوْ بَنَاتِ اللَّبُونِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ لَا بِالذِّمَّةِ، فَكَانَ الْخِيَارُ فِي الْأَخْذِ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِرَبِّ الْمَالِ الْعُدُولُ إِلَى الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوِ الشَّاتَيْنِ إِلَى ابْتِيَاعِ الْفَرِيضَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الشَّاتَيْنِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِرَبِّ الْمَالِ الْعُدُولُ عَنْ هَذَيْنِ الْفَرْضَيْنِ إِلَى غَيْرِهِمَا لم يكن مخيراً فيهما.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن أخذ من رَبُّ الْمَالِ الصِّنْفَ الْأَدْنَى كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أن يخرج الفضل فيعطيه أهل السهمان فإن وجد أحد الصنفين ولم يجد الآخر الذي وجد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَى الْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ أَفْضَلَ الْفَرْضَيْنِ من المال إذا اجتمعا فيه، فإن أخذا دونهما أو أقلهما دفعه لِلْمَسَاكِينِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ عَنِ اجتهاد.
والثاني: عن غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَإِنْ أَخْذَهُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَقَدَ أجزأ رَبَّ الْمَالِ، لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَهَلْ عَلَيْهِ إخراج الفضل أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: إِخْرَاجُ الْفَضْلِ الَّذِي بَيْنَ السِّنِينَ، لِأَنَّهُ أَعْطَى دُونَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَمَنْ أَعْطَاهُ شَاةً وَعَلَيْهِ شَاتَانِ:
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ وَقَدْ أَجْزَأَهُ مَا أَدَّاهُ، لِأَنَّهُ لَوْ وجب عليه إخراج الفضل بعد أداء الغرض لاقتضى أن لا يقع المؤدي موقع الآخر، ولو لم يقع موقع الآخر لَوَجَبَ رَدُّهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ دَلَّ عَلَى إِجْزَائِهِ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ انْفَصَلَ عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّهُ لأنه بعض ما وجب عليه، والمصدق إن أَخَذَ بَعْضَ الْوَاجِبِ كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَاقِي وَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ مَا أَخَذَ وَإِنْ كَانَ المصدق في الأصل قد أخذ ذلك من غير اجتهاد، فهل يجزي ذَلِكَ رَبَّ الْمَالِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:(3/94)
أحدهما: لا يجزئه، لِأَنَّهُ أَعْطَى غَيْرَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَمَنْ دَفَعَ ابْنَ لَبُونٍ مَعَ وُجُودِ بِنْتِ مَخَاضٍ، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ دَفْعُ الْأَفْضَلِ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا أَخَذَ قِيمَتَهُ مِنْ مَالِ من استهلكه.
والوجه الثاني: يجزئه ذَلِكَ، لِأَنَّ أَخْذَ الْأَفْضَلِ وَجَبَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطِلَ حُكْمًا ثَبَتَ بالنص، فعلى هذا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَضْلِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ الْفَضْلِ وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا أَرَادَ إِخْرَاجَ الْفَضْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ، لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أن يَقْدِرَ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِمَّا لِقِلَّةِ الْفَضْلِ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الْحَيَوَانِ، أَجْزَأَهُ إِخْرَاجُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْحَيَوَانِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: لا يجزئه غَيْرُ الْحَيَوَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا يُصْرَفُ الْفَضْلُ فِي شَاةٍ أَوْ بَعِيرٍ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كاملاً، ولا يَصْرِفُهُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ عَلَى حَسَبِ الْفَضْلِ، وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الْفَضْلِ فِي بَقَرَةٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَرَائِضِ الْإِبِلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ إخراج الفضل دراهم أو دنانير إن قَدَرَ عَلَى الْحَيَوَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَلَافِي نَقْصٍ وليس بقيم كَالشَّاتَيْنِ وَالْعِشْرِينَ دِرْهَمًا الْمَأْخُوذَةِ بَيْنَ السِّنِينَ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الدَّرَاهِمِ أو الدنانير إِلَى الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ، وَلَكِنْ لَوْ عَدَلَ إِلَى الْحَيَوَانِ أَجْزَأَهُ لَا يُخْتَلَفُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُفَرِّقُ الْفَرِيضَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا نَقْلُ الْمُزَنِيِّ وَنَقْلُ الرَّبِيعِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " وَلَا يُفَارِقُ الْفَرِيضَةَ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَقْلَ الرَّبِيعِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَنَقْلَ الْمُزَنِيِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخْطَأَ فِيهِ أَوْ حَذَفَ الْأَلِفَ منه اسْتِخْفَافًا كَمَا حُذِفَتْ مِنْ صَالِحٍ وَعُثْمَانَ، فَيَكُونَ مَعْنَى نَقْلِ الرَّبِيعِ " وَلَا يُفَارِقُ الْفَرِيضَةَ " أَيْ: إذا وجد السن الواجب فِي الْمَالِ لَا يُفَارِقُهَا وَيَعْدِلُ إِلَى سِنٍّ أَعْلَى وَيُعْطِي أَوْ أَدْنَى وَيَأْخُذُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّقْلَيْنِ صحيحان، ومعناهما مختلف، فمعنى قول الرَّبِيعِ مَا ذَكَرْنَا، وَمَعْنَى نَقْلِ الْمُزَنِيِّ " وَلَا يُفَرِّقُ الْفَرِيضَةَ " إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ فَرْضَهَا فَيَأْخُذَ بَعْضَهُ حِقَاقًا وَبَعْضَهُ بَنَاتِ لَبُونٍ، بَلْ إِمَّا أن(3/95)
يَأْخُذَ أَرْبَعَ حِقَاقٍ، أَوْ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَتَكُونُ رِوَايَةُ الرَّبِيعِ مِنَ الْمُفَارَقَةِ، وَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ مِنَ التَّفْرِيقِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ فِيهَا خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَثَلَاثُ حِقَاقٍ، أُخِذَتْ مِنْهُ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِنْ أَعْطَى ثَلَاثَ حِقَاقٍ وَبِنْتَ لَبُونٍ مَعَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُفَارَقَةَ الْفَرْضِ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ وُجُودِهِ وَلَوْ كَانَ فِي مَالِهِ أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ فِي مَالِهِ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَعْطَى هَذِهِ الْأَرْبَعَ مَعَ الْحِقَّةِ وأخذ شاتين مع عِشْرِينَ دِرْهَمًا جَازَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ عَنِ الْفَرْضِ الْمَوْجُودِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ أَعْطَى حِقَّةً وَثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مَعَ سِتِّ شِيَاهٍ أَوْ سِتِّينَ دِرْهَمًا، كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَهُمَا.
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فَأَمَّا إِذَا كان معه أربع مائة مِنَ الْإِبِلِ، فَإِنْ أَعْطَى ثَمَانِيَ حِقَاقٍ جَازَ، وَإِنْ أَعْطَى عَشْرَ بَنَاتِ لَبُونٍ جَازَ، وَإِنْ أعطى أربع حقاق أو خمس بَنَاتِ لَبُونٍ جَازَ أَيْضًا عَلَى مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبِ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيقَ الْفَرِيضَةِ، وَهَذَا غَلَطٌ.
والفرق بينهما: أن المائتين نصاب فرضه أخذ نسق فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفَرِّقَ كَالْكَفَّارَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَعْضَهَا كِسْوَةً وَبَعْضَهَا طعاماً، والأربع مائة نصابان لها فَرْضَانِ فَجَازَ تَفْرِيقُهُمَا كَالْكَفَّارَتَيْنِ إِذَا فَرَّقَهُمَا فَأَطْعَمَ عن أحديهما وكسا عن الأخرى.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ الْفَرْضَانِ مَعِيبَيْنِ بمرضٍ أَوْ هيامٍ أَوْ جَرَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَائِرُ الْإِبِلِ صحاح قيل له إِنْ جِئْتَ بِالصِّحَاحِ وَإِلَّا أَخَذْنَا مِنْكَ السِّنَّ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَرَدَدْنَا أَوِ السِّنَّ الَّتِي هي أسفل وأخذنا والخيار في الشاتين أو العشرين درهماً، إلى الذي أعطى ولا يختار الساعي إلا ما هو خير لأهل السهمان وكذلك إن كانت أعلى بسنين أو أسفل فالخيار بين أربع شياه أو أربعين درهماً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مَعَهُ مائتان من الإبل صحاحاً، وكان الفرضان حقاً فِيهِمَا مَعِيبَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ هُيَامٍ، وَهُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَجْوَافِهَا فَلَا تَزَالُ تَكْرَعُ الْمَاءَ عِطَاشًا حَتَّى تَمُوتَ قَالَ الشَّاعِرُ:
(الْقَوْمُ هيمٌ وَالْأَدَاوَى يُبَّسُ ... أَنْ تَرِدِ الْمَاءَ بِمَاءٍ أَكْيَسُ)
أَوْ جَرَبٌ، وَهُوَ الدَّاءُ الْمَعْرُوفُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْرِجَ الْفَرْضَ مَعِيبًا مَعَ صِحَّةِ مَالِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيه) {البقرة: 267) وَرَوَى أَنَسُ بن(3/96)
مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَتَبَ لَهُ إِلَى الْبَحْرِينِ، كَانَ له فِي كِتَابِهِ لَا تَأْخُذْ هَرِمَةً، وَلَا ذَاتَ عَيْبٍ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَلَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عوارٍ، وَلِأَنَّ أَمْرَ الزَّكَوَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الْمَسَاكِينِ، وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَالرِّفْقِ بِهِمَا، فَلَمَّا لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْمَعِيبِ صَحِيحًا رِفْقًا بِرَبِّ الْمَالِ، لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الصَّحِيحِ مَعِيبًا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْمَعِيبِ فِيهَا، قِيلَ لِرَبِّ الْمَالِ أنت بالخيار أَنْ تَأْتِيَنَا بِفَرْضِهَا مِنْ غَيْرِهَا، إِمَّا أَرْبَعُ حِقَاقٍ، أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ تُشْبِهُ مَالَكَ، وبين أن نأخذ منك السن الأعلى، أو تعطي السِّنَّ الْأَدْنَى وَتَأْخُذَ، فَإِنْ صَعِدَ إِلَى السِّنِّ الْأَعْلَى وَهُوَ الْجَذَاعُ، صَعِدَ إِلَيْهَا مِنَ الْحِقَاقِ لا من بنات اللبون، لأنه إِذَا صَعِدَ مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ صَعِدَ إِلَى الْحِقَّةِ وَهِيَ فَرْضُهُ، وَإِنْ أَرَادَ النُّزُولَ نَزَلَ مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ إِلَى بَنَاتِ الْمَخَاضِ، وَلَا يَنْزِلُ مِنَ الْحِقَاقِ إِلَيْهَا لِمَا ذَكَرْنَا.
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَإِنْ كَانَ الْفَرْضَانِ مَعِيبَيْنِ بِمَرَضٍ أَوْ هُيَامٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَائِرُ الْإِبِلِ صِحَاحٌ، فَيَعْنِي وَبَاقِي الْإِبِلِ صِحَاحٌ، لِأَنَّ لَفْظَةَ سَائِرٍ إِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ كُلٍّ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، وَإِلَّا فَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا بَقِيَ حَقِيقَةً، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا أكلتم فاسئروا " أي فبقوا وَقَالَ الْأَعْشَى:
(بَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتَهَا ... بَعْدَ ائْتِلَافٍ وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا نَفَعَا)
وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِمَا بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ سُؤْرٌ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَأْخُذُ مَرِيضًا وَفِي الْإِبِلِ عَدَدٌ صحيحٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ:
إِذَا كَانَتْ إِبِلُهُ صِحَاحًا وَمِرَاضًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتَهَا مِرَاضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ، وَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهَا مِنَ الصِّحَاحِ اعْتِبَارًا بِقَدْرِ مَالِهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ نِصْفُهَا صِحَاحٌ وَنِصْفُهَا مِرَاضٌ، يَكُونُ فرضها بنت مخاض، فقال: كَمْ تُسَاوِي بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ مِرَاضِهَا، فَيُقَالُ: مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَيُقَالُ: كَمْ تُسَاوِي بِنْتُ مَخَاضٍ من صِحَاحِهَا، فَيُقَالُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيُؤْخَذُ نِصْفُ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ وَنِصْفُ الثَّلَاثِمِائَةِ وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فتضيفهما فَيَكُونَانِ مِائَتَيْنِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ مِنَ الصِّحَاحِ، وَثَمَنُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ.(3/97)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه:
وإن كانت كلها معيبة لم يكلفه صحيحاً من غيرها ويأخذ جبر المعيب.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ مَعِيبًا لَمْ يُكَلَّفْ زَكَاتَهَا صَحِيحًا سَلِيمًا، وَأُخِذَتْ زَكَاتُهَا مِنْهَا، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا الصَّحِيحَةُ عَنِ الْمِرَاضِ، وَالْكَبِيرَةُ عَنِ الصِّغَارِ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا تأخذ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عوارٍ " وَهَذَا غَلَطٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ " يَسِّرْ وَلَا تُعَسِّرْ، وَبَشِّرْ وَلَا تُنَفِّرْ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ بِالصَّدَقَةِ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ " وَلِرِوَايَةِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " ثَلَاثٌ مَنْ عَمِلَهَا طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وأخرج زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولم يخرج الدرنة ولا الشرط اللئيمة ولكن أخرج وَسَطَ الْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسْلُبْكُمْ خيره، ولم يأمركم بشره " ولأن كل ما تُؤْخَذُ زَكَاتُهُ مِنْ جِنْسِهِ لَا يُكَلَّفُ إِخْرَاجَ زَكَاتِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ لَا يُكَلَّفُ مِنَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ إِخْرَاجَ الْجَيِّدِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَأْخُذْ هَرِمَةً وَلَا ذَاتَ عوارٍ " فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَالُ السَّلِيمُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ زَكَاتَهَا صِحَاحًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ فقد قال الشافعي " يأخذ خير المعيب " واختلف أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَوْجَبَ أَخْذَ خَيْرِ الْمَعِيبِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَرَادَ بذلك أخذ خير الفرضين وهي الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ وَلَمْ يُرِدْ خَيْرَ جَمِيعِ الْمَالِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَرَادَ بِخَيْرِ الْمَعِيبِ أَوْسَاطَهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس) {آل عمران: 110) يَعْنِي: وَسَطًا، لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {كَذَلَكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) {البقرة: 143) وَمَنْ قَالَ بِهَذَا السهم فِي اعْتِبَارِ الْأَوْسَطِ وَجْهَانِ:(3/98)
أحدهما: أوسطها عيباً.
مثال ذلك: أن يَكُونُ بِبَعْضِهَا عَيْبٌ وَاحِدٌ، وَبِبَعْضِهَا عَيْبَانِ، وَبِبَعْضِهَا ثلاث عيوب، فيأخذ ما له عَيْبَانِ.
وَالثَّانِي: أَوْسَطُهَا فِي الْقِيمَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا خَمْسِينَ وَقِيمَةُ بعضها مِائَةً، وَقِيمَةُ بَعْضِهَا مَعِيبًا مِائَةً وَخَمْسِينَ، فَيَأْخُذَ مِنْهَا مَا قِيمَتُهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، لِأَنَّهُ أَوْسَطُهَا قِيمَةً فَحَصَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا مَا قَالَهُ ابْنُ خَيْرَانَ إِنَّهُ يَأْخُذُ خَيْرَ الْفَرْضَيْنِ لَا غَيْرَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " فَقَالَ: يَأْخُذُ خير المعيب من السن التي وجبت عليه.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُهَا غَلَطًا، وَأَضْعَفُهَا: يَأْخُذُ خَيْرَ الْمَالِ كُلِّهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَأْخُذُ أَوْسَطَهَا عَيْبًا.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: يَأْخُذُ أَوْسَطَهَا قِيمَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ نَصًّا فِي كِتَابِ الْأُمِّ: وَإِذَا كَانَ جميع ماله مراضاً والفرض منها مَوْجُودًا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى الصُّعُودِ وَأَخْذِ الْجُبْرَانِ، وَلَا إِلَى النُّزُولِ وَدَفْعِ الْجُبْرَانِ، لِوُجُودِ السِّنِّ الْمَفْرُوضِ، وَلَوْ كَانَ الْفَرْضُ مَعْدُومًا فِي مَالِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ إِلَى سِنٍّ أَدْنَى وَيُعْطِيَ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جُبْرَانًا لِلسِّنِّ النَّاقِصِ جَازَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ قَبُولُهُ فِي الْجُبْرَانِ عَنْ سِنٍّ صَحِيحٍ جَازَ قَبُولُهُ عَنْ سِنٍّ مَرِيضٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى سِنٍّ أَعْلَى وَيَأْخُذَ الْجُبْرَانَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ ذَلِكَ جُبْرَانٌ فِي سِنٍّ صَحِيحٍ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَجْعَلَهُ جُبْرَانًا فِي سِنٍّ مَرِيضٍ، فَإِنْ أَعْطَى الْأَعْلَى مُتَطَوِّعًا بِالزِّيَادَةِ جَازَ قَبُولُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا وجبت عليه جذعةٌ لم يكن له أن يأخذ منه مَاخِضًا إِلَا أَنْ يَتَطَوَّعَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال إن كَانَ فَرْضُ إِبِلِهِ جَذَعَةً لَمْ يَجُزْ لِلسَّاعِي أن يأخذ مَاخِضًا، سَوَاءً كَانَتْ إِبِلُهُ حَوَامِلَ، أَوْ حَوَائِلَ إِلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهَا فَيَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ لِزِيَادَتِهَا، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يجوز الْمَاخِضَ بِحَالٍ لِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه لساعيه: لا تأخذ الربا، وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ نَقْصٌ فِي الْحَيَوَانِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ دَفَعَ الْغُرَّةَ حَامِلًا فِي دِيَةِ الْجَنِينِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، وَلَوِ اشْتَرَى أَمَةً فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ كَانَ لِلْمُشْتَرِي رَدُّهَا بِهِ، وَإِذَا كَانَ عَيْبًا يُوجِبُ الرَّدَّ لَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ فِي الزَّكَاةِ وهذا خطأ.(3/99)
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُصَدِّقًا، فَأَتَيْتُ رَجُلًا فَجَمَعَ لِي مَالَهُ، فَوَجَدَ قَدْ وَجَبَتْ فِيهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَقُلْتُ لَهُ: صَدَقَتُكَ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا دَرَّ فِيهَا وَلَا نَسْلَ خُذْ هَذِهِ النَّاقَةَ السَّمِينَةَ الْكَوْمَاءَ فَفِيهَا دَرٌّ وَنَسْلٌ، فَقُلْتُ لَمْ يَأْمُرْنِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ مِنْكَ قَرِيبٌ فَائْتِهِ وَاسْأَلْهُ فَأَتَاهُ وَسَأَلَهُ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ذَاكَ الْوَاجِبُ فَإِنْ تَطَوَّعْتَ بَخَيْرٍ مِنْهُ آجَرَكَ اللَّهُ وَقَبِلْنَاهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَمْرَيْنِ، وَأَنَّ قَبُولَهُ جَائِزٌ، وَلِأَنَّ الْحَمْلَ فِي الْبَهَائِمِ زِيَادَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ دِيَاتِ الْإِبِلِ تَتَغَلَّظُ به وتتخفف بعدمه، وإن كان تزايداً وجب أن يكون قبوله جايزاً، فأما نهي عمر رضي الله عنه عنها فَمَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ يَرْضَ مَالِكُهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ نَقْصٌ فِي الْحَيَوَانِ، فَهُوَ نَقْصٌ فِي الْآدَمِيَّاتِ، وَزِيَادَةٌ فِي الْبَهَائِمِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ قَبُولِ الْمَاخِضِ فِي الزَّكَاةِ، وَبَيْنَ قَبُولِ الْغُرَّةِ فِي الْحَامِلِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ قَبُولَ الْمَاخِضِ إِذَا تَطَوَّعَ بِهَا جَائِزٌ: فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَخْذُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِهَا وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ غيرها إلى سن أعلى، ويأخذ، أو إلى سِنٍّ أَسْفَلَ وَيُعْطِيَ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَقَهَا الْفَحْلُ لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهَا كَالْمَاخِضِ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إِلَى سِنٍّ غَيْرِهَا، وَلَوْ دَفَعَ فِي الْغُرَّةِ أَمَةً مَوْطُوءَةً لَزِمَ قَبُولُهَا فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَعَلْتُمْ طَرْقَ الْفَحْلِ لِلْجَذَعَةِ كَالْحَمْلِ، ولم تجعلوا وطأ الْأَمَةِ فِي الْغُرَّةِ كَالْحَمْلِ؟
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضِرَابَ الْبَهَائِمِ غَالِبُهُ الْعُلُوقُ، فَكَانَ وَجُودُهُ كَوُجُودِ الْحَمْلِ، وَلَيْسَ الْغَالِبُ من وطئ الْآدَمِيَّاتِ الْعُلُوقَ فَلَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ كَوُجُودِ الْحَمْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَمْلَ فِي الْغُرَّةِ نَقْصٌ يُمْكِنُ الْوَلِيُّ اسْتِدْرَاكَهُ بِرَدِّهِ إِذَا ظَهَرَ، وَالْحَمْلَ فِي الْجَذَعَةِ زِيَادَةٌ لَا يُمْكِنُ رَبُّ الْمَالِ اسْتِدْرَاكَهَا إِذَا ظَهَرَتْ، لِاقْتِسَامِ الْمَسَاكِينِ لَهَا وَاللَّهُ تَعَالَى أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ مَعِيبَةً وَفَرِيضَتُهَا شَاةً، وَكَانَتْ أَكْثَرَ ثَمَنًا مِنْ بَعِيرٍ مِنْهَا، قِيلَ لَكَ الْخِيَارُ فِي أَنْ تُعْطِيَ بَعِيرًا مِنْهَا تَطَوُّعًا مَكَانَهَا، أَوْ شَاةً مِنْ غَنَمِكَ تَجُوزُ أُضْحِيَّةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ مِرَاضٌ أَوْ عِجَافٌ لَا تُسَاوِي جَمَاعَتُهَا، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهَا شَاةً، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِخْرَاجِ شَاةٍ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْهَا.(3/100)
وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: عَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ عَنْهَا، ولا يجزئه إِخْرَاجُ وَاحِدٍ مِنْهَا، تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " في كل خمس من الإبل شاة " وَلِأَنَّ الْبَعِيرَ بَدَلٌ مِنَ الشَّاةِ، وَالْأَبْدَالُ فِي الزَّكَوَاتِ لَا تَجُوزُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خُذِ الْبَعِيرَ مِنَ الْإِبِلِ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ " فَكَانَ نَصُّ الْخَبَرِ وَاعْتِبَارُ الْأُصُولِ يَقْتَضِيَانِ إِخْرَاجَ الفرضين مِنْ جِنْسِ الْمَالِ، أُخِذَتِ الشَّاةُ مِنَ الْخَمْسِ على وجه الترفيه والرفق، فإذا لَمْ يَخْتَرِ التَّرْفِيهَ بِإِخْرَاجِ الشَّاةِ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ إلى حكم الإبل، كَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ فَرِيضَةٍ تُؤْخَذُ مِنْ جُمْلَةٍ جَازَ أَخْذُهَا مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، كَأَخْذِ الْجَذَعَةِ بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي كُلِّ خمسٍ شَاةٌ " فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّرْفِيهِ وَالرِّفْقِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ ذَلِكَ بَدَلٌ، وَالْبَدَلُ قِيمَةٌ، فَغَلَطٌ لِأَنَّا لَسْنَا نَقُولُ إِنَّهُ بَدَلٌ وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّهُ فَرْضٌ ثَانٍ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ، فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ فَرْضَانِ، أَعْلَى وَهُوَ بَعِيرٌ، وَأَدْنَى وَهُوَ شَاةٌ، فَإِذَا أَخْرَجَ بَعِيرًا فَقَدْ أَخْرَجَ أَعْلَى فَرْضِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَعِيرُ أَوْسَطَهَا أَوْ أَدْوَنَهَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَثُرَتْ عُيُوبُهُ فَهُوَ أَكْثَرُ مَنْفَعَةً مِنْ شَاةٍ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْبَعِيرِ الْمُخْرَجِ مِنَ الْخَمْسِ هَلْ جَمِيعُهُ وَاجِبٌ؟ أَوْ خُمُسُهُ وَالْبَاقِي تَطَوُّعٌ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهُ وَاجِبٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ عَشْرًا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَاتَيْنِ أَوْ بَعِيرَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ خُمُسَهُ وَاجِبٌ وَبَاقِيهِ تَطَوُّعٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ عَشْرًا كَانَ الْخِيَارُ بَيْنَ بَعِيرٍ وَاحِدٍ أَوْ شَاتَيْنِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّمَتُّعِ إِذَا أَخْرَجَ فِي هَدْيِ تَمَتُّعِهِ بَدَنَةً بَدَلًا مِنَ الشَّاةِ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنَةِ وَاجِبٌ، وَالثَّانِي أَنَّ سُبُعَهَا وَاجِبٌ وَبَاقِيهَا تَطَوُّعٌ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن كانت غنمه معزاً فَثَنِيَّةٌ أَوْ ضَأْنًا فَجَذَعَةٌ وَلَا أَنْظُرُ إِلَى الأغلب في البلد لأنه إنما قيل إن عليه شاةً من شاء بلده تجوز في صدقة الغنم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ من الخمس، أو بين الشاتين يشتمل عل ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِي السِّنِّ.
وَالثَّانِي: فِي الْجِنْسِ.
وَالثَّالِثُ: فِي النَّوْعِ.(3/101)
فَأَمَّا السِّنُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ دُونَهُ فَهُوَ مَا تَجُوزُ أُضْحِيَتُهُ إِنْ كَانَتْ ضَأْنًا فَجَذَعَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِعْزَى فَثَنِيَّةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سويد بن غفلة قال أتانا مصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقال: نهينا عن أخذ الرَّاضِعِ، وَأُمِرْنَا بِالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيِّ مِنَ الْمَعِزِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ: وَخُذِ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ.
وَأَمَّا الْجِنْسُ فَالْمُرَاعَى فِيهِ غَنَمُ الْبَلَدِ لَا غَنَمُ الْمَالِكِ، فَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا فَمِنْ غَنَمِ مَكَّةَ ضَأْنًا أو معزى، فإن أخرج غَيْرَ الْمَكِّيَّةِ لَمْ تُجْزِهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْمَكِّيَّةِ أَوْ فَوْقَهَا، وَإِنْ كَانَ بَصْرِيًّا فَمِنْ غَنَمِ الْبَصْرَةِ ضَأْنًا أَوْ مِعْزَى، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الْبَصْرِيَّةِ لَمْ تُجْزِهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلَ الْبَصْرِيَّةِ أَوْ فَوْقَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَا أُطْلِقَ ذِكْرُهُ مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ فَوَصْفُهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَالِبِ الْبُلْدَانِ كَأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ فَالْمُزَكِّي مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الضَّأْنِ وَالْمِعْزَى، وَلَا اعْتِبَارَ بِغَالِبِ غَنَمِ الْبَلَدِ، وَقَالَ مَالِكٌ اعْتِبَارُ غَنَمِ الْبَلَدِ وَاجِبٌ فِي النَّوْعِ كَمَا كَانَ وَاجِبًا فِي الْجِنْسِ، فإن كان غَنَمِ الْبَلَدِ الضَّأْنَ لَمْ آخُذِ الْمَعِزَ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ الْمَعِزَ لَمْ آخُذِ الضَّأْنَ، وَهَذَا غلط، لأن النوع قد ورد الشرع بِتَحْدِيدِ أَصْلِهِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ جَمِيعِهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ إِلَى اعْتِبَارِ غَالِبِ البلد، وكان هذا الخلاف الْجِنْسِ الْمُطْلَقِ ذِكْرُهُ فِي الشَّرْعِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كانت إبله كراماً لم يأخذ منه الصَّدَقَةَ دُونَهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ لِئَامًا لَمْ يكن لنا أن نأخذ مِنْهَا كِرَامًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا أَرَادَ كِرَامَ الْجِنْسِ، كَالْبُخْتِ النَّجَّارِيَّةِ وَالْعِرَابِ الْمَجِيدِيَّةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهَا كِرَامًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (البقرة: 267) وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالُهُ لِئَامًا لَمْ يُكَلَّفْ زَكَاتَهَا كِرَامًا، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَالُهُ كِرَامًا لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا لِئَامًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ كِرَامَ الْوَصْفِ فَكَانَتْ سماناً لم تؤخذ زَكَاتُهَا إِلَّا سِمَانًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ كِرَامَ السِّنِّ فَكَانَتْ جِذَاعًا وَثَنَايَا وَكَانَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا إِلَّا بِنْتُ مَخَاضٍ مِنْ جِنْسِهَا، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا جَذَعَةٌ وَلَا ثَنِيَّةٌ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ تَجْرِي مَجْرَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَلَوْ أُخِذَتِ الْجَذَعَةُ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِذَا كانت جذاعاً لبطل اعتبار النصب، ولا يستوي فَرْضُ قَلِيلِ الْإِبِلِ وَكَثِيرِهَا، وَكَرَامَةُ الْجِنْسِ لَا تَجْرِي مَجْرَى زِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي زِيَادَةِ الْفَرْضِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا الْفَرْقُ.(3/102)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا عد عَلَيْهِ السَّاعِي فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ حَتَّى نَقَصَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِمْكَانِ هَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ.
فأحد قوليه هو مَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ شَيْئَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِمْكَانَ مَعْنًى إذا تلف المال قبل وجود سَقَطَ ضَمَانُ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ كَالْحَوْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ، كَالصَّلَاةِ الَّتِي تَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَالْحَجِّ الَّذِي يَجِبُ بِالِاسْتِطَاعَةِ، وَإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الجديد: أن الإمكان مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَجَعَلَ الْحَوْلَ غَايَةً فِي الْوُجُوبِ، وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ بِخِلَافِهِ قَبْلَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَوْ أَتْلَفَ مَالَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يَضْمَنْ زَكَاتَهُ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْإِمْكَانِ ضَمِنَ زَكَاتَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِمْكَانَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا صِفَةُ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ كَانَ مَالًا بَاطِنًا كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، فإمكان الأداء بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إِمَّا بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ، أَوْ بِحُضُورِ أَهْلِ السُّهْمَانِ وَإِنْ كَانَ مَالًا ظَاهِرًا كَالْمَوَاشِي وَالثِّمَارِ. فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ " إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ فِيهِ بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ لَا غَيْرَ ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ كَالْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، يَكُونُ إِمْكَانُ أَدَائِهِ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إِمَّا بِمُطَالَبَةِ الْإِمَامِ، أَوْ بِحُضُورِ أهل السهمان.
مسألة:
قال الشافعي رحمه الله: " وإن فَرَّطَ فِي دَفْعِهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْإِمْكَانِ عَلَى الْفَوْرِ، فَمَتَى أَمْكَنَهُ إِخْرَاجُهَا فَلَمْ يُخْرِجْهَا حَتَّى هَلَكَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا.(3/103)
وَقَالَ أبو حنيفة إِخْرَاجُهَا عَلَى التَّرَاخِي فَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَلَفُهَا بِجِنَايَةٍ مِنْهُ، أَوْ يَكُونَ السَّاعِي قَدْ طَالَبَ بِهَا فَمَنَعَهُ، قَالَ: لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَانَتْ فِي يَدِهِ أَمَانَةً كالوديعة، والودائع لا يضمنها إلا بجناية، أبو بِمُطَالَبَةِ رَبِّهَا بِهَا، فَيَمْنَعُهُ فَكَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، قال: ولأن الزكاة حق للمساكين فهم غَيْرُ مُعَيَّنِينَ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا عَنْ قَوْمٍ ويصرفها في آخرين، وإذا لم يتعين مستحقها لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ بِحَبْسِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: هُوَ أَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِوُجُودِ الْمَالِ، فَإِذَا وَجَبَ لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُهُ بَعْدَ الْإِمْكَانِ بِتَلَفِ الْمَالِ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ عَبِيدِهِ، إِذَا مَاتُوا، وَكَالْحَجِّ إِذَا تَلِفَ مَالُهُ بَعْدَ إِمْكَانِ أَدَائِهِ، وَلِأَنَّهَا زكاة قدر على أدائها بعد وجودها، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ طَالَبَهُ السَّاعِي بِهَا، وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّينَ بِالْوَصْفِ يَجْرِي مجرى تعيين للمستحقين بالاسم، فإذا ألزمه الضَّمَانُ بِمَنْعِ مُسْتَحِقِّيهَا بِالِاسْمِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الضمان بمنع مستحقيها بالوصف، فأما قوله: إِنَّهَا كَالْوَدِيعَةِ لَا يَضْمَنُ إِلَّا بِجِنَايَةٍ، أَوْ مَنْعٍ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ.
فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: تَأْخِيرُهَا بَعْدَ إِمْكَانِ أَدَائِهَا جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ مِنَ الْوَدَائِعِ مَا يَجِبُ ضمانها من غير مطالبته، وَهِيَ مَا لَمْ يَعْلَمْ رِضَا مَالِكِهَا بِإِمْسَاكِهَا، كَالثَّوْبِ إِذَا طَارَ بِهِ الرِّيحُ إِلَى دَارِ رَجُلٍ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، إِذَا لَمْ يُبَادِرْ بِرَدِّهِ، وإعلامه، وكموت ربه الْوَدِيعَةِ، يُوجِبُ عَلَى الْمُودِعِ رَدَّهَا عَلَى الْوَارِثِ، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا ضَمِنَهَا، كَذَلِكَ الزَّكَاةُ لَيْسَ يُعْلَمُ رِضَا مُسْتَحِقِّهَا بحبسها، فوجب أن يلزمه ضمانها، وأما قوله إِنَّ مُسْتَحِقَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا عَنْ قَوْمٍ وَيَصْرِفَهَا فِي آخَرِينَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لأنه إنما يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهَا عَنْ قَوْمٍ إِلَى غَيْرِهِمْ إِذَا حَضَرَ جَمِيعُ الْمَسَاكِينِ، فَأَمَّا إِذَا حَضَرَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْبِسَهَا عَمَّنْ حَضَرَ لِيَدْفَعَهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَحْضُرْ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وما هلك أو نقص في يدي الساعي فهو أمين حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا حرمي بن يونس بن محمد عن أبيه عن حماد بن سلمة عن ثمامة بن عبد الله أنس عن أنس مِثْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا أَخَذَ السَّاعِي زَكَاةَ الْأَمْوَالِ فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَمُهُمْ فيها، لِأَنَّ السَّاعِيَ وَكِيلٌ لِلْمَسَاكِينِ فِي قَبْضِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ حَقَّهُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَالْوَكِيلُ إِذَا اسْتَوْفَى فِي حَقِّ مُوَكِّلِهِ بَرِئَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ، سَوَاءٌ وَصَلَ ذَلِكَ إِلَى الْمُوَكِّلِ أَمْ لا، فأما الساعي فإن كان لَمْ يُفَرِّطْ فِيمَا بِيَدِهِ وَإِنَّمَا حَبَسَهَا لِجَمِيعِ الْفُقَرَاءِ أَوْ لِلْكَشْفِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ فَرَّطَ أَوْ تَعَدَّى أَوْ حَبَسَهَا مَعَ وُجُودِ مُسْتَحِقِّيهَا لَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَتَفْرِيطِ الْأُمَنَاءِ(3/104)
فَإِنْ قِيلَ فَالْوَكِيلُ إِذَا حَبَسَ مَالَ مُوَكِّلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَالَبَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ، فَهَلَّا كَانَ السَّاعِي كَذَلِكَ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَالِهِ، فَإِذَا أَمْسَكَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ مُطَالَبَةُ السَّاعِي بِمَا فِي يَدِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إِمْسَاكُهُمْ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِهِ، فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ إِذَا أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ فَتَلِفَتْ من يَدِهِ بَعْدَ إِمْكَانِهِ وَقَبْلَ دَفْعِهِ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ وَلَزِمَهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ فَائِتٌ عَنْ نَفْسِهِ وَالزَّكَاةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّتِهِ.(3/105)
باب صدقة البقر السائمة
قال الشافعي رضي الله عنه: " أخبرنا مالك عن حميد بن قيس عن طاوس أن معاذاً أخذ من ثلاثين بقرة تبيعاً ومن أربعين بقرة مسنةً (قال) وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر معاذاً أن يأخذ من ثلاثين تبيعاً ومن أربعين مسنةً نصاً (قال الشافعي) وهذا ما لا أعلم فيه بين أحدٍ من أهل العلم لقيته خلافاً وروي عن طاوس أن معاذاً كان يأخذ من ثلاثين بقرة تبيعاً ومن أربعين بقرةٍ مسنة وأنه أتى بدون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئاً وقال لم أسمع فيه شيئاً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتى ألقاه فأسأله فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أن يقدم معاذاً وَأَنَّ مُعَاذًا أُتِيَ بِوَقْصِ الْبَقَرِ فَقَالَ لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بشيء ".
قال الماوردي: أما زكاة البقر فواجبة الكتاب وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وقال تعالى: {وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ للسَائِلِ} وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا " بِالزَّايِ معجمة فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا، فَأَوَّلُ نِصَابِهَا ثَلَاثُونَ، وَفِيهَا تَبِيعٌ، وَمَا دُونُ الثَّلَاثِينَ وَقْصٌ لَا زَكَاةَ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، إِلَى عِشْرِينَ فِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ ثَلَاثِينَ، فَيَكُونَ فِيهَا تَبِيعٌ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ نُصُبَهَا كَالْإِبِلِ فِي كُلِّ خَمْسٍ شاة، وفي كل خمسة وَعِشْرِينَ بَقَرَةٌ، بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَيَكُونَ فِيهَا بَقَرَتَانِ بَدَلًا مِنْ بِنْتَيْ لَبُونٍ، استدلالاً بخبر ومعنى.(3/106)
فأما الخبر: فروى عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ صَدَقَاتِ الْإِبِلِ قَالَ في آخره: وكذلك البقر.
وأما المعنى: فاشتراكها فِي اسْمِ الْبَدَنَةِ وَالْأُضْحِيَةِ وَالْإِجْزَاءِ عَنْ سَبْعَةٍ تُسَاوِي حُكْمِهَا فِي نُصُبِ الزَّكَاةِ وَفَرَائِضِهَا.
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ الْفَرَائِضَ، وَقَالَ فِي الْبَقَرِ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ، وَرَوَى طَاوُسٌ الْيَمَانِيُّ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا، وَمِنْ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَأُتِيَ بِدُونِ ذَلِكَ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئًا حَتَّى أَلْقَاهُ وَأَسْأَلَهُ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مُعَاذٌ، وَأَنَّ مُعَاذًا أُتِيَ بِوَقْصِ الْبَقَرِ فَقَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بشيء.
قال الشافعي رضي الله عنه: " الوقص ما لم يبلغ الفريضة (قال) وبهذا كله نأخذ وليس فيما بين الفريضتين شيءٌ وإذا وجبت إحدى السنين وهما في بقرةٍ أخذ الأفضل وإذا وجد إحداهما لم يكلفه الأخرى ولا يأخذ المعيب وفيها صحاح كما قلت في الإبل ".
قال الماوردي: وَالشِّنَاقُ: مَا بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ، وَقَدْ يَتَجَوَّزُ بِالْوَقْصِ فَيُسْتَعْمَلُ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ أَيْضًا، فَإِنْ قِيلَ حديث طاوس عن معاذ مرسل، لأن طاوس وُلِدَ فِي زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ لَهُ سَنَةً حِينَ مَاتَ مُعَاذٌ، وَالشَّافِعِيُّ لا يقول بالمراسيل، فكيف يحتج بها قبل الْجَوَابُ عَنْهُ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَطَرِيقُهُ السِّيرَةُ وَالْقَضِيَّةُ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْيَمَنِ خُصُوصًا وَفِي سَائِرِ النَّاسِ عُمُومًا وَطَاوُسٌ يَمَانِيٌّ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ اشْتِهَارِهِ لَا مِنْ طَرِيقِ إِرْسَالِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَمْنَعُ مِنَ الْأَخْذِ بِالْمَرَاسِيلِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُسْنَدٌ يُعَارِضُهُ، وإن كان مرسلاً لَا يُعَارِضُهُ مُسْنَدٌ فَالْأَخْذُ بِهِ وَاجِبٌ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَإِنْ أَرْسَلَهُ الشَّافِعِيُّ فقد أسند له غَيْرُهُ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ الْإِسْنَادِ.(3/107)
رَوَى الْمَسْعُودِيُّ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً فَقَالُوا لَهُ فَالْأَوْقَاصُ؟ فَقَالَ لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهَا بِشَيْءٍ، حَتَّى أَلْقَاهُ فَأَسْأَلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَا شَيْءَ فِيهَا.
فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَقَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ فَمَعْنَاهُ إِنْ صَحَّ وَكَذَلِكَ الْبَقَرُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا لَا فِي مَقَادِيرِ نُصُبِهَا، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِبِلِ فِي اشْتِرَاكِهَا فِي الْإِجْزَاءِ عَنْ سَبْعَةٍ في الضحايا فيفسر بالغنم، لأن السبعة عَنْ سَبْعَةٍ، وَيَقْتَضِي عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الْعِبْرَةِ أَنْ يَكُونَ فِي خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا شَاةٌ، فَعُلِمَ بِالنَّصِّ فِي الْغَنَمِ فَسَادُ هَذَا الِاعْتِبَارِ وبطلان هذا الجمع.
فصل
: فإذا ثبت فِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعٌ، فَلَا شَيْءَ فيما دونه، فالتبيع ذكر وهو ما له سنة، وَسُمِّيَ تَبِيعًا لِأَنَّهُ قَدْ قَوِيَ عَلَى اتِّبَاعِ أُمِّهِ، فَإِنْ أَعْطَى تَبِيعَةً قُبِلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، فإذا بلغتها فهي مُسِنَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنْ أَعْطَى مُسِنًّا ذَكَرًا نَظَرَ فِي بَقَرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ إِنَاثًا كُلَّهَا أو ذكوراً كلها، ففي جَوَازِ قَبُولِ الْمُسِنِّ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ لنصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْمُسِنَّةِ.
وَالثَّانِي: يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ فِي مُطَالَبَتِهِ بمسنة من غير ما له إضرار بِهِ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَانِ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ.
وَعَنْ أبي حنيفة ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ:
أَحَدُهَا: كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا شَيْءَ فِي زيادتها حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، فَيَكُونَ فِيهَا تَبِيعَانِ، وَبِهِ قَالَ أبو يوسف ومحمد.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: عَنْهُ أَنَّهُ كُلَّمَا زَادَتْ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا بِقِسْطِهَا مِنَ الْمُسِنَّةِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ فَيَكُونُ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ بِنْتَ لَبُونٍ لَمَّا لَمْ تُعَدَّ في الإبل إلا بعد فرض الحقة والجذعة(3/108)
اقتضى أن لا يعد التَّبِيعُ فِي الْبَقَرِ إِلَّا بَعْدَ فَرْضَيْنِ، فَالْأَوَّلُ مُسِنَّةٌ، وَالثَّانِي مُسِنَّةٌ وَرُبُعٌ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْوَقْصَ فِي الْبَقَرِ تِسْعٌ، وَالْفَرْضُ يَتَعَيَّنُ بِالْعَاشِرِ فِيمَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ، وَبَعْدَ السِّتِّينَ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْخَمْسِينَ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: رِوَايَةُ سَلَمَةَ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ إِلَى سِتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعَانِ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِيهَا دُونَ ذَلِكَ " وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى نِصَابٍ فِي نَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ فَرْضُهَا ابْتِدَاءً إِلَّا بِسِنٍّ كَامِلٍ، كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يَجِبُ بها جبران كَامِلٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِهَا الْفَرْضُ، قِيَاسًا عَلَى مَا دُونُ الْخَمْسِينَ وَفَوْقَ الْأَرْبَعِينَ، فَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِأَنَّ بِنْتَ اللَّبُونِ لَمَّا لَمْ تُعَدَّ إِلَّا بَعْدَ فَرْضَيْنِ فَكَذَلِكَ التَّبِيعُ فَيَبْطُلُ بِالشَّاةِ فِي أَوَّلِ فَرْضِ الْإِبِلِ، وَبِنْتَيْ لَبُونٍ تجب في ستة وَسَبْعِينَ، ثُمَّ يَجِبُ بَعْدَهَا حِقَّتَانِ فِي إِحْدَى وتسعين، ثم بعده بَنَاتُ اللَّبُونِ فِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا إِلَّا فَرْضٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْحِقَاقُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ أَوْقَاصَ الْبَقَرِ تِسْعٌ فَبَاطِلٌ بِالْوَقْصِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُسِنَّةَ: وَهِيَ الَّتِي اسْتَوَى قَرْنَاهَا فَرِيضَةُ الْأَرْبَعِينَ إِلَى السِّتِّينَ، فَإِذَا(3/109)
بَلَغَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ إِلَى سَبْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ إِلَى ثَمَانِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَمَانِينَ فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ إِلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ تِسْعِينَ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ إِلَى مِائَةٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعَشْرَةٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعَشْرَةً فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ وَتَبِيعٌ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ مُسِنَّاتٍ أَوْ أَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ، يَجْتَمِعُ فِيهَا الْفَرْضَانِ جَمِيعًا كَالْمِائَتَيْنِ مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ كُلَّمَا زَادَتْ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ، وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ أَحَدُ الْفَرْضَيْنِ أَخَذَهُ، وَإِنِ اجْتَمَعَا كَانَ كَاجْتِمَاعِ الْفَرْضَيْنِ فِي الْإِبِلِ، فَيَكُونُ عَلَى مَا مَضَى فِي الْإِبِلِ سَوَاءٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ الْفَرْضَانِ وَلَا أَحَدُهُمَا كُلِّفَ أَنْ يَبْتَاعَ أَحَدَهُمَا، أَوْ يَتَطَوَّعَ بِسِنٍّ هُوَ أَعْلَى مِنْهُمَا، وَلَيْسَ لَهُ إِذَا صَعِدَ إِلَى السِّنِّ الْعَالِيَةِ أَنْ يُطَالَبَ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جُبْرَانًا، وَلَا لَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيُعْطِيَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا جُبْرَانًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِبِلِ بَعْدَ التَّوْقِيفِ، أَنَّ الْغَنَمَ لَمَّا وَجَبَتْ فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِ الْإِبِلِ جَازَ أَنْ يَدْخُلَ جُبْرَانُهَا فِيمَا بَيْنَ أَسْنَانِهَا، فَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَبِيعٌ فِي ثَلَاثِينَ فَأَعْطَاهُ مُسِنَّةً قُبِلَتْ، لِأَنَّهَا تُقْبَلُ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ مُسِنَّةٌ فِي أَرْبَعِينَ فَأَعْطَاهُ تَبِيعَيْنَ قبلا، لأنهما يقبلان في أكثر منها، فأما الْجَوَامِيسُ فَفِيهَا الزَّكَاةُ قِيَاسًا عَلَى الْبَقَرِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْجَوَامِيسَ ضَأْنُ البقر، فلو كان ماله جواميس وبقراً عَوَانًا ضَمَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَأَخَذَ زَكَاةَ جميعها، كضم الضأن إِلَى الْمَعِزِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(3/110)
باب صدقة الغنم السائمة
قال الشافعي رحمه الله: " ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في صدقة الغنم معنى ما أذكر إن شاء الله تعالى وهو أن لَيْسَ فِي الْغَنَمِ صدقةٌ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فإذا بلغتها ففيها شاة ولا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين فإذا بلغتها ففيها شاتان وليس في زيادتها شيء حتى تبلغ مائتين وشاةً فإذا بلغتها فَفِيهَا ثَلَاثُ شياهٍ ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أربع شياه ثم في كل مائةٍ شاةٌ وما نقص عن مائةٍ فلا شيء فيها وتعد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا زَكَاةُ الْغَنَمِ فَوَاجِبَةٌ لِعُمُومِ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَتِبْيَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا " بِالزَّايِ معجمة وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زكاةٌ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وجوب زكاتها، وأن أول نصابها أربعين وَأَنْ لَا شَيْءَ فِيمَا دُونَهَا، وَأَنَّ فِيهَا إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً، وَأَنْ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَكُلَّمَا زَادَتْ مِائَةً كَامِلَةً فَفِيهَا شَاةٌ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَبِهِ أَخَذَ الْخُلَفَاءُ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ بن صالح بن حي وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: فِي مِائَتَيْ شَاةٍ وَشَاةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، خِلَافًا لِلْكَافَّةِ، وَاسْتِدْلَالًا بِحَدِيثٍ رُوِيَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إلى ثلاثماية " قَالُوا: فَهَذَا حَدٌّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تُوجِبُ تَغْيِيرَ الْحَدِّ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ " وَهَذَا مَذْهَبٌ يَبْطُلُ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَوِفَاقِ مَنْ تَعَقَّبَهُ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْعَمَلِ الْجَارِي، وَالنَّصِّ الْمَرْوِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً: شَاةٌ إِلَى مائة(3/111)
وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ واحدةٌ فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى ثلاثمائةٍ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ المائة شيء، وقد مضى أَنَسٌ وَابْنُ حَزْمٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِثْلَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ " فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ "، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُوَضِّحُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الأول وتفسر إجماله.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وتعد عليهم السخلة قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ وَلَا الرُّبَى وَلَا الْمَاخِضَ وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ وَخُذِ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ غِذَاءِ الْمَالِ وَخِيَارِهِ (قال الشافعي) والربي هي التي يتبعها ولدها والماخض الحامل والأكولة السمينة تعد للذبح (قال الشافعي) وبلغنا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لمعاذ " إياكم وكرائم أموالهم " (قال الشافعي) فبهذا نأخذ ".
قال الماوردي: فزكاه السِّخَالُ بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا، وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهَا الْحَوْلَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ دَاوُدُ: يَسْتَأْنِفُ حولها، وهو قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ ".
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بن مخرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ: " عُدَّ عَلَيْهِمْ صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا ولا تأخذ هرمةً ولا ذات عوارٍ ".
روى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَعْمَلَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ عَلَى الطَّائِفِ، وَمَخَالِيفِهَا فَعَدَّ عَلَيْهِمُ الْمَالَ عَدًّا وَصِغَارَهُ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُعَدُّ عَلَيْنَا عَدًّا الْمَالَ وَصِغَارَهُ فَخُذْ مِنْهُ، فَلَقِيَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ، وَقَالَ لَهُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّا نَظْلِمُهُمْ، نَعُدُّ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَالَ وَلَا نَأْخُذُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عَمَرُ اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ، يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي وَلَا تَأْخُذْهَا، وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ، وَلَا الرُّبَى وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَخُذِ الْجَذَعَةَ، والثنية " وذلك عدل بين الْمَالِ وَخِيَارِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَكُولَةُ: السَّمِينَةُ تُعَدُّ لِلذَّبْحِ.
وَالرَّبِيُّ الَّتِي يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا.
وَالْمَاخِضُ: الْحَامِلُ.(3/112)
وَالْفَحْلُ: الذَّكَرُ الْمُعَدُّ لِلضِّرَابِ، فَجَعَلَ مَا عَدَلَ عنه من عدا الْمَالِ بِإِزَاءِ مَا تَرَكَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ خِيَارِهِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْأَصْلِ وَجَبَتْ لِأَجْلِ النِّتَاجِ فَلَمْ يجز أن يجب فيها، وسقط فِي النِّتَاجِ وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأُمَّهَاتِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْتُ مع ما وصفت في أن لا يؤخذ أَقَلُّ مِنْ جذعةٍ أَوْ ثنيةٍ إِذَا كَانَتْ في غنمه أو أعلى مها دل على أنهم إنما أرادوا ما تجوز أضحيةً ولا يؤخذ أعلى إلا أن يطوع وَيَخْتَارُ السَّاعِي السِّنَّ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ إِذَا كانت الغنم كلها واحدةً فإن كانت كلها فوق الثنية خير ربها فإذا جاء بثنية إن كانت معزاً أو بجذعة إن كانت ضأناً إلا أن يطوع فيعطي منها إلا أن يكون بها نقص لا تجوز أضحيةً وإن كانت أكثر قيمةً من السن التي وجبت عليه قبلت منه إن جازت أضحيةً إلا أن تكون تيساً فلا تقبل بحالٍ لأنه ليس في فرض الغنم ذكورٌ وهكذا البقر إلا أن يجب فيها تبيع والبقر ثيران فيعطي ثوراً فيقبل منه إذا كان خيراً من تبيع وكذلك قال في الإبل بهذا المعنى لا نأخذ ذكراً مكان أنثى إلا أن تكون ماشيته كلها ذكوراً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: السِّنُّ الْمُسْتَحَقَّةُ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ هِيَ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَقَدْ دَخَلَتْ فِي السَّابِعِ، وَالثَّنِيَّةُ مِنَ الْمَعِزِ وَهِيَ الَّتِي قَدِ اسْتَكْمَلَتْ سَنَةً وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَقَالَ أبو حنيفة الْمُسْتَحَقُّ الثني من الضأن والمعز، وقال مَالِكٌ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعِزِ , وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ قَالَ أَتَانَا مُصَدِّقُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَقَالَ: " نُهِينَا عَنِ الرَّاضِعِ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْجَذَعَةَ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيَّةَ مِنَ الْمَعِزِ. وَلِأَنَّ كُلَّ سِنٍّ تَقَدَّرَتْ بِهَا الْأُضْحِيَةُ تَقَدَّرَتْ بِهَا زَكَاةُ الْغَنَمِ كَالثَّنِيَّةِ، فَإِنْ أَعْطَى فَوْقَ الْجَذَعَةِ أَوِ الثَّنِيَّةِ قُبِلَتْ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ حد الهرمة فَلَا تُقْبَلُ، وَإِنْ أَعْطَى دُونَ الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا دُونَ الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ تُقْبَلُ مِنْهُ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَقْبُولَةٌ، وَالنُّقْصَانَ مَرْدُودٌ، ثُمَّ إِنَّ كَانَتْ غَنَمُهُ إِنَاثًا، أَوْ فِيهَا إِنَاثٌ لَمْ تُؤْخَذِ الشَّاةُ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا أُخِذَ مِنْهَا الذَّكَرُ، ول يُكَلَّفْ زَكَاةَ مَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمَرِيضَةِ مِنَ المراض.
قال الشافعي: وَيَخْتَارُ السَّاعِي السِّنَّ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ إِذَا كانت الغنم واحدة، إِذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ، إِنْ كَانَ مَالُهُ ضَأْنًا أَوْ ثَنِيَّةً مِنَ الْمَعِزِ إِنْ كَانَ مَالُهُ مِعْزَى، كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَهَا مِنْ خِيَارِ غَنَمِهِ، وَلَيْسَ لِرَبِّ المال أن يمنعه من اختيار إِذَا لَمْ يَتَجَاوَزِ الْجِذَاعَ وَالثَّنَايَا، كَمَا كَانَ لَهُ الِاخْتِيَارُ فِي أَخْذِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ.(3/113)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يعتد بالسخلة على رب الماشية إلا بأن يَكُونَ السَّخْلُ مِنْ غَنَمِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَيَكُونَ أصل الغنم أربعين فصاعداً فإذا لم تكن الغنم مما فيه الصدقة فلا يعتد بالسخل حتى تتم بالسخل أربعين ثم يستقبل بها الحول ".
قال الماوردي: ذكرنا أن السخال تزكى بحلول أمهاتها إذا جمعت ثلاث شَرَائِطَ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ أُمَّهَاتُهَا أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ السِّخَالُ مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ الَّتِي فِي مِلْكِهِ، لَا مِنْ غَيْرِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ قَبْلَ حُلُولِ حَوْلِهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الثَّلَاثُ فِي السِّخَالِ، وَجَبَ ضَمُّهَا إِلَى أُمَّهَاتِهَا.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ في اختيار النِّصَابِ، فَقَدْ خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ، فَقَدْ قَالَ: لَا اعْتِبَارَ بِكَوْنِ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا، بَلْ تُضَمُّ السِّخَالُ وَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّصَابِ، وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالٍ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْمَوْجُودِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ.
أَصْلُ ذَلِكَ: إِذَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ أَرْبَعِينَ قَالَ: وَلِأَنَّ أُصُولَ الزَّكَوَاتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ النَّمَاءَ الْحَادِثَ مِنَ الْمَالِ لَا يُعْتَبَرُ فِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِنِصَابٍ مُزَكًّى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُصُولَ تَشْهَدُ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُرُوضُ التِّجَارَاتِ، إِذَا اشْتَرَى عُرْضًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فربح فيه مائة درهم، زكا الْأَصْلَ وَالنَّمَاءَ، لِأَنَّهُمَا نِصَابٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النماء تابعاً للنصاب.
وَالثَّانِي: إِنْ مَلَكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وَجَدَ مِائَةَ دِرْهَمٍ رِكَازًا زَكَّاهُمَا، لِأَنَّهُمَا نِصَابٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الرِّكَازُ وَالنَّمَاءُ تَبَعًا لِنِصَابٍ، كَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة: إِلَى أَنَّ كَوْنَ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا شَرْطٌ فِي وُجُوبِ ضَمِّ السِّخَالِ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ دُونَ النِّصَابِ، لَمْ يَجِبْ ضَمُّهَا، فَإِذَا كَمُلَتْ مَعَ السِّخَالِ نِصَابًا، اسْتُؤْنِفَ لَهَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ كَمَالِهَا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَهَذَا مَالٌ لَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ عَلَى الْأُمَّهَاتِ مِنْهُ وَلَا السِّخَالِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ كَمُلَ بِهَا نِصَابُ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهَا مِنْ يَوْمِ كَمَالِهَا، كَمَا لَوْ مَلَكَ السِّخَالَ مِنْ غَيْرِ نِتَاجِهَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ السِّخَالَ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ (فِيهَا) إِلَّا(3/114)
بِالْحَوْلِ، إِلَّا أَنَّ حَوْلَهَا تَارَةً يَكُونُ بِنَفْسِهَا وَتَارَةً يَكُونُ بِغَيْرِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْبِعَ الْغَيْرَ فِي الْحَوْلِ، وَلَا حَوْلَ لِلْغَيْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ حَوْلَهَا مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهَا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النِّصَابِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَوْلَ ثَابِتٌ لِلْأُمَّهَاتِ، فَجَازَ أَنْ تَتْبَعَهَا السِّخَالُ فِي حَوْلِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا دُونَ النِّصَابِ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالْأُصُولِ فِي زَكَاةِ الْعُرُوضِ، وَمَسْأَلَةِ الرِّكَازِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ، أَنْ يُقَالَ: أَمَّا مَسْأَلَةُ عُرُضِ التِّجَارَةِ إِذَا اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ ثُمَّ بَاعَهُ بِنِصَابٍ، فَقَدْ كَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ، وَيَقُولُ: لَا زَكَاةَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْعُرْضَ بِنِصَابٍ، أَوْ تَكُونَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الشِّرَاءِ نِصَابًا، فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ زَكَاةَ الْعُرْضِ وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ عِنْدَ الْحَوْلِ نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ بِدُونِ النِّصَابِ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ أَنَّ اعْتِبَارَ تَقْوِيمِ الْعُرْضِ بِنِصَابٍ يَشُقُّ غَالِبًا، وَلَا يَشُقُّ أَنْ يُعْتَبَرَ كَوْنُ الْأُمَّهَاتِ نِصَابًا، فَلِذَلِكَ سَقَطَ اعْتِبَارُ النِّصَابِ في الأمهات، لارتفاع مشقته، توضيح ذَلِكَ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى عُرْضًا بِنِصَابٍ، ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ عَنِ النِّصَابِ، ثُمَّ عَادَتِ الْقِيمَةُ عِنْدَ الْحَوْلِ إِلَى النِّصَابِ، لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ وَلَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فَتَلِفَ مِنْهَا فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ شَاةٌ، ثُمَّ مَلَكَ مَكَانَهَا شَاةً بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ اسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ، وَبَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنْهُ بِنُقْصَانِ الشَّاةِ، فَقَدْ وَضَحَ بِمَا بَيَّنَاهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُرْضِ وَالسِّخَالِ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرِّكَازِ فَقَدِ اختلف أصحابنا فِيهَا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي الْمِائَةِ الرِّكَازِ دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّ الرِّكَازَ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ النِّصَابُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ، وَالْمِائَةُ الْأُخْرَى يُعْتَبَرُ فِيهَا النِّصَابُ وَالْحَوْلُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ زَكَاةُ الرِّكَازِ لِوُجُودِ النِّصَابِ، وَلَمْ تَجِبْ زَكَاةُ المائة الأخرى لفقد الحول، فعلى هذا القول السُّؤَالُ سَاقِطٌ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا بَلْ زَكَاتُهَا وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ النِّصَابَ فِيهَا مَوْجُودٌ، وَالْحَوْلَ فيما يعتبر فيه مَوْجُودٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ الزَّكَاةُ فِيهَا لِوُجُودِ شَرْطِ الْإِيجَابِ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّخَالِ أَنَّ الرِّكَازَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الحول، والسخال يعتبر فِيهَا الْحَوْلُ، إِمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ تَبَعًا لِأُمَّهَاتِهَا، فَافْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الزَّكَاةِ لِافْتِرَاقِ مَعْنَاهُمَا فِي الْوُجُوبِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ السِّخَالُ مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ، فَقَدْ خَالَفَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ فقالا: كل ما استفاد من جنس ما ضمه إليه في حوله، وإخراج زَكَاتَهُ تَبَعًا لِمَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نِتَاجِ مَالِهِ، أَوْ مَلَكَهُ بِابْتِيَاعٍ أَوْ هِبَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا بَعْدُ، لَكِنْ تقدم الكلام فيها، لأن هذا الوضع أليق بها، فأما مخالفنا فاستدل(3/115)
برواية ابن الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " اعلموا شهراً تودون فِيهِ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَى يِجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ " فقد بين أن السنة تجمع لزكاة المالين جميعاً من الأصل المستفاد، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " فِي خَمْسٍ شَاةٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا " فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنَّهَا مَتَى بَلَغَتْ عَشْرًا بِفَائِدَةٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَجَبَ تَغْيِيرُ الْفَرْضِ بِهَا، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لساعيه " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّهَا زيادة من نفس ماله، فوجب إذا لم يزل بَدَلُهُ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَى حَوْلِ مَا عِنْدَهُ، كَالنِّتَاجِ وَأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدٍ وَأَمَدٍ، فَالْعَدَدُ النِّصَابُ، وَالْأَمَدُ الْحَوْلُ، فَلَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْمُسْتَفَادِ النِّصَابُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْحَوْلُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مُسْتَفَادٍ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ حَوْلِهِ وَلَا يَكُونُ تَابِعًا لِحَوْلِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَكَانَ عَامًّا وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَيْسَ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ " وَهَذَا نَصٌّ، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ حَوْلُهُ بِغَيْرِهِ. أَصْلُهُ: إِذَا كَانَتِ الْفَائِدَةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَالِهِ، وَلِأَنَّهَا فَائِدَةٌ غَيْرُ مُتَوَلَّدَةٍ مِمَّا عِنْدَهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهَا مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهَا، أَصْلُهُ مَا وَافَقَنَا عَلَيْهِ أبو حنيفة فِيمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، قَدْ أخرج زكاتها، وأربعون من الغنم من بَقِيَ شَهْرٌ مِنْ حَوْلِهَا، فَاشْتَرَى بِالْمِائَتَيْنِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ شَاةً.
قَالَ أبو حنيفة: لَا يَجِبُ أَنْ يُزَكِّيَهَا بِحَوْلِ الْأَرْبَعِينَ، وَيَسْتَأْنِفُ لَهَا الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ زَكَّى أَصْلَهَا وَهُوَ الْمِائَتَانِ، وَلَوْ لَمْ يُزَكِّ أَصْلَهَا ضَمَّهَا، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ مُقْنِعَةٌ، وَلِأَنَّ فِي ضَمِّ الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ مَا يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ أَصُولِ الزَّكَوَاتِ، لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الْحَوْلِ مَرَّةً، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِيجَابِهَا فِي الحول مراراً.
مثال: فِيمَنْ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ قَدْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهَا يَوْمٌ، فَابْتَاعَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ فَزَكَّاهَا بَعْدَ يَوْمٍ ثُمَّ بَاعَهَا عَلَى رَجُلٍ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ قَدْ بَقِيَ مِنْ حَوْلِهَا يَوْمٌ فَزَكَّاهَا الثَّانِي بَعْدَ يَوْمٍ ثُمَّ بَاعَهَا عَلَى ثَالِثٍ حَالُهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ عَلَى رَابِعٍ، وَخَامِسٍ فَيُؤَدِّي زَكَاةَ الْخَمْسِ فِي السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ مِرَارًا، وَهَذَا مُنَافٍ لِأُصُولِ الزَّكَوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ عَلَى إِيجَابِهَا فِي كُلِّ حَوْلٍ مَرَّةً.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اعْلَمُوا شَهْرًا تُؤَدُّونَ فِيهِ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَى يِجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ " فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ رَأْسَ السَّنَةِ(3/116)
الْمُسْتَفَادِ فِيهَا، وَيَحْتَمِلُ رَأْسَ سَنَةِ الْأَصْلِ وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَحَمْلُهُ عَلَى سَنَةِ الْمُسْتَفَادِ أَوْلَى، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الْحَوْلُ " وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ، ثُمَّ لَا شَيْءَ فِي زِيَادَتِهَا حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا " فَهَذَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْمَقَادِيرِ دُونَ ضَمِّ الْمُسْتَفَادِ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِسَاعِيهِ: " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الْحُكْمِ فِي الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَلَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى نِتَاجِ مَالِهِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا مُتَوَلَّدَةٌ مِمَّا عِنْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْمُسْتَفَادِ النِّصَابُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الحول، فينكسر من إتباع ماشيته بِمَالٍ قَدْ زَكَّاهُ، فَلَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَضُمَّهُ إِلَى حَوْلِ مَاشِيَتِهِ، وَيَسْتَأْنِفَ حَوْلَهُ مِنْ يَوْمِ مَلَكَهُ، فَكَانَ الْحَوْلُ مُعْتَبَرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا، عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ، أَنَّ النِّصَابَ اعْتُبِرَ لِيَبْلُغَ الْمَالُ قَدْرًا يَتَّسِعُ لِلْمُوَاسَاةِ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِوُجُودِ مَا اسْتَفَادَهُ، وَالْحَوْلُ اعْتُبِرَ لِيَتَكَامَلَ فِيهِ نَمَاءُ الْمَالِ، وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ بِوُجُودِ مَا اسْتَفَادَهُ حَتَّى يَحُولَ حَوْلُهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فِي اعْتِبَارِ الْوِلَادَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلِأَنَّ السِّخَالَ تَابِعَةٌ لِأُمَّهَاتِهَا فِي الْإِيجَابِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا قَبْلَ الْإِيجَابِ، فَإِنْ نَتَجَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ ضُمَّتْ إِلَى أُمَّهَاتِهَا، وَأَخْرَجَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا، وَإِنْ نَتَجَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَقَبْلَ الْإِمْكَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ نَتَجَتْ بَعْدَ الْإِمْكَانِ، لَمْ تُضَمَّ إِلَى الْأُمَّهَاتِ فِي الْحَوْلِ الْمَاضِي، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ، وَضُمَّتْ إِلَيْهَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي، وَإِنْ نَتَجَتْ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، فَفِي إِيجَابِ ضَمِّهَا إِلَى الْأُمَّهَاتِ قَوْلَانِ مبنيان على اختلاف قوليه في الإمكان، قيل هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي الضَّمَانِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ في الوجوب وتضم إِلَى الْأُمَّهَاتِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ بَعْدَ وُجُودِهَا، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ شرط في الضمان دون الوجوب لا تضم إلى الْحَوْلِ الْمَاضِي، لِاسْتِقْرَارِ الْوُجُوبِ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّ الْمَاشِيَةِ ".
قَالَ الماوردي: وهذا كما قال:
إن اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَالِ فِي الشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ضَمِّ السِّخَالِ، فَادَّعَى السَّاعِي وُجُودَ جَمِيعِهَا وَإِيجَابَ ضَمِّهَا إِلَى أُمَّهَاتِهَا، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ عَدَمَ بَعْضِهَا وَسُقُوطَ ضَمِّ السِّخَالِ إِلَى أُمَّهَاتِهَا، وَكَأَنَ السَّاعِيَ ادَّعَى أَنَّ السِّخَالَ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ غَيْرِ مَالِهِ، أَوِ ادَّعَى السَّاعِي أَنَّ الْأُمَّهَاتِ أَرْبَعُونَ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا دُونَ(3/117)
الْأَرْبَعِينَ، أَوِ ادَّعَى السَّاعِي أَنَّ الْوِلَادَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهَا بَعْدَ الْحَوْلِ، وَمَا ادَّعَيَاهُ مُمْكِنٌ فِي الظَّاهِرِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رب المال مع يمينه، لأنه أمين يرجع إلى ظاهر، وَلَا ظَاهِرَ مَعَ السَّاعِي وَهَذِهِ الْيَمِينُ هِيَ يَمِينُ اسْتِظْهَارٍ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَوْضِعٍ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ ما تسقط بِهِ الزَّكَاةَ وَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَهُ فَيَمِينُهُ اسْتِظْهَارٌ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مَعَ السَّاعِي كَدَعْوَى رَبِّ الْمَالِ بَيْعَ مَالِهِ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ، ثُمَّ ابْتِيَاعَهُ فَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِظْهَارٌ أَيْضًا.
وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ، وَفَائِدَةُ قَوْلِنَا اسْتِظْهَارٌ أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَفَائِدَةُ قَوْلِنَا وَاجِبَةٌ أَنَّهُ إِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَبْرًا، لَا بِنُكُولِهِ لَكِنْ بِالْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالظَّاهِرِ الْمَوْجُودِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلسَّاعِي أَنْ يَحْلِفَ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ، وَلَا لِلْمَسَاكِينِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ معينين.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت له أربعون فَأَمْكَنَهُ أَنْ يُصَدِّقَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَتْ أَوْ بَعْضُهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ حتى ماتت منها شاة فلا زكاة في الباقي لأنها أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَلَوْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ حولها فلم يمكنه دفعها إلى أهلها أو الوالي حتى هلكت لم تجز عنه فإن كان فيما بقي ما تجب فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ زَكَّى وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عليه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْسِيمِ، وَقُلْنَا إِنَّهُ إِنْ تَلِفَ مَالُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَالزَّكَاةُ عليه واجبة، سواء أمكنه أداء زكاتها إِلَى السَّاعِي، أَوِ الْمَسَاكِينِ، وَقَالَ أبو حنيفة إن أمكن أداؤها إلى الساعي ضمنها وإن أمكن أَدَاؤُهَا إِلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ يَضْمَنْهَا، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ مَجِيءَ السَّاعِي شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ، وَإِنْ تَلِفَ مَالُهُ قَبْلَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَبَادَرَ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ فَتَلِفَ مِنْهُ قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ فِي يَدِ السَّاعِي، أَوِ الْمَسَاكِينِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا جِنَايَةٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي بَاقِي مَالِهِ فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي إِمْكَانِ الْأَدَاءِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي الضَّمَانِ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيمَا نَقَصَ عَنِ النِّصَابِ وَإِنْ قِيلَ هُوَ شَرْطٌ فِي الضَّمَانِ فَعَلَيْهِ زَكَاتُهُ بِحِسَابِ الْبَاقِي وَقِسْطِهِ، وَيَكُونُ التَّالِفُ مِنْ مَالِهِ وَمَالِ الْمَسَاكِينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ فائدةٍ مِنْ غَيْرِ نِتَاجِهَا فَهِيَ لِحَوْلِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ غَيْرِ النِّتَاجِ يَسْتَأْنِفُ حَوْلَهُ، وَلَا يَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى حَوْلِ مَالِهِ، وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً قَدْ أَتَى(3/118)
عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَمَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً ثَانِيَةً، ثم ملك بعد هذه أَرْبَعِينَ شَاةً ثَالِثَةً، فَصَارَ جَمِيعُهَا مِائَةً وَعِشْرِينَ شَاةً، فَقَدْ حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فيها وجهين:
أحدهما: أنه زكى فِي السَّنَةِ الْأَوْلَى كُلَّ أَرْبَعِينَ بِحَوْلِهَا وَيُخْرِجُ عَنْهَا شَاةً كَامِلَةً، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، لِأَنَّهَا لَمَّا افْتَرَقَتْ فِي حُكْمِ الْحَوْلِ وَجَبَ أَنْ تَفْتَرِقَ فِي حُكْمِ الخلطة.
والوجه الثاني: إن زكى الأربعين الأولة لحولها فيخرج منها شاة كاملة، ثم زكى الْأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةَ لِحَوْلِهَا فَيُخْرِجُ مِنْهَا نِصْفَ شَاةٍ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِينَ، هَذَا إِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى، وَقِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنَ الْمَالِ، وَقِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ أربعين جزءاً مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ، ثُمَّ زكى الأربعين الثالثة لحولها فيخرج منها ثلاث شياه، لأنها أربعون من جملة مائة وعشرين، هذا إِنْ كَانَ قَدْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْمَالَيْنِ مِنْ غيرهما، وقيل إن الزكاة في الذمة، وإن كان قد أخرج الزكاة من المالين، أو قيل إن الزكاة من الْعَيْنِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جُزْءًا مِنْ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ جُزْءًا وَنِصْفَ جُزْءٍ مِنْ شَاةٍ، فَهَذَانِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ.
وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ: لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا، أَنَّ فِي الْأَرْبَعِينَ الْأُولَى شَاةً، وَلَا شَيْءَ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَتَكُونُ تَبَعًا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا ثَانِيًا، فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا ثَانِيًا حَتَّى صَارَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَعَلَيْهِ شَاتَانِ.
وَفِيهَا وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ، أَنَّهُ إِنْ خَلَطَ الْجَمِيعَ وَسَامَهَا فِي مَرْعًى واحد كانت تبعاً، وإن فرقها فلكل وَاحِدَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ولو نتجت أربعين قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ ثُمَّ جَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ أَرْبَعُونَ جَدْيًا أَوْ بَهْمَةً أَوْ بَيْنَ جَدْيٍ وبهمةٍ أَوْ كَانَ هَذَا فِي إِبِلٍ فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ فِصَالٌ أَوْ فِي بَقَرٍ وَهِيَ عُجُولٌ أَخَذَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ من هذا وأخذ من الإبل والغنم أنثى ومن البقر ذكراً وإن لم يجد إلا واحداً إن كانت البقر ثلاثين وإن كانت أربعين فأنثى فإذا كانت العجول إناثاً ووجب تبيع قبل إن شئت فائت بذكر مثل أحدها وإن شئت أعطيت منها أنثى وأنت متطوع بالفضل واحتج الشافعي في أنه لم يبطل عن الصغار الصدقة لأن حكمها حكم الأمهات مع الأمهات فكذلك إذا حال عليها حول الأمهات ولا نكلفه كبيرة من قبل أنه لما قيل لي دع الربي والماخض وذات الدر وفحل الغنم وخذ الجذعة والثنية عقلت أنه قيل لي دع خيراً مما تأخذ إن كان عنده خير منه ودونه وخذ العدل(3/119)
بين الصغير والكبير وما يشبه ربع عشر ماله فإذا كانت عنده أربعون تسوي عشرين درهماً وكلفته شاةً تسوي عشرين درهماً فلم آخذ عدلاً بل أخذت قيمة ماله كله فلا آخذ صغيراً وعنده كبير فإن لم يكن إلا صغير أخذت الصغير كما أخذت الأوسط من التمر ولا آخذ الجعرور فإذا لم يكن إلا الجعرور أخذت منه الجعرور ولم تنقص من عدد الكيل ولكن نقصنا من الجودة لما لم نجد الجيد كذلك نقصنا من السن إذا لم نجدها ولم ننقص من العدد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي رَجُلٍ مَعَهُ نِصَابٌ مِنَ الْمَاشِيَةِ نَتَجَتْ نِصَابًا، ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَقِيَ النِّتَاجُ فَجَاءَ السَّاعِي فَوَجَدَهَا سِخَالًا، إِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ غَنَمًا، أو فصالاً إن كانت الأمهات إِبِلًا، أَوْ عُجُولًا إِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ بَقَرًا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَبْنِي حَوْلَ السِّخَالِ عَلَى حول الأمهات، ويأخذ منها الزَّكَاةَ وَلَا يُبْطِلُ حَوْلَهَا بِمَوْتِ أُمَّهَاتِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ بَقِيَ مِنَ الْأُمَّهَاتِ نِصَابٌ زُكِّيَتِ السِّخَالُ بِحَوْلِ النِّصَابِ الْبَاقِي مِنْ أُمَّهَاتِهَا، وَإِنْ نقصت عن النصاب بطل حكم الحول المار، وَلَمْ تَجِبْ فِي السِّخَالِ الزَّكَاةُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْنَافِ حَوْلِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ بَقِيَ مِنَ الْأُمَّهَاتِ وَاحِدَةٌ زُكِّيَتِ السِّخَالُ بِحَوْلِ أُمَّهَاتِهَا، وَإِنْ مَاتَتْ جَمِيعُ الْأُمَّهَاتِ بَطَلَ حُكْمُ حَوْلِهَا وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ لِلسِّخَالِ الْحَوْلَ، إِلَّا أَنْ تَصِيرَ ثَنَايَا، فَإِذَا صَارَتْ ثَنَايَا اسْتُؤْنِفَ حَوْلُهَا حِينَئِذٍ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَيْسَ فِي السِّخَالِ صَدَقَةٌ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ فِي راضعٍ لبنٍ شيءٌ " قال: ولأن الصغار إنما ثبت لَهَا حُكْمُ الْحَوْلِ تَبَعًا لِلْأُمَّهَاتِ، فَإِذَا سَقَطَ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ بِمَوْتِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّابِعِ، قَالَ: ولأن الفرض قد يتغير بالزيادة والعدد، وَبِالزِّيَادَةِ فِي السِّنِّ، ثُمَّ كَانَ نُقْصَانُ الْعَدَدِ عَنِ النِّصَابِ يُوجِبُ إِسْقَاطَ الزَّكَاةِ، وَتَغْيِيرَ الْفَرْضِ، وجب أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُ السِّنِّ مُؤَثِّرًا فِي إِسْقَاطِ الزكاة وتغيير الفرض، وتحرر ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يَتَغَيَّرُ له الْفَرْضُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِنُقْصَانِهِ تَأْثِيرٌ فِي تَغْيِيرِ الْفَرْضِ كَالْعَدَدِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ: " عُدَّ عَلَيْهِمْ صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ(3/120)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ: " وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا مِمَّا أَدَّوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " وَبِإِجْمَاعِنَا وأبي حنيفة أن العناق لا يؤدى فِي الزَّكَاةِ مِنْ مَالٍ فِيهِ كِبَارٌ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُؤَدًّى مِنَ الصِّغَارِ، ثُمَّ قَالَ هَذَا بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَكُلٌّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فَثَبَتَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الْحَوْلِ لَمْ يَكُنْ مَوْتُ بَعْضِهَا مَعَ بَقَاءِ النِّصَابِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْحَوْلِ.
أَصْلُهُ: مَوْتُ السِّخَالِ وَلِأَنَّ كُلَّ وَلَدٍ حُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْأُمِّ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُهُ بِمَوْتِ الْأُمِّ، أَصْلُهُ وَلَدُ الْأُضْحِيَةِ، وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ، فَأَمَّا حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ فَرِوَايَةُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَكَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْقَوْلِ بِالرَّجْعَةِ وَالتَّنَاسُخِ مَعَ مُظَاهَرَتِهِ بسبب السَّلَفِ الصَّالِحِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا قَبْلَ الْحَوْلِ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثِّمَارِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إِلَى حَوْلٍ، وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا نَمَاءً.
وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَيْسَ فِي رَاضِعِ لَبَنٍ شَيْءٌ " يَعْنِي إِذَا انْفَرَدَتْ عَنْ أُمَّهَاتِهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا تَبَعٌ فَيُقَالُ لَهُمْ هِيَ تَبَعٌ فِي الِابْتِدَاءِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَصْلِ فِي الِانْتِهَاءِ، ثُمَّ يَفْسُدُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِوَلَدِ الْأُضْحِيَةِ، وَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ وَأَمَّا قياسهم بفضل السِّنِّ عَلَى نُقْصَانِ الْعَدَدِ فَقَدْ رَضِينَا بِقِيَاسِهِمْ حَكَمًا عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ لَا تُؤَثِّرُ فِي زِيَادَةِ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ حِقَّةً كَمَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ جَذَعَةً فِي اسْتِوَاءِ فَرْضِهِمَا، وَلَا يكون زيادة من الْجِذَاعِ مُوجِبًا لِزِيَادَةِ الْفَرْضِ فِيهَا فَلَمَّا لَمْ تكن لزيادة السن في زيادة الفرض تأثير وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لِنُقْصَانِ السِّنِّ تَأْثِيرٌ في إسقاط الفرض، والعدد بخلاف هذا، إنه يُؤَثِّرُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَوْتَ الْأُمَّهَاتِ لَا يبطل حق السخال، فزكاتها بعد حول أمهاتها مأخوذ مِنْهَا، وَلَا يُكَلَّفُ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنَ الْكِبَارِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا كِبَارٌ وَبِهِ قَالَ أبو يوسف.
وَقَالَ مَالِكٌ لَا آخُذُ الزَّكَاةَ إِلَّا كَبِيرًا، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ السِّخَالِ بِحَالٍ تَعَلُّقًا بِقَوْلِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " نُهِينَا عَنْ رَاضِعِ لَبَنٍ وَإِنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ " وَبِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ: " اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الراعي ولا تأخذها " ولأنه لو كان له ما قال كِرَامَ السِّنِّ وَفَوْقَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا رِفْقًا بِرَبِّ(3/121)
الْمَالِ، فَوَجَبَ إِذَا كَانَ جَمِيعُ مَالِهِ لِئَامَ السِّنِّ وَدُونَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهَا رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) {التوبة: 103) فَلَمْ يَجُزْ لِحَقِّ هَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يُكَلَّفُوا الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمُعَاذٍ: " إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ " فَلَمَّا نَهَاهُ عَنْ أَخْذِ الْكَرِيمِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي فِيهِ كِرَامٌ فَلَأَنْ لَا يَأْخُذَ الْكَرِيمَ مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ كِرَامٌ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ زَكَاتُهُ مِنْ عَيْنِهِ، كَالتَّمْرِ الرَّدِيءِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ الْجَيِّدِ مِنَ التَّمْرِ الرَّدِيءِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَيِّدًا لَزِمَهُ إِخْرَاجُ الْجَيِّدِ وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَوَاشِيَ لَوْ كَانَتْ كِرَامَ السِّنِّ لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ لَئِيمًا قِيلَ: هذا حجتنا لأنه لما جاز أخذ الرديء مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَا يُؤْخَذُ مِنْ جَيِّدِهِ الدُّونُ، فَلَأَنْ يَجُوزَ أَخْذُ الدُّونِ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَجُوزُ أَخْذُ الدُّونِ مِنْ جَيِّدِهِ أَوْلَى، فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ " فَمَحْمُولٌ عَلَى الْمَالِ الَّذِي فِيهِ جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ وَلَا تَأْخُذْهَا " فَقَدْ قَالَ " وَلَا تَأْخُذِ الْأَكُولَةَ " ثم قال " وذلك عدل بين عدا الْمَالِ وَخِيَارِهِ " فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَرْضَ الْمَطْلُوبَ هُوَ وَسَطُ الْمَالِ، وَلَيْسَ أَخْذُ الْكِبَارِ مِنَ الصِّغَارِ وَسَطًا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ فَغَيْرُ صحيح، لأنه قد يرتفق برب الْمَالِ بِمَا لَا يَرْتَفِقُ الْمَسَاكِينُ بِمِثْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُ حَوَامِلَ لَمْ يُكَلَّفِ الزَّكَاةَ مِنْهَا رِفْقًا بِهِ، وَلَيْسَ يَرْتَفِقُ المساكين بِمِثْلِهِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ أَخْذِ السَّخْلَةِ مِنَ السِّخَالِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وهو أَرْبَعُونَ جَدْيًا أَوْ بَهْمَةً، أَوْ بَيْنَ جَدْيٍ وَبَهْمَةٍ أَوْ كَانَ هَذَا فِي إِبِلٍ، فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ وَهِيَ فِصَالٌ، أَوْ فِي بَقَرٍ وَهِيَ عُجُولٌ، أَخَذَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَذَا، فهذا قول الشافعي ونصه، ولم يختلف أصحابه أن محل الْغَنَمِ يُؤْخَذُ مِنْهَا سَخْلَةٌ، وَلَمْ يُكَلَّفْ عَنْهَا كَبِيرَةً، فَلَوْ كَانَ مَالُهُ أَرْبَعِينَ سَخْلَةً مِنْ نِتَاجِ يَوْمِهَا وَحَالَ حَوْلُهَا أُخِذَتْ زَكَاتُهَا سَخْلَةً مِنْهَا، وَلَوْ كَانَتْ مِائَةً وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ أُخِذَتْ زَكَاتُهَا سَخْلَتَانِ مِنْهَا، فَأَمَّا الْإِبِلُ إِذَا كَانَتْ فصالاً والبقر إذا كانت عجولاً، ففيه لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهَا كَالْغَنَمِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ أَحَدٍ وَسِتِّينَ فَصِيلًا فَصِيلٌ، وَمِنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ فَصِيلًا فَصِيلَانِ وَيُؤْخَذُ مِنْ ثَلَاثِينَ عِجْلًا عِجْلٌ، وَمِنْ أَرْبَعِينَ عِجْلًا عِجْلٌ وَمِنْ سِتِّينَ عِجْلًا عِجْلَانِ وَمِنْ سَبْعِينَ عِجْلًا عِجْلَانِ ثُمَّ هَكَذَا فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ قِيَاسًا عَلَى الْغَنَمِ.(3/122)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ حُكْمَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْغَنَمِ، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ فُصْلَانِ الْإِبِلِ وَعُجُولِ الْبَقَرِ فَصِيلٌ وَلَا عِجْلٌ بحال، بل يؤخذ منها السن الواجب لقيمة ماله، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بَعِيرًا، فَالْوَاجِبُ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، فَيُقَالُ: لَوْ كَانَتْ كِبَارًا وَكَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِينَارٍ لَوَجَبَ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَذَلِكَ نِصْفُ عُشْرِ الْمَالِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَتْ فِصَالًا قِيمَتُهَا عِشْرُونَ دِينَارًا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا بِنْتُ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا دِينَارٌ، لِتَكُونَ الزَّكَاةُ بِقَدْرِ نِصْفِ عُشْرِ الْمَالِ، ثُمَّ كَذَلِكَ الْبَقَرُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْغَنَمِ وَبَيْنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، بِفَرْقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَسْنَانَ فَرَائِضِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، وَأَسْنَانَ فَرَائِضِ الْغَنَمِ لَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِهِ، كَوُرُودِهِ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، فَجَازَ تَرْكُهُ عِنْدَ فَقْدِهِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْعُمْدَةُ: أَنَّ فَرَائِضَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ السِّنِّ، وَفَرَائِضَ الْغَنَمِ تَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صِغَارِ الْإِبِلِ صَغِيرٌ، لِأَنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَجَازَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ صِغَارِ الْغَنَمِ صَغِيرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي فَرْضُ قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا تَمَهَّدَ مِنْ أُصُولِهِ وَتَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ: أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْإِبِلِ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ فَهِيَ كَالْغَنَمِ يُؤْخَذُ مِنْ صِغَارِهَا صَغِيرٌ كَالسِّتَّةِ وَالسَّبْعِينَ وَالْإِحْدَى وَالتِّسْعِينَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ لَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا صَغِيرٌ، كَالسِّتَّةِ وَالثَّلَاثِينَ وَالسِّتَّةِ وَالْأَرْبَعِينَ، ومنها مذهب لا يتحصل لوضوح فساده من الاعتبار والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت ضأناً ومعزاً كَانَتْ سَوَاءً أَوْ بَقَرًا وَجَوَامِيسَ وَعِرَابًا وَدَرْبَانِيَّةً وإبلاً مختلفة فالقياس أن نأخذ من كل بقدرٍ حصته فإن كان إبله خمساً وعشرين عشر مهرية وعشر أرحبية وخمس عيدية فمن قال يأخذ من كل بقدر حصته قال يأخذ ابنة مَخَاضٍ بِقِيمَةِ خُمُسَيْ مَهْرِيَّةٍ وَخُمْسَيْ أَرْحَبِيَّةٍ وَخُمْسَ عيدية.
قال الماوردي: أما إن كَانَتْ مَاشِيَتُهُ نَوْعًا وَاحِدًا لَا تَخْتَلِفُ وَلَا تتنوع فالواجب أن تؤخذ زكاته منها جَيِّدًا كَانَ أَوْ رَدِيئًا، فَإِنْ أَعْطَى عَنِ الْجَيِّدِ رَدِيئًا لَمْ يُقْبَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) (البقرة: 267) وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً كَأَنْ كَانَتْ غَنَمًا بَعْضُهَا ضَأْنٌ، وَبَعْضُهَا مِعْزَى، أَوْ كَانَتْ إِبِلًا بَعْضُهَا مَهْرِيَّةٌ وَبَعْضُهَا أَرْحَبِيَّةٌ، أَوْ كَانَتْ بَقَرًا بعضها درباسة وبعضها عراب، فذلك ضربان:
أحدها: أَنْ يَسْتَوِيَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ.(3/123)
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ، فَإِنِ اسْتَوَى النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ، فَكَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عِشْرُونَ مِنْهَا ضَأْنٌ، وَعِشْرُونَ مِنْهَا مِعْزَى، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ شَاةٍ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ عَلَى قدر المالين، كأنا نَقُولَ قِيمَةُ جَذَعَةٍ مِنَ الضَّأْنِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَقِيمَةُ ثَنِيَّةٍ مِنَ الْمِعْزَى عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَتُؤْخَذُ نصف القيمتين فتكون خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، إِمَّا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ أَوْ ثَنِيَّةً مِنَ الْمِعْزَى، وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ، وَإِنْ تَفَاضَلَ النَّوْعَانِ فِي الْعَدَدِ فَكَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً، ثَلَاثُونَ مِنْهَا ضَأْنٌ وَعَشْرٌ مِعْزَى، أَوْ كَانَتْ إِبِلًا أَوْ بَقَرًا مُخْتَلِفَةَ الْأَنْوَاعِ مُتَفَاضِلَةَ الْأَعْدَادِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُؤْخَذُ زَكَاتُهَا مِنَ الْأَغْلَبِ وَالْأَكْثَرِ اعْتِبَارًا بِمَا تَمَهَّدَ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَيَقْضِي عَلَى العدل بغالب أحوالهم وإن أساء على الغالب بِغَالِبِ فِسْقِهِ، وَإِنْ أَحْسَنَ، وَكَمَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ السَّائِمَةِ وَإِنْ عُلِفَتْ فِي الْحَوْلِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ، وَلِأَنَّ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهَا مَشَقَّةً لَاحِقَةً بِأَرْبَابِ الأموال يخرج من مَوْضُوعِ الْمُوَاسَاةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ غَالِبِ مَالِهِ جَيِّدًا كَانَ الْغَالِبُ أَوْ رَدِيئًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، لِيَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِي النَّقْصِ وَالْكَمَالِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمَسَاكِينِ شَائِعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَلِأَنَّا إِذَا علقنا ذَلِكَ بِالْأَكْثَرِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ خِيَارُهُ فِي الْأَقَلِّ، فَنَكُونُ قَدْ بَخَسْنَا الْمَسَاكِينَ حَقَّهُمْ وَأَبَحْنَا رَبَّ الْمَالِ إِعْطَاءَ خَبِيثِ مَالِهِ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنِ النَّصِّ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ، وَقِيَاسًا على ما لم يختلف مذهبه فيه من الفضة إذا وجبت فَكَانَ بَعْضُهَا جَيِّدًا وَبَعْضُهَا رَدِيئًا لَزِمَ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِهَا دُونَ غَالِبِهَا، كَذَلِكَ في الماشية، ويجوز ذلك قياساً أن يقال إنه جنس قَدِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِصَّتِهِ كَالْفِضَّةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا اعْتِبَارَ بِالْغَالِبِ وَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ عَشَرَةٌ مِنْهَا مَهْرِيَةٌ، وعشرة أرحبية، وخمسة محتدية، فقال قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ مَهْرِيَّةٍ ثَلَاثُونَ دِينَارًا فَيُؤْخَذُ خمساها، لأن خمسي إبله مهرية فيكون اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، وَيُقَالُ قِيمَةُ بِنْتِ مَخَاضٍ أَرْحَبِيَّةٍ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَيُؤْخَذُ خُمُسَاهَا، لِأَنَّ خُمْسَيْ إبله أرحبية فيكون ثمانية دنانير ويقال قيمة بنت مخاض محتدية عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَيُؤْخَذُ خُمُسُهَا، لِأَنَّ خُمُسَ إِبِلِهِ محتدية فيكون دينارين، ثم تجمع الاثني عشر والثمانية والدينارين فيكون اثنين وعشرين، فيؤخذ من بِنْتُ مَخَاضٍ بِقِيمَةِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِينَارًا، إِمَّا مهرية أو أرحبية، أو محتدية، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي الْبَقَرِ وَفِيمَا زَادَ أَوْ نَقَصَ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ وَاللَّهُ أعلم بالصواب.(3/124)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَدَّى فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ عَنِ الْأَرْبَعِينَ شَاةً مُتَفَرِّقَةً كَرِهْتُ ذَلِكَ وَأَجْزَأَهُ، وَعَلَى صَاحِبِ الْبَلَدِ الْآخَرِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فَإِنِ اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الزَّكَاةُ فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا إِلَّا فِي بَلَدِ الْمَالِ وَجِيرَانِهِ سَوَاءٌ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مُقِيمًا أَوْ بَائِنًا عَنْهُ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الزَّكَاةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ " فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ فِي غير بلده وجيرانه، كان مسيئاً، وفي الآخر قولان:
أحدهما: أنه يجزئه.
والثاني: لا يجزئه وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنْ كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً عِشْرُونَ مِنْهَا بِالْبَصْرَةِ وَعِشْرُونَ بِبَغْدَادَ، فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُ نِصْفِ شَاةٍ بِالْبَصْرَةِ عَنِ الْعِشْرِينَ الَّتِي بِهَا، وَنِصْفِ شَاةٍ بِبَغْدَادَ عَنِ الْعِشْرِينَ الَّتِي بِهَا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِخْرَاجِ نصف شاة باقيها للفقراء أو المساكين من أهل الصدقات أجزاه وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْرَجَ نِصْفَ شَاةِ بِاقِيهَا لَهُ أَوْ لِرَجُلٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ على ما سواه، فالصحيح أنه يجزئه وَلَا اعْتِبَارَ بِوَصْفِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا يُجْزِيهِ حَتَّى يَكُونَ بَاقِي الشَّاةِ مِلْكًا لِأَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَيَكْمُلُ لَهُمْ نَفْعُهَا، لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الشَّاةِ إيقاع ضررهم، وَإِدْخَالَ نَقْصٍ فِي حَقِّهِمْ، وَهَذَا تَعَسُّفٌ يُؤَدِّي إِلَى تَكْلِيفِ مَا يَتَعَذَّرُ، وَاعْتِبَارُ وَصْفِ مَا لم يَلْزَمُ فَإِنْ عَدَلَ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَأَخْرَجَ شَاةً كَامِلَةً فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ عَنْ جَمِيعِ الْمَالَيْنِ فَقَدْ أَجْزَأَهُ نِصْفُهَا عَمَّا فِيهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إِجْزَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ فَكَانَ ابْنُ الْوَكِيلِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدِ المال إلى غيره، أحدهما يجزئه، والثاني لا يجزئه، وكان باقي أصحابنا يقولون يجزئه ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا: لِأَنَّ فِي تَبْعِيضِ الشَّاةِ مَشَقَّةً لَاحِقَةً، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَالِي الْبَلَدَيْنِ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ طَالَبَهُ وَالِي الْبَلَدِ الْآخَرِ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ فَأَخْبَرَهُ بِأَدَائِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، فَإِنْ صَدَّقَهُ لَمْ يُحَلِّفْهُ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ، أَحْلَفَهُ، وَفِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِظْهَارٌ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ لَا بِنُكُولِهِ وَلَكِنْ بِالظَّاهِرِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الْأَدَاءِ مُخَالِفٌ لَهُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِنُكُولِهِ لَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ، أَوْ يُؤَدِّيَ، لِأَنَّ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ حُكْمًا عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ غَلَطٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى نَفْسِهِ، فَأَمَّا غَلَطُهُ عَلَى الشَّافِعِيِّ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ خَالَفَ نَصَّ مذهبه.(3/125)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَهِلَ تَعْلِيلَ قَوْلِهِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ الظَّاهِرُ الْمُتَقَدِّمُ لَا النكول الطارئ، وأما غلطه على نفسه فإنه أَوْجَبَ حَبْسَ رَبِّ الْمَالِ بِنُكُولِهِ، وَالنُّكُولُ لَا يُوجِبُ الْحَبْسَ، كَمَا لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ فكان ما ارتكبه مساوياً لمثل ما أذكره.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو قال المصدق هي وديعة أو لم يحل عليها الحول صدقة وإن اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ مَالٌ إِلَّا بِأَوْصَافٍ وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ مِنْهَا الْمِلْكُ وَالسَّوْمُ وَالْحَوْلُ، فَإِذَا كَانَ بِيَدِ رَجُلٍ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَطَالَبَهُ السَّاعِي بِزَكَاتِهَا، فَذَكَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ له وإنها بيده وَدِيعَةٌ فَيَنْبَغِي لِلسَّاعِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ مَالِكِهَا، فَإِنْ أَخْبَرَ بِهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِ السَّاعِي صِدْقُ قَوْلِهِ لَمْ يُحَلِّفْهُ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ مُصَدَّقٌ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ وَارْتَابَ بِقَوْلِهِ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا وَجْهًا وَاحِدًا، لِأَنَّهُ أَمِينٌ قَدِ اسْتَنَدَ إِلَى ظَاهِرٍ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَالِكِهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ صُدِّقَ لَمْ يُحَلَّفْ وَإِنِ اتُّهِمَ أُحْلِفَ اسْتِظْهَارًا كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِمَالِكِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ضَعِيفٌ، يُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِمَالِكِهَا. لِأَنَّ لِلْيَدِ ظَاهِرًا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ اليد تدل على الملك إذا اعتبرت بِدَعْوَى صَاحِبِ الْيَدِ، فَأَمَّا مَعَ إِنْكَارِهِ فَلَا اعْتِبَارَ بِيَدِهِ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الْيَدِ هِيَ ملكي لكن لم يحل عليها الحول، فالقول قوله، وإن صَدَّقَهُ السَّاعِي فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَإِنِ اتَّهَمَهُ أَحْلَفَهُ اسْتِظْهَارًا، لِأَنَّهُ فِي إِنْكَارِ الْمِلْكِ وَالْحَوْلِ وَالسَّوْمِ يَرْجِعُ إِلَى ظَاهِرٍ يُعَاضِدُ قَوْلَهُ مِنْ غير إقرار يقدم بِالْوُجُوبِ، فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْيَمِينُ فِيهِ اسْتِظْهَارًا، وَاللَّهُ أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ شَهِدَ الْشَاهِدَانِ أَنَّ لَهُ هَذِهِ الْمِائَةَ بعينها من رأس الحول فقال قد ثم بعتها اشتريتها صَدَّقَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ طَالَبَهُ السَّاعِي بِزَكَاتِهَا، فَذَكَرَ أَنَّ حَوْلَهَا لَمْ يَحُلْ فَقَبِلَ السَّاعِي قَوْلَهُ، ثُمَّ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهَا كَانَتْ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ.
قَالَ الشافعي: لا أقبل شهادتهما حتى يقطعا الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا بِأَنْ يَقُولَا كَانَتْ هَذِهِ الْغَنَمُ وَيُشِيرَا إِلَيْهَا لِهَذَا الرَّجُلِ وَيُشِيرَا إِلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنْ زَادَا أو تمما الشهادة لو قَالَا لَا نَعْلَمُ أَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ كَانَ أَحْوَطَ فَإِنْ صَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا فَعَلَى السَّاعِي أن يرجع(3/126)
إِلَى رَبِّهَا فَيُطَالِبُهُ بِزَكَاتِهَا، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْعَادِلَةَ خَيْرٌ مِنَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ، فَإِنْ قِيلَ: وَلِمَ أَجَزْتُمْ شَهَادَتَهُمَا وَقَدْ شَهِدَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَشْهَدَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَرْنِي الَّذِي أَنَا فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ فِي النَّاسِ حَتَى يَشْهَدَ الشُّهُودُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يستشهدوا.
قيل: إنما اجتزينا بهذه الشهادة؛ لأنها تتعلق بحق الله تعالى يَسْتَوِي فِيهِ الشَّاهِدُ وَالْمُطَالِبُ فَحَسُنَ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، وَكَذَلِكَ حُقُوقُ الْأَيْتَامِ وَالضُّعَفَاءِ وَمَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُعَاضِدَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ الشَّهَادَةِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا فِيهَا "، فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، وَيُحْمَلُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَلَى دَعَاوَى الْخُصُومِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَيَكُونُ الْحَدِيثَانِ مَعًا مُسْتَعْمَلَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي الشَّاهِدَيْنِ إِنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا أَمْ لَا؟ قِيلَ إِنْ كَانَا مِنْ جِيرَانِ الْمَالِكِ وَأَهْلِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا قَدْ يُتَّهَمَانِ أَنْ يَجُرَّا بِالشَّهَادَةِ نَفْعًا إِلَى أَنْفُسِهِمَا، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْخَائِنِ وَلَا ذِي غَمْرٍ، وَلَا شَهَادَةُ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ " يَعْنِي بِذِي الْغَمْرِ الْعَدُوَّ، وَالْقَانِعُ: السَّائِلُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَعَاهَدُونَهُ بِالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ، وَإِنْ كان مِنْ غَيْرِ جِيرَانِ الْمَالِكِ، وَمِمَّنْ لَا تُفَرَّقُ بينهما تِلْكَ الزَّكَاةُ لِبُعْدِهِمَا فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ الرِّيبَةِ عَنْهُمَا.
وَالثَّانِي: لَا تُقْبَلُ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ بِأَنْ تَؤُولَ الصَّدَقَةُ إِلَيْهِمَا، فَإِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ بِأَنَّهَا فِي يَدِهِ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ، طُولِبَ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ أَكْذَبَ الْبَيِّنَةَ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى إِكْذَابِهِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ جَبْرًا، وإن أصدق الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَاعَهَا فِي تضاعيف الحول شراء ثُمَّ ابْتَاعَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذِهِ الدَّعْوَى تُوَافِقُ الظَّاهِرَ أَوْ تُخَالِفُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلظَّاهِرِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْيَمِينُ اسْتِظْهَارًا فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ فَإِنْ نَكَلَ عَنْهَا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ.(3/127)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَرَّتْ بِهِ سَنَةٌ وَهِيَ أَرْبَعُونَ فَنَتَجَتْ شَاةٌ فَحَالَتْ عَلَيْهَا سَنَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ إِحْدَى وأربعون فنتجت شاة فحالت عليها سنة ثالثة وهي اثنان وَأَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ سَائِرُ فُرُوعِهَا، اخْتِلَافُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الزَّكَاةِ، هَلْ تَجِبُ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَلَهُ في ذلك قولان:
أحدهما: وهو قوله أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ لَا فِي عَيْنِ مَالِهِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ وَلَيْسَتِ الشَّاةُ فِي عَيْنِ الْمَالِ فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي الْمَالِ وَكَانَ الْمَسَاكِينُ فِيهَا شُرَكَاءُ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ إِبْطَالُ شَرِكَتِهِمْ وَالِانْتِقَالُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِمْ، كَسَائِرِ الشُّرَكَاءِ فِي غَيْرِ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا كَانَ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهِ، دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي ذِمَّتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي عَيْنِ الْمَالِ لا في الذمة لقول اللَّهِ تَعَالَى {وَالّذِينَ فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (المعارج: 24) فاقتضى كلامه هَذَا اللَّفْظِ وَصَرِيحُهُ إِيجَابُ الزَّكَاةِ فِي عَيْنِ الْمَالِ دُونَ ذِمَّةِ رَبِّهِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِي أَرْبَعِينَ شاةٍ شاةٌ " فَأَوْجَبَ الشَّاةَ فِي عَيْنِهَا وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي ذِمَّةِ رَبِّهَا وَلِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَالِ كَالدَّيْنِ وَالْفَرْضِ وَكُلَّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ يَبْطُلُ بِتَلَفِ الْمَالِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، فَلَمَّا بَطَلَتِ الزَّكَاةُ بِتَلَفِ الْمَالِ بَعْدَ الْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي عَيْنِ الْمَالِ دُونَ ذِمَّةِ المالك.
فصل
: قال فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ، فَعَلَى الْقَوْلِ القديم: أن الزكاة واجبة في الذمة، واختلف أَصْحَابُنَا هَلِ الْعَيْنُ مُرْتَهَنَةٌ بِهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْعَيْنِ فِي الْوُجُوبِ، وَلَا تَكُونُ الْعَيْنُ مُرْتَهَنَةً بِهَا لِأَنَّ الْعَيْنَ لَوْ كَانَتْ مُرْتَهَنَةً بِهَا مَا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي الْعَيْنِ قَبْلَ أَدَاءِ زَكَاتِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي الرَّهْنِ قَبْلَ نكاحه فَلَمَّا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِلْوُجُوبِ بِهَا، وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ وَعَلَيْهِ فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْعَيْنَ مُرْتَهَنَةٌ بِمَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، كَالْعَبْدِ الْجَانِي رَقَبَتُهُ مُرْتَهَنَةٌ بِجِنَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلسَّيِّدِ أَدَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رَقَبَتِهِ، فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ، وَإِلَّا أَخَذَ السَّاعِي ذَلِكَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ وَبِذَلِكَ جَرَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَسِيرَةُ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَأَمَّا عَلَى الْجَدِيدِ: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ فَفِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قَوْلَانِ:(3/128)
أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ اسْتِحْقَاقٍ وَمِلْكٍ فَيَكُونُ الْفَرْضُ الْوَاجِبُ مِلْكًا لِلْمَسَاكِينِ هُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ، لَكِنْ سُومِحَ رَبُّ الْمَالِ بِأَنْ أُبِيحَ لَهُ إِعْطَاءُ الْبَدَلِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَالُ الْغَنِيمَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وُجُوبٌ مُرَاعًى لَا وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ وَنَظِيرُ ذَلِكَ تَعَلُّقُ الْجِنَايَةِ بِثَمَنِ الْعَبْدِ وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِمَالِكِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا وَتَمَهَّدَ مَا قَرَّرْنَا وَكَانَ مَعَ رَجُلٍ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ وَمِلْكٍ، فَعَلَيْهِ شَاةٌ وَاحِدَةٌ لِلسَّنَةِ الْأُولَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلسَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، لِنُقْصَانِهَا عَنِ النِّصَابِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الْعَيْنِ وُجُوبًا مُرَاعًى نَظَرْتَ فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْغَنَمِ مِنْ عَرَضٍ أَوْ عَقَارٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ غَيْرَ هَذِهِ الْغَنَمِ فَفِي قَدْرِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا هَلْ عَلَيْهِ زَكَاتُهَا أَمْ لَا؟ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا زكاة عليه فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُخْرِجُ ثَلَاثَ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ، فَصَارَ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ زَكَاتِهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ.
أَحَدُهَا: زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالثَّانِي: زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهَا وجبت عليه الثلاث زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ.
وَالرَّابِعُ: إِنْ كان موسراً بغيرها وجبت عليه زكاة الثلاث سنين، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا بِغَيْرِهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ شَاةً لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ سَوَاءً قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ فِي الْعَيْنِ لِكَمَالِ النِّصَابِ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ فَنَتَجَتْ شَاةً ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا حَتَّى نَتَجَتْ شَاةً، ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ الثَّالِثُ فَهَذَا عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، لِأَنَّ الشَّاةَ الْمُسْتَحَقَّةَ فِي كُلِّ عَامٍ قَدْ خَلَفَتْهَا شَاةٌ مِنَ النِّتَاجِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ضلت أو غصبها أحوالاً فوجدها زكاها لأحوالها والإبل التي فريضتها من الغنم ففيها قولان أحدهما أن الشاة التي فيها في رقابها يباع منها بعير فتؤخذ منه إن لم يأت بها وهذا أشبه القولين والثاني إن في خمس من الإبل(3/129)
حال عليها ثلاثة أحوالٍ ثلاث شياهٍ في كل حولٍ شاة (قال المزني) الأول أولى به لأنه يقول في خمس من الإبل لا يسوي واحدها شاة لعيوبها إن سلم واحداً منها فليس عَلَيْهِ شاةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَكَانَ مِنْ وَرِقٍ أَوْ مَاشِيَةٍ فَضَلَّ مِنْهُ أَوْ غُصِبَ، أَوْ دَفَنَهُ فِي مَوْضِعٍ فَنَسِيَهُ، أَوْ غَرِقَ فِي بَحْرٍ لَمْ يَجِدْهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ عَوْدِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الضَّالُّ، وَاسْتَرْجَعَ الْمَغْصُوبَ، وَوَجَدَ الْمَدْفُونَ، وَوَصَلَ إِلَى الْغَرِيقِ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَحْوَالٍ، فَفِي إِيجَابِ زَكَاةِ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي القديم: لا زكاة عليه ووجه ذلك اثنان.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ كالمواشي والزرع وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ دُونَ مَا لَيْسَ بِنَامٍ كَالدُّورِ وَالْعَقَارَاتِ فَلَمَّا كَانَ الْمَغْصُوبُ مَعْدُومَ النَّمَاءِ وَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ وَهَاءَ الْمِلْكِ وَنُقْصَانَ التَّصَرُّفِ يَمْنَعَانِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، كَالْمُكَاتَبِ الَّذِي لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، لِوَهَاءِ مِلْكِهِ، وَنُقْصَانِ تَصَرُّفِهِ، وَرَبُّ الضَّالَّةِ، وَالْمَغْصُوبُ وَاهِي الْمِلْكِ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِيمَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا زكاة على مال حتى يحول عليه الْحَوْلُ "، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ فِيمَا ضَلَّ أَوْ غُصِبَ بَاقٍ، عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الزَّكَاةُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ إِذَا كَانَ نَامِيًا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ النَّمَاءُ مَفْقُودًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَبَسَ مَالَهُ عَنْ طَلَبِ النَّمَاءِ حَتَّى عَدِمَ الدَّرَّ وَالنَّسْلَ وَأَرْبَاحَ التِّجَارَاتِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ، كَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَهِيَ النُّكْتَةُ وَفِيهَا انفصال عن الاستدلال الأول، فأما الاستدال الثَّانِي فَرَدُّهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ المعنى في سقوط الزكاة من الْمُكَاتَبِ نُقْصَانُ مِلْكِهِ لَا نُقْصَانُ تَصَرُّفِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ نَاقِصُ التَّصَرُّفِ، وَالزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ وَاللَّهُ أعلم.
فصل
: إذا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ وَكَانَ الْمَالُ الْمَغْصُوبُ مَاشِيَةً فلهذا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً عِنْدَ مَالِكِهَا وَغَاصِبِهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً عِنْدَ مَالِكِهَا وَغَاصِبِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مَعْلُوفَةً عِنْدَ مَالِكِهَا سَائِمَةً عِنْدَ غَاصِبِهَا.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ سائمة عند مالكها معلوفة عند غاصبها، فإن كَانَتْ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَ الْمَالِكِ وَالْغَاصِبِ فَلَهَا حَالَانِ:(3/130)
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الْمَالِكِ بِلَا دَرٍّ وَلَا نَسْلٍ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْقَوْلَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ بَدَرِّهَا وَنَسْلِهَا فَعِنْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّ عَلَيْهِ زَكَاتَهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَدِيمِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ فَقْدُ النماء فاقتضى أن يكون وجود النماء موجب لها، وعند أبي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَيْضًا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْقَدِيمِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ وَهَاءُ الْمِلْكِ، وَنُقْصَانُ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ وَإِنْ كَانَ النَّمَاءُ مَرْدُودًا وَهَذَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْمَالِكِ سَائِمَةً عِنْدَ الْغَاصِبِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهَا، لِأَنَّ السَّوْمَ إِنَّمَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ إِذَا كَانَ مَقْصُودًا، فَأَمَّا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْمَالِكُ فَلَا حُكْمَ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاشِيَةَ لَوْ خَرَجَتْ مِنْ يَدِهِ وَرَعَتْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَوْمًا يُوجِبُ الزَّكَاةَ، كَذَلِكَ سَوْمُ الْغَاصِبِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَكُونُ سَوْمُ الْغَاصِبِ كَسَوْمِ الْمَالِكِ فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، قَالَ: لِأَنَّ مَنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا كَانَ عَلَى الْمَالِكِ زَكَاتُهَا كَذَلِكَ، إِذَا غَصَبَ مَاشِيَةً فَسَامَهَا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ على الملاك زَكَاتُهَا، وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّوْمِ وَالزِّرَاعَةِ أَنَّ السَّوْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدٍ، لِأَنَّ الْمَاشِيَةَ لَوْ رَعَتْ بِنَفْسِهَا لم يكن له عليها حُكْمٌ، وَالزِّرَاعَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى قَصْدٍ، أَلَا ترى أنه لو نقل طعاماً ليحرزه فانتثر بَعْضُهُ وَنَبَتَ وَبَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ حَبًّا لَزِمَتْهُ زكاته، وإن لم يقصد زراعته.
فصل
: فلو كَانَتْ سَائِمَةً عِنْدَ الْمَالِكِ مَعْلُوفَةً عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّهَا غَيْرُ سَائِمَةٍ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُ حُكْمُ سَوْمِهَا ثَابِتٌ وَإِنْ عَلَفَهَا الْغَاصِبُ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ عَلَى قَوْلَيْنِ: قَالَ كَمَنْ غَصَبَ فِضَّةً فَصَاغَهَا حُلِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْقِطًا لزكاتها عن الملاك، ولو كان المالك صَاغَهَا سَقَطَ عَنْهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ زَكَاتُهَا، كَذَلِكَ إِذَا غَصَبَ سَائِمَةً فَعَلَفَهَا لَمْ تَسْقُطْ عَنِ الْمَالِكِ زَكَاتُهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ صياغة المالك كصياغة الغاصب فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ كَذَلِكَ عَلْفُهُ لَا يَكُونُ كَ " عَلْفِ الْمَالِكِ " فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا الْجَمْعُ غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَلْفَ الْغَاصِبِ كَ " عَلْفِ الْمَالِكِ " لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيهِ وإنما هو عاص لغصبه وَصِيَاغَةُ الْغَاصِبِ بِخِلَافِ صِيَاغَةِ الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ عَاصٍ فِي الصِّيَاغَةِ كَمَعْصِيَتِهِ فِي الْغَصْبِ، وَصِيَاغَةُ الْحُلِيِّ المحظور غير مسقط لِلزَّكَاةِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ صِيَاغَةُ الْغَاصِبِ كَصِيَاغَةِ الْمَالِكِ، وَكَانَ عَلْفُ الْغَاصِبِ كَعَلْفِ الْمَالِكِ.
فَصْلٌ
: فأما إذا غصب المالك عن طلبه كَأَنْ أُسِرَ وَحُمِلَ إِلَى دَارِ الرُّومِ، ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْدَ حَوْلٍ أَوْ أَحْوَالٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أن عَلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا لَوْ غُصِبَ عَنْهُ مَالُهُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ.(3/131)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ لَوْ غُصِبَ عَنْهُ مَالُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَإِذَا غُصِبَ عَنْ مَالِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَمْكَنَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ حَاكِمٍ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا وَكَانَ مع رجل أربعون شاة فضلت منه أو غصبت فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ أَصْلًا إِذَا قِيلَ: إِنَّ زَكَاةَ الْمَغْصُوبِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ كُلِّهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمَغْصُوبَ يُزَكَّى وَإِنَّهَا في الذمة وهو موسر بها.
والقول الثالث: عَلَيْهِ زَكَاةُ السَّنَةِ الْأُولَى إِذَا قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الْعَيْنِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ شَاةً ضَلَّتْ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ.
فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ كُلِّهَا لِوُجُودِ النِّصَابِ بَعْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهَا فَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ ضَلَّتْ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الضَّالَّ أَوِ الْمَغْصُوبَ لا زكاة فيه فلا وَإِنْ قِيلَ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَعَلَيْهِ زَكَاةُ السِّنِينَ الثَّلَاثِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا فِي الْعَيْنِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَحَدُهُمَا: شَاةٌ وَاحِدَةٌ لِلسَّنَةِ الْأُولَى لَا غَيْرَ عَلَى مَا مَضَى، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: ثَلَاثُ شِيَاهٍ لِلسِّنِينَ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ فَرْضَهَا مِنْ غير جنسها فلم يتعلق وجوبه بغيرها، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ فُرُوعِهِ.
فصل
إذا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَضَلَّتْ مِنْهَا شَاةٌ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ عَادَتْ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ حيث أسقط زكاة المال، يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ عَوْدِهَا، وَعَلَى قَوْلِهِ الجديد حيث أوجب زكاة المال يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ الْمَاضِي، وَيُزَكِّي عِنْدَ آخِرِهِ، فَلَوْ كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَمَاتَ مِنْهَا في تضاعيف حولها شَاةٌ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُ الشَّاةِ أَسْبَقَ مِنَ النِّتَاجِ اسْتَأْنَفَ بِهَا الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ مَا نَتَجَتْ، وَإِنْ كَانَ النِّتَاجُ أَسْبَقَ مِنْ مَوْتِ الشَّاةِ بَنَى عَلَى الْمَاضِي مِنْ حَوْلِهَا، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الشَّاةِ وَنِتَاجُ الْأُخْرَى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَنَى عَلَى الْحَوْلِ وَزَكَّى لِأَنَّ النِّصَابَ لَمْ يُنْقَصْ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً مَضَى مِنْ حَوْلِهَا ستة أشهر ثم ضلت أَوْ غُصِبَتْ وَرُدَّتْ إِلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ زَكَاةَ الْمَغْصُوبِ وَاجِبَةٌ فَالزَّكَاةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ، لِحُلُولِ حَوْلِهَا فِي(3/132)
يَدِهِ وَيَدِ الْغَاصِبِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ زَكَاةَ المغصوب غير واجبة فهي تبنى عَلَى السِّتَّةِ الْأَشْهُرِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ الْغَصْبِ أَوْ يَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ بَعْدَ رُجُوعِهَا مِنَ الْغَصْبِ عَلَى وجهين.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ارتد فحال الحول على غنمه أوقفته فإن تاب أخذت صدقتها وإن قتل كانت فيئاً خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها لأهل الْفَيْءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ارْتَدَّ رب المال عن الإسلام فله حالان:
أحدهما: أن يكون بعد الحول.
والثاني: أن يكون قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَالزَّكَاةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، سَوَاءٌ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ إِمْكَانَ الْأَدَاءِ مِنْ شَرَائِطِ الضَّمَانِ أَوْ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ قَبْلَ الْحَوْلِ، ثُمَّ بَقِيَ مُرْتَدًّا حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِي تَخْرِيجِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مِلْكِهِ هَلْ يَكُونُ ثَابِتًا أَوْ مَوْقُوفًا، أَوْ زَائِلًا؟ فأحد الأقاويل وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. إِنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ قُتِلَ مُرْتَدًّا أَوْ مَاتَ كَانَ مَالُهُ فَيْئًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ أُخِذَتْ زَكَاتُهُ سَوَاءٌ تَابَ أَوْ قُتِلَ.
فَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ زَوَالُ مِلْكِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْرِيجِهِ، لِاخْتِلَافِهِمْ فِي تَأْوِيلِ لَفْظَةٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ التَّدْبِيرِ فَقَالَ: لِأَنَّ مِلْكَهُ خَارِجٌ عَنْهُ فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ مَعْنَاهُ إِنَّهُ خَارِجٌ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ: " إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مِلْكِهِ " وَيُخَرِّجُ قَوْلًا ثَالِثًا إِنَّ مِلْكَهُ زَائِلٌ فَعَلَى هَذَا لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَابَ، اسْتَأْنَفَ حول وسنذكر توجيه الأقاويل في موضعه إن شاء الله.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو غل صدقته عذر إِنْ كَانَ الْإِمَامُ عَدْلًا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الجهالة ولا يعذر إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ عَدْلًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَتَمَ الرَّجُلُ مَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ عَنِ السَّاعِي وَأَخْفَاهُ عَنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ زَكَاتَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْإِمَامِ مِنْ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي الزَّكَاةِ، أَوْ جَائِرًا فِيهَا، فَإِنْ كَانَ جَائِرًا، يَأْخُذُ فَوْقَ الْوَاجِبِ أَوْ يَأْخُذُ الواجب ويصرفه في غير مستحقيه فلا تعزيز عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِكَتْمِهِ وَإِنْ كَانَ عَادِلًا(3/133)
فَلِرَبِّ الْمَالِ حَالَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدَّعِيَ شُبْهَةً فَيَقُولَ لَمْ أَعْلَمْ بِتَحْرِيمِ كَتْمِهَا وَهُوَ حَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فَهَذَا مَعْذُورٌ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ قَدْرُ الواجب عليه من غير تعذير، والثاني: أن تكون له شبهة كَتْمِهَا وَمَنَعَ الْإِمَامَ مِنْهَا لِعِلْمِهِ بِوُجُوبِهَا فَيَكُونَ بِكَتْمِهَا عَاصِيًا، آثِمًا، وَيُعَزِّرُهُ الْإِمَامُ أَدَبًا وَزَجْرًا، ويأخذ منه زَكَاتِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ وَشَطْرُ مَالِهِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ غَلَّ صَدَقَتَهُ فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا لَيْسَ لِآلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا نَصِيبٌ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا ثنيا فِي الصَّدَقَةِ " أَيْ: لَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ.
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِالْحَدِيثِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ صَحَّ إِسْنَادُهُ وَثَبَتَ نَقْلُهُ عَمِلَ عَلَيْهِ وصبر إِلَيْهِ، لِأَنَّ رِوَايَةَ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ ضَعِيفَةٌ.
وقال أبو العباس بَلْ مَعْنَاهُ إِنْ صَحَّ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَلَمْ يَكُنْ أَصْلٌ يَدْفَعُهُ وَلَا إِجْمَاعٌ يُخَالِفُهُ عُمِلَ عَلَيْهِ، وَأُصُولُ الشَّرْعِ تَدْفَعُهُ وإجماع الصحابة على ترك العمل به فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعَ صِحَّةِ إِسْنَادِهِ حُجَّةٌ والله أعلم.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ ضَرَبَتْ غَنَمَهُ فُحُولُ الظِّبَاءِ، لَمْ يَكُنْ حكم أولادها كحكم الْغَنَمِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْبَغْلِ فِي السُّهْمَانِ حُكْمُ الْخَيْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الظِّبَاءُ وَجَمِيعُ الصَّيْدِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا، لِاسْتِوَاءِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فِي تَمَلُّكِهَا، وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْمُتَوَلَّدُ مِنْ ظِبَاءٍ وَغَنَمٍ، أَوْ مِنْ بَقَرِ وَحْشٍ وَأَهْلِيَّةٍ فَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ ظِبَاءً، وَالْفُحُولُ غَنَمًا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ غَنَمًا وَالْفُحُولُ ظِبَاءً فَلَا زَكَاةَ فِيهَا أَيْضًا، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الظِّبَاءِ فِي الضَّحَايَا وَالْجَزَاءِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: حُكْمُهَا حُكْمُ الْغَنَمِ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَتَجُوزُ فِيهَا الضَّحَايَا، وَلَا يَجِبُ(3/134)
فِي قَتْلِهَا الْجَزَاءُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الْمِلْكِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الزَّكَاةِ، أَلَا تَرَى أن ولد الأمة ملك لسيدها، ولو نَزَا فَحْلُ رَجُلٍ عَلَى شَاةٍ لِغَيْرِهِ كَانَ الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الشَّاةِ دُونَ الْفَحْلِ.
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَرَبَتْ فُحُولُ الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ إِنَاثَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي أَوْلَادِهَا تَبَعًا لِأُمَّهَاتِهَا، وَلَمْ يَكُنْ سُقُوطُ الزَّكَاةِ فِي الْآبَاءِ بِمُسْقِطٍ لِلزَّكَاةِ فِي الْأَوْلَادِ، كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفُحُولُ ظِبَاءً وَالْأُمَّهَاتُ غَنَمًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْجَزَاءُ فِيمَا تَوَلَّدَ مِمَّا فِيهِ الْجَزَاءُ وَمَا لا جزاء فيه ك " السبع " الْمُتَوَلَّدِ مِنَ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْجَزَاءِ، اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيمَا تَوَلَّدَ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ وَمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الزَّكَاةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: هُوَ أنه متولد من خسيس لَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا زَكَاةٌ بِحَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ لا تكون فِيهِ زَكَاةٌ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ ظِبَاءً وَالْفُحُولُ غَنَمًا، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَوَلَّدُ مِنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ، لِأَنَّ الْمَعْلُوفَ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْإِيجَابُ وَالْإِسْقَاطُ غَلَبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ، كَمَا لَوْ عَلَفَهَا بَعْضَ الْحَوْلِ وَسَامَهَا الْبَعْضَ، وَلِأَنَّ الْخَيْلَ يُسْهَمُ لَهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَتَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَ أبي حنيفة، وَالْحَمِيرُ لَا يُسْهَمُ لَهَا وَلَا زَكَاةَ فِيهَا، ثُمَّ الْبَغْلُ لَا يُسْهَمُ لَهُ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ أَبِيهِ فِي الْإِسْقَاطِ، كَذَلِكَ فِيمَا تَوَلَّدَ مِنْ ظِبَاءٍ وَغَنَمٍ، وَبِهَذَا يَسْقُطُ جَمِيعُ مَا اعْتَبَرُوهُ مِنْ لُحُوقِ الْوَلَدِ بِحُكْمِ أُمِّهِ، ثُمَّ قَدْ يَتْبَعُ الْوَلَدُ أَبَاهُ أَيْضًا دون أمه في النسب، وقد يجمعه فِي الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ الْوَلَدِ لِأُمِّهِ فِي الْمِلْكِ دَالًّا عَلَى اتِّبَاعِهِ لَهَا فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ مَعْلُوفَةٍ وَسَائِمَةٍ فَلِأَنَّ الْمَعْلُوفَةَ مِنْ جِنْسٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالظِّبَاءَ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ جِنْسِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ فِي الْجَزَاءِ الْإِثْبَاتُ دُونَ الْإِسْقَاطِ كَذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، فَبَاطِلٌ بِالْبَغْلِ غَلَبَ فِيهِ الْإِسْقَاطُ دُونَ الْإِثْبَاتِ، وذكر في الدرس جواباً آخر وإن ألحقناه بالصيد في وجوب الجزاء لقتله ألحقناه أيضاً في تحريم أَكْلِهِ فَوَقَفَ الدَّلِيلُ فِيهِ ثُمَّ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الزَّكَاةِ بِالْجَزَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعْنًى جامع وبالله التوفيق.(3/135)
باب صدقة الخلطاء
قال الشافعي رضي الله عنه: جاء الحديث " لا يجمع بين مفترق وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ".
قال الماوردي: وهذا صحيح الملكة من المواشي ضربان: (الأول) خلطة أعيان. (والثاني) وخلطه أَوْصَافٍ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا سَوَاءٌ، إِذَا كَانَتْ شَرَائِطُ الْخُلْطَةِ فِيهِمَا مَوْجُودَةً، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُرَاعَى فِي زَكَاتِهَا الْمَالُ أَوِ الْمُلَّاكُ، عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرَاعَى فِيهِ الْمَالُ دُونَ الْمُلَّاكِ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ أَوْ خُلَطَاءَ زَكَّوْا زَكَاةَ الْوَاحِدِ، وَكَانَ على جماعتهم شاة، ولو كان مائة وعشرين شاة بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ، كَانَ عَلَيْهِمْ شَاةٌ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهَا، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
المذهب الثَّانِي: قَالَهُ أبو حنيفة وَالثَّوْرِيُّ: أَنَّ الْمُرَاعَى الْمُلَّاكُ، وَأَنَّ الْخَلِيطَيْنِ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الِاثْنَيْنِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ مَالَهُ دُونَ النِّصَابِ ولو كان ثَمَانُونَ شَاةً وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شاة، ولو كانت مائة وعشرين بَيْنَ ثَلَاثَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَيْسَ لخلطهم تَأْثِيرٌ فِي الزَّكَاةِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: قَالَهُ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ نِصَابٌ زَكَّيَا زَكَاةَ الْوَاحِدِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ فَحُكْمُهُ حكم الانفراد كقول أبي حنيفة كان يَقُولُ فِي خَلِيطَيْنِ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ كَانَ عَلَيْهِمَا شَاةٌ.
فَصْلٌ
وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أبي حنيفة بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَلَّاهُ الْبَحْرَيْنِ كَتَبَ لَهُ كِتَابَ الصَّدَقَاتِ، وَقَالَ فِيهِ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ فَلَا شَيْءَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، وما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا خِلَاطَ وَلَا وِرَاطَ " يُرِيدُ أَنَّ الْخُلْطَةَ فِي الْمَوَاشِي لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الزَّكَوَاتِ، وَلِأَنَّ مِلْكَ(3/136)
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاقِصٌ عَنِ النِّصَابِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَهُ زَكَاةٌ كَالْمُنْفَرِدِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِالْحَوْلِ وَالنِّصَابِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْحَوْلِ وَوَجَبَ اعْتِبَارُ حَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي النِّصَابِ، وَيُعْتَبَرُ نِصَابُ كل واحد منهما، على انفراد، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيِ الزَّكَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ بِالْخُلْطَةِ كَالْحَوْلِ، وَلِأَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ مُقَدَّرٌ كَمَا أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مُقَدَّرٌ، فَلَمَّا كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي سَرِقَةِ نِصَابٍ لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَبْلُغَ سَرِقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخُلَطَاءُ فِي الْمَالِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا أَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِقَدْرٍ مِنَ الْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُ الِاشْتِرَاكِ وَالِانْفِرَادِ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في أربعين شاة شاة، وفي خمس من الْإِبِلِ شاةٌ، وَفِي ثَلَاثِينَ بقرةٍ تبيعٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَالِكٍ أَوْ مُلَّاكٍ وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ".
وفيه تأويلان:
أحدهما: قوله " لا يجمع بين مفترق، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ " أَيْ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْلَاكِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ مُفْرَدَةٌ، فَلَا تُجْمَعُ لِيُؤْخَذَ مِنْهَا شَاةٌ، وَتَكُونُ عَلَى تَفْرِيقِهَا لِيُؤْخَذَ مِنْهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا ثَلَاثَةً بَيْنَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مُجْتَمِعَةٌ، فَلَا تُفَرَّقُ لِيُؤْخَذَ مِنْهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ وَتَكُونُ عَلَى اجْتِمَاعِهَا لِيُؤْخَذَ مِنْهَا شَاةٌ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ عَلَى الْأَمْلَاكِ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ عَلَى الْأَمْلَاكِ، وَقَالَ أبو حنيفة أَحْمِلُ قَوْلَهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ عَلَى الْأَمْلَاكِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ عَلَى الْمِلْكِ الْوَاحِدِ، لَا عَلَى الْأَمْلَاكِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً، فَلَا تُفَرَّقُ لِيُؤْخَذَ منها ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَتَكُونُ عَلَى اجْتِمَاعِهَا فِي الْمَالِ لِيُؤْخَذَ مِنْهَا شَاةٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ بِقَوْلِهِ " فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ " فَكَانَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِفَادَةِ حُكْمٍ آخَرَ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ تَفْرِيقٍ، مَا نَهَى عَنْ جَمْعِهِ، فَلَمَّا كَانَ نَهْيُ الْجَمْعِ فِي الْأَمْلَاكِ لَا في الملك، وجب أن يكون نهي التَّفْرِيقِ فِي الْأَمْلَاكِ لَا فِي الْمِلْكِ، فَصَحَّتْ هذه الدلالة من الخبر.(3/137)
والدلالة الثانية: قَوْلُهُ " وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَالتَّرَاجُعُ يَكُونُ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ دُونَ الْأَعْيَانِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَيُؤَكِّدُهُ، رِوَايَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ، وَالسَّقْيِ، وَالرَّعْيِ " وَرُوِيَ: " وَالْفُحُولِ " وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لَوِ انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ، فَجَازَ إِذَا اشْتَرَكَا فِيهِ أَنْ تَجِبَ زَكَاتُهُ لِوُجُودِ النِّصَابِ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَالٍ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ لَا لِنُقْصَانِ النِّصَابِ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِوُجُودِ النِّصَابِ، كَمَالِ الذِّمِّيِّ وَالْمُكَاتَبِ، وَلِأَنَّ إِيجَابَ الزَّكَاةِ يَفْتَقِرُ إِلَى مَالِكٍ وَمَمْلُوكٍ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَإِنِ افْتَرَقَ الْمِلْكُ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ وإن افترق الملاك وأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " وَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ أَرْبَعِينَ فَلَا شَيْءَ فِيهَا " فَهُوَ دَلِيلُنَا: لِأَنَّهُ قَالَ الرَّجُلِ فَأَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْمَعْهُودِ، فَلَمْ يَصِحَّ حَمْلُهَا عَلَى المعهود لفقده، فكانت محمولة على الجنس، كَأَنَّهُ قَالَ وَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ سَائِمَةَ الرِّجَالِ أَرْبَعِينَ فَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لَا خِلَاطَ وَلَا وِرَاطَ " فَهَذَا حَدِيثٌ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ لِوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْحَضْرَمِيِّ، وَلِقَوْمِهِ: " مِنْ محمد رسول الله إِلَى الْأَقْيَالِ الْعَبَاهِلَةِ مِنْ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ بِإِقَامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، على البيعة شاة واليتيمة لصاحبها، وفي السيوب الخمس لَا خِلَاطَ، وَلَا وِرَاطَ، وَلَا شِنَاقَ، وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ ". قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ الْأَقْيَالَ مُلُوكٌ بِالْيَمَنِ دُونَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ، وَالْعَبَاهِلَةِ الَّذِينَ قَدْ أُقِرُّوا على ملكهم لا يزالون عنه، والبيعة أربعون من الغنم، واليتيمة الزَّائِدَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَبْلُغَ الْفَرِيضَةُ الْأُخْرَى، وَالسُّيُوبُ الرِّكَازُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَلَا أَرَاهُ أُخِذَ إِلَّا مِنَ السَّيْبِ وَهُوَ الْعَطِيَّةُ وَالْخِلَاطُ الشركة في المواشي، والوراط الخديعة والغش، والشنق مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ، وَالشَّغَارُ عَقْدُ النِّكَاحِ الْخَالِي مِنَ الصَّدَاقِ، فَهَذَا تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدٍ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ لَا خِلَاطَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ نَفْسِ الْخُلْطَةِ، وَلَيْسَ لِلزَّكَاةِ ذِكْرٌ، وَالْخُلْطَةُ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا خُلْطَةُ الْجَاهِلِيَّةِ الْوَاقِعَةُ عَلَى صِفَاتٍ حَظَرَهَا الشَّرْعُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُنْفَرِدِ فَالْمَعْنَى فِيهِ عَدَمُ النِّصَابِ، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْحَوْلِ والنصاب، فالمعنى فيه سَوَاءٌ، لِأَنَّنَا نَعْتَبِرُ النِّصَابَ مِنْ حِينِ الْخُلْطَةِ لَا فِيمَا قَبْلُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى السَّرِقَةِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُضَمَّ بَعْضُ سَرِقَاتِهِ إِلَى بَعْضٍ لَمْ تُضَمَّ سَرِقَةُ غَيْرِهِ إِلَى سَرِقَتِهِ، وَلَمَّا ضُمَّ بَعْضُ مَالِهِ إِلَى بَعْضٍ ضُمَّ مَالُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنْ قَالَ إِذَا كَانَا خَلِيطَيْنِ فِي أَرْبَعِينَ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالزَّكَاةِ كَالْمُكَاتَبِ وَالذِّمِّيِّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْخُلْطَةُ مُوجِبَةً(3/138)
لِلزَّكَاةِ، لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَزِدْ، وَهَذَا فَاسِدٌ، وَعُمُومُ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أبي حنيفة يُبْطِلُهُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ لَيْسَ يَخْلُو حَالُكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَعْتَبِرَ الْمُلَّاكَ كَاعْتِبَارِ أبي حنيفة، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِهِ، أَوْ تَعْتَبِرَ الْمِلْكَ كَاعْتِبَارِنَا فَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرْتَهُ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالزَّكَاةِ، فَيُقَالُ لَهُ إِنْ أَرَدْتَ مَعَ اجْتِمَاعِ الْمَالَيْنِ فَغَيْرُ مسلم، بل هما مخاطبان، وَإِنْ أَرَدْتَ مَعَ انْفِرَادِهِمَا، فَالْمَعْنَى فِيهِ عَدَمُ النصاب، وإذا اجتمعا كان النصاب موجوداً.
فصل
: قال الشَّافِعِيِّ: " وَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ ما لم يقسما الماشية خَلِيطَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُلْطَةَ نَوْعَانِ، خُلْطَةُ أَوْصَافٍ وَخُلْطَةُ أَعْيَانٍ، فَخُلْطَةُ الْأَعْيَانِ الشَّرِكَةُ، وَخُلْطَةُ الْأَوْصَافِ، مَا تعين مال كل واحد منهما بصفة، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تُسَمَّى خُلْطَةً لُغَةً أَوْ شَرْعًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ تُسَمَّى خُلْطَةً شَرْعًا، لَا لُغَةً؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ فِي اللُّغَةِ مَا لَمْ يتميز، وقال آخرون بل يسمى ذلك لُغَةً وَشَرْعًا، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِمِثْلِهِ فِي قصة داود {إنَّ هذَا أَخِي} ، إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيراُ مِنْ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) {ص: 24) فَسَمَّاهُمْ خُلَطَاءَ وَإِنْ كَانَتِ النَّعْجَةُ مُتَمَيِّزَةً عَنِ النِّعَاجِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يُقَسِّمَا الْمَاشِيَةَ خَلِيطَانِ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ، قِيلَ إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ خُلْطَةَ الْأَوْصَافِ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا، ثُمَّ لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ الشَّرِكَةَ خُلْطَةٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يَشُكَّ فِيهِ لَاحِقًا بِمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَتَرَاجُعُهُمَا بِالسَّوِيَّةِ أَنْ يَكُونَا خَلِيطَيْنِ فِي الْإِبِلِ فِيهَا الْغَنَمُ فَتُوجَدُ الْإِبِلُ فِي يَدَيْ أَحَدِهِمَا فيؤخذ مِنْهُ صَدَقَتُهَا فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالسَّوِيَّةِ (قَالَ) وقد يكون الخليطان الرجلين يتخالطان بماشيتهما وإن عرف كل واحدٍ منهما ماشيته ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ، إِذَا أَخَذَ السَّاعِي الزَّكَاةَ مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ، فَلِرَبِّهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْلِمْهُ السَّاعِي رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِمَّا أُخِذَ، وإن ظلمه رجع بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِنَ الْوَاجِبِ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بالزيادة التي ظلم بها، وأما خلطة الأعيان: فإن كانت فريضتها الغنم، فالجواب في التراجع على ما ذكرنا في خلطة الأوصاف، وإن كانت ماشية فريضتها منها فلا تراجع بينهما، سواء كان عدلاً أو حيفاً لأن المأخوذ منهما على قدر ماليهما، ولكن تطوع أحدهما في هذا بأن أعطى زيادة على الواجب، فإن كان بأمر شريكه فلا شيء عليه، وإن كان بغير أمره ضمن حصة شريكه من الزيادة والله أعلم.(3/139)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يُرِيحَا وَيَسْرَحَا وَيَحْلُبَا معاً ويسقيا معاً ويكون فحولتهما مختلطة فإذا كانا هكذا صدقا صدقة الواحد بكل حالٍ وَلَا يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ من يوم اختلطا ويكونان مسلمين فإن تفرقا في مراح أم مسرحٍ أو سقيٍ أو فحلٍ قبل أن يحول الحول فليسا خليطين ويصدقان صدقة الاثنين وهكذا إذا كانا شريكين (قال) ولما لم أعلم مخالفاً إذا كان ثَلَاثَةَ خُلَطَاءَ لَوْ كَانَتْ لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شاة أخذت منهم واحدةً وَصَدَّقُوا صَدَقَةَ الْوَاحِدِ فَنَقَصُوا الْمَسَاكِينَ شَاتَيْنِ مِنْ مال الخلطاء الثلاثة الذين لو تفرق مالهم كانت فيه ثلاثة شِيَاهٍ لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا لَوْ كانت أربعون شاةً من ثلاثةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ شاةٌ لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا الْخُلَطَاءَ صدقة الواحد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ فَزَكَاتُهَا مُعْتَبَرَةٌ بِخَمْسِ شَرَائِطَ، وَهَذِهِ الْخَمْسُ مُعْتَبَرَةٌ فِي زَكَاةِ الْمُنْفَرِدِ، شَرْطَانِ مِنْهَا فِي الْمَالِكِ، وَثَلَاثَةٌ فِي الْمَاشِيَةِ.
فَأَمَّا الشَّرْطَانِ فِي الْمَالِكِ: فَأَحَدُهُمَا: الْإِسْلَامُ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي الْحُرِّيَّةُ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْمُكَاتَبَ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمَا.
وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الَّتِي فِي الْمَاشِيَةِ: فَأَحَدُهَا النِّصَابُ.
وَالثَّانِي: الْحَوْلُ:
وَالثَّالِثُ: السَّوْمُ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي زَكَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَخُلْطَةِ الْأَعْيَانِ جَمِيعًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ فَتُعْتَبَرُ فِيهَا الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الِانْفِرَادِ، وخلطة الأعيان، ثم تختص بست شَرَائِطَ أُخْرَى تُعْتَبَرُ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ لَا غَيْرَ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَرَاحُ الَّذِي تَأْوِي إِلَيْهِ وَاحِدًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرَحُ الَّذِي ترعى فيه وَاحِدًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السَّقْيُ الَّذِي تَشْرَبُ منه مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ حَوْضٍ وَاحِدًا.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْفُحُولُ الَّتِي تَطْرُقُهَا وَاحِدَةً.
وَالْخَامِسُ: نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَلَمْ يَرْوِهِ الرَّبِيعُ أَنْ يَكُونَ حِلَابُهُمَا وَاحِدًا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَقْلِ الْمُزَنِيِّ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ فِي نَقْلِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا بِحَالٍ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَرْوِهِ عن الشافعي.(3/140)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَقْلَهُ صَحِيحٌ، وَقَدْ سَاعَدَهُ حَرْمَلَةُ فَرَوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ مِثْلَهُ فَعَلَى هَذَا فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ حِلَابِهِمَا وَاحِدًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحَالِبُ وَاحِدًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إِنَاءُ الْحَلْبِ وَاحِدًا، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَاطُ اللَّبَنَيْنِ رِبًا، كما يخلط المسافرون أزوادهم، إذ اجْتَمَعُوا لِلْأَكْلِ، وَلَا يَكُونُ رِبًا، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْحِلَابِ وَاحِدًا، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْإِمْلَاءِ " فَقَالَ وَأَنْ تَحْلِبَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ فَإِنْ تَفَرَّقَا فِي مَكَانِ الْحِلَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ زَكَّيَاهُ زَكَاةَ الِاثْنَيْنِ، فَقَدْ أَفْصَحَ بِصَوَابِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَصِحَّةِ نَقْلِ الْمُزَنِيِّ.
وَالشَّرْطُ السَّادِسُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ نِيَّةُ الْخُلْطَةِ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ لَا تَصِحُّ الْخُلْطَةُ إِلَّا بِهَا، لِأَنَّ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا فِي الزَّكَاةِ فَافْتَقَرَتْ إِلَى قَصْدٍ كَالسَّوْمِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ خَلَطَ الرُّعَاةُ الْمَوَاشِيَ بِغَيْرِ أَمْرِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ الْخُلْطَةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ النِّيَّةَ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْخُلْطَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي خلطة الاعتبار سَقَطَ اعْتِبَارُهَا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ خَلَطَ الرُّعَاةُ الْمَوَاشِيَ بِغَيْرِ أَمْرِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ عَلَى الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ ثَبَتَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ، فَهَذِهِ سِتُّ شَرَائِطَ تَخْتَصُّ بِخُلْطَةِ الْأَوْصَافِ أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْمَرَاحُ وَالْمَسْرَحُ وَالسَّقْيُ وَالْفُحُولُ، وَشَرْطَانِ مُخْتَلِفٌ فِيهِمَا وَهُمَا الْحِلَابُ وَالنِّيَّةُ.
وَأَصْلُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " والخليطان ما اختلطا فِي الرَّعْيِ وَالسَّقْيِ وَالْفُحُولِ " فَنَصَّ عَلَى بَعْضِهَا وَنَبَّهَ عَلَى بَاقِيهَا، فَلَوِ انْخَرَمَ شَرْطٌ مِنْهَا بطل حكم الخلطة وزكياه زَكَاةَ الِانْفِرَادِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الخليطين عبداً أو مكاتباً أو كاتباً زَكَّى الْحُرُّ الْمُسْلِمُ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ، وَلَوِ افْتَرَقَا فِي مَرَاحٍ أَوْ مَسْرَحٍ أَوْ سَقْيٍ أَوْ فُحُولٍ زَكَّيَا زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِمَا الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ اخْتَلَطَا " فَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَأْتِي، ونذكر ما فيها من الخلاف، فأما قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَلَمَّا لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا إِذَا كانوا ثلاثة خلطاء لو كان لَهُمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً أُخِذَتْ مِنْهُمْ شَاةٌ وَصَدَّقُوا صَدَقَةَ الْوَاحِدِ، فَنَقَصُوا الْمَسَاكِينَ شَاتَيْنِ مِنْ مال الخلطاء الثلاثة الذين لم يُفَرَّقْ مَالُهُمْ، كَانَتْ فِيهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ لَمْ يجز، إلا أن يقولوا: لو كانت أربعين شَاةً بَيْنَ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ شَاةٌ، لِأَنَّهُمْ صدقوا الخلطاء صدقة الواحد وهذا أرد بِهِ مَالِكًا حَيْثُ قَالَ لَا حُكْمَ لِلْخُلْطَةِ حَتَّى يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا، فَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ لَمَّا كَانَ ثَلَاثَةُ شُرَكَاءَ في مائة وعشرين يلزمهم شَاةٌ وَاحِدَةٌ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ رِفْقًا بِهِمْ، وَلَوْ كانوا متفرقين لزمهم ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَجَبَ إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةَ شُرَكَاءٍ في(3/141)
أَرْبَعِينَ شَاةً أَنْ تَلْزَمَهُمْ شَاةٌ صَدَقَةَ الْوَاحِدِ رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ، لِيَرْتَفِقَ الْمَسَاكِينُ فِي الْخُلْطَةِ بِمِثْلِ مَا ارْتَفَقَ بِهِ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ.
مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَبِهَذَا أَقُولُ فِي الْمَاشِيَةِ كُلِّهَا وَالزَّرْعِ وَالْحَائِطِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ حَائِطًا صَدَقَتُهُ مُجَزَّأَةٌ عَلَى مائة إنسان ليس فيه إِلَّا عَشْرَةُ أَوْسُقٍ أَمَا كَانَتْ فِيهِ صَدَقَةُ الواحد؟ وما قلت في الخلطاء معنى الحديث نفسه ثم قول عطاء وغيره من أهل العلم وروي عن ابن جريج قال سألت عطاء عن الاثنين أو النفر يكون لهم أربعون شاةً فقال عليهم شاة " الشافعي الذي شك " (قال) وَمَعْنَى قَوْلِهِ " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمَعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ " لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ خُلَطَاءَ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ شاةٍ وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ شَاةٌ لِأَنَّهَا إِذَا فُرِّقَتْ كَانَ فيها ثلاث شياةٍ ولا يجمع بين مفترق رَجُلٌ لَهُ مِائَةُ شاةٍ وَشَاةٌ وَرَجُلٌ لَهُ مائة شاة فإذا تركا مفترقين فعليهما شاتان وإذا جمعتا ففيها ثلاث شياهٍ والخشية خشيةُ السَّاعِي أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ وَخَشْيَةُ رَبِّ الْمَالِ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ فَأَمَرَ أَنْ يُقَرَّ كل على حاله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْخُلْطَةُ فِي الْمَوَاشِي فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِهَا، وَتَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ خُلْطَةُ وَصْفٍ، وَخُلْطَةُ عَيْنٍ، فَأَمَّا الْخُلْطَةُ فِيمَا عَدَا الْمَوَاشِي مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَفِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ فِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، إِنَّ الْخُلْطَةَ فِيهَا لَا تَصِحُّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الرَّعْيِ وَالسَّقْيِ وَالْفُحُولِ، فَلَمَّا جَعَلَ هَذَا شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، دَلَّ عَلَى أن الخلطة لا تصح في غير المواشي، وَلِأَنَّ الْخُلْطَةَ إِنَّمَا جَازَتْ فِي الْمَوَاشِي لِمَا يَعُودُ مِنْ رِفْقِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ تَارَةً وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أُخْرَى وَرِفْقُ الْخُلْطَةِ فِيمَا سِوَى المواشي عائد على المساكين والاستدرار بِهَا عَائِدٌ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَلِذَلِكَ صَحَّتِ الْخُلْطَةُ فِي الْمَوَاشِي لِارْتِفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ بِهَا، وَلَمْ تَصِحَّ فِيمَا عَدَا الْمَوَاشِي لِاخْتِصَاصِ الْمَسَاكِينِ بِالِارْتِفَاقِ بِهَا، وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِالِاسْتِضْرَارِ بِهَا، وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْأَمْوَالِ الْمُزَكَّاةِ كَمَا تَصِحُّ فِي الْمَوَاشِي، وَوَجْهُ ذَلِكَ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفرق " وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي زَكَاةِ الْمَوَاشِي مُعْتَبَرَةٌ في زكاة الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَإِنْ قِيلَ يَبْطُلُ بِالسَّوْمِ هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَوَاشِي دُونَ غَيْرِهَا، قِيلَ قَدْ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَهَا حُلِيًّا فَلَا تَجِبُ زَكَاتُهَا.(3/142)
فَصْلٌ
: فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْخُلْطَةَ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي لَا تَصِحُّ فَلَا زَكَاةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ حَتَّى يَكُونَ مِلْكُهُ نِصَابًا، وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْخُلْطَةَ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي جَائِزَةٌ كَهِيَ فِي الْمَاشِيَةِ صَحَّتْ فِيهَا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَزَرْعٍ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، أَوْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا أو مائة دِرْهَمٍ، فَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ فَهَلْ تَصِحُّ فِيهَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ أَرْضُ أَحَدِهِمَا تُلَاصِقُ أَرْضَ الْآخَرِ وَيَكُونَ شُرْبُهُمَا وَاحِدًا وَالْقَيِّمُ بِهِمَا وَاحِدًا، أَوْ يَكُونَ لِهَذَا مائة درهم وَيَكُونَ لِهَذَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فِي كِيسٍ، وَيَكُونُ حَافِظُهُمَا وَاحِدًا وَحِرْزُهُمَا وَاحِدًا، فَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْخُلْطَةَ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الِاخْتِلَاطِ، وَهَذِهِ مُجَاوَرَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ، لِأَنَّ مَعْنَى الْخُلْطَةِ ارْتِفَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ بِصَاحِبِهِ، وَقَدْ يَرْتَفِقَانِ فِي هذه الخلطة لقلة المؤونة.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ حائطاً صدقته مجزئة عَلَى مِائَةِ إِنْسَانٍ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا عَشْرَةُ أَوْسُقٍ أَمَا كَانَتْ فِيهِ صَدَقَةُ الْوَاحِدِ؟ وَهَذَا أَرَادَ بِهِ مَالِكًا حَيْثُ مَنَعَ مِنَ الْخُلْطَةِ فِي غَيْرِ الْمَوَاشِي، وَقَالَ فِي وَقْفٍ عَلَى جَمَاعَةٍ: أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَنَّ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةَ، فَأَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ إِفْسَادًا لِمَذْهَبِهِ وكسراً لأصله، فإن قيل هذا يَلْزَمُ مَالِكًا، لِأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ لَا يُمَلَّكُ، قُلْنَا: الْوَقْفُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَالثَّمَرَةُ مَمْلُوكَةٌ، فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ قَدْحًا دَاخِلًا عَلَيْهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي رَقَبَةِ الْوَقْفِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّ لَيْسَ له بيعة ك " ام الْوَلَدِ ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بَلْ قَدْ زَالَ الْمِلْكُ عَنْهُ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تعالى كالعبد المعتق، وعلى كل الْقَوْلَيْنِ الزَّكَاةُ فِي زَرْعِ الْوَقْفِ وَثَمَرَتِهِ وَاجِبَةٌ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْخُلْطَةَ فِيهِ لَا تَصِحُّ فَلَا زَكَاةَ حَتَّى تَبْلُغَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْخُلْطَةَ فِيهِ تَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَ جَمِيعُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إِذَا كَانَ عَلَى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، فَإِنْ كَانَ عَامًّا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنَ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ، أَوْ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُمَلَّكَ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَصَانِعِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ الزكاة تجب على ملك مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَقَفَ رِقَابَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ سَائِمَةً، فإن قيل رَقَبَةَ الْوَقْفِ لَا تُمَلَّكُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ رَقَبَةَ الْوَقْفِ مَمْلُوكَةٌ فَفِي إِيجَابِ زَكَاتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِمَنْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً فَمِلْكُهَا غير تام كالمكاتب، ألا تراه لايقدر على بيعها ورهنها، والله أعلم بالصواب.(3/143)
فصل
: قال الشافعي: وَمَعْنَى قَوْلِهِ " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمَعٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ " لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ خُلَطَاءَ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ شَاةٌ، لِأَنَّهَا إِذَا فُرِّقَتْ كَانَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، رَجُلٌ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ وَشَاةٌ، وَرَجُلٌ لَهُ مائة شاة، فإذا تركتا متفرقتين ففيها شاتان وإذا جمعا ففيها ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَالْخَشْيَةُ خَشْيَةُ السَّاعِي، أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ وَخَشْيَةُ رَبِّ الْمَالِ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ، فأمر أن يقر كل على حاله، ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَشْيَتَيْنِ: خَشْيَةُ قِلَّةِ الصَّدَقَةِ فِي تَفْرِيقِ مَا كَانَ مُجْتَمِعًا فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ عَائِدَةٌ إِلَى السَّاعِي دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَخَشْيَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فِي مائتي شاة وشاة مجتمعة بين خليطين يجب فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَإِنْ فُرِّقَتْ وَجَبَ فِيهَا شاتان لفا يَنْبَغِي لَهُمَا أَنْ يُفَرِّقَاهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرَّ كُلُّ مَالٍ على حاله في الجمع والتفريق.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَعِدَّتُهُمَا سَوَاءٌ فَظَلَمَ الساعي وأخذ مِنْ غَنَمِ أَحَدِهِمَا عَنْ غَنَمِهِ وَغَنَمِ الْآخَرِ شَاةَ رُبًى فَأَرَادَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ الشَّاةَ الرُّجُوعَ على خليطه بنصف قيمة ما أخذ عن غنمهما لم يكن له أن يرجع عليه إلا بقيمة نصف ما وجب عليه إن كانت جذعة أو ثنية لأن الزيادة ظلم (قال) ولو كانت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَجُمْلَةُ الْخُلْطَةِ ضَرْبَانِ: خُلْطَةُ أَوْصَافٍ، وَخُلْطَةُ أَعْيَانٍ، فَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ مع تعيين الْمَالَيْنِ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ.
وَالثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ التَّرَاجُعِ، فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ أَخْذِ السَّاعِي الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِمَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَالِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنَ الْمَالَيْنِ، أَوْ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهَا إِلَّا مِنْ أَحَدِ الْمَالَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُهَا إِلَّا مِنْ أَحَدِ الْمَالِينَ، كَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ شَاةً بَيْنَ خَلِيطَيْنِ، فَلِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمَا مِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ، لِأَنَّ أَخْذَهَا مِنَ الْمَالَيْنِ مُتَعَذِّرٌ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنَ الْمَالَيْنِ، كَمِائَتَيْنِ بَيْنَ خَلِيطَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ فَعَلَيْهِمَا شَاتَانِ، يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ، أَوْ يكون بينهما أربعمائة يكون لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَتَانِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّ عَلَى السَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ زَكَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حِصَّتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ زَكَاةَ جَمِيعِهَا مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهَا عَلَى خَلِيطِهِ، لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِهَا.(3/144)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبَى هُرَيْرَةَ: أَنَّ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ مَالِهِمَا، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا وَيَرْجِعَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى خَلِيطِهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ وَيَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّرَاجُعِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ السَّاعِي قَدْ أَخَذَ قَدْرَ الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الْوَاجِبَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قد أخذ غير الواجب من غير أن يعدل في الْقِيمَةِ، فَلِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى خَلِيطِهِ بقيمة حصته من الزكاة، كأن بينهما أربعون شَاةً أَخَذَ السَّاعِي زَكَاتَهَا شَاةً مِنْ مَالِ أحدهما، فله أن يرجع على شريطه بِقِيمَةِ نِصْفِهَا، فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ وَلَا بَيِّنَةَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْخَلِيطِ الْغَارِمِ مَعَ يَمِينِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّاعِي قَدْ أَخَذَ مِنْهُ قِيمَةَ الْوَاجِبِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، كَالْحَنَفِيِّ الَّذِي يَرَى أَخْذَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُجْزِئٍ وَلَيْسَ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ أَخْذَ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " إِنَّ ذَلِكَ مُجْزِئٌ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مِنَ السَّاعِي يَسُوغُ فِي الِاجْتِهَادِ فلم يجز نقضه، هذا كله إذا أخذ منه قدر الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ مُتَأَوِّلًا، كَالْمَالِكِيِّ الَّذِي يَرَى أَخْذَ الْكِبَارِ مِنَ الصِّغَارِ، فَهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِمَّا أَخَذَ مَعَ الزِّيَادَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ الزِّيَادَةَ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ، كأخذ الربا وَالْمَاخِضِ وَالْأَكُولَةِ، وَمَا أُجْمِعُ عَلَى أَنَّ دَفْعَهُ لَا يُلْزِمُ، فَهَذَا يَرْجِعُ عَلَى خَلِيطِهِ بِقِيمَةِ الواجب مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ بِالزِّيَادَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ ظَلَمَهُ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَعْيَانِ. فَلِزَكَاتِهَا حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَالِ كَالْإِبِلِ الَّتِي فَرِيضَتُهَا الْغَنَمُ، فَالْكَلَامُ فِي هَذَا كَالْكَلَامِ فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ، سَوَاءٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ والتراجع.(3/145)
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ زَكَاتُهَا مِنْ جِنْسِهَا، فَلَا تَرَاجُعَ بَيْنَهُمَا فِيمَا أَخَذَهُ السَّاعِي مِنْ مَاشَيْتِهِمَا سَوَاءٌ حَافَ أَوْ عَدَلَ، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمَا يُقَسَّطُ عَلَى قَدْرِ مَالَيْهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَأَقَامَتْ فِي يده ستة أشهر ثم باع نِصْفَهَا ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا أَخَذَ مِنْ نصيب الأول نصف شاة لحوله الأول فَإِذَا حَالَ حَوْلُهُ الثَّانِي أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ شَاةٍ لِحَوْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ مَعَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً، سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَاعَ نَصِفَهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مُشَاعًا فِي الْجُمْلَةِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ.
والثاني: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مُتَمَيِّزًا عَنِ الْبَاقِي غَيْرَ شائع في الجملة، فإن كَانَ النِّصْفُ الْمَبِيعُ مُشَاعًا، فَالْكَلَامُ فِيهِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي زَكَاةِ الْبَائِعِ، وَالثَّانِي فِي زَكَاةِ الْمُشْتَرِي فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِزَكَاةِ الْبَائِعِ، لِأَنَّ حَوْلَهُ أَسْبَقُ فَنَقُولُ قَدْ مَضَى مِنْ حوله قبل المبيع سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَالْمَالُ عَلَى حَالِهِ مُشَاعٌ فَقَدْ تَمَّ حَوْلُ الْبَائِعِ وَلَزِمَهُ إِخْرَاجُ نِصْفِ شَاةٍ، وَلَا يَكُونُ بَيْعُ النِّصْفِ مُبْطِلًا لِحَوْلِ الْبَاقِي، هَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ كَأَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ نَصِيبَهُ لَمْ يَنْفَكَّ عَنِ النِّصَابِ فِي حَوْلِهِ كُلِّهِ، لِأَنَّهُ فِي نِصْفِ الْحَوْلِ كَانَ خَلِيطًا لِنَفْسِهِ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَانَ خَلِيطًا لِغَيْرِهِ، فَكَانَ نَصِيبُهُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ شَائِعًا فِي نِصَابٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو عَلِيُّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وابن خَيْرَانَ يُخَرِّجَانِ قَوْلًا ثَانِيًا: أَنَّ الْبَيْعَ مُبْطِلٌ لما مضى من حوله، وجعل ذلك مبنياً على اختلاف قول الشَّافِعِيِّ فِي الْخُلْطَةِ، هَلْ تُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ أَوْ فِي آخِرِهِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، تُعْتَبَرُ فِي آخِرِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ تُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَبْطَلَا مَا مَضَى مِنَ الْحَوْلِ، وَأَوْجَبَا اسْتِئْنَافَهُ، لتكون الخلطة في جميع الحول، وَهَذَا التَّخْرِيجُ غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْلِيلِ بِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَصَّ عَلَى جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجَدِيدِ، حَيْثُ اعْتَبَرَ الْخُلْطَةَ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تَبْتَنِي عَلَيْهِ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي زَكَاةِ الْبَائِعِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا زَكَاةُ الْمُشْتَرِي إِذَا مَضَى عَلَيْهِ حَوْلٌ كَامِلٌ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ فَيَنْظُرُ فِي حَالِ الْبَائِعِ، فإن كان أَدَّى زَكَاتَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَالِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِنُقْصَانِ الْمَالِ عَنِ النِّصَابِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى زَكَاتَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الذِّمَّةِ فَعَلَى المشتري(3/146)
الزَّكَاةُ نِصْفُ شَاةٍ، لِأَنَّ لَهُ عِشْرِينَ شَاةً مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الْعَيْنِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ هَلْ تَجِبُ فِي الْعَيْنِ وُجُوبًا مُرَاعًى أَوْ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ؟ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تجب وُجُوبًا مُرَاعًى، فَعَلَى الْمُشْتَرِي الزَّكَاةُ أَيْضًا، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَجِبُ فِي الْعَيْنِ وُجُوبَ اسْتِحْقَاقٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ قُلْتُمْ إن استحقاق المساكين جزء من غير المال يبطل بحكم زَكَاتِهِ وَقَدْ صَارُوا خُلَطَاءَ بِهِ، قُلْنَا لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِيجَابُ الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، أَلَا ترى لَوِ اجْتَمَعَ بِيَدِ السَّاعِي أَرْبَعُونَ شَاةً سَائِمَةً فَلَمْ يُقَسِّمْهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى حَالَ حَوْلُهَا لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ، لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَقْوَامٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، فَهَذَا الْكَلَامُ فِي المبيع إذا كان مشاعاً وأقبضه البائع وقت العقد ما لم يستلمه مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، فَأَمَّا إِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ عَنْ وَقْتِ الْعَقْدِ زَمَانًا كَالشَّهْرِ أَوْ نَحْوِهِ ثُمَّ حَصَلَ الْقَبْضُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَلْ يُحْتَسَبُ بِذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ فِيهِ الْقَبْضُ مِنْ حَوْلِ الْمُشْتَرِي أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُحْتَسَبُ مِنْ حَوْلِهِ لِوُجُودِ مِلْكِهِ، فَعَلَى هذا يكون الجواب لما مَضَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُحْتَسَبُ بِهِ مِنْ حَوْلِهِ لِعَدَمِ تَصَرُّفِهِ وَأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَتِمَّ إِلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ فَعَلَى هَذَا يَسْتَأْنِفُ الْبَائِعُ الْحَوْلَ أَيْضًا مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مُخَالِطًا لِمَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا إِنْ كَانَ النِّصْفُ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا مُتَمَيِّزًا، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعَلِّمَ عَلَيْهَا، وَيُشِيرَ إِلَيْهَا، وَيَقْبِضَهَا قَبْضَ مِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفْرِدَهَا عَنِ الْجُمْلَةِ، فَهَذَانِ يُزَكِّيَانِ عَلَى مَا مَضَى فِي بَيْعِ الْمُشَاعِ سَوَاءً.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي مَا ابْتَاعَهُ مُفْرَدًا وَيُخْرِجُهُ مِنَ الْمَرَاحِ ثُمَّ يَرُدُّهُ وَيَخْلِطُهُ، فَهَذَانِ يَسْتَأْنِفَانِ الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ الْخُلْطَةِ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَرَاحِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْبِضَهَا مُفْرَدَةً مُتَمَيِّزَةً فِي الْمَرَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْهُ ثُمَّ يَخْلِطَهَا، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ قَدْ بَطَلَ حُكْمُ مَا مَضَى وَيَسْتَأْنِفَانِ الْحَوْلَ لِافْتِرَاقِ الْمَالَيْنِ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهَا مِنَ الْمَرَاحِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أبي هريرة، فإن مَا مَضَى لَا يَبْطُلُ، لِأَنَّ الْمَرَاحَ يَجْمَعُهُمَا وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي زَكَاتِهِ كَالْحُكْمِ فِي زَكَاةِ المشاع والله أعلم بالصواب.(3/147)
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو كانت له غنم يجب فِيهَا الزَّكَاةُ فَخَالَطَهُ رَجُلٌ بِغَنَمٍ تَجِبُ فِيهَا الزكاة ولم يكونا شائعاً زُكِّيَتْ مَاشِيَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَوْلِهَا ولم يزكيا زكاة الخليطين فِي الْعَامِ الَّذِي اخْتَلَطَا فِيهِ فَإِذَا كَانَ قَابِلٌ وَهُمَا خَلِيطَانِ كَمَا هُمَا زَكَّيَا زَكَاةَ الخليطين لأنه قد حال عليهما الحول من يوم اختلطا فإن كانت ماشيتهما ثمانين وحول أَحَدِهِمَا فِي الْمُحَرَّمِ وَحَوْلَ الْآخَرِ فِي صَفَرٍ أخذ منهما نصف شاةٍ في المحرم ونصف شاةٍ في صفر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلَيْنِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً خَلَطَاهَا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُمَا متفقاً.
والضرب الثاني: أن يكون حولهما مختلفاً، وإن كَانَ حَوْلُهُمَا مُتَّفِقًا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يتخالطا بعضهما مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ فَهَذَانِ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخَلِيطَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَخَالَطَا بعضهما بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، كَأَنْ مَضَى مِنْ حَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ خَلَطَا غَنَمَيْهِمَا خُلْطَةَ أَوْصَافٍ مِنْ غير تبايع فصارت غنمهما ثماني شَاةً، فَإِذَا مَضَتْ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْخُلْطَةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَقَدْ تَمَّ حَوْلُهُمَا جَمِيعًا، وَقَدْ كَانَا فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ مُنْفَرِدَيْنِ وَفِي نِصْفِهِ الثَّانِي خَلِيطَيْنِ، فَهَلْ يُزَكِّيَانِ فِي هَذَا الْعَامِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ اعْتِبَارًا بِآخِرِ الْحَوْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ اعْتِبَارُ قَدْرِ الْوَاجِبِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْخُلْطَةِ الَّتِي بِهَا يَتَغَيَّرُ قَدْرُ الْوَاجِبِ بِآخِرِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُمَا يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الِانْفِرَادِ اعْتِبَارًا بِجَمِيعِ الْحَوْلِ فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ مَعْنًى يُغَيَّرُ بِهِ فَرْضُ الزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ جَمِيعُ الْحَوْلِ كَالسَّوْمِ، وَلِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا خَلِيطَيْنِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ مُنْفَرِدِينَ في آخره زَكَّيَا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ دُونَ جَمِيعِهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَا مُنْفَرِدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ خَلِيطَيْنِ فِي آخِرِهِ يَجِبُ أَنْ يُزَكِّيَا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ دُونَ جَمِيعِهِ، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي وَهُمَا عَلَى خُلْطَتِهِمَا زَكَّيَا زَكَاةَ الْخُلْطَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يُخْتَلَفُ لِوُجُودِهَا فِي الْحَوْلِ كله.(3/148)
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَوْلُهُمَا مُخْتَلِفًا كَأَنَّ حَوْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْمُحَرَّمِ وَحَوْلَ الْآخَرِ فِي صَفَرٍ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْلِطَاهَا بَعْدَ أَنْ مَضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّةٌ مِنْ حَوْلِهِ، كَأَنَّهُمَا خَلَطَاهَا فِي غُرَّةِ رَجَبٍ وَقَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِ صَاحِبِ الْمُحَرَّمِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَمِنْ حَوْلِ صَاحِبِ صَفَرٍ خَمْسَةُ أَشْهُرٍ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَالَّتِي قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ حَوْلَهُمَا مُخْتَلِفٌ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهَلْ يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ: عَلَى الْقَدِيمِ يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، وَعَلَى الْجَدِيدِ يُزَكِّي زَكَاةَ الِانْفِرَادِ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، لَا تَصِحُّ خُلْطَتُهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ حَوْلِهِمَا حَتَّى يَكُونَ حَوْلُهُمَا مُتَّفِقًا، فَجَعَلَ اتِّفَاقَ الْحَوْلِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْخُلْطَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كان اتفاق حولهما شرطاً في الخلطة يوجب أن يكون تساوي عمالهما شَرْطًا فِي الْخُلْطَةِ أَيْضًا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ على فساد ما اعتبره، فإذا قيل إنهما يزكيان عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ شَاةٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَمْضِيَ لِأَحَدِهِمَا مُدَّةٌ مِنْ حَوْلِهِ دُونَ صَاحِبِهِ كَأَنَّ أَحَدَهُمَا مَلَكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ، وَمَلَكَ الْآخَرُ أَرْبَعِينَ شاة فِي غُرَّةِ صَفَرٍ، وَخَلَطَهَا فِي الْحَالِ بِغَنَمِ صاحب الَّتِي قَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِهَا شَهْرٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَاحِبُ الْمُحَرَّمِ الَّذِي قَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِهِ فِي الِانْفِرَادِ شَهْرٌ هَلْ يُزَّكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ أَوْ زَكَاةَ الِانْفِرَادِ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ، عَلَى الْقَدِيمِ يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ نِصْفَ شَاةٍ، وأما على الْجَدِيدِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا يُزَكِّي زَكَاةَ الْخُلْطَةِ نِصْفَ شَاةٍ لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُزَكِّي زَكَاةَ الِانْفِرَادِ شَاةً لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرْتَفِقْ خَلِيطُهُ بِهِ لَمْ يَرْتَفِقْ هُوَ بِخَلِيطِهِ.
فَصْلٌ
: رَجُلَانِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً، بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ غَنَمِهِ مُشَاعًا بِنِصْفِ غَنَمِ صَاحِبِهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَوْلِهِ، وَخَلَطَا الْمَالَيْنِ فَصَارَ جَمِيعُهُ ثَمَانِينَ شَاةً بَيْنَهُمَا مِنْهَا أَرْبَعُونَ شَاةً قَدْ مَضَى مِنْ حَوْلِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَهُمَا التي لم تدخل تحت المبيع وَأَرْبَعُونَ شَاةً لَمْ يَمْضِ مِنْ حَوْلِهَا شَيْءٌ وَهِيَ الْمَبِيعَةُ، لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ حَوْلِهَا قَدْ بَطَلَ بِالْبَيْعِ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَتَخْرِيجِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ إِذَا بَطَلَ حَوْلُ مَا بِيعَ بَطَلَ حَوْلُ غَيْرِ الْمَبِيعِ، يَقُولُ يَسْتَأْنِفَانِ حَوْلَ الثَّمَانِينَ مِنْ وَقْتِ التَّبَايُعِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِنَا: إِنَّ بُطْلَانَ حَوْلِ مَا بِيعَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَوْلِ غَيْرِ الْمَبِيعِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا تَمَّ حَوْلُ غَيْرِ الْمَبِيعِ بَعْدَ ستة أشهر من بعد التَّبَايُعِ فَقَدْ كَانَا فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ مُنْفَرِدَيْنِ وَفِي نِصْفِهِ الثَّانِي خَلِيطَيْنِ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِمَا نِصْفُ شَاةٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ربعها، وعلى الْجَدِيدِ عَلَيْهِمَا شَاةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِفُهَا، لِأَنَّ الْخُلْطَةَ لَمْ تُوجَدْ فِي جَمِيعِ الحول،(3/149)
فَأَمَّا الْأَرْبَعُونَ الْمَبِيعَةُ إِذَا تَمَّ حَوْلُهَا، فَعَلَى الْقَدِيمِ عَلَيْهِمَا نِصْفُ شَاةٍ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا، وَعَلَى الْجَدِيدِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِمَا نِصْفُ شَاةٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا لِوُجُودِ الْخُلْطَةِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثاني: أن عليهما شاة على كل واحد منهما نصفها، لأنه لما لم ترتفق تلك الأربعين الْأُوَلُ بِهَذِهِ الْأَرْبَعِينَ لَمْ تَرْتَفِقْ هَذِهِ بِتِلْكَ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاةً وَلِأَحَدِهِمَا ببلدٍ آخر أربعون شاةً أَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ شَاةً ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَنْ صَاحِبِ الْأَرْبَعِينَ الْغَائِبَةِ وَرُبُعُهَا عَنِ الَّذِي لَهُ عِشْرُونَ لِأَنِّي أَضُمُّ مَالَ كُلِّ رَجُلٍ إِلَى مَالِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ، وَلِأَحَدِهِمَا بِبَلَدٍ آخر أربعون شَاةً مُفْرِدَةً، فَفِي قَدْرِ الزَّكَاةِ لِأَصْحَابِنَا أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ عَلَيْهِمَا شَاةً ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا عَنْ صَاحِبِ السِّتِّينَ، وَرُبُعُهَا عَنْ صَاحِبِ الْعِشْرِينَ، لِأَنَّ مِلْكَ الرَّجُلِ يَجِبُ ضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ وَإِنِ افْتَرَقَ، فَإِذَا ضُمَّتِ الْغَائِبَةُ إِلَى الْحَاضِرَةِ صَارَ كَأَنَّهُ خَلِيطٌ بِجَمِيعِهِ وذلك ستون شاة من جملة ثمانين شاة، وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ نِصْفَ شَاةٍ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ شَاةً كَمَا لَوِ انْفَرَدَتْ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْخُلْطَةُ بِبَعْضِ الْمَالِ خُلْطَةٌ بِجَمِيعِهِ لَوَجَبَ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا ثلاثين شَاةً وَلِأَحَدِهِمَا بِبَلَدٍ آخَرَ عَشْرٌ أَنْ تُضَمَّ إِلَى الثَّلَاثِينَ لِيَكْمُلَ النِّصَابُ وَتُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنْ لَا زَكَاةَ فِي هَذَا الْمَالِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْطَةَ بِبَعْضِ الْمَالِ لَا تَكُونُ خُلْطَةً بِجَمِيعِهِ، وَأَنَّ مَا انفرد من مَالِ الْخُلْطَةِ لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ نِصْفَ شَاةٍ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ شَاةً إِلَّا نِصْفَ سُدُسِ شَاةٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَرْتَفِقُ بِالْخُلْطَةِ فِيمَا هُوَ خَلِيطٌ به دون غيره يزكي عَنِ الْمُنْفَرِدِ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ، وَعَنِ الْمُخْتَلَطِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، فَيُقَالُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا بِجَمِيعِ مَالِهِ وَهُوَ سِتُّونَ لَكَانَ عَلَيْهِ شَاةٌ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْأَرْبَعِينَ ثُلُثَا شَاةٍ، لِأَنَّهَا ثُلُثَا السِّتِّينَ، وَلَوْ كَانَ خَلِيطًا بِجَمِيعِ مَالِهِ لَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ، لِأَنَّهَا سِتُّونَ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَانِينَ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْعِشْرِينَ الَّتِي هُوَ خَلِيطٌ بِهَا رُبُعُ شَاةٍ، لِأَنَّهَا رُبُعُ الثَّمَانِينَ ثُمَّ يَجْمَعُ الثُّلُثَيْنِ الْوَاجِبَيْنِ فِي الْأَرْبَعِينَ إِلَى الرُّبُعِ الْوَاجِبِ فِي الْعِشْرِينَ، فَيَكُونُ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ ونصف.(3/150)
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ نِصْفَ شَاةٍ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ شَاةٍ، لِيَرْتَفِقَ صَاحِبُ السِّتِّينَ بِضَمِّ مَالِهِ الْغَائِبِ إِلَى الْحَاضِرِ، إِذْ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُهُ، وَلَا يَرْتَفِقُ صَاحِبُ الْعِشْرِينَ إِلَّا بِمَالِ الْخُلْطَةِ دُونَ مَا انْفَرَدَ.
فَصْلٌ
: وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ سِتُّونَ شَاةً خَالَطَ بِكُلِّ عِشْرِينَ مِنْهَا رَجُلًا مَعَهُ عِشْرُونَ فَصَارَ مُخَالِطًا لِثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ وَجَمِيعُ مَالِهِ وَمَالِهِمْ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ عِشْرُونَ، وَلِلْأَوَّلِ سِتُّونَ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ: عَلَى جَمَاعَتِهِمْ شَاةٌ، نِصْفُهَا عَنْ صَاحِبِ السِّتِّينَ، لِأَنَّ لها نِصْفَ الْمَالِ، وَنِصْفُهَا عَنِ الثَّلَاثَةِ الْخُلَطَاءِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُهَا، لِأَنَّ لَهُمْ سِتِّينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرُونَ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِمْ شَاتَانِ وَنِصْفٌ، عَلَى الثَّلَاثَةِ مِنْهَا شَاةٌ وَنِصْفٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ شَاةٍ، لِأَنَّ لَهُ عِشْرِينَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ شَاةٌ كَالْمُنْفَرِدِ بِسِتِّينَ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مَعًا عَلَيْهِمْ شَاتَانِ وَرُبُعٌ، مِنْهَا عَلَى الثَّلَاثَةِ شَاةٌ وَنِصْفٌ، على كل واحد منهم نصف شاة، لأنه لَهُ عِشْرِينَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْبَعِينَ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ شَاةٍ، فَكَأَنَّهُ خَلِيطٌ بِهَا مَعَ عِشْرِينَ.
فَصْلٌ
: وَلَوْ كَانَ مَعَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ خَالَطَ بِكُلِّ بَعِيرٍ مِنْهَا رَجُلًا مَعَهُ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ فَصَارَ جَمِيعُ الْمَالِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ بَعِيرًا بَيْنَ سِتَّةٍ لِأَحَدِهِمْ مِنْهَا خَمْسَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ أَرْبَعَةٌ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَيْهِمْ بِنْتُ مَخَاضٍ، عَلَى صَاحِبِ الْخَمْسَةِ خُمُسُهَا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَاقِينَ أربعة أجزاء من خمسة وعشرين جزءاً مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، ثُمَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ وَالْبَاقِينَ يَكُونُ عَلَى قِيَاسِ مَا مَضَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(3/151)
باب من تجب عليه الصدقة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وتجب الصَّدَقَةُ عَلَى كُلِّ مَالِكٍ تَامِّ الْمِلْكِ مِنَ الأحرار وإن كان صغيراً أو معتوهاً أو امرأة لا فرق بينهم في ذلك كما تجب في مال كل واحد منهم ما لزم ماله بوجه من الوجوه جناية أو ميراث أو نفقة على والد أو ولد زمن محتاج وسواء ذلك في الماشية والزرع وزكاة الفطرة وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " ابتغوا في أموال اليتيم - أو قال في أموال اليتامى - لا تأكلها الزكاة " وعن عمر بن الخطاب وابن عمر وعائشة أن الزكاة في أموال اليتامى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: كُلُّ حُرٍّ مُسْلِمٍ فَالزَّكَاةُ فِي مَالِهِ وَاجِبَةٌ، مُكَلَّفًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، وَقَالَ أبو حنيفة التَّكْلِيفُ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، إِلَّا زَكَاةَ الفطر والأعشار استدلالاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَنْتَبِهَ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لَا تَلْزَمُ الْغَيْرَ عَلَى الْغَيْرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلْزَمَ غير مكلف كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْمُسْلِمِ تُقَابِلُ جِزْيَةَ الذمي لاعتبار الحول فيها، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الزَّكَاةَ تَطْهِيرًا وَنِعْمَةً وَالْجِزْيَةَ صَغَارًا وَنِقْمَةً، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْجِزْيَةُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ، اقْتَضَى أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) {التوبة: 103) وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي أَمْوَالِهِمْ كِنَايَةٌ تَرْجِعُ إِلَى مَذْكُورٍ تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَالسّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصار وَالذينَ اتّبَعُوهُمْ بإحْسَانٍ} (التوبة: 100) قِيلَ: اتَّبَعُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الذَّرَارِيِّ وَالْأَطْفَالِ.(3/152)
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: ابتغوا في أموال اليتامى كيلا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ.
وَرَوَى الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا فَلْيَتَّجِرْ لَهُ وَلَا يتركه حتى تأكله الصدقة ".
روى مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " في مال اليتيم زكاة " فإن قيل: هذا خطاب، والخطاب تكليف، ولا يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ، قِيلَ الْخِطَابُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: خِطَابُ مُوَاجَهَةٍ، وَذَلِكَ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى غير ما كلف، وَخِطَابُ إِلْزَامٍ كَمَسْأَلَتِنَا وَذَلِكَ يَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ كَتَوَجُّهِهِ إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَجَازَ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَالِهِ كَالْبَالِغِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ زَكَاةٍ تَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ جَازَ أَنْ تَجِبَ في مال غَيْرِ الْمُكَلَّفِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ: حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ ضَرْبَانِ أَفْعَالُ أَبْدَانٍ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَحُقُوقُ أموال كالمهر وَالنَّفَقَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، فَمَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الأبد أن يختص به المكلف من غَيْرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُكَلَّفُ وَغَيْرُهُ، كَذَلِكَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَانِ، أَفْعَالُ أَبْدَانٍ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِهِ الْمُكَلَّفُ دُونَ غَيْرِهِ، وَحُقُوقُ أَمْوَالٍ كَالزَّكَوَاتِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهَا الْمُكَلَّفُ وَغَيْرُهُ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رفع القلم " فمعنى (رفع القلم) عَنْ نَفْسِهِ، لَا عَنْ مَالِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُمْ إِنْ قَالُوا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الصَّبِيِّ، قُلْنَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ وَاجِبَةٌ فِي مَالِهِ، وَإِنْ قَالُوا: فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِي مَالِهِ، لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَصْفُ فِي الْأَصْلِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ أَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْأَبْدَانِ وَالزَّكَوَاتِ مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ وَحُكْمُهُمَا مُفْتَرِقٌ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُتَقَدِّمِ، فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ زَكَاةِ الفطر وبين(3/153)
الصَّلَاةِ، وَبِمِثْلِهِ يُفَرَّقُ بَيْنَ زَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْجِزْيَةِ فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ وُجُوبَ الْجِزْيَةِ أَضْيَقُ، وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ أَوْسَعُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَالزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْقَوْلُ فِي زَكَاةِ الْمُكَاتَبِ
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فأما مال المكاتب فخارجٌ من مِلْكِ مَوْلَاهُ إِلَّا بِالْعَجْزِ وَمُلْكُهُ غَيْرُ تَامٍّ عَلَيْهِ فَإِنْ عَتَقَ فَكَأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْ سَاعَتِهِ وَإِنْ عَجَزَ فَكَأَنَّ مَوْلَاهُ اسْتَفَادَ مِنْ سَاعَتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ، وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الزَّكَاةَ في ماله، اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ الظَّوَاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالُوا وَلَيْسَ فِي الْمُكَاتَبِ أَكْثَرُ مِنْ نُقْصَانِ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، وَهَذَا غَلَطٌ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ قَالَ: " لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ " وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ولأن المكاتب ناقص الملك، لأنه لا يورث ولا يرث فَلَمْ تَلْزَمْهُ الزَّكَاةُ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا تَمَامُ الملك، ولهذا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ، لِأَنَّ مِلْكَهُمَا تَامٌّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَرِثَانِ وَيُورَثَانِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ عَادَ الْمِلْكُ إِلَى سَيِّدِهِ وَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ وَقْتِ عَوْدِهِ وَإِنْ عُتِقَ مَلَكَ مَالَ نَفْسِهِ، وَاسْتَأْنَفَ الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ عِتْقِهِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْعَبْدُ إِذَا مَلَّكَهُ السَّيِّدُ مَالًا فَهَلْ يَمْلِكُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَإِنْ قِيلَ لَا يَمْلِكُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَعَلَى السَّيِّدِ زَكَاتُهُ، وَإِنْ قِيلَ يَمْلِكُ فَلَا زَكَاةَ عَلَى السَّيِّدِ، لِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ، وَلَا عَلَى الْعَبْدِ لِرِقِّهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: تَجِبُ زَكَاتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ لِأَنَّ لَهُ انْتِزَاعَ الْمَالِ مِنْ يَدِهِ، وهذا غلط، والأول أصح؛ لأنه ليس له جواز الرجوع فيه بموجب بقائه عَلَى الْمِلْكِ، لِأَنَّ لِلْوَالِدِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وهب ولده لَهُ، وَلَيْسَ بِبَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا هُوَ مُخَاطَبٌ بِزَكَاتِهِ، كَذَلِكَ السَّيِّدُ مَعَ عَبْدِهِ، وَاللَّهُ أعلم بالصواب.(3/154)
بَابُ الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ وَأَيْنَ يأخذها المصدق
قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب أَنْ يَبْعَثَ الْوَالِي الْمُصَدِّقَ فَيُوَافِي أَهْلَ الصَّدَقَةِ مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ فَيَأْخُذُ صَدَقَاتِهِمْ وَأُحِبُّ ذَلِكَ في المحرم وكذا رأيت السعاة عندما كَانَ الْمُحَرَّمُ شِتَاءً أَوْ صَيْفًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَجُمْلَةُ الْأَمْوَالِ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ السَّاعِي لِأَخْذِ زَكَاتِهَا فِي وَقْتِ إِدْرَاكِهَا، وَقَدْ يَخْتَلِفُ إِدْرَاكُ الثِّمَارِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَعْيِينُ وَقْتِهِ، وَضَرْبٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ كَالْمَوَاشِي، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وقت مَجِيءُ السَّاعِي مَعْرُوفًا، لِيَتَأَهَّبَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ لِدَفْعِهَا، وَيَتَأَهَّبَ الْفُقَرَاءُ لِأَخْذِهَا، وَيَخْتَارَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " هَذَا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه وليترك بقية ماله " ولأن العمل جار به، ولأنه رَأْسُ السَّنَةِ وَمِنْهُ التَّارِيخُ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يؤرخون من رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِوُقُوعِ الْهِجْرَةِ فِيهِ، ثُمَّ رَأَوْا تَقْدِيمَهُ إِلَى الْمُحَرَّمِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ، فَإِذَا تقرر أن المحرم أول فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِذَ السُّعَاةَ وَالْجُبَاةَ قَبْلَ الْمُحَرَّمِ بِزَمَانٍ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ يُوَافُونَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ قُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا، فَإِذَا وَصَلَ السَّاعِي فِي الْمُحَرَّمِ فَمَنْ حَالَ حَوْلُهُ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَمَنْ لَمْ يَحُلْ حَوْلُهُ تَعَجَّلَ مِنْهُ الزَّكَاةَ إِنْ أَجَابَ رَبُّ الْمَالِ إِلَيْهَا، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُعَجِّلَهَا لَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى تعجيلها، وكان الساعي بين أن يستخلف من يأخذ منه عند حلولها، وَبَيْنَ أَنْ لَا يَسْتَخْلِفَ لِيَأْخُذَهَا مِنْهُ فِي وقتها.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَأْخُذُهَا عَلَى مِيَاهِ أَهْلِ الْمَاشِيَةِ وَعَلَى رَبِّ الْمَاشِيَةِ أَنْ يُورِدَهَا الْمَاءَ لِتُؤْخَذَ صَدَقَتُهَا عَلَيْهِ وإذا جرت الماشية عن الماء فعلى المصدق أن(3/155)
يأخذها في بيوت أهلها وأفنيتهم وليس عليه أن يتبعها راعيةً ويحصرها إلى مضيق تخرج منه واحدة واحدة فيعدها كذلك حتى يأتي على عدتها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي زَمَانِ الْأَخْذِ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ، وَفِي مَوْضِعِ الْأَخْذِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَاشِيَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَجِدَهَا فِي بُيُوتِ أَهْلِهَا، فَهُنَاكَ يَأْخُذُ زَكَاتَهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَجِدَهَا عَلَى مِيَاهِ أَهْلِهَا، فَلَا يُكَلِّفُ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَسُوقَهَا إِلَى بَيْتِهِ، وَيَأْخُذُ زَكَاتَهَا عَلَى مَاءِ شُرْبِهَا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ لِحَارِثَةَ بْنِ قَطَنٍ وَمَنْ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ مِنْ كَلْبٍ إِنَّ لَنَا الضَّاحِيَةَ مِنَ الْبَعْلِ ولكم الضاحية منه من النخل، لا نجمع سارحتكم ولا نعد فَارِدَتَكُمْ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَالضَّاحِيَةُ هِيَ النَّخْلُ الظَّاهِرَةُ فِي الْبَرِّ، وَالْبَعْلُ مَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ من غير سقي، والضاحية ما تضمها أمصارهم وقراهم، وقوله: " لا نجمع سارحتكم " أي: لا يجمع المواشي السارحة إلى الصدقة، وقوله " لا نعد فاردتكم " لَا تُضَمُّ الشَّاةُ الْفَارِدَةُ إِلَى الشَّاةِ الْفَارِدَةِ لِيُحْتَسَبَ بِهَا فِي الصَّدَقَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَجِدَهَا رَاعِيَةً، فَلَا يُكَلَّفُ السَّاعِي أَنْ يَتْبَعَهَا رَاعِيَةً لِمَا يَنَالُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي اتِّبَاعِهَا، وَلَا يُكَلَّفُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَجْلِبَهَا إِلَى فِنَاءِ دَارِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي جَلْبِهَا، بَلْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَجْمَعَهَا عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِهِمَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ " يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ جَلْبُهَا إِلَى بيوتهم، ولأنهم أَنْ يُجَانِبُوهَا فَيَتْبَعَهَا السَّاعِي فِي مَرَاعِيهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ الْجَلَبُ وَالْجَنَبُ فِي الرِّهَانِ وَقَدْ كَانَ للسعاة فيها طبل يضربون به عند مخيمهم لِيَعْلَمَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ فَيَتَأَهَّبُوا لِجَمْعِ مَوَاشِيهِمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ جَرِيرٌ:
(أَتَانَا أَبُو الْخَطَّابِ يَضْرِبُ طَبْلَهُ ... فَرُدَّ وَلَمْ يَأْخُذْ عِقَالًا وَلَا نَقْدَا)
قيل إن العقال الماشية، والنقد الذهب والورق، وَقِيلَ بَلِ الْعِقَالُ الْقِيمَةُ، وَالنَّقْدُ الْفَرِيضَةُ، وَقِيلَ الْعِقَالُ صَدَقَةُ عَامَيْنِ، وَالنَّقْدُ صَدَقَةُ عَامٍ، وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
(سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟)
(لا صبح الْحَيُّ أَوْتَادًا وَلَمْ يَجِدُوا ... عِنْدَ التَّفَرُّقِ فِي الهيجا جمالين)(3/156)
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَوْضِعِ الْأَخْذِ.
فَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْأَخْذِ: فَهُوَ: أَنْ يَبْدَأَ السَّاعِي بِأَسْبَقِ الْمَوَاشِي وَأَقْرَبِهَا إِلَيْهِ. فَيَأْمُرَ بِضَمِّهَا إِلَى مَضِيقٍ مِنْ جِدَارٍ أَوْ حِظَارٍ أَوْ جَبَلٍ، وَيَحْضُرُ الْكَاتِبُ فَيَكْتُبُ اسْمَ مَالِكِهَا، وَيَقِفُ الْعَادُّ فِي أَضْيَقِ المواضع ليعدها، والحشار يحشرها لِيَعُدَّهَا الْعَادُّ بَعِيرًا بَعِيرًا، وَيَكُونُ بِيَدِهِ عَوْدٌ يشير به إليها ويرفع صوته بالعدد لِتُؤْمَنَ عَلَيْهِ الْخِيَانَةُ وَالْغَلَطُ، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ الْمَاشِيَةِ ثُمَّ يُثْبِتُهَا الْكَاتِبُ عَلَى رَبِّ المال.
قال الشافعي وهذا أخصر العدد وأوحاه، وبه جرت العادة، فإذا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ غَلَطًا عَلَى السَّاعِي أَوِ ادَّعَى السَّاعِي غَلَطًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ أُعِيدَ العدد ليزول الشك.
فَصْلٌ
: وَلَا يَجُوزُ لِلسَّاعِي أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ، وَلَا أَنْ يُلْزِمَهُمْ جُعْلَ أَتْبَاعِهِ، لِأَنَّهُ وَهُمْ وُكَلَاءُ أَهْلِ السُّهْمَانِ دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أُجُورَهُمْ فِي الزَّكَاةِ، وَفَرَضَ سَهْمًا لِلْعَامِلِينَ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ أُجُورِهِمْ إِلَّا مِنَ الْمَالِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يُصْرَفَ فِيهِمْ، وَلَا يَجُوزَ لِلسَّاعِي أَنْ يَقْبَلَ من أرباب الأموال هدية، لأنهم يهادونه إما لِأَنْ يَتْرُكَ عَلَيْهِمْ حَقًّا، أَوْ لِيَدْفَعَ عَنْهُمْ ظُلْمًا، فَيَصِيرُ مُرْتَشِيًا عَلَى تَرْكِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو إِدْرِيسَ عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَعَنَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِي وَالرَّائِشَ " ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " فَالرَّاشِي دَافِعُ الرَّشْوَةِ، وَالْمُرْتَشِي قَابِلُ الرَّشْوَةِ، وَالرَّائِشُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ مُصَدِّقًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللبية فَجَاءَ بِأَشْيَاءَ فَعَزَلَ بَعْضَهَا وَقَالَ: هَذَا لَكُمْ وَعَزَلَ بَعْضَهَا وَقَالَ: هَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غضباً شديداً ورقى الْمِنْبَرَ وَقَالَ مَا بَالُ أقوامٍ نُنْفِذُهُمْ إِلَى الصَّدَقَةِ فَيَقُولُونَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ أَمَا كَانَ يَجْلِسُ فِي بَيْتِ أُمِّهِ ثَمَّ ينظر هل كان يُهْدَى إِلَيْهِ شَيْءٌ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عَاتِقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خوارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَى رَأَيْتُ عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُخَالِطُ الصَّدَقَةُ مَالًا إِلَّا أهلكته ".(3/157)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي أَنَّ خِيَانَةَ الصَّدَقَةِ تُهْلِكُ الْمَالَ الَّذِي تُخَالِطُهُ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا أَخَذَ الْعَامِلُ مِنْ عِمَالَتِهِ فَهُوَ غُلُولٌ " فَإِنْ قَبِلَ السَّاعِي هَدِيَّةً عَلَى تَرْكِ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا وَإِنْ قَبِلَهَا لِشُكْرٍ كَانَ فِي إِنْعَامٍ كَانَ مِنْهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَتْ فِي الصَّدَقَاتِ لَا يَسَعُهُ عِنْدِي غَيْرُهُ، إِلَّا أَنْ يُكَافِئَهُ بِقَدْرِهَا عَلَيْهَا فَيَسَعُهُ تَمَوُّلُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(3/158)
باب تعجيل الصدقة
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " أَخْبَرَنَا مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكَرًا فَجَاءَتْهُ إبلٌ مِنْ إبل الصدقة قال أبو رافع فأمرني أن أقضيه إياها (قال الشافعي) العلم يحيط أنه لَا يُقْضَى مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا وَقَدْ تَسَلَّفَ لِأَهْلِهَا مَا يقضيه من مالهم وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الحالف بالله " فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " وعن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كان يحلف ويكفر ثم يحنث وعن ابن عمر أنه كان يبعث بصدقة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين (قال) فبهذا نأخذ (قال المزني) ونجعل في هذا الموضع ما هو أولى به أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تسلف صدقة العباس قبل حلولها.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
يَجُوزُ عِنْدَنَا تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَالْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ وَدَاوُدُ: لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا جَمِيعًا.
وقال أبو حنيفة: يجب تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ دُونَ الْكَفَّارَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عبيد مِنْ أَصْحَابِنَا، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَنَفَى وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَاسْمَهَا وَإِذَا كَانَ الِاسْمُ مَنْفِيًّا لَمْ يَكُنِ الْإِجْزَاءُ وَاقِعًا قَالُوا: وَلِأَنَّهُ تَعْجِيلُ زَكَاةٍ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَوَجَبَ أَنْ لا تجوز الزروع والثمار، لأنها عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ فِعْلُهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِعَدَدٍ وَأَمَدٍ، فَالْعَدَدُ النِّصَابُ، وَالْأَمَدُ الْحَوْلُ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْعَدَدِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْأَمَدِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ وَإِلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يتعجلها من تَجِبَ لَهُ وَهُوَ أَنْ يُعْطِيَ غَنِيًّا وَيَنْتَظِرَ فَقْرَهُ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَجِّلَهَا مَنْ تجب عَلَيْهِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا(3/159)
ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ حُجَيَّةُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَرَوَى أَبُو الْبَخْتَرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَسْلَفَ مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ وَرَوَى مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: أَسْلَفَنَا الْعَبَّاسُ صَدَقَةَ الْعَامِ وَالْعَامِ الْمُقْبِلِ) فإذا قِيلَ فَتَعْجِيلُ زَكَاةِ عَامَيْنِ عِنْدَكُمْ لَا يَجُوزُ قُلْنَا فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ جَوَازُ تَعْجِيلِهَا أَعْوَامًا إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْمُعَجَّلِ نِصَابٌ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ وَاحِدٍ فَعَلَى هَذَا عَنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَجَّلَ ذَلِكَ فِي عَامَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ زَكَاةَ الْعَامِ الْمَاضِي وَهِيَ وَاجِبَةٌ وَزَكَاةَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَهِيَ تَعْجِيلٌ، فَنَقَلَ الرَّاوِي أَنَّهُ استسلف منه زكاة عامين، ويدل على مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - استسلف من رجل بكراً، فلما جاءته إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَهُ فَلَمَّا رَدَّ الْقَرْضَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدِ اقْتَرَضَ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ الصَّدَقَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا، مَعَ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالدَّلَالَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا وَجَبَتْ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَجَبَتْ لَأَهِلَ السُّهْمَانِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَعَجَّلَهَا مَنْ تَجِبُ لَهُ قَبْلَ وُجُوبِهَا لَهُ، جَازَ أَنْ يُعَجِّلَهَا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَرْضَ الْمُعَجَّلَ بَدَلٌ وَالزَّكَاةَ مُبْدَلٌ، فَلَمَّا جَازَ تَعْجِيلُ الْبَدَلِ عَنِ الزَّكَاةِ كَانَ تَعْجِيلُ الْمُبْدَلِ وَهِيَ الزَّكَاةُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْمُبْدَلَ أَكْمَلُ حَالًا مِنَ الْبَدَلِ، فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَائِلُ.(3/160)
أَحَدُهَا: جَوَازُ تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ.
وَالثَّانِي: جَوَازُ قَرْضِ الْحَيَوَانِ.
وَالثَّالِثَ: جَوَازُ السَّلَمِ فِيهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَنِ اقْتَرَضَ حَيَوَانًا فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ، لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ كَالْغَصْبِ، فَإِنْ قِيلَ فَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ اقْتَرَضَ بَكَرًا فَرَدَّ رَبَاعِيًا وَذَلِكَ أَزْيَدُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ الصَّدَقَةِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، قِيلَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَزْيَدَ فِي السِّنِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ فِي الْجَوْدَةِ فَتَكُونَ زِيَادَةُ السِّنِّ مُقَابِلَةً لِنُقْصَانِ الْجَوْدَةِ، فَهَذَا جَوَابٌ، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، فَكَانَ مَا قَابَلَ دَيْنَهُ قَضَاءً وَمَا زَادَ عَلَيْهِ صَدَقَةً، وَهَذَا جَوَابٌ ثَانٍ، أو كان فَعَلَ ذَلِكَ لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي قَرْضِ الْفُقَرَاءِ أو يجوز لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَهَذَا جَوَابٌ ثَالِثٌ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ المعنى: أنه حق في مال يجب لسببين يختصان به جاز تَقْدِيمُهُ عَلَى أَحَدِ سَبَبَيْهِ كَالْكَفَّارَةِ الَّتِي يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ الْيَمِينِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ.
وَقَوْلُنَا: حَقٌّ فِي مَالٍ احْتِرَازًا مِنْ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ.
وَقَوْلُنَا يَجِبُ بِسَبَبَيْنِ احْتِرَازًا مِنَ الْأُضْحِيَةِ، وَقَوْلُنَا يَخْتَصَّانِ بِهِ احْتِرَازًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَصَّانِ بِالزَّكَاةِ، وَالْحَوْلُ، وَالنِّصَابُ يَخْتَصَّانِ بِالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ، يَجِبُ بِالْحَوْلِ وَيَجِبُ بِغَيْرِ حَوْلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ تَقْدِيمُ مَا يَجِبُ الحول قَبْلَ حَوْلِهِ كَالدِّيَةِ الَّتِي يَكُونُ عَمْدُهَا حَالًا وعطاها مُؤَجَّلًا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَحَقٌّ لِآدَمِيٍّ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ ضَرْبَانِ: حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ، وَحَقٌّ فِي مَالٍ، فَمَا كَانَ عَلَى الْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَمَا كان في مال كَالدُّيُونِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، كَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ضَرْبَانِ، حَقٌّ عَلَى بَدَنٍ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَحَقٌّ في مال كالزكاة وَالْكَفَّارَةِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَحُلُّ بِانْقِضَاءِ مُدَّةٍ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَلِأَنَّ الْآجَالَ إِنَّمَا تَثْبُتُ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ لَا يَرْتَفِقَ بِهِ وَيُؤَدِّيَ الْحَقَّ قَبْلَ أَجَلِهِ، فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ، وَأَرْفَقَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ الْإِجْزَاءُ فِي مَوْقِعِهِ الْجَوَابُ، أَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لا زكاة على مالٍ حتى يحول عليه الْحَوْلُ " فَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْوُجُوبِ دُونَ الْإِجْزَاءِ بِدَلِيلِ مَا مَضَى.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فَقَدْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة يجمع بينهما، ويجيز تعجيل زكاة الزروع وَالثِّمَارِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهَا عَلَى غَالِبِ الْعَادَةِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَمْنَعُ مِنْ تَعْجِيلِ زَكَاتِهَا وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِشَيْئَيْنِ.(3/161)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ تَجِبُ زَكَاتُهَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَتِلْكَ بِسَبَبَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَالَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عِنْدَ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ مُخَالِفٌ لِحَالِهِ عِنْدَ وجوب الزكاة، لأنه عند التعجيل قصل وَبَلَحٌ وَالْمَوَاشِي فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الْأَبْدَانِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى النِّصَابِ فَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ قَدَّمَ الْحَقَّ قَبْلَ وُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْهِ، وَجَازَ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَ النِّصَابِ لِوُجُودِ أَحَدِ سَبَبَيْهِ كَالْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إِلَى مَنْ تَجِبُ لَهُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا ممن تجب عليه قبل استحقاقها، ولا يجوز دفعها إلى من تجب له قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا عَلَى أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الأغنياء عيب لِأَنَّهُ مَالٌ مَصْرُوفٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَهُوَ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَرْبَابِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ، وَقَدْ تُوجَدُ الْمُوَاسَاةُ فِي التَّعْجِيلِ وَلَا تُوجَدُ الْحَاجَةُ فِي الْغِنَى، فَأَمَّا تَعْجِيلُ زَكَاةِ الْفِطْرِ فَلَا تَجُوزُ قَبْلَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَتَجُوزُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَقَبْلَ شَوَّالٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا تَسَلَّفَ الْوَالِي لَهُمْ فَهَلَكَ مِنْهُ قَبْلَ دَفْعِهِ إِلَيْهِمْ وَقَدْ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي مَالِهِ لِأَنَّ فِيهِمْ أَهْلَ رشدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ الَّذِي يَأْخُذُ لَهُ مَا لَا صَلَاحَ لَهُ إِلَّا بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
إِذَا تعجل والي الزكاة زكاة رجل من مَالِهِ قَبْلَ حَوْلِهِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَجَّلَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَنَظَرِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَجَّلَهَا بِمَسْأَلَةٍ فَإِنْ تَعَجَّلَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ بَلْ غَلَبَ فِي اجْتِهَادِهِ لِمَا رَأَى مِنْ حَالِ الْمَسَاكِينِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِمْ رَجَاءً لِمَصَالِحِهِمْ فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا تَعَجَّلَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام:
أحدها: إما أَنْ يَكُونَ قَدْ فَرَّقَهُ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ عِنْدَ أَخْذِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِهِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ فَرَّقَهُ فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ، فَلِلدَّافِعِ أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ، وَلِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَعْنِي أَهْلَ السُّهْمَانِ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَتِ الزَّكَاةُ مَوْقِعَهَا، وَأَجْزَأَتْ رَبَّ الْمَالِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِافْتِقَارِهِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ(3/162)
لَا يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِمَّنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ وَرَدُّهَا عَلَى مَنْ أخرها منه.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِبَقَاءِ مَالِهِ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ لَا يستحق الزكاة والاستعانة فَعَلَى الْوَالِي اسْتِرْجَاعُهَا مِمَّنْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَلَا يُرُدُّهَا عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ، لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لَكِنْ يُفَرِّقُهَا فِي أهلها ومستحقيها.
والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِافْتِقَارِهِ، وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ لِبَقَاءِ فَقْرِهِ، فَلِلدَّافِعِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، وَيَرْجِعَ الْوَالِي بِهَا عَلَى مَنْ دفعها إليه، وهذا إِذَا كَانَ الْوَالِي قَدْ فَرَّقَهَا حِينَ أَخَذَهَا، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ تَفْرِيقُهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ إِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ رَدَّهَا عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْحَوْلِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ضَمِنَها لِأَهْلِ السُّهْمَانِ، وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ضَمِنَهَا لِرَبِّ الْمَالِ، وَسَوَاءٌ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وإن تلفت في يد السَّاعِي لِرَبِّ الْمَالِ، وَلَا لِأَرْبَابِ السُّهْمَانِ، لِأَنَّ يَدَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ يَدُ الْمَسَاكِينِ، وَمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ قَبْلَ صَرْفِهِ إِلَيْهِمْ لَا يَضْمَنُهُ، وَلَا يَضْمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ وَرَبُّ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَكِنَّ السَّاعِيَ لَمْ يَصْرِفْهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا حتى افتقر رب المال وتلفت الزَّكَاةُ فِي يَدِ السَّاعِي فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِرَدِّهِ إِلَيْهِ بَعْدَ فَقْرِهِ حَتَّى تَلِفَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّاعِي لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ الْحَوْلَ قَدْ حَالَ، وَرَبُّ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَضْمَنُ لِلْفُقَرَاءِ لِأَنَّهُ أَمِينُهُمْ، وَإِنْ طَالَبَهُ رَبُّ الْمَالِ فَلَمْ يَرُدَّهُ أَوْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ حَتَّى تَلِفَ فِي يَدِ السَّاعِي لَزِمَهُ ضَمَانُهُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلَّا بِتَفْرِيطٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، ويكون مِنْ مَالِ أَهْلِ السُّهْمَانِ، وَيُجْزِئُ ذَلِكَ رَبُّ المال احتجاجاً لشيئين.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَدَ الْوَالِي كَيَدِ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ عَنْ رَبِّ الْمَالِ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ كَمَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا تَلِفَ فِي أَيْدِي أَهْلِ السُّهْمَانِ مَضْمُونًا لَمْ يَكُنْ مَا تَلِفَ فِي يَدِ الْوَالِي مَضْمُونًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَالِيَ فِي حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ، ثُمَّ كَانَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ إِذَا تَعَجَّلَ لَهُ حَقًّا مُؤَجَّلًا لَمْ يَضْمَنْهُ، كَذَلِكَ وَالِي أَهْلِ السُّهْمَانِ إِذَا تَعَجَّلَ لَهُمْ حَقًّا مُؤَجَّلًا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَهَذَا غَلَطٌ، وَدَلِيلُنَا شَيْئَانِ:(3/163)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شاكياً فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَّا الْعَبَّاسُ فَصَدَقَتُهُ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا " فَأَخْبَرَ أَنَّهَا في ضَمَانِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُفَرِّطُ، فَثَبَتَ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَهْلَ السُّهْمَانِ أَهْلُ رُشْدٍ لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ تَصَرُّفَ غَيْرِهِمْ، وَالْإِمَامُ وَالْوَلِيُّ مُتَصَرِّفٌ بِإِذْنِهِمْ، وَلَيْسَ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا يتفرق الْيَتِيمُ فِي مَالِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَصَارَ وَالِي أهل السُّهْمَانِ كَالْوَكِيلِ يَضْمَنُ مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّ يَدَهَمْ كَيَدِهِ قبل صَحِيحٌ، لَكِنْ بَعْدَ الْوُجُوبِ عَلَى مَا أَذِنَ له، فأما فيما قيل فلا، فأما الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَوَالِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَمَا ذَكَرْنَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ جَمْعِهِ بَيْنَهُمَا، يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَتِيمَ لَوْ نَهَى وَلِيَّهُ عَنْ تَعْجِيلِ حَقِّهِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى نَهْيِهِ، لِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَهْلُ السُّهْمَانِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوَلًّى عَلَيْهِمْ فَثَبَتَ بِذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَهَذَا الْكَلَامُ فِي أَحَدِ شَطْرَيِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَجِّلَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا تَعَجَّلَهَا بِمَسْأَلَةٍ فَلَا يَخْلُو حال من سأله من ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ، وأهل السُّهْمَانِ، أَوْ هُمَا مَعًا، فَإِنْ سَأَلَهُ رَبُّ المال أن يتعجلها من دُون أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ.
والثانية: أن تكون في يديه.
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ قَدْ تَلِفَتْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ صَرَفَهَا فِي أَهْلِ السُّهْمَانِ فَلِلدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إليه أربعة أحول مَضَتْ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَالْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ فلا رجوع.
والحال الثانية: أن لا تجب على الدافع ولا يستحقها المدفوع إليه، فَلِلدَّافِعِ أَعْنِي رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ أَعْنِي أَهْلَ السُّهْمَانِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْوَالِي، لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَالِي أَنْ يَتَعَجَّلَهَا مِنْهُ صَارَ الوالي في الدافع نَائِبًا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي يَدِ المدفوع إليها اسْتَرْجَعَهَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا(3/164)