فَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ فَمُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالتَّمْيِيزِ لِمَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهَا، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا تَمْيِيزَ لَهَا فَيُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي موضعه.
وأما ما ذكرنا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ أَيَّامَ الْعَادَةِ لَا تَكُونُ حَيْضًا، فَإِنْ عَنَى إِذَا خَلَتْ مِنَ الدَّمِ، فَصَحِيحٌ، وَإِذَا أَرَادَ إِذَا اقْتَرَنَ بِهَا الدَّمُ فَفَاسِدٌ، وَهَذِهِ أَيَّامُ عَادَةٍ قَارَنَتْ دَمًا فَلَمْ يسلم للاستدلال.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَادَةَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ فَقْدِ التَّمْيِيزِ، فَلِلْعَادَةِ ضَرْبَانِ: مُتَّفِقَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ.
فَأَمَّا الْمُتَّفِقَةُ: فَضَرْبَانِ: مُتَّفِقَةٌ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ومُتَّفِقَةٌ بِالتَّمْيِيزِ فَأَمَّا الْمُتَّفِقَةُ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَهُوَ أَنْ تَحِيضَ على مرور الشهور في كل شهر عشراً، وَتَرَى بَاقِيَهُ طُهْرًا؛ فَإِذَا أَشْكَلَ حَيْضُهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ وَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ رُدَّتْ إِلَى العشر، وَهِيَ الْعَادَةُ الْمُتَّفِقَةُ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَأَعَادَتْ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا السالفة أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ أَوْ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خمسة عشر يوماً أو أوسطه ستاً أو سبعاً رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا مِنْ ذَلِكَ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا إِذَا كَانَ قَدْرًا يَكُونُ حَيْضًا، فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا فِي الْأَمْرَيْنِ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، فَيُجْعَلُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
فَلَوْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَرَأَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ حَيْضًا وَبَاقِيَ الشَّهْرِ طُهْرًا ثُمَّ أُشْكِلَ دَمُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَتَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَجَبَ رَدُّهَا فِيمَا أُشْكِلَ مَنْ شَهْرِهَا الثَّانِي إِلَى الْعَشَرَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا مِنْ قَبْلُ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ صَارَتِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لَهَا عَادَةً لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا أَصْحَابُنَا؛ لِأَنَّ فَقْدَ التَّمْيِيزِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَ الْعَادَةِ، فكان اعتبار عادتها، وإن كانت مَرَّةً أَوْلَى مِنِ اعْتِبَارِ عَادَةٍ غَيْرِهَا ثُمَّ هَكَذَا تُعْتَبَرُ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ فَإِنِ اسْتَدَامَ بِهَا الْإِشْكَالُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ رُدَّتْ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعَادَةِ فِيمَا ثَبَتَ لَهَا مِنَ الْإِشْكَالِ بِالشَّهْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْغُسْلُ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ أَيَّامِ الْعَادَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِشْكَالِ مَا ثَبَتَ لَهَا، وَانْقِطَاعُ دَمِهَا، وَإِنْ جَاوَزَ قَدْرَ الْعَادَةِ مجوز في أقل من خمسة عشرة.
وَأَمَّا الْمُتَّفِقَةُ بِالتَّمْيِيزِ فَهُوَ أَنْ تَرَى الْمُبْتَدَأَةُ عشرة أيام دما أسود وباقي الشهر دما أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ فَيَكُونُ حَيْضُهَا مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةً بِالتَّمْيِيزِ الْحَاصِلِ لَهَا ثُمَّ تَرَى كَذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، ثُمَّ(1/402)
فِي الثَّالِثِ، فَتَسْتَقِرُّ عَادَتُهَا بِالتَّمْيِيزِ عَلَى عَشَرَةٍ فَإِذَا أُشْكِلَ دَمُهَا فِي بَعْضِ الشُّهُورِ فَقَدَّمَتِ التَّمْيِيزَ رُدَّتْ إِلَى الْعَادَةِ الْحَاصِلَةِ بِالتَّمْيِيزِ، وَهِيَ عَشَرَةٌ، وَأَعَادَتْ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَهَكَذَا لَوْ مَيَّزَتِ الْمُبْتَدَأَةُ شَهْرًا وَاحِدًا فَكَانَ حَيْضُهَا مِنْ جُمْلَتِهِ عَشَرَةً، ثُمَّ أُشَكِلَ دَمُهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، رُدَّتْ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ وصَارَتِ الْمَرَّةُ لَهَا عَادَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب.
(فصل)
: وأما الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهِيَ الْعَادَةُ الْمُخْتَلِفَةُ، فَهِيَ ضَرْبَانِ: مُرَتَّبَةٌ وَغَيْرُ مُرَتَّبَةٍ.
فَأَمَّا الْمُرَتَّبَةُ فَصُورَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي شَهْرٍ خَمْسَةً وَفِي الثَّانِي سَبْعَةً، وَفِي الثَّالِثِ عَشَرَةً، ثُمَّ تَعُودُ النَّوْبَةُ فَتَحِيضُ فِي الرَّابِعِ خَمْسَةً، وَفِي الْخَامِسِ سَبْعَةً، وَفِي السَّادِسِ عَشَرَةً، ثُمَّ هَكَذَا فِي سَائِرِ دَهْرِهَا يَجْرِي الْأَمْرُ فِي حَيْضِهَا عَلَى نَوْبَةٍ صَحِيحَةٍ وَعَادَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ ثُمَّ يُشَكَّلُ دَمُهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ وَيَتَجَاوَزُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَيُنْظَرُ مَا كَانَ تقتضيه نوبة عادتها في حيضها مِنْ هَذَا الشَّهْرِ فَتُرَدُّ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ خَمْسَةً جَعَلَتْ هَذَا سَبْعَةً وَمَا بَعْدَهُ عَشَرَةً، وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ سَبْعَةً جَعَلَتْ هَذَا عَشَرَةً، وَمَا بَعْدَهُ خَمْسَةً، وَإِنْ كان ما قبله خمسة جَعَلَتْ هَذَا خَمْسَةً، وَمَا بَعْدَهُ سَبْعَةً، ثُمَّ تَدُورُ النَّوْبَةُ كَذَلِكَ أَبَدًا مَا كَانَتْ عَلَى إِشْكَالِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ قَدْ قَدَّرَ لَهَا عَادَةً مُسْتَقِيمَةً، فَصَارَتْ كَالْعَادَةِ الْمُتَّفِقَةِ، فَلَوْ نَسِيَتْ مَا كَانَ تَقْتَضِيهِ نَوْبَةُ عَادَتِهَا، وَتَرَتُّبُ حَيْضَتِهَا رُدَّتْ إِلَى أَقَلِّ نَوْبَتِهَا، وَهِيَ الْخَمْسَةُ؛ لِأَنَّهَا يَقِينٌ، وَاحْتِيَاطٌ، فَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا الْيَوْمُ السَّابِعُ، اغْتَسَلَتْ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ نَوْبَةُ شَهْرِهَا سَبْعَةً، فَإِذَا مَضَى عَلَيْهَا الْيَوْمُ الْعَاشِرُ، اغْتَسَلَتْ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ نَوْبَةُ شَهْرِهَا عَشَرَةً.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُرَتَّبَةِ، فَصُورَتُهَا: أَنْ تَحِيضَ فِي شَهْرٍ خَمْسَةً، وَفِي شَهْرٍ سَبْعَةً وَفِي شَهْرٍ عَشَرَةً، لَا يَنْقُصُ حَيْضُهَا عَنِ الْخَمْسَةِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَيْسَ بِهَا نوبة صحيحة، وَلَا عَادَةٌ رَاتِبَةٌ، وَتَتَقَدَّمُ الْخَمْسَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ تَارَةً، وَتَتَأَخَّرُ عَنْهَا تَارَةً، فَإِذَا أُشْكِلَ دَمُهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ وَتَجَاوَزَتْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ نَظَرَتْ إِلَى عَادَتِهَا فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي قَبْلَ إِشْكَالِ دَمِهَا، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ عَادَتِهَا، وَهِيَ الْخَمْسُ ردت إلى عادتها. لَا تَخْتَلِفُ وَأَعَادَتْ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ عَادَتِهَا هِيَ الْعَشْرُ، فَإِنْ تَكَرَّرَتْ قَبْلَ الْإِشْكَالِ بِشَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةٍ رُدَّتْ إِلَيْهِمَا، وَأَعَادَتْ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَيْهَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرُ الْعَادَةِ نَصَّ عَلَيْهَا فِي كِتَابِ الْأُمِّ لِقُرْبِهِ مِنْ شَهْرِ الإشكال، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لتنظر(1/403)
عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصَّلَاةَ " وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: وَتُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ الْعَادَةِ وَهِيَ الْخَمْسَةُ، وَحَكَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة لِدُخُولِهَا فِي السَّبْعَةِ وَالْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ حَاضَتْ سَبْعَةً وَعَشَرَةً فَقَدْ حَاضَتْ خَمْسَةً، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ وَالِاسْتِظْهَارِ، وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مُبْتَدَأَةً لَوْ حَاضَتْ فِي أَوَّلِ شُهُورِ حَيْضِهَا خَمْسًا، وَفِي الثَّانِي: عَشْرًا، ثُمَّ أُشْكِلَ دَمُهَا فِي الثَّالِثِ، وَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ رُدَّتْ إِلَى الْعَشْرَةِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى شَهْرِ الِاسْتِكْمَالِ وَلَمْ تَكُنِ الْحُمْرَةُ مُعْتَبَرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ أَحْوَطَ؛ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ كَذَلِكَ غَيْرُ الْمُبْتَدَأَةِ فَهَذَا حُكْمُ الْمُعْتَادَةِ وَهُوَ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ.
(فَصْلٌ)
: فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَهِيَ الَّتِي قَدِ اجْتَمَعَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَعَادَةٌ، وَصُورَتُهَا: فِي امْرَأَةٍ قَدِ اسْتَقَرَّتْ لَهَا عَادَةٌ فِي حَيْضِهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ شُهُورِهَا وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فِي شَهْرِهَا حَتَّى تَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَهُوَ مُتَمَيِّزٌ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ أو أصفر، فَصَارَتْ جَامِعَةً بَيْنَ التَّمْيِيزِ فِي حَيْضِهَا، وَبَيْنَ الْعَادَةِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ شُهُورِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى تَمْيِيزِهَا دُونَ عَادَتِهَا، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: بَلْ تُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا دُونَ تَمْيِيزِهَا اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَادَةَ تَأْتَلِفُ، وَالتَّمْيِيزَ يَخْتَلِفُ، وَالْمُؤْتَلِفُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنَ الْمُخْتَلِفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَادَةَ مُتَكَرِّرَةٌ، وَالتَّمْيِيزَ مُنْفَرِدٌ، وَمَا تَكَرَّرَ أَوْلَى اعْتِبَارًا مِمَّا انْفَرَدَ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّمْيِيزَ صِفَةُ مَحَلِّ حَيْضِ الْإِشْكَالِ وَالْعَادَةُ فِي غَيْرِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى الشَّيْءِ بِصِفَتِهِ أَوْلَى مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّمْيِيزَ دَلَالَةٌ حَاضِرَةٌ، وَالْعَادَةَ دَلَالَةٌ مَاضِيَةٌ، وَالدَّلَالَةُ الْحَاضِرَةُ أَوْلَى اعْتِبَارًا مِنَ الدَّلَالَةِ الْمَاضِيَةِ، كَالْمُتَدَاعِيَيْنِ دَارًا وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ حَاضِرَةٌ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، إِذَا كَانَتْ لَهُ يَدٌ مُتَقَدِّمَةٌ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالَيْنِ فَكِلَاهُمَا مَدْخُولٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ مَا ائْتَلَفَ مِنَ التَّمْيِيزِ وَاخْتَلَفَ فِي تَقْدِيمِ الْعَادَةِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُمْ يُسَوُّونَ بَيْنَ مَا تَكَرَّرَ مِنَ التَّمْيِيزِ وَانْفَرَدَ فِي تَقْدِيمِ الْعَادَةِ عَلَيْهِ عَلَى(1/404)
هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ يَكُونُ تَفْرِيعُ هَذَا الْفَصْلِ فَإِذَا اعْتَادَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَحِيضَ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، وَتَرَى بَاقِيَهُ طُهْرًا فَرَأَتْ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيَهُ دَمًا أَصْفَرَ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تُرَدُّ إِلَى الْعَشَرَةِ السَّوَادِ اعْتِبَارًا بِالتَّمْيِيزِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ تُرَدُّ إِلَى الْخَمْسَةِ الْمُعْتَادَةِ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَرَى مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيَهُ طُهْرًا فَرَأَتْ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّهْرِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ وَبَاقِيَهُ دَمًا أَصْفَرَ فَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا لِاجْتِمَاعِ التَّمْيِيزِ فِيهَا وَالْعَادَةُ، وَإِذَا اعْتَادَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيَهُ طُهْرًا فَرَأَتْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ وَبَاقِيَهُ دَمًا أَسْوَدَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا مُمَيِّزَةٌ، وَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ، لِتَمْيِيزِهِ مِمَّا يُجَاوَزُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ الْأَسْوَدُ حَيْضًا.
والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق أنها مُعْتَادَةٌ لَا تَمْيِيزَ لَهَا، وَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ اعْتِبَارًا بِالْعَادَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ، فَيَسْتَوِي الْحُكْمَانِ، وَيَخْتَلِفُ الْمَعْنَيَانِ فَتَكُونُ مُمَيِّزَةً عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَمُعْتَادَةً عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي.
(فَرْعٌ)
: وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ دَمًا أَسْوَدَ فَرَأَتْ فِي أَوَّلِهِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ حَيْضَهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ، وَالْخَمْسَةُ السَّوَادُ، وَلِتَمْيِيزِهَا عَمَّا لَيْسَ بِحَيْضٍ مِنْ بَعْدُ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ، لِمُوَافَقَتِهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ حَيْضَهَا الْخَمْسَةُ السَّوَادُ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِدَمِ الْحَيْضِ.
(فَرْعٌ)
: وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيهِ طُهْرًا فَرَأَتْ فِي شَهْرِهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فِي أَوَّلِهِ، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ الْأَسْوَدَ، فَإِنِ انْقَطَعَ مَا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَبَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ حَيْضٌ وَإِنْ تَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ دَخَلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ فِي الْحَيْضِ، وَلَهَا عَادَةٌ بِلَا تَمْيِيزٍ فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي كَانَتْ تَحِيضُهُ مِنْ قَبْلُ، وَهِيَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ، وَهَلْ تَحِيضُ قَدْرَ الْعَادَةِ مِنْ زَمَانِ الْعَادَةِ أَوْ مِنْ زَمَانِ الدَّمِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو العباس:(1/405)
أَحَدُهُمَا: مِنْ زَمَانِ الدَّمِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَالثَّانِي: مِنْ زَمَانِ الْعَادَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ الدَّمُ مُبْتَدِئًا لَا مَعْرِفَةَ لَهَا بِهِ أَمْسَكَتْ عَنِ الصَّلَاةِ ثُمَّ إِذَا جَاوَزَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا اسْتَيْقَنَتْ أَنَّهَا مستحاضةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَهِيَ الَّتِي لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ، وَهِيَ امرأة مبتدأة وناسية في كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَقْسَامٌ تَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ.
فَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ فَهِيَ الَّتِي بَدَأَ بِهَا الدَّمُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا حَيْضٌ مِنْ قَبْلُ، وَلَهَا سِنٌّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَمُهَا فِيهِ حَيْضًا، وَهُوَ تِسْعُ سِنِينَ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ رُؤْيَةِ الدَّمِ إِذَا كَانَ كَدَمِ الْحَيْضِ أَنْ تَدَعَ الصَّلَاةَ فَإِنِ اسْتَدَامَ بِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً بَانَ أَنَّهُ دَمُ حَيْضٍ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا لِلصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَدُمْ يَوْمًا وَلَيْلَةً بَانَ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ وَلَزِمَهَا إِعَادَةُ مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ عَلَيْهَا أَنْ تُصَلِّيَ لِرُؤْيَةِ الدَّمِ فَإِنِ انْقَطَعَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَانَ فَرْضُ الصَّلَاةِ لَهَا لَازِمًا وَأَجْزَأَهَا مَا صَلَّتْ، وَإِنِ اسْتَدَامَ بِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً تَرَكَتِ الصَّلَاةَ حِينَئِذٍ، قَالَ: لِأَنَّ رُؤْيَةَ الدَّمِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَيْضًا تَدَعُ فِيهِ الصَّلَاةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَمَ فَسَادٍ تَلْزَمُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ فَرْضِ الصَّلَاةِ بِالشَّكِّ وَالتَّجْوِيزِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: غَيْرُ الْمُبْتَدَأَةِ إِذَا بَدَأَتْ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ تَدَعُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ هذا التجويز موجود.
وَالثَّانِي: الْمُعْتَادَةُ إِذَا تَجَاوَزَ دَمُهَا قَدْرَ الْعَادَةِ تَدَعُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا التَّجْوِيزُ مَوْجُودًا وَإِذَا بَطُلَ بِهَذَيْنِ مَا عَلَّلَ بِهِ مِنْ هَذَا التَّجْوِيزِ، وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهَا، وَهُوَ أَنَّ مَا ابْتَدَأَتْ بِرُؤْيَتِهِ حَيْضٌ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَدَامَ بِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً فَصَاعِدًا فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ دَمًا أَسْوَدَ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دَمًا أَصْفَرَ أَوْ أَحْمَرَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفًا بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَصْفَرُ، فَإِنْ كَانَ دَمًا أَسْوَدَ فَهُوَ حَيْضٌ مَا لَمْ يُجَاوِزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ، وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَعَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ، وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَلِأَنَّهُ قَدْ خَلَا مِنْ عَلَامَتَيِ الْحَيْضِ.(1/406)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ حيضاًَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِوُجُودِ الدَّمِ فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَيْضًا وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ السَّوَادُ ثُمَّ تَتَعَقَّبُهُ الصفرة مثاله: أن ترى خمسة أيام دما أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ تَكُونُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا حَيْضًا لِوُجُودِ الدَّمَيْنِ فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ زَمَانَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ، وَلَا تَكُونُ الصُّفْرَةُ حَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ لَيْسَتْ لَهَا عَادَةٌ فَصَارَتِ الصُّفْرَةُ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْعَادَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَتَقَدَّمَ الصُّفْرَةُ ثُمَّ يَتَعَقَّبَهَا السواد مثاله: أن ترى خمسة أيام دما أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَكُونُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا حَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصُّفْرَةِ، وَمَا تَعَقَّبَ مِنَ السَّوَادِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَكُونُ حَيْضُهَا الْخَمْسَةَ السَّوَادَ دُونَ الصُّفْرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَعَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ، فَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَعَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الصُّفْرَةَ إِذَا تَعَقَّبَهَا سَوَادٌ لَمْ تَكُنْ حَيْضًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَوَسَّطَ السَّوَادُ بَيْنَ دَمَيِ الصُّفْرَةِ، مِثَالُهُ: أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا زَمَانَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ خَمْسَةُ أَيَّامٍ هِيَ زَمَانُ الدَّمِ الْأَسْوَدِ، وَلَا يَكُونُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الصُّفْرَةِ وَلَا مَا تَأَخَّرَ حَيْضًا لِوُجُودِهِمَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ الْخَمْسَةُ السَّوَادُ، وَالْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ، وَلَا تَكُونُ الصُّفْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ حَيْضًا لِمَا يَعْقُبُهَا مِنَ السَّوَادِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَتَوَسَّطَ الصُّفْرَةُ بَيْنَ دَمِ السَّوَادِ مِثَالُهُ: أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا زَمَانَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ زَمَانَ الدَّمَيْنِ الْأَسْوَدَيْنِ الْأُوَلُ وَالْأُخَرُ وَزَمَانُ الصُّفْرَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ طُهْرٌ لِمُفَارَقَتِهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ تَكُونُ الْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ لِمَا تَعَقَّبَهَا مِنَ السَّوَادِ كَطُهْرِ التَّلْفِيقِ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا إِذَا تَجَاوَزَ دَمُ الْمُبْتَدَأَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَقَدْ صَارَتْ حِينَئِذٍ مُسْتَحَاضَةً لَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا تَمْيِيزٌ عَمِلَتْ عَلَيْهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا وَسَالِفًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ فَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ كَمَا هُنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ إِنَّمَا تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ(1/407)
الْحَيْضِ يَوْمًا وَلَيْلَةً؛ لِأَنَّهُ يَقِينٌ وَاحْتِيَاطٌ وَمَا جَاوَزَهُ شَكٌّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْقِطَ بِالشَّكِّ فَرْضَ الصَّلَاةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ وسبعة أيام، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ " تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا " وَلِأَنَّ ذَلِكَ غَالِبُ عَادَاتِ النِّسَاءِ، فَاقْتَضَى أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهَا كَمَا تُرَدُّ إِلَى غَالِبِ عَادَاتِهِنَّ إِذَا اسْتَدَامَ الدَّمُ بِهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، وَلَيْسَ الْيَقِينُ فِيهِ مُعْتَبَرًا كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ فِي الْقَدْرِ غَالِبُ الْعَادَاتِ، وَلَا يَكُونُ الْيَقِينُ فِيهِ مُعْتَبَرًا، وَقَالَ أبو حنيفة: تُرَدُّ إِلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ، فَخَالَفَ الْقَوْلَيْنِ مَعًا؛ احْتِجَاجًا بِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي حَيْضٍ بِيَقِينٍ، فَلَمْ تَخْرُجْ مِنْهُ إِلَّا إِلَى طُهْرٍ بِيَقِينٍ.
وَدَلِيلُنَا مَعَ الْخَبَرِ أَنَّهُ اخْتَلَطَ حَيْضُهَا بِاسْتِحَاضَتِهَا فَوَجَبَ رَدُّهَا عَنِ الْأَكْثَرِ إِلَى مَا دُونِهِ كَالْمُعْتَادَةِ فِي رَدِّهَا عَنْ أَكْثَرِ الْحَيْضِ إِلَى أَيَّامِ الْعَادَةِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِظْهَارَ لِلْعَادَةِ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهَا فَامْتَنَعَ بِذَلِكَ رَدُّهَا إِلَى أَكْثَرِهِ، وَلَمْ يَبْقَ رَدُّهَا، إِلَى الْيَقِينِ، وَهُوَ الْأَقَلُّ أَوْ إِلَى الْأَغْلَبِ وَهُوَ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي السِّتِّ أَوِ السبع هل ترد إليها على طريق التخيير - أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ السِّتَّةِ أَوِ السَّبْعَةِ -.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا غَيْرُ مُخَيَّرَةٍ وَإِنَّمَا فَرْضُ الِاجْتِهَادِ إِلَيْهَا فِي حَيْضِ نَظَائِرِهَا مِنْ أَهْلِهَا فَإِنْ كَانَ غَالِبُ حَيْضِهِنَّ سِتًّا فَمَا دُونُ حَيَّضَتْ نَفْسَهَا سِتًّا وَإِنْ كان عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي السِّتِّ أَوِ السَّبْعِ نفسها معاً ثُمَّ تَصْنَعُ كَذَلِكَ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَلَوْ كَانَ أَوَّلُ دَمِهَا الَّذِي رَأَتْهُ أَصْفَرَ ثُمَّ تَعَقَّبَهُ سوادٌ، وَدَخَلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ فِي الْحَيْضِ، وَوَجَبَ رَدُّهَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَفِي الثَّانِي إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تُرَدُّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ إِلَى زَمَانِ الدَّمِ الْأَصْفَرِ أَوْ إِلَى زَمَانِ الدَّمِ الْأَسْوَدِ، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ تُرَدُّ إِلَى الدَّمِ الْأَصْفَرِ لِتَقَدُّمِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي ترد إلى الدم الأسود؛ لأنه اختص بدم الحيض، وإذا رُدَّتْ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ كَانَ الْقَدْرُ الَّذِي رُدَّتْ إِلَيْهِ مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أو الست أو السبع حيضاً يقيناً لا تقتضي مَا تَرَكَتْ فِيهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَكَانَ مَا بَعْدَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا يَقِينًا تُصَلِّي وَتَصُومُ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الزَّمَانِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْأُمِّ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طُهْرٌ بِيَقِينٍ تُصَلِّي وَتَصُومُ وَلَا تَقْضِيَ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا؛ لِأَنَّ رَدَّهَا إِلَى هَذَا الْقَدْرِ يَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ الْحَيْضِ عَلَى مَا سِوَاهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَهُوَ أَصَحُّ القولين.(1/408)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِإِمْكَانِ الْحَيْضِ فِيهِ مَعَ وُجُودِ الدَّمِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ، فَتُصَلِّي وَلَا تَقْضِيَ وَتَصُومُ وَتَقْضِي؛ لِأَنَّ الْحَائِضَ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصِّيَامِ وَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ فَأُمِرَتْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ طَاهِرًا، وَأُمِرَتْ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِضًا، وَيُمْنَعُ الزَّوْجُ مِنْ إِتْيَانِهَا، وَكَذَا تُمْنَعُ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَحَمْلِ الْمُصْحَفِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ فَهَذَا حُكْمُ الْمُبْتَدَأَةِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا النَّاسِيَةُ فَتَنْقَسِمُ حَالُهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِقَدْرِ حَيْضِهَا وَوَقْتِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِقَدْرِ حَيْضِهَا ذَاكِرَةً لِوَقْتِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِوَقْتِ حَيْضِهَا ذَاكِرَةً لِقَدْرِهِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ النَّاسِيَةُ لِقَدْرِ حَيْضِهَا وَوَقْتِهِ، فَصُورَتُهُ فِي امْرَأَةٍ اتَّصَلَ دَمُهَا وَاسْتَدَامَ وَهُوَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَمَيَّزُ ولها عادة في الحيض سالفة، قَدْ نَسِيَتْ قَدْرَهَا، وَلَا تَعْلَمُ هَلْ كَانَ يَوْمًا أَوْ خَمْسًا أَوْ عَشْرًا أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَنَسِيَتْ وَقْتَهَا فَلَا تَعْلَمُ هَلْ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟ هَلْ كَانَتْ تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، فَهَذِهِ يُسَمِّيهَا أَصْحَابُنَا الْمُتَحَيِّرَةُ لِإِشْكَالِ أَمْرِهَا وَتَرَدُّدِهَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَغْلَطُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْمُبْتَدَأَةِ لَمَّا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ " وَإِذَا ابْتَدَأَتْ مُسْتَحَاضَةً أَوْ نَسِيَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا تَرَكَتِ الصَّلَاةَ لِأَقَلِّ مَا تَحِيضُ لَهُ النِّسَاءُ، وَذَلِكَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " فَظَنَّ أَنَّهُ أَرَادَ هَذِهِ النَّاسِيَةَ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ زَمَانِ حَيْضِهَا مَجْهُولٌ، فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الِاجْتِهَادِ مَعَ الْجَهْلِ بِالزَّمَانِ، وَلِأَصْحَابِنَا عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأَةِ وَالنَّاسِيَةِ، وَعَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهِمَا مُرِيدًا لِلْمُبْتَدَأَةِ دُونَ النَّاسِيَةِ وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ هَذَا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ النَّاسِيَةَ لِقَدْرِ حَيْضِهَا إِذَا كَانَتْ ذَاكِرَةً لِوَقْتِهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
فَأَمَّا النَّاسِيَةُ لِلْأَمْرَيْنِ قَدْرًا وَوَقْتًا، فَهِيَ مَجْهُولَةُ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَهِيَ فِي مَحْظُورَاتِ الْحَيْضِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
قِسْمٌ يَجِبُ عَلَيْهَا اجتنابه، وقسم يجب عليها فعله، وقسم يختلف فيه.
فأما القسم الذي يلزمها اجتنابه فهو حمل المصحف أو دخول الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ(1/409)
فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالتَّطَوُّعِ بِنَفْلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّوَافِ، فَتُمْنَعُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ حَائِضًا، وَلَيْسَ يَضُرُّهَا تَرْكُهُ إِنْ كانت طاهراً.
فأما القسم الذي يلزمها فعله وهو مَا كَانَ فَرْضًا مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّوَافِ، فَيَلْزَمُهَا فِعْلُهُ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ طَاهِرًا، وَلَيْسَ يسقط فرضه بالشك.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَشَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَطْءُ الزَّوْجِ.
وَالثَّانِي: سُنَنُ الصَّلَوَاتِ الْمُوَظَّفَاتِ، وَفِيهِمَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْهُمَا وَأَمَّا وَطْءُ الزَّوْجِ فَلَرُبَّمَا صَادَفَ حَيْضًا مَحْظُورًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تستبيحها بِالشَّكِّ، وَأَمَّا السُّنَنُ مِنَ الصَّلَوَاتِ الرَّاتِبَةِ، فَلِأَنَّ فِعْلَهَا فِي الْحَيْضِ أَغْلَظُ مِنْ تَرْكِهَا فِي الطُّهْرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُمَكَّنَةٌ مِنْهُمَا غَيْرُ مَمْنُوعَةٍ مِنْ فِعْلِهِمَا، أَمَّا وَطْءُ الزَّوْجِ فَلِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا يَقِينًا، فَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا شَكٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْعَهُ مِنْهَا مَعَ اسْتِدَامَةِ حَالِهَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَتْ كَالْمُبْتَدَأَةِ إِذَا أُشْكِلَ حَالُهَا؛ لِأَنَّ زَمَانَ الشَّكِّ يَسِيرٌ.
وَأَمَّا السُّنَنُ مِنَ الصَّلَوَاتِ فلأمرين:
أحدهما: أنها تبع لِلْمَفْرُوضَاتِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَمَّا كَانَتْ مَأْمُورَةً بِفِعْلِ الْمَفْرُوضَاتِ صَارَتْ مَأْمُورَةً بِفِعْلِ الْمَسْنُونَاتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَعَارُضَ الشَّكَّيْنِ قَدْ تَقَابَلَا، وَالْأَصْلُ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فَالْكَلَامُ بَعْدَهَا فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي صِحَّةِ الطَّهَارَةِ.
وَالثَّانِي: فِي إجزأ مَا فَعَلَتْهُ مِنْ عِبَادَةٍ.
فَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَعْرِفَ وَقْتَ غُسْلِهَا حِينَ كَانَ يَنْقَطِعُ دَمُهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ حَيْضِهَا أَمْ لَا فَإِنْ عَرَفَتْهُ، وَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ اغْتَسَلَتْ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ وَتَوَضَّأَتْ لِمَا سِوَى الْمَغْرِبِ مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ كُلَّ يَوْمٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ حَيْضِهَا فَلَزِمَهَا الْغُسْلُ فِيهِ، وَمَا سِوَى الْمَغْرِبِ لَمْ تَجْرِ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهِ فَلَمْ تَغْتَسِلْ فِيهِ، وَتَوَضَّأَتْ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ، وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُمَرَ أَنَّ(1/410)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ ظُهْرٍ إِلَى ظُهْرٍ بِالظَّاءِ مُعْجَمَةً، يُرِيدُ بِهِ مَا وَصَفْنَا مِنْ مُسْتَحَاضَةٍ ذَكَرَتْ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ الظُّهْرِ فَأَمَرَهَا بِالْغُسْلِ فِي ظُهْرِ كُلِّ يَوْمٍ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مِنْ طُهْرٍ إِلَى طُهْرٍ بالطاء غير معجمة، عِنْدَ تَقَضِّي الْحَيْضِ، وَإِقْبَالِ الطُّهْرِ، وَلِكُلِّ رِوَايَةٍ مِنْهُمَا وَجْهٌ، وَهِيَ فِي مَوْضِعِهَا دَلِيلٌ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ وَقْتُ غُسْلِهَا حِينَ كَانَ يَنْقَطِعُ دَمُهَا، وَنَسِيَتْ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَتَصْبِرَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقْتَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا وَيَكُونُ الْغُسْلُ فِي آخِرِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهَا بَعْدَ الْغُسْلِ إِلَّا فِعْلُ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقَطِعَ دَمُهَا فِي آخِرِهِ فَلَا يُجْزِئُهَا مَا قَدَّمَتْ فِي أَوَّلِهِ مِنَ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ، وَقَدْ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اسْتُحِيضَتْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اغْتَسِلِي لِكُلِّ صلاةٍ " فَهَذَا الْكَلَامُ فِي طَهَارَتِهَا.
(فصل)
: وأما إجزأ مَا فَعَلَتْهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَهِيَ ثَلَاثُ عِبَادَاتٍ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالطَّوَافُ.
فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أصحابنا فيها فالذي عليه جمهورهم أنها تُصَلِّيَ فِي آخِرِ كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ صَلَاةً وَاحِدَةً، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ فِيهِ طَاهِرًا، وَلَا يَلْزَمُهَا إِعَادَتُهَا؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ طَاهِرًا فَقَدْ أَدَّتْهَا فِي وَقْتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا لَمْ يَلْزَمْهَا قَضَاؤُهَا، وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: عَلَيْهَا أَنْ تُعِيدَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ عِنْدَ غُسْلِ الْمَغْرِبِ، وَتُعِيدُ الْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ عِنْدَ غُسْلِ الصُّبْحِ، قَالَ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْقَطِعَ دَمُهَا قَبْلَ الْمَغْرِبِ بِرَكْعَةٍ فَتَجِبُ عَلَيْهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَلَا يُجْزِئُهَا صَلَاتُهَا مِنْ قَبْلُ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ فَيَلْزَمُهَا الْمَغْرِبُ وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ، وكلا المذهبين عندي مدخول؛ لِأَنَّهَا بِالشَّكِّ فِي الْحَيْضِ مُلْتَزِمَةٌ لِصَلَاةِ الْوَقْتِ مَأْخُوذَةٌ بِأَدَائِهَا عَلَى الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ الثَّابِتَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ فِي الْأَدَاءِ، وهي إذا صلت في أول الوقت جاز أن يكون الطهر في أوله وإذا صلت في وسط الوقت جَازَ أَنْ يَكُونَ الطُّهْرُ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ فيه فلم ينتقض فعل الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ وَقْتِهَا، إِنَّهَا مُؤَدِّيَةٌ لَهَا بِيَقِينٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تَتْرُكُ تَنْزِيلَيْنِ هُمَا أَغْلَظُ أَحْوَالِهَا فِي الْتِزَامِ فَرْضِ الْوَقْتِ، وَصِفَةُ أَدَائِهَا أَحَدَ التَّنْزِيلَيْنِ أَنْ يَسْتَدِيمَ الطُّهْرُ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَإِمْكَانِ أَدَائِهَا ثُمَّ تَحِيضُ فِي بَاقِيهِ فَتَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ طُهْرِهَا.
وَالتَّنْزِيلُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَدِيمَ الْحَيْضُ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ثُمَّ تَطْهُرُ فِي بَاقِيهِ فَتَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِالْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ طُهْرِهَا؛ فَحَصَلَ مِنْ هَذَيْنِ التَّنْزِيلَيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا إِذَا دَخَلَ وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَنْ تُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ طُهْرِهَا ثُمَّ تُصَلِّيَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ صَلَاةً ثَانِيَةً بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ طُهْرِهَا(1/411)
فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ صَلَّتْ فِي أَوَّلِهِ بِالْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْلِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ طُهْرِهَا ثُمَّ أَعَادَتِ الصَّلَاةَ بِالْغُسْلِ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ مَا يَلْزَمُهَا بِهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ عَلَى مَا اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ تُعِيدُ صَلَاةَ الظُّهْرِ ثَالِثَةً فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ أَنْ تبتدي بالظهر فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَلْزَمُهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَإِنْ قَدَّمَتِ الْعَصْرَ الثَّانِيَةَ عَلَى الظُّهْرِ الثَّالِثَةِ كَانَ غُسْلُ الْعَصْرِ لَهُمَا وَتَوَضَّأَتْ لِلظُّهْرِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَإِنْ قَدَّمَتْ ثَالِثَةَ الظُّهْرِ عَلَى ثَانِيَةِ الْعَصْرِ فَإِنَّ الْغُسْلَ لَهُمَا وَتَوَضَّأَتْ لِلْعَصْرِ، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ صَلَّتِ الْمَغْرِبَ بِالْغُسْلِ صَلَاةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ عِشَاءِ الْآخِرَةِ صَلَّتْهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ طُهْرِهَا ثُمَّ أَعَادَتْهَا فِي آخِرِ وَقْتِهَا بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ طُهْرِهَا وَأَعَادَتْ مَعَهَا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ بِغُسْلِهَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، لِجَوَازِ أَنْ تَبْتَدِئَ بالطهر في آخر وقت عشاء الآخر فيلزمها صلاة المغرب وعشاء الآخر، وتتوضأ للآخرة منهما، فإذا طلع الفجر صلت الصبح فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ طُهْرِهَا، ثُمَّ أَعَادَتْ فِي آخِرِ وَقْتِهَا بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ طُهْرِهَا فَتَصِيرُ مُصَلِّيَةً لِلظُّهْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهِيَ أَغْلَظُ صَلَاتِهَا حكماً عليها مرة في آخر وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ، وَثَانِيَةً فِي آخِرِ وَقْتِهَا بِالْغُسْلِ، وَثَالِثَةً فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْغُسْلِ الْوَاحِدِ لَهَا فِي الْعَصْرِ، وَتَصِيرُ مُصَلِّيَةً لِلْعَصْرِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِالْوُضُوءِ، وَثَانِيَةً فِي آخِرِ وَقْتِهَا بِالْغُسْلِ وَتَصِيرُ مُصَلِّيَةً لِلْمَغْرِبِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي وَقْتِهَا بِالْغُسْلِ، وَثَانِيَةً فِي آخِرِ وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِالْغُسْلِ لَهَا، وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَتَصِيرُ مُصَلِّيَةً لِعِشَاءِ الْآخِرَةِ، مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِالْوُضُوءِ، وَثَانِيَةً بِالْغُسْلِ ثُمَّ كَذَلِكَ الصُّبْحُ فَتَصِيرُ مُؤَدِّيَةً لِفَرْضِ الْخَمْسِ يَقِينًا.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الصِّيَامُ فَإِذَا أَهَّلَ شَهْرُ رَمَضَانَ صَامَتْ جَمِيعَهُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا صَامَتْهُ اعْتَدَّتْ مِنْهُ بِصِيَامِ نِصْفِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَعَادَتْ صوم خمسة عشرة يَوْمًا فِي شَهْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ أَسْوَأَ أَحْوَالِهَا أَنْ تَكُونَ فِي نِصْفِ شَهْرِهَا حَائِضًا وَفِي نِصْفِهِ طَاهِرًا فَكَذَلِكَ اعْتَدَّتْ مِنْ فَرْضِهَا بِصَوْمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّهُ أَقَلُّ طُهْرِهَا فِيهِ، وإعادة صَوْمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّهُ أَكْثَرُ حَيْضِهَا فِيهِ وَلَيْسَ يَتَعَيَّنُ لَهَا مَا تَعْتَدُّ بِصَوْمِهِ مِنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَسَطِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِهِ، وَلَا يَكُونُ جَهْلُهَا بِتَعْيِينِهِ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ الِاحْتِسَابِ بِهِ، فَهَذَا مَا أَطْلَقَهُ أَصْحَابُنَا مِنِ احْتِسَابِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْهُ. قُلْتُ أَنَا: وَهَذَا الْإِطْلَاقُ عِنْدِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ لَهَا حَالَيْنِ حَالٌ يُعْلَمُ أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ كَانَ يَبْتَدِئُ بِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الِاحْتِسَابِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ الْكَامِلِ لما ذكره مِنَ التَّعْلِيلِ، وَحَالٌ يُجْهَلُ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يبتدئ فيه حيضها ولا(1/412)
يعلم هَلْ كَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ فَهَذِهِ لَا تُحْتَسَبُ مِنْ صَوْمِ شَهْرِهَا الْكَامِلِ إِلَّا بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَا الْحَيْضُ فِي تَضَاعِيفِ الْيَوْمِ مِنْ نِصْفِهِ، وَيَسْتَدِيمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَيَكُونُ آخِرُهُ نِصْفُ السَّادِسَ عَشَرَ فَيَبْطُلُ صَوْمُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَصَوْمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا بَعْدَهُ كَامِلَةً، وَصَوْمُ الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ بَاطِلٌ؛ لِوُرُودِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَيَصِحُّ لَهَا صَوْمُ مَا سِوَاهُ وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِنْ كَانَ الشَّهْرُ كَامِلًا؛ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِنْ كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا، وَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَإِذَا صَامَتْ شَهْرًا لِلْقَضَاءِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ كَامِلًا احْتُسِبَ مِنْهُ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبَقِيَ عَلَيْهَا قَضَاءُ يَوْمَيْنِ فَتَقْضِيهِمَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا احْتَسَبَتْ مِنْهُ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبَقِيَ عَلَيْهَا قَضَاءُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَّا صِيَامُ الْأَيَّامِ الْمُفْرَدَةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا صَامَتْ يَوْمًا وَاحِدًا وَأَمْسَكَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَتْ يَوْمًا ثَانِيًا، لِيَكُونَ أَحَدُ الْيَوْمَيْنِ مُصَادِفٌ الطُّهْرَ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حَائِضًا، فَأَسْوَأُ أَحْوَالِهَا أَنْ يَكُونَ ذلك اليوم أول حيضها، وتستديم خمسة عشرة يَوْمًا فَيَكُونُ الْيَوْمُ الْآخِرُ الَّذِي صَامَتْهُ بَعْدَ إمساك أربعة عشر يوماً طهر بِيَقِينٍ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ طَاهِرًا فَقَدْ أَجْزَأَهَا صَوْمُهُ، وَلَا يَضُرُّهَا صَوْمُ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَإِنْ صَادَفَ حَيْضًا قَالُوا: فَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمَيْنِ صَامَتْهُمَا ثُمَّ أَمْسَكَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ عَدَدٌ يُكْمِلُ مَعَ أَيَّامِ الصَّوْمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ تَصُومُ بَعْدَ ذلك يومين آخرين ليكون أحد الطوافين عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمِنَ التَّعْلِيلِ مُصَادِفًا لِطُهْرٍ بِيَقِينٍ فَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ أَمْسَكَتْ عَنِ الصِّيَامِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا ثم صامت ثلاثة أيام بعدها فيكون أحد الطوافين مُصَادِفًا لِطُهْرٍ بِيَقِينٍ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صَامَتْهَا، وَأَمْسَكَتْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ صَامَتْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ صَامَتْهَا، وَأَمْسَكَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَامَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَأَمْسَكَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَامَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَهَكَذَا يَكُونُ فِيمَا زَادَ مِنَ الْأَيَّامِ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ تُصُومُهَا وَتُمْسِكُ مَا بَعْدَهَا مِنَ الْأَيَّامِ مَا يَسْتَكْمِلُ مَعَهَا تَمَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ تُعِيدُ صِيَامَ تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ مِنْ أَصْحَابِنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا، وإنما يصح ممن علمت أن حَيْضِهَا بَعْدَ الْفَجْرِ فَلَا يُجْزِئُهَا فِي الْقَضَاءِ مَا وَصَفُوهُ؛ لِأَنَّهَا إِذَا صَامَتْ لِقَضَاءِ يَوْمٍ يكون ابتداء حَيْضَهَا يَبْتَدِئُ بِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ تَعْلَمْ ذَاكَ مِنْ حَالِهَا وَجَوَّزَتْ أَنْ
يَوْمَيْنِ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا جَازَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا مِنْ نِصْفِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي صَامَتْهُ، وَآخِرُهُ نِصْفَ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ الَّذِي صَامَتْهُ تَكْمِلَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ فَلَا يُجْزِئُهَا صَوْمُ وَاحِدٍ مِنَ الْيَوْمَيْنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ مَوْجُودًا فِيهِمَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْوَجْهُ الَّذِي يَسْلَمُ بِهِ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَيُؤَدِّي فَرْضَ صَوْمِهَا بِيَقِينٍ أَنْ تَزِيدَ فِي صَوْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عَلَى(1/413)
الْعَدَدِ الَّذِي يَزِيدُ قَضَاؤُهُ مِنَ الْأَيَّامِ صَوْمَ يوم واحد زائداً على ذلك العدد لتجرية مَا وَصَفْنَا مِنَ الِاحْتِمَالِ، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ صَامَتْ يَوْمَيْنِ، وَأَمْسَكَتْ ثَلَاثَةَ عشر يوماً، ثُمَّ صَامَتْ يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ فَيَصِحُّ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمٌ وَاحِدٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَيْضُهَا فِي نِصْفِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ، كَانَ آخِرُهُ نِصْفَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّيَامِ الْآخَرِ أَجْزَأَهَا صَوْمُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي؛ لِمُصَادَفَتِهِ طُهْرًا أَوْ إِنْ كَانَ أَوَّلُ حَيْضِهَا نِصْفَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ، كَانَ آخِرُهُ نِصْفَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الصِّيَامِ الثَّانِي، فَسَلِمَ لَهَا نِصْفُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ؛ لِمُصَادَفَتِهِ طُهْرًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمَيْنِ صَامَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَمْسَكَتِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ صَامَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ كَانَ أَوَّلُ حَيْضِهَا نِصْفَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّيَامِ فَآخِرُهُ نِصْفُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّيَامِ الْآخَرِ فَأَجْزَأَهَا الْيَوْمَانِ بَعْدَهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ حَيْضِهَا نِصْفَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ فَآخِرُهُ نِصْفُ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنَ الصِّيَامِ الْأَخِيرِ فَأَجْزَأَهَا صَوْمُ الْيَوْمِ الأول، لتقدمه على الحيض وصوم الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ؛ لِتَقَدُّمِهِ عَلَى الْحَيْضِ وَصَوْمُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ الصِّيَامِ الْأَخِيرِ لِتَأَخُّرِهِ عَنِ الْحَيْضِ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ حَيْضِهَا نصف اليوم الثالث مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ فَآخِرُهُ نِصْفُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ الصِّيَامِ الْأَخِيرِ، فَأَجْزَأَهَا صَوْمُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنَ الصِّيَامِ الْأَوَّلِ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَامَتْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَأَمْسَكَتْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَتْ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، لِيَسْلَمَ لَهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صَامَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَأَمْسَكَتْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ صَامَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَيَصِحُّ لَهَا صَوْمُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ صَامَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَأَمْسَكَتْ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَامَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ، فَيَصِحُّ لَهَا صَوْمُ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي صَوْمِ مَا زَادَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ بِأَنْ تَصُومَهُ مَعَ يَوْمٍ زَائِدٍ ثُمَّ تُمْسِكُ تَمَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ تُعِيدُ صَوْمَ تِلْكَ الْأَيَّامِ مَعَ الْيَوْمِ الزَّائِدِ فَيَسْلَمُ لَهَا صَوْمُ تِلْكَ الْأَيَّامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الطَّوَافُ إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَأَرَادَتْ فَعَلَيْهَا أَنْ تَطُوفَ ثُمَّ تُمْسِكَ تَمَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَعَ أَوَّلِ سَاعَةٍ بَدَأَتْ فِيهَا بِالطَّوَافِ ثُمَّ تَطُوفُ عُقَيْبَ ذَلِكَ طَوَافًا ثَانِيًا فَيَصِحُّ لَهَا أَحَدُ الطَّوَافَيْنِ مِثَالٌ: أَنْ تَكُونَ قَدْ بَدَأَتْ بِالطَّوَافِ مَعَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَتُمْسِكُ إِلَى زَوَالِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الْخَامِسِ عَشَرَ ثُمَّ تَطُوفُ ثَانِيَةً عُقَيْبَ الزَّوَالِ سَوَاءً عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا يَبْتَدِئُ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِخِلَافِ الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ مَعَ وُجُودِ الْحَيْضِ فِي بَعْضِهِ لَا يَصِحُّ، وَالطَّوَافُ فِي يَوْمٍ قَدْ كَانَتْ حَائِضًا فِي بَعْضِهِ يَصِحُّ، فَإِذَا فَعَلَتْ مَا وَصَفْنَا كَانَ أَحَدُ الطَّوَافَيْنِ مُصَادِفًا لِطُهْرٍ بِيَقِينٍ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي أَوَّلِ حَيْضِهَا كَانَ الثَّانِي فِي أَوَّلِ طُهْرِهَا وَإِنْ كَانَ(1/414)
الْأَوَّلُ فِي وَسَطِ الْحَيْضِ كَانَ الثَّانِي فِي وَسَطِ الطُّهْرِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي الطُّهْرِ فهو المجزئ، ولا تضر مُصَادَفَةُ الثَّانِي لِلْحَيْضِ، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَتْ طَوَافًا غَيْرَ وَاجِبٍ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَبْتَدِئَ بِهِ تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَلَا يَجُوزُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الْإِشْكَالِ، كَمَا لَا يجوز أن تتطوع بالصلاة وَإِنْ كَانَ مَسْنُونًا لَهُ سَبَبٌ رَاتِبٌ فَعَلَى ضربين:
أحدهما: أن يلزمه فِي تَرْكِهِ جُبْرَانُ دَمٍ كَطَوَافِ الْوَدَاعِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَلَهَا أَنْ تَطُوفَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَا تُمْنَعَ مِنْهُ، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهَا من دم الجبران.
والضرب الثاني: أن يَلْزَمَ فِي تَرْكِهِ دَمٌ، كَطَوَافِ الْقُدُومِ فَهَلْ تُمْنَعُ مِنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ كَالْمَسْنُونَاتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمُوَظَّفَاتِ هَذَا حُكْمُ النَّاسِيَةِ لِقَدْرِ حَيْضِهَا وَوَقْتِهِ حَتَّى خَرَجَ بِنَاءُ الِاسْتِيفَاءِ إِلَى الإطالة التي أنالها كاره لكن ما اقتضت إِبَانَةُ الْمَشْرُوحِ كَانَ إِغْفَالُهُ تَقْصِيرًا وَتَرْكُهُ عَجْزًا.
(فَصْلٌ)
: فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِيَةِ وَهِيَ النَّاسِيَةُ لِقَدْرِ حَيْضِهَا الذَّاكِرَةُ لِوَقْتِهِ، وَإِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ أَعْلَمُ أَنَّ لِي مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً لَكِنِّي نَاسِيَةٌ لِقَدْرِهَا فَلَا أَعْلَمُ أَيَوْمٌ هِيَ أَمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فهذه في حكم المبتدأة في أن يحيض في أو كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، وَفِي قَدْرِ مَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ قَوْلَانِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُبْتَدَأَةِ:
أَحَدُهَا: تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ الْحَيْضِ يوم وليلة.
والثاني: ترد إلى وسطه ست أو سبع، وَقَدْ مَضَى تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ أبو حنيفة تُرَدُّ إِلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ مَا تَجَاوَزَهَا مُخْتَصٌ بِالْإِشْكَالِ دُونَ مَا حَلَّ فِيهَا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِحَمْنَةَ " تَحِيضِي فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا " وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ عَادَتُهَا مُعْتَبَرَةً عِنْدَ وُجُودِهَا اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ عَادَةُ غَيْرِهَا مُعْتَبَرَةً عِنْدَ عَدَمِهَا، اسْتِدْلَالًا بِأَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ لِفَرْضِ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي أَحَدَ أَمْرَيْنِ إِمَّا اعْتِبَارُ الْيَقِينِ، وَذَلِكَ أَقَلُّ الْحَيْضِ، وَإِمَّا اعْتِبَارُ الْغَالِبِ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فَأَمَّا اعْتِبَارُ أَكْثَرِهِ فَخَارِجٌ عَنِ الِاحْتِيَاطِ؛ لِفَرْضِ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَكُونُ التَّفْرِيعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ عَلَى مَا مَضَى فِي الْمُبْتَدَأَةِ مِنْ أَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي رُدَّتْ إِلَيْهِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَمَا بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَفِيمَا بَيْنَهُمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: طُهْرٌ بقين.
وَالثَّانِي: مَشْكُوكٌ فِيهِ فَيَمْتَنِعُ الزَّوْجُ مِنْ وَطْئِهَا، فيِهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِقُرْبِ زَمَانِهِ، وَهَلْ يَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ مِنَ الْمَسْنُونَاتِ مَعَهَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْوَجْهَيْنِ، فَلَوْ قَالَتْ أَعْلَمُ أَنَّ لِي فِي أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ ثلاثة أيام حيض وشك فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، فَهَذِهِ أَيْضًا عَلَى(1/415)
قولين إن اعْتَبَرْنَا الْيَقِينَ في رد هذه إلى ثلاثة أيام وإن اعتبرنا الغالب تلك رددناها إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَهَكَذَا لَوْ قَالَتْ أَتَيَقَّنُ خَمْسًا مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ، وَأَشُكُّ فِي الزِّيَادَةِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ تُرَدُّ إِلَى خَمْسٍ اعْتِبَارًا بِالْيَقِينِ، وَالثَّانِي تُرَدُّ إِلَى سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ اعْتِبَارًا بِالْغَالِبِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَتْ أَتَيَقَّنُ سَبْعًا مِنْ أَوَّلِهِ، وَأَشُكُّ فِي الزِّيَادَةِ رُدَّتْ إِلَى السَّبْعِ عَلَى الْيَقِينِ، فَإِذَا أَهَلَّ عَلَيْهَا شَهْرُ رَمَضَانَ وَحَالُهَا مَا وَصَفْنَا تَرَكَتْ مِنْ أَوَّلِهِ صِيَامَ الْقَدْرِ الَّذِي رُدَّتْ إِلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمِنَ الثَّانِي سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، وَصَامَتْ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ، وَاحْتَسَبَتْ مِنْهُ بِمَا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ النِّصْفُ الثَّانِي مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا فِيهِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ وَهَلْ تُحْتَسَبُ بِمَا بَيْنَ الْقَدْرِ الَّذِي رُدَّتْ إِلَيْهِ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَهِيَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ عَلَى قَوْلَيْنِ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، احْتَسَبَتْ وَأَعَادَتْ صِيَامَ الْأَيَّامِ الَّتِي رُدَّتْ إِلَيْهَا لَا غَيْرَ، وَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، أَعَادَتْ صِيَامَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ كُلِّهَا، وَهُوَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَقَضَتْهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ وَأَجْزَأَهَا؛ لِأَنَّهَا فِيهِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ.
(فَرْعٌ)
: وَلَوْ قَالَتْ: أَعْلَمُ أَنَّ لِي مِنْ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، وَهِيَ إِمَّا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ فِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنْهُ، وَأَنَا نَاسِيَةٌ لِقَدْرِهَا، وَفِي أَيِّ الزَّمَانَيْنِ هِيَ مِنَ الشَّهْرِ، فَهَذِهِ لَهَا طُهْرٌ، وَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ لِأَنَّكَ تُنْزِلُهَا تَنْزِيلَيْنِ، فَتَجْعَلُ فِي أَحَدِ التَّنْزِيلَيْنِ حَيْضَهَا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَتَحِيضُهَا مِنْ أَوَّلِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَسِتًّا أَوْ سَبْعًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي فَتُصَلِّي هَذَا الْقَدْرَ بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ تَقَضِّيهِ وَهِيَ فِيمَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ طَاهِرٌ إِمَّا طُهْرٌ بِيَقِينٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ طُهْرُ شَكٍّ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي فَهَذَا أَحَدُ التَّنْزِيلَيْنِ.
وَالتَّنْزِيلُ الثَّانِي: أَنْ تَجْعَلَ حَيْضَهَا أَوَّلَ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الشَّهْرِ فَتَحِيضُهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ السَّادِسَ عَشَرَ وَحْدَهُ وَسِتًّا أَوْ سَبْعًا فِي الْقَوْلِ الثَّانِي وهي من السادس عشر إلى الثالث وَالْعِشْرِينَ، فَتُصَلِّي فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ ليس بحيض متيقين لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَيْضُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا مَضَى هَذَا الْقَدْرُ اغْتَسَلَتْ فِي آخِرِهِ وهي بعده إلى آخر الشهر طاهراً ما طُهْرٌ بِيَقِينٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَوْ طُهْرُ شَكٍّ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي.
(فَرْعٌ)
: وَلَوْ قَالَتْ أَعْلَمُ أَنَّ لِي فِي كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً لَا أَعْلَمُ قَدْرَهَا وَلَا مَوْضِعَهَا مِنَ الشَّهْرِ هل هي أَوَّلِهِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟ فَهَذِهِ لَيْسَ لَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ وَلَا طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَحُكْمُهَا أَنْ تُصَلِّيَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ قدر ما ترد إليه فذلك يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَسِتٌّ أَوْ سَبْعٌ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي ثُمَّ تَغْتَسِلَ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، وَالْكَلَامُ مِمَّا تَحْتَسِبُ بِهِ مِنْ صِيَامِ شَهْرِهَا عَلَى مَا مَضَى فَهَذَا حُكْمُ النَّاسِيَةِ لِقَدْرِ حَيْضِهَا الذاكرة لوقته.(1/416)
(فَصْلٌ)
: فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ النَّاسِيَةِ، وَهِيَ النَّاسِيَةُ لِوَقْتِ حَيْضِهَا الذَّاكِرَةُ لِقَدْرِهِ، وَإِذَا قالت المرأة أعلم أن حيضي عَشَرَةُ أَيَّامٍ أَنَا نَاسِيَةٌ لِزَمَانِهِ، فَهَذِهِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَنْسَى شُهُورَهَا وَمَوْقِعَ الْحَيْضِ مِنْهَا، مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حِيضَتِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَأَنَا نَاسِيَةٌ هَلْ هِيَ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَوْ شُهُورٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ وَنَاسِيَةٌ هَلْ هِيَ أَوَّلَ الشَّهْرِ أو في وسطه أو آخره؟ فهذا فِي حُكْمِ النَّاسِيَةِ لِلْأَمْرَيْنِ الْمُسَمَّاةُ الْمُتَحَيِّرَةُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ تَحِيضُ بِالصِّيَامِ، وَهُوَ أَنَّهَا إِذَا صَامَتْ شَهْرَ رَمَضَانَ احْتُسِبَ بِهِ إِلَّا قَدْرَ أَيَّامِ حَيْضِهَا الَّتِي عَلِمَتْهَا، وَهِيَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ تَقْضِيهَا فِي عِشْرِينَ يَوْمًا إِنْ عَلِمَتْ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ قَضَتْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ يَوْمٌ مِنَ الْعَشَرَةِ مُبَعَّضًا مِنْ يَوْمَيْنِ فَيَبْطُلُ بِالْعَشَرَةِ صِيَامُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَتَقْضِيهَا فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا هِيَ ضِعْفُهَا، وَزِيَادَةُ يوماً لِجُبْرَانِ التَّبْعِيضِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمٍ وَاحِدٍ صَامَتْ يَوْمَيْنِ بَيْنَهُمَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ إِنْ عَلِمَتْ تَقَدُّمَ حَيْضِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ صَامَتْ يَوْمَيْنِ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ لِيَكُونَ الْيَوْمُ الزَّائِدُ فِي الْإِمْسَاكِ جُبْرَانًا لِلتَّبْعِيضِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ يَوْمَيْنِ صَامَتْ يَوْمَيْنِ، وَأَمْسَكَتْ تسعة أيام وصامت آخَرِينَ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ صَامَتْهَا وَأَمْسَكَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَامَتْ ثَلَاثَةَ أيام أخر والطريق إلى معرفة ذلك أنك تَزِيدُ عَلَى أَيَّامِ حَيْضِهَا يَوْمًا لِجُبْرَانِ التَّبْعِيضِ، وَتَصُومُ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْأَيَّامِ ثُمَّ تُسْقِطُهَا مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا مَعَ الْيَوْمِ الزَّائِدِ، وَتَنْظُرُ الْبَاقِيَ بَعْدَهُ فَيَكُونُ هُوَ عَدَدُ الْأَيَّامِ الَّتِي تُمْسِكُهَا، ثُمَّ تُعِيدُ صِيَامَ تِلْكَ الْأَيَّامِ بَعْدَهَا وَتَكُونُ فِي هَذَا بِخِلَافِ الْمُتَحَيِّرَةِ؛ لِأَنَّ حَيْضَ هَذِهِ أَقَلُّ مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا مُخَالَفَتُهَا فِي الْحُكْمِ.
(فَصْلٌ)
: وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَذْكُرَ شُهُورَهَا، وَتَنْسَى مَوْضِعَ الْحَيْضِ مِنْهَا مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَأَنَا نَاسِيَةٌ لِمَوْضِعِ الْحَيْضِ مِنْهَا فَهَذِهِ فِي حُكْمِ الَّتِي قَبْلَهَا إِلَّا فِي الطَّهَارَةِ وَحْدَهَا، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ تَتَوَضَّأُ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِيهِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ بَعْدَ تَقَضِّي الْعَشَرَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ؛ لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا أَنْ تَعْلَمَ وَقْتَ غُسْلِهَا مِنَ الْيَوْمِ، فَتَغْتَسِلُ فِي مَثْلِهِ، مِنْ كُلِّ يَوْمٍ ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ فِيمَا زَادَ مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا، أَوْ نَقَصَ فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا.
(فَصْلٌ)
: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْسَى شُهُورَهَا وَتَذْكُرَ مَوْضِعَ الْحَيْضِ مِنْهَا مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَأَنَا نَاسِيَةٌ هَلْ هِيَ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَوْ شُهُورٍ، فَهَذِهِ تَغْتَسِلُ عِنْدَ تَقَضِّي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَتَتَوَضَّأُ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشَّهْرِ وَتَحْتَسِبُ بِالشَّهْرِ(1/417)
مِنْ صَوْمِهَا إِلَّا قَدْرَ الْعَشَرَةِ الَّتِي بَعْدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا، وَتَقْضِيهَا فِيمَا بَعْدَ الْعَشْرِ، وَيُجْزِئُهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَى يَقِينٍ مِنِ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا بَعْدَ تقضي العشر، فلا يَلْزَمُهَا إِلَّا غُسْلٌ وَاحِدٌ.
(فَصْلٌ)
: وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَذْكُرَ شُهُورَهَا، وَأَنَّ الْحَيْضَ مُخْتَصٌّ بِأَحَدِ أَعْشَارِ الشَّهْرِ، وَتَنْسَى يَقِينَ ذَلِكَ الْعَشْرِ.
مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي فِي كُلِّ شَهْرٍ أَحَدُ أَعْشَارِهِ بِكَمَالِهِ، وَأَنَا نَاسِيَةٌ أَيَّ الأعشار هي، إِمَّا الْأَوَّلَ بِكَمَالِهِ أَوِ الثَّانِيَ بِكَمَالِهِ أَوِ الثَّالِثَ بِكَمَالِهِ، فَهَذِهِ تُصَلِّي الْعَشْرَ الْأَوَّلَ بِالْوُضُوءِ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ، وَتُصَلِّي الْعَشْرَ الثَّالِثَ بِالْوُضُوءِ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ؛ لِأَنَّ تَقَضِّيَ حَيْضِهَا مُجَوَّزٌ فِي آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ فَلَزِمَهَا ثَلَاثَةُ اغْتِسَالَاتٍ، فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي أَحَدُ أَخْمَاسِ الشَّهْرِ بِكَمَالِهِ، وَأَنَا نَاسِيَةٌ لَهُ، لَزِمَهَا سِتَّةُ اغْتِسَالَاتٍ، الْغُسْلُ الْأَوَّلُ فِي آخِرِ الْخَامِسِ وَالْغُسْلُ الثَّانِي فِي آخِرِ الْعَاشِرِ، وَالْغُسْلُ الثَّالِثُ فِي آخِرِ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَالْغُسْلُ الرَّابِعُ فِي آخِرِ الْعِشْرِينَ، وَالْغُسْلُ الْخَامِسُ فِي آخِرِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، وَالْغُسْلُ السَّادِسُ فِي الثَّلَاثِينَ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَكُونُ الْجَوَابُ فِيمَا زَادَ وَنَقَصَ.
(فَصْلٌ)
: وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ تَذْكُرَ حَيْضَهَا فِي يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ وتنسى حالها فيما سواه.
ومثاله: أن تقول أعلم أن حيضي عشرة أيام مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَأَنَا نَاسِيَةٌ لَهَا لَكِنِّي أَذْكُرُ أَنَّنِي كُنْتُ حَائِضًا فِي الْعَاشِرِ مِنْهُ فَالْأَصْلُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ حَالُ هَذِهِ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا أَنْ يُجْعَلَ الْعَاشِرَ تَارَةً فِي آخِرِ حَيْضِهَا، وَتَنْظُرَ أَيْنَ أَوَّلُهُ تَارَةً أَوَّلَ حَيْضِهَا وَتَنْظُرَ أَيْنَ آخِرُهُ، وَتَجْعَلَ مَا قَبْلَ أَوَّلِهِ طُهْرًا وَمَا بَعْدَ آخِرِهِ طُهْرًا، وَمَا بَيْنَهُمَا شَكٌّ لَكِنْ مَا تَقَدَّمَ يَوْمَ الْحَيْضِ تُصَلِّيهِ بِالْوُضُوءِ، وَمَا تَأَخَّرَ عَنْهُ تُصَلِّيهِ بِالْغُسْلِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فِي شَكٍّ إِلَى آخِرِ التَّاسِعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَاشِرُ آخِرَ حَيْضِهَا، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَنْقَطِعُ فِيهِ وَتَدَعُ الصَّلَاةَ فِي الْعَاشِرِ، لِيَقِينِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَهِيَ مِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى التَّاسِعَ عَشَرَ فِي شَكٍّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَاشِرُ أَوَّلَ حَيْضِهَا لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ صَلَاةً لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِيهِ ثُمَّ هِيَ فِي آخِرِ شَهْرِهَا طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، فَلَوْ قَالَتْ: وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ فِي يَوْمِ الْعِشْرِينَ حَائِضًا فَهِيَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى العاشر منه طاهراً لِقُصُورِ الْحَيْضِ عَنْ الِابْتِدَاءِ فِيهِ، وَمِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى التَّاسِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لِجَوَازِ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَنْقَطِعُ فِيهِ وَتَدَعُ الصَّلَاةَ فِي الْعِشْرِينَ لِيَقِينِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَهِيَ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لِجَوَازِ انْتِهَاءِ الْحَيْضِ فِيهِ إِنْ كَانَ يَوْمُ الْعِشْرِينَ أَوَّلَهُ، وَتُصَلِّي بِالْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَهِيَ فِي يَوْمِ الثَّلَاثِينَ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَلَوْ قَالَتْ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ يَوْمَ الْخَامِسَ عَشَرَ حَائِضًا(1/418)
فَهِيَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى الْخَامِسِ مِنْهُ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ لِقُصُورِ الْحَيْضِ عَنِ الِابْتِدَاءِ فِيهِ، وَمِنَ السَّادِسِ إِلَى الرَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لِجَوَازِ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ فِيهِ، وَتُصَلِّي بِالْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَنْقَطِعُ فِيهِ وَتَدَعُ الصَّلَاةَ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ لِيَقِينِ حَيْضِهَا، وَهِيَ مِنَ السَّادِسِ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لِجَوَازِ انْتِهَاءِ الْحَيْضِ إِلَيْهِ، وَتُصَلِّي بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ انْقِطَاعِهِ فِيهِ، وَهِيَ مِنَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، وَلَوْ قَالَتْ: - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ حَائِضًا فَهَذِهِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الرَّابِعِ طُهْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَهِيَ مِنَ الْخَامِسِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ فِي حَيْضٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا أَيَّامٌ لَا تنفك في التنزيلين معاً عن أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا، وَهِيَ مِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى آخِرِ الرَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِيهِ ثُمَّ هِيَ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي طُهْرٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَوْ قَالَتْ: - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ حَائِضًا بِيَقِينٍ، فَهِيَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْخَامِسَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْهُ، وَمِنَ السَّادِسَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لِجَوَازِ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَهِيَ مِنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ فِي حَيْضٍ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ فِي التَّنْزِيلَيْنِ مَعًا أَنْ يَكُونَ حَيْضًا ثُمَّ هِيَ فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَتُصَلِّي بِالْغُسْلِ، لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ فِيهِ، فَلَوْ قَالَتْ: - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ في الثاني عشر والسدس عَشَرَ حَائِضًا فَهَذِهِ تَنْزِيلُهَا عَلَى حَالَيْنِ فَيُجْعَلُ فِي إِحْدَى الْحَالَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ أَوَّلَ حَيْضِهَا، وَتَنْظُرُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ، وَفِي الْحَالِ الْأُخْرَى الثَّامِنَ عَشَرَ آخِرُ حَيْضِهَا، وَتَنْظُرُ مِنْ أَيْنَ يَبْتَدِئُ ثُمَّ يُجْعَلُ مَا قَبْلَ الِابْتِدَاءِ أَوْ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ طُهْرًا وَمَا قَبْلَ الْأَوَّلِ شَكًّا بِالْوُضُوءِ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي حَيْضًا، وَمَا بَعْدَ الثَّانِي إِلَى الِانْتِهَاءِ شَكًّا بِالْغُسْلِ فَعَلَى هَذَا هِيَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الثَّامِنِ فِي طُهْرٍ بِيَقِينٍ وَهِيَ مِنَ التَّاسِعِ إِلَى آخِرِ الْحَادِي عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ الثَّانِي عَشَرَ إِلَى الثَّامِنَ عَشَرَ فِي حَيْضٍ بِيَقِينٍ، وَمِنَ التَّاسِعِ عَشَرَ إِلَى الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، وَمِنَ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ.
(فَصْلٌ)
: القسم السَّادِسُ: أَنْ تَذْكُرَ طُهْرَهَا فِي يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَتَنْسَى حَالَهَا فِيمَا سِوَاهُ.
مِثَالُهُ: أَنْ تقول أعلم أن حيضي عشرة أيام من كُلِّ شَهْرٍ وَأَنَا نَاسِيَةٌ لَهَا، لَكِنِّي كُنْتُ فِي الْعَاشِرِ مِنْهُ طَاهِرًا. فَالْأَصْلُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ جَوَابُ هَذَا الْفَصْلِ، أَنْ نَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ آخِرُ طَرَفَيِ الطُّهْرِ يَقْصُرُ عَنْ عَدَدِ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ جَمِيعُهُ طُهْرًا، وَنَزَّلَتْ حَيْضَهَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ تَنْزِيلَيْنِ، وَاعْتَبَرَتْ حُكْمَهُ عَلَى مَا مَضَى، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ يَتَّسِعُ لِعَدَدِ أَيَّامِ الْحَيْضِ نَزَّلَتْ كُلَّ طَرَفٍ تَنْزِيلَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا طَاهِرٌ مِنْ(1/419)
أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْعَاشِرِ أَقَلُّ عَدَدًا مِنْ عَشْرِ الْحَيْضِ، فَكَانَ طُهْرًا ثُمَّ هِيَ مِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ فَلَوْ قَالَتْ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ طَاهِرًا كَانَتْ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى التَّاسِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، وَهِيَ طَاهِرٌ فِيمَا تَيَقَّنَتْهُ مِنَ الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ، ثُمَّ هِيَ مِنَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَّسِعُ هَذَا الْعَدَدُ أَيَّامَ الْحَيْضِ الْعَشَرَةَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَلَوْ قَالَتْ: - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - كُنْتُ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ طَاهِرًا فَهَذِهِ تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى آخِرِ الرَّابِعَ عَشَرَ بِالْغُسْلِ، وَهِيَ فِيمَا تَيَقَّنَتْهُ مِنَ الْخَامِسَ عَشَرَ طَاهِرٌ، وَمِنَ السَّادِسَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ فِي شَكٍّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ بِالْغُسْلِ، فَلَوْ قَالَتْ: كُنْتُ فِي الثَّامِنِ وَالثَّانِي عَشَرَ طَاهِرًا، فَهَذِهِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الثَّانِي عَشَرَ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الثَّامِنِ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ الْحَيْضِ، ثُمَّ هِيَ مِنَ الثَّالِثَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَهِيَ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَالثَّانِي وَالْعِشْرِينَ حَائِضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ فِي التَّنْزِيلَيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَهِيَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ.
(فَصْلٌ)
: وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ تَذْكُرَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ حَائِضًا، وَفِي يَوْمٍ مِنْهُ طَاهِرًا وَتَنْسَى حَالَهَا فِيمَا سِوَاهُ.
مِثَالُهُ: أَنْ تقول كان حيضي من الشهر عشرة أيام لا أعرفها لَكِنِّي كُنْتُ فِي الثَّامِنِ حَائِضًا، وَفِي الثَّامِنَ عَشَرَ طَاهِرًا، فَهَذِهِ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهَا مِنَ الثَّامِنَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي طُهْرٍ بِيَقِينٍ، فَيَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَتَكُونُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ السَّابِعِ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَهِيَ فِي الثَّامِنِ وَالتَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ حَائِضٌ بِيَقِينٍ، وَمِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى آخِرِ السَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، فَلَوْ قَالَتْ: وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كُنْتُ فِي الثَّامِنِ طَاهِرًا، وَفِي الثَّامِنَ عَشَرَ حَائِضًا، فَهَذِهِ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الثَّامِنِ طُهْرٌ، وَلَا يَكُونُ لَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ غَيْرَ الْيَوْمِ الَّذِي عَرَفَتْهُ، فَتَكُونُ مِنَ التَّاسِعِ إِلَى آخِرِ السَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَتَدَعُ الصَّلَاةَ فِي الثَّامِنَ عَشَرَ الَّذِي تَيَقَّنَتْ حَيْضَهَا(1/420)
فِيهِ، وَهِيَ مِنَ التَّاسِعَ عَشَرَ إِلَى آخِرِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، وَهِيَ فِيمَا بَعْدَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ، وَكُنْتُ فِي الرَّابِعِ حَائِضًا، وَفِي السَّابِعِ طَاهِرًا تَحِيضُ هَذِهِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ سِتَّةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهَا فِي السَّابِعِ وَمَا بَعْدَهُ طَاهِرٌ فَيَحْصُلُ لَهَا مِنَ الْحَيْضِ الْيَقِينِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَمِنَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ يَوْمَانِ أَوَّلٌ بِالْوُضُوءِ، وَسَادِسٌ بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا إِنْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ كَانَ آخِرُهُ الْخَامِسَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الثَّانِي آخِرُهُ السَّادِسَ فَكَانَتْ مِنَ الثَّانِي إِلَى آخِرِ الْخَامِسِ حَائِضًا بِيَقِينٍ، وَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مَشْكُوكٌ فِيهِ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَالسَّادِسُ مَشْكُوكٌ فِيهِ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، فَلَوْ قَالَتْ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كُنْتُ فِي الثَّالِثِ طَاهِرًا، وَفِي الثَّامِنِ حَائِضًا فَهَذِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ، طَاهِرٌ بِيَقِينٍ وَفِي الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَفِي السَّادِسِ وَالسَّابِعِ وَالثَّامِنِ حَائِضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ الثَّامِنَ الَّذِي عَلِمَتْ حَيْضَهَا فِيهِ آخِرُهُ فَأَوَّلُهُ الرَّابِعُ، وَإِنْ كَانَ الْعَاشِرُ آخر فَأَوَّلُهُ السَّادِسُ، ثُمَّ هِيَ مِنَ التَّاسِعِ وَالْعَاشِرِ فِي شَكٍّ لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ فَيَكُونُ الْيَقِينُ مِنْ طُهْرِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالْيَقِينُ مِنْ حَيْضِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالشَّكُّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ.
(فَصْلٌ)
: وَالْقِسْمُ الثَّامِنُ: أَنْ تَذْكُرَ أَنَّهَا كَانَتْ حَائِضًا فِي يَوْمٍ مِنْ يَوْمَيْنِ لَا تَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ وَتَنْسَى حَالَهَا فِيمَا سِوَاهُ.
مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَأَنَّنِي كُنْتُ إِمَّا فِي الْخَامِسِ مِنْهُ حَائِضًا أَوْ مِنَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ فَهَذِهِ يَحْصُلُ حَيْضُهَا تَارَةً فِي الْخَامِسِ، وَتُنَزَّلُ تَنْزِيلَيْنِ، وَتَارَةً مِنَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، فَتُنَزَّلُ تَنْزِيلَيْنِ فَتَصِيرُ مُنَزَّلَةً أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ فِي شَكٍّ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا الْخَامِسَ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، وَهِيَ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ فِي التَّنْزِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَلَا تَبْتَدِئُ مِنْهُ فِي التَّنْزِيلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، ثُمَّ هِيَ مِنَ السَّادِسَ عَشَرَ إِلَى الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ فِي شَكٍّ، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ آخِرَ حَيْضِهَا، وَمِنَ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ فِي شَكٍّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الشَّهْرِ آخِرَ حَيْضِهَا، لَكِنْ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ فِيهِ يَجُوزُ، فَلَوْ قَالَتْ: وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كُنْتُ حَائِضًا إِمَّا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ أَوْ فِي الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ فَهَذَا عَلَى الْأَصْلِ الْمُقَدَّرِ تَكُونُ فِي شَكٍّ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْهُ فَإِنَّهَا طَاهِرٌ فِيهِ، لَكِنْ تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى آخِرِ الْعَاشِرِ بِالْوُضُوءِ، وَمِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى آخِرِ التَّاسِعَ عَشَرَ بِالْغُسْلِ، وَمِنَ الْعِشْرِينَ إِلَى التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ.
(فَصْلٌ)
: وَالْقِسْمُ التَّاسِعُ: أَنْ تَذْكُرَ أَنَّهَا كَانَتْ طَاهِرًا فِي وَاحِدٍ مِنْ يَوْمَيْنِ لَا تَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ، وَتَنْسَى حَالَهَا فيما سواه.(1/421)
مثاله: أن تقول أعلم أن حيضي عشرة أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ، وَأَنَّنِي كُنْتُ إِمَّا فِي الْخَامِسِ مِنْهُ طَاهِرًا، أَوْ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ، فَهَذِهِ مِمَّنْ لَمْ يَسْتَفِدْ بِهَذَا الْقَوْلِ لَهَا حُكْمًا، وَلَمْ تَزِدْ بَيَانًا وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَنْ قَالَتْ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ لَا أَعْرِفُهَا، فَتُصَلِّي عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِهِ بِالْوُضُوءِ، وَتَغْتَسِلُ بَعْدَهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الْعَاشِرُ: أَنْ لا تذكر حيضاً ولا طهراً وتتيقن أيام حَيْضِهَا حُكْمًا؛ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَتْ أَيَّامُ حَيْضِهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْأَيَّامِ الَّتِي كَانَ الْحَيْضُ فِيهَا، فَإِنْ زَادَ الْحَيْضُ عَلَى النِّصْفِ يَوْمًا تَيَقَّنَتْ حَيْضَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ كُلَّمَا زاد يوم زاد يقين حيضها يومان.
مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ لَا أَعْرِفُهَا فَهَذِهِ لَهَا تنزيلان:
أحدهما: أن يجعل أَوَّلَ حَيْضِهَا أَوَّلَ الْعَشْرِ فَيَكُونُ آخِرُهَا السَّادِسَ.
والتنزيل الثاني: أن يجعل آخِرَ حَيْضِهَا آخِرَ الْعَشْرِ فَيَكُونُ أَوَّلُهُ الْخَامِسَ، فيعلم أَنَّ الْخَامِسَ وَالسَّادِسَ حَيْضٌ يَقِينًا وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ قَبْلَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ.
وَلَوْ قَالَتْ: كَانَ حَيْضِي في سبع مِنَ الْعَشْرِ كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ مِنَ الرَّابِعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَشْرِ آخِرُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْعَشْرِ أَوَّلَهُ وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قَبْلَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ.
وَلَوْ قَالَتْ: كَانَ حَيْضِي ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنَ الثَّالِثِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْعَشْرِ آخِرَهُ إِلَى الثَّامِنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ الْعَشْرِ أَوَّلَهُ، وَلَهَا يَوْمَانِ قَبْلَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ.
وَلَوْ قَالَتْ: كَانَ حَيْضِي تِسْعَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ كَانَ يَقِينُ حيضها ستة أيام من الثالث يَوْمُ شَكٍّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنْ آخِرِهِ يَوْمُ شَكٍّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ.
فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي عَشَرَةُ أَيَّامٍ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا فَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ حَيْضِهَا لَا تَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَتْ حَيْضِي أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الْعِشْرِينَ لَا أَعْرِفُهَا كَانَ لَهَا يَوْمَانِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ الْعَاشِرُ وَالْحَادِي عَشَرَ، وَمَا قَبْلَ الْعَاشِرِ شَكٌّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمِنْ بَعْدِ الْحَادِي عَشَرَ شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ.
فَلَوْ قَالَتْ: كان حَيْضِي اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الْعِشْرِينَ كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ مِنَ التَّاسِعِ إِلَى الثَّانِي عَشَرَ، وَمَا قَبْلَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ، وَمَا بَعْدَهَا شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ، وَكَذَا حُكْمُ الْأَيَّامِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْمُتَأَخِّرَةِ، فَلَوْ قَالَتْ حَيْضِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الْعِشْرِينَ كَانَ(1/422)
يقين حيضها ستة أيام من الثاني إِلَى الثَّالِثَ عَشَرَ وَسَبْعَةٌ مِنْ قَبْلِهَا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَسَبْعَةٌ بَعْدَهَا شَكٌّ بِالْغُسْلِ وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الْعِشْرِينَ كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ السَّابِعِ إِلَى الرَّابِعَ عَشَرَ، وَقَبْلَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ شَكٌّ تُصَلِّي بِالْغُسْلِ.
فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الْعِشْرِينَ كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنَ السَّادِسِ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ قَبْلَهَا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهَا شَكٌّ بِالْغُسْلِ، وَالْأَصْلُ الَّذِي يُؤَدِّيكَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَيَّامِ حَيْضِهَا وَأَيَّامِ شَكِّهَا أَنْ تُلْغِيَ عَدَدَ أَيَّامِ الْحَيْضِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَيَّامِ، وَتَنْظُرَ الْبَاقِيَ مِنْهَا فَتُلْقِيهِ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَيَكُونُ الْبَاقِي مِنْهَا هُوَ الْحَيْضُ الْيَقِينُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ هِيَ عَدَدُ الشَّكِّ فِي الطَّرَفَيْنِ فَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَتْ حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا أَلْقَيْتَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الْأَحَدِ وَالْعِشْرِينَ، فَيَكُونُ الْبَاقِي ستة أيام فتلقي السِّتَّةَ مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ الْبَاقِي مِنْهَا تِسْعَةَ أَيَّامٍ فَتَكُونُ التِّسْعَةُ هِيَ الْحَيْضُ الْيَقِينُ وَالسِّتَّةُ هِيَ شَكٌّ قَبْلَهَا، وَشَكٌّ بَعْدَهَا فَيَكُونُ أَوَّلُ التِّسْعَةِ مِنَ السَّابِعِ، وَآخِرُهَا الْخَامِسَ عَشَرَ.
فلو قالت: حيضي خمسة عشر يوما من اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ مِنَ الثَّامِنِ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ، وَقَبْلَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْوُضُوءِ، وَبَعْدَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْغُسْلِ، فَيَصِيرُ كُلَّمَا زَادَ عَدَدُ الْأَيَّامِ نَقَصَ مِنْ يَقِينِ حَيْضِهَا يَوْمٌ.
فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنَ التَّاسِعِ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْغُسْلِ وَلَوْ قَالَتْ حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ مِنَ الْعَاشِرِ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْغُسْلِ وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنَ الْحَادِي عَشَرَ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ شَكٌّ بِالْغُسْلِ.
وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا أَرْبَعَةَ أَيامٍ مِنَ الثَّانِي عَشَرَ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْغُسْلِ.
وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الثَّالِثَ عَشَرَ إِلَى الْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا إِحْدَى عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بالغسل.(1/423)
ولو قالت: حيضي خمسة عشرة يَوْمًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا يَوْمَيْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَقَبْلَهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْوُضُوءِ وَبَعْدَهَا ثَلَاثَةَ عَشْرَةَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْغُسْلِ.
وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا كَانَ يَقِينُ حَيْضِهَا يَوْمًا وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ وقبله أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا شَكٌّ بِالْغُسْلِ.
وَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ما لَمْ يَكُنْ لَهَا يَقِينُ حَيْضٍ لِأَنَّ أَيَّامَ الحيض لا يزيد عَلَى النِّصْفِ شَيْئًا، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قِيَاسُ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
فَهَذَا آخِرُ أَقْسَامِ النَّاسِيَةِ، وَهُوَ آخِرُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَقَدْ يَتَعَقَّبُ ذَلِكَ فُصُولٌ أَرْبَعٌ هِيَ تَابِعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسْتَحَاضَةِ:
أَحَدُهَا: فِي التَّلْفِيقِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ التَّمْيِيزِ.
وَالثَّانِي: فِي الِانْتِقَالِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ الْعَادَةِ.
وَالثَّالِثُ: فِي الْخَلْطَةِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ النَّاسِيَةِ.
وَالرَّابِعُ: فِي الْغَفْلَةِ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِذَاتِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي التَّلْفِيقِ)
وَصُورَتُهُ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ يَوْمًا دَمًا ويوماً نقاً، ويوماً دماً ويوماً نقاً، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ لَا يَتَجَاوَزُهَا وَانْقَطَعَ عِنْدَ اسْتِكْمَالِهَا، فَالَّذِي صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَيْضٌ أَيَّامُ الدَّمِ وَأَيَّامُ النَّقَاءِ، وَقَالَ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ، فِي مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وبين محمد بن الحسن ما اقتضى أَنْ تَكُونَ أَيَّامُ الدَّمِ حَيْضًا، وَأَيَّامُ النَّقَاءِ طُهْرًا فَخَرَّجَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَيْضٌ أَيَّامُ الدَّمِ وَأَيَّامُ النَّقَاءِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَقَلَّ طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً فلا يجوز.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْحَيْضِ مُسْتَمِرَّةٌ بأن يجري الدم زماناً ويرقأ زَمَانًا، وَلَيْسَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَسْتَدِيمَ جَرَيَانُهُ إِلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ، فَلَمَّا كَانَ زَمَانُ إِمْسَاكِهِ حَيْضًا؛ لِكَوْنِهِ بَيْنَ دَمَيْنِ كَانَ زَمَانُ النَّقَاءِ حَيْضًا لِحُصُولِهِ بَيْنَ دَمَيْنِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ كُلُّهَا حَيْضًا، يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ النَّقَاءِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ الدم.(1/424)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَيَّامَ الدَّمِ حَيْضٌ، وَأَيَّامَ النَّقَاءِ طُهْرٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الدَّمُ دَالًّا عَلَى الْحَيْضِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّقَاءُ الْأَعْلَى الطُّهْرَ.
وَالثَّانِي: لَوْ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ النَّقَاءُ حَيْضًا لما تعقبه من الحيض لجاز أَنْ يُجْعَلَ الْحَيْضُ طُهْرًا؛ لِمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الطُّهْرِ فَعَلَى هَذَا تُلَفِّقُ أَيَّامَ الدَّمِ فَتَكُونُ حَيْضًا تَجْتَنِبُ فِيهِ مَا تَجْتَنِبُهُ الْحَائِضُ، وَتُلَفِّقُ أَيَّامَ النَّقَاءِ فَتَكُونُ طُهْرًا تَسْتَبِيحُ مَا تَسْتَبِيحُهُ الطَّاهِرُ، وَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ هِيَ الْأَفْرَادُ مِنْ أَيَّامِهَا الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ وَالسَّابِعُ وَالتَّاسِعُ وَالْحَادِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ، وَيَكُونُ طُهْرُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ هِيَ الْأَزْوَاجُ مِنْ أَيَّامِهَا الثَّانِي وَالرَّابِعُ وَالسَّادِسُ وَالثَّامِنُ وَالْعَاشِرُ وَالثَّانِي عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ ثُمَّ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ إِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا عِنْدَ تَقَضِّي الدَّمِ الْأَوَّلِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَصَامَتْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ طُهْرًا تَامًّا، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَمْسَكَتْ، فَإِذَا انْقَطَعَ عِنْدَ تَقَضِّيهِ وَدُخُولِ الرَّابِعِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَدِيمَ الطُّهْرُ ثُمَّ تَفْعَلُ هكذا في جميع الأيام النَّقَاءِ إِلَّا أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ عَادَةً لَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ فَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ فَيَ أَيَّامِ النَّقَاءِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا حَيْضٌ، وَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا طُهْرٌ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا، وَيَوْمَيْنِ نَقَاءً، ولم تتجاوز خمسة عَشَرَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْخَامِسَ عَشَرَ طَاهِرًا، فَإِنْ لَفَّقْنَا حَيْضَهَا كَانَ حَيْضُهَا أَيَّامَ الدَّمِ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نَقَاءً، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا أَيَّامَ الدَّمِ وَهِيَ تِسْعَةٌ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نَقَاءً، أَوْ رَأَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَيَوْمًا نقاً فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فِي التَّلْفِيقِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَجَاوَزَ دَمُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي الْحَيْضِ والمناسك أن هذه غير مستحاضة حكمها كحكم التي انقطع دمها الخمسة عشر يوماً؛ لأنها من السَّادِسَ عَشَرَ طَاهِرٌ طُهْرًا لَمْ يَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذِهِ مُسْتَحَاضَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ أَيَّامِ الْحَيْضِ على صفتها من أيام الحيض، وهذا حَالُ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالٌ تَكُونُ مُمَيِّزَةً، وَحَالٌ تَكُونُ مُعْتَادَةً، وَحَالٌ لَا يَكُونُ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً رُدَّتْ إِلَى تَمْيِيزِهَا، فَإِنْ قَالَتْ: رَأَيْتُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَتَخَلَّلُهَا النَّقَاءُ دَمًا أَسْوَدَ، وَبَاقِيَ ذَلِكَ دَمًا أَصْفَرَ رُدَّتْ إلى الخمس، فإن لم نلفق كانت الخمس كُلُّهَا حَيْضًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ التَّلْفِيقُ مِنَ الخمس فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزًا لِكَوْنِ دَمِهَا لَوْنًا وَاحِدًا وَكَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَيْضِ مُسْتَمِرَّةٌ، فَوَجَبَ رَدُّهَا إِلَى عَادَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ خَمْسًا رُدَّتْ إِلَى الخمس، فإن لم نلفق كانت الخمس كُلُّهَا حَيْضًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ عَلَى قَوْلَيْنِ:(1/425)
أحدهما: من أيام العادة، وهي الخمس وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لِأَنَّهَا أَخَصُّ فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهِيَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ.
والقول الثاني: من أيام الحيض وهي الخمس عشرة لأنها أمس، فَيَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةً مِنْ تِسْعَةٍ، وَهِيَ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ وَالْخَامِسُ وَالسَّابِعُ وَالتَّاسِعُ، فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا عَشْرًا فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا تِسْعَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي الْعَاشِرِ فِي طُهْرٍ لَمْ تَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ وَإِنْ لَفَّقْنَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ؟ عَلَى الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ أيام العادة وهي العشر، فيكون حيضها خمسة أيام، تِسْعَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَهِيَ الخمس عشرة فيكون حيضها ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلَفِّقُ مِنَ الْخَمْسَةَ عشر أكثر منها وتصير بمنزلة معتادة فحفظت عَادَتَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ وَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ إِلَى يِومٍ وَلَيْلَةٍ، وَهُوَ أَقَلُّ الْحَيْضِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ حُكْمُ التَّلْفِيقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تُرَدُّ إلى ست أو سبع فإن ردت إلى الست، ولم نلفق كان حيضها خمساً؛ لكونها في السادس طاهراً وإن لفقنا من الست كان حيضها ثلاثاً، وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا ستاً من إحدى عشرة، ولو ردت إلى السبع، فإن لم نلفق كان حيضها سبعاً وإِنْ لَفَّقْنَا مِنَ السَّبْعَةِ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةً وَإِنْ لَفَّقْنَا مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا سبعاً من ثلاث عشرة.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا وَنِصْفَ يوم نقاء ونصف يَوْمٍ دَمًا وَنِصْفَ يَوْمٍ نَقَاءً مُسْتَمِرًّا بِهَا هَكَذَا فَلَهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَتَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تَتَجَاوَزَهَا، فَإِنْ لَمْ تَتَجَاوَزْهَا وَانْقَطَعَ عِنْدَ تَقَضِّيهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَا يَكُونُ حَيْضًا حَتَّى يَسْتَدِيمَ فِي أَوَّلِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا، وَمِنْ آخِرِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ أَنْصَافِ الأيام حيضاً فيكون تَبَعًا لِحَيْضٍ فِي الطَّرَفَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنِ استدام في أوله يوماً وليلة كَانَ مَا تَعَقَّبَهُ مِنْ أَنْصَافِ الْأَيَّامِ حَيْضًا، وَلَا تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فِي آخِرِهِ، لِأَنَّ آخِرَ الْيَوْمِ تَبَعٌ لِأَوَّلِهِ، وَمَا لَمْ يَسْتَدِمْ فِي الْأَوَّلِ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ مَتَى تُلُفِّقَ مِنَ الْجُمْلَةِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ فَصَاعِدًا، دَمًا كَانَ حَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ، وَيَسْتَدِيمُ، لِأَنَّهَا أَيَّامُ حَيْضٍ قَدْ(1/426)
وُجِدَ فِيهَا مِنَ الدَّمِ قَدْرَ الْحَيْضِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ نُلَفِّقْ فَحَيْضُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّهَا فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْهُ فِي طُهْرٍ لَمْ يَتَّصِلْ بِدَمِ الْحَيْضِ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ رَأَتْ ثُلُثَ يَوْمٍ دَمًا وَبَاقِيَهُ نَقَاءً حَتَّى اسْتَكْمَلَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَثُلُثًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ.
والحال الثانية: أن يتجاوز الدم أَنْصَافِ الْأَيَّامِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهَذِهِ مُسْتَحَاضَةٌ قَدْ دَخَلَتِ اسْتِحَاضَتُهَا فَيَ حَيْضِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ إِلَى تَمْيِيزِهَا إِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً، فَإِذَا مَيَّزَتْ أَنْصَافَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيهِ دَمًا أَصْفَرَ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ التَّلْفِيقُ مِنَ الْخَمْسِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا يَوْمَيْنِ وَنِصْفًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَيِّزَةً رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا إِنْ كانت معتادة فإن كانت عادتها عشراً ردت إلى العشر، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا
تِسْعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ؟ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ أَيْضًا مِنْ عَشْرِ الْعَادَةِ.
وَالثَّانِي: مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا، أَنْصَافُ أَكْثَرِ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَتَصِيرُ عَادَتُهَا فِي حُكْمِ النَّاقِصَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةَ وَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ قَوْلَانِ:
أحدهما: إلى يوم وليلة أقل الحيض، وإن لَمْ نُلَفِّقْ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا حَيْضَ لِهَذِهِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَرَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ كُلِّهِ دَمًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا تَحِيضُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ أَوَّلِهِ، وَإِنْ لَمْ تَرَ الدَّمَ فِي جَمِيعِهِ، لِأَنَّ النَّقَاءَ عَلَى هَذَا فِي حُكْمِ الدَّمِ، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَلَا حَيْضَ لِهَذِهِ لَا يَخْتَلِفُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَلَفَّقُ من اليوم والليلة حيض، فإن قُلْنَا: إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً مِنْ جُمْلَةِ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى سِتَّةِ أَيَّامٍ أو سبعة أيام فإذا ردت إلى السبع فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ التَّلْفِيقُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ السبع فَيَكُونُ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَنِصْفًا.
وَالثَّانِي: مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ فَيَكُونُ حَيْضُهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ جُمْلَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنِصْفٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(فَرْعٌ)
: وَإِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ثُمَّ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا، وَهُوَ عَلَى(1/427)
قَوْلَيِ التَّلْفِيقِ، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا يومين والأول وَالْخَامِسَ عَشَرَ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دماً وأربعة عشراً يَوْمًا طُهْرًا وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا يَوْمًا وَاحِدًا، وَهُوَ نِصْفُ الْأَوَّلِ وَنِصْفُ الْأَخِيرِ.
(فَرْعٌ)
: وَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا وَيَوْمًا وليلة دماً، كان حيضها اليوم الأول، وكان اليوم الْأَخِيرُ دَمَ فَسَادٍ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ يَوْمَيْنِ دَمًا وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا وَيَوْمَيْنِ دَمًا، كان حيضا الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَكَانَ الْيَوْمَانِ الْآخَرَانِ فَسَادًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَفِّقَ مَا قَبْلَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِلَى مَا بَعْدَهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَكِنْ لَوْ رَأَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يوماًطهراً، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا، كَانَ حَيْضُهَا الْيَوْمَ الْأَخِيرَ دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِفَقْدِ اللَّيْلَةِ يَقْصُرُ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ، فَلَوْ رَأَتْ يَوْمًا بِلَا لَيْلَةٍ دَمًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا طهراًَ، وَيَوْمًا بِلَا لَيْلَةٍ دَمًا فَكِلَا الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ دَمَ فَسَادٍ، وَلَيْسَ لَهَا حَيْضٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ حَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ أَنْ يُلَفِّقَ أَحَدَهُمَا إِلَى الْآخَرِ.
(فَرْعٌ)
: وَإِذَا كانت عادتها من أول الشهر عشراً فَرَأَتْ فِي يَوْمَيْنِ دَمًا وَسِتَّةِ أَيَّامٍ طُهْرًا وَيَوْمَيْنِ دَمًا، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَتِ الْعَشْرُ كُلُّهَا حَيْضًا، وَهِيَ عَلَى عَادَتِهَا، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ الْيَوْمَانِ الْأَوَّلَانِ وَالْيَوْمَانِ الْآخَرَانِ، وَتَصِيرُ عَادَتُهَا نَاقِصَةً وَحَيْضُهَا مُتَفَرِّقًا وَلَوْ كانت عادتها خمسة مرات ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ دَمًا، وَأَرْبَعَةُ أَيَّامٍ طُهْرًا، وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ دَمًا، فَإِنْ لَمْ نُلَفِّقْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً، وَقَدْ زَادَتْ عَادَتُهَا وَلَمْ تُفَرِّقْ، وَإِنْ لَفَّقْنَا كَانَ حَيْضُهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ الثَّلَاثَةُ الْأُولَى، وَالثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ، وَتَصِيرُ عَادَتُهَا زَائِدَةً، وَحَيْضُهَا مُتَفَرِّقًا.
(فَرْعٌ)
: فَإِذَا رَأَتْ بَيْنَ أَثْنَاءِ النَّقَاءِ نِصْفَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ دَمًا، وَنِصْفَ الْخَامِسِ دَمًا وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ فَإِنْ كَانَ النِّصْفَانِ الْمَوْجُودَانِ فِي الْأَوَّلِ وَالْخَامِسِ يَنْقُصَانِ عَنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ لعدم الليلة مع اليوم والنقصان دَمُ فَسَادٍ. وَحَيْضُهَا يَوْمًا الدَّمَ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ النَّاقِصَانِ يَبْلُغَانِ أَقَلَّ الْحَيْضِ لِوُجُودِ اللَّيْلَةِ مَعَهُمَا، فَقَدْ دَخَلَتِ اسْتِحَاضَتُهَا وحيضها، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ لِمُجَاوَزَةِ الثَّانِي أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَالْوَاجِبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْيِيزٌ أَنْ تُرَدَّ إِلَى عَادَتِهَا فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسًا رُدَّتْ إِلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ تُلَفِّقْ نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ، وَمَا رَأَتْهُ فِي الْخَامِسِ فِي نِصْفِهِ الثَّانِي فَحَيْضُهَا خمس لِلْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ، وَلَا زِيَادَةَ وَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِهِ الثَّانِي، وَمَا رَأَتْهُ فِي الخامس في نصفه الأول كان حيضها أربعاً، وَقَدْ نَقَصَتْ عَادَتُهَا يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ الْأَوَّلُ فِي نِصْفِهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي نِصْفِهِ الأول، كان حيضها أربعة أيام ونصف وَقَدْ نَقَصَتْ عَادَتُهَا نِصْفَ يَوْمٍ وَهَكَذَا لَوْ رأته بِالْعَكْسِ فَهَذَا إِذَا لَمْ نُلَفِّقُ فَأَمَّا إِذَا لفقنا، فإن(1/428)
قُلْنَا: إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ كَانَ حيضها يوماً هو نصف الْأَوَّلِ وَنِصْفُ الْخَامِسِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ التَّلْفِيقَ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضُهَا يَوْمَيْنِ وَهُمَا نِصْفَانِ مَعَ الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ دُونَ السَّادِسَ عَشَرَ، لِوُجُودِ الْخَامِسَ عَشَرَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ وَوُجُودِ السَّادِسَ عَشَرَ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَتْ عادتها في أقل من الخمس أَوْ أَكْثَرَ فَاعْتَبِرْهُ بِمَا وَصَفْنَا فَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ لَذَكَرْنَاهُ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي: الِانْتِقَالُ)
وَالِانْتِقَالُ أَنْ تَرَى الْمُعْتَادَةُ حَيْضَهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ عَادَتِهَا، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ انْتِقَالٌ فِي الزَّمَانِ، وَانْتِقَالٌ فِي الْقَدْرِ، فَأَمَّا الِانْتِقَالُ فِي الزَّمَانِ فَهُوَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَتَقَدَّمُ فِيهِ الْحَيْضُ، وَضَرْبٌ يَتَأَخَّرُ فِيهِ الْحَيْضُ، فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُ فَصُورَتُهُ: أَنْ تَكُونَ عادتها أن الحيض عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ وَسَطِ الشَّهْرِ فَتَحِيضُ فِي شَهْرِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِهِ، فَيَصِيرُ حَيْضُهَا مُقَدَّمًا عَلَى عَادَتِهَا وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُ فَصُورَتُهُ أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَتَحِيضُ فِي شَهْرِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ وَسَطِهِ، فَيَصِيرُ حَيْضُهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ عَادَتِهَا، وقد ربما يتأخر بَعْضِهِ دُونَ جَمِيعِهِ، وَرُبَّمَا تَقَدَّمَ بَعْضُهُ دُونَ جَمِيعِهِ، وَأَمَّا الِانْتِقَالُ فِي الْقَدْرِ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَنْتَقِلُ إِلَى الزِّيَادَةِ، وَضَرْبٌ يَنْتَقِلُ إِلَى النُّقْصَانِ، فَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ إِلَى الزِّيَادَةِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ عادتها في الشهر خمساً فتحيض في شهرها عشراً وَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ إِلَى النُّقْصَانِ فَهُوَ أَنْ تَكُونَ عادتها في الشهر عشراً فتحيض في شهرها خمساً، وَقَدْ تَجْمَعُ الْمُنْتَقِلَةُ بَيْنَ الِانْتِقَالِ فِي الزَّمَانِ، وَبَيْنَ الِانْتِقَالِ فِي الْقَدْرِ، وَقَدْ تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ كَمَا تَنْتَقِلُ عَادَتُهَا فِي الْحَيْضِ، فَتَكُونُ عَادَتُهَا أَنْ تَرَى فِي طُهْرِ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضَةً، فَتَصِيرُ فِي طُهْرِ كُلِّ شَهْرَيْنِ حَيْضَةٌ أَوْ تَكُونُ فِي شَهْرَيْنِ فَتَصِيرُ فِي شَهْرٍ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا، مِنْ حَالِ الِانْتِقَالِ، فَمَتَى انْقَطَعَ دَمُ الْمُنْتَقِلَةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ تَكَرَّرَ مِرَارًا بَطُلَ حُكْمُ الْعَادَةِ الأولى إلى ما انتقلت إليه من الأخرى، حتى إن استحيضت من بعد وجب ردها عند اعتبار العادة إِلَى مَا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ، دُونَ مَا انْتَقَلَتْ عَنْهُ فَأَمَّا انْتِقَالُهَا عَنِ الْعَادَةِ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ ما تقدم من العادة في الزَّمَانِ، وَالْقَدْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ حُكْمَ الْعَادَةِ الْأُولَى لَا يَبْطُلُ بِانْتِقَالِ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى تَعُودَ ثَانِيَةً فَتَصِيرُ بِعَوْدِهَا عَادَةً يَبْطُلُ بِهَا سَالِفُ الْعَادَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَوَجَدْتُ أَبَا إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ اخْتَارَهُ مِنْ كِتَابِ الْحَيْضِ لَهُ أَنَّ انْتِقَالَ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعَادَةِ، وَصَارَ مَا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ عَادَةً، قَالَ: لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ قَدْ ثَبَتَ لَهَا عَادَةٌ بِحَيْضِ مَرَّةٍ فَكَذَا غَيْرُهَا مِنْ ذَوَاتِ الْعَادَةِ.
(فَرْعٌ)
: وإذا كانت عادتها عشراً مِنْ أَوَّلِ كُلِّ شَهْرٍ فَرَأَتْ قَبْلَ الشَّهْرِ خمساً وَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا(1/429)
فَقَدِ انْتَقَلَتْ عَادَتُهَا فِي الزَّمَانِ بِأَنْ تَقَدَّمَتْ وَفِي الْقَدْرِ بِأَنْ نَقَصَتْ وَإِنْ تَجَاوَزَ الدَّمُ حتى بلغ خمساً فِي الشَّهْرِ، فَقَدِ انْتَقَلَتْ بَعْضُ أَيَّامِهَا دُونَ جَمِيعِهَا، وَلَمْ تَنْقُصْ فِي الْقَدْرِ إِنْ تَجَاوَزَهَا الدم حتى بلغ عشراً في الشهر فقد انتقلت عادتها بزيادة خمس فِي الْقَدْرِ تَقَدَّمَتْ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ زَمَانُ الْعَادَةِ فِي الْعَشْرِ، فَإِنْ تَجَاوَزَهَا الدَّمُ حَتَّى تَمَيَّزَ الْعَشْرُ فَقَدْ دَخَلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ، فِي الْحَيْضِ لِمُجَاوَزَةِ دَمِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَوَجَبَ رَدُّهَا عِنْدَ عدم التمييز إلى عادتها، وهي العشر السالفة، وَفِي ابْتِدَاءِ الْعَشْرِ الَّذِي تُرَدُّ إِلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ حِينِ رَأَتْ فِيهِ الدَّمَ فِي مُنْتَهَى إشكالها فيكون حيضها خمساً قبل الشهر، وخمساً بَعْدَهُ، وَمَا تَعَقَّبَهُ اسْتِحَاضَةٌ فَتُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ، مِنَ الْقَدْرِ دُونَ الزَّمَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ ابْتِدَاءَهَا مَنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ الَّذِي هُوَ شَهْرُ عَادَتِهَا، فَيَكُونُ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِهِ، وَمَا تُقَدِّمُهُ وَمَا تَعَقَّبَهُ اسْتِحَاضَةٌ، فَتُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ فِي الْقَدَرِ وَالزَّمَانِ مَعًا، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مُنْتَقِلَةً فِي بَعْضِ أَيَّامِهَا، وَعَلَى الثَّانِي لَا تَكُونُ مُنْتَقِلَةً.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ: الْخَلْطَةُ)
وَإِذَا قَالَتْ أَعْلَمُ أَنَّ حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَأَعْلَمُ أَنِّي أخلط من أحد النصفين في الآخر بيوم وَاحِدٍ وَلَسْتُ أَعْلَمُ هَلْ هُوَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ إِلَّا يَوْمًا مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي أَوْ هُوَ النِّصْفُ الْأَوَّلُ إِلَّا يَوْمًا مِنَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ؟ فَهَذِهِ تُنَزَّلُ عَلَى حَالَيْنِ وَتَلْتَزِمُ الْأَغْلَظَ مِنْهُمَا وَالْأَحْوَطَ فِيهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهَذِهِ لَهَا يَوْمَانِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ أَوَّلَ الشَّهْرِ وَآخِرَهُ، وَيَوْمَانِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ؛ لِأَنَّ حيضتها إن كانت فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَأَوَّلُهُ الثَّانِي وَآخِرُهُ السَّادِسَ عشرفكان الْأَوَّلُ مِنَ الشَّهْرِ طُهْرًا بِيَقِينٍ وَإِنْ كَانَ النصف الثاني فأوله الخامس عشر، وآخر التاسع والعشرين فَكَانَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ مِنَ الشَّهْرِ طُهْرًا يَقِينًا، وَصَارَ فِي التَّنْزِيلِ مَعًا الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ حَيْضًا يَقِينًا، ثُمَّ هِيَ مِنَ الثَّانِي إِلَى الرَّابِعَ عَشَرَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ السَّادِسَ عَشَرَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ حَيْضِهَا ثُمَّ هِيَ فِي السَّابِعَ عَشَرَ إِلَى الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ فِي طُهْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ حَيْضِهَا، فَلَوْ قَالَتْ أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ يَوْمَيْنِ كَانَ لَهَا أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ طُهْرًا يَوْمَانِ فِي أَوَّلِهِ وَيَوْمَانِ فِي آخِرِهِ وَأَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حَيْضٌ فِي وَسَطِهِ مِنَ الرَّابِعَ عشر إلى السابع عشر تغتسل غُسْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي آخِرِ السَّابِعَ عَشَرَ وَالثَّانِي فِي آخِرِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ طُهْرٌ بِيَقِينٍ ثَلَاثَةٌ فِي أَوَّلِهِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ آخِرِهِ، وَسِتَّةُ أَيَّامٍ حَيْضٌ بِيَقِينٍ فِي وَسَطِهِ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ الثَّامِنَ عَشَرَ وَفِي آخِرِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ، ثُمَّ عَلَى هَذَا كُلَّمَا زَادَ مِنَ الْخَلْطَةِ يَوْمٌ زَادَ فِي يَقِينِ الْحَيْضِ يَوْمَانِ فِي الْوَسَطِ، وَفِي يَقِينِ الطُّهْرِ يَوْمَانِ فِي الطَّرَفَيْنِ فَلَوْ قالت(1/430)
كنت أخلط من أحد النصفين في الآخر بِنِصْفِ يَوْمٍ كَانَ لَهَا نِصْفُ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَنِصْفُ يَوْمٍ مِنْ آخِرِهِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَيَوْمٌ حَيْضٌ بِيَقِينٍ مِنْ يَوْمَيْنِ نِصْفُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَنِصْفُ السَّادِسَ عَشَرَ فَلَوْ شَكَّتْ هَلْ كَانَتْ تَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ شَيْئًا أَمْ لَا؟ فَهَذِهِ لَيْسَ لَهَا يَقِينُ حَيْضٍ وَلَا طُهْرٍ، وَتُصَلِّي النصف الأول بالوضوء، والثاني بالغسل فلو ثبت أَنَّهَا كَانَتْ تَخْلِطُ بِيَوْمٍ وَشَكَّتْ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ كَانَ الْأَوَّلُ طُهْرًا، وَالْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ حَيْضًا، وَتُصَلِّي مَا قَبْلَهُمَا بِالْوُضُوءِ، وَمَا بَعْدَهُمَا بِالْغُسْلِ، فَلَوْ قَالَتْ: أَعْلَمُ أَنَّنِي أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِجُزْءٍ يَسِيرٍ، فَلِهَذِهِ جُزْآنِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ أَحَدُهُمَا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَالثَّانِي مِنْ آخِرِهِ، وَجُزْآنِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ مِنْ وَسَطِهِ أَحَدُهُمَا مِنْ آخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي مِنْ أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي، لَكِنْ لَا تَدَعُ فِيهِمَا شَيْئًا مِنَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ آخِرَ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَالْجُزْءُ الثَّانِي مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَلَا تَسْقُطُ عَنْهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، فَلَوْ قَالَتْ حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَأَعْلَمُ أَنَّنِي أَخْلِطُ مَنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِيَوْمٍ، وَقَدْ أُشْكِلَ فَهَذِهِ لَهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِهِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَيَوْمَانِ مِنْ وَسَطِهِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِ السَّادِسَ عَشَرَ وَفِي آخِرِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ، فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي تِسْعَةُ أَيَّامٍ وَأَخْلِطُهَا بِيَوْمٍ كَانَ لَهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ وَسَبْعَةُ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِهِ طُهْرٌ بِيَقِينٍ، وَيَوْمَانِ مِنْ وَسَطِهِ حَيْضٌ بِيَقِينٍ، ثُمَّ هَكَذَا كُلَّمَا نَقَصَتْ مِنْ أَيَّامِ حَيْضِهَا يَوْمًا زَادَ فِي يَقِينِ طُهْرِهَا مِنْ كُلِّ طَرَفٍ يَوْمٌ، فلو كان حيضها خمساً مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَّلِ، وَتَخْلِطُ مَنْ أَحَدِ الْخَمْسَيْنِ فِي الْآخَرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
فَالْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا مَضَى.
(فَرْعٌ)
: فَلَوْ قَالَتْ: حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ لَا أَعْرِفُهَا وَطُهْرِي عِشْرُونَ يَوْمًا مُتَّصِلَةً، وَأَخْلِطُ مِنْهُمَا فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ فَهَذِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، وَهِيَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ، وَفِي الْعَشْرِ الْآخَرِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ، وَتَغْتَسِلُ فِي آخِرِهِ.
(فَرْعٌ)
: لَوْ قَالَتْ: حَيْضِي مِنَ الشَّهْرِ خَمْسَةُ أيام، أَعْرِفُهَا وَأَخْلِطُ مِنَ الطُّهْرِ الْمُتَّصِلِ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ فِي الْآخَرِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، فَهَذِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي الْخَمْسَ الْأَوَّلَ مِنْهُ بِالْوُضُوءِ، لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهِ، وَالْخَمْسَ الثَّانِيَ بِالْغُسْلِ لِجَوَازِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهِ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الْآخَرِ فِي شَكٍّ تُصَلِّي الْخَمْسَ الْأَوَّلَ مِنْهُ بِالْوُضُوءِ، وَالْخَمْسَ الثَّانِيَ مِنْهُ بِالْغُسْلِ، ثُمَّ قِسْ عَلَى هَذَا مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِنْ أَمْثَالِهِ
(الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي الْغَفْلَةِ)
وَالْغَافِلَةُ هِيَ الَّتِي تَعْلَمُ مِنْ حَالِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى يَقِينِ طُهْرِهَا، وَيَقِينِ حَيْضِهَا لَكِنْ قَدْ غَفَلَتْ جَهْلًا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ.(1/431)
مِثَالُهُ: أَنْ تَقُولَ حَيْضِي خَمْسَةُ أَيَّامٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَّلِ لَا أَعْرِفُهَا وَأَعْلَمُ أَنَّنِي كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حَائِضًا، فَهَذِهِ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى وَطُهْرُهَا الْخَمْسُ الثَّانِيَةُ، وَلَوْ قَالَتْ: كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ حَائِضًا فَهَذِهِ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الثَّانِيَةُ وَطُهْرُهَا الْخَمْسُ الْأُولَى وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ في اليوم السادس طاهراً كان حيضها الخمس الْأُولَى. فَلَوْ قَالَتْ حَيْضِي أَحَدُ الْخَمْسَتَيْنِ بِكَمَالِهِ وَكُنْتُ فِي الثَّالِثِ حَائِضًا كَانَ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى، وَلَوْ قَالَتْ: كُنْتُ فِي الثَّالِثِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الثَّانِيَةُ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ فِي السَّابِعِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى، فلو قالت: حيضي أربعة أيام من العشر، وَأَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ الْخَمْسَتَيْنِ فِي الْآخَرِ بِيَوْمَيْنِ فَحَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الرَّابِعِ إِلَى آخِرِ السَّابِعِ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ أَخْلِطُ مِنْ أَحَدِ الْخَمْسَتَيْنِ فِي الْآخَرِ إِمَّا بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ، وَكُنْتُ فِي السَّابِعِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الثَّالِثِ إِلَى آخِرِ السَّادِسِ، وَلَوْ قَالَتْ كُنْتُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ طَاهِرًا كَانَ حَيْضُهَا مِنْ أَوَّلِ الْخَامِسِ إِلَى آخِرِ الثَّامِنِ فَقِسْ عَلَى هذا نظائره والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَأُشْكِلَ وَقْتُ الْحَيْضِ عَلَيْهَا مِنَ الِاسْتِحَاضَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتْرُكَ الصَّلَاةَ إِلَّا أَقَلَّ مَا تَحِيضُ لَهُ النِّسَاءُ وَذَلِكَ يَوْمٌ وليلةٌ فعليها أن تغتسل وتقضي الصلاة أربعة عشر يوماً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى فَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَالَّذِي نص عليه ها هنا، وَفِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَقَالَ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ أَقَلُّهُ يَوْمٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اخْتِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ عَلَى ثلاثة طرق:
أحدها: وهو طريقة المزني وابن شريح أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ كِتَابِ الْعَدَدِ أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ يُرِيدُ بِهِ مَعَ لَيْلَةٍ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ وَأَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ ذِكْرَ الْأَيَّامِ يُرِيدُونَ بِهَا مَعَ اللَّيَالِي، وَيُطْلِقُونَ ذِكْرَ اللَّيَالِي، وَيُرِيدُونَ بِهَا مَعَ الْأَيَّامِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً) {الأعراف: 142) يُرِيدُ مَعَ الْأَيَّامِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) {هود: 65) يُرِيدُ مَعَ اللَّيَالِي غَيْرَ أَنَّ الْمُزَنِيَّ عَلَّلَ لِطَرِيقَتِهِ هَذِهِ تَعْلِيلًا قَدَحَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَقَالَ: لِأَنَّ الْيَوْمَ وَاللَّيْلَةَ زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعِلْمِ وُجُودُ الْأَقَلِّ لَا وُجُودُ الْأَكْثَرِ، وَلَوْ كَانَ الْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ أَزْيَدَ عِلْمًا مِنَ الْيَوْمِ لَكَانَ الثَّلَاثُ أَزْيَدَ عِلْمًا، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُزَنِيِّ خَطَأٌ فِي تَأْوِيلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ زِيَادَةَ عِلْمٍ فِي النَّقْلِ، لَا فِي الْوُجُودِ.(1/432)
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ حَكَاهَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ بَعْضِ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ النَّصِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِي الْعَادَةِ يَوْمًا لَمْ يَكُنْ لِزِيَادَةِ اللَّيْلَةِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يَكُنْ لِنُقْصَانِهَا وَجْهًا.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الشَّافِعِيُّ يَرَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ إِلَى أَنْ أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ أَنَّ عِنْدَهُمُ امْرَأَةً تَحِيضُ غَدْوَةً وَتَطْهُرُ عَشِيَّةً فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ، وَأَصَحُّ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
وقال أبو يوسف: لعله يَوْمَانِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، وَاسْتَدَلَّ ناصر أبي حنيفة لمذهبه بما روي عن عبد الله عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الثلاث يض " وَبِرِوَايَةِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في المستحاضة: " تدع الصلاة أقراءها " قَالَ: وَأَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ ذِكْرُ الْأَيَّامِ ثَلَاثَةٌ وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ، قَالَ وَقَدْ رَوَى الْجَلْدُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قُرْءُ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ أَرْبَعٌ خمس حتى انتهى إلى عشر.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ، وَهَذَانِ صحابيان لا يقولان ذلك، إلا عن توقيف؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الثَّلَاثِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا قِيَاسًا عَلَى مَا نَقَصَ اليوم والليلة.
دليلنا قوله تعالى: {وَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (البقرة: 222) فلما أطلق ذكره ولم يحد قدره فَكَانَ الرُّجُوعُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ حَدِّهِ فِي الشرع إلى العرف والعادة، وكالقصر واليوم والليلة موجود في العرف والعادة، وإن كان مختلفاً بِاخْتِلَافِ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْفَارِ وَالْبُلْدَانِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَوَجَدْتُ نِسَاءَ مَكَّةَ وَتِهَامَةَ يَحِضْنَ يَوْمًا(1/433)
وَلَيْلَةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: " فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي " وَأَمَرَهَا بترك الصلاة عند وجود صفة الْحَيْضِ فِي دَمِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تقدير بثلاثة فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى إِطْلَاقِهِ إِلَّا مَا قَامَ دَلِيلُ تَخْصِيصِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ استحاضةٌ، وَأَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ أَقَلُّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالصَّحَابِيُّ إِذَا قَالَ هَذَا فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَائِهَا، فَدَلَّ هَذَانِ الْأَثَرَانِ عَلَى أَنَّ التَّوْقِيتَ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَوْجُودٌ وَالْوِفَاقُ عَلَيْهِ مَشْهُورٌ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَالنِّفَاسِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مُدَّةٍ صَلُحَتْ أَنْ تَكُونَ زَمَنًا لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ شَرْعًا صَلُحَتْ لِأَنْ تَكُونَ زَمَنًا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْحَمْلُ، لِأَنَّهُ تُقُدِّرَ بِالشُّهُورِ دُونَ الْأَيَّامِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَنَّهُ قَالَ أَقَلُّ الْحَيْضِ ثلاثٌ فَهُوَ أَنَّهُ خبر مردود؛ لأن عبد الملك مجهول، والعلا ضَعِيفٌ، وَمَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ أَبَا أُمَامَةَ، فَكَانَ مُرْسَلًا، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى سُؤَالِ امْرَأَةٍ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ " تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا " وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَوْلُهُ مَعَارِضٌ بِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ عُمُومَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُعَاضِدُهُ وَأَمَّا أَنَسٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَيْضِ أَصْلًا، قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ اسْتُحِيضَتِ امْرَأَةٌ مِنْ آلِ أَنَسٍ فَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْهَا، وَأَنَسٌ حَيٌّ، وَلَوْ كَانَ أَصْلًا فِيهِ لَاكْتَفَوْا بِسُؤَالِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا دُونَ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَالْمَعْنَى فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَنَّهُ مُسْتَوْعِبٌ لِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَى) {البقرة: 222) فَجُعِلَ الْأَذَى حَيْضًا، وَيَسِيرُ الدَّمِ أَذًى فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ " قَالَ: وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ كَالنِّفَاسِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ فَجَعَلَ زَمَانَ الْحَيْضِ مُسْقِطًا لِفَرْضِ الصَّلَاةِ، وَسُقُوطِهَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ مَحْدُودٍ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الرَّحِمِ يَدُلُّ عَلَى بَرَاءَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا كَالْحَمْلِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دَلِيلَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحَيْضَ أَذًى، وَلَمْ يَجْعَلِ الْأَذَى حَيْضًا، وَأَمَّا حَدِيثُ فَاطِمَةَ فَالْمُرَادُ بِهِ إِقْبَالُ حَيْضِهَا، وَقَدْ كَانَ أَيَّامًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى النِّفَاسِ فَالْمَعْنَى فِيهِ وجود العادة بيسيره.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّ أَكْثَرَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَعَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ أَكْثَرَهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَعَنْ(1/434)
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ أَكْثَرَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي أَكْثَرِهِ ثَلَاثُ روايات إحداهن خمسة عشرة يَوْمًا، كَقَوْلِنَا وَالثَّانِيَةُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَقَوْلِ الماجشون، والثالث أَنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ عشرٌ " وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَيَالِي وَالْأَيَّامِ "، وَهَذَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَمَا دُونُ، وَبِقَوْلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قُرْءُ الْحَيْضِ ثَلَاثٌ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى عَشْرٍ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ النَبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ضحىً أَوْ فِطْرٍ إِلَى الْمُصَلَّى وَانْصَرَفَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عقلٍ ودينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَ، يَا مَعْشَرَ النَسَاءِ فَقُلْنَ مَا نُقْصَانُ عَقْلِنَا وَدِينِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَلَيْسَ شهادة المرأة بنصف شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ بَلَى، قَالَ فَذَلِكَ نُقْصَانُ عقلها، أرأيت إذا حاضت لم تصل ولم تصم.
رَوَى شَطْرَ دَهْرِهَا قَالَ: فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِهَا ".
وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مَوْصُوفَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نِصْفُ كُلِّ شَهْرٍ حَيْضًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ، فَجَازَ أَنْ يَبْلُغَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، كَالنِّفَاسِ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ صَحِيحَةٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، كَالطُّهْرِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِمَا ذَكَرَهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا أَقَلُّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ فَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَهُوَ قَوْلُ أبى حنيفة وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: أَقَلُّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ.
وَدَلِيلُنَا مَعَ اعْتِبَارِ الْعَادَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَقْعُدُ شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي "، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِ اسْتَقَرَّ نَصًّا بِأَنَّ الشَّهْرَ فِي مُقَابَلَةِ قُرْءٍ جَامِعٍ لِحَيْضٍ وَطُهْرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عَلَى الْمُؤَيَّسَةِ فِي مُقَابَلَةِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الْعِدَّةِ، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ إِمَّا لِأَنَّ الشَّهْرَ يَجْمَعُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَأَكْثَرَ الطُّهْرِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَقَلَّ الْحَيْضِ، وَأَقَلَّ الطُّهْرِ أَوْ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، وَأَقَلَّ الطُّهْرِ أَوْ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَقَلَّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرَ الطُّهْرِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يكون جامعاً لأكثر الأمرين؛ لأن أكثر الطهر غير محدود ولم يجز أن يكون جامعاً، لأقل الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِ الطُّهْرِ، لِأَنَّهُ يَتَجَاوَزُ الشَّهْرَ فَثَبَتَ أَنَّهُ جَامِعٌ لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ وَأَقَلِّ الطُّهْرِ، فَلَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِمَا دَلَّلْنَا ثَبَتَ أن أقل الطهر خمسة عشر يوماً.(1/435)
(مسألة: القول في النفاس)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَكْثَرُ النِّفَاسِ سِتُّونَ يَوْمًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا النِّفَاسُ فَهُوَ دَمٌ يُرْخِيهِ الرَّحِمُ فِي حَالِ الْوِلَادَةِ، وَبَعْدَهَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ فَلَانٌ قَدْ نَفَسَ الدَّمَ إِذَا أَخْرَجَهُ، وَتَنَفَّسَ النَّهَارُ إِذَا طَالَ، وَتَنَفَّسَ الصُّبْحُ إِذَا ظَهَرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس) {التكوير: 18) أَيْ ظَهَرَ، وَالنِّفَاسُ كَالْحَيْضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضَ، وَهِيَ السَّبْعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا يَحْرُمُ بِالْحَيْضِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّوَافِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقِرَانِ وَوَطْءِ الزَّوْجِ، وَمُخَالِفٌ لَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحدُهَا: أَنَّ الْحَيْضَ قَدْ يكون بلوغاً من الصَّغِيرَةِ وَالنِّفَاسُ لَا يَكُونُ بُلُوغًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْبُلُوغُ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْحَمْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَيْضَ يَكُونُ اسْتِبْرَاءً فِي الْعِدَّةِ، وَالنِّفَاسُ لَا يَكُونُ اسْتِبْرَاءً فِي الْعِدَّةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَدْرَ النِّفَاسِ مُخَالِفٌ لِقَدْرِ الْحَيْضِ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ وَأَوْسَطِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا أَقَلُّ النِّفَاسِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ نَصٌّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا رَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ أَقَلُّ النِّفَاسِ سَاعَةً فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ السَّاعَةُ حَدٌّ لِأَقَلِّهِ أَوْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَجَمِيعِ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ مَحْدُودُ الْأَقَلِّ بِسَاعَةٍ، وَبِهِ قَالَ محمد بن الحسن وَأَبُو ثَوْرٍ.
الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ السَّاعَةَ تَقْلِيلًا وَتَفْرِيقًا لَا أَنَّهُ جَعَلَهَا حَدًّا، وَأَقَلُّهُ مَجَّةٌ مِنْ دَمٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أبو حنيفة: أَقَلُّ النِّفَاسِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا.
وَقَالَ أبو يوسف أَقَلُّهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَكُلُّ هَذِهِ الْحُدُودِ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ، وَلَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْلٍ، وَإِنَّمَا وَجَدَ قَائِلُوهَا نِسَاءً كَانَ أَقَلُّ نِفَاسِهِنَّ مَا ذَكَرُوا فَجَعَلُوهُ حَدًّا مُسْتَحْسَنًا، وَلَيْسَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى مَنْ وَجَدَ أَقَلَّ مِنْ حَدِّهِمْ، وَقَدْ وُجِدَ نِسَاءٌ كَانَ نِفَاسُهُنَّ أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْحُدُودِ.
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ تَرَ مَعَهُ دَمًا فَسُمِّيَتْ ذَاتَ الْجَفَافِ.
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذَا طَهُرَتِ النُّفَسَاءُ حِينَ تَضَعُ صَلَّتْ وَهَذَا نَصٌّ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا أَكْثَرُ النِّفَاسِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَهُ سِتُّونَ يَوْمًا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّعْبِيُّ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَكْثَرُهُ خَمْسُونَ يَوْمًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: أَكْثَرُهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَحَكَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ مِنَ الْغُلَامِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَمِنَ الْجَارِيَةِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَكُلٌّ مِنْهُمْ رَجَعَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْحَدِّ إِلَى ما(1/436)
وَجَدَ فَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى حَدِّهِ بِالْأَرْبَعِينَ بِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَّتَ لِلنُّفَسَاءَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَرَوَتْ مُسَّةُ أُمُّ بُسَّةُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كَانَ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً وكنا نطلق عَلَى وُجُوهِنَا الْوَرَسَ يَعْنِي: مِنَ الْكَلَفِ " وَلِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَالزِّيَادَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُ يَقِينِ الصَّلَاةِ؛ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ إِلَى أَنْ تَرَى الطُّهْرَ " فَكَانَ عُمُومُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ نِفَاسًا، وَلِأَنَّ حَدَّ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مَأْخُوذٌ مِنْ وُجُودِ الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ فِيهِ، وَقَدْ وَجَدَ الشَّافِعِيُّ السِّتِّينَ فِي عَادَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ، وَتَحَرَّرَ هَذَا قِيَاسًا، فَيُقَالُ لِأَنَّهُ دَمٌ أَرْخَاهُ الرَّحِمُ جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ نِفَاسًا كَالْأَرْبَعِينَ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ الدَّمِ يَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْغَالِبِ، كَالْحَيْضِ غَالِبُهُ السَّبْعُ، وَأَكْثَرُهُ يَزِيدُ عَلَى السَّبْعِ، فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ، وَجَبَ أَنْ يَزِيدَ أَكْثَرُهُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ، وَلِأَنَّ النِّفَاسَ هُوَ مَا كَانَ مُحْتَسِبًا مِنَ الْحَيْضِ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَلَمَّا كَانَ غَالِبُ الحمل تسعة أشهر، وغالب الحيض ست أو سبع، فإن اعتبرنا السبع كَانَ النِّفَاسُ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الست كَانَ النِّفَاسُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُمَا مَعًا كَانَ النِّفَاسُ سِتِّينَ يَوْمًا، وَهُوَ أَنْ يجعل حيضها في ستة أشهر سبعاً، وفي ثلاثة اشهر ستاً فَصَحَّ أَنَّ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَصَحُّ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ رِوَايَةَ سَلَامِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ وَسَلَامٌ قَدْ أُسْقِطَ حَدِيثُهُ ذَكَرَهُ السَّاجِيُّ، وَقَالَ كَانَ ضَعِيفًا، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَحَمَلَ عَلَى مَنْ تَجَاوَزَ دَمُهَا سِتِّينَ يَوْمًا، فَرَدَّهَا إِلَى أَوْسَطِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَا رَدَّ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ حِينَ اسْتُحِيضَتْ إلى أوسط الحيض ست أو سبع، وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ قَدْرِ عَادَتِهِنَّ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْوِفَاقِ فَلَيْسَ الْوِفَاقُ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ نِفَاسٌ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ أَكْثَرُ النِّفَاسِ كَالْعِشْرِينِ فَأَمَّا أَوْسَطُ النِّفَاسِ فَأَرْبَعُونَ يَوْمًا؛ لِأَنَّ غَالِبَ عادت النساء جارية به كالسبع فِي الْحَيْضِ، وَوُجُودُهُ فِي الْعَادَةِ يُغْنِي عَنْ دَلِيلِ أَصْلِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ النِّفَاسِ، وَقِدْرِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَرْأَةِ فِي وِلَادَتِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَضَعَ مَا فِيهِ خَلْقٌ مُصَوَّرٌ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا وَضَعَتْهُ خَلْقٌ مُصَوَّرٌ لَا جَلِيٌّ وَلَا خَفِيٌّ، كَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ الَّتِي لَا تَصِيرُ بِهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا تَجِبُ فِيهَا عِدَّةٌ لَمْ يَكُنِ الدَّمُ الْخَارِجُ مَعَهُ نِفَاسًا، وَكَانَ دَمَ اسْتِحَاضَةٍ أَوْ حَيْضٍ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْكُمْ لما(1/437)
وَضَعَتْهُ حُكْمَ الْوَلَدِ فِيمَا سِوَى النِّفَاسِ، فَكَذَلِكَ فِي النِّفَاسِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَلْقٌ مُصَوَّرٌ تَقْضِي بِهِ الْعِدَّةَ وَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَرَى مَعَهُ دَمًا أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَرَ مَعَهُ دَمًا، وَقَدْ يُوجَدُ هَذَا كَثِيرًا فِي نِسَاءِ الْأَكْرَادِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، لِأَنَّ وُجُوبَ الغسل متعلق بانقطاع الدم، فإن عُدِمَ الدَّمُ لَمْ يَجِبِ الْغُسْلُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، أَنَّ الْغُسْلَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ بِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا وَمَاءِ الزَّوْجِ، فَإِذَا وَلَدَتْ فَكَأَنَّمَا قَدْ أَنْزَلَتْ، فَعَلَى هَذَا هَلْ تَغْتَسِلُ فِي حَالِ وَضْعِهَا أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ سَاعَةٍ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَقَلِّ النِّفَاسِ هَلْ هُوَ مَحْدُودٌ بِسَاعَةٍ أم لا؟ على هَذَا لَوْ كَانَتْ وِلَادَتُهَا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَبُطْلَانُ صَوْمِهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ، إِنْ قِيلَ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا، فَهِيَ عَلَى صَوْمِهَا وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا بَطُلَ صَوْمُهَا.
(فَصْلٌ)
: وَإِنْ رَأَتْ فِي وِلَادَتِهَا دَمًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَا مَعَ الْوِلَادَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَبْتَدِئَ بِهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ، فَإِنْ بَدَأَ بِهَا الدَّمُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَتَّصِلِ بِدَمِ الْوِلَادَةِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ إِلَى مَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَانْقَطَعَ قَبْلَهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الدمُ نِفَاسًا، لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، كَانَ كَالَّذِي تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الدَّمِ عَلَى حَمْلِهَا هَلْ يَكُونُ حَيْضًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة يَكُونُ دَمَ فَسَادٍ، فلا يَكُونُ حَيْضًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَكُونُ حَيْضًا وَسَنَذْكُرُ تَوْجِيهَ الْقَوْلَيْنِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْعَدَدِ، وَإِنِ اتَّصَلَ الدَّمُ بِمَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ دَمُ نِفَاسٍ، وَإِنَّ أَوَّلَ نِفَاسِهَا مِنْ حِينِ بَدَأَ بِهَا الدَّمُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِاتِّصَالِهِ بِهَا وَكَوْنِهِ أَحَدَ أَسْبَابِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْوِلَادَةَ لَيْسَ بِنِفَاسٍ، وَإِنَّ أَوَّلَ النِّفَاسِ مَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ دَمَ النِّفَاسِ مَا بَقِيَ مِنْ غِذَاءِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْحَيْضِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ وَرَأَتْ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا دَمًا، وَاتَّصَلَ(1/438)
بِوِلَادَةِ الثَّانِي فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ نِفَاسُهَا مِنْ حِينِ رَأَتِ الدَّمَ مَعَ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ أَوَّلُهُ بَعْدَ وِلَادَةِ الثَّانِي.
(فَصْلٌ)
: وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَى الْوِلَادَةِ فَهُوَ دَمُ نِفَاسٍ سَوَاءٌ كان اسوداً ثخيناً، أو كان أصفر رقيقاً فِي الْمُبْتَدَأَةِ وَغَيْرِهَا لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ بخلاف الحيض؛ لأن الولادة شاهر للنفاس، فلم يحتج إلى اعتبار شاهر فِي الدَّمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيْضُ فَإِنِ اتَّصَلَ إِلَى سِتِّينَ يَوْمًا، فَكُلُّهُ نِفَاسٌ فَإِنِ انْقَطَعَ الدَّمُ فِي أَثْنَاءِ نِفَاسِهَا، وَلَمْ يَتَّصِلْ كَأَنَّهَا رَأَتْ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ يَوْمًا ثُمَّ انْقَطَعَ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَلْفِيقِ الْحَيْضِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهُ نِفَاسٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَيَّامَ الدَّمِ نِفَاسٌ، وَأَيَّامَ النَّقَاءِ طُهْرٌ، فَلَوْ رَأَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا، وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ نَقَاءً حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ يَوْمًا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا، فَإِنِ اتَّصَلَ النَّقَاءُ فِي أَثْنَاءِ الدَّمِ حَتَّى بَلَغَ طُهْرًا كَامِلًا كَأَنَّهَا رَأَتْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا دَمًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يَكُونُ طُهْرًا فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَقَاطِعًا لِلنِّفَاسِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَاطِعٌ لِلنِّفَاسِ، وَفَاصِلٌ بَيْنَ الدَّمَيْنِ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ مُعْتَبَرٌ بِالْحَيْضِ، فَلَمَّا كَانَ الطُّهْرُ الْكَامِلُ فِي الْحَيْضِ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي النِّفَاسِ أَيْضًا فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الدَّمُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا نِفَاسًا، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ النَّقَاءُ طُهْرًا، وَالدَّمُ الثَّانِي وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ حَيْضًا فَإِنْ زَادَ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَقَدْ دَخَلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ فِي حَيْضِهَا فَصَارَتْ مُسْتَحَاضَةً وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ هَذَا الطُّهْرَ غَيْرُ قَاطِعٍ لِلنِّفَاسِ وَلَا فَاصِلٌ بَيْنَ الدَّمَيْنِ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ لَمَّا خَالَفَ الْحَيْضَ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ خَالَفَهُ فِي الطُّهْرِ الَّذِي فِي خِلَالِ دَمِهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الزَّمَانُ نِفَاسًا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَيَكُونُ الطُّهْرُ الَّذِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنَ التَّلْفِيقِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِنِ اتَّصَلَ دَمُ نِفَاسِهَا حَتَّى تَجَاوَزَ سِتِّينَ يَوْمًا، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فَي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَوْ مُبْتَدَأَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فِي النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ، فَمَا تَجَاوَزَ السِّتِّينَ يَوْمًا اسْتِحَاضَةٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ، لِأَنَّ يَقِينَ النِّفَاسِ يَغْلِبُ عَلَى شَكِّ الْحَيْضِ، فَعَلَى هَذَا تَصِيرُ الِاسْتِحَاضَةُ دَاخِلَةً فِي النِّفَاسِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أحوال:
الأول: حال يكون لها تمييز.
الثاني: وحال يكون لها ولا عادة.
الثالث: وحال يكون مُبْتَدَأَةً لَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ(1/439)
بعضه دماً أسود ثخين وبعضه أحمر رقيق، فَيَكُونُ السَّوَادُ مِنْهُ نِفَاسًا، وَالْحُمْرَةُ اسْتِحَاضَةً، وَإِنْ كان لها عادة بلا تَمْيِيزٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الدَّمِ لَوْنًا وَاحِدًا وَلَهَا عَادَةٌ سَالِفَةٌ فِي نِفَاسٍ مُسْتَمِرٍّ فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا فِي نِفَاسِهَا، وَيَكُونُ مَا تَجَاوَزَهَا اسْتِحَاضَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً لَيْسَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ النِّفَاسِ فَعَلَى هَذَا تُعِيدُ جَمِيعَ مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَوَاتِ سَوَاءٌ حَدَدْنَا أَوَّلَهُ بِسَاعَةٍ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ السَّاعَةَ حَدٌّ لَا يُصَادِفُ وَقْتَ صَلَاةٍ مُسْتَوْعِبٍ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي تُرَدُّ فِيهِ الْحَائِضُ إِلَى أَقَلِّ حَيْضِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَوْسَطِ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَتُعِيدُ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي تُرَدُّ فِيهِ الْحَائِضُ إِلَى أَوْسَطِ حَيْضِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ ذَكَرَهُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَكْثَرِ النِّفَاسِ سِتِّينَ يَوْمًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَيْضِ أَنَّ النِّفَاسَ يَقِينٌ فَجَازَ أَنْ تُرَدَّ فِيهِ إِلَى أَكْثَرِهِ، وَلَيْسَ الْحَيْضُ بِيَقِينٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُرَدَّ فِيهِ إِلَى أَكْثَرِهِ.
(فَصْلٌ)
: وَإِنْ كَانَ لِهَذِهِ النُّفَسَاءِ الَّتِي قَدْ تَجَاوَزَ دَمُهَا سِتِّينَ يَوْمًا حَيْضٌ مُعْتَادٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ دَمُ الْحَيْضِ بِدَمِ النِّفَاسِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي الْحَيْضِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ، لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعٌ مِنَ الْحَيْضِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ حَيْضٌ بِحَيْضٍ، فَكَذَلِكَ نِفَاسٌ بِحَيْضٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ رَدِّهَا إِلَى التَّمْيِيزِ ثُمَّ إِلَى الْعَادَةِ ثُمَّ عَلَى الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ مُخَالِفٌ لِلْحَيْضِ فِي أَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ، فَجَازَ أَنْ يَتَّصِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ التَّفْرِيعُ فَيُنْظَرُ فِي قَدْرِ الدَّمِ الزَّائِدِ على الستين، فإن لم يتجاوز خمسة عشرة يَوْمًا فَأَمْرُهَا غَيْرُ مُشْكِلٍ، وَتَكُونُ السِّتُّونَ يَوْمًا نِفَاسًا، وَمَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ حَيْضٌ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ سَبْعِينَ يَوْمًا فَحَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ؛ لأنك تَسْتَكْمِلُ النِّفَاسَ سِتِّينَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ يَقِينٌ، وَتَجْعَلُ الزِّيَادَةَ بَعْدَهَا حَيْضًا وَإِنْ بَلَغَ دَمُهَا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ يَوْمًا، فَقَدِ اسْتُكْمِلَ أَكْثَرُ النِّفَاسِ، وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ، فَأَمَّا إِذَا تَجَاوَزَ دَمُهَا خَمْسَةً وَسَبْعِينَ يَوْمًا، فَقَدْ صَارَتْ حِينَئِذٍ مُسْتَحَاضَةً، دَخَلَتِ اسْتِحَاضَتُهَا فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ جَمِيعًا، وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَتْ مُمَيِّزَةً رُدَّتْ إِلَى تَمْيِيزِهَا وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا مُيِّزَ بِهِ مِنْ سَوَادٍ مِنْ أَنْ يَتَجَاوَزَ السِّتِّينَ أَوْ لَا يَتَجَاوَزُهَا، فَإِنْ تَجَاوَزَ السِّتِّينَ، وَلَمْ يزد على الخمسة والسبعين، فقد استقرها نِفَاسُهَا وَحَيْضُهَا بِالتَّمْيِيزِ، فَيَكُونُ نِفَاسُهَا سِتِّينَ يَوْمًا، وَالْحَيْضُ مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزْ دَمُهَا سِتِّينَ يَوْمًا فَقَدْ حَصَلَ لَهَا بِالتَّمْيِيزِ النِّفَاسُ وَحْدَهُ، فَيَكُونُ نِفَاسُهَا سِتِّينَ يَوْمًا وَتُرَدُّ إلى عادتها في الحيض، فإن كانت عشراً صَارَ مَا تَتْرُكُهُ مِنْ(1/440)
الصَّلَوَاتِ سَبْعِينَ يَوْمًا، وَلَوْ كَانَ مَا مُيِّزَ بِهِ مِنْ سَوَادِ الدَّمِ خَمْسِينَ يَوْمًا صَارَ مَا تَتْرُكُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ مَعَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ سِتِّينَ يَوْمًا، وَلَوْ كَانَ سَوَادُ الدَّمِ عِشْرِينَ يَوْمًا صَارَ مَا تَتْرُكُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ مَعَ عَادَتِهَا فِي الْحَيْضِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَيَسْتَقِرُّ لَهَا النِّفَاسُ بِالتَّمْيِيزِ وَالْحَيْضِ بِالْعَادَةِ، وَإِنْ يَتَمَيَّزْ دَمُهَا، وَلَوْ كَانَ لَوْنًا وَاحِدًا رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا فِي النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا وَلَا يَخْلُو حَالُ مَا فِيهِمَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ عَادَةً فِي النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا، فَتُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ فِيهِمَا.
مِثَالُهُ أَنْ تَكُونَ عَادَتُهَا فِي النفاس ثلاثون يَوْمًا، وَفِي الْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَتُعِيدُ صَلَاةَ مَا زَادَ عَلَيْهَا.
والقسم الثاني: أن تكون لَهَا عَادَةٌ فِي النِّفَاسِ دُونَ الْحَيْضِ.
مِثَالُهُ أن يكون عادتها في النفاس ثلاثون يَوْمًا، وَلَيْسَ لَهَا فِي الْحَيْضِ عَادَةٌ تَعْرِفُهَا فَتُرَدُّ فِي نِفَاسِهَا إِلَى الثَّلَاثِينَ الْمُعْتَادَةِ، وَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنَ الْحَيْضِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تُرَدُّ إِلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ أحد وثلاثين يوماً.
والقول الثاني: ترد إلى ست أو سبع، فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فِي الْحَيْضِ دُونَ النِّفَاسِ.
مِثَالُهُ: أَنْ تكون عادتها في الحيض عشراً، وَهِيَ مُبْتَدَأَةٌ بِالنِّفَاسِ، فَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا الْعَشْر فِي الْحَيْضِ، وَيَكُونُ فِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ مِنَ النِّفَاسِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِلَى أَقَلِّهِ فَلِهَذَا تدع الصلاة عشر الْحَيْضِ وَحْدَهَا.
وَالثَّانِي: إِلَى أَوْسَطِهِ فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ خَمْسِينَ يَوْمًا.
وَالثَّالِثُ: إِلَى أَكْثَرِهِ فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ سَبْعِينَ يَوْمًا.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ فِي النِّفَاسِ، وَلَا فِي الْحَيْضِ، فَفِيمَا تُرَدُّ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: تُرَدُّ إِلَى أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَلَيْلَةً.
وَالثَّانِي: تُرَدُّ إِلَى أَوْسَطِ الْأَمْرَيْنِ، فَعَلَى هَذَا تَدَعُ الصَّلَاةَ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا.
الثَّالِثُ: تُرَدُّ إِلَى أَكْثَرِ النِّفَاسِ وَأَوْسَطِهِ فَعَلَى هَذَا تضع الصلاة ستة أو سبع وستين يوماً والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَالَّذِي يُبْتَلَى بِالْمَذْيِ فَلَا يَنْقَطِعُ مِثْلَ الْمُسْتَحَاضَةِ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صلاةٍ فريضةٍ بَعْدَ غَسْلِ فَرْجِهِ ويعصبه ".(1/441)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَفِي حُكْمِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَذَاتِ الْفَسَادِ فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَحُكْمُهَا فِيمَا يَلْزَمُهَا مِنَ الْعَادَاتِ، وَتَسْتَبِيحُهُ مِنَ الْقُرْبِ حُكْمُ النِّسَاءِ الطَّاهِرَاتِ إِلَّا فِي الطَّهَارَةِ وَحْدَهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَوَضَّأَ لِصَلَاةِ كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَجْمَعَ بِالْوُضُوءِ الْوَاحِدِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ فَرِيضَةٍ، وَتُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْفُرُوضِ وَالنَّوَافِلِ، مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ لَا وُضُوءَ عَلَيْهَا إِلَّا مِنْ حَدَثٍ، غَيْرِ الِاسْتِحَاضَةِ.
فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صلاةٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ صَحَّ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا النَّفْلُ صَحَّ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا الْفَرْضُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ عُذْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِالْوَقْتِ دُونَ الْفِعْلِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ النَّادِرَ لَا وُضُوءَ فِيهِ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ نَادِرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ مَا رَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ " تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي " وَالْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَ خَبَرَهَا قَالَ ثُمَّ اغْتَسِلِي ثُمِّ تَوَضَّئِي لِكُلِ صلاةٍ.
ذَكَرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَجْمَعَ بِهَا بَيْنَ فَرْضَيْنِ قِيَاسًا عَلَى فَرْضِهِ فِي وَقْتَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ فَرْضِهِ إِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ فَرْضِهِ قَضَاءً كَالْمُحْدِثِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة من الخبر فمن وجهين:
أحدهما: أن للفائت وقتاً لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَامَ عَنْ صلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا " فَصَارَ أَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ يَتَنَاوَلُ الْفَوَائِتَ وَغَيْرَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِالْوَقْتِ، فَصَارَ أَمْرُهُ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ أَمْرًا بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوُضُوءِ الصَّلَاةُ دُونَ الْوَقْتِ.
وَأَمَّا قياسه على المتنفل فَفَاسِدُ الْمَوْضُوعِ؛ لِأَنَّ النَّفْلَ أَخَفُّ حَالًا، وَأَقَلُّ شُرُوطًا وَالْفَرْضَ أَغْلَظُ حَالًا وَآكَدُ شُرُوطًا، فَلَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ مَوْضُوعِهِمَا بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّغْلِيظِ أَنْ(1/442)
يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِيمَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنْ تَخْفِيفٍ وَتَغْلِيظٍ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي أَصْلِهِ الْمَرْدُودِ إِلَيْهِ مِنْ طَهَارَةِ غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ يُصَلَّى بِهَا الْفُرُوضُ الْمُؤَدَّاةُ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْمَسْحَ طَهَارَةُ رَفَاهِيَةٍ، وَطَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، ثُمَّ المعنى في المسح أنها لَمَّا جَازَ أَنْ يُؤَدّي بِهِ فَرْضَيْنِ فِي وقتين جاز في وقت، وها هنا بِخِلَافِهِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي رَدَّهُ إِلَيْهِ مَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ فَعَلَيْهَا طَهَارَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: طَهَارَةُ فَرْجِهَا مِنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ.
وَالثَّانِي: الْوُضُوءُ مِنَ الْحَدَثِ. فَأَمَّا طَهَارَةُ فَرْجِهَا فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْوُضُوءِ كَتَقَدُّمِ الِاسْتِحَاضَةِ وَصِفَتُهُ أَنْ تَغْسِلَ فَرْجَهَا بِالْمَاءِ، حَتَّى تُنَقِّيَهُ مِنَ الدَّمِ، ثُمَّ تَحْشُوهُ بِالْقُطْنِ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ يَحْتَبِسُ مِنْ غَيْرِ شِدَادٍ لِضَعْفِهِ اقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ لَا يَحْتَبِسُ بِالْقُطْنِ وَحْدَهُ لِقُوَّتِهِ شَدَّتْهُ بِخِرْقَةٍ تَتَلَجَّمُ بِهَا مُسْتَثْفِرَةً مِنْ وَرَائِهَا، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَكَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حديث أم سلمة ثم لتستثفر بثوت، وَصُورَةُ الِاسْتِثْفَارِ أَنْ تَشُدَّ فِي وَسَطِهَا حَبْلًا، ثم تأخذ خرقة عرضة مَشْقُوقَةَ الطَّرَفَيْنِ فَتَشُدَّ أَحَدَ طَرَفَيْهَا فِي الْحَبْلِ من مقدمها، وعند سرتها ثم تحدر الحرقة عَلَى فَرْجِهَا، وَبَيْنَ الْإِلْيَتَيْنِ وَتَعْقِدُ طَرَفَهَا الْآخَرَ مِنْ وَرَائِهَا فِي الْحَبْلِ الْمُسْتَدِيرِ فِي وَسَطِهَا كَثَفَرِ الدَّابَّةِ وَسُمِّي اسْتِثْفَارًا مِنْ قَوْلِهِمْ ثَفَّرَ الْكَلْبُ، وَاسْتَثْفَرَ إِذَا جَلَسَ عَاطِفًا بِذَنَبِهِ عَلَى فَرْجِهِ وَبَيْنَ فَخِذَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى بَطْنِهِ فَإِنْ كَانَ الدَّمُ زَائِدًا تَخَافُ أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْخِرْقَةِ جَعَلَتْ مَكَانَ الْخِرْقَةِ جِلْدًا أَوْ لِبْدًا فَهَذِهِ صِفَةُ تَطْهِيرِهَا لِفَرْجِهَا.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا طَهَارَتُهَا مِنْ حَدَثِهَا فَتَحْتَاجُ إِلَى شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عُقَيْبَ طَهَارَةِ الْفَرْجِ وَشَدِّهِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَلَا بُعْدٍ فَإِنْ تَوَضَّأَتْ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ مِنْ غَسْلِ الْفَرْجِ وَشِدَادِهِ صَارَتْ مُتَطَهِّرَةً طَهَارَةَ ضَرُورَةٍ مَعَ كَوْنِهَا حَامِلَةً لِلنَّجَاسَةِ، فَتَكُونُ كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ إِذَا تَيَمَّمَ، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ يَقْدِرُ عَلَى غَسْلِهَا فَتَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُضُوءَهَا بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَتَسْتَأْنِفُ غَسْلَ الْفَرْجِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ، وَيُعْتَبَرُ حَالُ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ ظَهَرَتْ إِلَى مَكَانٍ يَلْزَمُ تَطْهِيرُهُ، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ فَوُضُوؤُهَا عَلَى صِحَّتِهِ.
(فَصْلٌ)
: وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وُضُوؤُهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تَتَوَضَّأَ لَهَا فَإِنْ تَوَضَّأَتْ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَانَ وُضُوؤُهَا بَاطِلًا كَالْمُتَيَمِّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَأَجَازَ أبو حنيفة(1/443)
وُضُوءَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فَإِذَا تَوَضَّأَتْ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَهَلْ يَلْزَمُهَا فِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْحَالِ أَمْ يَجُوزُ التَّرَاخِي فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهَا عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَأَدَائِهَا فِي أَوَّلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا وَعَلَيْهَا الْمُبَادَرَةُ بِهَا عَلَى الْفَوْرِ بِحَسْبَ الْإِمْكَانِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي؛ لِأَنَّ وُضُوءَ الْمُسْتَحَاضَةِ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْفَعُ مَا قَارَنَهُ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ مَعَ حَدَثِهَا إِلَّا بِحَسبِ ضَرُورَتِهَا الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ انْتِظَارًا لِأَسْبَابِ كَمَالِهَا كَالْجَمَاعَةِ، وَقَصْدِ الْبِقَاعِ الشَّرِيفَةِ، وَارْتِيَادِ سُترَةٍ تَسْتَقْبِلُهَا وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا لِغَيْرِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْدُوبٍ إِلَيْهِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا فَعَلَتْ مَا وَصَفْنَا مِنَ الطَّهَارَتَيْنِ فَجَرَى دَمُهَا مِنَ الشِّدَادِ وَظَهَرَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْرِيَ لِضَعْفِ الشِّدَادِ وَتَقْصِيرِهَا فِيهِ فَقَدْ بَطُلَتْ طَهَارَتُهَا وَصَلَاتُهَا إِنْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجْرِيَ دَمُهَا لِغَلَبَتِهِ وَكَثْرَتِهِ مَعَ كَوْنِ الشِّدَادِ مُحْكَمًا، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ الدَّمِ وَسَيَلَانُهُ في الصلاة فصلاتها صحيحة وتيممها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ حَيْثُ وَصَفَ لَهَا حَالَ الِاسْتِحَاضَةِ " صَلِّي وَلَوْ قُطِرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ ".
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ دَمِهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَفِي بُطْلَانِ طَهَارَتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَبْطُلُ وَهِيَ عَلَى حَالِ الصِّحَّةِ وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ إِذْ لَمْ يَجْعَلْ صَلَاةَ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ طَهَارَتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ طَهَارَتَهَا قَدْ بَطُلَتْ كَمَا يَبْطُلُ التَّيَمُّمُ، بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جَعَلَ صَلَاةَ الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ طَهَارَتِهَا، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَتَفَرَّعُ حُكْمُ مَنْ جَرَى دَمُهَا فِي الصَّلَاةِ فَأَرَادَتْ أَنْ تَتَنَفَّلَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ بَعْدَ فَرَاغِهَا مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قِيلَ: بِبُطْلَانِ طَهَارَتِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَتَنَفَّلَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ إِلَّا بِطِهَارَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، وَإِنْ قِيلَ بِصِحَّةِ طَهَارَتِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ جَازَ أَنْ تَتَنَفَّلَ بَعْدَ تِلْكَ الصَّلَاةِ فِيمَا شَاءَتْ مِنْ صلاة وطواف.(1/444)
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا انْقَطَعَ دَمُ اسْتِحَاضَتِهَا فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ انْقِطَاعُهُ لِارْتِفَاعِ الاستحاضة، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّ صَلَاتَهَا لَا تَبْطُلُ وَتَمْضِي فِيهَا، وَإِنِ ارْتَفَعَتِ اسْتِحَاضَتُهَا كَالْمُتَيَمِّمِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فِيهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاتَهَا قَدْ بَطُلَتْ بِارْتِفَاعِ الِاسْتِحَاضَةِ؛ لارتفاع الضرورة والفرق بينهما وَبَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ قَدْ أَتَى بِبَدَلِ الطَّهَارَةِ فَجَازَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ بِالْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْمُسْتَحَاضَةُ لَمْ تَأْتِ بِبَدَلِ الطَّهَارَةِ مَعَ كَوْنِهَا مُحْدِثَةً فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهَا الصَّلَاةُ وَالثَّانِي أَنَّ مَعَ حَدَثِ الْمُسْتَحَاضَةِ نَجَاسَةً لَا تَصِحُّ الصَّلَوَاتُ مَعَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِزَالَتِهَا فَكَانَتْ أَغْلَظَ حَالًا مِنَ الْمُتَيَمِّمِ الَّذِي لَا نَجَاسَةَ عَلَيْهِ فَهَذَا حُكْمُ اسْتِحَاضَتِهَا إِذَا ارْتَفَعَتْ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَّا إِنِ ارْتَفَعَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ فَهَذِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الصَّلَاةِ مُتَّسِعًا لِلطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّ طَهَارَتَهَا قَدْ بَطُلَتْ لِارْتِفَاعِ ضَرُورَتِهَا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الصَّلَاةِ قَدْ ضَاقَ عَنْ فِعْلِ الطهارة ولم يبق له إلا قدراً لصلاة فَفِي بُطْلَانِ طَهَارَتِهَا وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهَا.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ إِذَا قِيلَ: إن الصلاة بها باطلة، وهذا أصح لوجهين.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا صَحِيحَةٌ لِصَلَاةِ وَقْتِهَا، دُونَ مَا سِوَاهَا مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ، إِذَا قِيلَ إِنَّ الصَّلَاةَ بِهَا لَا تَبْطُلُ، وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ ضَاقَ وَقْتُهَا وَلَكِنْ ذُكِرَ فَذَكَرْتُهُ.
(فَصْلٌ)
: وَالضَّرْبُ الثَّانِي: فِي الْأَصْلِ، أَنْ يَكُونَ انْقِطَاعُ ذلك لرؤية الدم لا لارتفاع الِاسْتِحَاضَةِ، كَأَنَّهُ يَنْقَطِعُ سَاعَةً ثُمَّ يَجْرِي سَاعَةً فَإِنْ كَانَ قَدْ عُرِفَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ، وَيَعُودُ كَانَ وُضُوؤُهَا جَائِزًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ مَاضِيَةً وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي صَلَاةٍ أَوْ فَي غَيْرِ صَلَاةٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ، سَوَاءٌ عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي الصَّلَاةِ فَصَارَ مُعْتَادًا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ انْقِطَاعِهِ شَاكَّةٌ فِي عَوْدِهِ، فَلَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ بِزَوَالِ الشَّكِّ بَعْدَ عَوْدِهِ كَالْمُصَلِّي إِذَا شَكَّ فِي طَهَارَتِهِ ثُمَّ تَيَقَّنَ صِحَّتَهَا قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاتِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، بِالشَّكِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ تَعَقَّبَهُ يَقِينٌ طَارِئٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، حُكِمَ فِي الظَّاهِرِ بِبُطْلَانِ وُضُوئِهَا، فَإِنْ لَمْ يُعَاوِدْهَا الدَّمُ حَتَّى تَوَضَّأَتْ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ(1/445)
الصلاة، استقر الحكم، وإن عادوها الدَّمُ قَبْلَ اسْتِئْنَافِ وُضُوئِهَا صَارَ عَادَةً فِيمَا بَعْدُ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ طَهَارَتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ لِلْحُكْمِ بِبُطْلَانِهَا بِالشَّكِّ الْمُتَقَدِّمِ كَالصَّلَاةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: صَحِيحَةٌ لِلْعَادَةِ الطَّارِئَةِ الَّتِي زَالَ بِهَا الشك كالمسافر إذا شك هل بدأ بمسح مسافر جاز، أو مقيم مَسَحَ مَسْحَ مُقِيمٍ، فَلَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ ابْتَدَأَ الْمَسْحَ مُسَافِرًا جَازَ لِزَوَالِ الشَّكِّ أَنْ يُبْنَى عَلَى مَسْحِ مُسَافِرٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ أَنَّ الصَّلَاةَ بَطُلَتْ بِالشَّكِّ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا وَالْوُضُوءُ لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ إِذَا ارْتَفَعَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَلَّلُهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ.
(الْقَوْلُ فِي دَمِ الْفَسَادِ)
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا ذَاتُ الْفَسَادِ وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي لَيْسَ بِحَيْضٍ وَلَا اسْتِحَاضَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يَجْعَلُهَا كَ " الِاسْتِحَاضَةِ " فِي الطَّهَارَةِ وَأَحْكَامِهَا. وَلَا يَكُونُ دَمُ الْفَسَادِ بِأَنْدَرَ مِنَ الْمَذْيِ الَّذِي يُسَاوِي حُكْمَ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَجْعَلُ ذَلِكَ حَدَثًا كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ لَا يَجْمَعُ إِلَى الْفَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِ الدَّمِ نَفْلًا، لِأَنَّ دَمَ الْفَسَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْدَرَ مِنَ الْمَذْيِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَذْيَ، وَسَلَسَ الْبَوْلِ قَدْ يَدُومُ زَمَانًا إِذَا حَدَثَ بِصَاحِبِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الِاسْتِحَاضَةِ الَّتِي قَدْ تَدُومُ بِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ دَمُ الْفَسَادِ لِأَنَّهُ إِنْ دَامَ خَرَجَ عَنْ دَمِ الْفَسَادِ فصار حيضاً أم اسْتِحَاضَةً.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمُبْتَلَى بِالْمَذْيِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِ سَبَبٍ مِنْ لَمْسٍ، أَوْ نَظَرٍ، أَوْ تَحْرِيكِ شَهْوَةٍ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ فِي غُسْلِهِ وَوُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْهُ قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ أَمَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنْ يَسْأَلَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالنَّضْحِ عَلَى فَرْجِهِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَسْتَدِيمَ بِصَاحِبِهِ لَا مِنْ حُدُوثِ سَبَبٍ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَحَاضَةِ فِي غَسْلِ فَرْجِهِ وَشَدِّهِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ وَكَذَا مَنْ به سلسل الْبَوْلِ أَوِ اسْتِطْلَاقُ الرِّيحِ الْمُسْتَدِيمُ.
فَأَمَّا منِ اسْتَدَامَ بِهِ الْمَنِيُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهُ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَقَلَّ مَنْ يَسْتَدِيمُ بِهِ الْمَنِيُّ، لِأَنَّ مَعَهُ تَلَفَ النَّفْسِ ".
فَأَمَّا مَنْ بِهِ جَرْحٌ يَسِيلُ دَمُهُ فَلَا يَرْقَأُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ وَيَشُدَّهُ مُكْتَفِيًا بِهِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ لِأَنَّ خُرُوجَ الدَّمِ مِنَ الْجَسَدِ يُوجِبُ غَسْلَ مَحَلِّهِ مِنْ غير وضوء. والله أعلم بالصواب.(1/446)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(كِتَابُ الصَّلَاةِ)
(بَابُ وقت الصلاة والأذان والعذر فيه)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْوَقْتُ لِلصَّلَاةِ وَقْتَانِ: وَقْتُ مَقَامٍ وَرَفَاهِيَةٍ، وَوَقْتُ عُذْرٍ، وَضَرُورَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ مَعًا انْعَقَدَ بِهِ إِجْمَاعُ الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وَهَذَا أَمْرٌ بِمُدَاوَمَةِ فِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] فَالْحُنَفَاءُ: الْمُسْتَقِيمُونَ عَلَى دِينِهِمْ كَقَوْلِهِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30] فَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِ بِالْإِخْلَاصِ مَشْرُوطًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزكاة وقال تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث} إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، فَجَعَلَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وَالْإِذْعَانَ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ شَرْطًا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ بَعْدَ التَّوْحِيدِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ".
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّة فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعَةٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالُوا: اللَهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمْسَ " فَكَانَ هَذَا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ فَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَبِيِّهِ قِيَامُ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ(2/3)
تعالى: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه وانقص منه قليلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 1] .
وَالْمُزَّمِّلُ: الْمُلْتَفُّ. وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِثِيَابِهِ مُتَأَهِّبٌ لِلصَّلَاةِ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
وَالثَّانِي: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ.
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْوًا مِنْ قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَعَلِمَ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَامُوا مَعَهُ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ كَالْمُغْضَبِ وَخَشِيَ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اكْلَفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ وَخَيْرُ الْعَمَلِ مَا دِيمَ عَلَيْهِ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] قَالَ: وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا سَنَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقِيلَ: إِنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فَلَمَّا نُسِخَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَذَلِكَ عَلَى مَا حُكِيَ فِي شوال قبل الهجرة بستة عشر شهرا.
فروى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من أهل نجد ثابر الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْهَمُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَيْلَةِ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُ هَذَا فَقَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ.
وَرَوَى خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله كم أفرض اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ قَالَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ قَالَ: هَلْ قَبْلَهُنَّ أَوْ بَعْدَهُنَّ شَيْءٌ؟ قَالَ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ صَلَوَاتٍ خَمْسًا فَحَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا يَنْقُصُ منهن فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ.(2/4)
وَرَوَى ابْنُ مُحَيْرِيزٍ عَنِ الْمَخْدَجِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهُ عَهْدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ بِمَا رُوِّينَا أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَهُنَّ مُوَقَّتَاتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ، ثُمَّ وَرَدَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ أَوْقَاتِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِوَصْفِ أَوْقَاتِهَا عَلَى التَّحْدِيدِ، فَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ أَوْقَاتِهَا فَخَمْسُ آيَاتٍ إِحْدَاهُنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وله الحمد في السموات وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17] . فَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالتَّسْبِيحِ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى: {فسبحان الله} أَيْ: صَلُّوا لِلَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] أَيْ: مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَقِيلَ: الْمُسْتَغْفِرِينَ وَقَالَ الْأَعْشَى فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
(وَسَبِّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيَّاتِ وَالضُّحَى ... وَلَا تَعْبُدِ الشيطان والله فاعبدا)
وقوله: " حين تمسون " يريد به المغرب، والعشاء " وحين تصبحون " يريد الصبح " وعشيا " - يعني - صلاة العصر " وحين تظهرون " - يَعْنِي - صَلَاةَ الظُّهْرِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فسبح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] قَوْلُهُ: " وَسَبِّحْ " أَيْ: وَصَلِّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ - يَعْنِي - صلاة الصبح " وقبل الغروب " الظهر والعصر " ومن الليل فسبحه " - يَعْنِي - صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ " وَفِي أَدْبَارِ السُّجُودِ " تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا رَكْعَتَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.(2/5)
وَالثَّانِي: أَنَّهَا النَّوَافِلُ فِي أَدْبَارِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ.
وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ: قوله تعالى: {أقم الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] . أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ مِنَ النَّهَارِ فَالْمُرَادُ بِهِ: صَلَاةُ الصُّبْحِ.
وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي: فَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى مَا حَكَاهُ مُجَاهِدٌ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ " وزلفا من الليل " رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَعِشَاءُ الْآخِرَةِ.
وَمَعْنَى الزُّلَفِ مِنَ اللَّيْلِ: السَّاعَاتُ الَّتِي يَقْرُبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ الْعَجَّاجُ:
(طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا وَزُلَفًا ... ... ... ... ... ... ... .....)
وَالْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] ، أَمَّا دُلُوكُ الشَّمْسِ فَهُوَ مَيْلُهَا وَانْتِقَالُهَا وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ غُرُوبُهَا، وَأَنَّهُ عَنَى صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ زَيْدٍ، اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
(هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رُبَاحٍ ... غَدْوَةً حَتَّى دَلَكَتْ بَرَاحُ)
- يَعْنِي: حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَالْبَرَاحُ: اسْمٌ لِلشَّمْسِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ دُلُوكَ الشَّمْسِ زَوَالُهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي وَجْزَةَ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ لِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ - رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَتَانِي جِبْرِيلُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بي الظهر.(2/6)
وَأَمَّا غَسَقُ اللَّيْلِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: إِقْبَالُهُ وَدَبْرُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَعَلَى [التَّأْوِيلِ] الثَّانِي صَلَاةُ الْمَغْرِبِ.
قُلْنَا: قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] فَيُرِيدُ بِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَسَمَّاهَا قُرْآنَ الْفَجْرِ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ القراءة " إن قرآن الفجر كان مشهودا ". فروى أبو هريرة عن النبي أَنَّهُ قَالَ: " يَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ "، وَهَذَا دَلِيلٌ، وَزَعَمَ أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ لَيْسَتْ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ.
وأما الآية الخامسة: قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، فَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ لَمْ تَدُلَّ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فَفِيهَا حَثٌّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِأَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَذَكَرَ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى الَّتِي هِيَ أَوْكَدُ الصَّلَوَاتِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ لقوله: " وقوموا لله قانتين "، وَأَنَّ الْقُنُوتَ فِي الصُّبْحِ؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا فِي سَفَرٍ وَلَا مَطَرٍ لِتَأَكُّدِهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَضَوْءُ النَّهَارِ، وَتَشْهَدُهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قال أبو عمرو: هِيَ الَّتِي تَوَجَّهَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى الْقِبْلَةِ، وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةٌ أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهَا قَالَ: فَنَزَلَتْ " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوسطى " وَقَالَ: إِنَّ قَبْلَهَا صَلَاةٌ وَبَعْدَهَا صَلَاةٌ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلَيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ، وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ لِرِوَايَةِ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَصْرَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ(2/7)
إِلَّا بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ مَا لَهُمْ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ.
وَرَوَى عمرو بن رافع عَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِكَاتِبِ مُصْحَفِهَا إِذَا بَلَغْتَ إِلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَأَخْبِرْنِي فَلَمَّا أَخْبَرَهَا قَالَتْ اكْتُبْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " وَهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ.
وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ ".
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَهُوَ قَوْلُ قَبِيصَةَ؛ لِأَنَّهَا فِي وَسَطِ الْعَدَدِ لَيْسَتْ بِأَقَلِّهَا وَلَا بِأَكْثَرِهَا وَلَا تُقْصَرُ فِي السَّفَرِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا إِلَّا وَقْتًا وَاحِدًا لَا تَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ.
وَالْمَذْهَبُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا وَهُوَ قَوْلُ نَافِعٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ، لِأَنَّ إِبْهَامَهَا وَتَرْكَ تَعْيِينِهَا أَحَبُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ لِجَمِيعِهَا وَأَبْعَثُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَائِرِهَا فَكَانَ أَوْلَى مِنَ التَّعْيِينِ الْمُفْضِي إِلَى إهمال ما سوها، فَهَذِهِ مَذَاهِبُ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى اختلافها، أما مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَالَّذِي يَصِحُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا صَلَاةُ الصبح استدلالا، لكن مَهْمَا قُلْتُ قَوْلًا فَخَالَفْتُ فِيهِ خَبَرًا فَأَنَا أَوَّلُ رَاجِعٍ عَنْهُ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ نَقْلًا صَحِيحًا بِأَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ فَصَارَ مَذْهَبُهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي مَهَّدَهُ، أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ دُونَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنَ الصُّبْحِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فهذا ما ورد نفي كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ تَحْدِيدِ أَوْقَاتِهَا أَوَّلًا وَآخِرًا وَاخْتِيَارًا وَجَوَازًا.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ(2/8)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ مَرَّتَيْنِ فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ كَانَ الظِّلُ مِثْلَ الشِّرَاكِ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدْرِ ظِلِّهِ ثَمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ أَفْطَرَ الصَائِمُ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ثُمَ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ حَرُمَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ ثُمَّ صَلَّى الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ قدر ظله دون العصر بالأمس الْأَوَّلِ لَمْ يُؤَخِّرْهَا ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ ثُمَّ صَلَى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ.
فَدَلَّتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ تَحْدِيدِ الْأَوْقَاتِ.
(فَصْلٌ)
: وأما قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا ذِكْرُ الصَّلَاةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ هَلْ ذَلِكَ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ إِلَّا بِالْبَيَانِ؟ أَوْ هُوَ ظَاهِرٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى؟ قِيلَ: وُرُودُ الْبَيَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إِلَى الْبَيَانِ فِي مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ بِهِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْبَيَانُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ ظَاهِرًا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ مَا لَمْ يَرِدِ الْبَيَانُ بِالْعُدُولِ عَنْهُ أَوْ بِاسْتِعْمَالِ شُرُوطٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ تَحَدَّى اللَّهُ بِهِ الْعَرَبَ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى لَأَنْكَرُوهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ هَلْ جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ كَمَا جَاءَ بِبَيَانِ الْحُكْمِ أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالشَّرْعُ الْمُخْتَصُّ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحْدَثَ الْأَسْمَاءَ شَرْعًا كَمَا بَيَّنَ الْأَحْكَامَ شَرْعًا، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِمَا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً مِنْ قَبْلُ افْتَقَرَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ إِلَى أَسْمَاءٍ مُسْتَحْدَثَةٍ بِالشَّرْعِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ فَجَعَلَهُ مُسْتَحْدَثًا بِالشَّرْعِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ مُخْتَصٌّ بِوُرُودِ الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَمَأْخُوذَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ لوردت شَرْعًا لَصَارُوا مُخَاطَبِينَ بِمَا لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ، ولخرج(2/9)
الْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَعْتَقِدُونَهَا عِبَادَةً وَإِنْ كَانَتْ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً. وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَفِي التَّصْدِيَةِ تَأْوِيلَانِ:
أحدها: التَّصْفِيقُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: الصَّدُّ عَنِ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ زَيْدٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَافَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ قَدْ كَانَ لَهَا فِي اللِّسَانِ حَقِيقَةٌ، وَمَجَازٌ فَكَانَتْ حَقِيقَتُهَا مَا نَقَلَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ وَمَجَازُهَا مَا قَرَّرَهَا الشَّرْعُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ فِيهَا فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ صَلَاةً عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ أَشْهَرُهَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لما يتضمنها من الدعاء والذي هُوَ مُسَمًّى فِي اللُّغَةِ صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تعالى: {وصل عليهم إن صلواتك سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] أَيِ ادْعُ لَهُمْ وَقَالَ الْأَعْشَى:
(تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبَتْ مُرْتَجَلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا)
(عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتُ فَاغْتَمِضِي ... يَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا يَعُودُ عَلَى فَاعِلِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ فِي دِينِهِ ودنياه والبركة وتسمى صلاة قال الشاعر:
(وصهباء طاف بها يَهُودِيُّهَا ... وَأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خُتُمْ)
(وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا ... وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ)
يَعْنِي: أَنَّهُ دَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِأَنَّهَا تَقْضِي إِلَى الْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ وَمَقْصُودُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِإِطْلَاقِ اسْمِهِ عليه مما ليس مقصود فِيهِ، وَالْمَغْفِرَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يُسَمَّى صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] يُرِيدُ بِصَلَوَاتِ اللَّهِ: الْمَغْفِرَةَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَهَا الرَّحْمَةَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
(صَلَّى عَلَى يَحْيَى وَأَشْيَاعِهِ ... رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاعٌ)(2/10)
وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ اسْتِغْفَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {والمستغفرين بالاسحار} يَعْنِي: الْمُصَلِّينَ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تعالى في الصلاة فأصابه مِنْ خَشْيَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ مَا يَلِينُ وَيَسْتَقِيمُ اعْوِجَاجُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّصْلِيَةِ يُقَالُ: صَلَّيْتُ الْعُودَ إِذَا لَيَّنْتُهُ بِالنَّارِ فَيَسْهُلُ تَقْوِيمُهُ مِنَ الِاعْوِجَاجِ:
قَالَ الشَّاعِرُ:
(وَلَكِنَّمَا صَلَّوْا عَصَا خَيْزُرَانَةٍ ... إِذَا مَسَّهَا عَضُّ الثِّقَافِ تَلِينُ)
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتْبَعُ فِعْلَ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَجِبْرِيلُ أَوَّلُ مَنْ تَقَدَّمَ بِفِعْلِهَا فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَابِعًا لَهُ مُصَلِّيًا ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
(أَنْتَ الْمُصَلِّي وَأَبُوكَ السَّابِقُ ... ... ... ...)
وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً وَفَاعِلُهَا مُصَلِّيًا، لِأَنَّ رَأْسَ الْمَأْمُومِ عِنْدَ صَلْوَيْ إِمَامِهِ وَالصَّلَوَانِ عَظْمَانِ عَنْ يَمِينِ الذَّنَبِ وَيَسَارِهِ فِي مَوْضِعِ الرِّدْفِ قَالَ الشاعر:
(تركت الرمح يعمل في صلاه ... ويكبوا للترائب والجبين)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَقَدْ قَالَ الشافعي: " والوقت للصلاة وقتان وقت مقام ورفاهية، وَوَقْتُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ " فَقَسَمَ الشَّافِعِيُّ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ قِسْمَيْنِ قِسْمًا جَعَلَهُ وَقْتًا لِلْمُقِيمِينَ الْمُتَرَفِّهِينَ، وَقِسْمًا جَعَلَهُ وَقْتًا لِلْمَعْذُورِينَ وَالْمُضْطَرِّينَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمُقِيمِينَ الْمُتَرَفِّهِينَ هَلْ هُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ؟ وَفِي الْمَعْذُورِينَ الْمُضْطَرِّينَ هَلْ هُمْ أَيْضًا صِنْفٌ وَاحِدٌ؟ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَقَامِ هُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ لِلْمُقِيمِينَ الَّذِينَ لَا يَتَرَفَّهُونَ، وَوَقْتَ الرَّفَاهِيَةِ هُوَ آخِرُ الوقت للمقيمين الذي لَا يَتَرَفَّهُونَ الْمُرَفَّهِينَ بِتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ وَأَنَّ الْمَعْذُورِينَ هُمُ الْمُسَافِرُونَ وَالْمُضْطَرُّونَ فِي تَأْخِيرِ الصَّلَوَاتِ لِلْجَمْعِ وَأَنَّ الْمُضْطَرِّينَ هُمْ مَنْ ذَكَرَهُمُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ، وَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ، فَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ مُنَوَّعًا نَوْعَيْنِ لِصِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُسَمَّى وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة وجمهور أصحابنا بأن الْمُقِيمِينَ الْمُرَفَّهِينَ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَهُمْ: مَنْ صَلَّى مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ، وَإِنَّ الْمَعْذُورِينَ الْمُضْطَرِّينَ صِنْفٌ وَاحِدٌ هُمُ: الَّذِينَ يَلْزَمُهُمْ فَرْضُ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَالْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ وَلَمْ يُرِدْ بِالْمَعْذُورِ الْمُسَافِرَ، وَالْمَمْطُورَ، لِأَنَّ وَقْتَ الْجَمْعِ وَقْتٌ لِصَلَاتَيِ الْجَمْعِ وَقَدْ ذكره من بعد والله أعلم.(2/11)
(فصل)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْأَذَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الظُّهْرُ فَهِيَ أَوَّلُ الصَّلَوَاتِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْأُولَى، وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالظُّهْرِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ حِينَ صَلَّاهَا جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيهَا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ، وَأَوَّلُ وَقْتِهَا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَلَيْسَ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَقْتًا لَهَا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تَقْدِيمَ الظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزٌ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ بِقَدْرِ الذِّرَاعِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَدْخُولٌ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ لِرِوَايَةِ بَشِيرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي الظُّهْرَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ ". وَهَذَا مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصلاة لدلوك الشمس} أَنَّهُ زَوَالُهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوَقْتِ يَسِيرَ الزَّمَانِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لَجَازَ لِكَثِيرِهِ، وَلَجَازَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَلَوْ لَزِمَ تَأْخِيرُهَا عَنِ الْوَقْتِ بِذِرَاعٍ كَمَا قَالَ مَالِكٌ لَجَازَ بِأَذْرُعٍ وَلَجَازَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الزَّوَالُ فَهُوَ ابْتِدَاءُ هُبُوطِ الشَّمْسِ بَعْدَ انْتِهَاءِ انْدِفَاعِهَا وَمَعْرِفَتُهُ تَكُونُ بِأَنْ يَزِيدَ الظِّلُّ بَعْدَ تَنَاهِي مَقَرِّهِ؛ لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ كَانَ ظِلُّ الشَّخْصِ طَوِيلًا فَكُلَّمَا ارْتَفَعَتْ قَصُرَ ظِلُّ الشَّخْصِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى وَسَطِ الْفُلْكِ، فَيَصِيرُ الظِّلُّ يَسِيرًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ثُمَّ إِنَّ الشَّمْسَ تَمِيلُ نَحْوَ الْمَغْرِبِ هَابِطَةً فَإِذَا ابْتَدَأَتْ بِالْهُبُوطِ ابْتَدَأَ الظل بالزيادة فأول ما يتبدئ الظِّلُّ بِالزِّيَادَةِ فَهُوَ حِينَئِذٍ زَوَالُ الشَّمْسِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(هِيَ شَمْسُ الضُّحَى إِذَا انْتَقَلَتْ ... بَعْدَ سَيْرٍ فَلَيْسَ غَيْرُ الزَّوَالِ)
وَاعْلَمْ: أَنَّ ظِلَّ الزَّوَالِ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَيَتَغَيَّرُ بِحَسَبِ تَنَقُّلِ الْأَزْمَانِ، فَيَكُونُ ظِلُّ الزَّوَالِ فِي الْبَلَدِ الْمُحَاذِي لِقِبْلَةِ الْفَلَكِ أَقْصَرَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ فِيهِ قَدْ تَسَامَتِ الشَّخْصَ حَتَّى قِيلَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى لِلشَّخْصِ فِي مَكَّةَ ظِلٌّ وَقْتَ الزَّوَالِ فِي أَطْوَلِ يَوْمٍ فِي السَّنَةِ وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ حُزَيْرَانَ ثُمَّ يَكُونُ ظِلُّ الزَّوَالِ فِي الصَّيْفِ أَقَلَّ مِنْهُ فِي الشِّتَاءِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ فِي الصَّيْفِ تَعْتَرِضُ وَسَطَ الْفَلَكِ وَيَكُونُ زَوَالُهَا فِي وَسَطِهِ فَيَكُونُ الظِّلُّ أَقْصَرَ. وَفِي الشِّتَاءِ تَعْتَرِضُ جَانِبَ الْفَلَكِ فَيَكُونُ زَوَالُهَا فِي جَانِبِهِ فَيَكُونُ الْفَلَكُ أَطْوَلَ وَلِلشَّمْسِ عِنْدَ الزَّوَالِ كَالْوَقْفَةِ لِإِبْطَاءِ سَيْرِهَا فِي وَسَطِ الْفَلَكِ قال الشاعر:(2/12)
(فَعُدْ بَعْدَ تَفْرِيقٍ وَقَدْ وَقَفَتْ ... شَمْسُ النَّهَارِ وَلَاذَ الظِّلُّ بِالْعُودِ)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الزَّوَالَ مُعْتَبَرٌ بِمَا وَصَفْنَا فَالنَّاسُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَصِيرٌ قَادِرٌ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى عِلْمِ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى عِلْمِ الزَّوَالِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَسْتَوِي الْبُصَرَاءُ فِيهِ فَلَمْ يَسَعْ بَعْضَهُمْ تَقْلِيدُ بَعْضٍ، كَالْقِبْلَةِ فَإِنْ كَانَ غَيْمًا رَاعَى الشَّمْسَ مُحْتَاطًا فَإِنْ بَدَا لَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِهَا وَإِلَّا تَأَخَّى مُرُورَ الزَّمَانِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ دُخُولَ الْوَقْتِ ثُمَّ يُصَلِّيَ، فَلَوْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ لَمْ يَسَعْهُ تَقْلِيدُهُ حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُونَ عَدَدًا فِي جِهَاتٍ شَتَّى لَا يَجُوزُ عَلَى مِثْلِهِمُ الْغَلَطُ وَالتَّوَاطُؤُ فَهَذَا مِمَّا يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ فَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُمْ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِ فِي الْوَقْتِ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً قَالَ: لِأَنَّهُ فِي الصَّحْوِ يُخْبِرُ عَنْ نَظَرٍ، وَفِي الْغَيْمِ يُخْبِرُ عَنِ اجْتِهَادٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِمَا اسْتَشْهَدْنَا بِهِ مِنْ حَالِ الْقِبْلَةِ، فَلَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ الزَّوَالُ فَاجْتَهَدَ وَصَلَّى ثُمَّ بَانَ لَهُ مُصَادَفَةُ الْوَقْتِ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ إما موديا فِي الْوَقْتِ، أَوْ قَاضِيًا بَعْدَ الْوَقْتِ وَإِنْ بَانَ لَهُ تَقَدُّمُهُ عَلَى الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ مَنْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ. فِي الْقِبْلَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهَلَّا كَانَ الْخَاطِئُ فِي الْوَقْتِ مِثْلَهُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أن الوصول إلى يقين الْوَقْتِ مُمْكِنٌ بِالصَّبْرِ إِلَى يَقِينِ دُخُولِ الْوَقْتِ وَتَبَيُّنُ الْقِبْلَةِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا فَالْمَصِيرُ إِلَى نَفْسِ الْقِبْلَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَاطِئَ فِي الْوَقْتِ فَاعِلٌ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا فَلَمْ يُجْزِهِ، وَالْخَاطِئَ فِي الْقِبْلَةِ فَاعِلٌ لَهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا فَأَجْزَأَهُ وَلَوْ لَمْ يَبِنْ لَهُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ صَوَابٌ وَلَا خَطَأٌ أَجْزَأَهُ، وَلَكِنْ لَوِ ابْتَدَأَ بِالصَّلَاةِ شَاكًّا فِي زَوَالِ الشَّمْسِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ زَوَالِهَا، لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِالشَّكِّ غَيْرُ مُجْزِئٍ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ لَوْ أَفْطَرَ شَاكًّا فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَانَ لَهُ غُرُوبُهَا أَجْزَأَهُ فَهَلَّا كَانَ إِذَا صَلَّى شَاكًّا فِي زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَانَ لَهُ زَوَالُهَا أَجْزَأَهُ؟ .
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّائِمَ يَكُونُ مُفْطِرًا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا بِدُخُولِ الْوَقْتِ حَتَّى يُصَلِّيَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضَرِيرًا، أَوْ مَحْبُوسًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مَعْرِفَةِ الزَّوَالِ بِنَفْسِهِ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ غَيْرَهُ مِنَ الْبُصَرَاءِ الثِّقَاتِ وَاحْتَرَزَ مَعَ قَوْلِهِ: دُخُولُ الْوَقْتِ(2/13)
كَمَا يَجُوزُ لَهُ إِنْ كَانَ ضَرِيرًا أَنْ يُقَلِّدَ فِي الْقِبْلَةِ بَصِيرًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَصِيرًا يُقَلِّدُهُ فِي الْوَقْتِ فَاجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ إِذَا لَمْ يَبِنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّقَدُّمُ عَلَى الْوَقْتِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الضَّرِيرُ إِذَا عَدِمَ بَصِيرًا يُقَلِّدُ فِي الْقِبْلَةِ فَصَلَّى بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ أَصَابَ فَهَلَّا إِذَا اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْتِ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ وَإِنْ أَصَابَ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنْ تَعَيُّنَ الْوَقْتِ مَعْلُومٌ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَأَجْزَأَهُ لِاسْتِوَاءِ البصير والضرير فيه والقبلة مدركة نحاسة الْبَصَرِ فَلَمْ يُجْزِهِ لِاخْتِلَافِ الضَّرِيرِ وَالْبَصِيرِ فِيهِ، والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الظُّهْرِ قَائِمًا حَتَّى يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَأَمَّا آخِرُ وَقْتِهَا فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى مَا بَانَ بِهِ الزَّوَالُ مِنْ ظِلِّ الشَّخْصِ وَقَالَ أبو حنيفة فِي رِوَايَةِ أبي يوسف عَنْهُ: إِنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مُمْتَدٌ إِلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ". وَحَكَى عَنْهُ الحسن بن زياد اللؤلؤي مِثْلَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَالِكٍ. فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ: " أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مُمْتَدُّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَالَ أبو يوسف، ومحمد: أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ مُشْتَرَكٌ مَعَ آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَحَكَى نَحْوَهُ عَنِ الْمُزَنِيِّ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ " فَدَلَّ عَلَى اشْتِرَاكِ وَقْتِهِمَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْأَوْقَاتَ لَمْ تَقِفْ عَلَى بَيَانِ جِبْرِيلَ حَتَّى زِيدَ فِي وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَوَقْتِ الصُّبْحِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ، وَقْتُ الظُّهْرِ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى كَافَّتِهِمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جَاءَ جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانِ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرَ ظِلِّهِ دُونَ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ وَقَالَ: الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ "، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلِهِ بِوَقْتٍ لَهَا كَمَا أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لَهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَتُحْمَلُ صَلَاةُ جِبْرِيلَ بِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ عَلَى ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا حَمَلْنَا صَلَاتَهُ بِهِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الزَّوَالِ عَلَى ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ، قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ صَلَاتُهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إِلَّا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِلَّا عَلَى الِانْتِهَاءِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ تَحْدِيدُ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَلَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ إِلَّا بِابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَحْدِيدُ آخِرِ الْوَقْتِ، وَلَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ إِلَّا بِانْتِهَاءِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ(2/14)
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَآخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ". وَهَذَا نَصٌّ إِنْ كَانَ ثَابِتًا.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَمْسُ إِلَى أَنْ يَكُونَ ظِلُّ الرَّجُلِ بِطُولِهِ مَا لَمْ تَحْضُرِ الْعَصْرُ " وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاتَيْنِ جُمِعَتَا لِحَقِّ النُّسُكِ فَأُولَاهُمَا أَقْصَرُهُمَا كَالْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى إِشْرَاكِ الْوَقْتِ رِوَايَةُ قَتَادَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ إِلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ ".
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَيْسَ التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلاةَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا إِنَمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى "، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى بُطْلَانِ الْإِشْرَاكِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ إِشْرَاكُ الْوَقْتَيْنِ فِيمَا سِوَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَامْتَنَعَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَلِأَنَّهُ قَدْرٌ بِمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنَ الْوَقْتَيْنِ كَثِيرٌ مَحْدُودٌ، وَذَلِكَ مُؤَدٍّ إِلَى أَنْ يَصِيرَ وَقْتُ كُلِّ وَاحِدَةٍ منهما غير محدود؛ لأن الظهر تصير غير محدودة الانتهاء والعصر غير محدودة الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَمُسْتَعْمَلٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ، إِمَّا فِي جِنْسِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، وَإِمَّا فِي أَوْقَاتِ أَصْحَابِ الْعُذْرِ، وَالضَّرُورَاتِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ " فَقَوْلُهُ: " وَلَا مَطَرَ " زِيَادَةٌ لَمْ تُعْرَفْ ثُمَّ لو سلمت لاستعلمت عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَطَرٌ يُصِيبُهُ وَقْتَ الْجَمْعِ لِخُرُوجِهِ مِنْ بَابِ حُجْرَتِهِ الَّذِي إِلَى الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ الْمَطَرُ مَوْجُودًا، وَإِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَمَعَ بِأَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَالْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْأَوْقَاتَ قَدْ زِيدَ فِيهَا عَلَى بَيَانِ جِبْرِيلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أوجه:
أحدها: أنه يزيد فِيهَا بِالنَّصِّ، وَلَيْسَ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنَ الظُّهْرِ نَصٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ زِيدَ فِي بَعْضِهَا فَالْمَغْرِبُ لَمْ يَرِدْ فِي وَقْتِهَا فَلَيْسَ هُمْ فِي رَدِّهَا إِلَى مَا زِيدَ فِي وَقْتٍ بِأَوْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ فِي رَدِّهَا إِلَى مَا لَمْ يُزَدْ فِي وَقْتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَإِنْ وَرَدَتِ الزِّيَادَةُ فِي أَوْقَاتِ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ(2/15)
النُّقْصَانُ مِنْ وَقْتِ شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَإِذَا جَعَلَ الْوَقْتَ مُشْتَرِكًا كَانَ مَا زَادَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ نُقْصَانًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ لِمَا حَصَلَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنَ الزِّيَادَةِ إِلَّا وَلِغَيْرِهِمْ أَنْ يَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْفَسَادِ لِمَا حَصَلَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ مِنَ النُّقْصَانِ - وَاللَّهُ أعلم -.
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فَإِذَا جَاوَزَ ذَلِكَ بِأَقَلِّ زِيَادَةٍ فَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَالْأَذَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: " إِذَا تَجَاوَزَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ دَخَلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَخَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " مثلكم [و] مثل أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الظُّهْرِ بِقِيرَاطٍ أَلَا فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ، وَاسْتَأْجَرَ آَخَرَ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ بِقِيرَاطٍ أَلَا فَعَمِلَتِ النَصَارَى، وَاسْتَأْجَرَ آخَرَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ أَلَا فَعَمِلْتُمْ أَنْتُمْ قَالَ: فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا مَا بَالُنَا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا، قِيلَ: هَلْ نُقِصْتُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ شَيْئًا ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ أَقْصَرُ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ قَالَ: وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي بَعْضِ وَقْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا أَقْصَرَ مِنْ وَقْتِ مَا قَبْلَهَا، كَالصُّبْحِ مَعَ الْعِشَاءِ.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ حَتَّى صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ بِقَدْرِ ظِلِّهِ ". وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بلالا فأذن بالصلاة حين زاغت الشمس مثل الشِّرَاكِ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، الْحَدِيثَ.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهَا وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ.
وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ بِيِّنَةٌ فِي حجرته(2/16)
لَمْ يَظْهَرِ الْفَيْءُ عَلَيْهَا " أَيْ: لَمْ يَصْعَدْ ويرتفع والظهور والصعود، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] أَيْ: يَصْعَدُونَ.
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَشَدَّ تَعْجِيلًا لِلْعَصْرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ كَانَ أَبْعَدُ الرَّجُلَيْنِ دَارًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبو لُبَابَةَ وَأَبُو عَبْسٍ دَارُ أَبِي لُبَابَةَ بِقُبَاءٍ، وَدَارُ أَبِي عَبْسٍ بِبَنِي حَارِثَةَ كَانَا يُصَلِّيَانِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَصْرَ وَيَأْتِيَانِ قَوْمَهُمَا وَمَا صَلَّوْهَا لِتَبْكِيرِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَا.
وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَصْرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَزُورًا أُرِيدُ أَنْ أَنْحَرَهَا وَأُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا قَالَ: فَحَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنُحِرَتِ الْجَزُورُ وَقُطِعَتْ وَطُبِخَتْ وَأَكَلْنَاهَا نَضِيجًا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ".
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا عَلَى تَقْدِيمِ وَقْتِ الْعَصْرِ وَامْتِدَادِهِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُجْمَعُ إِلَى مَا قَبْلَهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا أَمَدَّ مِنْ وَقْتِ الَّتِي قَبْلَهَا كَالْعِشَاءِ مَعَ الْمَغْرِبِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ، لِأَنَّ وَقْتَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَوَّلِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَقَدُّمِهِ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ الْأُجَرَاءِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا يَرْجِعُ إِلَى زَمَانِ الْفَرِيقَيْنِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى الْعَصْرِ لَا إِلَى زَمَانِ أحدهما، لأنه إخبار منهما.
فَإِنْ قِيلَ: وَقَدْ قَالُوا وَنَحْنُ أَقَلُّ أَجْرًا وَلَيْسَ الْفَرِيقَانِ أَقَلَّ أَجْرًا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَقَلَّ أَجْرًا قُلْنَا: الْأُجْرَةُ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِغَيْرِهَا فِي الزَّمَانِ الْقَلِيلِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْثَرُ عَمَلًا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ لَا طُولِ الزَّمَانِ، لِأَنَّ الزَّمَانَ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ عَمَلًا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ، فَمُعَارَضٌ بِقِيَاسِنَا عَلَى أَنَّهُ مطرح مَعَ مَا ذكرناه من الصن - والله أعلم -.
(مسألة)
: قال الشافعي: " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الْعَصْرِ قَائِمًا حَتَّى يصير ظل كل شيء مثليه فمن جاوزه ذَلِكَ فَقَدْ فَاتَهُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ أَقُولَ فَائَتَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ".(2/17)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ: أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَفِي الْجَوَازِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ: آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فِي الِاخْتِيَارِ، وَالْجَوَازُ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ.
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى: {فسبح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]- يَعْنِي - صَلَاةَ الْعَصْرِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَفُوتُ وَقْتُ صَلَاةٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى " وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: وَصَلَّى بِيَ الْعَصْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ".
وَحَدِيثُ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ حين زاغت الشمس مثل الشراك فصلى الظهر ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ إِلَى أَنْ قَالَ وَصَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَ الظُّهْرِ فَقَامَ يُصَلِّي الْعَصْرَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ ذَكَرْنَا تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ، أَوْ ذِكْرَهَا فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثًا فَجَلَسَ أَحَدُهُمْ حَتَّى إِذَا اصْفَرَّتِ الشَّمْسُ وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطِانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِمَا إِلَّا قَلِيلًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ عَرَفَ أَوَّلَ وَقْتِهَا بِالظِّلِّ فَوَجَبَ أَنْ يَعْرِفَ آخِرَ وَقْتِهَا بِالظِّلِّ كَالظُّهْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي بَعْضِ وَقْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَقْتُهَا عَنْ وَقْتِ مَا بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ، وَيُحْمَلُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة مِنَ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ عَلَى وَقْتِ الْجَوَازِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ الْعَصْرِ بِأَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، فَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ فَبَاقٍ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِرِوَايَةِ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ".(2/18)
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ يَمْتَدُّ جَوَازًا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَمَتَى أَدْرَكَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَدْرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهَا، وَكَانَ مُؤَدِّيًا لَهَا لَا قَاضِيًا، وَإِنْ كَانَ فِعْلُهَا فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ أَوْلَى، وَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً مِنْهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَبَاقِيهَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فِي التَّأْخِيرِ جَازَ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لِجَمِيعِهَا وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجِ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ: أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِجَمِيعِهَا غَيْرَ عَاصٍ بِتَأْخِيرِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَاضِيًا لِمَا فَعَلَهُ بَعْدَهَا عَاصِيًا بِتَأْخِيرِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا التَّفْرِيطُ أَنْ تُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى " - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَهُوَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْأَذَانِ وَلَا وَقْتَ لِلْمَغْرِبِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذَا كَمَا قَالَ: " وَأَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَهُوَ: أَنْ يَسْقُطَ الْقُرْصُ وَيَغِيبَ حَاجِبُ الشَّمْسِ وَهُوَ الضَّوْءُ الْمُسْتَعْلِي عَلَيْهَا كَالْمُتَّصِلِ بِهَا، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ أَحَدُ قَرْنَيْهَا أَوَّلُ مَا يَطْلُعُ مِنْهَا وَآخِرُ مَا يغرب منها واستشهد بقول قيس بن الحطيم:
(تبدت لنا كالشمس تحت عمامة ... بَدَا حَاجِبٌ مِنْهَا وَضَنَّتْ بِحَاجِبِ)
وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الشِّيعَةُ مِنْ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا إِذَا اشْتَبَكَتِ النُّجُومُ لِرِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي سَاعَةَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ إِذَا غَابَ حَاجِبُهَا ".
وَرَوَى أَبُو مَحْذُورَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أَذَّنْتَ لِلْمَغْرِبِ فَاحْدَرْهَا مَعَ الشَّمْسِ حَدَرًا ".
وَرَوَى " أَبُو نُعَيْمٍ " عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ ثُمَّ نَخْرُجُ نَتَنَاضَلُ حَتَّى نَبْلُغَ بُيُوتَ بَنِي سَلْمَةَ فَنُبْصِرَ مَوَاقِعَ النَّبْلِ مِنَ الْأَسْفَارِ " فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهَا سُقُوطُ الْقُرْصِ فَلَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَهَا وَقْتَانِ يَمْتَدُّ الثَّانِي مِنْهُمَا إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ(2/19)
الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ خَرَّجَهُ قَوْلًا ثَانِيًا وَأَنْكَرَهُ جُمْهُورُهُمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مَحْكِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّ الزَّعْفَرَانِيَّ وَهُوَ أَثْبَتُ أَصْحَابِ الْقَدِيمِ حَكَى عَنْهُ لِلْمَغْرِبِ وَقْتًا وَاحِدًا.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْوَقْتَيْنِ بِرِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ " وَبِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ غَرَبَتِ الشَمْسُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ غَابَ الشَّفَقُ " وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَآخِرَهُ حِينَ يَغِيبُ [الشَّفَقُ] ". وَبِرِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ الْأَعْرَافَ فِي الْمَغْرِبِ " وَلَا يُمْكِنُ قِرَاءَتُهَا مَعَ طُولِهَا إِلَّا مَعَ طَوِيلِ الزَّمَانِ فَدَلَّ عَلَى طُولِ الْمَغْرِبِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ وَقْتَيْنِ كَسَائِرِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَتَّصِلَ وَقْتُهَا بِوَقْتِ مَا يُجْمَعُ إِلَيْهَا، كَالظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ، وَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، فَلَوْلَا أَنَّهُ وَقْتُهَا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ فَرْضُهَا اعْتِبَارًا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ثُمَ صَلَّى بِيَ الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِلْقَدْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يُؤَخِّرْهَا ".
وَحَدِيثُ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ بَيَّنَ الْأَوْقَاتَ لِلسَّائِلِ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ.
وَرَوَى مَخْرَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ ظُهْرَيْنِ وَعَصْرَيْنِ وَعِشَاءَيْنِ فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ، وَالْمَغْرِبَ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ ".(2/20)
وروى يزيد بن أبي حبيب عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو أَيُّوبَ غَازِيًا، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ عَلَى " مِصْرَ " فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ يَا عُقْبَةُ؟ فَقَالَ: شُغِلْنَا فَقَالَ أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى فِطْرَتِي مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ ".
فَكَانَ صَرِيحُ الْخَبَرِ، وَإِنْكَارُ أَبِي أَيُّوبَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا بَكَّرُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهَا لَيْسَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ سُنَّتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخَّرَ لَيْلَةً الْمَغْرِبَ حَتَّى طَلَعَ نَجْمَانِ فَأَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ قَالَ: " صَلُّوا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَالْفِجَاجُ مُسْفِرَةٌ "، وَهَذَا بِمَشْهَدِ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ هَذَا مَعَ إِنْكَارِ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى عُقْبَةَ عَلَى أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ إِلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوَاقِيتِ أَصْلًا مُعْتَبَرًا وَلَكِنْ يُقَابَلُ بِهِ مَا أَوْرَدَهُ فَهُوَ أَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ لَا تَقْصُرُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفَصِلَ وَقْتُهَا عَنْ وَقْتِ مَا بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرْضٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ كَعَدَدِهَا أَصْلُهُ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ لَمَّا كَانَتْ شَفْعًا فِي الْعَدَدِ كَانَتْ شَفْعًا فِي الْوَقْتِ، وَالْمَغْرِبِ لَمَّا كَانَتْ وِتْرًا فِي الْعَدَدِ كَانَتْ وِتْرًا فِي الْوَقْتِ، وَقَدْ قِيلَ: فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] أَنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مِنْهَا شَفْعٌ كَالظُّهْرِ، وَوِتْرٌ كَالْمَغْرِبِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فَقِيلَ: إِنَّكَ وَصَلْتَهُ فَقَالَ إِنْ كُنْتُ مَجْنُونًا فَقَدْ أَفَقْتُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَلْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ فِي الضَّعْفِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، كَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَقَالَ مُسْلِمٌ: لَا يُحَدَّثُ بِهَذَا وَأُمْرِضَ سَمِعَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ غَلِطَ فِيهِ ابْنُ فُضَيْلٍ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا أَنَّ لَهَا وَقْتًا وَاحِدًا، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا هَذِهِ الْأَخْبَارَ الثَّلَاثَةَ لَجَازَ أَنْ نَسْتَعْمِلَهَا عَلَى وَقْتِ الِاسْتِدَامَةِ دُونَ الِابْتِدَاءِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِصْطَخَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَمَّا قِرَاءَةُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بِالْأَعْرَافِ فِي الْمَغْرِبِ " فَفِيهِ أَجْوِبَةٌ:(2/21)
أَحَدُهَا: أَنَّ السُّورَةَ كَانَتْ تَنْزِلُ مُتَفَرِّقَةً وَلَمْ تَكُنْ تَكَامَلُ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ فَيَجُوزُ إِنْ قَرَأَهَا قَبْلَ تَكَامُلِهَا وَكَانَتْ آيَاتٍ يَسِيرَةً أَلَّا تَرَى أَنَّ سُورَةَ الْمُزَّمِّلِ مَعَ قِصَرِهَا عَنِ الْأَعْرَافِ فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا سَنَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَرَأَ مِنْهَا الْآيَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْأَعْرَافِ فَقِيلَ قَرَأَ الْأَعْرَافَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ شَرِبْتُ مَاءَ الْمَطَرِ وَأَكَلْتُ خُبْزَ الْبَصْرَةِ، وَإِنَّمَا أَكَلَ وَشَرِبَ شَيْئًا مِنْهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِدَامَةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا شَفْعٌ فِي الْعَدَدِ، وَهَذَا وِتْرٌ فِي الْعَدَدِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَمُنَازَعٌ فِيهِ بِمُعَارَضَةِ قِيَاسِنَا لَهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِوُجُوبِهَا عَلَى أَصْحَابِ الضَّرُورَاتِ فَهُوَ: أَنَّ أَصْحَابَ الضَّرُورَاتِ وَالْأَعْذَارِ يَلْزَمُهُمْ فَرْضُهَا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لَهَا، لِأَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ فِي الضرورات واحد.
(فصل)
: فإذا تقرر أن للمغرب وقتا واحد فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَتَقَدَّرُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْعُرْفِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَدْرَ مَا يَتَطَهَّرُ، وَيَلْبَسُ ثَوْبَهُ، وَيُؤَذِّنُ، وَيُقِيمُ، وَيُصَلِّي ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ عَلَى مَهَلٍ، فَهَذَا قَدْرُ وَقْتِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ إِلَّا وَاحِدًا وَكَانَ ابْتِدَاؤُهُ مَعْلُومًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ وَالْإِمْكَانِ مُقَدَّرًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْعُرْفِ لَا بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَتَى بِالصَّلَاةِ فِيهِ لَمْ يُنْسَبْ فِي الْعُرْفِ إِلَى تَأْخِيرِهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَدَّدَ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ يُخْتَلَفُ فِيهِ بِالْعَجَلَةِ وَالْإِبْطَاءِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ ذَاتَ الْوَقْتَيْنِ يَتَقَدَّرُ أَوَّلُ وَقْتِهَا بِالْعُرْفِ لَا بِالْفِعْلِ، وَمَنْزِلَةُ الْمَغْرِبِ فِي تَفَرُّدِهَا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ مَنْزِلَةَ الْمُؤَقَّتِ الْأَوَّلُ مِنَ الْوَقْتَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ تَقْرِيرُ وَقْتِهَا بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْفِعْلِ أَوِ الْعُرْفِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ وَقْتٌ لِابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ وَاسْتِدَامَتِهَا أَمْ هُوَ وَقْتٌ لِابْتِدَائِهَا دُونَ اسْتَدَامَتِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَقْتٌ لِلِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ، فَمَنْ تَجَاوَزَ هَذَا الْوَقْتَ قَبْلَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ صَارَ مُتَمِّمًا لَهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا، لِأَنَّ سَائِرَ الْأَوْقَاتِ الْمُقَدَّرَةِ لِلِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ، وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ وَقْتٌ لِلِابْتِدَاءِ دون الاستدامة، وأنه إذا بها ابتدأ فِي هَذَا الْوَقْتِ جَازَ أَنْ يَسْتَدِيمَهَا إِلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ اسْتِعْمَالًا لِلْأَخْبَارِ كُلِّهَا وَتَلْفِيقًا بَيْنَ مختلفها - والله أعلم -.(2/22)
(مسألة)
: قال الشافعي: " فإذا غاب الشفق الأحمر فهو أول وقت العشاء الْآخِرَةِ وَالْأَذَانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُكْرَهُ أَنَّ تُصَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةُ بِاسْمِ الْعَتَمَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُسَمَّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي لَبِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ هِيَ الْعِشَاءُ إِلَّا أَنَّهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ ".
وَالْعُتْمُ: الْإِبْطَاءُ وَالتَّأْخِيرُ وَإِعْتَامُ الْإِبِلِ هُوَ تَأْخِيرُ عَلْفِهَا وَحَلْبِهَا قَالَ الشَّاعِرُ:
(فَلَمَّا رَأَيْنَا أَنَّهُ عَاتِمُ الْقِرَى ... بَخِيلٌ ذَكَرْنَا لَيْلَةَ الْهَضْبِ كَرْدَمَا)
وَلَا يَأْثَمُ مُسَمِّيهَا بِالْعَتَمَةِ وَلَا يَسْتَحِقُّ وَعِيدًا بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَنْهَ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: " لَا يَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَيْهَا " وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَوَّلُ وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ إِجْمَاعًا إِلَّا أَنَّهُمَا شَفَقَانِ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْحُمْرَةُ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْبَيَاضُ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ أَوْ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَمِنَ التَّابِعِينَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَكْحُولٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيِّ، وأبي يوسف، ومحمد، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى أَنَّ دُخُولَ وَقْتِهَا يَكُونُ بِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] يَعْنِي: إِظْلَامَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ وَلِمَا رَوَى بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي عِشَاءَ الْآخِرَةِ حِينَ يَسْوَدُّ الْأَفَقُ، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْعِشَاءِ تَتَعَلَّقُ بِغَارِبٍ وَصَلَاةَ الصُّبْحِ بِطَالِعٍ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحِ بِالطَّالِعِ الثَّانِي اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعَشَاءُ بِالْغَارِبِ الثَّانِي وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ: أَنَّ الصُّبْحَ أَوَّلَ صَلَاةِ النَّهَارِ وَالْعَشَاءَ آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحُ بِالْبَيَاضِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الشَّمْسِ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعِشَاءُ بِالْبَيَاضِ الْمُتَأَخِّرِ عَنِ الشَّمْسِ.
وَدَلِيلُنَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَصَلَّى بِي جِبْرِيلُ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ " وَحَمْلُ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْأَحْمَرِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ اقْتَضَى أَنْ يَتَنَاوَلَ أَوَّلُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ أَوَّلَ ذَلِكَ الِاسْمِ.(2/23)
وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْمَ إِذَا تَنَاوَلَ شَيْئَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى أَشْهَرِهِمَا أَوْلَى، وَالْأَحْمَرُ مِنَ الشَّفَقَيْنَ أَشْهَرُ فِي اللِّسَانِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: صَبَغْتُ ثَوْبِي شَفَقًا وَقِيلَ: فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] أَنَّهُ الْحُمْرَةُ قَالَ الشَّاعِرُ:
(رَمَقْتُهَا بِنَظْرَةٍ مِنْ ذِي عَلَقْ ... قَدْ أَثَّرَتْ فِي خَدِّهَا لَوْنَ الشَّفَقِ)
وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِوَقْتِ هَذِهِ الصَّلَاةِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لِثَلَاثَةٍ ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَمَرَ يَسْقُطُ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ.
وَرَوَى سليمان بْنُ مُوسَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عِشَاءَ الْآخِرَةِ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ قَبْلَ الْأَحْمَرِ فَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّاهَا بَعْدَ الْأَحْمَرِ وَقَبْلَ الْأَبْيَضِ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ فَقَدْ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ، وَالشَّافِعِيُّ رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ أَسْنَدَهُ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْأَعْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ أَنَّهُمْ عَلَى إِقَامَتِهَا عِنْدَ سُقُوطِ الْأَحْمَرِ لَا يَتَنَاكَرُونَهُ بَيْنَهُمْ وَلَا يَخْتَلِفُونَ فِي فِعْلِهِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ، وَلِأَنَّ الشَّفَقَ الْأَبْيَضَ قَدْ رُوعِيَ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَبَعْضِ الْبُلْدَانِ فَوُجِدَ لَابِثًا إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَرُوِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: رَاعَيْتُهُ فَلَمْ يَغِبْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ. وَكَانَ يَتَنَقَّلُ مِنْ جَوٍّ إِلَى جَوٍّ، وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ عمن حدثه إذا رَاعَاهُ فِي جِبَالِ الْيَمَنِ فَلَمْ يَغِبْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَإِذَا كَانَ الْأَبْيَضُ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِصَلَاةٍ، وَلِأَنَّ الطَّوَالِعَ ثَلَاثَةٌ الْفَجْرَانِ، وَالشَّمْسُ، وَالْغَوَارِبُ ثَلَاثَةٌ الشَّفَقَانِ، وَالشَّمْسُ، فَلَمَّا وَجَبَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ بِالطَّالِعِ الْأَوْسَطِ وَهُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ اقْتَضَى أَنْ تَجِبَ الْعِشَاءُ بِالْغَارِبِ الْأَوْسَطِ - وَهُوَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ - وَلِأَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَصَلَاةَ الْعِشَاءِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَلَمَّا وَجَبَتِ الصُّبْحُ بِأَقْرَبِ الْفَجْرَيْنِ من الشمس اقتضى أن تجب العشاء الشَّفَقَيْنِ مِنَ الشَّمْسِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَجِبُ بِانْتِقَالِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِأَنْوَرِهِمَا كَالصُّبْحِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَتَأْوِيلُ الْغَسَقِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَأَحَدُ تَأْوِيلَيْهِ أَنَّهُ إِقْبَالُ اللَّيْلِ وَدُنُوُّهُ فَسَقَطَ الدَّلِيلُ بهذا التأويل.(2/24)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ فَعَلَى هَذَا قَدْ يُظْلِمُ اللَّيْلُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى وَقْتِهَا الثَّانِي، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنِ اسْوِدَادِ الْأُفُقِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ فَمَدْفُوعٌ بِمُعَارَضَتِنَا لَهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اسْتِدْلَالِنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بالصواب -.
(مسألة)
: قال الشافعي: " ثم لَا يَزَالُ وَقْتُ الْعِشَاءِ قَائِمًا حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ فِيهِ فَقَالَ فِي القديم، والإملاء: آخره نصف الليل، وقال في الجديد: آخره ثُلْثِ اللَّيْلِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ جُمْهُورُهُمْ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وقَتَادَةَ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَوَجْهُهُ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ".
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ.
وَوَجْهُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّنِي جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِيَ عِشَاءَ الْآخِرَةِ في اليوم الثاني حيث ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ " وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سريج يمنع تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَيَجْعَلُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا حَكَيْنَا وَاخْتِلَافَ النَّصِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيمَا ذَكَرْنَا عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، فَيَسْتَعْمِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ عَلَى أنه آخر وقت الابتداء بها، وراوية مَنْ رَوَى إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ عَلَى أَنَّهُ آخِرُ وَقْتِ انْتِهَائِهَا حَتَّى لَا يُعَارِضَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا يَكُونُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ مُخْتَلِفًا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَجَاوَزَ هَذَا الْقَدْرَ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ وَقْتَهَا فِي الْجَوَازِ بَاقٍ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخَرِيُّ: قَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا اخْتِيَارًا وَجَوَازًا، وَمَنْ فَعَلَهَا بَعْدَهُ كَانَ قَاضِيًا لَا مُؤَدِّيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتًا لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ دُونَ الرَّفَاهِيَةِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ " الْأُمِّ " لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا جَعَلَ الْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مُدْرِكًا لِلْعَصْرِ، وَالْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مُدْرِكًا لِلصُّبْحِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُدْرِكًا لِلْعَشَاءِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِ الْحُكْمَيْنِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ، وَالصَّحِيحُ بَقَاءُ وَقْتِهَا فِي الْجَوَازِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَفُوتُ صَلَاةٌ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى "، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا بَعْدَ ثُلْثِ(2/25)
اللَّيْلِ وَقْتًا لِصَلَاةِ الْوِتْرِ أَدَاءً وَلَا قَضَاءً وَهِيَ مِنْ تَوَابِعِ الْعِشَاءِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِلْعَشَاءِ أَدَاءً لَا قَضَاءً، لِأَنَّ الصَّلَاةَ التَّابِعَةَ إِنَّمَا تُصَلَّى فِي وَقْتِ الْمَتْبُوعَةِ كَرَكْعَتِي الفجر.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَذَانَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ خلا الصبح فإنها يؤذن قبلها بليل وليس ذلك بقياس ولكنا اتبعنا فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا إِلَّا الصُّبْحَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا بِلَيْلٍ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لَهَا إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِرِوَايَةِ شَدَّادٍ عَنْ بِلَالٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَنِيرَ لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا " وَمَدَّ يَدَيْهِ عَرْضَا.
وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَرْجِعُ فَيُنَادِي أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ فَرَجَعَ فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ ".
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَرْقَى فَيُنَادِيَ أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ فَرَقَا وَهُوَ يَقُولُ:
(لَيْتَ بِلَالًا لَمْ تَلِدْهُ أُمُّهُ ... وَابْتَلَّ مِنْ نَضْحِ دَمٍ جَبِينُهُ)
قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَذَانٌ لِلصَّلَاةِ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ وَقْتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهِ الصُّبْحُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا فِيهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ".
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا كَانَ بِلَالٌ يُنَادِي لِلسُّحُورِ وَلَا يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لَفْظَ الْأَذَانِ مُخْتَصٌّ بِالصَّلَاةِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي جَمِيعِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ سُحُورًا لَمْ يُشْكِلْ عَلَيْهِمْ وَلَا احْتَاجُوا إِلَى تَعْرِيفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لا يمنعنكم أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِكُمْ فَإِنَّمَا يُؤْذِنُكُمْ لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ وَيُنَبَّهَ نَائِمُكُمْ ".(2/26)
وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَمَنْعٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ السُّؤَالِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَافَرْتُ مَعَهُ فَانْقَطَعَ النَّاسُ عَنْهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ غَيْرِي فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ آذان وقت الصبح أمرني أن أؤذن لِلصُّبْحِ فَأَذَّنْتُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ أُقِيمُ وَهُوَ يَقُولُ لَا وَيَنْظُرُ إِلَى نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ وَالْفَجْرِ فَلَمَّا بَرَزَ الْفَجْرُ نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَتَوَضَّأَ فَتَلَاحَقَ النَّاسُ بِهِ وَجَاءَ بِلَالٌ لِيُقِيمَ فَقَالَ يَا بِلَالُ إِنَّ أَخَا صَدَا أَذَّنَ وَإِنَّمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ ".
وَهَذَا نَصٌّ وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ الْقَرَظِ قَالَ أَذَّنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِقُبَاءٍ، وَفِي زَمَنِ عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ، فَكَانَ فِي أَذَانِنَا لِلصُّبْحِ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ فِي الشِّتَاءِ، لِسَبْعٍ وَنِصْفٍ يَبْقَى، وَفِي الصَّيْفِ لِسَبْعٍ يَبْقَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ لِبَقَاءِ سَبْعٍ وَنِصْفٍ مِنَ اللَّيْلِ لَا مِنَ النَّهَارِ فَدَلَّ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَذَانِ عَلَى الْفَجْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ لِبَقَاءِ سَبْعٍ وَنِصْفٍ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقِيلَ: هَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ فَيُضَافُ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَثَبَتَ اسْتِدْلَالُنَا بِهِ أَيْضًا، لِأَنَّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ يَكُونُ مِثْلَ سَبْعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي طُولِهِ وَقِصْرَهِ وَهُوَ كَانَ يَتَقَدَّمُ لِسَبْعٍ وَنِصْفٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَى الفجر، ولأن الفجر يتعلق به عِبَادَتَانِ الصَّوْمُ، وَصَلَاةُ الصُّبْحِ، فَلَمَّا جَازَ فِي الصَّوْمِ تَقْدِيمُ بَعْضِ أَسْبَابِهِ عَلَى الْفَجْرِ، وَهُوَ النِّيَّةُ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى تَقْدِيمِهَا جَازَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ تَقْدِيمُ بَعْضِ أَسْبَابِهَا وَهُوَ الْأَذَانُ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ، لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لَهَا فَيُدْرِكُونَ فَضِيلَةَ تَعْجِيلِهَا فَكَذَلِكَ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ قِيَاسًا أَنَّهَا عِبَادَةٌ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَجَازِ تَقْدِيمُ بَعْضِ أَسْبَابِهَا عَلَيْهِ كَالصَّوْمِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ جَهْرٍ فِي نَهَارٍ فَجَازَ تَقْدِيمُ أَذَانِهَا قَبْلَ جَوَازِ فِعْلِهَا كَالْجُمْعَةِ يُؤَذَّنُ لَهَا قَبْلَ خُطْبَتِهَا، وَلِأَنَّ الأذان إن جُعِلَ تَنْبِيهًا عَلَى الْوَقْتِ كَمَا أَنَّ الْإِقَامَةَ جُعِلَتْ تَنْبِيهًا عَلَى الْفِعْلِ، فَلَمَّا جَازَ إِيقَاعُ الْإِقَامَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ جَازَ ارْتِفَاعُ الْأَذَانِ قَبْلَ الْوَقْتِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَنِيرَ لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا " فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِقَامَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ أَذَانًا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ إِلَّا الْمَغْرِبَ " يَعْنِي: بَيْنَ كُلِّ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ.(2/27)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ فَمِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُقَدِّمُ بِهِ عَلَى الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْإِقَامَةَ، لِأَنَّهَا تُسَمَّى أَذَانًا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَخَّرَ الْأَذَانَ حَتَّى صَارَ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: " أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ "، وَالنَّوْمُ يَقْتَضِي التَّأْخِيرَ لَا التَّقْدِيمَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا تَأَهُّبُ النَّاسِ لَهَا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِاسْتِيفَاءِ الظُّهْرِ وَالصُّبْحِ يَدْخُلُ وَقْتُهُمَا وَلَمْ يَتَأَهَّبِ النَّاسُ لَهَا لِتَنَوُّمِهِمْ فَافْتَرَقَتِ الصُّبْحُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الْأَذَانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَالشَّافِعِيُّ حِينَ جَوَّزَ تَقْدِيمَ الْأَذَانِ لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ، وَأَنْتُمْ قَدْ جَوَّزْتُمْ ذَلِكَ قِيَاسًا فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ فِي تَقْدِيمِ الْأَذَانِ الْقِيَاسَ، وَلَكِنِ السُّنَّةَ ثُمَّ كَانَ الْقِيَاسُ تَبَعًا وَمُؤَكِّدًا، لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ لَا يُقَالُ إِنَّهُ حُكْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ وَلَيْسَ ذَاكَ بِقِيَاسٍ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَإِنْ كان قياسا على غيرها لمنع ذَاكَ مِنْ تَقْدِيمِ الْأَذَانِ لِغَيْرِ الصُّبْحِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَذَانِ لَهَا جَائِزٌ فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذِّنَ لَهَا أَذَانَيْنِ أَذَانٌ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَذَانٌ بَعْدَهُ ثُمَّ يُقَامُ لَهَا عِنْدَ تَصَوُّرِ فِعْلِهَا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ " إِنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ "، وَلَا يَحْمِلُ أَذَانُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْإِقَامَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ ".
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " ثُمَّ لَا يَزَالُ وَقْتُ الصُّبْحِ قَائِمًا بَعْدَ الْفَجْرِ مَا لَمْ يُسْفِرْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الصُّبْحِ فَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَالْفَجْرُ هُوَ ابْتِدَاءُ تَنَفُّسِ الصُّبْحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(حَتَّى إِذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وعسعسا)(2/28)
وَسُمِّيَ فَجْرًا: لِانْفِجَارِ الضَّوْءِ مِنْهُ وَهُوَ فَجْرَانِ فَالْأَوَّلُ أَزْرَقُ يَبْدُو مِثْلَ الْعَمُودِ طُولًا فِي السَّمَاءِ لَهُ شُعَاعٌ ثُمَّ يَهْمَدُ ضَوْؤُهُ ثُمَّ يَبْدُو بَيَاضٌ.
الثَّانِي بَعْدَهُ عَرَضًا مُنْتَشِرًا فِي الْأُفُقِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(وَأَزْرَقُ الْفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أَبْيَضِهِ ... وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطْرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ)
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْفَجْرَيْنَ أَنَّهُ قَالَ: " الْفَجْرُ فَجْرَانِ الْأَوَّلُ مُسْتَطِيلٌ وَالثَّانِي مُسْتَطِيرٌ " فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الْفَجْرَيْنِ فَصَلَاةُ الصُّبْحِ تَجِبُ بِالثَّانِي مِنْهُمَا دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ حَدِيثَ الْمَوَاقِيتِ وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدَ الْفَجْرَيْنَ فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْفَجْرُ فَجْرَانِ الْأَوَّلُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ دَقِيقٌ صعد لا يحرم الطول وَلَا يُحِلُّ الصَّلَاةَ ".
وَرَوَى سَوَادَةُ بْنُ حَنْظَلَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَكِنَّ الْفَجْرَ الْمُسْتَطِيلَ فِي الْأُفُقِ " فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى افْتِرَاقِ حُكْمِ الْفَجْرَيْنِ وَتَعْلِيقِ الْحُكْمِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ بِالثَّانِي مِنْهُمَا دُونَ الْأَوَّلِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَوَّلَ الْفَجْرَ الْكَذَّابَ، لِأَنَّهُ يَزُولُ وَلَا يَثْبُتُ، وَتُسَمِّي الْفَجْرَ الثَّانِيَ الْفَجْرَ الصَّادِقَ، لِأَنَّهُ صَدَقَكَ عَنِ الصُّبْحِ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
(شَغَفَ الْكِلَابُ الضَّارِيَاتُ فُؤَادَهُ ... فَإِذَا بَدَا الصُّبْحُ الْمُصَدِّقُ يَفْزَعُ)
يُرِيدُ أَنَّ الصَّيْدَ يَأْمَنُ بِاللَّيْلِ فَإِذَا بدا الصبح فزع من القناص يَجِيءُ نَهَارًا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيِمَانِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ النَّهَارِ عُجَمًا إِلَّا الْجُمُعَةَ، وَالْعِيدَيْنِ "، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّيْلِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ طُلُوعِهَا مِنَ اللَّيْلِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مِنْ صَلَاةِ النَّوْمِ وَلَيْسَتْ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ وَلَا مِنْ صلاة الليل لقوله تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران: 27] فَاقْتَضَى أَنْ(2/29)
يَكُونَ زَمَانُ وُلُوجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ وَلَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ وَيَكُونَ اللَّيْلُ الَّذِي لَمْ يَلِجْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ النَّهَارِ لَيْلًا وَهُوَ مَا قَبْلَ الْفَجْرِ، وَالنَّهَارُ الَّذِي لَمْ يَلِجْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ نَهَارًا، وَهُوَ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وأبي حنيفة، أَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، وَأَوَّلُ صَلَاةِ النَّهَارِ طُلُوعُ الْفَجْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وأقم الصلاة طرفي النهار} [الإسراء: 78] . وَالْمُرَادُ بِالطَّرَفِ الْأَوَّلِ صَلَاةُ الصُّبْحِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ أَضَافَهَا إِلَى النَّهَارِ وَلِأَنَّنَا وَجَدْنَا ضِيَاءَ النَّهَارِ يَطْرَأُ عَلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فِي الْفَجْرِ كَمَا طَرَأَتْ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ عَلَى ضِيَاءِ النَّهَارِ فِي الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ لِلطَّارِئِ فِي الْمَغْرِبِ لَا لِلزَّائِلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِلطَّارِئِ فِي الْفَجْرِ مِنَ الضِّيَاءِ لَا لِلزَّائِلِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ زَمَانًا لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ زَمَانًا لَيْسَ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ فَوَقْتُهَا فِي الِاخْتِيَارِ بَاقٍ إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ الْإِسْفَارُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ " وَتَبَيَّنَ وُجُوهُ الْقَوْمِ " ثُمَّ يَكُونُ مَا بَعْدَ الْإِسْفَارِ مِنْ وَقْتِهَا فِي الْجَوَازِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ نَصًّا، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: قَدْ خَرَجَ وَقْتُ الصُّبْحِ بِالْإِسْفَارِ فِي الِاخْتِيَارِ وَالْجَوَازِ حَتَّى يَكُونَ فَاعِلُهَا قَاضِيًا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَوَقْتُ الصُّبْحِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ ".
(مسألة)
: قال الشافعي: " فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَةً منها فقد خرج وقتها فاعتمد في ذلك على إمامة جبريل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولما رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ذلك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي بَيَانِ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ فِي أَوَائِلِهَا وَأَوَاخِرِهَا وَمَا يَتَعَقَّبُهَا أَوْقَاتُ الْجَوَازِ مِنْهَا، وَهِيَ أَوْقَاتُ الْمُرَفَّهِينَ، وإذا كان كذلك مقدرا فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ تَجِبُ الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَوْ بِآخِرِهِ؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَكْثَرِ الفقهاء، أنها تجب بأول وقت وَرَفَّهَ بِتَأْخِيرِهَا إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَأَمَّا أبو حنيفة فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ فَحَكَى عَنْهُ محمد بن شجاع البلخي مِثْلَ مَذْهَبِنَا، وَحَكَى أبو الحسين الكرخي أَنَّ جَمِيعَ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقْتٌ لِأَدَائِهَا، وَيَتَعَيَّنُ الْوُجُوبُ بِفِعْلِهَا أَوْ بضيق وقتها،(2/30)
وَحَكَى جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. فَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُ أَنَّهَا تَكُونُ نَفْلًا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْفَرْضِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ: أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً مُرَاعَاةً، فَإِنْ بَقِيَ عَلَى صِفَةِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَيَقُّنًا أَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا وَإِنْ زَالَ عَنْ صِفَةِ التَّكْلِيفِ تَبَيَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ نَفْلًا، وَهَكَذَا قَالَ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْخِيرِهَا عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا فِيهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْعَزْمِ فِيهِ وَلَا يَقْضِي بِتَأْخِيرِهَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْعَزْمِ فِي تَأْخِيرِهَا لِإِبَاحَةِ التَّأْخِيرِ عَلَى صِفَةِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَزْمِ فَإِنْ أَخَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى فِعْلِهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِنْ كَانَ لَهَا مُؤَدِّيًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ إِذَا بَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ الْإِحْرَامِ إِلَّا زفر بن الهذيل، فَإِنَّهُ قَالَ: تَجِبُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرَ تِلْكَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ صَحَّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي زَمَانٍ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَمَا جَازَ تَأْخِيرُهُ عَنْ زَمَانٍ لَمْ يَجِبْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا جَازَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَجِبُ بِآخِرِهِ، وَلِأَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَتَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِآخِرِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ يَقْتَضِي أَنْ تَجِبَ بِآخِرِ الْوَقْتِ لَا بِأَوَّلِهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ بَيَّنَ لَهُ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَآخِرَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ - يَعْنِي - وَقْتَ الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الْأَمْرَيْنِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ الْمَحْضَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ فِعْلِهَا الْمَتْبُوعُ وَقْتًا لَهَا فِي الْوُجُوبِ، كَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ كَانَ الْمُصَلِّي فِيهِ مُؤَدِّيًا كَانَ الْفَرْضُ بِهِ وَاجِبًا كَآخِرِ الْوَقْتِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ بِأَدَاءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِأَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِالْوَقْتِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ شَيْئَانِ، الْوُجُوبُ وَالْأَدَاءُ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمَانِ مَعًا، فَأَوَّلُ الْوَقْتِ أَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَانِ مَعًا، لِأَنَّ أَوَّلَهُ مَتْبُوعٌ، وَآخِرَهُ تَابِعٌ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ أَصْلٌ، وَالْأَدَاءَ فَرْعٌ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَدَاءُ وَهُوَ فَرْعٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ فَهُوَ: إِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إِنَّمَا هُوَ وَقْتٌ إِلَى بَدَلٍ وَهُوَ فِعْلُهَا فِي ثَانِي وَقْتٍ وَتَرْكُ الشَّيْءِ إِلَى بَدَلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، كَالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ لَمْ يَدُلُّ تَرْكُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، كَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الْوَاجِبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
مُوَسَّعُ الْوَقْتِ، وَمُضَيَّقُ الْوَقْتِ فَمَا ضُيِّقَ وَقْتُهُ فَحَدُّهُ مَا ذَكَرُوهُ، وَمَا وُسِّعَ وَقْتُهُ فليس حده(2/31)
مَا ذَكَرُوهُ [وَالصَّلَاةُ وُسِّعَ وَقْتُهَا، وَلَمْ يُضَيَّقْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ] مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَحَوْلَ الزَّكَاةِ فَجَمْعٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ، وَالصَّلَاةَ تَجِبُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُجُوبِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الصَّلَاةِ يَكُونُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَاسْتِقْرَارُ فَرْضِهَا يَكُونُ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ: أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ قَدْرَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَعِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، وَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَدْرَ رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَقِرُّ حِينَئِذٍ فَرْضُهَا بِهَذَا الزَّمَانِ الَّذِي أَمْكَنَ فِيهِ أَدَاؤُهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ وُجُوبِهَا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الزَّمَانِ كَانَ مَيِّتًا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: تَجِبُ الصَّلَاةُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيَسْتَقِرُّ فَرْضُهَا بِآخِرِهِ قَالَ: لِأَنَّ فَرْضَهَا لَوِ اسْتَقَرَّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْصُرَهَا إِذَا سَافَرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، لِاسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْقَصْرُ إِذَا سَافَرَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ دَلَّ عَلَى أن الفرض لم يكن قد استقر وإن بآخر الوقت يستيقن، قال أبو يحيى البخلي: - مِنْ أَصْحَابِنَا - إِنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا وَلَيْسَ إِمْكَانُ الْأَدَاءِ فِيهَا مُعْتَبَرًا، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ، وَاعْتِبَارُ الْإِمْكَانِ فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا، لِأَنَّ حُقُوقَ الْأَمْوَالِ لَمَّا كَانَ الْإِمْكَانُ شَرْطًا فِي اسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا كَانَتْ حُقُوقُ الْأَبْدَانِ أَوْلَى وَلَيْسَ جَوَازُ الْقَصْرِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا، لِأَنَّ الْقَصْرَ مِنْ صِفَاتِ الْأَدَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ سِمَةً فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ، كَمَا أَنَّ الصِّحَّةَ، وَالْمَرَضَ لَمَّا كَانَا مِنْ صِفَاتِ الْأَدَاءِ لَمْ يُجْعَلَا سِمَةً فِي اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْفَرْضِ بِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَمَتَى أُتِيَ بِالصَّلَاةِ مَا بَيْنَ أَوَّلِ الوقت وآخره كانت أَدَاءً مُجْزِيًا إِذَا كَانَ الْإِحْرَامُ بِهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَالسَّلَامُ مِنْهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَوْ كَانَ الْإِحْرَامُ بِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ لَا أَدَاءً، وَلَا قَضَاءً، وَكَانَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا؛ وَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَسَلَّمَ مِنْهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَإِنْ كان لعذر في التأخير أجزأته أداء، فإن كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَجْزَأَتْهُ، وَهَلْ يَكُونُ مَا فَعَلَهُ مِنْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ أَدَاءً، أَوْ قَضَاءً؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَالرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَانَتِ الصَّلَاةُ مُجْزِئَةً [أَمَّا] إِذَا كَانَ مَعْذُورًا وَعَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا وَلَا تَبْطُلُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي أَثْنَائِهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَتْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَقَالَ: " إِنَّهَا تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَيْطَانِ " فَكَانَتِ الصَّلَاةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَنْهِيًّا عَنْهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَقَعَ مَوْقِعَ صَلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلِأَنَّ الْمَفْعُولَ مِنْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ [أَدَاءً وَالْمَفْعُولَ منها بعد(2/32)
طُلُوعِ الشَّمْسِ قَضَاءً] وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَبَعَّضَ حُكْمًا فِي الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ فَبَطَلَتْ.
ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ " فَجَعَلَهُ مُدْرِكًا وَمُصَلِّيًا.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَطَالَ صَلَاةَ الصُّبْحِ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ أَطَلْتَ الصَّلَاةَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ فَقَالَ: " لَوْ طَلَعَتْ مَا وَجَدَنَا اللَّهُ غَافِلِينَ "، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُبْطِلْ غَيْرَ الصُّبْحِ لَمْ يُبْطِلِ الصُّبْحَ كَالْعَمَلِ الْقَلِيلِ طَرْدًا، وَالْحَدِيثِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِهَا، فَلَمَّا كَانَ الْمُدْرِكُ لِرَكْعَةٍ مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَإِنْ صَارَ خَارِجًا إِلَى وَقْتِ صَلَاةٍ، فَالْمُدْرِكُ لِرَكْعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْلَى، أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا إِلَى وَقْتِ صَلَاةٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ عن حيزه وَاسْتِدْلَالِهِ وَلِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ النَّهْيِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِبَادَةِ أَغْلَظُ شُرُوطًا من استدامتها - والله أعلم -.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَالْوَقْتُ الْآخَرُ هُوَ وَقْتُ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ فَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى رَجُلٍ فَأَفَاقَ وَطَهُرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ حيض أو نفاس وأسلم نصراني وبلغ صبي قبل مغيب الشمس بركعة أعادوا الظهر والعصر، وكذلك قبل الفجر بركعة أعادوا المغرب والعشاء، وكذلك قبل طلوع الشمس بركعة أعادوا الصبح وذلك وقت إدراك الصلوات في العذر والضرورات وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من أدرك ركعة قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ ومن أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشمس فقد أدرك الصبح " وأنه جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة فدل على أن وقتهما للضرورات واحد وقد قال الشافعي إن أدرك الإحرام في وقت الآخرة صلاهما جميعا (قال المزني) ليس هذا عندي بشيء وزعم الشافعي أن من أدرك من الجمعة ركعة بسجدتين أتمها جمعة ومن أدرك منها سجدة أتمها ظهرا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة " ومعنى قوله عندي إن لم تفته وإذا لم تفته صلاها جمعة والركعة عند الشافعي بسجدتين (قال المزني) قلت وكذلك قوله عليه السلام " من أدرك من الصلاة ركعة قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ " لا يكون مدركا لها إلا بكمال(2/33)
سجدتين فكيف يكون مدركا لها والظهر معها بإحرام قبل المغيب فأحد قوليه يقضي على الآخر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَصْلِ وَقْتِ الْإِقَامَةِ وَالرَّفَاهَةِ. فَأَمَّا وَقْتُ أَهْلِ الْعُذْرِ، وَالضَّرُورَةِ كَالْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ، إِذَا طَهُرَتَا، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا أَفَاقَا، وَالصَّبِيِّ إِذَا بَلَغَ وَالْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ فِي آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَهُمْ أَهْلُ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ يَجُوزُ إِدْخَالُ الْكَافِرِ فِي جُمْلَتِهِمْ وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِالتَّأَخُّرِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَا مُضْطَرٍّ فِي الْمُقَامِ عَلَى الْكُفْرِ، قِيلَ: لِأَنَّ الْكَافِرَ لَمَّا لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ بِإِسْلَامِهِ وَسَقَطَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ كَالْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ، وَالْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ صَارَ مِنَ الْمَعْذُورِينَ حُكْمًا فِي الْإِسْقَاطِ، وَالْإِيجَابِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ فِي الْإِثْمِ وَالْعِقَابِ فَصَارَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَهُ تَكْلِيفُ الصَّلَاةِ فِي شَيْءٍ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَعَلُّقُ الْكَلَامِ بِفَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِمَا يُدْرِكُونَهُ مِنَ الْوَقْتِ.
وَالثَّانِي: مَا يُدْرِكُونَ بِهِ مَا يَجْمَعُ إِلَى صَلَاةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُدْرِكُونَ بِهِ صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنْ أَدْرَكُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَدْرَ رَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِرَكْعَةٍ أَدْرَكُوا صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَإِنَّمَا لَزِمَتْهُمْ صَلَاةُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ "، فَأَمَّا إِذَا أَدْرَكُوا مِنَ الْوَقْتِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَيَسْتَوِي حُكْمُ مَا نَقَصَ عَنِ الرَّكْعَةِ بِأَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ أَوْ قَدْرَ الْإِحْرَامِ مِنْهَا، وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى سَوَاءٍ وَفِي إِدْرَاكِهِمْ لِصَلَاةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ.
وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَهَا بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّرَ الْإِدْرَاكَ بِرَكْعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ، لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْجُمْعَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِرَكْعَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَقَلَّ مِنْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ مُتَعَلِّقًا بِرَكْعَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِأَقَلَّ مِنْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُمْ يُدْرِكُونَ صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْعَصْرِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَمَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ(2/34)
أَدْرَكَ "، وَلِأَنَّ إِدْرَاكَ الصَّلَاةِ بِزَمَانِ رَكْعَةٍ إِنَّمَا هُوَ لِمَا لِذَلِكَ الزَّمَانِ مِنَ الْحُرْمَةِ، وَحُرْمَةُ قَلِيلِ الزَّمَانِ كَحُرْمَةِ كَثِيرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُدْرِكَ صَلَاةَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِقَلِيلِ الزَّمَانِ، وَكَثِيرِهِ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَمَّا كَانَ مُسَاوِيًا لِلرَّكْعَةِ فِي إِدْرَاكِ صَلَاةِ الْوَقْتِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هريرة فالمراد به إدراك الصلاة فيكون بإدراك بعض وقتها، وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ.
وَأَمَّا الْجُمْعَةُ فِي أَنَّ إِدْرَاكَهَا لَا يَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِدْرَاكِ مَا سِوَاهَا بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُمْعَةَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْضِهَا خَارِجَ الْوَقْتِ تَغَلَّظَ حُكْمُهَا؛ فَلَمْ يُدْرِكْهَا إِلَّا بِرَكْعَةٍ، وَسَائِرَ الصَّلَوَاتِ لَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِبَعْضِهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْضِهَا خَارِجَ الْوَقْتِ خَفَّ حُكْمُهَا فَأَدْرَكَهَا بِأَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ وَهَذَا فَرْقُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِدْرَاكَ نَوْعَانِ: إِدْرَاكُ إِلْزَامٍ، وَإِدْرَاكُ إِسْقَاطٍ، فَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ سَاجِدًا لَمْ يُسْقِطْ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ الرَّكْعَةَ، فَكَذَا الْجُمْعَةُ لَمَّا كَانَ فِي إِدْرَاكِهَا إِسْقَاطٌ لَمْ يُدْرِكْهَا إِلَّا بِرَكْعَةٍ.
وَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِلْزَامِ فَيَكُونُ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ كَمُسَافِرٍ أَدْرَكَ خَلْفَ مُقِيمٍ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ فَكَذَا مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الْوَقْتِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَزِمَتْهُ تِلْكَ الصَّلَاةُ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِلْزَامِ وَهَذَا فَرْقُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ مُدْرَكَةٌ بِالْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ تَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْفِعْلِ فلم يصير مُدْرِكًا إِلَّا بِمَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهَا، وَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ تُدْرَكُ بِالزَّمَانِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُطْ بِفَوَاتِ الزَّمَانِ فَصَارَ مُدْرِكًا لَهَا بِقَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ وَهَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ، فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْعَصْرِ إِذَا أَدْرَكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشمس بقدر الإحرام ومدركا لعشاء الْآخِرَةِ إِذَا أَدْرَكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ، وَمُدْرِكًا لِلصُّبْحِ إِذَا أَدْرَكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي إِدْرَاكِ الصَّلَاةِ الْمَجْمُوعَةِ إِلَيْهَا كَإِدْرَاكِ الظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ الْعَصْرِ، وَإِدْرَاكِ الْمَغْرِبِ بِإِدْرَاكِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ. فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُدْرِكُ الْعَصْرَ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ فَقَدْ أَدْرَكَ الظُّهْرَ، لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ أَدْرَكَ الظُّهْرَ فَعَلَى هَذَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يُدْرِكُ الْعَصْرَ بِرَكْعَةٍ عَلَى الْقَدِيمِ وَأَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ فَهَلْ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:(2/35)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِالرَّكْعَةِ الَّتِي أَدْرَكَ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَى زَمَانِ الرَّكْعَةِ زَمَانٌ آخَرُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْقَدِيمِ:
أَحَدُهُمَا: زَمَانُ طَهَارَةٍ يَنْضَمُّ إِلَى زَمَانِ الرَّكْعَةِ حَتَّى يَصِيرَ بِذَلِكَ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ بِهَا إِدْرَاكُ الْعَصْرِ لِتَكُونَ قَدْرًا مُعْتَدًّا بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِطَهَارَةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ تَنْضَمُّ إِلَى الرَّكْعَةِ حَتَّى يَصِيرَ بِذَلِكَ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ خَمْسِ رَكَعَاتٍ لِيُدْرِكَ زَمَانَ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ بِكَمَالِهَا وَبِمَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْأُخْرَى فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْخَمْسِ رَكَعَاتٍ مَا هِيَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ هِيَ الْعَصْرُ وَرَكْعَةٌ مِنَ الظُّهْرِ فَعَلَى هَذَا لَا يُدْرِكُ الْمَغْرِبَ مَعَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَّا بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ أَرْبَعٍ هي العشاء وركعة من المغرب.
الوجه الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ هِيَ الظُّهْرُ، وَرَكْعَةٌ مِنَ الْعَصْرِ، لِأَنَّ الْعَصْرَ تُدْرَكُ بِرَكْعَةٍ نَصًّا، وَإِجْمَاعًا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَعَلَّقَ إِدْرَاكُهَا [بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ] فَعَلَى هَذَا يُدْرِكُ الْمَغْرِبَ مَعَ عِشَاءِ الْآخِرَةَ بِإِدْرَاكِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ثَلَاثٌ مِنْهَا الْمَغْرِبُ وَرَكْعَةٌ مِنْ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا صَارَ فِي إِدْرَاكِ الْعَصْرِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِرَكْعَةٍ.
وَالثَّانِي: بِالْإِحْرَامِ، وَفِي إِدْرَاكِ الظُّهْرِ مَعَهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: بِقَدْرِ الْإِحْرَامِ.
وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ.
وَالثَّالِثُ: بِرَكْعَةٍ وَطَهَارَةٍ.
وَالرَّابِعُ: بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ، وَكَذَا فِي إِدْرَاكِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْإِحْرَامِ.
وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ، وَفِي إِدْرَاكِ الْمَغْرِبِ مَعَهَا أَرْبَعَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: بالإحرام أيضا.(2/36)
وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ.
وَالثَّالِثُ: بِرَكْعَةٍ وَطَهَارَةٍ.
وَالرَّابِعُ: فِيهِ وَجْهَانِ: عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ هُوَ خَمْسُ رَكَعَاتٍ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَكَذَا فِي إِدْرَاكِ الصُّبْحِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِالْإِحْرَامِ.
وَالثَّانِي: بِرَكْعَةٍ وَلَا يُدْرِكُ مَعَ الصُّبْحِ غَيْرَهَا، لِأَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ لَا تُجْمَعُ إِلَى غَيْرِهَا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا فَقَدْ يَصِيرُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلظُّهْرِ إِلَّا بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ وَقْتِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ " فَجَعَلَ مَا تَعَلَّقَ بِالرَّكْعَةِ مِنَ الْحُكْمِ إِدْرَاكَ الْعَصْرِ دُونَ الظُّهْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فَرْضَهَا، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ لَمْ يُدْرِكِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَصْرُ بِإِدْرَاكِ الظُّهْرِ وَإِنْ كَانَ وَقْتَاهُمَا فِي الْجَمْعِ وَاحِدًا لَمْ يَلْزَمْهُ الظُّهْرُ بِإِدْرَاكِ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ وَقْتَاهُمَا فِي الْجَمْعِ وَاحِدًا.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصلاة طرفي النهار} [الإسراء: 78] وَالْمُرَادُ بِالطَّرَفِ الثَّانِي عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْ مُجَاهِدٍ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَعَلَّقَهُمَا بِطَرَفِ النَّهَارِ، وَطَرَفُهُ آخِرُهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْ طَرَفِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ فِي [أَدَاءِ] الْمَعْذُورِينَ مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالْمَمْطُورِينَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَدَاءً لَا قَضَاءً فَكَانَ إِدْرَاكُ الْعَصْرِ إِدْرَاكًا لَهُمَا لِاشْتِرَاكِ وَقْتِهِمَا، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَقْتُ الظُّهْرِ أَنَّهُ لا يدرك به صلاة العصر، لأنها وَإِنْ كَانَ وَقْتًا لِلْمُسَافِرِينَ مِنَ الْمَعْذُورِينَ فَلَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْمَمْطُورِينَ، وَفِيهِ انْفِصَالٌ وَيَتَحَرَّرُ مِنَ اعْتِلَالِهِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَقْتٌ لَوْ أُخِّرَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ إِلَيْهِ كَانَتْ أَدَاءً فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ لَازِمَةً بِهِ قِيَاسًا عَلَى وَقْتِ الظُّهْرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا صَلَاةٌ يَجُوزُ تَأْخِيرُ أَدَائِهَا إِلَى وَقْتٍ فَوَجَبَ أَنْ يُلْزَمَ بِإِدْرَاكِ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالْعَصْرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْعَصْرِ بِهِ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الظُّهْرِ عَنْهُ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الشَّيْءِ يُوجِبُ نَفْيَ ضِدِّهِ، وَلَا يُوجِبُ نَفْيَ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الصُّبْحِ فَالْمَعْنَى فِيهِ يُنَافِي وَقْتَهَا فِي العذر والضرورات.(2/37)
(فَصْلٌ)
: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي زَوَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَعْذَارِ، وَالضَّرُورَاتِ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، فَأَمَّا إِذَا طَرَأَتْ هَذِهِ الْأَعْذَارُ عَلَى إِنْسَانٍ فِي وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَيَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِحُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ بِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ، ثُمَّ يُعْقِبُهُ بِحُكْمِ صَلَاةِ الْوَقْتِ الَّذِي طَرَأَ الْعُذْرُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَائِهِ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْحُكْمُ فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ بِهِ.
فَنَقُولُ: أَمَّا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ فَيُسْقِطَانِ فَرْضَ الصَّلَاةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْحَيْضِ "، وَأَمَّا الْكُفْرُ إِذَا طَرَأَ بِالرِّدَّةِ فَلَا يُوجِبُ سُقُوطَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ قَوْلِ أبي حنيفة، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ مِنْ بَعْدُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا الْجُنُونُ فَيُسْقِطُ فَرْضِ الصَّلَاةِ إِجْمَاعًا لِسُقُوطِ التَّكْلِيفِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: ذَكَرَ فِيهَا الْمَجْنُونَ حَتَّى يُفِيقَ "، وَأَمَّا الْإِغْمَاءُ فَيُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ إِذَا اسْتَدَامَ جَمِيعَ وَقْتِهَا وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنِ اسْتَدَامَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى دَخَلَتِ الصَّلَاةُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ سَقَطَ فَرْضُهَا، وَإِنْ قَصَرَ عَنِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ حَتَّى لَمْ تَدْخُلِ الصَّلَاةُ فِي التَّكْرَارِ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا وَلَزِمَ إِعَادَتُهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ - الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْمَغْرِبُ، وَالْعِشَاءُ، - فَلَمَّا أَفَاقَ قَضَاهَا قَالَ: وَلِأَنَّ الْخَمْسَ فِي حَدِّ الْقِلَّةِ، وَلَيْسَ فِي إِعَادَتِهَا مَشَقَّةٌ، وَالزِّيَادَةَ عَلَيْهَا فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَفِي إِعَادَتِهَا مَشَقَّةٌ قَالَ: وَلِأَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصِّيَامِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُسْقِطَ فَرْضَ الصَّلَاةِ كَالسُّكْرِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرَّجُلُ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فَقَالَ: " لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءٌ إِلَّا أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ فَيُفِيقَ فِي وَقْتِهَا فَيُصَلِّيَهَا "، هَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ مَعَهُ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَمْ يَلْزَمْ مَعَهُ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ كَالْجُنُونِ طَرْدًا، وَالسُّكْرِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُهَا فِي الْجُنُونِ لَمْ يُقْضَ فَإِذَا مَضَى عَلَيْهِ وَقْتُهَا فِي الْإِغْمَاءِ لَمْ يُقْضَ قِيَاسًا عَلَى مَا زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ طَرْدًا، وَكَوَقْتِ الظُّهْرِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى يَسْقُطُ مَعَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ يَسْقُطُ مَعَهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ، كَالصِّغَرِ، وَلِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ فَيَسْتَوِي قَلِيلُ الزَّمَانِ وَكَثِيرُهُ كَالسُّكْرِ، وَضَرْبٌ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ(2/38)
فَيَسْتَوِي قَلِيلُ الزَّمَانِ وَكَثِيرُهُ كَالْجُنُونِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ مِنَ الْإِغْمَاءِ مُلْحَقًا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ.
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ عَمَّارٍ فَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عُمَرَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاهُ اسْتِحْبَابًا.
وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمْ بِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُلْحِقُ فِي إِعَادَتِهِ مَشَقَّةً فَيَعْسُرُ بِالْجُنُونِ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ إِعَادَةَ الْقَلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي إِعَادَتِهِ مَشَقَّةٌ وَأَمَّا اعْتِبَارُهُمُ الصَّلَاةَ بِالصِّيَامِ فَفَاسِدٌ عَلَى قَوْلِنَا، وَقَوْلِهِمْ، لِأَنَّ الصَّوْمَ تَجِبُ إِعَادَتُهُ وَإِنْ كَثُرَ، وَالصَّلَاةَ عِنْدَهُمْ لَا تَجِبُ إِعَادَتُهَا إِذَا كَثُرَتْ، فَالْمَعْنَى الَّذِي فَرَّقُوا بِهِ فِي الْإِغْمَاءِ بَيْنَ كَثِيرِ الصَّلَاةِ وَكَثِيرِ الصِّيَامِ بِمِثْلِهِ فَرَّقْنَا بَيْنَ كُلِّ الصَّلَاةِ وَكُلِّ الصِّيَامِ، وَثَمَّ يُقَالُ: لَهُمُ الصَّوْمُ أُدْخِلَ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ نُوجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءَ الصِّيَامَ وَلَا نُوجِبُ قَضَاءَ الصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ يَسْقُطُ بِالْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ، وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، فطرآن هَذِهِ الْأَعْرَاضُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَطْرَأَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، نُظِرَ فَإِنْ مَضَى مِنْ حَالِ السَّلَامَةِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ قَدْرَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَحْدَهَا دُونَ الْعَصْرِ، لِاسْتِقْرَارِ فَرْضِهَا بِهَذَا الْقَدْرِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَلْزَمُهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْفَرْضِ بِآخِرِ الْوَقْتِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مَعَهُ فَإِنْ مَضَى مِنْ وَقْتِ السَّلَامَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَدْرُ رَكْعَةٍ وَطَرَأَتْ هَذِهِ الْأَعْذَارُ لَمْ يَلْزَمْهُمْ فَرْضُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ فَرْضَهَا بِزَمَانِ الْإِمْكَانِ يَسْتَقِرُّ، وَقَالَ أَبُو يَحْيَى الْبَلْخِيُّ: قَدْ لَزِمَتْهُمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْفَرْضَ يَجِبُ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، قَالَ: وَفِي إِدْرَاكِ الْعَصْرِ مَعَهَا قَوْلَانِ، فَجَعَلَ أَبُو يَحْيَى إِدْرَاكَ رَكْعَةٍ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ كَإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى مَا أُدْرِكَ مِنْ آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ مُمْكِنٌ فَلَزِمَ بِهِ الْفَرْضُ، وَالْبِنَاءَ عَلَى مَا أُدْرِكَ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَلْزَمْ بِهِ الْفَرْضُ - وَاللَّهُ أعلم -.(2/39)
(بَابُ صِفَةِ الْأَذَانِ وَمَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصلوات ولا يؤذن)
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ فِي أَذَانِهِ، وَإِقَامَتِهِ إِلَّا مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ وَلَا وَجْهُهُ عَنْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَذَانُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ الْإِعْلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ من الله ورسوله} [الحج: 27] أَيْ: أَعْلِمْهُمْ بِهِ وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ:
(أَلَا إِنَّ لَيْلَى أَذَّنَتْ بِقُفُولٍ ... وَمَا أَذَنَتْ ذَا حَاجَةٍ بِرَحِيلِ)
فَسُمِّيَ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ أَذَانًا، لِأَنَّهُ إِعْلَامٌ بِدُخُولِ وَقْتِهَا وَحُضُورِ فَعْلِهَا.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا} [فصلت: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] ، قِيلَ فِي أحد تأويليها: إِنَّهُمُ الْمُؤَذِّنُونَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي عَلَامَةٍ تَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِالنَّاقُوسِ فَقَالَ: ذَاكَ مِزْمَارُ النَّصَارَى، وَأَشَارَ آخَرُونَ بِالْقَرْنِ فَقَالَ: ذَاكَ مِزْمَارُ الْيَهُودِ، وَأَشَارَ آخَرُونَ بِالرَّايَةِ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِاللَّيْلِ ثُمَّ هَمَّ أَنْ يُعْمِلَ النَّاقُوسَ.
فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ طاف بي رجل وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ فَقُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: تَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ - مِنْ غَيْرِ تَرْجِيعٍ قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ تَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى آخِرِ الْإِقَامَةِ فُرَادَى فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ قَالَ: فَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الخطاب وهو(2/40)
فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ لِلصَّلَاةِ سُنَّةٌ فَالصَّلَوَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قِسْمٌ مِنَ السُّنَّةِ لَهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَهِيَ الصَّلَوَاتُ المفروضات لما ذكرنا، وقسم من السنة يُنَادِيَ لَهَا الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَهُوَ مَا يُقَامُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غَيْرِ الْمَفْرُوضِ، كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَالْخُسُوفَيْنِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، اقْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ فِيهَا وَأَنَّ فِي الْأَذَانِ لَهَا إِدْخَالَ شَكٍّ عَلَى سَامِعِيهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَإِلَى صَلَاةِ الْوَقْتِ، وَقِسْمٌ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ لَا أَذَانَ لَهَا وَلَا نِدَاءَ إِلَيْهَا وَهُوَ مَا سِوَى الْقِسْمَيْنِ مِنَ النُّذُورِ، وَالسُّنَنِ، وَالنَّوَافِلِ، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُومُ إِلَى سُنَنِهِ وَإِلَى نَوَافِلِهِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا نِدَاءٍ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ سُنَّةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِهِمَا اتِّبَاعًا لِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شَرَفًا وَإِنَّ شَرَفَ الْمَجْلِسِ مَا اسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ وَإِنَّمَا تُجَالِسُونَ بِالْأَمَانَةِ " وَلِأَنَّ الْأَذَانَ دُعَاءٌ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهِ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُطْبَةِ حَيْثُ اسْتَقْبَلَ بِهَا النَّاسَ وَاسْتَدْبَرَ بِهَا الْقِبْلَةَ أَنَّ الْخُطْبَةَ مَوْعِظَةٌ وتخويف للمحاضرين فَكَانَ مِنْ إِجْمَالِ عِشْرَتِهِمُ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِمْ وَالْأَذَانُ إِعْلَامٌ لِمَنْ بَعُدَ وَدُعَاءٌ لِمَنْ غَابَ مِمَّنْ فِي سَائِرِ الْجِهَاتِ فَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، فَأَمَّا الْمُؤَذِّنُ فِي الْمَنَارَةِ إِذَا أَرَادَ الطَّوَافَ فِي مَجَالِهَا فَقَدْ كَانَتِ الْمَنَارَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ مُرَبَّعَةً لَا مَجَالَ لَهَا حَتَّى أَحْدَثَ الْمَنَارَةَ الْمُدَوَّرُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ لَطِيفًا وَالْعَدَدُ يَسِيرًا فَلَيْسَ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَدُورَ فِي مَجَالِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ دَاعِيَةٍ، وَوَقَفَ إِلَى جِهَةَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ أَذَانُهُ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا، وَالْعَدَدُ كَثِيرًا كَالْبَصْرَةِ فَفِي جَوَازِ طَوَافِهِ فِي مَجَالِهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِبْلَاغِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجِهَاتِ وَإِنَّ عدا الأمصار أقروا(2/41)
الْمُؤَذِّنِينَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، لَكِنْ لَا يَطُوفُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ "، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَلْتَفِتُ فِيهِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَلَوْ خَالَفَ الْمُؤَذِّنَ وَاسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ بِأَذَانِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شَرَعَ فِي الْخُطْبَةِ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ وَلَوِ اسْتَدْبَرَهَا لَمْ يُجْزِهِ وَشَرَعَ فِي الْأَذَانِ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ وَلَوِ اسْتَدْبَرَهَا أَجْزَأَهُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ: من أصحابنا من جمع بينهما فقال: يجزيه مِنَ الْخُطْبَةِ كَمَا يُجْزِئُهُ مِنَ الْأَذَانِ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ الْأَذَانِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُطْبَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا كَانَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا فَرْضًا، وَالْأَذَانَ لَمَّا كَانَ سُنَّةً كَانَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ سُنَّةً.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْخُطْبَةِ عُدُولًا عَنْ أَهْلِهَا الْمَقْصُودِينَ بِهَا وَلَيْسَ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْأَذَانِ عُدُولٌ عَنْ أَهْلِهِ الْمَقْصُودِينَ بِهِ.
(فَصْلٌ)
: وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ أَذَّنَ جَالِسًا أَجْزَأَهُ، وَلَوْ خَطَبَ فِي الْجُمْعَةِ جَالِسًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ لَمَّا كَانَ مَسْنُونًا كَانَ الْقِيَامُ فِيهِ مَسْنُونًا، وَالْخُطْبَةَ لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً كَانَ الْقِيَامُ فِيهَا وَاجِبًا، فَأَمَّا إِنْ أَذَّنَ مَاشِيًا فَإِنْ كَانَ قَدِ انْتَهَى فِي مَشْيِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يَسْمَعُ من كان في الموضع الذي ابتداء فِي الْأَذَانِ فِيهِ بَقِيَّةَ أَذَانِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنِ انْتَهَى إِلَى حَيْثُ يَسْمَعُونَهُ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى حَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ مَنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ صَارَ الْمَوْضِعُ مُخْتَلِفًا في ابتداء الأذان وانتهائه فلم يصرد أعيابه والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَيَقُولُ " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم يرجع فيمد صوته فَيَقُولَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله " وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علم أبا محذورة هذا الأذان ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَذَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً عَلَى مَا وَصَفَهُ بِتَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَذَانَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً بِتَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ لَكِنْ بِإِسْقَاطِ تَكْبِيرَتَيْنِ مِنَ التَّكْبِيرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِهِ.(2/42)
وَالثَّالِثُ: هُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ الْأَذَانَ خَمْسَ عَشْرَةَ كَلِمَةً بِإِثْبَاتِ التَّكْبِيرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِهِ وَإِسْقَاطِ تَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ، فَصَارَ مَالِكٌ مُوَافِقًا لَنَا فِي التَّرْجِيعِ مُخَالِفًا فِي التَّكْبِيرِ، وَصَارَ أبو حنيفة مُوَافِقًا لَنَا فِي التَّكْبِيرِ مُخَالِفًا فِي التَّرْجِيعِ.
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَنَّهُ أَصْلُ الْأَذَانِ، وَهُوَ خَمْسَ عَشْرَةَ كَلِمَةً فَتَرَكَ التَّرْجِيعَ وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا بِهِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ كَذَلِكَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا بِمَشْهَدِهِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْجِيعُ غَيْرَ مَسْنُونٍ فِيهِ كَالْإِقَامَةِ قَالَ: وَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ إِذَا تَعَقَّبَتِ التَّكْبِيرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِ ذَلِكَ التَّكْبِيرِ.
أَصْلُهُ: آخِرُ الْأَذَانِ يُكَبَّرُ فِيهِ مَرَّتَيْنِ وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ لَفْظَ الْأَذَانِ إِذَا كَانَ مَسْنُونَ التَّكْرَارِ أَرْبَعًا كَانَ مَسْنُونَ الْمُوَالَاةِ كَالتَّكْبِيرَاتِ الْأُولَى.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَيْرِيزٍ أَخْبَرَهُ وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي مَحْذُورَةَ حِينَ جَهَّزَهُ إِلَى الشَّامِ قال: قلت لأبي محذورة أي عم إِنِّي خَارِجٌ إِلَى الشَّامِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أُسْأَلَ عَنْ تَأْذِينِكَ فَأَخْبِرْنِي قَالَ: نَعَمْ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى غَزَاةِ خَيْبَرَ خَرَجْنَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ فَأَذَّنَ مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَرَخْنَا نَحْكِيهِ وَنَسْتَهْزِئُ بِهِ فَلَمْ يُرْسِلْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا وقد أخذونا وهبوا بِنَا إِلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعْتُ صَوْتَهُ مُرْتَفِعًا فَأَشَارَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ إِلَيَّ وَصَدَقُوا فَأَرْسَلَهُمْ وَحَبَسَنِي وَقَالَ: قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ فَقُمْتُ وَمَا شَيْءٌ أَكْرَهُ إِلَيَّ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ فَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَلْقَى عَلَيَّ التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: قُلْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى أَنْ قَالَ لِيَ ارْجِعْ وَامْدُدْ مِنْ صَوْتِكَ، ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ، ثُمَّ دَعَا لِيَ وَأَعْطَانِي صُرَّةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ فِضَّةٍ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَتِي، وَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِالتَّأْذِينِ بِمَكَّةَ فَقَالَ: قَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ فَذَهَبَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ كَرَاهِيَةٍ وَعَادَ ذَلِكَ مَحَبَّةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأَدْرَكْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ يُؤَذِّنُ كَمَا حَكَى ابْنُ مُحَيْرِيزٍ ".
وَرَوَى [مُحَمَّدُ] بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ الْقَرَظِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِلَالًا بِالتَّرْجِيعِ.
وَرُوِيَ أَنَّ سَعْدَ الْقَرَظِ أَذَّنَ وَرَجَّعَ وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ، وَلِأَنَّهُ سُنَّةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ يَنْقُلُهُ خَلْفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ، وَأَصَاغِرُهُمْ عَنْ أَكَابِرِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا اخْتِلَافٍ فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلَ الْإِجْمَاعِ وَحُجَجِ الِاتِّفَاقِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ ذِكْرٍ فِي الْأَذَانِ قَبْلَ الدُّعَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ السُّنَّةِ تَكْرَارُهُ أَرْبَعًا، كَالتَّكْبِيرِ فَأَمَّا حَدِيثُ(2/43)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَخَذَ بِلَالٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيعٍ فَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِلَالًا بِالتَّرْجِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَ الْحَدِيثَانِ لَكَانَ حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ أَوْلَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَزْيَدُ، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَلْقِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذلك من عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يُطَابِقُ فِعْلَ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَكَانَ أَوْلَى.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ فَالْمَعْنَى فِي الْأَذَانِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِأَجْلِ إِعْلَامِ الْغَائِبِينَ أَكْمَلَ هَيْئَةً كَانَ أَكْمَلَ ذِكْرًا، وَالْإِقَامَةُ لَمَّا كَانَتْ لِأَجْلِ إِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ أَنْقَصَ هَيْئَةً فَكَانَتْ أَنْقَصَ ذِكْرًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ إِذَا تَعَقَّبَتْ كَلِمَةَ التَّكْبِيرِ كَانَتْ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِهِ فِيمَنْ يَقُولُ بِمُوجَبِهِ، لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِ التَّكْبِيرِ، وَالتَّرْجِيعُ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ نَوْعٍ إِلَى نَوْعٍ عَلَى أَنَّ هَذَا قِيَاسُ أَوَّلِ الْأَذَانِ عَلَى آخِرِهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَذَانِ أَكْمَلُ مِنْ آخِرِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ تَكَرَّرَ أَرْبَعًا لَكَانَ مُتَوَالِيًا.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مُوَالَاةَ الْأَذَانِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْأَذَانِ كَالتَّكْبِيرِ الأول والآخر والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَيَلْتَوِي فِي حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ يَمِينًا وَشِمَالًا لِيُسْمِعَ النَّوَاحِيَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَلْوِيَ رَأْسَهُ وَعُنُقَهُ جَمِيعًا يَمِينًا، وَإِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ أَنْ يَلْوِيَ رَأْسَهُ وَعُنُقَهُ شِمَالًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَزُولَ قَدَمَاهُ عَنِ الْقِبْلَةِ وَيَكُونَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَذَانِهِ عَلَى حَالِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدْ كَانَ بِلَالٌ، وَأَبُو مَحْذُورَةَ يَفْعَلَانِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْآدَمِيِّينَ فَاقْتَضَى أَنْ يُوَاجِهَهُمْ لِيَعُمَّهُمْ بِالْخِطَابِ فَأَمَّا قَوْلُهُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ يَا أَهْلَ الْحَيِّ هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا إِلَى الصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ بَادِرُوا وَأَسْرِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّ هَلَّا بِعُمَرَ " أَيْ: فَبَادِرْ بِذِكْرِهِ فِي أَوَّلِهِمْ. وَقَالَ لَبِيدٌ:
(يَتَمَارَى فِي الَّذِي قُلْتُ لَهُ ... وَلَقَدْ يَسْمَعُ قَوْلَ حَيَّ هَلْ)
وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَفِي الْفَلَاحِ تَأْوِيلَانِ:(2/44)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِدْرَاكُ الطِّلْبَةِ وَالظَّفَرُ بِالْحَاجَةِ قَالَ لَبِيدٌ:
(فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْبَقَاءُ - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْأَعْشَى:
(وَلَئِنْ كُنَّا كَقَوْمٍ هَلَكُوا ... مَا لِحَيٍّ يَا لَقَوْمِي مِنْ فلاح)
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَحَسُنَ أَنْ يَضَعَ أُصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: رَوَى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدِ الْقَرَظِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ لِبِلَالٍ إِذَا أَذَّنْتَ فَأَدْخِلْ أُصْبَعَيْكَ فِي أُذُنَيْكَ فَإِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَعْلَمَ الْأَصَمَّ بِفِعْلِهِ وَالسَّمِيعَ بِقَوْلِهِ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي إِعْلَامِهِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَدَّتْ أُذُنَاهُ فَاجْتَمَعَ الصَّوْتُ فِي فَمِهِ فَكَانَ أَرْفَعَ لِصَوْتِهِ وَأَبْلَغَ فِي إِعْلَامِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا عَلَى ارْتِفَاعٍ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَ مَنَارَةٍ أَوْ مِئْذَنَةٍ، أَوْ سَطْحٍ اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِبْلَاغِ، فَإِنْ أَذَّنَ جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ تَرَكَ السُّنَّةَ مِنْ هيأته وأجزأه - والله أعلم -.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَيَكُونُ عَلَى طُهْرٍ فَإِنْ أَذَّنَ جُنُبًا كَرِهْتُهُ وَأَجْزَاهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ فِي أَذَانِهِ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فِي الطَّهَارَةِ، وَاللِّبَاسِ، مُتَهَيِّئًا مُتَأَهِّبًا لِلصَّلَاةِ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " حَقٌّ وَمَسْنُونٌ أَنْ لَا يُؤَذِّنَ أَحَدٌ إِلَّا طَاهِرًا "، وَلِأَنَّهُ دَاعٍ إِلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَاتِ الْمُصَلِّينَ فَإِنْ أَذَّنَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ جُنُبًا فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ أَذَانُهُ، وَيَعْصِي الْمُؤَذِّنُ بِالدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ جُنُبًا وَيُجْزِئُهُ أَذَانُهُ، وَهَكَذَا لَوْ أَذَّنَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ كَانَ عَاصِيًا بِكَشْفِ عَوْرَتِهِ، وَالْأَذَانُ مُجْزِئٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأَنَا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِي الْإِقَامَةِ أَكْرَهُ مِنِّي لِتَرْكِهَا فِي الْأَذَانِ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ يَعْقُبُهَا الصَّلَاةُ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ أَجْزَأَهُ كَالْأَذَانِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ، لَيْسَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ(2/45)
بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَأُحِبُّ رَفْعَ الصَّوْتِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ لَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِرِوَايَةِ [أَبِي] يَحْيَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ ".
وَرَوَى ابْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنِ [أَبِيهِ] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كُنْتَ فِي بِادِيَتِكَ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِكَ حَجَرٌ، وَلَا إِنْسٌ، وَلَا حَيٌّ، وَلَا شَجَرٌ، إِلَّا وَشَهِدَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِأَنَّهُ إِعْلَامٌ لِمَنْ غَابَ أَوْ بَعُدَ فَمَا كَانَ أَبْلَغَ كَانَ أَوْلَى فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ لَهُ أَوْلَى فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَخْفَضَ صَوْتًا، وَفِي تَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ ثَانِيَةً أَرْفَعَ صَوْتًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَبَا مَحْذُورَةَ أَنْ يَخْفِضَ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيَرْفَعَهُ بِالتَّرْجِيعِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ.
وَالثَّانِي: الْإِعْلَامُ لِمَنْ غَابَ فَأَمَرَهُ بِخَفْضِ الْأَوَّلِ لِيُعْلَمَ لَهُ الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ فَإِنَّ شَدَّةَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ يَصُدُّ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِخْلَاصِ بِالْقَلْبِ وَأَمَرَهُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ الثَّانِي لِيَحْصُلَ لَهُ إِعْلَامُ مَنْ غَابَ ثُمَّ يَكُونُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَذَانِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَوْتُهُ بِالْأَذَانِ أَرْفَعَ مِنْ صَوْتِهِ بِالْإِقَامَةِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ لِمَنْ غَابَ، وَالْإِقَامَةَ إِعْلَامٌ لِلْحَاضِرِينَ، فَلَوْ خَافَتَ بِالْأَذَانِ مُخَافَتَةً أَسْمَعْ بِهَا وَاحِدًا أَجْزَأَهُ فِي الْفُرَادَى، وَالْجَمَاعَةُ تَتِمُّ بواحد ولواسر بِهِ لَمْ يُجْزِهِ إِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ جَمَاعَةٌ وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ أَجْزَأَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي أَذَانِهِ فَإِنْ تَكَلَّمَ لَمْ يُعِدْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإن نَظْمَ الْأَذَانِ يَزُولُ بِالْكَلَامِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ فِي أَذَانٍ لَمْ يُبْطِلْهُ فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ يَسِيرًا بني على آذان وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخُطْبَةَ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ لَا تُبْطَلُ بِالْكَلَامِ فَالْأَذَانُ الَّذِي هُوَ مَسْنُونٌ أَوْلَى. أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالْكَلَامِ، وَمِنَ السُّنَّةِ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُوَالِيَ(2/46)
أَذَانَهُ، وَلَا يَفْصِلَهُ بِالسُّكُوتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِلْبَاسِ وَفَسَادِ الْإِعْلَامِ فَإِنْ سَكَتَ فِي أَثْنَاءِ أَذَانِهِ بَنَى، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ أَطَالَ السُّكُوتَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ، لِأَنَّ أَذَانَ الْوَقْتِ يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ بِقِرَاءَتِهِ على الصحيح من المذهب.
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ نَامَ فِي أَذَانِهِ أَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ لِخُرُوجِهِ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْأَذَانِ، فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ أَجْزَأَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُوَالَاةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ، فَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي خِلَالِ أَذَانِهِ فَبَنَى أَجْزَأَهُ، فَلَوْ أَحْدَثَ فَتَيَمَّمَ فِي أَذَانِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ، فَأَمَّا إِذَا ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي تَضَاعِيفِ أَذَانِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِ الْأَذَانِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَذَانِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِبُطْلَانِهِ بِالرِّدَّةِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ لِإِسْلَامِهِ فِي الْحَالِ وَتَفْرِيقِهِ لَا يُمْنَعُ الْبِنَاءُ، فَلَوْ مَاتَ فِي أَذَانِهِ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ الْبَنَاءُ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِخْلَافُ غَيْرِهِ فِي تَمَامِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ فِي الصَّلَاةِ يَأْتِي بِهَا كَامِلَةً وَإِنْ بَنَى عَلَى صَلَاةِ غَيْرِهِ، وَالْمُسْتَخْلَفُ فِي الْأَذَانِ إِذَا بَنَى لَمْ يَأْتِ بِهِ كَامِلًا فَلَمْ يُجْزِهِ فَأَمَّا الِاسْتِخْلَافُ فِي الْخُطْبَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْأَذَانِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَالصَّلَاةِ والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وما فات وقته أقام ولم يؤذن وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُبِسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهُوِيٍّ من الليل فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يُؤَذِّنْ وجمع بعرفة بأذان وإقامتين وبمزدلفة بإقامتين ولم يؤذن فدل أن من جمع في وقت الأولى منهما فبأذان وفي الآخرة فبإقامة وغير أذان ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِيمَنْ فَاتَهُ صَلَوَاتٌ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِقَامَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَمَنْهِيٌّ عَنِ الْأَذَانِ لِمَا سوى الصلاة الأولة، وهل من السنة أن يؤذن للصلاة الأولة أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: وَبِهِ قال في القديم أنه يؤذن للصلاة الأولة، وَيُقِيمُ لِمَا سِوَاهَا لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَفَلَ مِنْ خَيْبَرَ فَعَرَّسَ بِالْوَادِي فَلَمْ يَسْتَيْقِظُوا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ لِلصُّبْحِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ فَأَقَامَ لِلصُّبْحِ وَصَلَّى بِهِمْ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَاسْتَوَى حَالُهُ فِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ كَالْإِقَامَةِ.(2/47)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، إِنَّهُ يُقِيمُ لِلْأُولَى وَجَمِيعِ الْفَوَائِتِ، وَلَا يُؤَذِّنُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُبِسَ عَامَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ لِهَوِيٍّ مِنَ اللَيْلِ فَأَخَّرَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يُؤَذِّنْ.
وَرَوَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لَهُمَا وَصَلَّاهُمَا، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ عَلَمٌ عَلَى فَرْضِ الْوَقْتٍ وَلَيْسَ، بِعَلَمٍ عَلَى نَفْسِ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ لِلْجَمْعِ لَا يُؤَذَّنُ لَهَا وَهِيَ فَرْضٌ وَلِأَنَّ فِي الْأَذَانِ لِلْفَوَائِتِ إِلْبَاسًا عَلَى السَّامِعِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَبِهِ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: إِنَّ أَمَّلَ اجْتِمَاعَ النَّاسِ أَذَّنَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّلِ اجْتِمَاعَ النَّاسِ لَمْ يُؤَذِّنْ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْأَذَانِ اجْتِمَاعُ النَّاسِ بِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ مُقَدِّمًا لِلْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَشَاءِ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى ثُمَّ أَقَامَ لِلثَّانِيَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَإِنْ كَانَ مُؤَخِّرًا لِلظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى وَقْتِ الْعَشَاءِ كَانَ حُكْمُ الْأُولَى مِنْهُمَا فِي الْأَذَانِ لَهَا كَالْفَائِتَةِ فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أقاويل فِي الثَّانِيَةِ فَيُقِيمُ لَهَا، وَلَا يُؤَذِّنُ، فَلَوْ أَخَّرَ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ قَدَّمَ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ حِينَ دَخَلَ وَقْتُهَا أَذَّنَ لِلثَّانِيَةِ وَأَقَامَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ الْجَمْعَ بِتَقْدِيمِهَا، وَفِي أَذَانِهِ لِلْأُولَى ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ لِأَنَّهَا فَائِتَةٌ - وَاللَّهُ أعلم -.
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا وَحْدَهُ إِلَّا بِأَذَانٍ، وَإِقَامَةٍ، فإن لم يفعله أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ، لِلصَّلَوَاتِ الْمَفُرَوضَاتِ سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرَادَى فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي حَالٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاجِبَانِ مَعًا، لَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنْ تَرَكَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاجِبَانِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَنُوبُ عَنِ الْآخَرِ فَإِنْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا وَإِنْ تَرَكَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا وَلَمْ يُعِدْ إِنْ كَانَ فَائِتًا، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْإِقَامَةُ وَاجِبَةٌ دُونَ الْأَذَانِ فَإِنْ تَرَكَهُمَا بِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ قَضَى.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، فَلَمَّا كَانَ النِّدَاءُ سَبَبًا لِلسَّعْيِ، وَكَانَ السَّعْيُ وَاجِبًا كَانَ النِّدَاءُ(2/48)
وَاجِبًا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَهُ فِي السَّرَايَا، وَيَأْمُرُهُمْ إِنْ لَمْ يَسْمَعُوا الْأَذَانَ يَشُنُّوا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَإِنْ سَمِعُوا الْأَذَانَ كَفُّوا، وَلَمْ يَشُنُّوا الْغَارَةَ فَصَارَتْ مَنْزِلَةُ الْأَذَانِ فِي مَنْعِ التَّحْرِيمِ مَنْزِلَةَ الْإِيمَانِ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُذْ شَرَعَ الْأَذَانَ دَاوَمَ عَلَيْهِ لِصَلَوَاتِهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي تَرْكِهِ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَأَبَانَ حُكْمَهُ بِالتَّرْكِ لَهُ، وَلَوْ دَفَعَهُ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا ثَبَتَ عَنْ مَشُورَةٍ أَوْقَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ أَصْحَابِهِ حَتَّى تَقَدَّرَ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى الْأَذَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَنْدُوبَاتِ الْمَسْنُونَاتِ، لِأَنَّهُ مَا شَرَّعَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّهُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا جَاءَ فَدَخَلَ فِي صَلَاةِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ قَامَ فَقَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْهَا فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ مَعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ فَاتَّبِعُوهُ ".
قُلْنَا: هَذَا دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ فَصَارَ شَرْعًا بِأَمْرِهِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ قَدْ عُلِمَ بِالشَّرْعِ قَبْلَ فِعْلِ مُعَاذٍ وَإِنَّمَا مُعَاذٌ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لَوْ وَجَبَ لِلصَّلَاةِ وَكَانَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَمَانُهُ مُسْتَثْنًى مِنْ وَقْتِهَا فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ " إِشَارَةً إِلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ زَمَانَ الْأَذَانِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ لَهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ؛ وَلَا يَعُمُّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ يَلْزَمُهُمُ السَّعْيُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا يَفْسُدُ بِرَدِّ السَّلَامِ هُوَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ أَصْلُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّدِّ وَاجِبًا فَلَمْ يُسَلِّمِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ تُفَارِقُ غَيْرَهَا على ما يذكره.
وَأَمَّا أَمْرُهُ بِشَنِّ الْغَارَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانَهُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الشِّرْكِ مُخَالِطَةٌ لِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَكُنْ يَمْتَازُ الْفَرِيقَانِ إِلَّا بِهِ فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ تَمَيَّزُوا فِي الدَّارِ وَاشْتَهَرُوا بِالْإِسْلَامِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ هَذَا الْحُكْمُ بِهِ أَلَا تَرَاهُ قال أيضا: إذا رأيتم مسجد فَلَا تُغِيرُوا وَكُفُّوا، وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى وُجُوبِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا مُلَازَمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ كَمَا لَازَمَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لِتَأَكُّدِهِمَا لَا لِوُجُوبِهِمَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْأَذَانَ فِي السَّفَرِ بِعَرَفَةَ وَفِي الْحَضَرِ عَامَ الْخَنْدَقِ، وَلَمْ يَقْضِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَقَضَاهُ كَالصِّيَامِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لَيْسَا بِفَرْضٍ عَلَى الْأَعْيَانِ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَرَدِّ السَّلَامِ فَإِذَا قام به(2/49)
مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ، كَذَلِكَ الْأَذَانُ إِذَا انْتَشَرَ فِعْلُهُ فِي الْبَلَدِ وَالْقَبِيلَةِ انْتِشَارًا ظَاهِرًا سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِنْ لَمْ يُؤَذَّنْ، أَوْ أُذِّنَ وَلَمْ يَنْتَشِرْ فِي الْبَلَدِ انْتِشَارًا ظَاهِرًا خَرَجَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ، وَأَمَّا أَذَانُ الْجُمْعَةِ فَزَعَمَ أَبُو سَعِيدٍ: أَنَّهُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْأَذَانَ لِلْجُمْعَةِ وَغَيْرِهَا سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ مَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَى أَعْيَانِ الْجَمَاعَاتِ وَآحَادِ الْمُصَلِّينَ مَنَعَ مِنْ إِيجَابِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَأَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا عَلَيْهِ وَحُورِبُوا لِأَجْلِهِ وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَوْ أَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ فَهَلْ يُقَاتَلُونَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهِ، لِأَنَّ فِي إِهْمَالِهِمْ وَتَرْكِهِ ذَرِيعَةً إِلَى إِهْمَالِ السُّنَنِ وَحَابِطًا لَهَا حَتَّى إِذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهِ وَنَشَأَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ لَمْ يَرَوْهُ سُنَّةً وَلَا اعْتَقَدُوهُ شَرْعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهِ وَلَكِنْ يُعَنَّفُونَ بِالْقَوْلِ وَيُزْجَرُونَ بِالْإِنْكَارِ، وَلَوْ قُوتِلُوا عَلَيْهِ لَخَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْمَسْنُونِ إِلَى حَدِّ الِوَاجِبِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْمَفْرُوضَاتِ كُلِّهَا فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرَادَى فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر أبا سعيد الخدري به فِي تَأْذِينِهِ إِلَّا أَنَّ الْأَذَانَ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْكَدُ وَتَرْكَهُ فِي الْفُرَادَى أَيْسَرُ، وَهُوَ فِي الْحَضَرِ أَوْكَدُ، وَتَرْكُهُ فِي السَّفَرِ أَقْرَبُ، وَإِنَّ كَانَ سُنَّةً فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا.
رَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: " أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَا وَرَجُلٌ فَوَدَّعَنَا وَقَالَ: إِذَا سَافَرْتُمَا وَحَضَرَتِ الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما ".
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ صَلَاةَ وَقْتِهِ فَسَمِعَ أَذَانًا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَذَانُ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي يَحْضُرُهَا وَيُصَلِّي مَعَهَا سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ الْأَذَانِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْأَذَانِ، وَإِنْ كَانَ يصلي في منفردا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ سُنَّةُ الْأَذَانِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْأَذَانِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِسَمَاعِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْ جَمَاعَةٍ.
وَالثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ سُنَّةَ الْأَذَانِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ أذانا مسنونا.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ مَسْجِدًا قَدْ أُقِيمَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ مُنْفَرِدًا، أَسَرَّ الْأَذَانَ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَةً تَخَيَّرَ بِالْأَذَانِ لَهَا، فإن كان(2/50)
هَذَا مَسْجِدًا عَظِيمًا لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ بِوِلَايَةٍ سُلْطَانِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ دَخَلَهُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَتِهِ، وَلَا أَنْ يَجْهَرَ بِالْأَذَانِ بَعْدَ أَذَانِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَقِّ الْعَصَا وَخَوْفِ التَّقَاطُعِ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا مِنْ مَسَاجِدِ الْمَحَالِّ وَالْأَسْوَاقِ الَّتِي يَؤُمُّ فِيهَا جِيرَانُهَا جَازَ إِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ جَمَاعَتِهِ، وَالْجَهْرُ بِالْأَذَانِ بَعْدَ أَذَانِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُقِيمَ وَلَا تُؤَذِّنَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أَجْزَأَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهَ الْأَذَانَ لَهَا، وَاسْتَحَبَّ الْإِقَامَةَ لِرِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ، وَلَا إِقَامَةٌ، وَلَا جُمُعَةٌ، وَلَا اغْتِسَالٌ لِلْجُمُعَةِ، وَلَا تَقَدَّمَهُنَّ امْرَأَةٌ، لَكِنْ تَقُومُ وَسْطَهُنَّ " وَعُنِيَ بِالْإِقَامَةِ مَا يفعله مؤذنوا الجماعة من الجهر بها، ولأن الأذان دعاه مَنْ غَابَ وَبَعُدَ، وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ مَأْمُورَةٌ بِلُزُومِ الْمَنْزِلِ وَصَلَاتُهَا فِيهِ أَفْضَلُ، وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَهِيَ اسْتِفْتَاحُ صَلَاةٍ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ كَاسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الإحرام.
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالْعَبْدُ فِي الْأَذَانِ كَالْحُرِّ ".
فَاحْتَمَلَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَذِّنًا كَالْحُرِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ لَهُ الْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ لِصَلَاتِهِ كَالْحُرِّ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ لِأَنَّ مَسْنُونَاتِ الصَّلَاةِ وَمَفْرُوضَاتِهَا يَسْتَوِي فِيهَا الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، إِلَّا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ [لِنَفْسِهِ] لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِخِدْمَتِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُؤَذِّنًا لِلْجَمَاعَةِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لأن في ذلك إضرار بِخِدْمَتِهِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَى مُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: [القول مثلما يقول المؤذن] قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ في صلاة فإذا فرغ قاله وترك الأذان في السفر أخف منه في الحضر ".
قال الماوردي: هذا كما قال يُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِ لِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يقول المؤذن ".(2/51)
وروى أبو عبد الرحمن - يعني الحبلي - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا انْتَهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَ ".
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْأَذَانِ كُلِّهِ إِلَّا فِي الْمَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَيَقُولُ الْمُسْتَمِعُ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ فَيَقُولُ الْمُسْتَمِعُ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ مَا سِوَى هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ذِكْرُ اللَّهِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُؤَذِّنُ وَالْمُسْتَمِعُ، وَهَذَانِ الْمَوْضِعَانِ خِطَابٌ لِلْآدَمِيِّينَ فَعَدَلَ الْمُسْتَمِعُ عَنْهُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ في الاستغاثة به والرغبة إليه في إمامة الصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا فَمِنَ السُّنَّةِ لِكُلِّ مُسْتَمِعٍ أَنْ يَقُولَهُ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَلَيْسَ هَذَا كَالْأَذَانِ الَّذِي يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّ هَذَا [دُعَاءٌ] وَذَلِكَ نِدَاءٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَمِعُ مِمَّنْ يَحْضُرُ تِلْكَ الْجَمَاعَةَ أَوْ لَا يَحْضُرُهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُ عَلَى غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَهُ، وَلَوْ كَانَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَطَعَ قِرَاءَتَهُ، وَقَالَ كَقَوْلِهِ: فَإِذَا فَرَغَ عَادَ فِي قِرَاءَتِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي طَوَافٍ قَالَهُ وَهُوَ عَلَى طَوَافِهِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْكَلَامِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ فِي صَلَاةٍ أَمْسَكَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَهُ فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَقُولَهُ عَلَى شِبْهِ الْمُسْتَمِعِ، أَوْ عَلَى شِبْهِ الْمُؤَذِّنِ، فَإِنْ قَالَهُ عَلَى شِبْهِ لِسَانِ الْمُسْتَمِعِ وَأُبْدِلَ مِنْ قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً سَوَاءٌ أَتَى بِذَلِكَ سَاهِيًا أَوْ عَامِدًا، لِأَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ فَإِذَا أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسَدْ صَلَاتُهُ، كَالْقَارِئِ فِي رُكُوعِهِ، وَالْمُسَبِّحِ فِي قِيَامِهِ وَإِنْ قَالَهُ عَلَى شِبْهِ الْمُؤَذِّنِ فَقَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَقَالَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ قَالَهُ نَاسِيًا لِصَلَاةٍ أَوْ جَاهِلًا، بِأَنَّ مَا قَالَهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ كَالْمُتَكَلِّمْ نَاسِيًا، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ عَالِمًا بِأَنَّ مَا قَالَهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كالمتكلم عامدا.(2/52)
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالْإِقَامَةِ فُرَادَى إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ قد قامت الصلاة مرتين وكذلك كان يفعل أبو محذورة مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإن قال قائل قد أمر بلال بأن يوتر الإقامة قيل له فأنت تثني الله أكبر الله أكبر فتجعلها مَرَّتَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ فُرَادَى إِلَّا قَوْلَهُ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " فإنه يقول: مرتين فتكون إحدى عشر كَلِمَةً، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ فُرَادَى مَعَ قَوْلِهِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ فَيَكُونُ عَشْرَ كَلِمَاتٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة: أَنَّهُ مَثْنَى مَثْنَى كَالْأَذَانِ وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " مَرَّتَيْنِ فَيَكُونُ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً.
اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ أَنَّ مَكْحُولًا حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ مُحَيْرِيزٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً " وَبِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ مَثْنَى مَثْنَى، وَيُقِيمُ [مثنى] مثنى.
وروي أن أبا طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ رَجُلًا يُفْرِدُ الْإِقَامَةَ فَقَالَ: ثَنِّ لَا أُمَّ لَكَ قَالَ: وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى كَالْأَذَانِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَحْوَطُ فِي الْإِقَامَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَهُوَ فِي الْأَذَانِ كَالطَّرَفِ الْأَخِيرِ قَالَ: وَلِأَنَّ فِي الْإِقَامَةِ مَا لَيْسَ فِي الْأَذَانِ فَلَا يَكُونُ مَا فِيهَا مَا فِي الْأَذَانِ أَوْلَى.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ سِمَاكٍ عَنْ أيوب عن أبي قلابة عن أنس: أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوَتِّرَ الْإِقَامَةَ.
وروى يعمر عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوَتِّرَ الإقامة إلى قَوْلَهُ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ "، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ الأذان على(2/53)
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّتَيْنِ مَرْتَيْنِ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ سَعْدٍ الْقَرَظُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى، وَأَقَامَ فُرَادَى، وَقَالَ هَذَا الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ بِهِ لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَإِنَّهُ كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَثْنَى مَثْنَى، وَالْإِقَامَةُ فُرَادَى.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أنه قال: نزل جبريل بالإقامة فرادى، وَلِأَنَّهُ ثَانٍ لِأَوَّلَ يُسْتَفْتَحُ بِتَكْبِيرَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَقْصَرَ مِنَ الْأَوَّلِ، كَصَلَاةِ العيدين في عدد التكبير، ولأن الأذان أو في صِفَةً مِنَ الْإِقَامَةِ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ مُرَتَّلًا، وَبِالْإِقَامَةِ إِدْرَاجًا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَوْفَى قَدْرًا، كالركعتين الأوليتين لَمَّا كَانَتْ أَوْفَى صِفَةً بِالْجَهْرِ كَانَتْ أَوْفَى قَدْرًا بِالسُّورَةِ، وَلِأَنَّ أَسْبَابَ الصَّلَاةِ إِذَا تَجَانَسَتْ، وَبُنِيَ أَحَدُهُمَا عَلَى التَّخْفِيفِ بُنِيَ عَلَى التَّبْعِيضِ، كَالتَّيَمُّمِ لَمَّا جَانَسَ الْوُضُوءَ ثُمَّ يُبْنَى عَلَى التخفيف في تجويزه بِالتُّرَابِ، وَالْمَسْحِ بُنِيَ عَلَى التَّخْفِيفِ فِي الِاقْتِصَارِ مِنَ الْأَعْضَاءِ عَلَى الْبَعْضِ وَالرَّأْسِ، لَمَّا قُصِرَ عَنِ الْأَعْضَاءِ بِالتَّخْفِيفِ قَسْمًا قُصِرَ عَنْهَا بِالتَّخْفِيفِ تَبْعِيضًا، فَلَمَّا كَانَتِ الْإِقَامَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّخْفِيفِ إِدْرَاجًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّخْفِيفِ تَبْعِيضًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَبِلَالٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً تَعْقُبُهَا أَخْبَارُنَا، لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِفْرَادِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَلَى خِلَافِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَإِنْ عَارَضَتْ أَخْبَارَنَا فَأَخْبَارُنَا أَوْلَى لِمُطَابَقَةِ فِعْلِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ لَهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَذَانِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا وُضِعَ لِلْإِعْلَامِ كَانَ أَكْمَلَ قَدْرًا كَمَا كَانَ أَكْمَلَ صِفَةً، وَالْإِقَامَةُ لَمَّا وُضِعَتْ لِلِاسْتِفْتَاحِ كَانَتْ أَقَلَّ قَدْرًا، كَمَا كَانَتْ أَقَلَّ صِفَةً.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْأَذَانَ لَمَّا كَانَ مَوْضُوعًا لِلْإِعْلَامِ وَكَانَ الْإِعْلَامُ بِأَوَّلِهِ كَانَ أَوَّلُهُ زَائِدًا عَلَى آخِرِهِ زائد الحصول الْإِعْلَامِ بِأَوَّلِهِ وَالْإِقَامَةُ لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِفْتَاحِ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْإِقَامَةِ مَا لَيْسَ فِي الْأَذَانِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا في الأذان، ففاسد بالتثويب ثم بالترتيل فإن صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَالسُّنَّةُ فِي الْأَذَانِ التَّثْنِيَةُ بالترجيع والسنة(2/54)
فِي الْإِقَامَةِ الْإِفْرَادُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: كُلُّ هَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى [مِنْ] بَعْضٍ، وَهَذَا قَوْلٌ مُطْرَحٌ بِإِجْمَاعِ المتقدمين على الاختلاف في أفضله وأوله.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الْمُزَنِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فِي الْقَدِيمِ يزيد في أذان الصبح التثويب وهو " الصلاة خير من النوم " مرتين ورواه عن بلال مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعن علي رضي الله عنه وكرهه في الجديد لأن أبا محذورة لم يحكه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال المزني) وقياس قوليه أن الزيادة أولى به في الأخبار كما أخذ في التشهد بالزيادة وفي دخول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - البيت بزيادة أنه صلى فيه وترك من قال لم يفعل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّثْوِيبُ فَهُوَ [قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ] بَعْدَ قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " سُمِّيَ تَثْوِيبًا مِنْ قَوْلِهِمْ ثَابَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا أَيْ: رَجَعَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ قَدْ رَجَعَ إِلَى دُعَاءِ النَّاسِ بَعْدَ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125] أَيْ: رَجْعًا لَهُمْ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، إِلَى أَنَّ التَّثْوِيبَ سُنَّةٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَيْسَ بِسُنَّةٍ، لِأَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ لَمْ يَحْكِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدًا فَسَمِعَ تَثْوِيبَ الْمُؤَذِّنِ، فَقَالَ: لِمَنْ مَعَهُ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَاعْتِبَارًا بِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ أَصَحُّ، لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ مَا ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ أَوَّلُ رَاجِعٍ إِلَيْهِ وَآخِذٌ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِالتَّثْوِيبِ مِنْ جِهَاتٍ.
مِنْهَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَقِيلَ هُوَ نَائِمٌ فَقَالَ الصلاة خير من النوم، وعاد يؤذن وزاد في أذانه الصلاة خير من النوم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا الَّذِي زِدْتَ فِي أَذَانِكَ قَالَ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ظَنَنْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ ثَقُلْتَ عَنِ الصَّلَاةِ قَالَ: " زِدْهَا فِي أَذَانِكَ ".
وَمِنْهَا رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلْقَى عَلَيْهِ الْأَذَانَ قَالَ: " تَقُولُ فِي الْفَجْرِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ".(2/55)
وَمِنْهَا رِوَايَةُ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: " أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُثَوِّبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ وَلَا يُثَوِّبَ فِي غَيْرِهِ ".
وَمِنْهَا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: " أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ أُثَوِّبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ وَنَهَانِي أَنْ أُثَوِّبَ فِي غَيْرِهِ " فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ سُنَّةُ التَّثْوِيبِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ، فَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّمَا أَنْكَرَ التَّثْوِيبَ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ وَذَاكَ بِدْعَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ التَّثْوِيبَ فِيهَا سُنَّةٌ كَالصُّبْحِ، وَهَذَا خَطَأٌ بِنَصِّ السُّنَّةِ الَّتِي رُوِّينَاهَا عَنْ سُوَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، ثُمَّ طَرِيقُ الْمَعْنَى: أَنَّ الصُّبْحَ إِنَّمَا يُثَوَّبُ فِيهَا لِكَوْنِ النَّاسِ نِيَامًا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَالْأَذَانِ لَهَا وَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ تَدْخُلُ أَوْقَاتُهَا وَالنَّاسُ مُسْتَيْقِظُونَ فَلَمْ يثوب لها.
(مسألة)
: قال الشَّافِعِيِّ: " وَأُحِبُّ أَنْ لَا يُجْعَلَ مُؤَذِّنُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا عَدْلًا ثِقَةً لِإِشْرَافِهِ عَلَى النَّاسِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا أَخْبَرَنَا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَدْلًا أَمِينًا لِرِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ، وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ فَأَرْشِدِ اللَّهُ الأئمة واغفر للمؤذنين ".
وروى الحكم بن أبان عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يؤذن لكم خياركم، ويؤمكم أقرأكم ".
وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا بَنِي خَطْمَةَ اجْعَلُوا مُؤَذِّنَكُمْ أَفْضَلَكُمْ "، وَلِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ، وَرُبَّمَا أَشْرَفَ فِي صُعُودِ الْمَنَارَةِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ فَإِذَا كَانَ أَمِينًا كَفَّ بَصَرَهُ وَصَدَقَ خَبَرُهُ.
(فَصْلٌ)
: وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ لِيَعْلَمَ دُخُولَ الْوَقْتِ فَيُؤَذِّنُ فِي أَوَّلِهِ فَيُدْرِكُ النَّاسُ فَضِيلَةَ التَّعْجِيلِ، فَإِذَا كَانَ ضَرِيرًا، أَوْ بَصِيرًا جَاهِلًا بِالْأَوْقَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِالْأَذَانِ خَوْفًا مِنَ الْخَطَأِ فِي التَّقْدِيمِ، أَوِ الْفَوَاتِ بِالتَّأْخِيرِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِبَصِيرٍ عَارِفٍ فَيُؤَذِّنُ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَيَجُوزُ، قَدْ كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرِيرًا يُؤَذِّنُ مَعَ بلال، فأما غير البالغ فمكروه الارتسام(2/56)
بالأذان مُرَاهِقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ، فَإِنْ أَذَّنَ جَازَ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَذِّنًا لِلرِّجَالِ، فَإِنْ أَذَّنَتْ لَمْ يُعْتَدَّ بِأَذَانِهَا وَقَالَ أبو حنيفة: يُعْتَدُّ بِأَذَانِ الْمَرْأَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الرِّجَالِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَذَانِهِ كَالْكَافِرِ وَالْمَجْنُونِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَأُحِبُّ أَنْ لَا يُجْعَلَ مُؤَذِّنُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا عَدْلًا ثِقَةً " فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا ثِقَةً، وَلَيْسَ التَّأْكِيدُ مُتَكَرِّرًا، كَمَا تَقُولُ صِدْقٌ وَبِرٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا عَدْلًا إِنْ كَانَ حُرًّا ثِقَةً إِنْ كَانَ عَبْدًا، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُوصَفُ بِالْعَدَالَةِ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَرَادَ إِلَّا عَدْلًا - يَعْنِي - فِي دِينِهِ ثِقَةٌ - يَعْنِي - فِي عِلْمِهِ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِإِشْرَافِهِ عَلَى النَّاسِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِإِشْرَافِهِ عَلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ عِنْدَ صُعُودِ الْمَنَارَةِ.
وَالثَّانِي: لِإِشْرَافِهِ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ، وَرُجُوعِ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ فِيهَا وَقَدْ أَشَارَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ فِي الْقَدِيمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَهُمَا جميعا.
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا وَأَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ أَرَقَّ لِسَامِعِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ صِيِّتًا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُغْفَرُ لِلْمُؤَذِّنِ مَدَى صَوْتِهِ " وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: " أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ "؛ وَلِأَنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَدْعَى لِسَامِعِهِ إِلَى الْحُضُورِ.
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُتَرَسِّلًا بَغَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا يُغَنَّى فِيهِ وَأُحِبُّ الْإِقَامَةَ إِدْرَاجًا مُبِينًا وَكَيْفَ مَا جَاءَ بِهِمَا أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُؤَذِّنَ مُتَرسِّلًا وَيُقِيمَ إِدْرَاجًا مُبَيِّنًا لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبِلَالٍ إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذَرْ "، وَلِأَنَّ التَّرَسُّلَ فِي الْأَذَانِ أَبْلَغُ فِي إِعْلَامِ الْأَبَاعِدِ، وَالْإِدْرَاجَ أَعْجَلُ فِي اسْتِفْتَاحِ الْحَاضِرِ فَأَمَّا التَّرَسُّلُ فَهُوَ تَرْكُ الْعَجَلَةِ مَعَ(2/57)
الْإِبَانَةِ، وَأَمَّا الْإِدْرَاجُ فَهُوَ طَيُّ الْكَلَامِ بِسُرْعَةٍ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا تغني فِيهِ فَفِي التَّمْطِيطِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْإِعْرَابُ الْفَاحِشُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَفْخِيمُ الْكَلَامِ وَالتَّشَادُقُ فِيهِ، وَيُكْرَهُ تَلْحِينُ الْأَذَانِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِالتَّلْحِينِ عَنْ حَدِّ الْإِفْهَامِ، وَلِأَنَّ السَّلَفَ تَجَافُوهُ وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ الْعَجَمُ فِي بِلَادِهِمْ، وَلَوْ خَالَفَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَيْئَتِهِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْهَيْئَاتِ لَا تَقْتَضِي الْفَسَادَ كَمَنْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، أَوْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ.
(فَصْلٌ: الْأَذَانُ بالفارسية)
فَأَمَّا إِنْ أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَإِنْ كَانَ أَذَانُهُ لِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يُحْسِنُ، وَإِنْ كَانَ أَذَانُهُ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يُجْزِهِ، كَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَجْزَأَهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ.
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي بِهِمْ فَاضِلًا قَارِئًا عَالِمًا وَأَيُّ النَّاسِ أَذَّنَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ بِصَاحِبِهَا وَالِاتِّبَاعَ لِمَنِ انْتَدَبَ لَهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا فِي دِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ، عَالِمًا بِالصَّلَاةِ وَمَوَاقِيتِهَا وَأَحْكَامِهَا قَارِئًا لِمَا يَحْتَاجُ إِلَى قِرَاءَتِهِ [فِيهَا] فَإِنْ كَانَ حَافِظًا كَانَ أَوْلَى فَإِنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ وَالتَّقَدُّمِ لَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأَيُّ النَّاسِ أَذَّنَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ " - يَعْنِي؛ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَخَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله ".
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُونَ اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ الَذِي حَفِظْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بلال وابن أم مكتوم فإن كان المؤذنون أكثر أذنوا واحدا بعد واحد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ نَدَبَهُمُ الْإِمَامُ لِلْأَذَانِ وَرَتَّبَهُمْ فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَإِلَّا، فَلَوْ أَذَّنَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ كَافَّةً لَمْ يُمْنَعُوا وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ بِلَالٌ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُؤَذِّنَانِ سَعْدٌ الْقَرَظُ، وَآخَرُ وَإِنْ لَمْ يَكْتَفِ بِاثْنَيْنِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ جَعَلَهُمْ أَرْبَعَةً، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَهُمْ حِينَ اتَّسَعَتِ الْمَدِينَةُ أَرْبَعَةً، فَإِنْ لَمْ يَكْفِ جَعَلَهُمْ سِتَّةً فَإِنْ زَادَ فَثَمَانِيَةً لِيَكُونُوا شَفْعًا، وَلَا يَكُونُوا وِتْرًا، ثُمَّ يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ مَا كَانَ بَيْنَ أَذَانِ بِلَالٍ، وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا، وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَخْتَلِطُ بِاجْتِمَاعِهِمْ فَلَا يُفْهَمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ كَبِيرًا(2/58)
وَالْمَسْجِدُ وَاسِعًا. فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْأَذَانِ دُفْعَةً وَاحِدَةً " كَالْبَصْرَةِ "، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ أَصْوَاتِهِمْ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ وَيَتَّفِقُوا فِي الْأَذَانِ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي كَلِمَةٍ مِنْهُ أَبْيَنُ وَإِذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتَلَطَ، وَإِذَا أَذَّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ أَذَّنُوا عَلَى الْوَلَاءِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْآخَرِ بِكَثِيرٍ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ إِنْ كَانَ يَنْزِلُ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا مَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا وَإِلَّا بَيْنَهُمَا، لأنه يَتَنَفَّلُ قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَغْرِبٍ أَمْهَلَ قَدْرَ مَا يَتَأَهَّبُ النَّاسُ وَيَحْضُرُ الْإِمَامُ، وَيَتَنَفَّلُ بِالْقَدْرِ الْمَسْنُونِ ثُمَّ يَرْفَعُ بِالْإِقَامَةِ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا عِنْدَ كُلِّ أَذَانٍ رِكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ ".
وَيَخْتَارُ أَنْ يُقِيمَ لِلصَّلَاةِ مَنْ أَذَّنَ لَهَا لِرِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ وَإِنَمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ، فَإِنْ أَقَامَ غَيْرُ مَنْ أَذَّنَ فَلَا بَأْسَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ فَأَذَّنَ بِلَالٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَا رأيته؛ وأنا كنت أريده فقال أقم أَنْتَ ".
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ إِقَامَةِ الْمُؤَذِّنِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَيْخًا بَطِيءَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَابًّا سَرِيعَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْإِقَامَةِ، فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْقَائِمِينَ لِيَسْتَوُوا فِي صُفُوفِهِمْ قِيَامًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وَحَضَرَ قَوْمٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَذَّنَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً بِأَذَانِهِ، رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذَانًا فَقَالَ: كَمَا قَالَ وَانْتَهَى إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَنَزَلَ وَقَالَ: انْزِلُوا وَصَلُّوا بِأَذَانِ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ ".
وَهَذَا يَجُوزُ عَلَى جَوَازِ أَذَانِ الْعَبْدِ، وَهَكَذَا الْمُدْبِرُ، وَالْمُكَاتِبُ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يَرْزُقُهُمُ الْإِمَامُ وَهُوَ يَجِدُ مُتَطَوِّعًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْزُقَ مُؤَذِّنًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا وَجَدَ الْإِمَامُ ثِقَةً يَتَطَوَّعُ بِالْأَذَانِ بَصِيرًا بِالْأَوْقَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ أُجْرَةً لِرِوَايَةِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: يَا(2/59)
رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي فَقَالَ: " أَنْتَ إِمَامُهُمْ فَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا ". وَلِأَنَّ مَا بِيَدِ الْإِمَامِ مُرْصَدٌ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْمَاسَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا بِالْأَذَانِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا، وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنْهُ، وَمِنْ سَائِرِ الْقُرَبِ أَنْ يُؤْخَذَ رِزْقٌ عَلَيْهَا، وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ " الْحَجِّ " غَيْرَ أَنَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى حَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ ها هنا مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رزق مؤذنه، وَلِأَنَّ مَا بِيَدِ الْإِمَامِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْمُؤَذِّنَ أُجْرَةً، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ رِزْقًا، لِأَنَّ أَعْمَالَ الْقُرَبِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، قَسْمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْهَا أُجْرَةٌ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ، كَالْحَجِّ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ لَكِنْ قَدْ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْغَيْرِ، كَالْأَذَانِ، [وَالْإِقَامَةِ] ، وَالْقَضَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، كَالْجِهَادِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يَرْزُقُهُ إِلَّا مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يجوز أن يرزقه من الفيء ولا من الصدقات لأن لكل مالكا موصوفا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ رِزْقُ الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ، وَالْقَاضِي يَكُونُ مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ، وَالْمَالُ الْمُعَدُّ لِلْمَصَالِحِ هُوَ خُمْسُ الْخُمْسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْمَغَانِمِ سَهْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ مُرْصَدٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ فَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنْهَا، لِأَنَّهَا مَالُ الْغَانِمِينَ، وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ فِي غَيْرِهِمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ فِي أَرْزَاقِ الْمُؤَذِّنِينَ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْقُضَاةِ، وَأَمَّا أَمْوَالُ الزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ فَذَلِكَ لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَأَهْلِ السَّهْمِ الْمَذْكُورِينَ لَهَا لَا يَجُوزُ أن تصرف في غيرهم.
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ الْأَذَانَ لِمَا جَاءَ فِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ فَأَرْشِدِ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وغفر للمؤذنين ".(2/60)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَذَانُ فَالْقِيَامُ بِهِ فَضِيلَةٌ، وَفِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَالتَّشَاغُلِ بِهِ قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي التَأْذِينِ لَتَنَافَسُوا فِيهِ}
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ القيامة "
وفي ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ رَجَاءً وَأَمَلًا، وَمِنْ قَوْلِهِمْ عُنُقِي إِلَيْكَ مَمْدُودٌ
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ جَمْعًا، وَأَظْهَرُهُمْ حِزْبًا، مِنْ قَوْلِهِمْ رَأَيْتُ عُنُقًا مِنَ النَّاسِ أَيْ: جَمْعًا
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ إِسْرَاعًا إِلَى الْخَيْرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يَسِيرُ الْعُنُقَ أَيْ: يُسْرِعُ فِي السَّيْرِ
وَرَوَى زِيَادٌ أَبُو مَعْشَرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: " لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا مَا بَالَيْتُ أَلَّا أُجَاهِدَ، وَلَا أَحُجَّ، وَلَا أَعْتَمِرَ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ "
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: " ما أتسامح على شئ إِلَّا أَنَّنِي كُنْتُ سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الأذان للحسن والحسين - والله أعلم - "
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ فَضْلُ الْأَذَانِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَالْإِقَامَةُ فَضِيلَةٌ أَيْضًا وَالْقِيَامُ بِهَا سُنَّةٌ، رَوَى الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ فأرشد الأئمة وأغفر للمؤذنين "
فإذا قِيلَ: فَأَيُّمَا أَفْضَلُ الْأَذَانُ أَوِ الْإِقَامَةُ قُلْنَا للإنسان فِيهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُمْكِنَهُ الْقِيَامُ بهما والفراغ لهما والجمع بينهما أولى لحوز شَرَفِ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَثَوَابِ الْفَضِيلَتَيْنِ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْإِمَامَةِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَضَعْفِ قِرَاءَتِهِ، وَيَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَذَانِ، لِعُلُوِّ صَوْتِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأَوْقَاتِ فَأَوْلَى بِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْأَذَانِ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْإِمَامَةِ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْأَذَانِ لِضَعْفِ قُوَّتِهِ وَقِلَّةِ إِبْلَاغِهِ وَيَكُونَ قَيِّمًا بِالْإِمَامَةِ، لِعِلْمِهِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَصِحَّةِ قِرَاءَتِهِ، فَالْأَفْضَلُ لِهَذَا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا وَلَا يُنْتَدَبُ للأذان(2/61)
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَصْلُحَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَعْجِزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ أن ينقطع إليه وينفر بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِمَامَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَذَانِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَفَرَّدَ بِالْإِمَامَةِ دُونَ الْأَذَانِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ إِلَّا بِأَفْضَلِ الْأَمْرَيْنِ وَأَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَظْهَرُ مَشَقَّةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَذَانَ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ فَأَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ " فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى فَضْلِ الْأَذَانِ عَلَى الْإِمَامَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْزِلَةَ الْأَمَانَةِ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ الضَّمَانِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْإِمَامِ بِالرُّشْدِ، وَذَلِكَ لِخَوْفِهِ مِنْ زيغه، وَدَعَا لِلْمُؤَذِّنِ بِالْمَغْفِرَةِ وَذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِسَلَامَةِ حَالِهِ، وَأَمَّا تَرْكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَذَانَ بِالْإِمَامَةِ فَفِيهَا أَجْوِبَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الأذان الشهادة برسالته واعترف غَيْرِهِ بِذَلِكَ أَوْلَى
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَذَّنَ لَكَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ وَأَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَتْبَعَهُ الْمُؤَذِّنُونَ فِيهِ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مُتَشَاغِلًا بِالرِّسَالَةِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْفَرَاغِ لِلْأَذَانِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَوْلَا الخلافة لأذنت "
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا إِلَّا أَنْ يَشْتَدَّ الْحَرُّ فَيُبْرِدَ بِهَا في مساجد الجماعات لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله " وأقل ما للمصلي في أول وقتها أن يكون عليها محافظاً ومن المخاطرة بالنسيان والشغل والآفات خارجاً
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَلَى مَا سَنُفَصِّلُهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ إِلَّا الْمَغْرِبَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأُجُورِكُمْ "(2/62)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لِبِلَالٍ أَنْوِرْ بِالْفَجْرِ حَتَّى تَرَى مَوَاقِعَ النَّبْلِ "
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ "
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا: هِيَ الْمُبَادَرَةُ بِفِعْلِهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا لِيَأْمَنَ ضَيَاعَهَا، أَوْ عَارِضًا يَقْطَعُ عَنْ أَدَائِهَا، وَرَوَتْ أُمُّ فَرْوَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: " الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ". وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُ الْوَقْتِ عفو الله "
(مسألة)
: قال الشافعي: " ورضوان الله إنما يَكُونُ لِلْمُحْسِنِينَ وَالْعَفْوُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَصِّرِينَ والله أعلم "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَرَوَى أَبُو مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَأَوْسَطُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ "
وَرَوَى سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ وَقْتِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ والصُبْحَ بِغَلَسٍ
وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مُدَاوَمَةِ فِعْلِهِ وَهَذِهِ أَوَّلُ الْأَوْقَاتِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عَجَّلَهَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا أَمِنَ مِنْ فَوَاتِهَا وَنِسْيَانِهَا
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَسْتَنْسِئُوا الشَّيْطَانَ " يُرِيدُ أَنَّكَ إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ فَلَا تُؤَخِّرْهُ، مأخوذ من نشأت الشَّيْءَ إِذَا أَخَّرْتُهُ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:(2/63)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّبْحَ صُبْحَانِ صُبْحُ الْفَجْرِ وَالثَّانِي صبح النهار. فأراد به الصبح الأول، لأن لا تُقَدَّمَ الصَّلَاةُ مَعَ الشَّكِّ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى شَاكًّا فِي الْفَجْرِ ثُمَّ أَعَادَهُ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِصْبَاحَ بِهَا إِنَّمَا هُوَ اسْتِدَامَتُهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ الدُّخُولِ فِيهَا لِيُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَيُدْرِكَهَا الْمُتَأَخِّرُ عَنْهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِبِلَالٍ: " نَوِّرْ بِالْفَجْرِ حَتَّى تَرَى مَوَاقِعَ النَّبْلِ " فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْفَجْرَ الثَّانِيَ، لِأَنَّ لَهُ نُورًا فَرُبَّمَا رَأَى النَّاسُ مَعَهُ مَوَاقِعَ النَّبْلِ، أَوْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ دُفْعَةً حِينَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَآخِرَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ " فَإِنَّمَا عَنَى مَنْ أَدَّى صَلَاةَ وَقْتِهِ وَجَلَسَ لِانْتِظَارِ الْأُخْرَى
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَعْجِيلُ الصَّلَوَاتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ فَنَقُولُ أَمَّا الصُّبْحُ فَيُعَجِّلُهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَفْضَلُ لِرِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مَتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ "
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الظُّهْرُ فَقَدْ رَوَى [الشَّافِعِيُّ عَنْ] سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيحِ جَهَنَّمَ قَالَ: وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتْ رَبِّي أَكَلَ بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفساً في الشتاء، ونفساً فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ الْحَرَّ فَمِنْ حَرِّهَا، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ الْبَرْدَ فَمِنْ زَمْهَرِيرِهَا "، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَارِدٌ في بلاد (تهامة) و (الحجاز) و (كمكة) وَ (الْمَدِينَةِ) وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ فَلَا؛ لِاخْتِصَاصِ تِهَامَةَ بِشِدَّةِ الْحَرِّ
وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي كُلِّ الْبِلَادِ إِذَا كَانَ الحر بها شديداً ن وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَتَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحَرُّ شَدِيدًا.
وَالثَّانِي: أَنْ تُقَامَ فِي جَمَاعَةٍ يَحْضُرُهَا الْأَبَاعِدُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَرُّ يَسِيرًا، وَالْبَلَدُ بَارِدًا، أَوْ كَانَ يُصَلِّيهَا مُنْفَرِدًا، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ حَاضِرَةٍ لَا يَأْتِيهَا الْأَبَاعِدُ كَانَ تَعْجِيلُهَا أَفْضَلَ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْجُمْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:(2/64)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ كَالظُّهْرِ
وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيمَهَا أَفْضَلُ فِي الْحَرِّ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ النَّاسَ مَنْدُوبُونَ إِلَى تَقْدِيمِ الْبُكُورِ إِلَيْهَا فَكَانَ تَعْجِيلُهَا أَرْفَقَ بِالْمُنْتَظِرِينَ لَهَا لِيَعُودُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا إِلَى مَنَازِلِهِمْ لِيُقِيلُوا أَوْ يَسْتَرِيحُوا، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا: بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَوْفَى بِهَا آخِرَ وَقْتِهَا، بَلْ يَتَأَخَّى بِهَا أَنْ تُقَامَ وَفِي الْوَقْتِ بَقِيَّةٌ بَعْدَ فراغه منها
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَعْجِيلُهَا أَفْضَلُ فِي الْحَرِّ وَغَيْرِهِ
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ الزَّهْرَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حَافِظْ عَلَى الْعَصْرَيْنِ، وَمَا كَانَتْ مِنْ لُغَتِنَا فَقُلْتُ: وَمَا الْعَصْرَانِ؟ قَالَ: صَلَاةٌ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٌ قَبْلَ غُرُوبِهَا ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: " حَبَسُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا "
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَتَعْجِيلُهَا أَوْلَى
رَوَى الْحَارِثُ بْنُ شِبْلٍ عَنْ أُمِّ النُّعْمَانِ الْكِنْدِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا بَكَّرُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ "
وَأَمَّا عِشَاءُ الْآخِرَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: " إِنَّ تَعْجِيلَهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ لَهُ لِرِوَايَةِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي عِشَاءَ الْآخِرَةِ لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ "، وَاعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ لَيْلَةٍ الْعِشَاءَ فَخَرَجَ عُمَرُ فَنَادَى الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَقَدَ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ وَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ لَلْوَقْتُ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي "
وَرَوَى أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: " أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى إِلَى نَحْوٍ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى، فَلَمَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ فَأَخَذْنَا مَقَاعِدَنَا فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ وَإِنَّكُمْ لَا تَزَالُونَ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ، وَسُقْمُ السَّقِيمِ، وَحَاجَةُ ذِي الْحَاجَةِ لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى هَذِهِ الساعة "(2/65)
وروى [عاصم بن] حميد السكوني عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَإِنَّكُمْ قَدْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلَمْ تُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ "
وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ الْفَضِيلَةِ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَيَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ اعْتِبَارًا بِأَحْوَالِ النَّاسِ، فَمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى تَأْخِيرِهَا، وَإِنَّ النَّوْمَ لَا يَغْلِبُهُ حَتَّى يَنَامَ عَنْهَا كَانَ تَأْخِيرُهَا أَفْضَلَ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَثِقْ بِنَفْسِهِ عَلَى الصَّبْرِ لَهَا وَلَمْ يَأْمَنْ سِنَةَ النَّوْمِ عَلَيْهِ حَتَّى يَنَامَ عَنْهَا كَانَ تَعْجِيلُهَا أَفْضَلَ لَهُ، وَيَجْعَلُ الْأَخْبَارَ الْمُتَعَارِضَةَ مَحْمُولَةً عَلَى هَذَا التَّحْرِيمِ لِيَصِحَّ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِهَا
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: (فَالْعَفْوُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَصِّرِينَ) فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مُؤَخِّرَ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا مُقَصِّرٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُقَصِّرٌ عَنْ ثَوَابِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِي الْفِعْلِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُقَصِّرٌ لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ فِي إِبَاحَةِ التَّأْخِيرِ، - وَاللَّهُ أعلم -(2/66)
(بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَأَنْ لَا فَرْضَ إِلَّا الخمس)
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَلَا يَجُوزُ لَأَحَدٍ صَلَاةُ فَرِيضَةٍ، وَلَا نَافِلَةٍ، وَلَا سُجُودُ قُرْآنٍ، وَلَا جِنَازَةٍ، إِلَّا مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ مَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى رُؤْيَتِهِ إِلَّا فِي حَالَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: النَّافِلَةُ فِي السَّفَرِ رَاكِبًا)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: (وَهَذَا كَمَا قَالَ)
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْتَ الْمَقْدِسِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جُمْلَةِ الْعُلَمَاءِ هَلِ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِرَأْيِهِ أَوْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِرَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَخْيِيرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فَاخْتَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {إلا لنعلم من يتبع الرسول} أربعة تأويلات:
أحدهما: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِيُعْلَمَ رَسُولِي وَأَوْلِيَائِي، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إِضَافَةَ مَا فَعَلَهُ أَتْبَاعُ لرئيس إِلَى الرَّئِيسِ كَمَا قَالُوا فَتَحَ عُمَرُ سَوَادَ الْعِرَاقَ
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {إِلا لِنَعْلَمَ} [البقرة: 143] بِمَعْنَى إِلَّا لِنَرَى، وَالْعَرَبُ قَدْ تَضَعُ الْعِلْمَ مَكَانَ الرُّؤْيَةِ، وَالرُّؤْيَةَ مَكَانَ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ
وَالثَّالِثُ: أَنَّ معناه إلا ليعلموا أننا نعلم، أن الْمُنَافِقِينَ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا(2/67)
وَالرَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِنُمَيِّزَ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنْ أَهْلِ الشَّكِّ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فَفِيهِ سِتَّةُ تأويلات:
أحدهما: مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ تَخْيِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَقْبِلَ حَيْثُ شَاءَ قَبْلَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلسَّائِرِ حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَلِلْخَائِفِ فِي الْفَرْضِ حَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْ شَرْقٍ، أَوْ غَرْبٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْقِبْلَةُ فَلَمْ يَعْرِفُوهَا فَصَلَّوْا إِلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ
وَالسَّبَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قَالُوا إِلَى أَيْنَ فَنَزَلَتْ {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ
وَالْخَامِسُ: أَنَّ مَعْنَاهُ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ مِنْ مَشْرِقٍ، أَوْ مَغْرِبٍ فَلَكُمْ جِهَةُ الْكَعْبَةِ تَسْتَقْبِلُونَهَا
وَالسَّادِسُ: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين استقبلت الْكَعْبَةَ تَكَلَّمَتِ الْيَهُودُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلُ ابن عباس
(فَصْلٌ)
: ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ كَرِهَ اسْتِقْبَالَهَا وَأَحَبَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا في سبب كراهيته لها قال مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا كَرِهَهَا لِيُخَالِفَ الْيَهُودَ فِيهَا، وَلَا يُوَافِقَهُمْ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ قَالُوا يَتَّبِعُ قِبْلَتَنَا، وَيُخَالِفُ ديننا، وكانوا يقولون إن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابَهُ مَا دَرَوْا أَيْنَ قِبْلَتُهُمْ حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا كَرِهَهَا، لِأَنَّهُ أَحَبَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَرِهَ الْعُدُولَ عَنْهَا فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُحَوِّلَ قِبْلَتَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] يَعْنِي: الْكَعْبَةَ {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وحيثما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] أَيْ: نَحْوَهُ وَجِهَتَهُ، وَعَنَى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْكَعْبَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] فَنَسَخَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفَرَضَ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي زَمَانِ النَّسْخِ فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ قَبْلَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا [وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ فِي شَعْبَانَ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَبْعَةَ عَشَرَ(2/68)
شَهْرًا] قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَكَانَ قَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَانْصَرَفَ إِلَى الْكَعْبَةِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ من الهجرة
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بَيَانُ الْقِبْلَةِ وَالْقِيَامُ الْأَوَّلُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقِبْلَةَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَتَغَيَّرَتْ أُمُورُ النَّاسِ حَتَّى ارْتَدَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْمٌ، وَنَافَقَ قَوْمٌ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اشْتَاقَ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ عَلِمَ أَنَّا عَلَى هُدًى وَسَيُتَابِعُنَا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143] يَعْنِي: فِي اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ {مِمَّنْ ينقلب على عقبيه} [البقرة: 143] بِالرِّدَّةِ، أَوِ النِّفَاقِ {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] يَعْنِي: بِالْكَعْبَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمَّا اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى رَفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، وَهُمْ زُعَمَاءُ الْيَهُودِ فَقَالُوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا وَلَّاكَ عَنْ قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدِينِهِ ارْجِعْ إِلَى قِبْلَتِكَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا نَتَّبِعْكَ وَنُصَدِّقْكَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ فِتْنَتَهُ عَنْ دِينِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] ثُمَّ قَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنْ إِخْوَانِنَا اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) {1) [البقرة: 143] يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لرؤوف رَحِيمٌ} [البقرة: 143] يَعْنِي: قَوْلَهُ: أَنَّهُ لَا يُحْبِطُ لَهُمْ عَمَلًا، وَلَا يُضِيعُ لَهُمْ أَجْرًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ، وَأَوْصَى بِثُلْثِ مَالِهِ وَأَمَرَ أَنْ يُوَجِّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، وَابْنُهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ الَّذِي أَكَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ فَمَاتَ(2/69)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ فَرْضٌ لَا يُجْزِئُ أَحَدًا صَلَاةُ فَرْضٍ، وَلَا نَفْلٍ، وَلَا جِنَازَةٍ وَلَا سُجُودُ سَهْوٍ، وَلَا تِلَاوَةٌ إِلَّا أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهِ الْكَعْبَةَ إِلَّا فِي حالين استثناهما الشرع:
أحدهما: حال المتابعة وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ
وَالثَّانِيَةُ: الْمُتَنَفِّلُ فِي سَفَرِهِ سَائِرًا، وَمَا سِوَاهُمَا يَجِبُ فِيهِ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ، وَلَا يَصِحُّ مَعَ الْعُدُولِ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فالمتوجهون إليها على ستة أضرب:
أحدهما: مَنْ فَرْضُهُ الْمُشَاهَدَةُ
وَالثَّانِي: مَنْ فَرْضُهُ الْيَقِينُ
وَالثَّالِثُ: مَنْ فَرْضُهُ الْخَبَرُ
وَالرَّابِعُ: مَنْ فَرْضُهُ التَّفْوِيضُ
وَالْخَامِسُ: مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ
وَالسَّادِسُ: مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَنْ فرضه المشاهدة وهو مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا، فَفَرْضُهُ فِي اسْتِقْبَالِهَا الْمُشَاهَدَةُ، فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدَ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ شَاهَدَهَا، لِأَنَّ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ الْمَانِعَةَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ لَا تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ إِلَيْهَا، لِتَقَدُّمِ الْمُشَاهَدَةِ، ثُمَّ كُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْكَعْبَةِ يَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ جُمْلَتَهَا الْقِبْلَةُ، فَأَمَّا الْحِجْرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ فِي الصَّلَاةِ جَائِزٌ كَالْبَيْتِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لعائشة رضي الله عنه: " صَلِّي فِي الْحِجْرِ فَإِنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ "
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِقْبَالَهُ وَحْدَهُ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ جَائِزٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ الْحِجْرَ لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ قَطْعًا، وَإِحَاطَةً وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَغْلِبَةِ الظَّنِّ فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْيَقِينِ، وَالنَّصِّ لِأَجْلِهِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الْيَقِينُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ مُشَاهَدَةٍ، فَهُوَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا بِقَلِيلٍ، وَقَدْ مَنَعَهُ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا حَائِطٌ مُسْتَحْدَثٌ مِنْ دَارٍ، أَوْ جِدَارٍ، فَفَرْضُهُ الْيَقِينُ بِالْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ فَإِذَا تَيَقَّنَهَا صَارَ إِلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحَائِلَ الْمُسْتَحْدَثَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الْيَقِينِ، كَمَا لَوْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ رَجُلٌ قَائِمٌ، وَهَكَذَا الْمُصَلِّي إِلَى كُلِّ قِبْلَةٍ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهَا بِالْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا، وَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ صَوَابِهَا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عَلَى الْخَطَأِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الْخَبَرُ فَذَلِكَ على حالين:(2/70)
أَحَدُهُمَا: الضَّرِيرُ بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْصَارِ، فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مُشَاهَدَةٍ. وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ كَانَ عَنْ تَفْوِيضٍ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: الْبَصِيرُ بِمَكَّةَ أَوْ فِيمَا قَرُبَ مِنْ مِيقَاتِهَا إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا بِحَائِلٍ غَيْرِ مُسْتَحْدَثٍ مِنْ جَبَلٍ أَوْ أَكَمَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَخْبِرُ مَنْ عَلَى الْجَبَلِ الْحَائِلِ مِنَ الْمُشَاهِدِينَ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ التَّفْوِيضُ فَهُوَ الرَّاحِلُ إِلَى بَلَدٍ كَبِيرٍ كَثِيرِ الْأَهْلِ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى قِبْلَتِهِمْ فِيهِ، كَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ، فَيَسْتَقْبِلُ قِبْلَتَهُمْ تَفْوِيضًا لِاتِّفَاقِهِمْ، لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَتَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ أَنْ يَكُونُوا عَلَى خَطَأٍ يَسْتَدْرِكُهُ الْوَاحِدُ بِاجْتِهَادِهِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الْخَامِسُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ فَهُوَ الْبَصِيرُ إِذَا كَانَ سَائِرًا فِي بَرٍّ، أَوْ بَحْرٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ قَلِيلَةِ الْأَهْلِ فَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ بِالدَّلَائِلِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَيْهَا وَهَلْ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبَ الْجِهَةِ دُونَ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّ الْعَيْنَ مَعَ الْبُعْدِ عَنْهَا يَتَعَذَّرُ إِصَابَتُهَا، وَلِأَنَّ الصَّفَّ الْوَاحِدَ لَوِ امْتَدَّ حَتَّى خَرَجَ عَنْ طُولِ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا عَنِ اسْتِوَاءِ الصَّفِّ مُنْحَرِفِينَ طَلَبًا لِمُوَافَقَةِ الْعَيْنِ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ عَادِلٌ عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْجِهَةِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قاله فِي " الْأُمِّ " إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ الْعَيْنِ؛ فَإِنْ أَخْطَأَهَا إِلَى الْجِهَةِ أَجْزَأَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الدَّانِيَ مِنَ الْكَعْبَةِ مُصَادَفَةُ عينها لزم والنائي عَنْهَا فِي اجْتِهَادِهِ طَلَبُ عَيْنَهَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَوَصَّلُ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى مَا كَانَ يَلْزَمُهُ بِالْيَقِينِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ السَّادِسُ: وَهُوَ مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ وَهُوَ الضَّرِيرُ فِي السَّفَرِ يُقَلِّدُ الْبَصِيرَ لِيَجْتَهِدَ لَهُ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِذَهَابِ بَصَرِهِ قَدْ فَقَدَ آلَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ، فَصَارَ كَالْعَامِّيِّ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِفَقْدِهِ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى عِلْمِهَا
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالْخَبَرِ: أَنَّ التَّقْلِيدَ يَكُونُ عَنْ إِخْبَارٍ، وَالْخَبَرَ يَكُونُ عَنْ يَقِينٍ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالتَّفْوِيضِ: أَنَّ التَّقْلِيدَ يَحْتَاجُ إِلَى سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، وَالتَّفْوِيضَ لَا يحتاج إلى سؤال ولا جواب
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا دَلَائِلُ الْقِبْلَةِ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْمُجْتَهِدُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَهِيَ الشَّمْسُ فِي مَطْلَعِهَا، وَمَغْرِبِهَا، وَالْقَمَرُ فِي سَيْرِهِ وَمَنَازِلِهِ، وَالنُّجُومُ فِي طُلُوعِهَا، وَأُفُولِهَا، وَالرِّيَاحُ الْأَرْبَعُ فِي هُبُوبِهَا وَالْجِبَالُ فِي مَرَاسِيهَا، وَالْبِحَارُ فِي مَجَارِيهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الَّتِي يَخْتَصُّ كُلُّ فَرِيقٍ بِنَوْعٍ مِنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}(2/71)
[الأنعام: 97] . فَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى إِحْدَى هَذِهِ الْعَلَامَاتِ أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ اسْتَقْبَلَهَا، وَصَلَّى إِلَيْهَا، فَلَوْ كَانُوا جَمَاعَةً وَاتَّفَقَ اجْتِهَادُ جَمِيعِهِمْ جَازَ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً وَيَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَرَى الْقِبْلَةَ فِي جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ صَاحِبِهِ صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى جِهَتِهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ لِتَكَافُئِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتَمُّوا بِأَحَدِهِمْ جَمَاعَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أَبُو ثَوْرٍ، فَإِنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ كَأَهْلِ مَكَّةَ يَأْتَمُّونَ بِمَنْ فِي مُقَابِلَتِهِمْ وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ فَسَادَ صَلَاةِ إِمَامِهِ لِعُدُولِهِ عَنْ قِبْلَتِهِ، وَمَنِ ائْتَمَّ بِمَنْ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، كَمَنِ اعْتَقَدَ حَدَثَ إِمَامِهِ، وَخَالَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ عَلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَعْتَقِدُ بَعْضُهُمْ فَسَادَ صَلَاةِ بَعْضٍ، ثُمَّ إِذَا اجْتَهَدَ الرَّجُلُ لِفَرْضِ صَلَاةٍ وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ فَرْضًا ثَانِيًا إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ ثَانِيًا، كَالْمُتَيَمِّمِ، فَإِنْ وَافَقَ اجْتِهَادُهُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ صَلَّى، وَإِنِ اخْتَلَفَ الِاجْتِهَادَانِ فَكَانَ الْأَوَّلُ إِلَى الشَّرْقِ، وَالثَّانِي إِلَى الْغَرْبِ صَلَّى الثَّانِيَةَ إِلَى الْغَرْبِ، وَلَمْ يُعِدِ الْأُولَى الَّتِي صَلَّاهَا إِلَى الشَّرْقِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ الِاجْتِهَادَ، فَلَوْ كَانَ حِينَ اجْتَهَدَ أَوَّلًا تَسَاوَتْ عِنْدَهُ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِأَمَارَاتٍ دَالَّةٍ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ أَحَدُهُمَا فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُصَلِّي فِي أَحَدِ الْجِهَتَيْنِ وَيُعِيدُ فِي الْأُخْرَى
وَأَصْلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعَامِّيِّ إِذَا أَفْتَاهُ فَقِيهَانِ بِجَوَابَيْنِ مُخْتَلِفَيْنَ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ مُخَيَّرًا فَكَذَا فِي الْجِهَتَيْنِ
وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَغْلَظِ الْجَوَابَيْنِ فَعَلَى هَذَا يُصَلِّي إِلَى الجهتين
(فصل: متى يسقط فرض القبلة)
فَأَمَّا الْحَالَتَانِ اللَّتَانِ يَسْقُطُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهِمَا فَأَحَدُهُمَا حَالُ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْتِحَامِ الْقِتَالِ يُصَلِّي فِيهَا كَيْفَ أَمْكَنَهُ رَاكِبًا وَنَازِلًا، وَقَائِمًا، وَقَاعِدًا، وَمُومِيًا، إِلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ الْقِبْلَةِ حَسَبَ طَاقَتِهِ وَإِمْكَانِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فإن خفتم} [البقرة: 239] قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، قَالَ نَافِعٌ: لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا "، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَصَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ تُسْقِطُ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ بِالْعَجْزِ عَنْهَا:
أَحَدُهَا: التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ يَسْقُطُ بِالْخَوْفِ إِذَا عَجَزَ عنه(2/72)
وَالثَّانِي: الْقِيَامُ يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ
وَالثَّالِثُ: اسْتِيفَاءُ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ وَيَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى الْإِيمَاءِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ، فَلَوْ قَدَرَ على بعضها وعجز عن بعضها لزمه بما قَدَرَ عَلَيْهِ وَسَقَطَ مَا عَجَزَ عَنْهُ، فَلَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَرَاكِبًا إِلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى إِلَى الْقِبْلَةِ رَاكِبًا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ قَائِمًا لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ أَوْكَدُ مِنْ فَرْضِ الْقِيَامِ، لِأَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ يَسْقُطُ فِي النَّافِلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَفَرْضُ الْقِبْلَةِ لَا يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ السَّائِرُ فِي سَفَرِهِ يُصَلِّي النَّافِلَةَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ مِنْ قِبْلَةٍ وَغَيْرِهَا لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ "
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ جِهَةٍ "، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ تَأْوِيلَاتِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ لو منع من التنفل سائر الأداء إِمَّا إِلَى تَرْكِ التَّنَفُّلِ أَوْ إِلَى الِانْقِطَاعِ عن السير، وفي تمكينه منه وفق سَفَرِهِ، وَوُفُورُ ثَوَابِهِ بِتَنَفُّلِهِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ صَلَاةٍ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ السُّنَنِ الْمُوَظَّفَاتِ، كَالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، أَوْ كَانَتْ مِنَ النَّوَافِلِ الْمُسْتَحْدَثَاتِ، وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنْ صَلَاةِ الْوِتْرِ سَائِرًا لِوُجُوبِهَا عِنْدَهُ، وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ
فَأَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهَا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا حَتَّى يَنْزِلَ فَيُصَلِّيَهَا عَلَى الْأَرْضِ قَائِمًا لِكَوْنِهَا فَرْضًا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُهَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا، لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا سَائِرًا حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ، لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَتَأَكَّدَتْ، وَلِأَنَّهَا نَفْلٌ فَتَسَهَّلَتْ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُسَافِرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِرًا أَوْ غَيْرَ سَائِرٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَائِرًا فَلَا يَجُوزُ إِذَا أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِالصَّلَاةِ أَنْ يَعْدِلَ عَنِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِقُ بِالْعُدُولِ عَنْهَا، وَكَانَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهَا بَاقِيًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا، فَلَا يَخْلُو مِنْ أن يكون(2/73)
رَاكِبًا، أَوْ مَاشِيًا، فَأَمَّا الْمَاشِي فَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمَشْيَ أَشَقُّ مِنَ الرُّكُوبِ، لَكِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ في أربعة مواضع من صلاة أَحَدِهَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ، لِقُرْبِ الْأَمْرِ فِيهِ حَتَّى يَنْعَقِدَ ابْتِدَاءً إِلَى الْقِبْلَةِ
وَالثَّانِي: فِي حَالِ الرُّكُوعِ، لِأَنَّ الرُّكُوعَ هُوَ فِيهِ مُنْقَطِعُ السَّيْرِ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَالْعُدُولُ عَنْهَا.
وَالثَّالِثُ: عِنْدَ السُّجُودِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ يُومِئَ بِهِ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ عَلَيْهِ فِي التَّوَجُّهِ وَغَيْرِهِ، فَلَزِمَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى عَلَى التَّوَجُّهِ فِي سَجْدَتِهِ وَالْجِلْسَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا بِالْقِيَامِ وَالسَّيْرِ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَهُوَ وَقْتُ السَّلَامِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الصَّلَاةِ كَالْإِحْرَامِ
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّ السَّلَامَ خُرُوجٌ مِنَ الصَّلَاةِ فَكَانَ أَخَفَّ مِنْ أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ فِي أَثْنَائِهَا لَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ، فَفِي حَالِ الْخُرُوجِ مِنْهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ التَّوَجُّهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، وَبِهِ تَنْعَقِدُ فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي فَأَمَّا مَا سِوَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِنْ حَالِ الْقِرَاءَةِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالْقِيَامِ الَّذِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَيَسْقُطُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِيهِ كُلِّهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ الْقِيَامُ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ فِيهِ كَالْجِلْسَةِ الَّتِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؟ قُلْنَا: مَشْيُ الْقَائِمِ يَسْهُلُ فَسَقَطَ عَنْهُ التَّوَجُّهُ لِيَمْشِيَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ سَفَرِهِ قَدْرَ مَا يَأْتِي بِالرُّكْنِ الْمَسْنُونِ فِيهِ، وَمَشْيُ الْجَالِسِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْقِيَامِ، وَقِيَامُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَكَانَ عَلَى حَالِ التَّوَجُّهِ فِيهِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الرَّاكِبُ فَضَرْبَانِ
رَاكِبُ سَفِينَةٍ
وَرَاكِبُ بَهِيمَةٍ
فَأَمَّا رَاكِبُ السَّفِينَةِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَيِّرًا لَهَا كَالْمَلَّاحِ، أَوْ يَكُونَ جَالِسًا فِيهَا كَالرُّكَّابِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رُكَّابِهَا جَالِسًا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَّا إِلَى الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا وَلَا يَنْقَطِعُ عَنْ سَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَلَّاحًا مُسَيِّرًا لِلسَّفِينَةِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِي نَافِلَتِهِ، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فرض التوجه عن الماشي، لأن لا ينقطع عن السير وحده، فالملاح أولى، لأن لا يَنْقَطِعَ بِالتَّوَجُّهِ عَنِ السَّيْرِ هُوَ وَغَيْرُهُ
فَأَمَّا رَاكِبُ الْبَهِيمَةِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِ نَفْسِهِ فِي رُكُوبِهِ كَرَاكِبِ السَّرْجِ، أَوِ الْقَتَبِ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَحْفَظَ نَفْسَهُ بِفَخِذَيْهِ وَسَاقَيْهِ فَيَجُوزُ لِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ رَاكِبًا، وَيَكُونُ(2/74)
فَرْضُ التَّوَجُّهِ عَنْهُ سَاقِطًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَكَذَا كَانَ يَرْكَبُ، وَعَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ يَتَنَفَّلُ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا فَرَسًا، أَوْ بَعِيرًا، أَوْ حِمَارًا لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِهَا فِي الْمَعْنَى، وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ تَارَةً، وَعَلَى حِمَارِهِ أُخْرَى
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَحْتَاجَ إِلَى حِفْظِ نَفْسِهِ فِي رُكُوبِهِ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظٌ بِآلَةِ كَ " الْهَوْدَجِ " وَ " الْمَحْمَلِ " وَ " الْعِمَارِيَّةِ " فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ لَازِمٌ لَهُ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَإِنْ صَارَ الْبَعِيرُ إِلَى غَيْرِهَا فَصَارَ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ سَاقِطٌ عَنْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ [لِأَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ جِهَةِ سَيْرِهِ] مُسْتَدِيرًا بِبَدَنِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ فَفِيهِ إِضْرَارٌ بِمَرْكُوبِهِ وَإِدْخَالُ مَشَقَّةٍ عَلَيْهِ فَصَارَ كَرَاكِبِ السَّرْجِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلرَّاكِبِ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَرْكُوبُهُ مَقْطُورًا بِمَرْكُوبِ غَيْرِهِ كَ " الْجِمَالِ الْمَقْطُورَةِ " فِي سَيْرِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ وَيُنْهِيَهَا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ سَائِرٌ إِلَيْهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِشَيْءٍ مِنْهَا الْقِبْلَةَ لِمَا فِي عُدُولِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ مِنَ الِانْقِطَاعِ عَنْ سَيْرِهِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَ (إِحْرَامِهِ) وَسُجُودِهِ بِخِلَافِ الْمَاشِي
وَالْحَالُ الثَّانِيَة: أَنْ يَكُونَ مَرْكُوبُهُ مُفْرِدَ السَّيْرِ غَيْرَ مَقْطُورٍ بِغَيْرِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِيمَا سِوَى الْإِحْرَامِ، وَهَلْ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُهَا فِي الْإِحْرَامِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَالْمَاشِي لِسُرْعَةِ فَعْلِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَاشِي، لِأَنَّ الْمَاشِيَ أَسْرَعُ حَرَكَةً مِنَ الْبَهِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّاكِبُ مُخَالِفًا لِلْمَاشِي فِي سُقُوطِ التَّوَجُّهِ فِيمَا سِوَى الْإِحْرَامِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ، وَهَذَا أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي ثُمَّ عَلَيْهِ الْإِيمَاءُ فِي رُكُوعِهِ، وَسُجُودِهِ، وَلَا يَلْزَمُ السُّجُودُ عَلَى كَفِّهِ، وَلَا عَلَى سَرْجِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُومِئُ بِالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ عَلَى رَاحِلَتِهِ لَكِنْ يَكُونُ سُجُودُهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ كَانَ الرَّاكِبُ فِي صَلَاتِهِ سَائِرًا فَعَدَلَ بِهِ الْمَرْكُوبُ عَنْ جِهَةِ سَيْرِهِ إِلَى غَيْرِهَا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ بِهِ إِلَى غَيْرِ القبلة(2/75)
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ
فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيَعْدِلُ مَرْكُوبُهُ إِلَى غَيْرِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَرْكُوبَهُ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ وَيَبْنِيَ عَلَى صِلَاتِهِ، فَإِنْ رَدَّهُ فِي الْحَالِ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ فِي صَلَاتِهِ عَمَلًا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا سُجُودَ عَلَيْهِ لِلسَّهْوِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ بِعَمَلِ مَرْكُوبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ مَرْكُوبَهُ فِي الْحَالِ حَتَّى تَطَاوَلَ الزَّمَانُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى رَدِّهِ فَتَرَكَهُ تَوَانِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ لِصُعُوبَةِ ركوبه فضعفه عنَ ضَبْطِهِ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ؟ مِثْلُ الْمُتَكَلِّمِ فِي صِلَاتِهِ سَاهِيًا إِذَا أَطَالَ الْكَلَامَ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَائِرًا إِلَى غير القبلة فيعدل به المركوب إلى جهة الْقِبْلَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهَا أَغْلَظُ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ لِيَتَرَخَّصَ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِذَا كَانَ سَائِرًا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَعَدَلَ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي عَدَلَ بِهِ الْمَرْكُوبُ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ جِهَةَ مَسِيرِهِ، وَلَا جِهَةَ الْقِبْلَةِ، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَيَتْرُكَ الرُّخْصَةَ فِي تَرْكِ التَّوَجُّهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْدِلَ بِمَرْكُوبِهِ إِلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ، وَيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَيُقِيمَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ رُخْصَةٍ، فَإِنْ عَدَلَ إِلَى إِحْدَى هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ (فِي الْحَالِ) أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ، وَإِنْ لَمْ يَعْدِلْ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَمَعَ الْعَجْزِ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ
(فَصْلٌ)
: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَلِّيَ سَائِرًا إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ الْقِبْلَةِ يَلْزَمُهُ الْعُدُولُ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَدْخُلَ بَلْدَةً، أَوِ الْبَلَدَ الَّذِي هُوَ غَايَةُ سَفَرِهِ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ لِتَرْكِهَا فَإِنْ أَقَامَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُدُولِ عَنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنْ لَوْ دَخَلَ بَلَدًا غَيْرَ بَلَدِهِ مُجْتَازًا فِيهِ بَنَى عَلَى صِلَاتِهِ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ الْمُقَامَ فَيَخْرُجُ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صِلَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَهُ فِي سَفَرِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي الْحُكْمِ فَسَيْرُهُ قَدِ انْقَطَعَ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يفعل بطلت(2/76)
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقِفَ عَنِ الْمَسِيرِ لِغَيْرِ نزول إما استراحة عن كَلَالِ السَّيْرِ، وَإِمَّا انْتِظَارًا لَوْ تَأَخَّرَ عَنِ الْمَسِيرِ فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا، لِأَنَّ مَسِيرَهُ قَدِ انْقَطَعَ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَالِ وُقُوفِهِ، فَإِنْ سَارَ بَعْدَ أَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَقَبْلَ إِتْمَامِ صَلَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَسِيرِ الْقَافِلَةِ جَازَ أَنْ يُتِمَّ بَاقِيَهَا إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ وَيَعْدِلَ عَنِ الْقِبْلَةِ لِمَا فِي تَأَخُّرِهِ عَنِ الْقَافِلَةِ لِإِتْمَامِ الصلاة مع الْإِضْرَارِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُرِيدَ لِإِحْدَاثِ الْمَسِيرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسِيرَ حَتَّى تَنْتَهِيَ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ بِالْوُقُوفِ قَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ التَّوَجُّهِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يجز له إسقاط مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ظَاهِرٍ فَيَكُونُ كَالنَّازِلِ إِذَا ابْتَدَأَ بِالصَّلَاةِ إِلَى الْقِبْلَةِ ثُمَّ رَكِبَ سَائِرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا قَدْ لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا نَازِلًا فَلَمْ يَسْقُطْ بما أحدثه من الركوب سائراً
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْمُقِيمُ فِي الْمِصْرِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ سَائِرًا عَلَى مَرْكُوبِهِ أَوْ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ تَرْكَ التَّوَجُّهِ رُخْصَةٌ فَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي سَفَرِهِ، وَلِأَنَّ فِي التَّوَجُّهِ فِي السَّفَرِ انْقِطَاعًا عَنِ السَّيْرِ الَّذِي هُوَ السَّفَرُ، وَلَيْسَ فِي تَوَجُّهِ الْمُقِيمِ انْقِطَاعٌ عَنِ الْإِقَامَةِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَتَنَفَّلَ سائراً، لأن لا يَنْقَطِعَ عَنْ تَصَرُّفِهِ، أَوْ لَا يَنْقَطِعَ تَطَوُّعُهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَلِأَنَّ الرُّخَصَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " وطويل السفر وقصيره سواء وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي على راحلته في السفر أينما توجهت به وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يوتر على البعير وأن علياًّ رضي الله عنه كان يوتر على الراحلة (قال الشافعي) وفي هذا دلالة على أن الوتر ليس بفرض ولا فرض إلا الخمس لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للأعرابي حين قال: هل على غيرها فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: (لا إلا أن تطوع) والحالة الثانية شدة الخوف لقول الله عز وجل {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} قَالَ ابْنُ عُمَرَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا فلا يصلي في غير هاتين الحالتين إلا إلى البيت إن كان معايناً فبالصواب وإن كان مغيباً فبالاجتهاد بالدلائل على صواب جهة القبلة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِجَوَازِ النَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ، وَفِي قَصِيرِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ يَجُوزُ فِيهِ قَصْرُ الصَّلَاةِ قَالَ: لِأَنَّ السَّفَرَ إِذَا غَيَّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ تَرْخِيصًا احْتَاجَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ فِيهِ محدود كَالْقَصْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَنَفَّلُ عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ، وَلَوِ اخْتَصَّ بِسَفَرٍ مَحْدُودٍ لَتَنَفَّلَ، وَلِأَنَّهُ سَفَرٌ مُبَاحٌ فَجَازَتْ فِيهِ النَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَالسَّفَرِ الطَّوِيلِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ اتِّصَالُ السَّفَرِ وَأَنْ لَا يَنْقَطِعَ الْمَسِيرُ لِكَثْرَةِ النَّوَافِلِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، كَالْمُتَيَمِّمِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصْرِ الَّذِي لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ التي لا تدخل غَالِبًا إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ(2/77)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَرُخَصُ السَّفَرِ سَبْعَةٌ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامِ قِسْمٌ مِنْهَا يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ التَّيَمُّمُ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَالنَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقِسْمٌ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْقَصْرُ، وَالْفِطْرُ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا، وَقِسْمٌ مِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ كَالْقَصْرِ
وَالثَّانِي: يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ كَالنَّافِلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَإِنِ اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ لَمْ يَسَعْ أَحَدَهُمَا اتِّبَاعُ صَاحِبِهِ)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ وَاحْتَاجَا إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا بَصِيرًا يَعْرِفُ دَلَائِلَهَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْآخَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، أَوْ ضَرِيرًا، فَإِنْ كَانَ ضَرِيرًا فَفَرْضُهُ فَيَ الْقِبْلَةِ تَقْلِيدُ الْبَصِيرِ الَّذِي مَعَهُ إِذَا لَمْ يَقَعْ فَيَ نَفْسِهِ كَذِبُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْبَصِيرُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً حُرًّا، أَوْ عَبْدًا، لِأَنَّهُ خَبَرٌ يَسْتَوِي جَمِيعُهُمْ فِي قَبُولِهِ مِنْهُمْ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الضَّرِيرَ، قَدْ فَقَدَ بِذَهَابِ بَصَرِهِ آلَةَ الِاجْتِهَادِ فَجَازَ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ فِيهِ آلَةُ الِاجْتِهَادِ؛ كَالْعَامِّيِّ فِي تَقْلِيدِ الْعَالِمِ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَوِ اجْتَهَدَ الضَّرِيرُ لِنَفْسِهِ وَصَلَّى لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ، لِأَنَّهُ بِفَقْدِ الْآلَةِ صَلَّى شَاكًّا، وَلِلضَّرِيرِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، حَالٌ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَهِيَ: الْقِبْلَةُ، وَحَالٌ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا وَهُوَ الْوَقْتُ، وَحَالٌ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَهُوَ: الْإِنَاءَانِ، أَوِ الثَّوْبَانِ، وَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ فِيهِمَا قَوْلَانِ:
(فَصْلٌ)
: فَإِنْ كَانَ الْآخَرُ بَصِيرًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِدَلَائِلِ الْقِبْلَةِ فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَى تَقْلِيدِ صَاحِبِهِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي حَالِ الِاجْتِهَادِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهَا كَالْعَالِمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ الْعَالِمَ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَارِفٍ لِدَلَائِلِ الْقِبْلَةِ لَكِنْ إِذَا عرف تعرف وَعَلِمَ فَهَذَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّفَ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ فَإِذَا تَعَرَّفَ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الوصول إلى معرفتها باجتهاده فصار كالعارف
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَارِفٍ لِدَلَائِلِهَا وَإِذَا عُرِّفَهَا لَمْ يَعْرِفْهَا لِإِبْطَاءِ ذِهْنِهِ وَقِلَّةِ فِطْنَتِهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ غَيْرَهُ فِيهَا، لأنها قَدْ عَدِمَ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَلِأَنَّ عَمَى الْقَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ عَمَى الْعَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]
(مسألة)
: قال الشافعي: فَإِنْ كَانَ الْغَيْمُ وَخَفِيَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى رَجُلٍ فهو كالأعمى(2/78)
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَنْ دَلَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ أَعْمَى وَسِعَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَا يَسَعُ بَصِيرًا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ اتَّبَاعُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ لِعَدَمِ العلم وبين من جهلها لعدم البصر وقد جعل الشافعي من خفيت عليه الدلائل كالأعمى فهما سواء
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي بَصِيرَيْنِ اجْتَهَدَا فِي الْقِبْلَةِ فَوَقَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى جِهَتِهَا بِاجْتِهَادِهِ وَأَشْكَلَ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهَا إِذَا عُرِّفَهُ وَلَا يَنْتَبِهُ عَلَيْهَا إِذَا نُبِّهَهُ فَهُوَ (عَلَى) مَا ذَكَرْنَا كَالْأَعْمَى يُقَلِّدُ صَاحِبَهُ وَلَا يُعِيدُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا وَيَنْتَبِهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ وَقَعَ الْإِشْكَالُ لِحَادِثَةٍ صَدَّ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا تَوَقَّفَ وَلَمْ يُقَلِّدْ غَيْرَهُ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَخَافَ الْفَوْتَ تَبِعَ صَاحِبَهُ فِي جِهَتِهِ وَصَلَّى إِلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِ، فَإِذَا فَعَلَ وَصَلَّى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَسُقُوطِهَا كَلَامًا محتملاً فقال: ها هنا " وَمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى " فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْإِعَادَةِ وَقَالَ: فِي مَوْضِعٍ آخر حكاه عنه المزني ها هنا " ولا يسع بصيرا خفيت عليه الدلائل اتباعه " فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي سُقُوطَ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ: أَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الظَّاهِرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ عَلَيْهِ لِتَقْصِيرٍ يَعُودُ إِلَيْهِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِهَا لِفَقْدِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ بِهَا لِفَقْدِ بَصَرِهِ
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَحَمْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَسَعُ بَصِيرًا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ اتِّبَاعَهُ عَلَيْهِ " إِذَا كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَحَمْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " وَمَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى " عَلَى وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ لَا عَلَى سُقُوطِ الْإِعَادَةِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وَلَا يَتَّبِعُ دِلَالَةُ مُشْرِكٍ بِحَالٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: " لَا يَجُوزُ لِلضَّرِيرِ أَنْ يُقَلِّدَ مُشْرِكًا فِي الْقِبْلَةِ وَلَا لِلْبَصِيرِ أَنْ يَقْبَلَ خَبَرَهُ فِيهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . وَالْكُفْرُ أَغْلَظُ الْفِسْقِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 140] ، ولأن(2/79)
فَسَقَةَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُمْ فِي الْقِبْلَةِ وَلَا قَبُولُ خَبَرِهِمْ فِيهَا فَالْكُفْرُ أَوْلَى، ولأن الكافر قصده اختلال الْمُسْلِمِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَفِتْنَتُهُ فِي دِينِهِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ الْكَافِرُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْإِذْنِ، وَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ فَهَلَّا كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ؟ قُلْنَا: الْإِذْنُ، وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ، أَوْسَعُ حُكْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَأَمْرُ الْقِبْلَةِ أَغْلَظُ، لِأَنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ فِيهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَأَمَّا إِذَا اسْتَدَلَّ مُسْتَدِلٌّ مِنْ كَافِرٍ مُشْرِكٍ دَلَائِلَ الْقِبْلَةِ كَأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ أَحْوَالِ الرِّيَاحِ، وَمَطَالِعِ النُّجُومِ فَأَخْبَرَهُ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ ثُمَّ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ عَنْ خَبَرِ الْمُشْرِكِ فِي وَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ جَازَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ عَمِلَ فِي الْقِبْلَةِ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا قَبِلَ خَبَرَ الْمُشْرِكِ فِي غَيْرِهَا مِمَّا يَسْتَوِي فِي الْإِخْبَارِ بِهِ مَنْ وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " وَمَنِ اجْتَهَدَ فَصَلَّى إِلَى الشَّرْقِ ثُمَّ رَأَى الْقِبْلَةَ إِلَى الْغَرْبِ اسْتَأْنَفَ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ خَطَأِ جِهَتِهَا إِلَى يَقِينِ صَوَابِ جِهَتِهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ اجْتَهَدَ فِي الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّهَا فِي الشَّرْقِ فَاسْتَقْبَلَهَا وَصَلَّى إِلَيْهَا ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فِي جِهَتِهِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ صَوَابُ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِهَا فَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَاحِدٌ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ الْخَطَأَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، فَإِنْ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ حُكْمًا نُفِّذَ بِاجْتِهَادٍ، وَإِنْ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَفِي كِتَابِ " الصِّيَامِ " مِنَ الْجَدِيدِ: أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي كِتَابِ " الصَّلَاةِ " مِنَ الْجَدِيدِ: إِنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ
مَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْأَحْجَارَ فَيَعْمَلُ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ، فَلَمْا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}(2/80)
[البقرة: 115] وَلِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ صَحَّ صَلَاةُ الْمُسَايِفِ إِلَيْهَا صَحَّ صَلَاةُ الْمُجْتَهِدِ إِلَيْهَا كَالْقِبْلَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ صَحَّتْ إِلَى الْقِبْلَةِ جَازَ أَنْ تَصِحَّ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَالْمُسَايِفِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِاجْتِهَادِهِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَالْيَقِينُ مَوْجُودٌ فِي حُصُولِ الْخَطَأِ فِي إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ، فَلَوْ لَزِمَ الْقَضَاءُ بِيَقِينِ الْخَطَأِ لَلَزِمَهُ إِعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ إِحْدَى صَلَاتَيْنِ لَا يَعْرِفُهَا لَزِمَهُ إِعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ مَعَ يَقِينِ الْخَطَأِ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْله تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 144] ، فأمر الله تَعَالَى بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فَمَنْ تَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِهِ فَالْأَمْرُ باقٍ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ لَا يَسْقُطُ بِالْخَطَأِ، كالطهارة، والوفق ولا تَعْيِينَ الْخَطَأِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ، كَأَهْلِ مَكَّةَ، وَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْقَضَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ الْإِعَادَةُ، كَالْحَاكِمِ إِذَا خَالَفَ نَصًّا بِاجْتِهَادِهِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى صَلَاةِ النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ، أَوْ عَلَى خَطَأِ الْعَيْنِ دُونَ الْجِهَةِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْقِبْلَةِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْمَكِّيِّ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ صَوَابُ الْجِهَةِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُسَايِفِ: فَالْمَعْنَى فِيهِ: إِنَّ عِلْمَ الْمُسَايِفِ بِعُدُولِهِ عَنِ الْقِبْلَةِ لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ، وَعِلْمَ الْمُجْتَهِدِ بِالْعُدُولِ عَنْهَا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ، وَأَمَّا الْمُصَلِّي إِلَى جِهَتَيْنِ فَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ الْخَطَأُ فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ كَالْحَاكِمِ فَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ فِي الْحَادِثَةِ فَحَكَمَ فِيهَا بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يُنْقَضْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الْخَطَأَ لَمْ يُتَيَقَّنْ فِي أَحَدِهِمَا، وَلَوْ خَالَفَ نَصًّا نَقَضَ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى اخْتِيَارِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ، وَذَكَرَ فُصُولًا خَمْسَةً بَعْضُهَا اسْتِشْهَادًا بِمَذْهَبٍ، وَبَعْضُهَا اسْتِدْلَالًا بِشُبْهَهٍ، فَالْفَصْلُ الأول من أسئلته أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: فِي كِتَابِ " الصِّيَامِ ": وَلَوْ تَأَخَّى الْقِبْلَةَ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَخْطَأَ، أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ، كَمَا يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي خَطَأٍ عَرَفَة، فَنَقَلَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ رِوَايَةَ أَنْ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَهِيَ لَعَمْرِي أَحَدُ قَوْلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِعَرَفَةَ حَجَّاجًا، لِأَنَّ مَنْ أَخْطَأَ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، أَوْ فِي الثَّامِنِ ثُمَّ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى دَخَلَ فِي الْعَاشِرِ أَنَّ حَجَّهُ مُجْزِئٌ فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ
قُلْنَا: بَيْنَهُمَا فَرْقَانُ يَمْنَعَانِ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا أَحَدُ الْفَرْقَيْنِ أَنَّ الْخَطَأَ بِعَرَفَةَ لَا يُؤْمَنُ(2/81)
مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ كَالْأَكْلِ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ لِمَا لَمْ يُؤْمَنْ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَالْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ لِمَا أُمِنَ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَزِمَ فِيهِ الْقَضَاءُ كَالْخَاطِئِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ النَّجِسِ
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ إِعَادَةَ الْحَجِّ تَشُقُّ فَسَقَطَ عَنْهُ كَمَا سَقَطَ عَنِ الْمُسَافِرِ قَضَاءُ الْقُصُورِ، وَإِعَادَةُ الصَّلَاةِ الَّتِي أَخْطَأَ فِيهَا لَا يَشُقُّ فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْمُسَافِرِ قَضَاءُ الصوم
والفصل الثاني: من أسئلته مَا حَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " " إِذَا تَأَخَّى فِي أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ فَصَلَّى ثُمَّ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الَّذِي تَرَكَهُ هُوَ الطَّاهِرُ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَتَيَمَّمُ وَيُعِيدُ، لِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَيْقَنٌ الطَّهَارَةِ. وَلَيْسَ كَالْقِبْلَةِ إِذَا تَأَخَّاهَا لِصَلَاةٍ ثُمَّ رَآهَا لِغَيْرِهِ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ يَعْنِي: بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي الْقِبْلَةِ إِلَى جِهَةٍ ثَانِيَةٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَيْهَا، وَلَوْ أَدَّاهُ إِلَى طَهَارَةِ الْإِنَاءِ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْفَصْلِ أَنْ نَقُولَ إِنَّمَا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ بِالِاجْتِهَادِ
وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الِاجْتِهَادَ ثَانِيًا، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْإِنَاءَ الثَّانِيَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ ثَانِيًا، فَأَمَّا قَوْلُهُ وَالَّذِي جَعَلَهُ الْمُزَنِيُّ تَعْلِيلًا وَدَلِيلًا " أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لِقَوْمٍ، لِأَنَّ الْمَشْرِقَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَالْمَغْرِبَ قِبْلَةُ أَهْلِ الْمَشْرِقِ ثُمَّ مُصَادَفَةُ هَذَا الْمُصَلِّي جِهَةً هِيَ قِبْلَةٌ لِغَيْرِهِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ التوجه إلى جهة
والفصل الثالث: من أسئلته: أنه قال لما جاز صَلَاتَهُ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ إِصَابَةَ الْعَيْنِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا فِي حَالِ الصَّلَاةِ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يُكَلَّفِ الِاجْتِهَادَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ إِصَابَةَ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ إِذَا أَخْطَأَ الْجِهَةَ، أَوِ الْعَيْنَ لَمْ يُؤَدِّ مَا كُلِّفَ فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ فِيهِ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ: مِنْ أَسْئِلَتِهِ أَنَّهُ قَالَ: احْتِجَاجًا، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى مَا عَجَزَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ قِيَامٍ، وَقُعُودٍ، وَرُكُوعٍ، وَسُجُودٍ، وَسُنَنٍ أَنَّ فَرْضَ اللَّهِ سَاقِطٌ عَنْهُ يَعْنِي: أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ مَا ذَكَرَهُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ بِالْعَجْزِ عَنْهُ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِيَامَ وَالسَّيْرَ مَعْنًى مَعْدُومٌ مَعَ الْعَجْزِ عَنْهُ فَلِذَلِكَ سَقَطَتِ الْإِعَادَةُ فِيهِ لِعَدَمِهِ وَالْقِبْلَةُ غَيْرُ مَعْدُومَةٍ بِالْخَطَأِ فِيهَا فلذلك لم تسقط عنه الإعادة لخطائه(2/82)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَعْذَارَ الَّتِي تُعْجِزُ عَنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٌ يَكُونُ عَامَّ الْوُقُوعِ، وَإِذَا وَقَعَ جَازَ أَنْ يَدُومَ كَالْمَرَضِ فَهَذَا يَسْقُطُ مَعَهُ الْقَضَاءُ، وَضَرْبٌ يَكُونُ عام الوقوع وإذا وقع لم يدم ك " المسايفة " وعدم الماء فهو يُسْقِطُ الْقَضَاءَ، وَضَرْبٌ يَكُونُ نَادِرَ الْوُقُوعِ، وَإِذَا وَقَعَ لَمْ يَدُمْ كَعَدَمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ الْإِعَادَةَ، فَلَمَّا كَانَ الْخَطَأُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ نَادِرًا لَا يَدُومُ لَمْ يُسْقِطِ الْإِعَادَةَ، وَلَمَّا كَانَ الْعَجْزُ عَنِ الْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ عَامًّا قَدْ يَدُومُ سَقَطَ مَعَهُ الْإِعَادَةُ، وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِأُصُولِ الْأَعْذَارِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وسقوطه
الفصل الخامس: من أسئلته: أَنْ قَالَ احْتِجَاجًا قَدْ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى أَهْلُ قَبَاءٍ رَكْعَةً إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَتَاهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ وَاسْتَدَارُوا وَبَنَوْا بَعْدَ تَعْيِينِهِمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَجَعَلَ الْمُزَنِيُّ سُقُوطَ الْإِعَادَةِ عَنْ أَهْلِ قِبَاءٍ مَا صَلَّوْا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ دَلِيلًا عَلَى سُقُوطِ الْقَضَاءِ عَنْ كُلِّ مَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي النُّسَخِ هَلْ يَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ إِلَّا إِلَى مَنْ عَلِمَ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ عَلَى الْفَرْضِ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُ الْمُزَنِيِّ، لِأَنَّ أَهْلَ قِبَاءٍ قَبْلَ عِلْمِهِمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ النَّسْخُ إِلَى الْجَمِيعِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ فَرْضَهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى جَمِيعِهِمْ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ قِبَاءٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ أَهْلَ قِبَاءٍ صَلَّوْا بِالنَّصِّ عَلَى الْيَقِينِ الْأَوَّلِ فَجَازَ أَنْ تَسْقُطَ الْإِعَادَةُ عَنْهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا الِاجْتِهَادَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِالنَّسْخِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهَا بِاجْتِهَادٍ لَا بِنَصٍّ، وَعَنْ ظَنٍّ لَا يَقِينٍ فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ " فَتَفَهَّمْ " - يُرِيدُ بِهِ الشَّافِعِيَّ -
قَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ الْمُزَنِيُّ تفهم - يُرِيدُ بِهِ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ " فَافْهَمْ " - يُرِيدُ بِهِ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ - وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ فِيهِ الشَّافِعِيُّ " قَالَ بَعْضُ النَّاسِ " - يُرِيدُ بِهِ أبا حنيفة -، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قَالَ فِيهِ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - يُرِيدُ بِهِ مَالِكًا - وَإِذَا أَرَادَ غَيْرَهُمَا ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ بَعْدَهُ فَصْلًا لَا احْتِجَاجَ فِيهِ وَلَا اسْتِشْهَادَ، وَهَذِهِ إِحْدَى مَسَائِلِهِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَطَالَ الْكَلَامَ فِيهَا، وَالْأُخْرَى الْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ
وَالثَّالِثَةُ: ظِهَارُ السَّكْرَانِ وَكَلَامُهُ في هذه المسألة أطول
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَيُعِيدُ الْأَعْمَى مَا صَلَّى مَعَهُ مَتَى أَعْلَمَهُ "(2/83)
وهذا صحيح إذ صَلَّى الْأَعْمَى بِاجْتِهَادِ بَصِيرٍ ثُمَّ أَخْبَرَ الضَّرِيرَ بِيَقِينِ الْخَطَأِ الْمُجْتَهِدِ لَهُ، فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ كَالْبَصِيرِ:
أَحَدُهُمَا: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ دِلَالَةَ الْأَعْمَى عَلَى الْقِبْلَةِ قَوْلُ الْبَصِيرِ، كَمَا أَنَّ دِلَالَةَ الْبَصِيرِ مُشَاهَدَةُ الْعَلَامَاتِ فَإِذَا وَقَعَ الْخَطَأُ فِي دَلَائِلِ الْبَصِيرِ، وَقَعَ فِي دَلِيلِ الْأَعْمَى، ثُمَّ اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ الْإِعَادَةِ وَسُقُوطِهَا، فَأَمَّا إِنْ أَخْبَرَهُ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ لَهُ فَذَلِكَ ضربان:
أحدهما: أن يكون خبراً متوتراً، فَفِي الْإِعَادَةِ أَيْضًا قَوْلَانِ كَمَا مَضَى
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ وَاحِدٍ وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ الْخَطَأَ، كَمَا يَتَيَقَّنُهُ الْبَصِيرُ بِمُشَاهَدَتِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ تَكُونُ الْإِعَادَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ إِذَا كَانَ الْمُخْبِرُ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وَإِنْ كَانَ شَرْقًا ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ مُنْحَرِفٌ وَتِلْكَ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرِفَ ويعتد بما مضى وإن كان معه أعمى ينحرف بانحرافه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: " وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ اسْتَيْقَنَ الشَّرْقَ بِصَلَاتِهِ مُجْتَهِدًا ثُمَّ بَانَ لَهُ فِي أَثْنَائِهَا أَنَّهُ مُنْحَرِفٌ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِانْحِرَافُ وَالْجِهَةُ وَاحِدَةً
وَالثَّانِي: يَكُونُ الِانْحِرَافُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ مُنْحَرِفًا وَالْجِهَةُ وَاحِدَةٌ فَإِنْ كَانَ مُتَيَامِنًا عَنْهَا قَلِيلًا، وَمُتَيَاسِرًا عَنْهَا، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ بَانَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الْيَقِينِ تَحَرَّفَ إِلَى حَيْثُ بَانَ لَهُ مَنْ تَيَامَنَ، أَوْ تَيَاسَرَ، وَبَنَى عَلَى صِلَاتِهِ، لِأَنَّ الْجِهَةَ وَاحِدَةٌ فَلَمْ يَكُنِ الِانْحِرَافُ فِيهَا مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْبِنَاءِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَإِنْ بَانَ لَهُ الِانْحِرَافُ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُهُ الِانْحِرَافُ إِلَى حَيْثُ بَانَ لَهُ، وَيُبْنَى عَلَى صَلَاتِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ الِانْحِرَافُ وَيُبْنَى عَلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ إِلَى الْجِهَةِ بِالِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَنْحَرِفْ عَنْهَا بِاجْتِهَادٍ
(فَصْلٌ)
: وَإِنْ كَانَ الِانْحِرَافُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى إِمَّا مُسْتَدْبِرًا، أَوْ يُمْنَةً، أَوْ يُسْرَةً لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ يَقِينٍ، أَوِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ عَنْ يَقِينٍ اسْتَدَارَ إِلَيْهَا وَهَلْ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ أَوْ يَسْتَأْنِفُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:(2/84)
أَحَدُهُمَا: يَبْنِي إِذَا قِيلَ إِنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يُعِدْ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَسْتَأْنِفُ إِذَا قِيلَ: لَوْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ بَعْدَ الْفَرَاغِ أَعَادَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى اجْتِهَادٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُبْنَى عَلَى الْجِهَةِ الْأَوْلَى وَلَا يَسْتَدْبِرُ إِلَى الثَّانِيَةِ؛ لِاسْتِقْرَارِ حُكْمِ اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَدْبِرُ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ، كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ صَلَاةٌ ثَانِيَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى اسْتِقْبَالِ جِهَةٍ يَعْتَقِدُهَا غَيْرَ قِبْلَةٍ فَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَدَارَ إِلَيْهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقُضُ الِاجْتِهَادَ أَلَا تَرَاهُ لَوْ عَلِمَ ذَلِكَ بَعْدَ [الْفَرَاغِ] لَمْ يُعِدْ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ لَزِمَهُ الْبِنَاءُ عَلَى جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنَ الشَّرْعِ فَهُوَ عَلَى حَالِهِ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا، أَوْ مُنْفَرِدًا [وَإِنْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ اسْتَأْنَفَ إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا] ، فَأَمَّا إِنْ لَزِمَهُ الِانْحِرَافُ وَالْبِنَاءُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا فَيَنْحَرِفُ وَيَبْنِي
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ بَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ تَحَرَّفَا جَمِيعًا، وَبَنَيَا وَإِنْ لَمْ يَبِنْ لِإِمَامِهِ مِثْلُ ذَلِكَ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ إِمَامَتِهِ، وَبَنَى على صلاته فإن أقام على الائتمام مُنْحَرِفًا، أَوْ غَيْرَ مُنْحَرِفٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِاخْتِلَافِ جِهَتِهِ وَجِهَةِ إِمَامِهِ
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ إماماً فإن ينحرف لم يَنْظُرْ فِي الْمَأْمُومِينَ، فَإِنْ بَانَ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ تَحَرَّفُوا بِانْحِرَافِهِ، وَبَنُوا مَعَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يَبِنْ لَهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ أَخْرَجُوا نُفُوسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ، فَإِنْ أَقَامُوا عَلَى الِائْتِمَامِ بِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ إِنِ انْحَرَفُوا فَهُمْ لَا يَرَوْنَ الِانْحِرَافَ قِبْلَةً وَإِنْ لَمْ يَنْحَرِفُوا فَعِنْدَهُمْ أَنَّ إِمَامَهُمْ إِلَى غَيْرِ قِبْلَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ أَعْمَى فَيَنْحَرِفُ بِانْحِرَافِ إِمَامِهِ ويجزئه؛ لأن الأعمى لابد أَنْ يَكُونَ مُتَابِعًا لِغَيْرِهِ فِي الْقِبْلَةِ فَكَانَ اتِّبَاعُهُ لِإِمَامِهِ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِ إِمَامِهِ، وَلِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فِي اجْتِهَادِ إِمَامِهِ
(فَصْلٌ)
: إِذَا دَخَلَ الْبَصِيرُ فِي صَلَاتِهِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ شَكَّ فِي الْقِبْلَةِ فِي تَضَاعِيفِهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَلَا حُكْمَ لِلشَّكِّ الطَّارِئِ، لِأَنَّهُ عَلَى الْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَرَ غَيْرَهَا، وَلَوْ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ شَاكًّا فِي الْقِبْلَةِ ثُمَّ عَلِمَ صَوَابَهَا فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ اسْتَأْنَفَهَا، لِأَنَّ مَا ابْتَدَأَ مِنْهَا مَعَ الشَّكِّ بَاطِلٌ، وَلَوْ كَانَ الْبَصِيرُ فِي ظُلْمَةٍ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ فَصَلَّى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ ثُمَّ عَلِمَ صَوَابَ جهته(2/85)
أَعَادَ، كَالْأَعْمَى إِذَا صَلَّى بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ يُعِيدُ وَإِنْ أَصَابَ، وَلَوْ دَخَلَ الْبَصِيرُ فِي الصَّلَاةِ بِيَقِينِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أَطْبَقَ الْغَيْمُ، وَالظُّلْمَةُ وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى الصَّوَابِ حَتَّى يَعْلَمَ الْخَطَأَ فيعيد
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِذَا اجْتَهَدَ بِهِ رَجُلٌ ثُمَّ قَالَ لَهُ رَجُلٌ آَخَرُ قَدْ أَخْطَأَ بِكَ فَصَدَّقَهُ تَحَرَّفَ حَيْثُ قَالَ لَهُ وَمَا مَضَى مُجْزِئٌ عَنْهُ لِأَنَّهُ اجْتَهَدَ بِهِ مَنْ لَهُ قبول اجتهاده (قال المزني) قد احتج الشافعي في كتاب الصيام فيمن اجتهد ثم علم أنه أخطأ أن ذلك يجزئه بأن قال وذلك أنه لو تَأَخَّى الْقِبْلَةَ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاةِ أنه أخطأ أجزأت عنه كما يجزئ ذلك في خطإ عرفة واحتج أيضاً في كتاب الطهارة بهذا المعنى فقال إِذَا تَأَخَّى فِي أَحَدِ الْإِنَاءَيْنِ أَنَّهُ طَاهِرٌ والآخر نجس فصلى ثم أراد أن يتوضأ ثانية فكان الأغلب عنده أن الذي ترك هُوَ الطَّاهِرُ لَمْ يَتَوَضَّأْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَتَيَمَّمُ ويعيد كل صلاة صلاها بتيمم لأن معه ماء متيقناً وليس كالقبلة يتأخاها في موضع ثم يراها في غيره لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا وَهِيَ قِبْلَةٌ لقوم (قال المزني) فقد أجاز صلاته وإن أخطأ القبلة فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ إِصَابَةَ الْعَيْنِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا في حال الصلاة (قال المزني) وهذا القياس على ما عجز عنه المصلي فِي الصَّلَاةِ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وستر أن فرض الله كله ساقط عنه دون ما قدر عليه من الإيماء عرياناً فإذا قدر من بعد لم يعد فكذلك إذا عجز عن التوجه إلى عين القبلة كان عنه أسقط وقد حولت القبلة ثم صلى أَهْلُ قَبَاءٍ رَكْعَةً إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ أتاهم آتٍ فأخبرهم أن القبلة قد حولت فاستداروا وبنوا بعد يقينهم أنهم صلوا إلى غير قبلة ولو كان صواب عين القبلة المحول إليها فرضاً ما أجزأهم خلاف الفرض لجهلهم به كما لا يجزئ من توضأ بغير ماءٍ طاهرٍ لجهله به ثم استيقن أنه غير طاهر فتفهم رحمك الله (قال المزني) ودخل في قياس هذا الباب أن من عجز عما عليه من نفس الصلاة أو ما أمر به فيها أو لها أن ذلك ساقط عنه لا يعيد إذا قدر وهو أولى بأحد قوليه من قوله فيمن صلى في ظلمة أو خفيت عليه الدلائل أو به دم لا يجد ما يغسله به أو كان محبوساً في نجسٍ أنه يصلي كيف أمكنه ويعيد إذا قدر "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: " وَهَذَا صَحِيحٌ "
وَصُورَتُهَا: فِي أَعْمَى اجْتَهَدَ لَهُ بَصِيرٌ فِي الْقِبْلَةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ آخَرُ قَدْ أَخْطَأَ بِكَ فِي الِاجْتِهَادِ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ يَكُونَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّانِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ يَقِينٍ أَوِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا عَنْ يَقِينٍ صَارَ إِلَى قَوْلِ الثَّانِي إِذَا وَقَعَ فِي النَّفْسِ صِدْقُهُ، لِأَنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ بِالْيَقِينِ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ مُخْبِرًا عَنِ اجْتِهَادٍ لَمْ يَخْلُ حَالُ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:(2/86)
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مِنَ الثَّانِي فَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ وَيَتْرُكُ قَوْلَ الثاني
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مِنَ الأول فيعلم عَلَى قَوْلِ الثَّانِي وَيَعْدِلُ عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ
وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَا فِي الثِّقَةِ وَالْعِلْمِ سَوَاءً فَيَكُونُ كَالْبَصِيرِ إِذَا تَسَاوَتْ عِنْدَهُ جِهَتَانِ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا
وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا، وَيُصَلِّي إِلَى جِهَةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْخَطَأِ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَهُ عَنْ يَقِينٍ، أَوِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ أَخَبْرَهُ عَنْ يَقِينٍ صَارَ إِلَيْهِ وَانْحَرَفَ بِقَوْلِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجِهَةُ وَاحِدَةً وَإِنَّمَا كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْهَا يَسِيرًا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ جِهَةً أُخْرَى فَهَلْ يَبْنِي، أَوْ يَسْتَأْنِفُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنِ اجنهاد فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ مَضَى عَلَى جِهَةِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَوْثَقَ وَأَعْلَمَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ الثَّانِي وَتَرَكَ قَوْلَ الْأَوَّلِ، فَإِذَا انْحَرَفَ إِلَى جِهَةٍ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ وَإِنْ كَانَا فِي الثِّقَةِ، وَالْعِلْمِ سَوَاءً فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ عَلَى حَالِهِ وَيَعْمَلُ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَرْجِعُ عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى قَوْلِ الثَّانِي وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْخَطَأِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنِ اجْتِهَادٍ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ أَعْلَمَ أَوِ الثَّانِي كَالْبَصِيرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ إِذَا بَانَ لَهُ الْخَطَأُ بِاجْتِهَادٍ وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ عَنْ يَقِينٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَالْبَصِيرِ إِذَا تَيَقَّنَ الْخَطَأُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَذَهَبَ أبو إسحاق المروزي أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَصِيرِ بِأَنَّ الْبَصِيرَ عَلَى إِحَاطَةٍ مِنْ يَقِينِ غَيْرِهِ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَدْ كُنْتُ ذَهَبْتُ إِلَى هَذَا حَتَّى وَجَدْتُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى التسوية بينهما
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا دَخَلَ الْأَعْمَى فِي صَلَاةٍ بِاجْتِهَادِ بَصِيرٍ ثُمَّ أَبْصَرَ الْأَعْمَى فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَيْنُهُ حِينَ أَبْصَرَ عَلَى الْقِبْلَةِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا وَتَكُونُ حَالُهُ كَالْمُصَلِّي عُرْيَانًا إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا اسْتَتَرَ بِهِ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَإِنْ دَخَلَ(2/87)
بَصِيرٌ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ ثُمَّ عَمِيَ فِي تَضَاعِيفِهَا بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَسْتَدْبِرْ فِيهَا، أَوْ يَتَحَوَّلْ عَنْهَا، فَإِنِ اسْتَدَارَ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ أخطأ أو أصاب
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَوْ دَخَلَ غُلَامٌ فِي صَلَاةٍ فَلَمْ يُكْمِلْهَا أَوْ صَوْمِ يَوْمٍ فَلَمْ يُكْمِلْهُ حتى استكمل خمسة عشرة سنة أحببت أن يتم ويعيد لا يبين أن عليه إعادة (قال المزني) لا يمكنه صوم يومٍ هُوَ فِي آخِرِهِ غَيْرُ صَائِمٍ وَيُمْكِنُهُ صَلَاةٌ في آخر وقتها غير مصل أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ العصر قبل الغروب أنه يبتدئ العصر من أولها ولا يمكنه في آخر يوم أن يبتدئ صومه من أوله فيعيد الصلاة لإمكان القدرة ولا يعيد الصوم لارتفاع إمكان القدرة ولا تكليف مع العجز "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا دَخَلَ الصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ فِي صَلَاةِ وَقْتِهِ ثُمَّ بلغ في تضاعيفها باستكمال خمس عشر سَنَةً، أَوْ دَخَلَ فِي صِيَامِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ بَلَغَ فِي تَضَاعِيفِهَا بِالِاحْتِلَامِ، أو باستكمال خمس عشر سَنَةً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَا صِيَامُهُ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَحْبَبْتُ أَنْ يُتِمَّ وَيُعِيدَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ، وَخَالَفَهُمُ الْمُزَنِيُّ خِلَافًا رابعاً:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَصِيَامَهُ اسْتِحْبَابًا. وَيُعِيدُهُمَا وَاجِبًا فَحَمَلَ الاستحباب على الإتمام وَالْإِيجَابَ عَلَى الْإِعَادَةِ
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَصِيَامَهُ وَاجِبًا وَيُعِيدُهُمَا اسْتِحْبَابًا، فَحَمَلَ الْإِتْمَامَ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْإِعَادَةَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا أَعَادَ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ فَائِتًا أَعَادَ اسْتِحْبَابًا، وَلَا يُعِيدُ الصِّيَامَ
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَاجِبًا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ، وَلَا يُعِيدُ الصِّيَامَ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا سَنَذْكُرُهُ، وَعَلَى جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ بِبُلُوغِهِ فِي انْتِهَائِهَا، وَعِنْدَ أبي حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ بُلُوغَهُ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ عَلَيْهِ فَرْضَهَا، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْلًا، أَوْ لَا يَكُونَ نَفْلًا، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ الْفَرْضُ، وَلِأَنَّ بُلُوغَ الصَّبِيِّ فِي حَجِّهِ لَا يُسْقِطُ حَجَّ الْإِسْلَامِ عَنْهُ كَذَلِكَ بُلُوغُهُ فِي صَلَاتِهِ، وَصِيَامِهِ، لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ قَدْ تتعلق بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ، وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ فَلَمَّا كَانَتْ إِفَاقَةُ الْمَجْنُونِ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ تُوجِبُ اسْتِئْنَافَهَا بِحُدُوثِ التَّكْلِيفِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُلُوغُ الْغُلَامِ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ يُوجِبُ اسْتِئْنَافَهَا بِحُدُوثِ التَّكْلِيفِ
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ يُبْطِلُهَا الْحَدَثُ فَجَازَ أَنْ يَنُوبَ مَا فَعَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ، كَالطَّهَارَةِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الطَّهَارَةُ صَحَّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ، كالبالغ، ولأنها(2/88)
عِبَادَةٌ عَلَى الْبَدَنِ طَرَأَ الْبُلُوغُ فِيهَا عَلَى الْمُتَلَبِّسِ بِهَا فِي وَقْتٍ يَعْرِضُ لِفَوَاتِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ، كَالصَّبِيِّ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ عَرَفَةَ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ النَّفْلَ لَا يَنُوبُ عَنِ الْفَرْضِ فَهَذَا يُفَسَّرُ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْمُصَلِّي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ، أَنَّ صَلَاتَهُ نَافِلَةً تَنُوبُ عَنْ فَرِيضَةٍ عَلَى أَنَّ مَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدَّاهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ، لَا نَقُولُ أَنَّهَا نَافِلَة، وَإِنَّمَا نَقُولُ صَلَاةٌ مِثْلَهُ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَ بُلُوغُهُ قَبْلَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقٍ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْحَجِّ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَالصَّلَاةُ أَتَى بِهَا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يصح منه مع المجنون أَدَاءُ عِبَادَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَطَهَّرَ لم يجزه، وقد يصح ذلك من الصبي، ألا ترى أنه لو أَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْ أبي حنيفة، وَإِنْ خالفنا داود فمنع من صحة طهارته فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ إِعَادَةِ الصلاة دون الصيام، وكان من فرقه بينها أَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ صَوْمُ يَوْمٍ فَهَذَا هُوَ فِي آخِرِهِ غَيْرُ صَائِمٍ، وَيُمْكِنُهُ صَلَاةٌ هُوَ فِي آخِرِهَا غَيْرُ مُصَلٍّ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ إِنَّمَا أَرَادَ هُوَ فِي أَوَّلِهِ غَيْرُ صَائِمٍ، وَأَخْطَأَ فِي الْعِبَارَةِ فَقَالَ: فِي آخِرِهِ وَقَالَ غَيْرُ أَبِي إِسْحَاقَ: الْعِبَارَةُ صَحِيحَةٌ، وَمُرَادُهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُسْتَوْعَبُ وَقْتُهَا، وَالصَّوْمَ يُسْتَوْعَبُ وَقْتُهُ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ كُلُّ يَوْمٍ لَا يُمْكِنُهُ صِيَامُ أَوَّلِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُهُ وَقَضَاؤُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ لَا يُمْكِنُ صِيَامُ أَوَّلِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهْلَ الْعَوَالِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْهُ فَأَمَرَهُمْ بِصِيَامِ آخِرِهِ، وَلَمْ يُلْزِمْهُمْ صِيَامَ أَوَّلِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْمُزَنِيِّ لَوْ عَكَسَ عَلَيْكَ قَوْلَكَ فِي إِيجَابِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ لَكَانَ أَشْبَهَ، لِأَنَّ الصِّيَامَ أَدْخَلُ فِي الْقَضَاءِ مِنَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ دُونَ الصَّلَاةِ وَالْمُسَافِرَ يَقْضِي مَا أَفْطَرَ دُونَ مَا قَصَرَ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقِ فَاسِدًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَاخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فَلَا يَخْلُو الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ مِنْ أربعة أحوال:
أحدها: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ صَلَّى وَلَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ اتِّفَاقًا
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَكُونُ قَدْ صَلَّى وَأَكْمَلَ الصَّلَاةَ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ إِنْ كَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ وَقْتُ الْإِعَادَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا(2/89)
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي تَرْكِهَا وَفِي إِتْمَامِهَا، وَهُوَ أَوْلَى ثُمَّ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَمَّهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهَا، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إِعَادَتُهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنْ كَانَ وَقْتُهَا بَعْدَ إِتْمَامِهَا بَاقِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا وَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ إِتْمَامِهَا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَهُ
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبْلُغَ فِي تَضَاعِيفِهَا وَيُفْسِدَهَا قَبْلَ إِتْمَامِهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا فِي قَوْلِ جَمِيعِهِمْ، فَأَمَّا إِذَا بَلَغَ فِي صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ شهر رمضان فله ثلاثة أحوال:
أحدها: أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي قَوْلِ جميعهم
والثاني: أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا وَيُتَمِّمَهُ فَعَلَى قَوْلِ الْمُزَنِيِّ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ يُجْزِئُهُ وَلَا يُعِيدُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِمًا وَيَفْسُدَ صَوْمُهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِاتِّفَاقِهِمْ - وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أعلم بالصواب -(2/90)
(بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَمَا يُجْزِئُ مِنْهَا وَمَا يفسدها وعدد سجود القرآن)
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَإِذَا أَحْرَمَ إِمَامًا، أَوْ وَحْدَهُ نَوَى صَلَاتَهُ فِي حَالِ التَّكْبِيرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ نَوَى صَلَاتَهُ وإن كان مَعْلُومًا أَنَّهُ لَا يَنْوِي صَلَاةَ غَيْرِهِ رَدًّا عَلَى مَالِكٍ، وأبي حنيفة، حِينَ مَنَعَا مِنَ اخْتِلَافِ نِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ
وَأَمَّا النِّيَّةُ: فَمِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ
وَالدِّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَالْإِخْلَاصُ فِي كَلَامِهِمْ: النِّيَّةُ
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نوى "
فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُهَا فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: مَحَلُّ النِّيَّةِ
وَالثَّانِي: كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ
وَالثَّالِثُ: وَقْتُ النِّيَّةِ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَحَلُّ النِّيَّةِ وَهُوَ الْقَلْبُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِهِ، لِأَنَّهَا تُفْعَلُ بِأَنْأَى عُضْوٍ فِي الْجَسَدِ، وَهُوَ الْقَلْبُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَهُ ثلاثة أحوال:
أحدها: أن ينوي بقلبه، وبلفظ بِلِسَانِهِ فَهَذَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ
وَالْحَالُ الثانية: أن يلفظ بِلِسَانِهِ وَلَا يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ فَهَذَا لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ مَحَلَّ النِّيَّةِ الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ؛ كَمَا أَنَّ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَلَمَّا كَانَ لَوْ عَدَلَ بِالْقِرَاءَةِ عَنْ ذِكْرِ اللِّسَانِ إِلَى الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ لَمْ يُجْزِهِ وَجَبَ إِذَا عَدَلَ بِالنِّيَّةِ عَنِ اعْتِقَادِ الْقَلْبِ إِلَى ذِكْرِ اللِّسَانِ لَا يُجْزِئُهُ لِعُدُولِهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ جَارِحَتِهِ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُجْزِئُهُ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ - مِنْ أَصْحَابِنَا - لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِلِسَانِهِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ " الْمَنَاسِكِ " وَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا أَحْرَمَ بِقَلْبِهِ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلِسَانِهِ وَلَيْسَ كَالصَّلَاةِ الَّتِي لَا تصح إلا(2/91)
بِالنُّطْقِ فَتَأَوَّلَ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ النُّطْقِ فِي النِّيَّةِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ وُجُوبَ النُّطْقِ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ مِمَّا يُوَضِّحُ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ حِجَاجًا: أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَلَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ أَعْمَالِ اللِّسَانِ لَمْ تفتقر إلى غيره من الجوارح
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فَتَحْتَاجُ أَنْ تَتَضَمَّنَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: فِعْلَ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبَهَا، وَتَعْيِينَهَا، لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ
ضَرْبٍ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ لَا غَيْرُ، وَضَرْبٍ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ لَا غَيْرُ، وَضَرْبٍ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ، فَأَمَّا الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ فَهُوَ الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ، وَالطَّهَارَةُ فَإِذَا نَوَى فِعْلَ الْحَجِّ، أَوْ فِعْلَ الْعُمْرَةِ، أَوِ الطَّهَارَةَ لِلصَّلَاةِ أَجْزَأَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْوُجُوبَ وَالتَّعْيِينَ، لِأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ ذَلِكَ عَلَى النَّفْلِ وَكَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ لَا يُعْقَدُ ذَلِكَ بِالْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ، وَأَمَّا الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ دُونَ التَّعْيِينِ فَهُوَ الزَّكَاةُ، وَالْكَفَّارَةُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَنْوِيَ فِيمَا يُخْرِجُهُ أَنَّهُ زَكَاةٌ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَفِي الْعِتْقِ أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَأَمَّا الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةِ الْفِعْلِ وَالْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ فَيَنْوِي صَلَاةَ ظُهْرِ يَوْمٍ؛ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ تَعْيِينُهَا يُغْنِي عَنْ نِيَّةِ الْوُجُوبِ، حَتَّى إِذَا نَوَى صَلَاةَ الظُّهْرِ أَغْنَى عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرْضٌ؟ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَا تُغْنِي نِيَّتُهُ أَنَّهَا ظُهْرٌ عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرِيضَةٌ، وَلَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ عَنْ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا فَرْضٌ قَالَ: لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يُصَلِّي الظُّهْرَ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَلَا يَكُونُ فَرْضًا، فَعَلَى هَذَا يَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ ظُهْرِ يَوْمِهِ الْفَرِيضَةَ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِذَا نَوَى أَنَّهَا ظُهْرٌ أَغْنَى عَنْ [أَنْ يَنْوِيَ] أَنَّهَا فَرْضٌ، لِأَنَّ الظُّهْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا فَرْضًا، وَلَيْسَ إِذَا سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا، لِأَنَّ سَائِرَ الْفُرُوضِ هَكَذَا تَكُونُ، فَعَلَى هَذَا إِنْ نَوَى ظُهْرَ يَوْمِهِ أَجْزَأَهُ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى صَلَاةَ الظُّهْرِ لَمْ يَنْوِهَا لِيَوْمِهِ أَوْ وَقْتِهِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ ظُهْرٌ فَائِتَةٌ لَمْ تُجْزِهِ حَتَّى يَنْوِيَ بِهَا ظُهْرَ يَوْمِهِ لِتَمْتَازَ عَنِ الْفَائِتَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ظُهْرٌ فَائِتَةٌ أَجْزَأَهُ، فَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْفَوَائِتُ فَلَا يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِأَيَّامِهَا وَإِنَّمَا يَنْوِي صَلَاةَ الظُّهْرِ الْفَائِتَةَ، فَأَمَّا أَنْ يَنْوِيَ مِنْ يَوْمِ كَذَا في شهر كذا فلا يلزمه
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي وَقْتِ النِّيَّةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " مَعَ التَّكْبِيرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَإِنْ نَوَى بَعْدَ التَّكْبِيرِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ نَوَى قَبْلَ التَّكْبِيرِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَنْ يَسْتَدِيمَ النِّيَّةَ إِلَى وَقْتِ التَّكْبِيرِ "
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ نَوَى قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِزَمَانٍ قَرِيبٍ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ بِزَمَانٍ بَعِيدٍ لَمْ يُجْزِهِ
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَأُحِبُّ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَّةِ بِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهَا فِي الصِّيَامِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ(2/92)
تَقْدِيمُهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الدُّخُولِ فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ النِّيَّةِ مَعَ ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِيهَا يَشُقُّ، وَأَمَّا دَاوُدُ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَارَنَ النِّيَّةَ بِالتَّكْبِيرِ لَتَقَدَّمَ جُزْءٌ مِنَ التَّكْبِيرِ قَبْلَ النِّيَّةِ، كَمَا لَوْ تَأَخَّى بِنِيَّتِهِ طُلُوعَ الْفَجْرِ لَمْ يُجْزِهِ لِتَقَدُّمِ جُزْءٍ مِنْهُ قَبْلَ كَمَالِ نِيَّتِهِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى أبي حنيفة فِي أَنَّ تَقْدِيمَ النِّيَّةِ لَا يَجُوزُ: أَنَّهُ إِحْرَامُ عُرِّيَ عَنِ النِّيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَى الزَّمَانِ الْبَعِيدِ، وَيُفَارِقُ مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ مِنَ الصِّيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ فِيهِ بِالزَّمَانِ الْقَرِيبِ جَازَ بِالزَّمَانِ الْبَعِيدِ وَالصَّلَاةُ، لَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَيْهَا بِالزَّمَانِ الْبَعِيدِ لَمْ يَجُزْ بِالزَّمَانِ الْيَسِيرِ
وَالثَّانِي: أَنَّ دُخُولَهُ فِي الصِّيَامِ لَا يَفْعَلُهُ بِالزَّمَانِ فَشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِهِ وَدُخُولَهُ إِلَى الصَّلَاةِ بِفِعْلِهِ فَلَمْ يُشَقَّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا
وَالدَّلِيلُ عَلَى دَاوُدَ: أَنَّ مَا وَجَبَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمِ اسْتِدَامَةُ النِّيَّةِ إِلَيْهِ كَالصِّيَامِ فَلَمَّا كَانَ وُجُوبُ النِّيَّةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنْ تَقْدِيمُهَا قبل الإحرام واجباً، وفيه انفصال
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا أَحْرَمَ وَنَوَى ثُمَّ شَكَّ هَلْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مُقَارِنَةً لِإِحْرَامِهِ أَوْ مُقَدِّمَةً؟ لَمْ تُجْزِهِ حَتَّى يَبْتَدِئَ الْإِحْرَامَ نَاوِيًا مَعَهُ، فَلَوْ تَيَقَّنَ بَعْدَ شَكِّهِ مُقَارَنَةَ النِّيَّةِ لِإِحْرَامِهِ فَإِنْ تَيَقَّنَ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ الشَّكِّ عَمَلًا مِنْ قِرَاءَةٍ، أَوْ رُكُوعٍ فَصَلَاتُهُ باطلة، وإن تقين قبل أن عمل فِيهَا عَمَلًا فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَيُتَمِّمُهَا وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْقُرْبِ إِلَى حَدِّ الْبُعْدِ فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ وَيَسْتَأْنِفُهَا، لِأَنَّ اللُّبْثَ فِيهَا عَمَلٌ مِنْهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَيُتَمِّمُهَا، لِأَنَّ اللُّبْثَ مَقْصُودٌ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِيهَا، وَلَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ عَمَلِهَا، وَهَكَذَا لَوْ شَكَّ هَلْ نَوَى ظُهْرًا، أَوْ عَصْرًا لَمْ يُجْزِهِ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَتَيَقَّنَهَا فَإِنْ تَيَقَّنَهَا بَعْدَ الشَّكِّ فَعَلَى مَا مَضَى مِنَ التقسيم والجواب
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَلَا يُجْزِئُهُ إِلَّا قَوْلُهُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي الصَّلَاةِ مُحْرِمًا إِلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ
وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَكْبَرُ فَأَمَّا بِقَوْلِهِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ فَلَا يَصِحُّ
وَقَالَ أبو يوسف: يَصِحُّ بِسَائِرِ أَلْفَاظِ التَّكْبِيرِ [مِنْ قَوْلِهِ] اللَّهُ أَكْبَرُ، أَوِ اللَّهُ الْأَكْبَرُ، أَوِ اللَّهُ الْكَبِيرُ(2/93)
وَقَالَ أبو حنيفة: يَصِحُّ بِكُلِّ أَسْمَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبِكُلِّ مَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا قَوْلَهُ " مَالِكِ يَوْمِ الْحِسَابِ " وَ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " وَ " حَسْبِيَ اللَّهُ " اسْتِدْلَالًا بقوله سبحانه: {قد أفلح من تزكى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15] قَالَ: وَلِأَنَّهُ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتَعْظِيمِهِ فَصَحَّ انْعِقَادُهَا بِهِ كَقَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، فَلَمَّا صَحَّ بِقَوْلِهِ: " اللَّهُ أَكْبَرُ " دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ
وَدَلِيلُنَا: رواية مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ "
وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلْيَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ لِيُكَبِّرْ "
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَيَخْتِمُ بِالتَّسْلِيمِ وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ لَا يَصِحُّ افْتِتَاحُ الْأَذَانِ بِهِ لَا يَصِحُّ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ بِهِ كَقَوْلِهِ " حَسْبِيَ اللَّهُ "، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شُرِعَ فِي افْتِتَاحِهَا التَّكْبِيرُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ إِلَّا بِهِ كَالْأَذَانِ وَإِنَّ الذِّكْرَ الْمَفْرُوضَ لَا يُؤَدَّى بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، كَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، لِأَنَّهُ عَقِبَ الصَّلَاةِ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا عَيَّنَتْهُ النِّيَّةُ مِنَ التَّكْبِيرِ
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ لَا بِاللِّسَانِ، لِأَنَّ ضِدَّهُ اللِّسَانُ فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِالظَّاهِرِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّكْبِيرِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ صِحَّةُ افْتِتَاحِ الْأَذَانِ بِهِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِاللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ وَقَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ قَدْ تَضَمَّنَ لَفْظَ التَّكْبِيرِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِالْمَعْنَى فَهُوَ لَا يُوجَبُ إِلَّا فِيمَا ذَكَرْنَا دُونَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْعُ ذَلِكَ مِنِ افْتِتَاحِهَا بِقَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَغَلَطٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِلَفْظِ قَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " وَمَعْنَاهُ وَزَادَ عَلَيْهِ حَرْفًا فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْجَوَازِ كَمَا لَوْ قَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ "، وَأَمَّا إِجَازَةُ أبي يوسف افْتِتَاحَهَا بِقَوْلِهِ اللَّهُ الْكَبِيرُ، فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَ وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظِ أَكْبَرَ وَزِيَادَةٍ فَهُوَ مُقَصِّرٌ عَنْ مَعْنَاهُ، لِأَنَّ أَفْعَلَ أَبْلَغُ فِي الْمَدْحِ مِنْ فَعِيلٍ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِيهَا إِلَّا بِقَوْلِهِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " أَوِ " اللَّهُ الْأَكْبَرُ "، فَزَادَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ، أَوِ اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، أَوِ الله أكبر(2/94)
كَبِيرًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ نَخْتَرْهُ، فَأَمَّا إِذَا أَتَى بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّكْبِيرِ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَدَحَهُ بِأَنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَصِيرُ بِهِ التَّكْبِيرُ مَفْصُولًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَكْبَرُ، أَوْ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَكْبَرُ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا يَجْعَلْ مَا بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ مَفْصُولًا مِثْلَ قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَكْبَرُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّكْبِيرِ إِلَى الشاء، والتهليل فإن قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ [اللَّهُ] فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الصِّفَةِ عَلَى الِاسْمِ أَبْلَغُ فِي التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ وَهُوَ أَصَحُّ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْإِلْبَاسَ، وَيَخْرُجُ عَنْ صَوَابِ التَّكْبِيرِ وَصِيغَتِهِ، وَلَكِنْ لَوْ قَالَ أَكْبَرُ اللَّهُ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ كَلَامًا مَفْهُومًا، وَلَوْ تَرَكَ حَرْفًا مِنَ التَّكْبِيرِ لَمْ يَأْتِ بِهِ كَتَرْكِهِ الرَّاءَ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ النُّطْقِ الْمُسْتَحَقِّ إِلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنْهُ، لِأَنَّ لِسَانَهُ لَا يَدُورُ بِهِ كَالْأَلْثَغِ فَيُجْزِئُهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالصَّلَاةِ يَنْعَقِدُ بِمَا ذَكَرْنَا فَالْإِحْرَامُ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْكَانِ فِيهَا
قَالَ أبو حنيفة: الْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ "، وَأَضَافَ التَّكْبِيرَ إِلَى الصَّلَاةِ وَالشَّيْءُ إنما يضاف إلى غيره كقولهم غُلَامُ زَيْدٍ، وَثَوْبُ عُمَرَ، وَكَأَنَّ مَا كَانَ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهِ إِلَّا مَعَ الْإِمَامِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا جَازَ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا صَارَ بِكَمَالِهِ دَاخِلًا فِيهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ إِنَّمَا هَيَ تَكْبِيرٌ وَتَهْلِيلٌ " فِلَمَّا جُعِلَ التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ وَلَيْسَ يَجِبُ فِيهَا إِلَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ كُلِّ صَلَاةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَالْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي افْتِتَاحِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْبِيرُ فِيهَا كَالْأَذَانِ، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ الَّذِي لَا يَنْفَصِلُ عَنِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنِ الصَّلَاةِ كَالتَّكْبِيرَاتِ الَّتِي فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ مَا لَيْسَ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنَ الصَّلَاةِ، كَالتَّوَجُّهِ
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ لا يَصِحُّ، لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إِلَى جُمْلَتِهِ كَمَا قَدْ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ: رَأْسُ زَيْدٍ وَيَدُ عُمَرَ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِهِ وَرَاءَ إِمَامِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ صَلَاتِهِ، قُلْنَا: إِنَّمَا أَتَى بِهِ وَرَاءَ إِمَامِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِهِ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ لَمْ يَأْتِ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِهِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا بِكَمَالِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّلَاةِ لِتَقَدُّمِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلَاةِ وَابْتِدَاؤُهَا وَالدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ يَكُونُ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الشَّيْءِ لَيْسَ مِنْهُ(2/95)
(فَصْلٌ)
: قَالَ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ فُرَادَى أَسَرَّ الْمُصَلِّي بِالتَّكْبِيرِ، وَإِنْ كَانَتْ جَمَاعَةً جَهَرَ الْإِمَامُ بِالتَّكْبِيرِ وَأَسَرَّ بِهِ الْمَأْمُومُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ كَثِيرًا، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ عَدَدٌ مِنْهُمْ لِيَسْمَعَ جَمِيعُهُمْ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " فإن لَمْ يُحْسِنِ الْعَرَبِيَّةَ كَبَّرَ بِلِسَانِهِ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِنْ كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَبِّرَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أبا حنيفة فَإِنَّهُ انْفَرَدَ بِجَوَازِ التَّكْبِيرِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ ذِكْرُ الشَّهَادَتَيْنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَصَارَ بِهِ مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ كَانَ فِي التَّكْبِيرِ مِثْلَهُ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بِالتَّكْبِيرِ الْعَرَبِيِّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَذْكَارٍ، وَأَفْعَالٍ فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْأَفْعَالِ إِلَى أَبْدَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ الْأَذْكَارِ إِلَى أَبْدَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، فَأَمَّا لَفْظُ الشَّهَادَتَيْنِ فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ: لَا يَصِحُّ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ إِلَّا بِالْعَرَبِيَّةِ فعلى قوله يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ، وَأَمَّا جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ بِالْفَارِسِيَّةِ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ: أَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ مَشْرُوعَةٌ عَلَى وَصْفٍ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ فَلَزِمَ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَالْمَقْصُودُ بِالشَّهَادَتَيْنِ الْإِخْبَارُ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ لَفْظُ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَكَبَّرَ بِلِسَانِهِ فَيُجْزِئُهُ، لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى أَبْدَالِهَا، فَلَوْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، وَيُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ وَالسُّرْيَانِيَّةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِأَيِّهَا يُكَبِّرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُكَبِّرُ بِالْفَارِسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ اللُّغَاتِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ
والوجه الثاني: أن يُكَبِّرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْزَلَ بها كتابه وَمَا أَنْزَلَ بِالْفَارِسِيَّةِ كِتَابًا
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُكَبِّرُ بِأَيِّهَا شَاءَ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْفَارِسِيَّةَ والتركية فأحد الوجهين يكبر بالفارسية [والثاني بالخيار، لو كان يحسن السريانية والنبطية فأحد الوجهين يكبر بالسريانية]
وَالثَّانِي: أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، وَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ التُّرْكِيَّةَ، وَالْهِنْدِيَّةَ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِيهِمَا(2/96)
وَجْهًا وَاحِدًا، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ جَوَّزْتُمْ لَهُ التَّكْبِيرَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ وَمَنَعْتُمُوهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَوْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ
قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِلْقُرْآنِ نَظْمًا مُعْجِزًا يَزُولُ إِعْجَازُهُ إِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ قُرْآنًا وَلَيْسَ فِي التَّكْبِيرِ إِعْجَازٌ يَزُولُ عَنْهُ إِذَا زَالَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ "
يَعْنِي: مَا سِوَى الْقِرَاءَةِ مِنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْعَرَبِيَّةِ [قاله بلسانه وإن كان يحسن العربية قاله بِالْعَرَبِيَّةِ] فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرًا وَاجِبًا، كَالتَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ لَمْ يُجْزِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مُسْتَحَبًّا مَسْنُونًا كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّوَجُّهِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ
(فصل)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وعليه أن يتعلم "
يعني: هذه الْأَذْكَارِ مِنَ التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وإن لم يقدر عَلَى تَعَلُّمِهَا إِمَّا لِتَعَذُّرِ مَنْ يُعَلِّمُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ إِذَا ذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ ثُمَّ فَرْضُ التَّعْلِيمِ بَاقٍ عَلَيْهِ إِذَا قَدِرَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا عدم في موضعه من يعلمه أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لِيَجِدَ فِيهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي مَوْضِعِهِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى نَاحِيَةٍ يَجِدُ الْمَاءَ فِيهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ فِي مَوْضِعِهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ كَمَا يَلْزَمُهُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ أَنْ يَطْلُبَ فِي مَوْضِعِهِ مَاءً يستعمله
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُكَبِّرُ إِذَا كَانَ إِمَامًا حَتَّى تَسْتَوِيَ الصُّفُوفُ خَلْفَهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا وَقَفَ فِي مِحْرَابِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ إِقَامَتِهِ أَلَّا يُحْرِمَ بِالصَّلَاةِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِوَاءِ الصُّفُوفِ خَلْفَهُ يَمِينًا فَيَقُولُ: استووا رحمكم اللَّهُ، وَيَلْتَفِتُ يَسَارًا فَيَقُولُ كَذَلِكَ، وَأَيْنَ رَأَى فِي الصُّفُوفِ خَلَلًا أَمَرَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ، فَإِذَا اسْتَوَوْا أَحْرَمَ بِهِمْ وَلَمْ يَنْظُرِ اسْتِوَاءَ صُفُوفِهِمْ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصلاة "(2/97)
وَرَوَى سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُسَوِّي الصَّفَّ حَتَّى يَجْعَلَهُ مِثْلَ الْقِدَاحِ، أَوِ الرِّمَاحِ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَدْرَ رَجُلٍ قَائِمًا فَقَالَ: " عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ "
وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " وَلِأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَحْرَمَ قَبْلَ اسْتِوَاءِ الصُّفُوفِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِحْرَامِ فَتَقَدَّمَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَتَأَخَّرَ بِهِ الْبَعْضُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونُوا مُتَّفِقِينَ فِي اتِّبَاعِهِ فِي الْإِحْرَامِ كَمَا يتفقون في سائر الأركان
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا كَبَّرَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَمَسْنُونٌ بِاتِّفَاقٍ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ رَفْعِهِمَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرْفَعُهُمَا إِلَى مَنْكِبَيْهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: يَرْفَعُهُمَا إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْفَعُ إِبْهَامَيْهِ فِي الصَّلَاةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ
وروى عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حِيَالَ أُذُنَيْهِ قَالَ ثُمَّ أَتَيْتُهُمْ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى صدورهم في افتتاح الصلاة وعليهم برانيس، وأكيسة "
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَصْنَعُ مِثْلَ ذَلِكَ إِذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، وَيَصْنَعُهُ إِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ(2/98)
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْجِيحٌ
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ
فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَنَا أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَشْهَرُ عَمَلًا فَكَانَ أَوْلَى
وَالثَّانِي: أَنَّ حَدِيثَ وَائِلٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ إِلَى الْأُذُنَيْنِ، وَرُوِيَ إِلَى الصَّدْرِ فَكَانَ بَعْضُهُ يُعَارِضُ بَعْضًا، وَحَدِيثُنَا مُؤْتَلِفٌ فَكَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَهُوَ: أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَنْ رَوَى إِلَى الصَّدْرِ عَلَى ابْتِدَاءِ الرَّفْعِ، وَمَنْ رَوَى إِلَى الْأُذُنَيْنِ عَنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فِي انْتِهَاءِ الرَّفْعِ، وَمَنْ رَوَى إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الْكَفَّيْنِ فِي مَقْصُودِ الرَّفْعِ فتصير مُسْتَعْمِلِينَ لِلرِّوَايَاتِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ: كُلُّ هَذَا مِنَ اخْتِلَافِ الْمُبَاحِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السُّنَّةَ رَفْعُهُمَا إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ فَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ، والمأموم [والرجل] ، وَالْمَرْأَةُ، وَالْقَائِمُ، وَالْقَاعِدُ فِي الْفَرِيضَةِ، وَالنَّافِلَةِ فَإِذَا رَفَعَهُمَا نَشَرَ أَصَابِعَهُ فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَنَشَرَ أَصَابِعَهُ، فَلَوْ كَانَ بِيَدَيْهِ مَرَضٌ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رفع إحدى يديه دون الأخرى رفعها، وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْكَفَّيْنِ رَفَعَ زَنْدَيْهِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، وَلَوْ رَكَعَ لَمْ يَبْلُغْ بِزَنْدَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ لِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ خَالَفَ هَيْئَةَ الرُّكُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي رَفْعِهَا لِلتَّكْبِيرِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا هَيْئَةَ شَيْءٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ويأخذ كوعه الْأَيْسَرِ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى وَيَجْعَلُهَا تَحْتَ صَدْرِهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ لَهُ ذَلِكَ لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ثَلَاثٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلَاةِ "(2/99)
وَرَوَى أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِرَجُلٍ يُصَلِّي وَقَدْ أَسْدَلَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَوْ خَشَعَ قَلْبُكَ لَخَشَعَتْ يَدُكَ وَأَمَرَهُ بِوَضْعِ اليمنى على اليسرى
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَضَعَهَا تَحْتَ صَدْرِهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: تَحْتَ سُرَّتِهِ، لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كان يضعها تحت سرته
دليلنا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَجْعَلُهَا تَحْتَ صَدْرِهِ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أَنْ يَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى عِنْدَ النَّحْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ، وَتَحْتَ الصَّدْرِ الْقَلْبُ وَهُوَ مَحَلُّ الْخُشُوعِ، وَكَانَ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَيْهِ أَبْلَغَ فِي الْخُشُوعِ مِنْ وَضْعِهَا على العورة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثم يقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، أَمَّا لفظ التوجه فمسنون بإجماع إنما الِاخْتِلَافُ فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي صِفَتِهِ
وَالثَّانِي: فِي مَحَلِّهِ فَأَمَّا صِفَةُ التَّوَجُّهِ فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ
وَقَالَ أبو حنيفة: بِمَا رَوَاهُ أبو الجوازء عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ " تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {وَسَبِّحْ بحمد ربك حين تقوم}(2/100)
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي، وَنُسُكِي، وَمَحْيَايَ، وَمَمَاتِي، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا أول الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُهَا إِلَّا أَنْتَ اصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْوَهُ، فَكَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ هذه الرواية ثلاثة أشياء:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَصَحُّ رِوَايَةً وَأَثْبَتُ إِسْنَادًا، وَأَشْهَرُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَتْنًا
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُشَابِهٌ لِحَالِ الْمُصَلِّي، وَلِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ وَذَاكَ نَوْعٌ فَكَانَ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَوْلَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} فَيُحْمَلُ عَلَى أَمْرَيْنِ إِمَّا عَلَى الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ وَإِمَّا عَلَى التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَفِي الصَّلَاةِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإحرام وبه قال أبو حنيفة، قال مالك: يتوجه قبل الإحرام لتحقق ذَلِكَ بِالتَّوَجُّهِ وَالْإِحْرَامِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِرِوَايَةِ عَلِيٍّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَجَّهْتُ وَجْهِي مَعْنَاهُ قَصَدْتُ بوجهي الله سبحانه وأنشد الفراء:(2/101)
(أستغفر الله ذنباً لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل)
يعني: إليه القصد، والعمل وإذا كان معناه قصدت بوجهي الله فهو قبل الإحرام غير قاصد بوجهه لله تعالى وإنما هو عازم على العقد وبعد الإحرام قاصد، لأنه يخبر عن حقيقة توجهه، فكان ذكره في حقيقته أولى منه في مجازه
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ مَا وَصَفْنَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْفَرْضِ، وَالنَّفْلِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا فَيَقْتَصِرُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ: " وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ "، وَلَا يَقُولُ مَا بَعْدَهُ لِئَلَّا تَطُولَ الصَّلَاةُ وَيَقْطَعَ النَّاسَ عَنْ أَشْغَالِهِمْ، وَيَتَأَذَّى بِهِ الْمَرِيضُ مِنْهُمْ، وَلَا يَقُولُ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَتَعَوَّذُ، وَيَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَوَّذَ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّوَجُّهِ، وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَتَعَوَّذُ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من الشيطان الرجيم} وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَعَوَّذُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ حَتَّى لَا يَكُونَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ ذِكْرٌ إِلَّا الْقِرَاءَةُ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ نفخته وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ " قَالَ: نَفْثُهُ الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ، وَهَمْزُهُ الْجُنُونُ
وَرَوَى أَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا قَامَ يَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ثم يقرأ. . "
(فصل)
: فإذا أثبت أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ، وَالْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَحْدَهَا(2/102)
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: يَتَعَوَّذُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مِنَ الدُّعَاءِ مَحَلُّهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى كَالِاسْتِفْتَاحِ، وَيُسِرُّ بِهِ وَلَا يَجْهَرُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ مَعًا فَإِنْ جَهَرَ بِهِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَيَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ مِنَ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ، وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لقوله: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} ، وَقَوْلُهُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ مِنَ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَهُ، فَصَارَ أُولَاهُ لِإِبَانَةِ كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ بَعْدَهُ مَا وَرَدَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَقْرَأُ مُرَتِّلًا بِأُمِّ الْقُرْآنِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ فَوَاجِبَةٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَا
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، وَالْأَصَمُّ: الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِالنَّاسِ فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا فَقِيلَ لَهُ: نَسِيتَ الْقِرَاءَةَ قَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ: قَالُوا: حَسَنًا قَالَ: فَلَا بَأْسَ إِذًا، وَهَذَا خَطَأٌ خَالَفَ بِهِ الْإِجْمَاعَ لِرِوَايَةِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخرج فناد في المدينة أَنْ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقُرْآنٍ، وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَمَا زَادَ
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ أَتَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: أَوَ تَكُونُ صَلَاةٌ بِلَا قِرَاءَةٍ، وَلَعَلَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَبَا هُرَيْرَةَ بِالنِّدَاءِ لِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَجُوزُ أَنْ يكون تركها ناسياً، أو أسرها
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ فَهِيَ مُعَيَّنَةٌ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ لَا يُجْزِي غَيْرُهَا
وَقَالَ أبو حنيفة: الْمُسْتَحَقُّ مِنَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً مِنْ آيِ الْقُرْآنِ إِنْ شاء استدلالاً بقوله تعالى: {فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ، وَتَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ بِالْفَاتِحَةِ يُزِيلُ الظَّاهِرَ عَنْ حُكْمِهِ، وَبِحَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ، وَبِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " أَوْ غَيْرِهَا " قَالَ: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِيَ فِيهِ مَا يَنْطَلِقُ الِاسْمُ عَلَيْهَ كَالتَّكْبِيرِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِيهِ إِعْجَازٌ فَوَجَبَ أَنْ يُتِمَّ بِهِ الصَّلَاةَ كَالْفَاتِحَةِ، قَالَ: ولأن الخطبة تجري عندكم مجرى الصلاة، فلما لم تتعين القرآة فيها لَمْ تَتَعَيَّنْ فِي الصَّلَاةِ(2/103)
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " وَرَوَى سُفْيَانُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ " يَعْنِي: نَاقِصَةٌ
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ " ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ؛ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ أَرْكَانَ الْعِبَادَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ مُتَعَيِّنَةٌ كَالْحَجِّ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا قِيَامُ اللَّيْلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ثُمَّ يُسْتَحَبُّ
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْخُطْبَةِ أَوْ فِيمَا عَدَا الْفَاتِحَةَ
وَالثَّالِثُ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ فَسَّرَهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، لِأَنَّ ظَاهِرَهَا مَتْرُوكٌ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَوْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ بَعْضُ آيَةٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَوْ بِغَيْرِهَا " يَعْنِي: وَبِغَيْرِهَا عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ [الْكِتَابِ] لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَوْ بِغَيْرِهَا لِمَنْ لَا يُحْسِنُهَا أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْفَاتِحَةِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّكْبِيرِ، فَالْأَصْلُ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى حُكْمِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ فَلَمْ نُسَلِّمْ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَجُوزُ بِمَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ التَّكْبِيرِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخُطْبَةِ فَهُوَ أَصْلٌ يُخَالِفُونَا فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَيْنَا، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخِطْبَةِ لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ أَرْكَانُهَا لَمْ تَتَعَيَّنِ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي تَتَعَيَّنُ أركانها
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ أم القرآن وعدها آية "(2/104)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عِنْدَنَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا إِلَّا مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ فَلَيْسَتْ آيَةً مِنْهَا
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ حُكْمًا أَوْ قَطْعًا؟ فَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُهُمْ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ حُكْمًا إِلَّا سُورَةَ النَّمْلِ فَإِنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا قَطْعًا، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ قَطْعًا كَسُورَةِ النَّمْلِ إِلَّا التَّوْبَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا إِلَّا مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ بِهَا الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهَا ليست من القرآن إلى فِي سُورَةِ النَّمْلِ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَحَكَى بَعْضُ أصحابه أَنَّهَا آيَةٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَتْ فِيهِ إِلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنَ السُّورَةِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَكُونَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ بِأُمُورٍ
مِنْهَا: رِوَايَةُ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانُوا يفتتحون الصلاة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، قَالُوا: وَلِأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: له اقرأ قال: ما أَقْرَأُ؟ قَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] وَلَمْ يَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِيهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْقُرْآنِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ القرآن لا يثبت بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ كَذَلِكَ مَحَلُّهُ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ قَالُوا: وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قَدْ أَجْمَعَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ عَلَى عَدَدِ آيِهَا فَمِنْ ذَلِكَ سُورَةُ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ، فَلَوْ كَانَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْهَا لَكَانَتْ خَمْسًا، وَكَذَلِكَ الْمُلْكُ أَجْمَعُوا عَلَى أنها ثلاثون آية
ودليلنا رواية بن جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَعْدَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية الحمد لله رب العالمين آية، الرحمن الرحيم آية، مالك يوم الدين آية، إياك نعبد وإياك نستعين آية، إهدنا الصراط المستقيم آيَةَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم ولا الضالين آيَةً، وَهَذَا نَصٌّ
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: الحمد لله رب العالمين سبع آيات(2/105)
أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَأُمُّ الْقُرْآنِ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى أحد قبلي إلى عَلَى أَخِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَقَالَ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَ تَسْتَفْتِحُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فَقَالَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هِيَ هِيَ "
وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ نَحْوَهُ
وَرَوَى فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ عَنْ أَنَسٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر. . حَتَّى خَتَمَهَا، قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَعْرِفُ فَضْلَ السُّورَةِ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ
وَهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً " يَعْنِي: أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فِي قِتَالِ مُسَيْلِمَةَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرَى الْقَتْلَ قَدِ اسْتَمَرَّ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَذْهَبَ الْقُرْآنُ، فَلَوْ جَمَعْتَهُ فقال أبو بكر رضي الله عنه ليزيد بْنِ ثَابِتٍ اجْمَعْهُ فَجَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَرِفَاقِهِمْ فِي مُصْحَفٍ فَكَانَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَهُ فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَفَعَهُ إِلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ حَتَّى قَدِمَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ مِنَ الْعِرَاقِ عَلَى عُثْمَانَ، وَذَكَرَ لَهُ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي الْقُرْآنِ فَأَخَذَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُصْحَفَ مِنْ حَفْصَةَ وَكَتَبَ منه ست نسخ، وأنقذ كُلَّ مُصْحَفٍ إِلَى بَلَدٍ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ قُرْآنٌ وَكَانَتْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَكْتُوبَةً فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِخَطِّ الْمُصْحَفِ دَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَثْبَتَ فِي الْمُصْحَفِ أَسْمَاءَ السُّوَرِ، وَذَكَرَ الْأَعْشَارَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:(2/106)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ فِي زَمَانِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ اعْتِبَارٌ
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ فَصَلُوا بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ السُّورَةِ فَأَثْبَتُوا الْأَسْمَاءَ، وَالْأَعْشَارَ بِغَيْرِ خَطِّ الْمُصْحَفِ لِيَمْتَازَ عَنِ الْقُرْآنِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا كَانَ بِخَطِّهِ فَهُوَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْقُرْآنِ لَكَانَ جاحدها كافر كمن جحد الفاتحة قيل: فلم لَمْ تَكُنْ مِنَ الْقُرْآنِ لَكَانَ مَنْ أَثْبَتَهَا منه كافر كَمَنْ أَثْبَتَ غَيْرَ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنْكَرَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ مِنَ(2/107)
الْقُرْآنِ فَلَمْ يُكَفَّرْ، وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ قُرْآنٍ، وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ فَمَنْ أَثْبَتَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْهَا جَعَلَ أَوَّلَ الْآيَةِ السَّابِعَةِ صِرَاطَ الذين أنعمت عليهم، وَمَنْ نَفَاهَا جَعَلَ أَوَّلَ الْآيَةِ السَّابِعَةِ غَيْرِ المغضوب فَكَانَ إِثْبَاتُهَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِيَكُونَ الْكَلَامُ فِي السَّابِعَةِ تَامًّا مُسْتَقِلًّا
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الِابْتِدَاءُ فِي السَّابِعَةِ بِقَوْلِهِ غَيْرِ المغضوب عليهم؛ لِأَنَّهُ لَفْظُ اسْتِثْنَاءٍ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ مُبْتَدَأَةٌ بِهِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَالْمُرَادُ به سورة الحمد لله رب العالمين
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بسورة اقرأ باسم ربك فَهُوَ: أَنَّ السُّورَةَ قَدْ كَانَتْ تَنْزِلُ فِي مَرَّاتٍ وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ تَنْزِلُ بَعْدَ نُزُولِ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ إِثْبَاتَ مَحَلِّهَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالِاسْتِفَاضَةِ
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مَحَلُّهَا تِلَاوَةً بِالْإِجْمَاعِ [وَحُكْمًا] بِالِاسْتِفَاضَةِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ سُورَةَ قل هو الله أحد أَرْبَعُ آيَاتٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَشَارُوا إِلَى مَا سِوَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا جَعَلُوهَا مَعَ الْآيَةِ الْأُولَى وَاحِدَةً
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْفَاتِحَةِ وَأَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْهَا فَحُكْمُهَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ حُكْمُ الْفَاتِحَةِ سَوَاءٌ جَهَرَ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَيُسِرُّ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُسِرُّ بِهَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ
وَقَالَ إِسْحَاقُ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ يُسِرُّ بِهَا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسِرُّ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي الْمَكْتُوبَاتِ قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لو جهر بها لكان النفل بِهَا مُسْتَقِيضًا كَالْجَهِيرِ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَمَا كَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ(2/108)
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا قَدِمَ المدينة صلى صلاة جهر فقر أبسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَجْهَرْ بِهَا لِلسُّورَةِ فَنَادَاهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَسَرَقْتَ الصَّلَاةَ يَا مُعَاوِيَةُ، أَيْنَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فَدَلَّ هَذَا الْإِنْكَارُ مِنْهُمْ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي الْجَهْرِ بِهَا وَإِنَّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنَ الْفَاتِحَةِ كَانَ الْجَهْرُ بِهَا كَسَائِرِ آيِ الْفَاتِحَةِ
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيُحْمَلُ عَلَى صَلَاةِ الْإِسْرَارِ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ الجهر بها لو كان سنة لكان نفلة مُسْتَفِيضًا فَيُقَالُ: وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَارُ بِهَا سُنَّةً لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَفِيضًا كَالرَّكْعَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تقرر أن " بسم الله الرحمن الرحيم " مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَفِي حُكْمِهَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، فَتَرَكَهَا وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ بَعْدَهَا لَمْ يُجْزِهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَاسْتَأْنَفَ الْفَاتِحَةَ مُبْتَدِئًا بِهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَوْ تَرَكَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ أَوْ حَرْفًا مِنْ آيَةٍ أَتَى بِمَا تَرَكَ وَأَعَادَ مَا بَعْدَهُ لِيَكُونَ عَلَى الْوَلَاءِ، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مُسْتَحَقٌّ، وَلَوْ أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَنَوَى قَطْعَهَا وَهُوَ عَلَى قِرَاءَتِهِ أَجْزَأَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ نِيَّةِ الْقَطْعِ مُؤَثِّرًا فِي حُكْمِهَا إِذَا كَانَ عَلَى التِّلَاوَةِ لَهَا خِلَافَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَبْطُلُ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا تَغْيِيرُ النِّيَّةِ وَالصَّلَاةَ تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ فَأَثَّرَ فِيهَا تَغْيِيرُ النِّيَّةِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ حِينَ نَوَى قَطْعَهَا أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ غَيْرِهَا كَانَ قَطْعًا لَهَا، وَلَوْ سَكَتَ مَعَ نِيَّةِ الْقَطْعِ فَإِنْ كَانَ سُكُوتًا طَوِيلًا كَانَ قَطْعًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَلَوْ كَانَ سُكُوتًا قَلِيلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ قَطْعًا وَهُوَ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ الْفِعْلُ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ قَطْعًا، لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، وَالسُّكُونُ الْقَلِيلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَكُونُ قَطْعًا لَهَا فَأَمَّا قَوْلُ الشافعي ويقرأ ترتيلاً فلقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلاً} [الزمل: 4] قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقَلُّ التَّرْتِيلِ تَرْكُ الْعَجَلَةِ مَعَ الْإِبَانَةِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَعَ الْأَحْكَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَإِنْ تَرَكَهَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ
وَقَالَ دَاوُدُ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهَا
وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي رَكْعَتَيْنِ لَا غَيْرُ(2/109)
وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ فِي أَكْثَرِ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ ظُهْرًا قَرَأَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَإِنْ كَانَتْ مَغْرِبًا قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ صُبْحًا قَرَأَ فِي جَمِيعِهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ وَيُمْسِكُ فِي بَعْضِهَا فَقِيلَ لَهُ: فَلَعَلَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: أَيُتَّهَمُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ أبو حنيفة: وَلِأَنَّ الْجَهْرَ لَمَّا كَانَ مُخْتَصًّا بِرَكْعَتَيْنِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ مُخْتَصَّةً بِرَكْعَتَيْنِ قَالُوا: وَلِأَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ لَا تَكُونُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ وِدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةٌ فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى مِنَّا أَخْفَيْنَا مِنْكُمْ، كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ عِنْدَنَا فَقَالَ رَجُلٌ أَرَأَيْتَ إِنْ قَرَأْتُ بِهَا وَحْدَهَا يُجْزِي عَنِّي فَقَالَ: إِنِ انْتَهَيْتَ إِلَيْهَا أَجْزَأَتْكَ، وَإِنْ زِدْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ حَسَنٌ "
وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا وَصَفَ لِلرَّجُلِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى، وَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِيهَا قَالَ ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَكَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِكْرٍ شُرِعَ فِي الرَّكَعَاتِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ كَالتَّسْبِيحِ، وَأَمَّا مَا تَكَرَّرَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ يَكُونُ إِيجَابُهُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ فِي الثَّانِيَةِ لَزِمَ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ كَالْقِيَامِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ لَهُ مِنْ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ اسْتَحَقَّتْ فِيهِ الْقِرَاءَةُ كَالْأُولَيَيْنِ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الْقِرَاءَةِ مُسْتَحَقٌّ بِتَكْرَارِ الرَّكَعَاتِ كَالصُّبْحِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التُّهْمَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إليه إذا قرأ فيه؛ لِأَنَّهُ فِي صَلَوَاتِ الْإِسْرَارِ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَفْيٌ قَدْ عَارَضَهُ إِثْبَاتٌ فَكَانَ أَوْلَى مِنْهُ.
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِالْجَهْرِ بِالْأُولَيَيْنِ فَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ فَخَطَأٌ، لِأَنَّ صَلَوَاتِ الْإِسْرَارِ فِيهَا الْقِرَاءَةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جهر فكذلك الأولتان
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرْ نُطْقًا لَمْ يَكُنْ تَكْرَارُهُ مُسْتَحَقًّا وَالْقِرَاءَةُ لَمَّا تَكَرَّرَتْ نُطْقًا كَانَ تكرارها مستحقاً
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا قال " ولا الضالين " قال آمين فيرفع بها صوته ليقتدي به من خلفه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إذا أمن الإمام فأمنوا " وبالدلالة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه جهر بها وأمر الإمام بالجهر بها " قال الشافعي " رحمه الله: وليسمع من خلفه أنفسهم "(2/110)
قال الماوردي: وهذا كما قال وإذا فرغ الإمام عن قراءة الفاتحة فقال: ولا الضالين، فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقُولَ بَعْدَهُ: آمِينَ لِيَشْتَرِكَ فِيهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ جَهْرًا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: يُسِرُّ به الإمام والمأموم في صلاة الجهر والإسراء
وَقَالَ مَالِكٌ: يَقُولُهُ الْمَأْمُومُ وَحْدَهُ دُونَ الْإِمَامِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: إذا قال الإمام ولا الضالين فَقُولُوا آمِينَ قَالَ: وَلِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَمِّنَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَنْ يَدْعُو بِهِ
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تسبقني بآمين "
روى قَيْسُ بْنُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَجْهَرُ بَآمِينَ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا صَلَّى قَالَ آمِينَ حَتَّى يُسْمَعَ لِصَوْتِهِ طَنِينٌ
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَا حَسَدَتْكُمُ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ كَمَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى قَوْلِ آمِينَ "
وَمَعْنَاهُ اللَّهُمَّ استجب(2/111)
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِرِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ مَا عَارَضْنَا، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِأَنَّ التَّأْمِينَ عَلَى الدُّعَاءِ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الدَّاعِي فَهَذَا مُسْتَمِرٌّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي الصَّلَاةِ فَمُخَالِفٌ لَهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، لَكِنْ لَا تَخْلُو الصَّلَاةُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ إِسْرَارٍ، أَوْ جَهْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ إِسْرَارٍ خَافَتَ بِهَا الْإِمَامُ وَلَمْ يَجْهَرْ مَخَافَةَ أَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَّبِعُوهُ فِي الْإِسْرَارِ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ جَهْرٍ جَهَرَ بِهَا الْإِمَامُ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: يَجْهَرُ بِهِ كَالْإِمَامِ، وَفِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ يُسِرُّهُ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا: فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، يُخَرِّجُونَ جَهْرَ الْإِمَامِ بِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُونَ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَيَحْمِلُونَهُ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّهُ يَجْهَرُ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا وَالْجَمْعُ كَثِيرًا فَيَجْهَرُ بِهِ الْمَأْمُومُ لِيَسْمَعَهُ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ فَنَقُولُ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّهُ يُسِرُّهُ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا وَالْجَمْعُ يَسِيرًا يَسْمَعُ جَمِيعُهُمُ الْإِمَامَ فَيُسِرُّونَ وَلَا يَجْهَرُونَ
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ تَرَكَهُ الْمُصَلِّي نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَهُ، فَإِنْ ذَكَرَهُ قَبْلَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ قَالَهُ وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الرُّكُوعِ تَرَكَهُ، وَلَوْ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الْقِرَاءَةِ وَقَبْلَ اشْتِغَالِهِ بِالرُّكُوعِ فَفِي عَوْدِهِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ مُخَرَّجَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ حَتَّى أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَوْ تَرَكَهُ عَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا أَجْزَأَتْهُ صلاته ولا سهو عليه
(فصل)
: فأما قول آمين ففيه لغات:
إحداها: أَمِينَ بِالْكَسْرِ وَالتَّخْفِيفِ
وَالثَّانِيَةُ: آمِينَ بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(يَا رَبِّ لَا تَسْلُبْنِي حُبَّهَا أَبَدًا ... وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ آمِينَا)
فَأَمَّا تَشْدِيدُ الْمِيمِ فِيهِ فَيَنْصَرِفُ مَعْنَاهُ عَنِ الدُّعَاءِ إِلَى الْقَصْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا آمِّينَ البيت الحرام} يَعْنِي: قَاصِدِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِسُورَةٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ قِرَاءَةَ شَيْءٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبٌ، لِمَا روى(2/112)
جَعْفَرُ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ أُنَادِيَ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِقِرَاءَةِ فاتحة الكتاب فما زاد
ودليلنا حيث مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال أم القرآن عوضاً عَنْ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ غَيْرُهَا مِنْهَا عِوَضٌ
وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنَ الْقِرَاءَةِ لَمْ يَجِبْ فِي الصَّلَاةِ كَسَائِرِ السُّوَرِ
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ سُنَّةٌ ابْتَدَأْنَا " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " لِأَنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كل سورة فيقرأ بالسورة في الركعتين الأوليتين، وَهَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقْرَأَ بِهِمَا فِي الآخرتين؟ عَلَى قَوْلَيْنِ نَذْكُرُهُمَا مِنْ بَعْدُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ وَاسْتِحْبَابِ الصورة فلا يجوز أن يقرأ يوسف ومحمد، لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ دُونَ مَنْ يُحْسِنُهَا
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لفي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 192] وَبِقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي صُحُفِهِمْ وَزُبُرِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَتْ بِلُغَتِهِمْ فَبَعْضُهَا عِبْرَانِيٌّ، وَبَعْضُهَا سُرْيَانِيٌّ وقال تعالى: {وأوحي إلي هذا القرآن لا نذركم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ} [الأنعام 19] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنْذَارٌ لِلْكَافَّةِ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَجَمِ، وَلَا يُمْكِنُ إنذار العجم بِلِسَانِهِمْ، وَلَا يَكُونُ نَذِيرٌ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِلُغَتِهِمْ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِيَصِيرَ نَذِيرًا لِلْكَافَّةِ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مسعود كان يعلم صبياً: {إن شجرة الزقوم طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان: 43] فَكَانَ الصَّبِيُّ يَقُولُ: طَعَامُ الْيَتِيمِ فَقَالَ لَهُ: قُلْ طَعَامُ الْفَاجِرِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَعْنَى قَالُوا: وَلِأَنَّ الذِّكْرَ الْمُسْتَحَقَّ فِي الصَّلَاةِ قُرْآنٌ، وَغَيْرُ قُرْآنٍ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْأَذْكَارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِقُرْآنٍ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ جَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْقُرْآنِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الْقُرْآنِ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إِلَى مِثْلِهِ [فَكَانَ معنى القرآن أقرب إليه من التسبيح والهليل] فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] وَهَذَا الْقَارِئُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقُرْآنَ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ، أَوْ يَكُونَ مِثْلَ الْقُرْآنِ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى(2/113)
وَعِنَادٌ لَهُ، أَوْ يَكُونَ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَلَا مِثْلَهُ فَمَنْ قَالَ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُجْزِئُ بِالْقُرْآنِ لَا بِغَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] فَنَفَى عَنْهُ غَيْرَ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] وأبو حنيفة يجعله قرآناً فارسياً ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلَاثٍ، لِأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ، وَلِأَنَّ لِسَانَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عربي "
وروى عبد الله بن أَوْفَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي قَالَ: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ تَعَالَى فَمَا لِي قَالَ: قُلِ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي، فَلَمَّا قَامَ قَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ [مِنْهُ] : أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْعُدُولُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَى مَعْنَاهُ لَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ وَلَمْ يَعْدِلْ بِهِ إِلَى التَّحْمِيدِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ لَمْ يَكُنْ فِي جِنْسِهِ إِعْجَازٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنُوبَ مَنَابَ الْقُرْآنِ، كَالشِّعْرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْدَلَ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ بِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ لَمْ يَجُزْ فَإِذَا أَبْدَلَهُ بِالْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ أَوْلَى أَنْ لَا يُجْزِئَهُ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ هذا لفي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18، 19] {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين} [الشعراء: 196] فهو أنه ليس يراجع إِلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَّا على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالرِّسَالَةِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَإِنْ كَانَ إِنْذَارًا لِلْكَافَّةِ، فَالتَّحْقِيقُ بِهِ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْفَصَاحَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ الْعَجَمِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَجَزُوا عَنْ لِسَانِهِمْ كَانَتِ الْعَجَمُ عَنْهُ أَعْجَزَ فَصَارَ إِنْذَارًا لِلْعَرَبِ بِعَجْزِهِمْ، وَإِنْذَارًا لِلْعَجَمِ بِعَجْزِ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ يَكُونُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَتَأَمُّلِ إِعْجَازِهِ، وَالْعَجَمُ إِذَا أَرَادُوا ذَلِكَ لَتَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِمُعَاطَاةِ الْعَرَبِيَّةِ لِيَتَوَصَّلُوا بِمَعْرِفَتِهَا، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ يَلْزَمُ جَمِيعَ الْعَجَمِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ، لِأَنَّهَا إِنْذَارٌ لَهُمْ قُلْنَا: إِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معجزة غيره، وأما وله غير مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وصدق رسالته، وإن كان عجماً يَفْقَهُونَ الْعَرَبِيَّةَ فَلَا يَلْزَمُهُمْ(2/114)
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَكَانَ مَقْصُودُهُ التَّنْبِيهَ عَلَى الْمَعْنَى لِيَفْهَمَ اللَّفْظَ عَلَى صِيغَتِهِ؛ لِأَنَّنَا أَجْمَعْنَا أَنَّ إِبْدَالَهُ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِجَوَازِ الذِّكْرِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَيْسَ فِي سَائِرِ الْأَذْكَارِ إِعْجَازٌ يَزُولُ بِنَقْلِهِ إِلَى غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَوْلَى مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّكْبِيرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقْلَبَ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ لَهُمُ التَّسْبِيحُ بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَقْرَبُ إِلَى الْقُرْآنِ مِنَ الْكَلَامِ الْعَجَمِيِّ
وَالثَّانِي: يُقَالُ نَحْنُ لَمْ نَجْعَلِ التَّسْبِيحَ بَدَلًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا بِهِ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ في الصلاة للعجز عنها
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا وَأَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ابْتَدَأَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا فَكَانَ فِيهِ وَهُوَ يَهْوِي رَاكِعًا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرُّكُوعُ فَهُوَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ تعالى بالطاعة، ومنه قول الشاعر:
(بكسر لهم وَاسْتَغَاثَ بِهَا ... مِنَ الْهُزَالِ أَبُوهَا بَعْدَمَا رَكَعَا)
يَعْنِي: بَعْدَ مَا خَضَعَ مِنْ شِدَّةِ الْجُهْدِ وَالْحَاجَةِ، وَالرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا الْمَفْرُوضَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَقَالَ تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] وَرَكَعَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في صلاته وقال: " وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُكَبِّرُ فِي رُكُوعِهِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ سِوَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ فَمَا زَالَتْ صَلَاتُهُ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ "
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ: كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فَكَبَّرَ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ: " وَاللَّهِ إِنِّي أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ لِرُكُوعِهِ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا، وَيَهْوِيَ فِي رُكُوعِهِ مُكَبِّرًا حَتَّى يَكُونَ آخِرُ تَكْبِيرَةٍ مَعَ أَوَّلِ رُكُوعِهِ لتصل الأذكار بالأذكار(2/115)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ حِينَ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إِذَا كَبَّرَ لِرُكُوعِهِ، وَإِذَا كَبَّرَ لِرَفْعِهِ مِنْهُ كَمَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَفِي تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ، وَفِي تَكْبِيرَةِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَفِعْلُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالشَّامِ وَقَالَ أبو حنيفة، وَالْكُوفِيُّونَ: لَا يَرْفَعُ يَدَهُ إِلَّا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَحْدَهَا وَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدَيْهِ حِينَ اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ لَمْ يُعِدْ " وَبِرِوَايَةِ جَابِرٍ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ إِلَى الصَّحَابَةِ فَقَالَ: " مَا لِيَ أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ اسْكُتُوا فِي صَلَاتِكُمْ "
وَرُوِيَ " كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ " قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ الَّتِي فِي أَثْنَاءِ الصَّلَوَاتِ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ فِيهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَاتِ السُّجُودِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَلَا يَرْفَعُ فِي السُّجُودِ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَحِينَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْبَرَانِسِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ رَوَى رَفْعَ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ كَالرُّكُوعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ هَيْئَةً لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَانَ هَيْئَةً لِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ كَالْجَهْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ تَكَرَّرَ فِيهَا التَّكْبِيرُ تَكَرَّرَ فِيهَا الرَّفْعُ كَالْعِيدَيْنِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ عَارَضَهُ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ أَيْدِيهِمْ [يَمِينًا وَشِمَالًا أَوْ لَا يَكُونُ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ أَيْدِيهِمْ] فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ كَمَا يَقُولُ طَاوُسٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فمدفوع بالنص
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَضَعُ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ "(2/116)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا رَكَعَ فمن السنة: أن يضع راحته عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّقَ بَيْنَ أَصَابِعِ كَفَّيْهِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُطْبِقُ يَدَيْهِ وَيَتْرُكُهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَرَوَى عَلْقَمَةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَّمَنَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصَّلَاةَ وَكَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا رَكَعَ طَبَّقَ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ كَانَ سُنَّةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ
رُوِيَ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ صَدَقَ أَخِي كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا ثُمَّ أُمِرْنَا بِهَذَا يَعْنِي: الْإِمْسَاكَ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ
وَرُوِيَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: " صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْتُ فَنَهَانِي قَالَ: " كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا "
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ ثُمَّ أَخْرِجْ أَصَابِعَكَ ثُمَّ امْكُثْ حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ عُضْوٍ مَأْخَذَهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السنة أن يضع راحتيه على ركبتيه ويفرق بَيْنَ أَصَابِعِ كَفَّيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلِيلَ الْيَدَيْنِ، ولا يمكنه وضعهما على ركبتيه ابتداءاً بِهِمَا وَانْتَهَى فِي رُكُوعِهِ إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَوْ قَدَرَ، لِأَنَّ هَذَا حَدُّ الرُّكُوعِ الَّذِي لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْهُ، فَلَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ لَمْ يَبْلُغْ بِزَنْدَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَبْلُغُ بِهِمَا فِي الرَّفْعِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ فِي تَبْلِيغِهِمَا إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ مُفَارَقَةً لِهَيْئَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ في الرفع
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويمد ظهره، وعنقه، ولا يخفض عنقه عن ظَهْرِهِ وَلَا يَرْفَعُهُ وَيَكُونُ مُسْتَوِيًا وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عن جبينه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ
اعْلَمْ أَنَّ صِفَةَ الصَّلَاةِ وَهَيْئَاتِ أَرْكَانِهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَبَرَيْنِ هُمَا العمدة في الصلاة
أحدهما: حديث ابن حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ
وَالثَّانِي: تَعْلِيمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصلاة الأعرابي
فأما حديث أبو حُمَيْدٍ فَلَمْ يَرْوِهِ الشَّافِعِيُّ، وَلَكِنْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ الْعَامِرِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال(2/117)
أَبُو حُمَيْدٍ: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قالوا: فلم؟ قال: فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ بِأَكْثَرِنَا لَهُ تَبَعًا وَلَا أَقْدَمِنَا لَهُ صُحْبَةً قَالَ: بَلَى قَالُوا: فَأَعْرِضْ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ حَتَّى يَقَرَّ كُلُّ عُضْوٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا ثُمَّ يَقْرَأُ ثُمَّ يُكَبِّرُ ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يَرْكَعُ وَاضِعًا رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُفَرِّجُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ يَعْتَدِلُ فَيَهْصِرُ ظَهْرَهُ غَيْرَ مُقْنِعٍ رَأْسَهُ وَلَا صَافِحٍ بِخَدِّهِ، ثم يرفع فيقول سمع الله بحمده، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ مُعْتَدِلًا ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَهْوِي إِلَى الْأَرْضِ فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ وَيَضَعُ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ وَيَنْصَبُّ عَلَى كَفَّيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَصُدُورِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُمَكِّنُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الأُخر مِثْلَ ذَلِكَ فَإِذَا قَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَعَدَ عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى فَإِذَا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ قَالُوا: صَدَقْتَ هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ، وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: جَاءَ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَعِدْ صَلَاتَكَ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ قَالَ: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أُصَلِّي قَالَ: " إِذَا تَوَجَّهْتَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ بِهِ، فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَلْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ وَمَكِّنْ كُوعَكَ وَامْدُدْ ظَهْرَكَ، فَإِذَا رَفَعْتَ فَأَقِمْ صُلْبَكَ وَارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ إِلَى مَفَاصِلِهَا، وَإِذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ سُجُودَكَ، وَإِذَا رَفَعْتَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي كل ركعة وسجدة حتى تطمئن "
فهذا الْحَدِيثَانِ هُمَا أَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ نَقَلْنَاهُمَا مَعَ طُولِهِمَا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ فَصِفَةُ الرُّكُوعِ وَهَيْئَتُهُ أَنْ يَنْتَهِيَ رَاكِعًا إِلَى حَيْثُ يَقْبِضُ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَمُدُّ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ، وَلَا يَخْفِضُ عُنُقَهُ عَنْ ظَهْرِهِ وَلَا يَرْفَعُهُ وَيَكُونُ مُسْتَوِيًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ الرَّاوِي: حَتَّى لَوْ صُبَّ عَلَى ظَهْرِهِ مَاءٌ لَرَكَدَ يَعْنِي: لِاسْتِوَاءِ ظهره في الركوع(2/118)
وروى أبي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صلبه في الركوع والسجود "
قال الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يَخْفِضُ عُنُقَهُ فَيَتَنَازَعُ، وَلَا يَرْفَعُهُ فَيَحْدَوْدِبُ، وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا رَكَعَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ
فَهَذَا صِفَةُ الرُّكُوعِ فِي الِاخْتِيَارِ الْمَسْنُونِ وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَهِيَ رَاكِعًا إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ بِرَاحَتَيْهِ على ركبتيه على أن صفة كان
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى ركوعه الذي وصفنا زماناً وإن قل مطمئن، وَهُوَ رُكْنٌ وَاجِبٌ لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: الطُّمَأْنِينَةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَكَانَ الظَّاهِرُ يُوجِبُ اسْمَ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ طُمَأْنِينَةٍ تُضَمُّ إِلَيْهِ
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْحَدِيثَيْنِ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ لَمَّا عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ حِينَ أَسَاءَ فِيهَا: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثَمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَوَاتِكَ كُلِّهَا
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " شَرُّ النَّاسِ سَرِقَةً الَذِي يَسْرِقُ فِي صَلَاتِهِ قَالُوا: وَكَيْفَ يَسْرِقُ فِي صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا يُقِيمُ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا " وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَا يَعْدِلُ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ، وَلَا يَطْمَئِنُّ فِيهِ فَقَالَ: مُذْ كَمْ هَذِهِ صَلَاتُكَ قَالَ مُذْ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ: إِنَّكَ مَا صَلَّيْتَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَوْ مُتَّ عَلَى هَذَا لَمُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الرُّكُوعِ وَوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ فَأَرَادَ الرُّكُوعَ فَسَقَطَ مِنْ قَامَتِهِ إِلَى الْأَرْضِ عَادَ فَانْتَصَبَ قَائِمًا، ثُمَّ رَكَعَ فَلَوْ قَامَ رَاكِعًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ الْإِهْوَاءَ لِلرُّكُوعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، فَلَوْ كَانَ قَدِ انْحَنَى إِلَى الرُّكُوعِ فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ اسْتِعَانَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعِود إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ مِنْهُ فِي حال انحدار، ويبنى على ركوعه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقُولُ إِذَا رَكَعَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ "(2/119)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ مَأْثُورَةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهَذَا قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: التَّسْبِيحُ فِيهَا وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال: ما نزل قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ " وَلَمَّا نَزَلَ {سَبِّحِ اسْمَ ربك الأعلى} قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ "
وَرَوَى صِلَةُ بْنُ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى "
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، فَاقْتَصَرْ بِهِ عَلَى بَيَانِ الْمَفْرُوضِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي بَيَانِ التَّسْبِيحِ، وَهَكَذَا حِينَ وَصَفَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلِأَنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَمْ يَكُنْ خُضُوعًا فِي نَفْسِهِ كَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ لِاشْتِرَاكِ فِعْلِهِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فَهَذَا مُفْتَقِرٌ إِلَى ذِكْرٍ فِيهِ لِيَمْتَازَ بِهِ عَنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقِينَ
وَالثَّانِي: مَا كَانَ خُضُوعًا فِي نَفْسِهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِأَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ إِلَّا لِلْخَالِقِ دُونَ الْمَخْلُوقِ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرٍ لِيُمَيِّزَهُ عَنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقِينَ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَعَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ التَّسْبِيحَ سُنَّةٌ فَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ وَقَالَ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ، وَهُوَ أَدْنَاهُ [وَإِذَا سَجَدَ وَقَالَ " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى " فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَهُوَ أَدْنَاهُ] فَأَمَّا أَتَمُّ الْكَمَالِ فَإِحْدَى عَشْرَةَ، أَوْ تِسْعًا، وَأَوْسَطُهُ خَمْسٌ وَلَوْ سَبَّحَ مَرَّةً أَجْزَأَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ بَعْدَ التَّسْبِيحِ مَا حَدَّثَنِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا رَكَعَ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَأَنْتَ رَبِّي خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَعِظَامِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِنْ كَانَ إِمَامًا اقْتَصَرَ عَلَى التَّسْبِيحِ وَحْدَهُ لِيُخَفِّفَ عَلَى من خلفه(2/120)
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَمَكْرُوهٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَشَفَ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُّوَةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ
وَإِنْ خَالَفَ وَقَرَأَ فِي رُكُوعِهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ أَوْ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ قَرَأَ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَسَاءَ، وَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ، وَإِنْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ أَتَى بِرُكْنٍ مِنْهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فصار كمن سجد في موضوع الركوع
والوجه الثَّانِي: أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ ذِكْرٌ فَخَفَّتْ عَنْ حُكْمِ الْأَفْعَالِ فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ، لَكِنَّهُ يَسْجُدُ مِنْ أَجْلِهَا سُجُودَ السَّهْوِ وَجْهًا وَاحِدًا
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمَأْمُومُ إِذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الركعة وإن لم يقرأ فيها، لرواية زَيْدِ بْنِ أَبِي عَتَّابٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أَدْرَكْتُمُونَا وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ "، وَلِأَنَّهُ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ يُدْرِكُ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ فَجَازَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ إِدْرَاكِ جَمِيعِ الرَّكْعَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا حَتَّى رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ فَأَتَمَّهَا رَاكِعًا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي فَرْضٍ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْفَرْضِ اسْتِيفَاءُ الْإِحْرَامِ بِهِ قَائِمًا
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِيرُ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ وَيَعْتَدُّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ عَلَى صِفَةٍ يَصِحُّ النَّفْلُ عَلَيْهَا وَخَرَجَ عَنِ الْفَرِيضَةِ لَمَّا فَاتَهَا صَارَتْ نَفْلًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَكُونُ فَرْضًا، وَلَا نَفْلًا، لِأَنَّ النَّفْلَ لَمْ يَقْصِدْهُ وَالْفَرْضَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ، وَلَوِ اسْتَوْفَى تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا ثُمَّ هَوَى لِلرُّكُوعِ وَقَدْ تَحَرَّكَ الْإِمَامُ لِلرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ فَإِنْ أَدْرَكَ مَا يَرَى مِنَ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ مِنَ الْحَدِّ الَّذِي يُجْزِئُ مِنَ الرُّكُوعِ وَاعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ قَدِ انْتَهَى إِلَى حَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَلِمْ(2/121)
يرفع الإمام حد لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَ بِرَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَهَذَا فِي حُكْمِ مَنْ أَدْرَكَ إِمَامَهُ مُسْتَقِرًّا فِي رُكُوعِهِ فِي اعْتِدَادِهِ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَأْمُومُ قَدْ أَدْرَكَ مَا يُجْزِئُ إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ عَنِ الْحَدِّ الَّذِي يُجْزِئُ لَمْ يَعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِي الْفَرْضِ صَحِيحًا بِاسْتِيفَاءِ الْإِحْرَامِ
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ رَفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ قَبْلَ أَنْ يَطْمَئِنَّ، فَإِنْ عَمَدَ عَالِمًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ جَهِلَ أَوْ نَسِيَ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَعَادَ رَاكِعًا مُطْمَئِنًا، فَلَوْ أَدْرَكَهُ حِينَ عَادَ إِلَى الرُّكُوعِ لِيَطْمَئِنَّ فِيهِ مَأْمُومٌ فَأَدْرَكَ الرُّكُوعَ مَعَهُ اعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ، وَلَوْ رَفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ قَبْلَ التَّسْبِيحِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ وَلَمْ يُعِدْ، فَإِنْ عَادَ فَرَكَعَ لِيُسَبِّحَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا عَامِدًا وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، فَلَوْ أَدْرَكَ فِي هَذَا الرُّكُوعِ الثاني مأموم لَمْ يُعْتَدَّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا أَعَادَ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ لِلطُّمَأْنِينَةِ فَالرُّكُوعُ الثَّانِي هُوَ الْفَرِيضَةُ فَصَارَ الْمَأْمُومُ بِإِدْرَاكِهِ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، وَإِذَا أَعَادَ الرُّكُوعَ لِلتَّسْبِيحِ فَالرُّكُوعُ الْأَوَّلُ هُوَ الْفَرِيضَةُ، فَلَمْ يَكُنِ الْمَأْمُومِ بِإِدْرَاكِ الثَّانِي مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ
فَإِنْ قِيلَ: فَلَيْسَ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي خَامِسَةٍ سَهَا بِالْقِيَامِ إِلَيْهَا صَارَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْخَامِسَةُ مِنْ فَرْضِ الْإِمَامِ فَهَلَّا إِذَا أَدْرَكَهُ فِي إِعَادَةِ الرُّكُوعِ لِلتَّسْبِيحِ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الرُّكُوعُ مِنْ فَرْضِ الْإِمَامِ
قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ فِي إِدْرَاكِ الْخَامِسَةِ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يَتَحَمَّلِ الْإِمَامُ عَنْهُ شَيْئًا فَجَازَ أَنْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ الْإِمَامُ، وَفِي إِدْرَاكِهِ رَاكِعًا يَصِيرُ الْإِمَامُ مُتَحَمِّلًا عَنْهُ الْقِرَاءَةَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ الْإِمَامُ
وَمِثَالُ هَذَا مِنَ الْخَامِسَةِ أَنْ يُدْرِكَهُ رَاكِعًا فِيهَا فَلَا يَعْتَدُّ الْمَأْمُومُ بِهَا والله تعالى أعلم
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ ابْتِدَاءَ قَوْلِهِ مَعَ الرَّفْعِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا قَالَ أَيْضًا ربنا لك الحمد ملء السموات وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بعد ويقولها من خلفه وروي هذا القول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الرَّفْعُ مِنَ الرُّكُوعِ وَالِاعْتِدَالِ قَائِمًا فَرُكْنٌ مَفْرُوضٌ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَلَوْ أَهْوَى مِنْ رُكُوعِهِ إِلَى السُّجُودِ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ إِيجَابَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالِاعْتِدَالِ قَالَ: وَلِأَنَّ هَذَا الْقِيَامَ لَوْ كَانَ رُكْنًا وَاجِبًا لَاقْتَضَى بِهِ ذِكْرًا وَاجِبًا كَالْقِيَامِ الْأَوَّلِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ(2/122)
فِيهِ رُكْنٌ كَالِانْتِقَالِ مِنَ السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، وَالْأَعْرَابِيِّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، وَلِأَنَّ كُلَّ رُكْنٍ يَعْقُبُهُ قِيَامٌ وَجَبَ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ انْتِصَابٌ كَالْإِحْرَامِ، وَلِأَنَّهُ قِيَامٌ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالْقِيَامِ فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِيجَابِ الْقِيَامِ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الرُّكُوعِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ: بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رُكْنًا وَاجِبًا يَتَضَمَّنُ ذِكْرًا وَاجِبًا فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ رُكْنٍ يَتَضَمَّنُهُ ذِكْرٌ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، ثُمَّ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْجُلُوسِ الْمُتَشَهِّدِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنْ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ رُكْنٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا ذِكْرٌ وَهُوَ أَنَّهُ فَاسِدٌ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى السُّجُودِ بَيْنَهُمَا ذِكْرٌ، وَهُوَ الرُّكُوعُ عَلَى أَنَّ الرَّفْعَ مِنَ السُّجُودِ إِلَى الْقِيَامِ ذِكْرٌ أَيْضًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّفْعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالِاعْتِدَالَ قَائِمًا ذِكْرٌ وَاجِبٌ، فَالسُّنَّةُ إِذَا ابْتَدَأَ بِالرَّفْعِ أَنْ يَقُولَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، إِمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فَيَكُونُ فِي رَفْعِهِ سُنَّتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ
وَالثَّانِي: رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا قَالَ: " رَبَّنَا وَلَكَ الحمد ملء السموات وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " إِمَامًا كَانَ، أَوْ مَأْمُومًا، وَقَالَ أبو حنيفة: يَخْتَصُّ الْإِمَامُ بِقَوْلِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَالْمَأْمُومُ بِقَوْلِ " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ". قَالَ: وَلِأَنَّ قَوْلَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَوْضُوعٌ لِرَفْعٍ، وَقَوْلَهُ: رَبَّنَا لك الحمد، موضوع لرفع أَيْضًا، وَالِانْتِقَالُ مِنَ الْأَرْكَانِ إِلَى الْأَرْكَانِ إِنَّمَا سُنَّ بِذِكْرٍ وَاحِدٍ لَا بِذِكْرَيْنِ كَالتَّكْبِيرَاتِ فَعَلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَسْنُونٌ لِلْإِمَامِ، وَالْآخَرَ مَسْنُونٌ لِلْمَأْمُومِ قَالَ: وَلِأَنَّ قَوْلَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ إِخْبَارٌ عَنْ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَقَوْلَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ شُكْرٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلّ عَلَى قَبُولِ الدُّعَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا الْوَاحِدُ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا جَوَابُ الْآخَرِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد.
وَرُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كان(2/123)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السموات وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ "
وروى عطية عن فزعة بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ حِينَ يَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات، وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ حَقَّ مَا قَالَ الْعَبْدُ كُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ، وَلِأَنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ إِذَا سُنَّتْ لِلْمَأْمُومِ سُنَّتْ لِلْإِمَامِ كَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ: أَنَّهُ ليس نهي لِلْمَأْمُومِ عَنْ قَوْلِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه، وَإِنَّمَا فِيهِ أَمْرٌ لَهُ بِقَوْلِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِهَذَا أَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لِأَنَّهُ يَسْمَعُ هَذَا مِنَ الْإِمَامِ فَيَتْبَعُهُ فِيهِ، وَلَا يَسْمَعُ قَوْلَهُ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَأَمَرَهُ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُمَا ذِكْرَانِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي الِانْتِقَالِ، فالجواب أن قوله سمع الله لمن حمده موضوع للانتقال وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مَسْنُونٌ فِي الِاعْتِدَالِ فَصَارَا ذِكْرَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّ أَحَدَهُمَا إِخْبَارٌ وَالْآخَرَ جَوَابٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْمَعَ الْوَاحِدُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ فَاسِدٌ بِقَوْلِهِ آمِينَ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْله تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ثُمَّ قَدْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الصَّلَاةِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا مَعًا مَسْنُونَانِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِقَوْلِ سَمِعِ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَلِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلِانْتِقَالِ لِيَعْلَمَ بِهِ الْمَأْمُومُ كَالتَّكْبِيرِ، وَيُسِرُّ بِقَوْلِهِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي رُكْنٍ كَالتَّسْبِيحِ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيُسِرُّ بِهِمَا جَمِيعًا وَيَخْتَارُ لِلْمُصَلِّي إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَقُولَ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَلَا يَخْتَارُهُ الْإِمَامُ، لِأَنْ لَا يُطِيلُ الصَّلَاةَ، وَلَا يَخْتَارُهُ الْمَأْمُومُ لِئَلَّا يُخَالِفَ الْإِمَامَ فَلَوْ قَالَ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ حَمِدَ اللَّهُ مَنْ سَمِعَهُ، أَوْ كَبَّرَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ خَالَفَ السنة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا هوى ليسجد ابتداء التَّكْبِيرِ قَائِمًا، ثُمَّ هَوَى مَعَ ابْتِدَائِهِ حَتَّى يكون القضاء تَكْبِيرِهِ مَعَ سُجُودِهِ، وَأَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ رُكْبَتَاهُ، ثُمَّ يَدَاهُ ثُمَّ جَبْهَتُهُ وأنفه ويكون على أصابع رجليه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ أَمَّا السُّجُودُ فَهُوَ الِانْحِنَاءُ وَالِاسْتِسْلَامُ
قَالَ الْأَعْشَى:(2/124)
(يراوح من صلوات المليك ... طَوْرًا سُجُودًا وَطَوْرًا جُؤَارَا)
وَالدَّلِيلُ: عَلَى وُجُوبِهَا فِي الصَّلَاةِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ فِي صَلَاتِهِ وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي " وَأَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ بِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ السُّجُودِ فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُكَبِّرَ لِسُجُودِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ فَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَهْوِيَ لِلسُّجُودِ ثُمَّ يَهْوِي فَيُكَبِّرُ حتى يكون القضاء تَكْبِيرِهِ مَعَ أَوَّلِ سُجُودِهِ عَلَى الْأَرْضِ لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ، فَأَوَّلُ مَا يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ رُكْبَتَاهُ، ثُمَّ يَدَاهُ ثُمَّ جَبْهَتُهُ وَأَنْفُهُ
وَقَالَ مَالِكٌ: يُقَدِّمُ وَضْعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ رُكْبَتَيْهِ بَعْدَ يَدَيْهِ "
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: " هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ إِلْيَتَيْهِ "
وَرَوَى سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعيد بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: " كُنَّا نَضَعُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ، ثُمَّ أُمِرْنَا بِالرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ، وَلِأَنَّ الْجَبْهَةَ لَمَّا كَانَتْ أَوَّلَ الْأَعْضَاءِ، رَفْعًا كَانَتْ آخِرَهَا وَضْعًا وَجَبَ إِذَا كَانَ الرُّكْبَتَانِ آخِرَ الْأَعْضَاءِ رَفَعا أَنْ تَكُونَ أَوَّلَهَا وَضْعًا، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ يُرْفَعُ قَبْلَ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يُوضَعُ(2/125)
بَعْدَ صَاحِبِهِ كَالْجَبْهَةِ مَعَ الْيَدَيْنِ؛ فَلَمَّا كَانَتِ الْيَدَانِ مَرْفُوعَتَيْنِ قَبْلَ الرُّكْبَتَيْنِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الرُّكْبَتَانِ مَوْضُوعَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَقَدَمَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَجَبْهَتِهِ، وَأَنْفِهِ، فَأَمَّا الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ، فَفَرَضَ السُّجُودَ مُتَعَلِّقٌ بِالْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَرْضُ السُّجُودِ مُتَعَلِّقٌ بِالْجَبْهَةِ، وَالْأَنْفِ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يَسْجُدَ عَلَيْهِمَا مَعًا
وَقَالَ أبو حنيفة: فَرْضُ السُّجُودِ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَدَلِ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ بِرِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُوضِعُ أَنْفَهُ عَلَى الْأَرْضِ " وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ دُونَ الْجَبْهَةِ مُجَزِّئًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: " مَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَأَنْفَكَ مِنَ الْأَرْضِ " فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُسْتَحَقًّا وَكَانَ لَوْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ دُونَ أَنْفِهِ أَجْزَأَهُ كَذَلِكَ لَوْ سَجَدَ عَلَى أَنْفِهِ دُونَ جَبْهَتِهِ أَجْزَأَهُ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْجُدَ مِنْهُ عَلَى يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَجَبْهَتِهِ وَنُهِيَ أَنْ يَكُفَّ الشَّعْرَ وَالثِّيَابَ وَعِنْدَ أبي حنيفة: أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ كَانَ مَحَلًّا لِلسُّجُودِ كَانَ مُغْنِيًا وَلَمْ يَكُنْ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالْيَدَيْنِ، وَخَبَرُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ فَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعِ ذِكْرِ السُّجُودِ فِي الشَّرْعِ فَإِنَّمَا خُصَّ بِالْوَجْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107] ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ "، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ السُّجُودُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ كَمَا يَلْزَمُهُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ لَلَزِمَهُ الْإِيمَاءُ بِهَا فِي حَالِ الْعَجْزِ، كَمَا لَزِمَهُ الْإِيمَاءُ بِالْجَبْهَةِ فَلَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الْإِيمَاءُ بِهَا عِنْدَ عَجْزِهِ سَقَطَ وُجُوبُ السُّجُودِ عَلَيْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السُّجُودَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ(2/126)
أَرَابٍ وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ " وَلِأَنَّ أَعْضَاءَ الطَّهَارَةِ هِيَ أَعْضَاءُ السُّجُودِ كَالْجَبْهَةِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ السَّبْعَةَ هِيَ فَرْضٌ لِمَحَلِّ السُّجُودِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى الْمُبَاشَرَةِ بِهَا فِي السُّجُودِ فَنَقُولُ أَمَّا الْجَبْهَةُ فَالْمُبَاشَرَةُ بِهَا وَاجِبَةٌ، وَعَلَيْهِ إِلْصَاقُهَا بِمَحَلِّ السجود من أرض أبو بِسَاطٍ، فَإِنْ سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ، أَوْ عَلَى حَائِلٍ دُونَ جَبْهَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ بَيْنَ جَبْهَتِهِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ كَحَدِّ السَّيْفِ، أَوْ سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ أَجْزَأَهُ؛ اسْتِدْلَالًا بِمَا يُرْوَى " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ عَلَى كُورِ عِمَامَتِهِ "، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ أُمِرَ بِالسُّجُودِ عَلَيْهِ فَجَازَ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ كَالرُّكْبَةِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ خَلَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ رَجُلًا إِذَا سَجَدَ أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَتَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، وَلِأَنَّهُ فَرْضٌ تَعَلَّقَ بِالْجَبْهَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْمُبَاشَرَةُ بِهَا كَالطَّهَارَةِ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّ لَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ بِجَبْهَتِهِ
وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ إِنَّ عَمَائِمَ الْقَوْمِ كَانَتْ لَفَّةً أَوْ لَفَّتَيْنِ لِصِغَرِهَا، فَكَانَ السُّجُودُ عَلَى كُورِهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْجَبْهَةِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا مُفَارَقَةُ الْعَادَةِ بِكَشْفِهِمَا وَظُهُورِ الْعَوْرَةِ بِهِمَا، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْمُبَاشَرَةِ بِالْجَبْهَةِ فَسَجَدَ عَلَى جَمِيعِهَا أَوْ بَعْضِهَا أَجْزَأَهُ، فَلَوْ كَانَ عَلَى جَبْهَتِهِ عِصَابَةٌ فَسَجَدَ عَلَيْهَا فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ، أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ، فَإِنْ كَانَ وَضَعَهَا لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَمَسَّ الْأَرْضَ بِمَوْضِعٍ مِنْ جَبْهَتِهِ أَوْ مِنْ خَرْقٍ فِي الْعِصَابَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمَاسِّ الْأَرْضَ بِشَيْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَكَذَا لَوْ سَجَدَ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ رَأْسِهِ، وَإِنْ وَضَعَ الْعِصَابَةَ لِعِلَّةٍ أَجْزَأَهُ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِذَا بَاشَرَ بِالْعِصَابَةِ الْأَرْضَ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ قَوْلًا آخَرَ فِي وُجُوبِ من المسح على الجبائروليس بِصَحِيحٍ، فَلَوْ سَجَدَ عَلَى ثَوْبٍ هُوَ لَابِسُهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ جَعَلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ كَانَ بِجَبْهَتِهِ عِلَّةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ عَلَيْهَا وَأَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى جَبِينِهِ، أَوْ
مُحَاذَاةُ الْأَرْضِ بِجَبْهَتِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " كَانَتْ مُحَاذَاةُ الْأَرْضِ بِجَبْهَتِهِ أَوْلَى "
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ بِمَا سوى الجبهة ن الْأَعْضَاءِ الْبَاقِيَةِ فَالرُّكْبَتَانِ لَا يَلْزَمُهُ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بهما، ولا يستحب له خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ عَوْرَتِهِ، وَأَمَّا الْقَدَمَانِ فَلَا يَلْزَمُهُ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ بِهِمَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي خُفَّيْنِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ بِهِمَا، وَأَمَّا الْكَفَّانِ فَفِي وُجُوبِ الْمُبَاشَرَةِ بِهِمَا قولان:(2/127)
أَحَدُهُمَا: ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ، أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِهِمَا وَاجِبَةٌ لِرِوَايَةِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْجُدَ عَلَى جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا "
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لا يباشر الأرض بكفيه "
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِهِمَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} فَخُصَّ الْوَجْهُ بِالسُّجُودِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي مَسْجِدِ ابْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَعَلَيْهِ كساء ملتف به يضع يده عَلَيْهِ يَقِيهِ الْكِسَاءُ بَرْدَ الشِّتَاءِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا وَذَلِكَ أَدْنَى الْكَمَالِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سُنَّةٌ، وَأَنَّهُ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى وَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا لِرِوَايَةِ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا ركع أحدكم فليقل ثلاثاً سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَإِذَا سَجَدَ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَيَخْتَارُ أَنْ يُضِيفَ إِلَى تَسْبِيحِهِ مِنَ الذِّكْرِ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا مَا رَوَاهُ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا سَجَدَ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَأَنْتَ رَبِّي، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ "
فَهَذَا الذِّكْرُ الْمَسْنُونُ فِي السُّجُودِ، فَأَمَّا الدُّعَاءُ فِيهِ فَقَدْ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ عَزَ وَجَلَّ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ " فَيَخْتَارُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بَعْدَ الذِّكْرِ الْمَسْنُونِ إِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا يُطِيلُ الصَّلَاةَ وَلَا مَأْمُومًا يُخَالِفُ الْإِمَامَ، وَكَانَ مُنْفَرِدًا بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ:(2/128)
" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثَنَاءً عَلَيْكَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ "
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ "
فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ دُعَائِهِ فِي ذَلِكَ كَانَ حَسَنًا، وَلَوْ دَعَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ، أَوِ الْمُبَاحَةِ كَانَ جَائِزًا، وَلَوْ تَرَكَهُ كُلَّهُ مَعَ الذِّكْرِ الْمَسْنُونِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، ولا سجود للسهو عليه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجَافِي مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ حَتَّى إِنْ لَمْ يكن عليه ما يستره رؤيت عُفْرَةُ إِبِطِهِ وَيُفَرِّجُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَيُقِلُّ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَيُوَجِّهُ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى صِفَةِ السُّجُودِ وَهَيْئَتِهِ وَهِيَ سَبَعَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ وَذِرَاعَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ لِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا سَجَدَ جَافَى بِيَدَيْهِ حَتَّى يَرَى مَنْ خَلْفَهُ وَفَتَحَ إِبِطَيْهِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُقِلُّ بَطْنَهُ وَصَدْرَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّ بَهِيمَةً أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ تَحْتَهُ لَمَرَّتْ
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى بُطُونِ أَصَابِعِ قَدَمَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي حُمَيْدٍ لِذَلِكَ
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَضُمَّ فَخِذَيْهِ وَيُفَرِّقَ رِجْلَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَفْتَرِشْ يَدَيْهِ افْتِرَاشَ الْكَلْبِ وَلْيَضُمَّ فَخِذَيْهِ "
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ لِذَلِكَ
وَالسَّادِسُ: أَنْ يُوَجِّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَلَا يُفَرِّقَهَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُ إِذَا رَفَعَهُمَا لِلتَّكْبِيرِ فَيُفَرِّقُهُمَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ لِلتَّكْبِيرِ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَفْرِيقِ أَصَابِعِهِ عُدُولٌ عَنِ الْقِبْلَةِ وَإِذَا وَضَعَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ لِلسُّجُودِ صَارَ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَإِذَا فَرَّقَهَا عَدَلَ بَعْضَهَا عَنِ الْقِبْلَةِ
وَالسَّابِعُ: أَنْ يَرْفَعَ ذِرَاعَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ وَلَا يَبْسُطَهُمَا لِرِوَايَةِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَعْتَدِلْ، وَلَا يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ بسط السبع "(2/129)
فَهَذِهِ صِفَةُ السُّجُودِ وَهَيْئَتُهُ فِي الِاخْتِيَارِ وَالْكَمَالِ، وَلَيْسَ فِي الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْهَا قَدْحٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مَنْعٌ مِنْ إِجْزَاءٍ، فَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فِيهِ فَرُكْنٌ وَاجِبٌ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الرُّكُوعِ، فَلَوْ أَنَّ مُصَلِّيًا هَوَى لِلسُّجُودِ فَسَقَطَ عَلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْقَلَبَ سَاجِدًا فَإِنْ كَانَ انْقِلَابُهُ قَصْدًا لِلسُّجُودِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ انْقِلَابُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ للسجود لم يجزه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا كَذَلِكَ حَتَّى يَعْتَدِلَ جَالِسًا عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَيَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنَ السُّجُودِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا رَفَعَ مِنْهُ مُكَبِّرًا، وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَالتَّكْبِيرُ مَسْنُونٌ، فَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ أَوَّلِ رَفْعِهِ وَيُنْهِيهِ مَعَ آخِرِ رَفْعِهِ لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ ثُمَّ يَجْلِسُ مُعْتَدِلًا مُطْمَئِنًا، وَهَذِهِ الْجِلْسَةُ وَالِاعْتِدَالُ فِيهَا رُكْنَانِ مَفْرُوضَانِ
وَقَالَ أبو حنيفة: هُمَا سُنَّتَانِ لَا يَجِبَانِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَدْرَ حَدِّ السَّيْفِ
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ يَثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إِلَى مَوْضِعِهِ "
وَرَوَى رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عَلَّمَ الرَّجُلَ الصَّلَاةَ قَالَ: " فَإِذَا رَفَعْتَ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِكَ الْيُسْرَى "
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ جِلْسَةٍ لَوِ ابتداء لَهَا بِالْقِيَامِ بَطَلَتْ بِهَا الصَّلَاةُ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَفْرُوضَةً فِي الصَّلَاةِ كَالْجُلُوسِ الْأَخِيرِ لِلتَّشَهُّدِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ هَذِهِ الْجِلْسَةِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا، فَمِنَ السُّنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَقُولَ فِيهَا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ إِذَا جَلَسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي "
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَسْجُدُ سَجْدَةً أُخْرَى كَذَلِكَ "(2/130)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ كَمَا يَسْجُدُ السَّجْدَةَ الْأُولَى يَبْتَدِئُ بِهَا بِالتَّكْبِيرِ جَالِسًا وَيُنْهِيهِ سَاجِدًا، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَفْعَلُ مَا ذَكَرْنَا فِي صِفَةِ السُّجُودِ وَهَيْئَتِهِ لاستوائهما في الوجوب فاستويا في الصفة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا اسْتَوَى قَاعِدًا نَهَضَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بيديه حتى يعتدل قائماً ولا يرفع يديه في السجود ولا في القيام في السجود "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا رَفَعَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَقَدْ أَكْمَلَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى فَيُسْتَحَبُّ لَهُ بَعْدَهَا أَنْ يَجْلِسَ قَبْلَ قِيَامِهِ إِلَى الثَّانِيَةِ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ، وَهِيَ سُنَّةٌ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَتْ هَذِهِ الْجِلْسَةُ مُسْتَحَبَّةً، وَلَا سُنَّةً وَسَاعَدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ مَنْ وَصَفَ صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَحْكِهَا، وَلَعَلَّهُ كَانَ فَعَلَهَا فِي مَرَضِهِ أَوْ عِنْدَ كِبَرِهِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ صَلَّى وَقَالَ وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ صَلَاةً، وَلَكِنْ أُرِيكُمْ كَيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي حَتَّى إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ اسْتَوَى قَاعِدًا ثُمَّ قَامَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ بَعْدَ رَكْعَةٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ جِلْسَتِهِ كَالثَّالِثَةِ بَعْدَ الثَّانِيَةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْجِلْسَةَ سُنَّةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ جُلُوسِهِ فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى صَدْرِ قَدَمَيْهِ غَيْرَ مُطْمَئِنٍ، فَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ مِنْ سُجُودِهِ غَيْرَ مُكَبِّرٍ فَإِذَا أَرَادَ النُّهُوضَ مِنْ هَذِهِ الْجِلْسَةِ اعْتَمَدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قام مكبراً
والوجه الثاني: وهو يقول أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: أَنَّهُ يَجْلِسُ مُفْتَرِشًا لِقَدَمِهِ الْيُسْرَى مُطْمَئِنًا، كَجُلُوسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَرْفَعُ مِنْ سُجُودِهِ مُكَبِّرًا، فَإِذَا أَرَادَ النُّهُوضَ مِنْ هَذِهِ الْجِلْسَةِ قَامَ غَيْرَ مُكَبِّرٍ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَقُومَ مُعْتَمِدًا بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لَهُ فَسَوَاءٌ كَانَ شَابًّا أو شيخاً قوياً أو ضعيفاً
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
وَحُكْمُ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ وَهَيْئَةٍ كَحُكْمِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى إِلَّا فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ مختصة بالركعة الأولى لاختصاصها بافتتاح الصلاة فهي النِّيَّةُ، وَالْإِحْرَامُ، وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالتَّوَجُّهُ، وَالِاسْتِعَاذَةُ ثُمَّ هُمَا فِيمَا سِوَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ سَوَاءٌ فِي كُلِّ فَرْضٍ، وَسُنَّةٍ، وَهَيْئَةٍ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عَلَّمَ الرَّجُلَ الصَّلَاةَ فَقَالَ: " ثُمَّ اصْنَعْ كذلك في كل ركعة "(2/131)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَجْلِسُ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى , وَيَنْصِبُ الْيُمْنَى وَيَبْسُطُ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَيَقْبِضُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى إِلَّا الْمُسَبِّحَةَ وَيُشِيرُ بِهَا مُتَشَهِّدًا "
قَالَ الْمُزَنِيُّ: " ينوي بالمسبحة الإخلاص لله تعالى "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ فَهُوَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ: أَنَّهُ وَاجِبٌ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ فِي صَلَاتِهِ، وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي "، وَلِأَنَّهُ تَشَهَّدَ فِي الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالتَّشَهُّدِ الثَّانِي
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ وَنَسِيَ التَّشَهُّدَ فَلَمَّا بَلَغَ آخِرَ الصَّلَاةِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا مَا أَخَّرَ سُجُودَ السَّهْوِ عَنْهُ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَجَعَ، وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ تصح الصلاة بتركه ناسياً نصح الصَّلَاةُ بِفِعْلِهِ عَامِدًا، كَالْمَسْنُونَاتِ طَرْدًا، وَالْمَفْرُوضَاتِ عَكْسًا وبهذا تنفصل عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التَّشَهُّدِ الثَّانِي، لِأَنَّ تَرْكَهُ سَهْوًا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَتَرْكَ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مَسْنُونًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ مَسْنُونٌ، وَالثَّانِيَ مَفْرُوضٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ جُلُوسِهِ فِيهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنْ يَجْلِسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ مُفْتَرِشًا، وَفِي الثَّانِي مُتَوَرِّكًا
وَصُورَةُ الِافْتِرَاشِ فِي الْأُولَى: أَنْ يَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيُضْجِعَ الْيُسْرَى وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا مُفْتَرِشًا لَهَا وَهَكَذَا يَكُونُ فِي الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ
وَصُورَةُ التَّوَرُّكِ فِي الثَّانِي: أَنْ يَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيُضْجِعَ الْيُسْرَى وَيُخْرِجَهَا عَنْ وَرِكِهِ الْيُمْنَى وَيُفْضِيَ بِمَقْعَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجْلِسُ فِيهِمَا جَمِيعًا مُتَوَرِّكًا
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجْلِسُ فِيهِمَا جَمِيعًا مُفْتَرِشًا لَهَا، وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى تَوَرُّكِهِ فِيهِمَا بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَلَسَ مُتَوَرِّكًا، وَلِأَنَّهُ جُلُوسٌ لِلتَّشَهُّدِ فَكَانَ مِنْ سنته التورك(2/132)
كَالتَّشَهُّدِ الثَّانِي. وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى افْتِرَاشِهِ فِيهِمَا بِرِوَايَةِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَلَسَ مُفْتَرِشًا وَلِأَنَّهُ جُلُوسٌ لِلتَّشَهُّدِ فَكَانَ مِنْ سنته الافتراض كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِمَا حَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَعَدَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، فَلَمَّا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، وَلِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ أَقْصَرُ مِنَ الثَّانِي لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرَ أَطْوَلُ فَافْتَرَشَ فِي الْأَوَّلِ لِقِصَرِهِ وَتَوَرَّكَ فِي الثَّانِي لِطُولِهِ، وَلِأَنَّ كل فعل يتقرر فِي الصَّلَاةِ إِذَا خَالَفَ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْقَدْرِ خَالَفَهُ فِي الْهَيْئَةِ كَالْقِرَاءَةِ
فَأَمَّا أَخْبَارُهُمْ فَمُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَمْلِ الِافْتِرَاشِ عَلَى الْأَوَّلِ وَالتَّوَرُّكِ عَلَى الثَّانِي
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمَتْرُوكٌ بِالنَّصِّ أَوْ مُعَارَضٌ بِالْقِيَاسِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا وَضْعُ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَأَنَّهُ يَبْسُطُ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَيَضَعُ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَفِيمَا يَصْنَعُ بِأَصَابِعِهِ قَوْلَانِ:
أحدهما: أنه يقبض بها إِلَّا السَّبَّابَةَ فَإِنَّهُ يُشِيرُ بِهَا كَأَنَّهُ عَاقِدٌ على ثلاث وخمسين لرواية عبد الله به عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقْبِضُ ثَلَاثَ أَصَابِعَ وَيَبْسُطُ السَّبَّابَةَ وَالْإِبْهَامَ قَالَهُ فِي الْإِمْلَاءِ لِخَبَرٍ رَوَى فِيهِ، وَهَلْ يَضَعُ السَّبَّابَةَ عَلَى الْإِبْهَامِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَضَعُهَا كَذَلِكَ، وَالثَّانِي أَنْ يَبْسُطَهُمَا غَيْرَ مُتَرَاكِبَيْنِ فَأَمَّا السبابة فإنه يشير بهما يَنْوِي بِهَا الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَاخْتَلَفَ أصحابنا في تحريكها على وجهين:
أحدهما: يحركهما مشيراً بهما، رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " هِيَ مَذْعَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ "
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُشِيرُ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكٍ وَهُوَ أَصَحُّ لرواية عامر بن عبد الله بن زبير عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يشير بأصبعه إذا دعا ولا يحركهما، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ التَّشَهُّدِ وَسُنَّتِهِ فَهَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَسْنُونٌ فيه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِذَا تَشَهَّدْتُمْ فَقُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ "، ولأن كل موضع كان ذكر عز وجل الله وَاجِبًا كَانَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاجِبًا وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَسْنُونًا كَانَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسنوناً(2/133)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ مَوْضُوعٌ عَلَى التَّخْفِيفِ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْعُدُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَسْنُونٌ فَفِي سُجُودِ السَّهْوِ وَتَرْكِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْجُدُ لِتَرْكِهِ، وَإِنْ كَانَ مَسْنُونًا، لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلتَّشَهُّدِ فَلَمْ يَسْجُدْ لِتَرْكِهِ وَإِنْ سَجَدَ لترك التشهد
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنَ التَّشَهُّدِ قَامَ مُكَبِّرًا مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ حَتَّى يَعْتَدِلَ قَائِمًا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَأَرَادَ الْقِيَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ قَامَ مُكَبِّرًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ فَيَبْتَدِئُ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ أَوَّلِ رَفْعِهِ وَيُنْهِيهِ مَعَ أَوَّلِ قِيَامِهِ لِيَصِلَ الْأَرْكَانَ بِالْأَذْكَارِ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُكَبِّرُ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِهِ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَهَذَا غَلَطٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مُكَبِّرًا، وَلِأَنَّ مَحَلَّ التَّكْبِيرِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ كَمَحَلِّهِ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قِيَاسًا عَلَى تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّهُ قِيَامٌ من ركعة إلى أخرى فوجب أن يتبدئ بِالتَّكْبِيرِ كَالرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَيَنْهَضَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ وَأَسْرَعُ لِنَهْضَتِهِ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ، لِأَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بالإحرام والركوع والرفع منه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ كَذَلِكَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ سِرًّا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ حُكْمُ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنَ الْفُرُوضِ وَالسُّنَنِ حُكْمُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَإِنْ جَهَرَ بِهَا فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا قَرَأَ بِالْفَاتِحَةِ فَهَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَهَا بِسُورَةٍ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً فِي الْأُولَيَيْنِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ، وأبي حنيفة، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي(2/134)
الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أُمَّ الْكِتَابِ، وَسُورَةً، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَصْرِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا سُنَّةٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا كَانَتْ سُنَّةً فِي الْأُولَيَيْنِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِرِوَايَةِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِلرَّجُلِ حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: " ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَمَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَقْرَأَ بِهِ، ثُمَّ اصْنَعْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ "
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَدْ شَكَاكَ النَّاسُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ قَالَ: أما أنه فَأَمِدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَمَا ألوما اقْتَدَيْتُ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: ذلك الظن بك
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ أَمَاطَ رِجْلَيْهِ جَمِيعًا وَأَخْرَجَهُمَا جَمِيعًا عَنْ وَرِكِهِ الْيُمْنَى وَأَفْضَى بِمَقْعَدِهِ إِلَى الأرض وأضجع اليسرى ونصب اليمنى ووجه أصابعها إلى القبلة وبسط كفه اليسرى على فخذه اليسرى ووضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابعها إلى المسبحة وأشار بها متشهداً "
قال الماوردي: التشهد [الثاني] واجب، وَالْقُعُودُ لَهُ وَاجِبٌ وَإِنْ تَرَكَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ
وَقَالَ مَالِكٌ: التَّشَهُّدُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا الْقُعُودُ لَهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ التَّشَهُّدُ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا الْقُعُودُ لَهُ وَاجِبٌ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا صلى الإمام بعد قدر التشهد ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صَلَاتُهُ "، وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا صلى الإمام بعد قدر التشهد ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ مَعَهُ " قَالَ: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَتَكَرَّرُ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ أَوَّلُهُ لَمْ يَجِبْ ثَانِيهِ كَالتَّسْبِيحِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مِنْ(2/135)
سُنَّتِهِ الْإِخْفَاءُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا كَالِاسْتِفْتَاحِ بِهِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يَخْتَصُّ بِالْقُعُودِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرُّقَاشِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَطَبَنَا فَعَلَّمَنَا وَبَيَّنَ لَنَا سُنَنَنَا، وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا إلى أن قال: " وإذا كان عند العقدة فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ " وَهَذَا أَمْرٌ
وَرَوَى عَلْقَمَةُ قَالَ: أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِيَدِي، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ فَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: " إِذَا قُضِيَتْ صَلَاتُكَ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ "، فَدَلَّ أَنَّهُ قَبْلَ التَّشَهُّدِ لَمْ يَقْضِ صَلَاتَهُ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ مُقَدَّرٌ بِذِكْرٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ فِيهِ مَفْرُوضًا، كَالْقِرَاءَةِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُمْتَدٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَادَةُ، وَالْعِبَادَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَضَمَّنَهُ ذِكْرٌ وَاجِبٌ كَالْقِيَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْأَذَانُ مِنْ أَذْكَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ شَرْطًا فِي [صِحَّةِ] الصَّلَاةِ كَالتَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ عَقْدِهَا تَشْتَمِلُ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنْ ذِكْرٍ مُعْجِزٍ، وَغَيْرِ مُعْجِزٍ، فَلَمَّا انْقَسَمَ الْمُعْجِزُ إِلَى مَفْرُوضٍ وَمَسْنُونٍ؛ وَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ غَيْرُ الْمُعْجِزِ إِلَى مَفْرُوضٍ وَمَسْنُونٍ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: فَالثَّابِتُ عَنْهُ مَا رُوِّينَا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذَا قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ "، وَيُحْمَلُ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا قَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ إِنْ كَانَ صَحِيحًا عَلَى مُقَارَنَةِ التَّمَامِ كَقَوْلِهِ سبحانه: تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] أَيْ: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ لِإِجْمَاعِنَا أَنَّ صَلَاتَهُ لَمْ تَتِمَّ إِلَّا بِالْخُرُوجِ مِنْهَا
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاةُ مَنْ مَعَهُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوهُ مَرْوِيًّا لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي لَمْ يَكُنِ السَّلَامُ وَالتَّشَهُّدُ فِيهِ مَفْرُوضًا، لِأَنَّ فَرْضَهَا متأخر
وأما قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّسْبِيحِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الرُّكْنَ لَا يَتَقَرَّرُ بِهِ، وَكَذَا قِيَاسُهُمْ عَلَى الِافْتِتَاحِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أنه لما لم يكن له الْقُعُودُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ وَاجِبًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ التَّشَهُّدِ وَالْقُعُودِ فَذِكْرُ التَّشَهُّدِ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، وَأَمَّا الْقُعُودُ لَهُ فَيَكُونُ فِيهِ مُتَوَرِّكًا كَمَا وَصَفْنَا، وَيَكُونُ فِي الْأَوَّلِ مُفْتَرِشًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ فِي هَذَا التَّشَهُّدِ كَمَا وَضَعَهُمَا فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ تشهد غير(2/136)
قاعد وقعد غير متشهد لم جزه حَتَّى يَكُونَ التَّشَهُّدُ فِي قُعُودِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ فِي مَحَلِّهِ كَالْقِرَاءَةِ تُسْتَحَقُّ فِي الْقِيَامِ، فَلَوْ قَرَأَ غَيْرَ قَائِمٍ أَوْ قَامَ غَيْرَ قَارِئٍ لم يجزه حتى تكون قراءته في قيام والله أعلم بالصواب
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
وَهَذَا كَمَا قَالَ
الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ فِي التَّشَهُّدِ الْآخِرِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ: هِيَ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عِلَّمَهُ التَّشَهُّدَ قَالَ لَهُ: " فَإِذَا قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ " قَالُوا: وَلِأَنَّهَا جِلْسَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّشَهُّدِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ فِي قُعُودٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ كَالدُّعَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ أُصُولَ الصَّلَاةِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرَانِ فِي رُكْنٍ، فَلَمَّا زَعَمْتُمْ أَنَّ التَّشَهُّدَ وَاجِبٌ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ وَاجِبَةٍ
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَوْجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَوْلَى الْأَحْوَالِ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: أَوْجَبَ عَلَيْنَا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ
قَالَ الكرخي: إِنَّمَا الْوَاجِبُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيُقَالُ لَهُ الْكَلَامُ مَعَ أبي حنيفة، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ
وَرَوَى فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَحْمَدْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَفِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وهذا أمر(2/137)
وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِيهَا "
وَرَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَرْتَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ وَأَنْ نُسَلِّمَ عَلَيْكَ فأما السلام فقدعرفناه، وَكَيْفَ نُصَلِّي "؟ فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهَا، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى ذِكْرِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالْأَذَانِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " فَإِنْ شِئْتَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ " مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِنَّمَا أَدْرَجَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ
وَالثَّانِي: أَنْ نُسَلِّمَ لَهُمْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيُحْمَلَ عَلَى مَا قَبْلَ فَرْضِ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: " كُنَّا قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ نُشِيرُ بِأَيْدِينَا "
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ مَحَلَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذِكْرَانِ مِنْهَا فِي رُكْنٍ فَهُوَ أَصْلٌ لَا يَسْتَمِرُّ، وَدَلِيلٌ لَا يَسْلَمُ لِأَنَّ الْقِيَامَ ذِكْرٌ، وَفِيهِ ذِكْرَانِ مَفْرُوضَانِ الْإِحْرَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، فَكَذَلِكَ الْقُعُودُ، فَإِذَا ثَبَتَ وجوب الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا ذَكَرْنَا فَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ وَصِفَتُهُ مِنْ بعد في " ذكر التشهد "
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَذْكُرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيُمَجِّدُهُ وَيَدْعُو قَدْرًا أَقَلَّ مِنَ التَّشَهُّدِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويخفف على من خلفه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الدُّعَاءُ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَبْلَ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ قَدْ جَاءَتْ بِهَا الْأَخْبَارُ وَوَرَدَتْ بِهَا الْآثَارُ(2/138)
رَوَى شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ قَالَ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو "
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُدِ الْأَخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجِّالِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدُّعَاءَ مَسْنُونٌ فَكُلُّ دُعَاءٍ جَازَ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ جَازَ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ تَعَلُّقًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ إِنَّمَا هِيَ تَكْبِيرٌ، وَقِرَاءَةٌ، وَتَسْبِيحٌ "، وَلِأَنَّ مَا لَمْ [يَكُنْ] ذِكْرًا لَمْ تَصِحَّ مَعَهُ الصَّلَاةُ كَالْكَلَامِ
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَا نَذْكُرُ مِنَ الدُّعَاءِ الْمَرْوِيِّ فِيهِ.
رَوَى جَامِعٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعَلِّمُنَا كَلِمَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ يُعَلِّمُنَاهُنَّ كَمَا يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَاهْدِنَا سُبَلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه كان يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المحيا والممات ". كان من اخر يقول في التشهد والتسلم: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ " وَرَوَى الصُّنَابِحِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ "، وَلِأَنَّ كُلَّ دُعَاءٍ سَاغَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ سَاغَ فِي الصَّلَاةِ كَقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ(2/139)
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا هِيَ تَكْبِيرٌ، وَقِرَاءَةٌ، وَتَسْبِيحٌ فَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الصَّلَاةَ مَا ذَكَرَهُ، وَالدُّعَاءُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ فَلَيْسَ الدُّعَاءُ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتِهَالٌ وَرَغْبَةٌ فَكَانَ بِالذِّكْرِ أَشْبَهَ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ إِبَاحَةُ الدُّعَاءِ فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِأُمُورِ دِينِهِ، وَدُنْيَاهُ وَالدُّعَاءُ بِأُمُورِ دِينِهِ مُسْتَحَبٌّ، وَبِأُمُورِ دُنْيَاهُ مُبَاحٌ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ مِنْ دُعَائِهِ مَا جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِهِ مِمَّا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ اقْتِدَاءً بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتَبَرُّكًا بِدُعَائِهِ فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي يَدْعُو بِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ منفرداً، فإن كان في جماعة دعا قدر أَقَلَّ مِنَ التَّشَهُّدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّ الدُّعَاءَ تَبَعٌ لَهُمَا فَكَانَ دُونَ قَدْرِهِمَا سَوَاءٌ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا، لِأَنَّ الْإِمَامَ يُؤْمَرُ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، وَالْمَأْمُومُ مَنْهِيٌّ عَنْ مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَخَفْ سَهْوًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَأَدْرَكَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَأْمُومٌ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ بِالصَّلَاةِ لَزِمَهُ إِذَا أَكْمَلَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَائِمًا أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِذَا جَلَسَ لَزِمَهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ، لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ قَدْ لَزِمَهُ اتِّبَاعُهُ، وَالتَّشَهُّدُ مِمَّا يَلْزَمُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ فِيهِ كَمَا يَلْزَمُنَا الْأَفْعَالُ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ هَذَا الْمَأْمُومُ إِلَى صَلَاتِهِ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى لَيْسَ فِيهَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ إِلَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، وَقَدْ أَتَى بِهَا وَإِنَّمَا جَلَسَ اتِّبَاعًا ثُمَّ صَحَّ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ فَقَامَ لِيُتِمَّ قِرَاءَتَهُ قَامَ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، لِأَنَّهَا حَالٌ لَمْ يُشْرَعْ فِيهَا التَّكْبِيرُ؛ وَهَكَذَا لَوْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً ثُمَّ تَشَهَّدَ الْإِمَامُ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ هَذَا الْمَأْمُومُ أَنْ يَقُومَ إِلَى الثَّالِثَةِ قَامَ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، لِأَنَّ الْقِيَامَ مِنَ الْأُولَى إِلَى الثَّانِيَةِ إِنَّمَا سُنَّ فِيهِ تَكْبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ أَتَى بِهَا مَعَ الْإِمَامِ حِينَ رَفَعَ مِنَ السُّجُودِ إِلَى التَّشَهُّدِ، وَهَكَذَا لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ فَقَامَ الْمَأْمُومُ إِلَى الرَّابِعَةِ قَامَ غَيْرَ مُكَبِّرٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إِتْيَانِهِ بِالتَّكْبِيرِ لَهَا مَعَ رَفْعِهِ مِنَ السُّجُودِ إِلَى التَّشَهُّدِ، وَلَكِنْ لَوْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ الْمَأْمُومُ لِإِتْمَامِ بَاقِي الصَّلَاةِ قَامَ مُكَبِّرًا، لِأَنَّهُ فِيمَا بَيْنَ رَفْعِهِ مِنْ سُجُودِ الثَّانِيَةِ إلى قيامه إلى الثالثة تكبيرتين:
إِحْدَاهُمَا: فِي رَفْعِهِ مِنَ السُّجُودِ إِلَى التَّشَهُّدِ وَقَدْ أَتَى بِهَا
وَالثَّانِيَةُ: فِي قِيَامِهِ إِلَى الثَّالِثَةِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِالْإِتْيَانِ بِهَا، فَأَمَّا إِدْرَاكُ الْإِمَامِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فَقَامَ مَعَهُ مُكَبِّرًا اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ فِي التَّكْبِيرِ وَإِنْ تَكُنْ هَذِهِ التكبيرة من صلاة المأموم والله أعلم
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ أَسَرَّ قَرَأَ مَنْ خَلْفَهُ وَإِذَا جَهَرَ لَمْ يَقْرَأْ مَنْ خلفه " قال المزني " رحمه الله قَدْ رَوَى أَصْحَابُنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَقْرَأُ مَنْ خَلْفَهُ وَإِنْ جَهَرَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ (قال) محمد بن عاصم وإبراهيم يقولان سمعنا الربيع يقول (قال الشافعي) يقرأ خلف الإمام جهر أو لم يجهر بأم القرآن قال محمد وسمعت الربيع(2/140)
يقول (قال الشافعي) ومن أحسن أقل من سبع آيات من القرآن فأمّ أو صلى منفرداً ردد بعض الآي حتى يقرأ به سبع آيات فإن لم يفعل لم أرَ عليه يعني إعادة (قال الشافعي) وإن كان وحده لم أكره أن يطيل ذكر الله وتمجيده والدعاء رجاء الإجابة "
قال الماوردي: هذا كما قال اعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَفْعَالٍ، وَأَذْكَارٍ، أَمَّا الْأَفْعَالُ فَوَاجِبٌ عَلَى الْمَأْمُومِ اتِّبَاعُ إِمَامِهِ فيها لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ "
فَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيهِ، وَهُوَ التَّكْبِيرُ، وَالتَّوَجُّهُ، وَالتَّسْبِيحُ، وَالتَّشَهُّدُ، وَقِسْمٌ لَا يتبع إمامه فيه، وهو السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ فَيُنْصِتُ الْمَأْمُومُ لَهَا وَلَا يَقْرَؤُهَا، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ إِسْرَارٍ وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ، بِهَا خَلْفَ إِمَامِهِ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ جَهْرٍ فَهَلْ يَجِبُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبَعْضِ الْجَدِيدِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَإِنْ لَزِمَهُ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَائِشَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَالْإِمْلَاءِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ جَمِيعًا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُمَرُ وَأُبَيُّ بْنُ كعب، وأبو سعيد الخدري، وأبو عبادة بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَقْرَأُ خَلْفَ إِمَامِهِ بِحَالٍ لَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَلَا فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ [وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ] وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمِنَ التَّابِعِينَ الْأَسْوَدُ، وَعَلْقَمَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ: اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وَالْقِرَاءَةُ تَمْنَعُ مِمَّا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْإِنْصَاتِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[أَنَّهُ قَالَ] : " إِنَّمَا جُعل الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا " فَكَانَ أَمْرُهُ بِالْإِنْصَاتِ نَهْيًا عَنِ الْقِرَاءَةِ
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى صَلَاةً فَقَرَأَ رَجُلٌ خَلْفَهُ فَنَهَاهُ آخَرُ فلما فرغا(2/141)
مِنَ الصَّلَاةِ تَنَازَعَا فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ "
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: أَأَقْرَأُ فَقَالَ: " أَلَا يَكْفِيكَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ "
وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا رَكْعَةٌ أَتَى بِهَا عَلَى سَبِيلِ الِاقْتِدَاءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ فِيهَا قِرَاءَةٌ، أَصْلُهُ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ الْقِرَاءَةُ لَجَهَرَ بِهَا كَالْإِمَامِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ رِوَايَةُ مَكْحُولٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: قَالَ: " كُنَّا خَلْفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تقرؤون خَلْفَ إِمَامِكُمْ قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا " وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَحَدَ الْعِشَاءَيْنِ فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ خَلْفَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: فِيكُمْ مَنْ قَرَأَ خَلْفِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَنَا فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِهَا "
وَرَوَى سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَرَأْتُ خَلْفَكَ فَقَالَ: " يَا فَارِسِيُّ لَا تَقْرَأْ خَلْفِي إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "، لِأَنَّ مَنْ سَاوَى الْإِمَامَ فِي إِدْرَاكِ الرُّكْنِ سَاوَاهُ فِي إِلْزَامِهِ كَالرُّكُوعِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِقَدْرِ الْقِرَاءَةِ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ مَعَ الْإِمْكَانِ كَالْمُنْفَرِدِ، وَلِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَحَلَّ الْفَرْضِ لَزِمَهُ الْفَرْضُ كَالصَّلَاةِ تَلْزَمُهُ بِإِدْرَاكِ الْوَقْتِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَطَاءٍ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَرْكُ الْجَهْرِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَالثَّالِثُ: قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصَّلَاةِ سلام على(2/142)
فُلَانٍ، سَلَامٌ عَلَى فُلَانٍ فَجَاءَ الْقُرْآنُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ، وَإِمَّا عَلَى تَرْكِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من كان له إمام فقراءة الإمام له قِرَاءَةٌ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ " لَهُ " رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا عَدَا الْفَاتِحَةَ، وَإِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَكْفِيكَ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ "
وَأَمَّا حَدِيثُ عِمْرَانَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْجَهْرِ، وَإِمَّا عَلَى النَّهْيِ عَنِ السُّورَةِ لِيَصِحَّ اسْتِعْمَالُ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُدْرِكٌ بَعْضَ رَكْعَةٍ وَإِنْ جَعَلَهُ الشَّرْعُ نَائِبًا عَنْ رَكْعَةٍ لَا سُنَّةً عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيمَنْ أَدْرَكَهُ راكعاً أنه لما لم يدرك محل القراءة لم تلزمه القراءة وأما ترك الجهر فلا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْأَصْلِ كَالتَّكْبِيرَاتِ يَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ، وَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ بِهَا الْمَأْمُومُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فَيُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِسَكْتَةٍ بَعْدَهَا لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ فِيهَا
رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ قَالَ: حَفِظْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَكْتَةً بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَسَكْتَةً بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ عَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَتَّى يُرَى خَدَّاهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ فَوَاجِبٌ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ 74 مُعَيَّنٌ بِالسَّلَامِ، وَلَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَّا بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ لَا يَتَعَيَّنُ بِالسَّلَامِ، وَيَصِحُّ خُرُوجُهُ مِنْهَا بِالْحَدَثِ، وَالْكَلَامِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ وَإِذَا قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ، فَإِنْ شِئْتَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ؛ وَبِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ رَأَسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَقَعَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ " وَهَذَا نَصٌّ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ سَلَامٌ لِلْحَاضِرِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الصَّلَاةِ كَالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ يُنَافِي الصَّلَاةَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ وُجُوبُهُ فِي الصَّلَاةِ كَخِطَابِ الْآدَمِيِّينَ، وَذَلِكَ لِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ(2/143)
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ "
وَرَوَى مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنِ ابْنِ الْقِبْطِيَّةِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: أَحَدُنَا بِيَدِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا لَكُمْ تَرْمُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ يُسَلِّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فَجَعَلَ الِاكْتِفَاءَ بِالسَّلَامِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ الِاكْتِفَاءُ بِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ النُّطْقُ كَالطَّرَفِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ رُكْنٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ كَمَالَ الْعِبَادَةِ لَا يَحْصُلُ بِمَا يُضَادُّهَا كَالْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ فِي وَسَطِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ بِالْحَدَثِ فِي آخِرِهَا كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ مَا يُضَادُّ الصَّلَاةَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُخْرَجَ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَادَةٌ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَالُهَا بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّعَبُّدُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فقد قضيت صلاتك " يعني: مقاربة قضائها قوله: " إن شئت فقم، وإن شئت فاقعد " من كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ بَاقٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْهَا
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَلَا يَصِحُّ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا بَعْدَ التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى، وَقَبْلَ الثَّانِيَةِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ تَجِبِ التَّسْلِيمَةُ الثَّانِيَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خِطَابِ الْآدَمِيِّينَ، لِأَنَّهُ يُنَافِي الصَّلَاةَ فَوَصْفٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي خِطَابِ الآدميين، لأنه لَوْ تَرَكَهُ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ لَمْ تَفْسَدْ صَلَاتُهُ وَالسَّلَامُ إِذَا تَرَكَهُ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ عِنْدَهُمْ فَقَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّلَامَ مُعَيَّنٌ فِي الصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَّا بِهِ فَهُوَ عِنْدَنَا مِنَ الصلاة(2/144)
وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ السَّلَامُ مِنَ الصَّلَاةِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسَلِّمُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَ السَّلَامَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُنَافِي الصَّلَاةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَالْحَدَثِ وَالْكَلَامِ
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الصَّلَاةِ لَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فَلَمَّا كَانَ مَعْدُولًا عَنِ الْقِبْلَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَا نَسِيتُ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَا أَنْسَى سَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمِينًا وَشِمَالًا السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلَامُ عليكم ورحمة الله " فأخبر أن مِنَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ نُطْقٌ شُرِعَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ كَالْقِرَاءَةِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ سَهْلٍ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةٍ فَبِمَعْنَى، قَارَبَ الْفَرَاغَ منها، وأما الحدث وَالْكَلَامُ فَغَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ من الصلاة
وأما قولهم إنه له كَانَ مِنَ الصَّلَاةِ لَكَانَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ، فَاسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يَعْدِلُ عَنِ الْقِبْلَةِ خَفْضًا بِوَجْهِهِ فِي أَرْكَانٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّلَاةِ فَكَذَا السَّلَامُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ السَّلَامَ مُعَيَّنٌ مِنْ نَفْسِ الصَّلَاةِ فَالْكَلَامُ بَعْدَهُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: عَدَدُ السَّلَامِ وَهَيْئَتُهُ
وَالثَّانِي: صِفَةُ السَّلَامِ وَكَيْفِيَّتُهُ
وَالثَّالِثُ: وُجُوبُ النِّيَّةِ فِيهِ
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي عَدَدِ السَّلَامِ وَهَيْئَتِهِ
فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا فَيَ جَمْعٍ كَثِيرٍ وَمَسْجِدٍ عَظِيمٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي مُفْرَدًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ إِمَامًا فِي جَمْعٍ يَسِيرٍ وَمَسْجِدٍ صَغِيرٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً مِنْ يَمِينِهِ وَتِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَبِهِ قَالَ ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهما وَالْأَوْزَاعِيُّ لِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسَلِّمُ فِي صَلَاتِهِ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً تِلْقَاءَ وَجْهِهِ يَمْتَدُّ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ قَلِيلًا(2/145)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة: إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُسَلِّمَ تَسْلِيمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِرِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، وَهَذَا أَوْلَى لِكَثْرَةِ رُوَاتِهِ، وَقَدْ رَوَى عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: كَانَ مَشْيَخَةُ الْمُهَاجِرِينَ يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً، وَمَشْيَخَةُ الْأَنْصَارِ يُسَلِّمُونَ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَالْأَخْذُ بفعل الأنصار أولى لتأخرهم فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْوَاجِبُ مِنْهُمَا تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا. فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ هَلْ هِيَ مَسْنُونَةٌ أَوْ لَا فَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَهَا الْإِمَامُ وَاقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ وَيَأْتِي الْمَأْمُومُ بِالثَّانِيَةِ، لِأَنَّهُ مِنْ سُنَنِ صَلَاتِهِ وَهُوَ بِسَلَامِ الْإِمَامِ قَدْ خَرَجَ مِنْ إِمَامَتِهِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِهَا كَمَا لَوْ قَالَهَا الْإِمَامُ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَةِ السَّلَامِ وَكَيْفِيَّتِهِ، فَالْأَكْمَلُ الْمَسْنُونُ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ لِرِوَايَةِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ
وَأَمَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْهُ فَهُوَ قَوْلُهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فَمَسْنُونٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِصِحَّةِ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " وَإِنْ أَسْقَطَ مِنَ السَّلَامِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ وَاسْتَبْدَلَ بِهَا التَّنْوِينَ فَقَالَ سَلَامٌ مِنِّي عَلَيْكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ لِنَقْصِهِ عَمَّا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِهِ
وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ التَّنْوِينَ بَدَلٌ مِنَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْكَلَامِ
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَأَمَّا إِنْ قَالَ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ فَقَدَّمَ وَأَخَّرَ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: " كَرِهْنَا ذَلِكَ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ " وَقَالَ: فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: " لَا يُجْزِئُهُ " فَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَوْفَى لَفْظَ السَّلَامِ وَإِنْ لَمْ يُرَتِّبْ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْمَشْرُوعِ مِنْهُ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ " لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ " عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِهِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ فَهُوَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي السَّلَامِ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشافعي،(2/146)
وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي السَّلَامِ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِسَلَامِ الْخُرُوجِ مِنْهَا
وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ: يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةُ الْخُرُوجِ، قَالَ: لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لَا فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا كَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَفْصٍ وَإِنْ كَانَ مُطَّرِدًا عَلَى الْأُصُولِ مِنْ وُجُوهٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وُجُوهٍ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا خَالَفَتْ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنُطْقٍ كَالدُّخُولِ فِيهَا خَالَفَتْهَا فِي أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ تَقْتَرِنُ بِالنُّطْقِ كَالدُّخُولِ فِيهَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النِّيَّةَ فِي السَّلَامِ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُصَلِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا نَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ وَمَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ صَلَاتِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ إِمَامًا نَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَمَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَالْمَأْمُومِينَ، وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئَيْنِ، مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَالْمَأْمُومِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي مَأْمُومًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَمِينِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ نَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى شَيْئَيْنِ، الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ وَمَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مِنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ وَالْإِمَامَ وَالْمَأْمُومِينَ، وَلَوْ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى يَمِينِهِ وَلَيْسَ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ نَوَى بالتسليمة الأولى أربعة أشياء فالخروج من صلاته، ومن على يمينه من الحفظة، وَالْإِمَامِ، وَالْمَأْمُومِينَ، وَنَوَى بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَإِنْ كَانَ وَسَطًا فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ إِلَى الْيَمِينِ أَقْرَبَ نَوَى بِالْأَوَّلِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ الْخُرُوجَ مِنْ صلاته، ومن على يمينه من الحفظة، والإمام وَالْمَأْمُومِينَ، وَنَوَى بِالثَّانِيَةِ شَيْئَيْنِ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ، وَالْمَأْمُومِينَ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ إِلَى الْيَسَارِ أَقْرَبَ نَوَى بِالْأُولَى ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ، الْخُرُوجَ من صلاته، ومن على يمينه من الحفظة، وَالْمَأْمُومِينَ، وَبِالثَّانِيَةِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مِنَ الْحَفَظَةِ وَالْإِمَامَ وَالْمَأْمُومِينَ فَهَذَا هُوَ الْكَمَالُ مِنْ نِيَّتِهِ، وَالْوَاجِبُ مِنْ جَمِيعِهِ أَنْ يَنْوِيَ الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ لَا غَيْرُ، فَإِذَا نَوَاهُ دُونَ مَا سِوَاهُ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، لَكِنْ إِنْ نَوَاهُ فِي الثَّانِيَةِ كَانَ فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى كَالْمُسْلِمِ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا فَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، فَلَوْ سَلَّمَ غَيْرُنَا وَلِلْخُرُوجِ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَجْزَأَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا بَعْدَ السَّلَامِ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ "(2/147)
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ: " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ فِي دُعَائِهِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ يَبْدَأُ بِدُعَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ بِدُعَاءِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا فَعَلَ، وَيُسِرُّ بِدُعَائِهِ وَلَا يَجْهَرُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُرِيدُ تَعْلِيمَ النَّاسِ الدُّعَاءَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ جَهْرًا لَا يُسْمَعُ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا إِخْفَاتا لَا يُسْمَعُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَثْبُتُ سَاعَةَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نِسَاءٌ فَيَثْبُتُ لِيَنْصَرِفْنَ قَبْلَ الرِّجَالِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ من صلاته فإذا كَانَ مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ رِجَالًا لَا امْرَأَةَ فِيهِمْ وَثَبَ سَاعَةَ يُسَلِّمُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَرَاغَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنْ لَا يَسْهُوَ فَيُصَلِّي، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ ثَبَتَ قَلِيلًا لِيَنْصَرِفَ النساء، فإن انصرفن وثبت لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ
وَقَالَ أبو حنيفة: يَثِبُ فِي الْحَالِ، وَلَا يَلْبَثُ وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدِ بِنْتِ الْحَارِثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا سَلَّمَ مَكَثَ قَلِيلَا وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذلك كيما يَنْفِرُ الرِّجَالُ قَبْلَ النِّسَاءِ، وَإِذَا وَثَبَ الْإِمَامُ فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةٌ لَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا كَالصُّبْحِ وَالْعَصْرِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ وَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ وَدَعَا بِمَا ذكرنا وإن كانت صلاة ينتفل بَعْدَهَا، كَالظُّهْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعَشَاءِ فَيُخْتَارُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي مَنْزِلِهِ
فَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا " وَرَوَى بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلَا الْمَكْتُوبَةَ " وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ إِمَامَهُ، أَوْ يَخْرُجَ معه، أو بعده
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَنْصَرِفُ حَيْثُ شَاءَ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شماله " وَهَذَا صَحِيحٌ كَمَا قَالَ(2/148)
يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنَ الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَنْحَرِفُ مِنَ الصَّلَاةِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَيْطَانِ مِنْ صَلَاتِهِ جُزْءًا يَرَى أَنَّ حَتْمًا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْتَقِلَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَكْثَرَ مَا يَنْصَرِفُ عَنْ شِمَالِهِ فَإِذَا ثَبَتَ جواز الأمرين فيستحب إن كان لهي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ غَرَضٌ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى غَرَضِهِ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقْرَأُ بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ حُكْمًا، وَمِنْ كُلِّ سُورَةٍ يُجْهَرُ بِهَا مَعَ السُّورَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَيُسَرُّ بِهَا فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ وَاتِّبَاعًا لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن كَانَتِ الصَّلَاةُ ظُهْرًا، أَوْ عَصْرًا أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ فِي جَمِيعِهَا فَإِنْ كَانَتْ عِشَاءَ الْآخِرَةِ، أَوْ مَغْرِبًا جَهَرَ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْهُمَا وَأَسَرَّ فِي بَاقِيهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ صُبْحًا جَهَرَ فِي جَمِيعِهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَالْأَصْلُ فِيهِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ، وَلَا تَمَانُعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ أَرْبَعًا يُسِرُّ فِي جَمِيعِهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا يَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْهُمَا وَيُسِرُّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَالصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا، لا اختلاف بينهم في شيء في ذَلِكَ فَاسْتَغْنَى بِهَذَا الْإِجْمَاعِ بِهَا عَنْ نَقْلِ دَلِيلٍ ثُمَّ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صَلَاةُ النَّهَارِ عُجْمًا إِلَّا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ "
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ جَهَرَ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ فَارْجُمُوهُ بِالْبَعْرِ "
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَهْرَ مَسْنُونٌ فِيمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ
وَقَالَ أبو حنيفة: الْجَهْرُ سُنَّةُ الْإِمَامِ دُونَ الْمَأْمُومِ، وَالْمُنْفَرِدِ، لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَمَّا لَمْ يُسَنَّ لَهُ الْجَهْرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِمَامٍ لَمْ يُسَنَّ لِلْمُنْفَرِدِ الْجَهْرُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِمَامٍ، وَهَذَا غَلَطٌ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ هَيْئَةٌ لِلذِّكْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُهُ فِي الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ(2/149)
قِيَاسًا عَلَى هَيْئَاتِ جَمِيعِ الْأَذْكَارِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَهْرِ الِاعْتِبَارُ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرُ إِعْجَازِهِ، وَهَذَا فِي الْمُفْرِدِ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ اعْتِبَارًا بِقِرَاءَتِهِ وَأَقْدَرُ عَلَى التَّدَبُّرِ لِإِطَالَتِهِ، فَأَمَّا الْمَأْمُومُ، فَإِنَّمَا سُنَّ لَهُ الْإِسْرَارُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِصْغَاءِ إِلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ
(فَصْلٌ)
: وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ جَمَاعَةً فَاتَتْهُمْ صَلَاةُ نَهَارٍ مِنْ ظُهْرٍ، أَوْ عَصْرٍ فَقَضَوْهَا فِي اللَّيْلِ أَسَرُّوا الْقِرَاءَةَ، وَلَوْ تَرَكُوا صَلَاةَ لَيْلٍ مِنْ مَغْرِبٍ أَوْ عِشَاءٍ فَقَضَوْهَا نَهَارًا، جَهَرُوا بِالْقِرَاءَةِ اعْتِبَارًا بِصِفَتِهَا حَالَ الْأَدَاءِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَهْرُهُ بِهَا نَهَارًا دُونَ جَهْرِهِ فِي اللَّيْلِ خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ، وَإِيقَاعِ الْإِلْبَاسِ
وَحَدُّ الْجَهْرِ: هُوَ أن يسمع من يليله.
وَحَدُّ الْإِسْرَارِ: أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، فَلَوْ خَالَفَ الْمُصَلِّي فَجَهَرَ فِيمَا يُسَرُّ أَوْ أَسَرَّ فِيمَا يُجْهَرُ كَانَتْ صَلَاتُهُ مُجْزِئَةً وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّ عَلَيْهِ سُجُودَ السَّهْوِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي بِنَا فَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا "
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ فَتَرَكَ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ قَالُوا: كَانَ حَسَنًا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ وَإِنَّمَا شَغَلَ قَلْبِي بَعِيرٌ أَنْفَذْتُهَا إِلَى الشَّامِ، وَكُنْتُ أُنْزِلُهَا فَلَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ صَلَّى خَلْفَهُ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا لَا تُوجِبُ جُبْرَانًا، وَلِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْإِسْرَارَ هَيْئَةٌ، وَمُخَالَفَةُ الْهَيْئَاتِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَلَا تُوجِبُ السَّهْوَ قِيَاسًا عَلَى هَيْئَاتِ الأفعال
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الصُّبْحِ وَفَرَغَ مِنْ قَوْلِهِ " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهْ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ " قَالَ وَهُوَ قَائِمٌ " اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تباركت ربنا وتعاليت " والجلسة فيها كالجلسة في الرابعة في غيرها (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا محمد بن عمرو الغزي قال حدثنا أبو نعيم عن أبي جعفر الداري عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك قال ما زال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقنت حتى فارق الدنيا واحتج في القنوت في الصبح بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قنت قبل قتل أهل بئر معونة ثم قنت بعد قتلهم في الصلاة سواها ثم ترك القنوت في سوها وقنت عمر وعلي بعد الركعة الآخرة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْقُنُوتُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ، الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يُقَالُ: قَنَتَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ إِذَا دَعَا عَلَيْهِ، وَقَنَتَ لَهُ إِذَا دَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، لَكِنْ صَارَ الْقُنُوتُ بِالْعُرْفِ مُسْتَعْمَلًا فِي دُعَاءٍ(2/150)
مَخْصُوصٍ، وَهُوَ عِنْدَنَا سُنَّةٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَبَدًا، وَفِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شهر رمضان
قال أبو حنيفة: لَيْسَ بِسُنَّةٍ فِي الصُّبْحِ وَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْوِتْرِ أَبَدًا، وَالْكَلَامُ فِي الْوِتْرِ يَأْتِي مِنْ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ هَذَا الْمَوْضِعُ بِالْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَبِمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ سُنَّةً فِي الصُّبْحِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ بِدْعَةٌ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقْنُتَ فِيهَا كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الصُّبْحِ مَسْنُونًا لَكَانَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا، وَلَمْ يَخْفَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ "
وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ خُفَافٍ عَنْ أَبِيهِ خُفَافِ بْنِ إِيمَاءَ قَالَ رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ، وَعُصَيَّةُ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، اللَّهُمَّ الْعَنْ بَنِي لِحْيَانَ وَرِعْلًا، وَذَكْوَانَ، ثُمَّ وَقَعَ سَاجِدًا فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا شَهْرًا حِينَ قِيلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا خَرَجُوا في جواز ملاعب الأسنة(2/151)
فَقَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ شَهْرًا حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} فَكَفَّ قِيلَ: إِنَّمَا كَفَّ بَعْدَ شَهْرٍ عَنْ ذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ، وَعَنِ الْقُنُوتِ فِيمَا سِوَى الصُّبْحِ مِنَ الْأَرْبَعِ الْبَاقِيَةِ رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ مَسْنُونٌ فِي صَلَاةٍ غَيْرِ مَفْرُوضَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا فِي صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ كَقَوْلِهِ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنَينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ "، وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ نَهَارٍ يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَوَجَبَ أَنْ تَخْتَصَّ بِذِكْرٍ لَا يُشَارِكُهَا فِيهِ غَيْرُهَا كَالْجُمُعَةِ فِي اخْتِصَاصِهَا بِالْخُطْبَةِ
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى هِيَ الصُّبْحُ، لِأَنَّ الْقُنُوتَ فِيهَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وَإِنَّمَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: " الْقُنُوتُ بِدْعَةٌ " فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْنُتُ مَعَ أَبِيهِ، وَلَكِنْ نَسِيَهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الصُّبْحَ مُخَالِفَةٌ لَهَا لِمَا يَخْتَصُّ مِنْ تَقَدُّمِ الْأَذَانِ لَهَا وَالتَّثْوِيبِ فِي أَذَانِهَا وَكَذَلِكَ الْقُنُوتُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ الْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ سُنَّةً لَكَانَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمْ فِي الْوِتْرِ ثُمَّ يُقَالُ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مُسْتَفِيضًا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَجَّ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ فَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَجَّ بَيَانًا مُسْتَفِيضًا وَلَمْ يَنْقُلْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ نَفْسًا اخْتَلَفُوا فِيهِ خَمْسَةٌ مِنْهُمْ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْرَدَ وَأَرْبَعَةٌ أَنَّهُ تَمَتَّعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وثلاثة أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَنَ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُنُوتَ سُنَّةٌ فِي الصُّبْحِ وَأَنَّ مَا سِوَى الصُّبْحِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ قَدْ قَنَتَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ تَرَكَ فَلَيْسَ تَرْكُهُ لِلْقُنُوتِ فِيهَا نَسْخًا، وَلَكِنْ قَنَتَ لِنَازِلَةٍ ثُمَّ تَرَكَ لِزَوَالِهَا وَكَذَلِكَ إِنْ نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ وَلَنْ يُنْزِلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْنُتَ الْإِمَامُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ حَتَّى يَكْشِفَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ أَسَرَتْ قُرَيْشٌ مَنْ أَسَرَتْ، وَقُتِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ عِنْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ مَنْ قُتِلَ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ فَالْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِي لَفْظِ الْقُنُوتِ
وَالثَّانِي: فِي هَيْئَتِهِ
وَالثَّالِثُ: فِي مَحَلِّهِ
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي لَفْظِ الْقُنُوتِ فَقَدِ اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ قنوت الحسن وهو ما رواه يزيد بن أبي مريم عن أبي لحوراء قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَّمَنِي رَسُولُ(2/152)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْقُنُوتِ " اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ " فَهَذَا الْقُنُوتُ الَّذِي اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ بِهِ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ وَفِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَوْ قَنَتَ بِسُورَتَيْ أُبَيٍّ كَانَ جَيِّدًا اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُؤْمِنُ بِكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ نَشْكُرُكَ، وَلَا نَكْفُرُكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَهْجُرُكَ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ سُورَةٌ، وَالثَّابِتُ اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الحد بِالْكَافِرِينَ مُلْحِقٌ - بِكَسْرِ الْحَاءِ - بِمَعْنَى: لَاحِقٌ
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَكَانَ أُبَيٌّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا سُورَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ قُنُوتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسُورَتَيْ أُبَيٍّ كَانَ حَسَنًا، وَإِنْ تَقَرَّرَ أَحَدُهُمَا فَقُنُوتُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَوْلَى
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ "
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْقُنُوتِ: " اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَمْرًا رَشِيدًا تُعِزُّ فِيهِ وَلِيَّكَ، وَتُذِلُّ فِيهِ عَدُّوكَ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بطاعتك، وتنهي عَنْ مَعْصِيَتِكَ "، فَإِنْ قَنَتَ بِهَذَا جَازَ، وَالْمَرْوِيُّ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْقُنُوتِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ وَأَيُّ شَيْءٍ قُنِتَ مِنَ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ وَغَيْرِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ قُنُوتِهِ، فَأَمَّا إِذَا قَرَأَ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ يَنْوِي بِهَا الْقُنُوتَ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ دُعَاءً، أَوْ تُشْبِهُ الدُّعَاءَ كَآخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] إِلَى آخِرِهِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا وَهَذَا يُجْزِئُ عَنْ قُنُوتِهِ
وَالثَّانِي: أَنْ يَقْرَأَ بِمَا لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الدُّعَاءِ كَآيَةِ الدَّيْنِ، وَسُورَةِ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهب} فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ إِذَا نَوَى بِهِ الْقُنُوتَ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَشْرَفُ مِنَ الدُّعَاءِ(2/153)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ وليس بِدُعَاءٍ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: مِنْ هَيْئَةِ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا أَسَرَّ بِهِ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُسِرُّ بِهِ، لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَمَوْضُوعُهُ الْإِسْرَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 11]
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجْهَرُ بِهِ كَمَا يجهر بقول سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، لَكِنْ دُونَ جَهْرِ الْقِرَاءَةِ فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْإِمَامَ يُسِرُّ فِي الْقُنُوتِ قَنَتَ الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ سِرًّا، وَإِنْ قِيلَ يَجْهَرُ بِهِ سَكَتَ الْمَأْمُومُ مُسْتَمِعًا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، وَلَوْ سَكَتَ وَقَدْ أمر بالقنوت لم يلزمه سجود السهو، لأن خَلْفَ الْإِمَامِ، وَلَكِنْ لَوْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ نَاسِيًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَلَوْ تَرَكَهُ عَامِدًا كَانَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا سجود عليه للسهو، لأن لَيْسَ بساهٍ
وَالثَّانِي: عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ السَّاهِي كَانَ الْعَامِدُ أَوْلَى بِهِ
فَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي مَحَلِّ الْقُنُوتِ فَمَحَلُّهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَحِينَئِذٍ يَقْنُتُ
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ إِلَّا أن أبا حنيفة يقول بكبر وَيَقْنُتُ
وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْنُتُ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَبِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أنس أن سُئِلَ هَلْ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ، قَالَ: بَعْدَ الرُّكُوعِ بِيَسِيرٍ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَخُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَلِأَنَّ الْقُنُوتَ دُعَاءٌ، وَمَحَلُّ الدُّعَاءِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ مِنَ الذِّكْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَمَحَلُّهُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ كَالتَّوَجُّهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْقُنُوتَ لَا يَتَقَدَّمُ الْقِرَاءَةَ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ الرُّكُوعَ، فَأَمَّا مَا روي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَأَمَّا قُنُوتُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَقَدْ كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ زَمَانًا طَوِيلًا، ثم قال قد كبر النَّاسُ فَأَرَى أَنْ يَكُونَ الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لِيَلْحَقَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ وَلَا تَفُوتُهُمْ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ رَأْيًا رَآهُ، وَقَدْ قَنَتَ أَبُو بَكْرٍ، وعمر رضي الله عنه بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَحَلَّ الْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَإِنْ خَالَفَ وَقَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَإِنْ كَانَ مَالِكِيًّا يَرَى ذَلِكَ مَذْهَبَهُ أَجْزَأَهُ وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا لَا يَرَاهُ مَذْهَبًا فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ:(2/154)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ لِمَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِتَقْدِيمِهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ كَتَقْدِيمِهِ التَّسْبِيحَ، فَعَلَى هَذَا يُعِيدُ الْقُنُوتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَفِي سُجُودِهِ لِلسَّهْوِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْقُنُوتَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَصَارَ كَمَنْ قَدَّمَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ قَبْلَ مَحَلِّهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ ذِكْرٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى مَحَلِّهِ سُجُودُ السَّهْوِ كَالتَّسْبِيحِ
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالتَّشَهُّدُ أَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله " يقول هذا في الجلسة الأولى وفي آخر صلاته "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
وَقَدْ مَضَى فِي وُجُوبِ التَّشَهُّدِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَفْضَلِهِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ لِاخْتِلَافِ رُوَاتِهِ فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا، وَرَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشَهُّدًا
فَأَمَّا تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا إِذَا جَلَسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَاةِ قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَقَالَ رَسُولُ الله: " لَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "
فَأَخَذَ بِهَذَا التَّشَهُّدِ أبو حنيفة وَالْعِرَاقِيُّونَ
وَأَمَّا تَشَهُّدُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يُعَلِّمُ النَّاسَ(2/155)
التَّشَهُدَ: " قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ "
فَأَخَذَ بِهَذَا التَّشَهُّدِ مَالِكٌ، وَالْمَدَنِيُّونَ
فَأَمَّا تَشَهُّدُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ فَكَانَ يَقُولُ: التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ "
فَأَخَذَ بِهَذَا التَّشَهُّدِ الشَّافِعِيُّ، وَالْمَكِّيُّونَ وَهَذَا بِإِسْقَاطِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنَ السَّلَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَمَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى مِنْ وُجُوهٍ
مِنْهَا: زِيَادَةٌ عَلَى الرِّوَايَاتِ بِقَوْلِهِ الْمُبَارَكَاتُ، وَلِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ كَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَلِتَأَخُّرِهِ عَنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَالْأَخْذُ بِالْمُتَأَخِّرِ أَوْلَى وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] وَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْلَى، وَبِأَيِّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ تَشَهَّدَ أَجْزَأَهُ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ الَّذِي لَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ فِي الْأَذَانِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْقَدْرُ الَّذِي لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْهُ فَسِتُّ كَلِمَاتٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَالْكَلِمَةُ السَّادِسَةُ هِيَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْقَدْرُ وَاجِبًا دُونَ مَا سِوَاهُ، لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى فِعْلِهِ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَمَا سِوَاهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَزِمَ مِنْهُ الْقَدْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، ثُمَّ هَلْ يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُ التَّشَهُّدَ عَلَى مَا وَصَفْنَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُهُ عَلَى اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ، كَالْقِرَاءَةِ وَإِنْ قَدَّمَ بَعْضَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يُجْزِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُهَا بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ في القرآن إعجاز إِذَا خَالَفَ نَظْمَهُ زَالَ إِعْجَازُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سائر الأذكار(2/156)
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا قَوْلُهُ التَّحِيَّاتُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ الْبَقَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيُّ:
(أَزُورُ بِهَا أَبَا قَابُوسَ حَتَّى ... أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجَيْدِ)
يَعْنِي عَلَى مُلْكِهِ
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّحِيَّةَ السَّلَامُ، وَمَعْنَاهُ سَلَامُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فإذا تشهد صلى على النبي فَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ وَعَلَى آلِ محمدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ محمدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيد " (قال) حدثنا عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى الكوفي قال حدثنا أبو نعيم عن خالد بن إلياس عن الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " أتاني جبريل عليه السلام فعلمني الصلاة فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فكبر بنا فقرأ بنا بسم الله الرحمن الرحيم فجهر بها في كل ركعة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأما بصفته فَالْأَكْمَلُ الْمُخْتَارُ فِيهِ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نُعَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بِشْرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نصلي عليك فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَالسَّلَامُ كَمَا عَلِمْتُمْ "
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ "(2/157)
فَأَمَّا الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَمَا سِوَاهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْآلِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، فَلَوْ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ كَالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه، " وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا ثم قضى (قال) حدثنا إبراهيم قال الربيع أخبرنا الشافعي قال التشهد بهما مباح فمن أخذ يتشهد ابن مسعودٍ لم يعنف إلا أن في تشهد ابن عباس زيادة "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي تَرْتِيبِ الصَّلَوَاتِ هَلْ يَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ أَمْ لَا؟ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الترتيب [منها] مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي قَلِيلِ الصَّلَاةِ وَكَثِيرِهَا مَعَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ وَأَنَّهُ إِنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ وَقْتِهِ ثُمَّ ذَكَرَ فَائِتَةً مَضَى فِي صَلَاتِهِ وَقَضَى مَا فَاتَهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا فِي خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَمَا دُونَهَا لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ تَرَكَهُ فِي [أَكْثَرَ مِنْ] خَمْسِ صَلَوَاتٍ أَجْزَأَ فَكَأَنَّهُ يَرَى وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فِي صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَعَ الذِّكْرِ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِفَرْضِ وَقْتِهِ ثُمَّ ذَكَرَ فَائِتَةً بَطَلَتْ صَلَاتُهُ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَلَزِمَهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ، ثُمَّ الْإِحْرَامُ بِصَلَاةِ وَقْتِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَقْتُهَا مُضِيفًا فَيَمْضِي فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ يَقْضِي مَا فَاتَهُ
وَقَالَ مَالِكٌ: التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَمَا دُونَ كَقَوْلِ أبي حنيفة، لَكِنَّهُ إِنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَأَتَمَّهَا اسْتِحْبَابًا ثُمَّ قَضَى مَا فَاتَهُ وَأَعَادَ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَاجِبًا
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي قَلِيلِ الصَّلَوَاتِ وَكَثِيرِهَا مَعَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ، وَإِنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا وَاجِبًا وَقَضَى مَا فَاتَهُ وَأَعَادَ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَاجِبًا
فَأَمَّا أبو حنيفة فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ نَامَ عَنْ صلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا لَا وَقْتَ لَهَا غَيْرُهُ " فَجَعَلَ وَقْتَ الذِّكْرِ وَقْتًا لِلْفَوَائِتِ فَاقْتَضَى أَنْ يَلْزَمَهُ تَرْتِيبُ قَضَائِهَا كَمَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمُؤَقَّتَاتِ، وَمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُبِسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهُوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى فَاتَتْهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ الظُّهْرُ، والعصر،(2/158)
وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ لِلْمَغْرِبِ، ثُمَّ أَقَامَ لِلْعِشَاءِ فَرَتَّبَ قَضَاءَ مَا فَاتَهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَازِمًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَيَانُ مَا وَرَدَ مُجْمَلًا فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْله تعالى: {وأقيموا الصلاة}
والثاني: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلوا كما رأيتموني أصلي "
وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " فَاقْتَضَى بُطْلَانَ صَلَاتِهِ وَقَضَاءَ مَا فَاتَهُ، قَالَ: وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَا فَرْضٍ يَفْعَلَانِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا في وقت إحديهما فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ التَّرْتِيبَ فِيهِمَا كَالظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُ [الَّتِي فِيهَا] لِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا قَالَ: وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ يَلْزَمُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْفِعْلِ
وَالثَّانِي: فِي الزمان فلم لَمْ يَسْقُطْ تَرْتِيبُ الْأَفْعَالِ فِي الْفَوَاتِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ رُكْنٍ عَلَى رُكْنٍ لَمْ يَسْقُطْ تَرْتِيبُ الزَّمَانِ فِيهِمَا، وَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ عَصْرٍ عَلَى ظُهْرٍ
وَاحْتَجَّ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى فَلْيُتِمَّ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَلْيُصَلِّ الَّتِي ذَكَرَ ثُمَّ يُعِيدُ الَّتِي صَلَّاهَا "
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] فَكَانَ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي جَوَازَ فعل ما يقضي ويؤدي ما فَائِتَةٍ، وَمُؤَقَّتَةٍ بِلَا اشْتِرَاطِ تَرْتِيبٍ وَلَا اسْتِثْنَاءٍ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَيَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا " فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِتْمَامِهَا أَمْرًا عَامًّا فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ اسْتَثْنَاهُمَا
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَامَ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِالْوَادِي حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا فَأَمَرَ بِلَالًا بِالْأَذَانِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ فَلَمَّا قَدَّمَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ عَلَى صَلَاةِ الْفَرْضِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا كَانَ تَقْدِيمُ الْفَرْضِ عَلَى الْفَرْضِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ
وَرَوَى مَكْحُوِلٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا ثُمَّ قَضَى الْفَائِتَةَ "
وَهَذَا نَصٌّ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ النِّسْيَانِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ(2/159)
مَعَ الذِّكْرِ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا، فَإِنْ قِيلَ: اعْتِبَارُكُمْ حُكْمَ الْعَامِدِ بِالنَّاسِي مَعَ فَرْقِ الْأُصُولِ بَيْنَهُمَا وَتَخْفِيفُ حُكْمِ النِّسْيَانِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ سَهْوَ الْكَلَامِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَعَمْدَهُ يُبْطِلُهَا، وَعَمْدَ الْأَكْلِ يُبْطِلُ الصَّوْمَ وَنِسْيَانُهُ لَا يُبْطِلُهُ، قَبْلَ اعْتِبَارِهِمَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، فَأَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَوَى حُكْمُ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ مَعًا فَلَا يَمْنَعُ، وَقَدِ اسْتَوَى الْحُكْمُ فِيهِمَا فِي مَعْنَى الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ فِي الْفَرْعِ، وَلِأَنَّهَا صَلَوَاتٌ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ التَّرْتِيبُ فِيهَا أَصْلُهُ إِذَا فَاتَهُ سِتُّ صَلَوَاتٍ فَصَاعِدًا، وَلِأَنَّ كُلَّمَا لَمْ يُرَتَّبْ قَضَاؤُهُ عَلَى قِلَّتِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ تَقُولُ كُلُّ صَلَاةٍ صَارَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ قَضَاءً لَمْ تَتَرَتَّبْ قِيَاسًا عَلَى ما زاد على اليوم والليل، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَتَيْنِ تَقَدَّمَ وَقْتُ وُجُوبِهِمَا لَمْ يتعين عليه تقديم إحديهما كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ إِذَا ضَاقَ وَقْتُ أداء الثانية سقط الترتيب فيهما فوجب إذ ثَبَتَا فِي الذِّمَّةِ أَنْ يَسْقُطَ التَّرْتِيبُ فِيهِمَا، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَيْنِ، وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُعْتَبَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ، وَمِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ بِفَوَاتِ وَقْتٍ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَثَبَتَ مَا اعْتُبِرَ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ كَصَوْمِ الظِّهَارِ، وَإِنْ كَانَ الصَّلَاةُ فَلَا يُقَدَّمُ سُجُودٌ عَلَى رُكُوعٍ ثُمَّ وَجَدْنَا تَرْتِيبَ الصَّلَوَاتِ مِنْ حيث الزمان فاقتضى أن يسقط بقوات وَقْتِهَا
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَنْ نَامَ عَنْ صلاةٍ أَوْ نَسِيَهَا. . " - الْحَدِيثَ - فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِعَيْنِ وَقْتِ الْفَائِتَةِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِهَا فِي وَقْتِ الذِّكْرِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْوَادِي فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَصَابَهُ حَرُّ الشَّمْسِ قَالَ: " اخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْوَادِي " فَلَمَّا خَرَجَ قَضَاهَا وَكَانَ قَادِرًا عَلَى قَضَائِهَا فِيهِ عِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ فَأَخَّرَهَا، فَهَذَا جَوَابٌ
ثُمَّ الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ فِي ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ فَوَائِتَ كَانَ ذَلِكَ وَقْتًا لَهَا، وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنْهَا قَدْ يُسْتَحَقُّ قَضَاؤُهَا فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ إِتْيَانُهُ بِالْأُولَى قَبْلَ الْفَائِتَةِ بِأَوْلَى مِنَ الثَّانِيَةِ قَبْلَ الْأُولَى لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ الْخَنْدَقِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَّرَ الصَّلَاةَ ذَاكِرًا لِوَقْتِهَا قَاصِدًا لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا إِذَا انْكَشَفَ عَدُوُّهُ وَزَالَ خَوْفُهُ فَلَزِمَهُ التَّرْتِيبُ كالجامع بين الصلاتين في وقت أحديهما
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْسُوخٌ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ وَبِالْمُبَادَرَةِ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ حَسَبَ الطَّاقَةِ وَالْإِمْكَانِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ ثُبُوتِ نَسْخِهِ وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ بَيَانٌ مُجْمَلٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصلاة} غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ دُونَ الْأَوْقَاتِ فَتَوَجَّهَ الْبَيَانُ إِلَى الْفِعْلِ الْمُجْمَلِ دُونَ الْوَقْتِ
وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " مَعَ ضَعْفِهِ وَاضْطِرَابِهِ وَإِنْكَارِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لَهُ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ هَذَا حَدِيثُ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وتعذر(2/160)
الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الصُّبْحَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ فَقَضَى الصُّبْحَ فَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي بُطْلَانَ صَلَاتِهِ لِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ وَاشْتَغَلَ بِقَضَاءِ أَحَدِهَا اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ بَاطِلَةً، لِأَنَّهُ فِي صَلَاةٍ وَعَلَيْهِ غَيْرُهَا فَلَمَّا كَانَ الْإِجْمَاعُ يَبْطُلُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ صرف عن ظاهر وحمل على أن المراد لَا صَلَاةَ نَافِلَةٍ لِمَنْ عَلَيْهِ فَرِيضَةٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ فَإِنْ أَتَى بِهَا كَامِلَةً وَإِلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لَهُ نَوَافِلَ، فإذا وجدوها كما بِهَا الْفَرْضُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ [النَّفْلَ] لَا يُحْتَسَبُ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ صَلَاتَيْ عَرَفَةَ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطِ التَّرْتِيبُ بِعَرَفَةَ مَعَ النِّسْيَانِ لَمْ يَسْقُطْ مَعَ الْعَمْدِ فَافْتَرَقَا مِنْ حَيْثُ الْجَمْعُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَرْتِيبُ الْأَفْعَالِ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الزَّمَانِ مُعْتَبَرًا، فَالْجَوَابُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْأَفْعَالِ لَمَّا كَانَ مُعْتَبَرًا مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ ثَبَتَ وُجُوبُهُ مَعَ الْفَوَائِتِ، وَلَمَّا كَانَ تَرْتِيبُ الزَّمَانِ يَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ وَيَخْتَلِفُ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ سَقَطَ وُجُوبُهُ مَعَ الْفَوَاتِ، فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الْقَضَاءِ كَصِفَةِ الْأَدَاءِ كَمَا قُلْتُمْ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهَا وَأَرَادَ قَضَاءَهَا أَنَّ عَلَيْهِ الْإِحْرَامَ بِهَا مِنْ بَلَدِهِ لِتَكُونَ صِفَةُ قَضَائِهَا عَلَى صِفَةِ أَدَائِهَا فَيَلْزَمُكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، قِيلَ: إِذَا كَانَ هَذَا لَازِمًا لَنَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَقَلْبُهُ لَازِمٌ لَكُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ إِنَّهُ فِي صَلَاةِ الْعُمْرَةِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِحْرَامِ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِيقَاتِهِ فَخَالَفْتُمْ صِفَةَ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ فَيَكُونُ انْفِصَالُكُمْ عَنْهُ انْفِصَالًا لَنَا، وَدَلِيلًا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا جَمَعُوا ثُمَّ نَقُولُ لَوْ أَلْزَمْنَاكُمْ هَذَا لَكُنَّا فِي الْمَعْنَى سَوَاءً، لِأَنَّ وِزَانَ الْعُمْرَةِ وَمِثَالَهَا مِنَ الصَّلَاةِ عَدَدُ رَكَعَاتِهَا فَإِذَا فَسَدَتِ الرَّكْعَةُ الْأَخِيرَةُ مِنْهَا لَزِمَهُ الِابْتِدَاءُ بِهَا مِنْ أَوَّلِهَا، وَوِزَانَ الصَّلَاةِ وَمِثَالَهَا مِنَ الْعُمْرَةِ أَنْ يُحْرِمَ بِثَلَاثِ عُمَرَ مُتَوَالِيَاتٍ فَيُفْسِدُهَا ثُمَّ يُرِيدُ الْقَضَاءَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ بِمَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ فَكَذَا الصَّلَاةُ، فَأَمَّا تَعَلُّقُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَرَاوِيهِ التَّرْجُمَانُ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَمْضِي فِيهَا اسْتِحْبَابًا وَيَقْضِي مَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُهَا اسْتِحْبَابًا فَتَسَاوَيْنَا فِي الْخَبَرِ وَتَنَازَعْنَا دِلَالَتَهُ فَلَمْ يَكُونُوا فِي حَمْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا بِأَوْلَى مِنَّا فِي حَمْلِهِ على ما ذكرنا
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا فرق بين الرجال، والنساء في عمل الصَّلَاةِ إِلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَضُمَّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَأَنْ تُلْصِقَ بَطْنَهَا بفخذيها في السجود كأستر ما يكون أحب ذلك لها في الركوع، وجميع تُكَثِّفُ جِلْبَابَهَا وَتُجَافِيهِ رَاكِعَةً وَسَاجِدَةً؛ لِئَلَّا تَصِفَهَا ثِيَابُهَا وَأَنْ تُخْفِضَ صَوْتَهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح(2/161)
قَدْ ذَكَرْنَا أَفْعَالَ الصَّلَاةِ وَصَوَابَهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ وَالْهَيْئَاتِ، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي وَاجِبِهَا وَمَسْنُونِهَا، وَهَيْئَاتِهَا إِلَّا فِي شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْرُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَيَأْتِي ذِكْرُهُ وَتَفْصِيلُهُ
وَالثَّانِي: هَيْئَاتٌ وَهِيَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: هَيْئَاتُ أَقْوَالٍ. وَالثَّانِي: هَيْئَاتُ أَفْعَالٍ. وَإِنَّمَا هَيْئَاتُ الْأَقْوَالِ فَثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: تَرْكُ الْأَذَانِ وَخَفْضُ الْأَصْوَاتِ بِالْإِقَامَةِ
وَالثَّانِيَةُ: الْإِسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَالْإِسْرَارُ فِي جَمَاعَةٍ وَفُرَادَى
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُصَفِّقْنَ لِمَا يَنُوبُهُنَّ فِي الصَّلَاةِ بَدَلًا مِنْ تَسْبِيحِ الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا خَالَفْنَ الرِّجَالَ فِي هَيْئَاتِ الْأَقْوَالِ وَتَرْكِ الْجَهْرِ بِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ "، وَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ وَلِأَنَّ صَوْتَهُنَّ عَوْرَةٌ، وَرُبَّمَا افْتَتَنَ سَامِعُهُ، وَلِذَلِكَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُصْغِيَ الرَّجُلُ إِلَى حَدِيثِ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا وَإِنْ كَانَ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ فَإِنَّ زَيْغَ الْقَلْبِ مَمْحَقَةٌ لِلْأَعْمَالِ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
(لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ حَدِيثَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا)
فَجَعَلَ سَمَاعَ الْكَلَامِ كَمُشَاهَدَةِ الْأَجْسَامِ فِي الِافْتِتَانِ بِهِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا هَيْئَاتُ الْأَفْعَالِ فَضَرْبَانِ، ضَرْبٌ فِي أَعْمَالِ الصَّلَاةِ وَضَرْبٌ فِي مَحَلِّ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا الَّتِي فِي عَمَلِ الصَّلَاةِ فَثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: كَثَافَةُ جِلْبَابِهِنَّ، وَالزِّيَادَةُ فِي لُبْسِ مَا هُوَ أَسْتَرُ لَهَا مِنَ السَّرَاوِيلِ، وَخِمَارٍ، وَقَمِيصٍ، وَإِزَارٍ، وَاعْتِمَادُ لُبْسِ مَا جَفَا مِنَ الثِّيَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَجْتَمِعْنَ فِي رُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَلَا يَتَجَافَيْنَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهُنَّ وَأَبْلَغُ فِي صِيَانَتِهِنَّ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُنَّ إِنْ صَلَّيْنَ قُعُودًا جَلَسْنَ مُتَرَبِّعَاتٍ، وَأَمَّا الَّتِي فِي مَحَلِّ الصلاة فأربعة:(2/162)
أَحَدُهَا: مِنَ السُّنَّةِ لَهُنَّ الصَّلَاةُ فِي بُيُوتِهِنَّ دُونَ الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِهَا "
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُنَّ إِذَا صَلَّيْنَ جَمَاعَةً وَقَفَ الْإِمَامُ مِنْهُنَّ وَسَطَهُنَّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ التقدم عليهن كالرجال
والثالثة: أن المراحم إِذَا ائْتَمَّتْ وَحْدَهَا بِرَجُلٍ وَقَفَتْ خَلْفَهُ، وَلَمْ تَقِفْ إِلَى يَمِينِهِ كَالرَّجُلِ
وَالرَّابِعَةُ: أَنَّهُنَّ إِذَا صَلَّيْنَ مَعَ الرَّجُلِ جَمَاعَةً فَأَوَاخِرُ الصُّفُوفِ لَهُنَّ أفضل لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَيْرُ صُفُوفِ النَسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا "
فَهَذِهِ الْهَيْئَاتُ الَّتِي يَقَعُ الْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ خَالَفْنَ هَيْئَاتِهِنَّ وَتَابَعْنَ الرِّجَالَ فقد أسأت، وَصَلَاتُهُنَّ مُجْزِئَةٌ فَأَمَّا مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ أَوْ يوجب سجود السهو فالرجال والنساء فيه سواد لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْهُ - وَاللَّهُ تعالى أعلم -
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ نَابَهَا شَيْءٌ فِي صَلَاتِهَا صَفَّقَتْ، وَإِنَمَا التسبيح للرجال والتصفيق للنساء كَمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الرِّجَالِ إِذَا نَابَهُ نَائِبٌ فِي صَلَاتِهِ أَنْ يُسَبِّحَ إِمَامًا كَانَ، أَوْ مَأْمُومًا، وَمِنْ سُنَّةِ الْمَرْأَةِ أَنْ تُصَفِّقَ وَلَا تُسَبِّحَ
وَقَالَ مَالِكٌ: التَّسْبِيحُ لَهَا سُنَّةٌ
وَرُوِيَ عَنْ أبي حنيفة مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ: أَنَّ تَصْفِيقَ الْمَرْأَةِ يُبْطِلُ صَلَاتَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا مَرِضَ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فَتَقَّدَمَ أَبُو بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ ثُمَّ وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في نفسه خفة فحرج مُسْنَدًا بَيْنَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ صَفَّقُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُعْلِمُوهُ بِمَجِيءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاتَهُ قَالَ: " مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتِّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ " فَبَطَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُ مَالِكٍ حَيْثُ جَعَلَ سُنَّةَ النِّسَاءِ التَّسْبِيحَ دُونَ التَّصْفِيقِ، وَسَقَطَ قَوْلُ أبي حنيفة حَيْثُ أَبْطَلَ صَلَاتَهُنَّ بِالتَّصْفِيقِ
فَأَمَّا صِفَةُ التَّصْفِيقِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:(2/163)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تُصَفِّقُ كَيْفَ شَاءَتْ إِمَّا بِبَاطِنِ الْكَفِّ عَلَى ظَاهِرِ الْأُخْرَى، أَوْ بِبَاطِنِ الْكَفِّ عَلَى بَاطِنِ الْأُخْرَى، أَوْ بِظَاهِرِ الْكَفِّ عَلَى ظَاهِرِ الْأُخْرَى، كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ لِتَنَاوُلِ الِاسْمِ لَهُ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهَا تُصَفِّقُ بِبَاطِنِ الْكَفِّ عَلَى ظَاهِرِ الْأُخْرَى، أَوْ بِظَاهِرِ الكف على باطن الأخرى، وإما بباطن أحديهما عَلَى بَاطِنِ الْأُخْرَى فَلَا يَجُوزُ لِمُضَاهَاتِهِ تَصْفِيقُ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، فَإِنْ خَالَفَتِ الْمَرْأَةُ فَسَبَّحَتْ، أَوْ خَالَفَ الرَّجُلُ فَصَفَّقَ فَصَلَاتُهُمَا مُجْزِئَةٌ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تَسْبِيحُ الْمَرْأَةِ جَائِزٌ وَتَصْفِيقُ الرَّجُلِ عَامِدًا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ، وَسَاهِيًا لَا يُبْطِلُهَا وَلَكِنْ إِنْ تَطَاوَلَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَطَاوَلْ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُبْطِلْ صَلَاةَ مَنْ صَفَّقَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا أَمَرَهُمْ بِالْإِعَادَةِ وَلَا سُجُودِ السَّهْوِ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالسُّنَّةِ وَنَدَبَهُمْ إِلَى الْأَفْضَلِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا تَسْبِيحُ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ تَنْبِيهًا لِإِمَامِهِ وَإِعْلَامًا لَهُ بِسَهْوِهِ فَجَائِزٌ، وَالْعَمَلُ بِهِ سُنَّةٌ وَأَمَّا أَنْ يُسَبِّحَ قَاصِدًا لِرَدِّ جَوَابٍ؛ كَرَجُلٍ اسْتَأْذَنَهُ فِي الدُّخُولِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ قَاصِدًا بِهِ الْإِذْنَ، أَوْ سَلَّمَ عليه فقال: سبحان الله قاصد الرد عَلَيْهِ، أَوْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ، أَوْ رَأْسِهِ، أَوْ رَأَى ضَرِيرًا يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ تَنْبِيهًا لَهُ لِيَرْجِعَ عَنْ جِهَتِهِ، فَصَلَاتُهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ جَائِزَةٌ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: مَتَى قَصَدَ فِي صَلَاتِهِ خِطَابَ آدَمِيٍّ بِإِشَارَةٍ، أَوْ تَسْبِيحٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يُسَبِّحَ لِسَهْوِ إِمَامِهِ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " قَدِمْتُ مِنَ الْحَبَشَةِ فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يُصَلِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ إِنَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ وَقَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ "، فَلَوْ جَازَ رَدُّ السَّلَامِ بِتَسْبِيحٍ، أَوْ إِشَارَةٍ لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الْخَيْرِ وَطَلَبِ الْفَضْلِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ نَطَقَ فِي صَلَاتِهِ بِقُرْآنٍ وَقَصَدَ بِهِ إِفْهَامَ آدَمِيٍّ [عَلَى سَبِيلِ الْجَوَابِ] بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، كَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ اسْمُهُ يَحْيَى " يَا يَحْيَى خُذِ الكتاب بقوة " أو قال " يوسف أعرض عن هذا " فَلَأَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ بِالتَّسْبِيحِ إِذَا قَصَدَ بِهِ الإفهام، أو التبيه أَوْلَى، وَهَذَا خَطَأٌ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مَا نَابَهُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ سَهْوِ إِمَامٍ أَوْ رَدِّ سَلَامٍ، أَوْ تَنْبِيهٍ، أَوْ إِفْهَامٍ
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: " دَخَلَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(2/164)
وَمَعَهُمْ صُهَيْبٌ وَهُوَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فقلت: كيف فعل رسول الله فَقَالَ: رَدَّ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ "
وَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا قَالَتِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تُصَلِّي وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَهَا فَسَأَلْتُهَا عَنِ الْخَبَرِ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ: آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا نعم، فلو كانت الإشارة والتسبيح للإفهام والتلبية تُبْطِلُ الصَّلَاةَ لَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَنَهَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ وَلِأَنَّ الْإِفْهَامَ بِقَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ لَوْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ لَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَهَا إِذَا قَصَدَ بِهِ إِفْهَامَ إِمَامِهِ لِسَهْوِهِ فِي صَلَاتِهِ، وَفِي جَوَازِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ بِكُلِّ حَالٍ فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ الرَّدَّ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: {يَا يَحْيَى خُذِ الكتاب} وقوله: {يوسف أعرض عن هذا} فَهُوَ عِنْدَنَا يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَضَمَّنَ الْإِفْهَامَ، وَالتَّنْبِيهَ، وَالتَّسْبِيحَ، سَوَاءٌ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى رَوَى حَكِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْخَوَارِجِ نَادَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قَالَ فَأَجَابَهُ عَلَيٌّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلا يستخفنك الذين لا يوقنون} ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قِرَاءَتِهِ
وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْإِفْهَامَ، وَالتَّنْبِيهَ لَا الْقِرَاءَةَ فَتَبْطُلَ صَلَاتُهُ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّسْبِيحِ: أَنَّ هَذَا خِطَابُ آدَمِيٍّ صَرِيحٌ، وَالتَّسْبِيحُ إِشَارَةٌ بِالْمَعْنَى وَالتَّنْبِيهِ فَافْتَرَقَ حكمها في إبطال الصلاة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَى الْمَرْأَةِ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً أَنْ تَسْتَتِرَ فِي صَلَاتِهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهَا شيءٌ إلا وجهها وكفيها فإن ظهر منها شيء سوى ذك أَعَادَتِ الصَّلَاةَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ مَالِكٌ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ مُسْتَحَبٌّ فِي الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَمَنْ صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ وَكَانَ الْوَقْتُ بَاقِيًا أَعَادَ وَإِنْ كَانَ فَائِتًا لَمْ يُعِدْ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَقُولُ مَالِكٌ إِنَّهُ يُعِيدُ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ يُرِيدُ بِهِ اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا
وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ تَجِبْ لِلصَّلَاةِ كَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ لَمَّا وَجَبَا لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَجِبَا لِلصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُونَا مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا(2/165)
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا فِي الصَّلَاةِ لَكَانَ لَهُ بَدَلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ كَالْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ كَالتَّسْبِيحِ، وَهَذَا غَلَطٌ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللِّبَاسِ لَا يَجِبُ فَثَبَتَ وُجُوبُ اللِّبَاسِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {عِنْدَ كل مسجد} وَالْمَسْجِدُ يُسَمَّى صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] يعني: مساجد
فإذا قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الطَّوَافِ، وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مسجد} فَوَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبِهَا قِيلَ عُمُومُ اللَّفْظِ يَشْتَمِلُ عَلَى الطَّوَافِ، وَالصَّلَاةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِالسَّبَبِ الْخَاصِّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِذَلِكَ فِي الطَّوَافِ كَانَ الْأَمْرُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ يُسَمَّى صَلَاةً لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الطواف صلاة "
وروي عن سلمة بن الأكواع قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخْرُجُ إِلَى الصَّيْدِ وَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا قَمِيصٌ واحد، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " زُرَّهُ عَلَيْكَ، أَوِ ارْبِطْهُ بِشَوْكَةٍ " فَأَمَرَهُ بِزَرِّهِ خَوْفًا مِنْ ظُهُورِ عَوْرَتِهِ فِي رُكُوعٍ، أَوْ سُجُودٍ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ سُتْرَتِهَا
وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، ومن لم يكن معه إلا ثوب واحد فَلْيَتَّزِرْ بِهِ "
وَرَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرَأَةٍ حَاضَتْ إِلَّا بِخِمَارٍ " أَيْ: بَلَغَتْ حَالَ الْحَيْضِ
وَرُوِيَ " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرَأَةٍ تَحِيضُ إِلَّا بِخِمَارٍ "
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِمَا كَانَ وَاجِبًا لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَجِبْ لِلصَّلَاةِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَنْ يَتَوَارَى بِمَا يُحِيلُ بَيْنَ عَوْرَتِهِ وَعُيُونِ النَّاسِ فَإِنْ تَوَارَى بِجِدَارٍ، أَوْ دَخَلَ بَيْتًا جَازَ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ هَذَا السُّؤَالُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وجوبها لغير الصَّلَاةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا(2/166)
تَجِبُ لِلصَّلَاةِ، لِأَنَّ تَرْكَ الرِّدَّةِ وَاجِبٌ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ، وَلِلصَّلَاةِ وَالْإِيمَانُ وَاجِبٌ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ وَلِلصَّلَاةِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَاقْتَضَى بَدَلًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ فَيَبْطُلُ بِالتَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِلصَّلَاةِ وَلَا بَدَلَ لَهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى تَقْدِيرِ الْعَوْرَةِ وَتَحْدِيدِهَا فَنَبْدَأُ بِعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ لِبِدَايَةِ الشَّافِعِيِّ بِهَا، فَالْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا إِلَى آخِرِ مَفْصِلِ الْكُوعِ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الْعَوْرَةُ هِيَ السَّوْأَتَانِ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ جَمِيعُ الْمَرْأَةِ مَعَ كَفَّيْهَا وَوَجْهِهَا عَوْرَةٌ فَأَمَّا داود فاستدل بقوله تعالى: {فبدت لهما سوأتاهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} قَالَ: فَلَمَّا غَطَّيَا الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ عَلِمَ أَنَّ مَا سِوَاهُمَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ جَالِسًا فِي بَعْضِ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ وَفَخِذُهُ مَكْشُوفَةٌ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُغَطِّهِ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يُغَطِّهِ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ الله عنه فغطاه رسول الله فَقِيلَ لَهُ: سَتَرْتَهُ مِنْ عُثْمَانَ وَلَمْ تَسْتُرْهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: " أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ " قَالُوا: فَلَوْ كَانَ الْفَخِذَانِ عَوْرَةً مَا اسْتَحْسَنَ وَلَا اسْتَجَازَ كَشْفَهُ بِحَضْرَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْهَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ
وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَارٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي قَدَمَيْهَا
وَرَوَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ زُرْعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَرْهَدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ بِئْرِ حَمْلٍ وَأَنَا مَكْشُوفُ الْفَخِذِ فَقَالَ: " غَطِّ فَخِذَكَ فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ "(2/167)
وَقَدْ رَوَى عَاصِمُ بْنُ ضَمْرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " يا علي لا تنظر إلى فخذ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ فَإِنَّهَا عَوْرَةٌ "
فَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا دِلَالَةَ لَهُمْ فِيهَا، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {يخصفان عليهما من ورق الجنة} [طه: 121] المارد بِهِ عَلَى أَبْدَانِهِمَا، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَدْ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ مَكْشُوفَ السَّاقِ فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَطَّاهُ وَالسَّاقُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا رَوَاهُ لَاحْتَمَلَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ كَانَا مِنْ جِهَةٍ لَا يَرَيَانِ فَخِذَهُ وَدَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جِهَةٍ يُشَاهِدُ فَخِذَهُ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ كَشَفَ قَمِيصَهُ عَنْ فَخِذِهِ وَسَتَرَهُ بِسَرَاوِيلِهِ اسْتِئْنَاسًا بِهِمَا لِأَنَّهُمَا صِهْرَاهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ اسْتَحَى فَغَطَّاهُ، لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الْحَيَاةِ أَلَا تَرَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَفَهُ بِالْحَيَاءِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيِيٌّ " عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِكْرَامُ عُثْمَانَ وَإِبَانَةُ فَضْلِهِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ تَدْخُلُ إِلَيْنَا جَارِيَةٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهِيَ عِنْدَنَا فَأَعْرَضَ عَنْهَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا فُلَانَةُ فَقَالَ: " أَوَلَيْسَ قَدْ حَاضَتْ " قال: فلو لم يكن وجهها عورة فكان النظر إليها جائز لَمَا أَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا كَنَظَرِهِ إِلَيْهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَالْآخِرَةَ عَلَيْكَ "
وَالدِّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ
وَقَالَ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب: 52] وَلَا يُعْجِبُ حُسْنُهُنَّ إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَيْهِنَّ وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] وَلَمْ يَقُلْ أَبْصَارَهُمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَضَّ عَنْ بعض دون بعض
وروي أن امرأة خرجت يَدَهَا لِتُبَايِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: " هَذِهِ كَفٌّ مَبِيعٌ أَيْنَ الْحَيَاءُ "(2/168)
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا عَرَكَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ قَالَ: حَاضَتْ لَمْ يَجُزِ النَّظَرُ إِلَيْهَا إِلَّا إِلَى وَجْهِهَا وكفيها "
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أراد أحدكم خطب امْرَأَةٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْوَمُ لِمَا بَيْنَهُمَا "
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهِ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَهِيَ فَضْلٌ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لِمَا رَفَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ قَدْرِهِ وَأَبَانَ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلِلنَّاسِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ لَا تُتْبِعْ نَظَرَ قَلْبِكَ نَظَرَ عَيْنِكَ
وَالثَّانِي: لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ الْأُولَى الَّتِي وَقَعَتْ سَهْوًا لِلنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَقَعُ عَمْدًا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَوْرَةَ الْمَرْأَةِ فِي صَلَاتِهَا مَا ذَكَرْنَا فَعَلَيْهَا سَتْرُ جَمِيعِ عَوْرَتِهَا فِي الصَّلَاةِ فَرِيضَةً كَانَتْ أَوْ نَافِلَةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ دِرْعٌ سَابِغٌ يُغَطِّي قَدَمَيْهَا، أَوْ خِمَارٌ تَسْتُرُ بِهِ رَأْسَهَا وَأُحِبُّ أَنْ تَلْبَسَ الْجِلْبَابَ وَتُجَافِيَهُ لِكَيْ لَا تَصِفَهَا ثِيَابُهَا، فَإِنِ انْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهَا وَإِنْ قَلَّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى سَتْرِهِ فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ، وَوَافَقَنَا أبو حنيفة فِي قَدْرِ الْعَوْرَةِ، وَخَالَفَنَا فِي حُكْمِ مَا انْكَشَفَ مِنْهَا فَقَالَ الْعَوْرَةُ ضَرْبَانِ مُخَفَّفَةٌ وَمُغَلَّظَةٌ، فَالْمُغَلَّظَةُ السَّوْأَتَانِ الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ، وَالْمُخَفَّفَةُ مَا عَدَاهُمَا، فَإِنِ انْكَشَفَ مِنَ الْمُغَلَّظَةِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمِنَ الْمُخَفَّفَةِ دُونَ الرُّبُعِ صَحَّتِ الصَّلَاةُ وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ
وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مَعْنًى يَجُوزُ فِي حَالِ الْعُذْرِ، وَهُوَ الْخَوْفُ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ قَالَ: وَلِأَنَّ الْكَشْفَ الْكَثِيرَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ كَالْكَشْفِ الْقَلِيلِ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْكَشْفُ الْقَلِيلُ فِي الزَّمَانِ [الْقَلِيلِ] وَالدِّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى مَالِكٍ مِنَ الظَّوَاهِرِ، ثُمَّ مِنْ طريق المعنى: أن كَشَفَ مِنْ عَوْرَتِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا يَقْدِرُ عَلَى سَتْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ، أَصْلُهُ إِذَا كُشِفَ مِنَ الْمُغَلَّظَةِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّرْهَمِ، وَمِنَ الْمُخَفَّفَةِ أَكْثَرُ مِنَ الرُّبُعِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ إِذَا انْكَشَفَ مِنْهُ الرُّبُعُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَوَجَبَ إِذَا انْكَشَفَ مِنْهُ دُونَ الرُّبُعِ أَنْ يُبْطِلَهَا كَالسَّوْأَتَيْنِ ثُمَّ يُقَالُ لأبي حنيفة لَيْسَ تَحْدِيدُكَ بِالرُّبُعِ أَوْلَى مِنْ تَحْدِيدِ غَيْرِكَ بِالثُّلُثِ، أَوِ النِّصْفِ فَبَطَلَ تَحْدِيدُكَ بِمُعَارَضَةِ مَا قَابَلَهُ عَلَى أَنَّ أبا حنيفة لَا يَأْخُذُ بِالتَّحْدِيدِ قِيَاسًا، وَلَيْسَ مَعَهُ نَصٌّ يُوجِبُهُ فَعَلِمَ بُطْلَانَهُ(2/169)
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِمَا جَازَ تَرْكُهُ فِي حَالِ الْعُذْرِ وَجَبَ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ فَبَطَلَ بِالْوُضُوءِ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ مَعَ الْعُذْرِ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ عَلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِعْلٌ وَحَرَكَةٌ، وَالِاحْتِرَازَ مِنْهُمَا فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إِذْ لَيْسَ فِي الْمُمْكِنِ أَنْ لَا يَتْرُكَ فِي صَلَاتِهِ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السُّتْرَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّرْكُ لِلتَّكْبِيرِ فِي الزَّمَانِ الْيَسِيرِ فَكَذَلِكَ التَّرْكُ الْيَسِيرُ فِي الزَّمَانِ الْكَثِيرِ، قُلْنَا: هُمَا فِي الْحُكْمِ، وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ إِنَّمَا جَازَتْ صَلَاتُهُ فِي الْكَشْفِ الْكَثِيرِ فِي الزَّمَانِ الْيَسِيرِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى سِتْرِهِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ [وَإِنَّمَا أَبْطَلْنَا صَلَاتَهُ] فِي الكشف الكثير فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى سَتْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لِخِرَقٍ فِي ثَوْبِهِ لَا يَجِدُ مَا يَسْتُرُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ فَلَمْ يفترق الحكم في الموضعين.
(فصل)
: فإذا تكررت هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَلِلْمَرْأَةِ حَالَانِ، حَالُ عَوْرَةٍ، وَحَالُ إِبَاحَةٍ فَأَمَّا حَالُ الْإِبَاحَةِ فَمَعَ زَوْجِهَا فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا عَوْرَةٌ وَلَهُ النَّظَرُ إِلَى سَائِرِ بَدَنِهَا
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ لَهُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ: لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى فرجها، ولا له النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالْمَنْظُورَ إِلَيْهِ "
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا، وَيَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وَلِأَنَّهُ قَدِ اسْتَبَاحَ جُمْلَتَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَفَرْجُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِمْتَاعِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ أَقَلَّ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِهِ، وَلَوْ تَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا الْعَوْرَةُ فَضَرْبَانِ صُغْرَى وَكُبْرَى، فَأَمَّا الْكُبْرَى فَجَمِيعُ الْبَدَنِ إِلَّا الوجه والكفان وَأَمَّا الصُّغْرَى فَمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَمَا يَلْزَمُهَا سَتْرُ هَاتَيْنِ الْعَوْرَتَيْنِ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَلْزَمَهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ الْكُبْرَى، وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ مَضَى حُكْمُهَا
وَالثَّانِي: مَعَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرِهِمْ، وَحُرِّهِمْ، وَعَبْدِهِمْ، وَعَفِيفِهِمْ، وَفَاسِقِهِمْ، وَعَاقِلِهِمْ، وَمَجْنُونِهِمْ فِي إِيجَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ الْكُبْرَى مِنْ جَمِيعِهِمْ
وَالثَّالِثُ: مَعَ الْخَنَاثَى الْمُشْكِلِينَ، لِأَنَّ جُمْلَةَ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ فَلَا يُسْتَبَاحُ النَّظَرُ إِلَى بَعْضِهَا بِالشَّكِّ
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَلْزَمُهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ الصُّغْرَى وَذَلِكَ مَعَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ أَحَدُهَا مَعَ النِّسَاءِ كُلِّهِنَّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَعِيدَةِ وَالْقَرِيبَةِ، وَالْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَالْمُسْلِمَةِ والذميه(2/170)
وَالثَّانِي: مَعَ الرِّجَالِ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا كَابْنِهَا، وَأَبِيهَا وَأَخِيهَا، وَعَمِّهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ
وَالثَّالِثُ: مَعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَلَا تَحَرَّكَتْ عَلَيْهِمُ الشَّهْوَةُ
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: عَبِيدُهَا الْمَمْلُوكُونَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَوْرَتِهَا مَعَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: الْعَوْرَةُ الْكُبْرَى كَالْأَجَانِبِ وَبِهِ قَالَ أبو إسحاق المروزي، وأبي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 58]
وَالثَّانِي: الْعَوْرَةُ الصُّغْرَى كَذِي الرَّحِمِ وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ حُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ لِقَوْلِهِ تعالى: {وما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ تَقْرِيبُ أَنَّهَا تَبْرُزُ إِلَيْهِمْ وَهِيَ فَضْلُ بَارِزَةِ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ، لَكِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِئْذَانُ إِلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَأَمَّا عَبْدُهَا الَّذِي نَصْفُهُ حُرٌّ وَنَصِفُهُ مَمْلُوكٌ فَعَلَيْهَا سَتْرُ عَوْرَتِهَا الْكُبْرَى مِنْهُ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الشُّيُوخُ الْمُسِنُّونَ الَّذِينَ قَدْ عَدِمُوا الشَّهْوَةَ وَفَارَقُوا اللَّذَّةَ فَفِي عَوْرَتِهَا مَعَهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْكُبْرَى كَالرِّجَالِ الْأَجَانِبِ
وَالثَّانِي: الصُّغْرَى كَالصِّبْيَانِ
وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْمَجْبُوبُونَ دُونَ الْمَخْصِيِّينَ فَفِي عَوْرَتِهَا مَعَهُمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْكُبْرَى كَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ
وَالثَّانِي: الصُّغْرَى كَالصِّبْيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {غير أولي الإربة من الرجال} فَأَمَّا الْعِنِّينُ وَالْمَأْيُوسُ مِنْ جَمَاعَةٍ كَالْخَصِيِّ وَالْمُؤَنَّثِ الْمُتَشَبِّهِ بِالنِّسَاءِ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ في حكم العورة منهم ولهم
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ صَلَّتِ الْأَمَةُ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ أَجْزَأَهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ مَا بَيْنَ سُرَّةِ الْأَمَةِ وَرُكْبَتِهَا عَوْرَةٌ فِي صَلَاتِهَا وَمَعَ الْأَجَانِبِ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَنَّ رَأْسَهَا وَسَاقَيْهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مَعَ الْأَجَانِبِ لِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِأَمَةِ آلِ أَنَسٍ وَقَدْ تَقَنَّعَتْ فِي صَلَاتِهَا فضربها وقال:(2/171)
" اكْشِفِي رَأْسَكِ وَلَا تَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ "، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ جَرَّ قِنَاعَهَا وَقَالَ: " يَا لُكَعَاءُ تَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ "
فَأَمَّا مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرَأْسِهَا [مِنْ صَدْرِهَا وَوَجْهِهَا] فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وعليه أصابنا إِنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَيَجُوزُ نَظَرُ الْأَجَانِبِ إِلَيْهِ عِنْدَ التَّقْلِيبِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَمَعَ الْأَجَانِبِ لَيْسَ لَهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا لِحَاجَةٍ، وَلَا لِغَيْرِهَا فَأَمَّا الْأَمَةُ نِصْفُهَا حُرٌّ وَنِصْفُهَا مَمْلُوكٌ فَفِي عَوْرَتِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: كَالْحَرَائِرِ فِي صَلَاتِهَا وَمَعَ سَيِّدِهَا وَمَعَ الْأَجَانِبِ
وَالثَّانِي: كَالْإِمَاءِ فِي صَلَاتِهَا وَمَعَ الْأَجَانِبِ وَكَأَمَةِ الْغَيْرِ مَعَ سَيِّدِهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ تَحْلِيلٌ وَتَحْرِيمٌ كَانَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ أَغْلَبَ
فَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ، وَالْمُكَاتَبَةُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ: فَكُلُّهُنَّ عَوْرَةٌ سَوَاءٌ، لِأَنَّ حُكْمَ الرِّقِّ جَارٍ عَلَيْهِنَّ، فَلَوْ صَلَّتِ الْأَمَةُ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ ثُمَّ عَلِمَتْ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ عَتَقَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا إِعَادَةُ مَا صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ بَعْدَ عِتْقِهَا كَالْمُصَلِّي عُرْيَانًا لِعَدَمِ الثَّوْبِ ثُمَّ يَجِدُ ثَوْبًا قَدْ كَانَ لَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ كَذَلِكَ الْأَمَةُ، لِأَنَّهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ وَقَدْ خُرِّجَ فِي الْأَمَةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا مِنَ الْمُصَلِّي وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الصلاة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي قَمِيصٍ وَرِدَاءٍ، فَإِنْ صَلَّى فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ، أَوْ سَرَاوِيلَ واحدة أجزأه "
قال المارودي: وأما الرجل فعورته ما بين سرته إلى ركبتيه، وَلَيْسَتِ السُّرَّةُ وَالرُّكْبَةُ مِنَ الْعَوْرَةِ؛ لِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ، وَإِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ أَمَتَهُ فَلَا تَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عورته "
وأما مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ مِنَ الْعَوْرَةِ
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا دُونَ الرُّكْبَةِ مِنَ الْعَوْرَةِ، وَمَا أَسْفَلَ السُّرَّةِ مِنَ الْعَوْرَةِ "(2/172)
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: " أَرِنِي الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَبِّلُهُ فَكَشَفَ عَنْ سُرَّتِهِ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ "
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ السُّرَّةَ وَالرُّكْبَةَ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى سَتْرِ عَوْرَتِهِ إِلَّا بِسَتْرِ بَعْضِ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ليكون سائراً لِجَمِيعِ الْعَوْرَةِ، كَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى غَسْلِ وَجْهِهِ إِلَّا بِالْمُجَاوَزَةِ إِلَى غَيْرِهِ
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ، قَمِيصٍ وَرِدَاءٍ وَسَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، لِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، ومن لم يكن معه إلا ثوب واحد فَلْيَتَّزِرْ بِهِ "
وَإِنْ صَلَّى الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ سَتَرَ بِهِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ أَجْزَأَهُ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا تُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ حَتَّى يَضَعَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْئًا، وَلَوْ حَبْلًا تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْءٌ مِنْهُ "
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي ثَوْبٍ فَلْيَصْنَعْ عَلَى عَاتِقِهِ شَيْئًا، وَلَوْ حَبْلًا "، وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا وَمَنْ لم يكن معه إلا ثوب واحد فليتزر بِهِ "
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا نَادَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَيُصَلِّي أَحَدٌ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ "
وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي ثَوْبٍ بَعْضُهُ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ عَلَى زَوْجَتِهِ مَيْمُونَةَ
فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَمَحْمُولٌ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا رُوِّينَا
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَجَائِزٌ إِذَا صَنَعَ أَحَدَ ثَلَاثِ خِصَالٍ إِمَّا أَنْ يَزِرَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ يَرْبُطَهُ بِشَيْءٍ، أَوْ يَشُدَّ وَسَطَهُ فَوْقَ سُرَّتِهِ عَلَى قَمِيصِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَصَلَّى فِيهِ كَمَا لَبِسَ لَمْ يُجْزِهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: يُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتُرَ الْعَوْرَةَ بِمَا قَابَلَهَا وَلَا اعْتِبَارَ بِالطَّرَفَيْنِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ صَلَّى فِي مِئْزَرٍ جَازَ وَإِنْ كَانَ مَا قَابَلَ الْأَرْضَ مِنْ عَوْرَتِهِ ظَاهِرًا، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ(2/173)
الْأَكْوَعِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخْرُجُ إِلَى الصَيْدِ فَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إِلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " زره عليه أو اربط بِشَوْكَةٍ " فَدَلَّ أَمْرُهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لا يجزئ إِلَّا بِهِ فَأَمَّا قَوْلُ أبي حنيفة لَا اعْتِبَارَ بِالطَّرَفَيْنِ إِذَا سَتَرَ مَا قَابَلَ عَوْرَتَهُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ سَوْأَتَهُ لَوْ شُوهِدَتْ مِنْ أَعْلَى الْمِئْزَرِ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ، وَإِنْ شُوهِدَتْ مِنْ أَسْفَلِهِ أَجْزَأَتْهُ فَافْتَرَقَ حُكْمُ الطَّرَفَيْنِ فِي سَتْرِهَا، فَلَوْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ لَمْ يَزِرَّهُ عَلَيْهِ وَكَانَ ذَا لِحْيَةٍ قَدْ غَطَّتْ مَوْضِعَ إِزْرَارِهِ وَسَتَرَتْ مَا يَظْهَرُ مِنْ عَوْرَتِهِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ
(فَصْلٌ)
: وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَعَ الرِّجَالِ كَعَوْرَتِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وركبتيه، وَكَذَلِكَ عَوْرَتُهُ مَعَ النِّسَاءِ إِلَّا مَعَ زَوْجَتِهِ أمته فَلَا عَوْرَةَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ أَرَادَ النَّظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ، أَوْ أَرَادَ كَشْفَهَا فِي بَيْتِهِ حَيْثُ لَا يِرَاهُ أَحَدٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذْ لَا عَوَرَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحْنِي أَحَدُكُمْ بِثَوْبِهِ مُفْضِيًا بِفَرْجِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ تَسْتَحْيُوا مِنْهُ "، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَجَرَّدَ فِي الْمَاءِ فِي نَهْرٍ، أَوْ غَدِيرٍ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَقُومُ مَقَامَ الثَّوْبِ فِي سَتْرِ عَوْرَتِهِ
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ يُنْزَلَ الْمَاءُ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ وَقَالَ: " إِنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا "
وَعَوْرَةُ الْعَبْدِ كَعَوْرَةِ الْحُرِّ، وَعَوْرَةُ الذِّمِّيِّ كَعَوْرَةِ الْمُسْلِمِ
فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَعَوْرَتُهُ فِي صَلَاتِهِ وَمَعَ الرِّجَالِ كَعَوْرَةِ النِّسَاءِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: آمُرُهُ بِلُبْسِ الْقِنَاعِ، وَأَنْ يَقِفَ بَيْنَ صُفُوفِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَأَمَّا الْأَطْفَالُ فَلَا حُكْمَ لِعَوْرَتِهِمْ فِيمَا دُونَ سَبْعٍ، فَلَوْ بَلَغَ الْغُلَامُ عَشْرَ سِنِينَ، وَالْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ كَانَا كَالْبَالِغِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي حُكْمِ الْعَوْرَةِ وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ هَذَا(2/174)
زَمَانٌ يُمْكِنُ فِيهِ بُلُوغُهُمْ فَجَرَى حُكْمُهُ لِتَغْلِيظِ حُكْمِ الْعَوْرَاتِ، فَأَمَّا الْغُلَامُ فِيمَا بَيْنَ السَّبْعِ وَالْعَشْرِ، وَالْجَارِيَةُ فِيمَا بَيْنَ السَّبْعِ وَالتِّسْعِ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا وَيَحِلُّ فِيمَا سِوَاهُ
(مَسْأَلَةٌ)
: فقال الشافعي رضي الله عنه: " وَكُلُّ ثَوْبٍ يَصِفُ مَا تَحْتَهُ وَلَا يَسْتُرُ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح
والثياب كلها على ثلاث أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُسْتَحَبُّ لُبْسُهُ لِلنِّسَاءِ وَلِلرِّجَالِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ كُلُّ ثَوْبٍ صَفِيقٍ لَا يَصِفُ مَا تَحْتَهُ كَالْمِئْزَرِ وَالْوُذَارَةِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ فِي الصَّلَاةِ لِلنِّسَاءِ وَلَا لِلرِّجَالِ وَهُوَ كُلُّ ثَوْبٍ خَفِيفٍ يَصِفُ لَوْنَ مَا تَحْتَهُ مِنْ بَيَاضٍ، أَوْ سَوَادٍ كَالشُّرُبِ، أَوِ التَّوْرِيِّ
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَيُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلنِّسَاءِ فَإِنْ لَبِسْنَهُ جَازَ، وَهُوَ كُلُّ ثَوْبٍ نَاعِمٍ يَصِفُ لِينَ مَا تَحْتَهُ وَخُشُونَتَهُ وَيَصِفُ لَوْنَهُ كَالدَّبِيقِيِّ، وَالنَّهْرِيِّ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْعُرْيَانُ إِذَا لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فِي صَلَاتِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى لباس ظاهر مِنْ جُلُودٍ أَوْ فَرًى لَبِسَهُ وَصَلَّى، وَكَذَا لَوْ وَجَدَ وَرَقَ شَجَرٍ يَخْصِفُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَلَّى، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ وَجَدَ طِينًا، وَكَانَ ثَخِينًا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيُغَطِّي الْبَشَرَةَ لَزِمَهُ تطيين عورته، [وإن لم يفعل بطلت صَلَاتُهُ] ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَلَكِنْ يُغَيِّرُ لَوْنَ الْبَشْرَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ تَطْيِينُ عَوْرَتِهِ، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ فَلَوْ وَجَدَ ثَوْبًا يُوَارِي بَعْضَ عَوْرَتِهِ لَزِمَهُ الِاسْتِتَارُ بِهِ وَسَتْرُ قُبُلِهِ أَوْلَى مِنْ دُبُرِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُبُلَ لَا يَسْتُرُهُ شَيْءٌ، وَالدُّبُرَ يَسْتُرُهُ الْإِلْيَتَانِ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقُبُلَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ سَتْرُ الدُّبُرِ أَوْلَى الفحش ظُهُورِهِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَلَا شَيْئًا مِنْهَا صَلَّى عُرْيَانًا قَائِمًا، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَلَّى جَالِسًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ صَلَّى قَائِمًا، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى قَاعِدًا، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّ قُعُودَهُ أَسْتَرُ لِعَوْرَتِهِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْكَدُ مِنَ الْقِيَامِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: سُقُوطُ الْقِيَامِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي النَّوَافِلِ، وَوُجُوبُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الفرائض والنوافل(2/175)
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِيَامَ لَهُ بَدَلٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْقُعُودُ، وَلَيْسَ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ بَدَلٌ، وَهَذَا خَطَأٌ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ "، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ تَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِفَقْدِ السَّتْرِ كَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ الْقُعُودِ إِلَى الْإِيمَاءِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ كَالْقِبْلَةِ طَرْدًا، وَالْمَرَضِ عَكْسًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَيَ جُلُوسِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ عَوْرَتُهُ ظَاهِرَةٌ وَإِنَّمَا خَفِيَ بِغَمْضِهَا وَصَارَ بِجُلُوسِهِ تَارِكًا لِلسَّتْرِ وَالْقِيَامِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ بِبَدَنِهِ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِذَا كَانُوا عُرَاةً وَلَا نِسَاءَ، مَعَهُمْ فَأُحِبُّ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً وَيَقِفَ الْإِمَامُ وَسَطَهُمُ، وَيَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ " قَالَ: " وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً صَلَّوْا مُنْفَرِدِينَ بِحَيْثُ لَا يَرَى الرِّجَالُ النِّسَاءَ وَلَا النِّسَاءُ الرِّجَالَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ وَلَّى النِّسَاءُ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَوَقَفُوا حَتَّى يُصَلِّيَ الرِّجَالُ، فَإِذَا صَلَّوْا وَلَّى الرِّجَالُ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ النِّسَاءُ فَلَوْ كَانَ مَعَ أَحَدِهِمْ ثَوْبٌ كَانَ أَوْلَاهُمْ بِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ إِعَارَتُهُمْ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُعِيرَهُمْ ثَوْبَهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ لِيُصَلِّيَ فِيهِ جَمِيعُهُمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَإِنْ خَافُوا خُرُوجَ الْوَقْتِ إِنِ انْتَظَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا صلوا عراة قبل خروج الوقت، وعليهم الإعارة نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَلَوْ كَانُوا فِي سَفِينَةٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّلَاةِ قِيَامًا إِلَّا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَخَافُوا خُرُوجَ الْوَقْتِ صَلَّوْا قُعُودًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَقَلَ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَخَرَّجَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ جَوَابَ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِفَرْقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَرْضَ الْقِيَامِ قَدْ سَقَطَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِي النَّوَافِلِ، وَفِي الْفَرَائِضِ إِذَا كَانَ مَرِيضًا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِمَشَقَّةٍ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا يَسْقُطُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بِحَالٍ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِيَامَ بَدَلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَهُوَ الْقُعُودُ وَلَيْسَ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ بَدَلٌ فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ فَرْضَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عَلَى الْوَقْتِ وَأَوْجَبَ الْإِعَادَةَ عَلَى الْعُرَاةِ، وَقَدَّمَ فَرْضَ الْوَقْتِ عَلَى الْقِيَامِ وَأَسْقَطَ الْإِعَادَةَ على الْمُضَايِقِينَ فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ تَخْرِيجِهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا وَجَدَ الْعُرْيَانُ ثَوْبًا نجساً صلى عريان وَأَجْزَأَهُ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الْعَادِمُ الْمَاءَ مَاءً نَجِسًا تَيَمَّمَ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُ، فَلَوْ وَجَدَ الْعُرْيَانُ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَلْبَسْهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ حَاضِرًا كَانَ الْغَيْرُ، أَوْ غَائِبًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ صَلَّى عُرْيَانًا وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَبِسَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَصَلَّى فِيهِ كَانَ غاضباً يلبسه وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي اللِّبَاسِ لَا تَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ كَالْمُصَلِّي فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، أَوْ ثَوْبٍ دِيبَاجٍ، فَلَوْ قَدَرَ الْعُرْيَانُ عَلَى ثَوْبٍ يَسْتَتِرُ بِهِ بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ(2/176)
يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى الثَّمَنِ، أَوِ الْأُجْرَةِ لَزِمَهُ ذَلِكَ كَالْمُسَافِرِ إِذَا بُذِلَ له الماء بثمن مثله، فإن صلى عريان أَعَادَ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْوَاجِدِ لِلثَّوْبِ، فَلَوِ اسْتَعَارَ الْعُرْيَانُ ثَوْبًا لِصَلَاتِهِ فَمَنَعَهُ الْمَالِكُ مِنْ إِعَارَتِهِ وَقَالَ: خُذْهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِبَةِ وَالتَّمْلِيكِ لَا الْعَارِيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ كَمَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْمَاءِ إِذَا وُهِبَ لَهُ
وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ لِمَا فِي قَبُولِهِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ مِنَّةِ الْوَاهِبِ فَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ الْمَالُ لِلْحَجِّ، وَفَارَقَ هَيْئَةَ الْمَاءِ لِعَدَمِ الْمِنَّةِ فِيهِ
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ نَاوِيًا بِهِ الْعَارِيَةَ، وَإِذَا صَلَّى فِيهِ رَدَّهُ إِلَى رَبِّهِ، فَلَوِ اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيُصَلِّيَ فِيهِ فَلَبِسَهُ وَأَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ اسْتَرْجَعَهُ مَالِكُهُ بَنَى عَلَى صلاته عريان وأجزأته، ولو أحرم بالصلاة عريان فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَتَرَ به وبنى على صلاته
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ سَلَّمَ أَوْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا، أَوْ نَسِيَ شَيْئًا مِنْ صُلْبِ الصَّلَاةِ بَنَى مَا لَمْ يتطاول لك وَإِنْ تَطَاوَلَ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ عَمْدٌ، وَنِسْيَانٌ، فَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ كَلَامُهُ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فِي أَحَدِهِمَا
وَقَالَ أبو حنيفة: جِنْسُ الْكَلَامِ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إِلَّا أَنْ يُسَلِّمَ سَاهِيًا فَلَا يُبْطِلُ
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ: تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالْكَلَامِ كُلِّهِ، وَبِالسَّلَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: " كُنَّا نكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ أَنْ نُهَاجِرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مِنَ الْحَبَشَةِ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، فَلَمَّا فَرَغَ قُلْتُ: لَمْ تَرُدَّ عَلَيَّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَقَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي عَمْدِ الْكَلَامِ وَسَهْوِهِ
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَعَضَّ النَّاسُ عَلَى شِفَاهِهِمْ، وَغَمَزُونِي بِأَبْصَارِهِمْ، فَلَمَّا صَلَّيْتُ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَا ضَرَبَنِي وَلَا كَهَرَنِي - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي - مِنْ معلمٍ وَقَالَ: إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالْقِرَاءَةُ(2/177)
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْكَلَامُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ " قَالُوا: وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَ سَهْوُهُ الصَّلَاةَ كَالْحَدَثِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ كَلَامٌ يُبْطِلُ كَثِيرُهُ الصَّلَاةَ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَهَا قَلِيلُهُ كَالْعَمْدِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهَتْ عَلَيْهِ "، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ، قِيلَ: رَفْعُ الْخَطَأِ يَقْتَضِي رَفْعَ حُكْمِهِ مِنَ الْإِثْمِ وَغَيْرِهِ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العصر فسلم من اثنتين فقال ذو اليدين أقصرت الصلاة أن نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ قَالُوا: نَعَمْ فَأَتَمَّ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَهُوَ قَاعِدٌ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ "
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثلاثٍ مِنَ الْعَصْرِ وَدَخَلَ الْحُجْرَةَ فَنَادَى الْخِرْبَاقُ وَهُوَ رَجُلٌ بَسْطُ الْيَدَيْنِ أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ فَخَرَجَ مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ فَسَأَلَ النَّاسَ فَأُخْبِرَ فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سجد في السَّهْوِ، وَسَلَّمَ، فَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ إِذَا وَقَعَ عَنْ سَهْوٍ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَأْنِفَ صَلَاتَهُ، فَإِنْ قِيلَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَكَانَ إِسْلَامُهُ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ يَوْمِ بَدْرٍ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ عَلَى مَا حَكَاهُ الزُّهْرِيُّ، قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ ذُو الشِّمَالَيْنِ وَاسْمُهُ عُمَيْرُ بن عبد عمرو بْنِ نَضْلَةَ الْخُزَاعِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَذُو الْيَدَيْنِ الَّذِي نَقَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ قِصَّتَهُ اسْمُهُ الْخِرْبَاقُ عَاشَ إِلَى أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ وَقُبِرَ بِذِي خَشَبٍ عَلَى مِيلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ رَوَى حَدِيثَهُ، فَإِنْ قِيلَ فَحَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ مُضْطَرِبٌ مِنْ وَجْهٍ ثَانٍ، وَهُوَ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فِي نَقْلِهِ فَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنِ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ بَنَى قَبْلَ انْصِرَافِهِ، وَرِوَايَةُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَلَّمَ مِنْ ثَلَاثٍ وَانْصَرَفَ إِلَى حُجْرَتِهِ ثُمَّ عَادَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَفِي اخْتِلَافِهِمَا، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ دَلِيلٌ عَلَى اضْطِرَابِهِ وَبُطْلَانِهِ، قِيلَ هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُؤَدِّي إِلَى الْقَدْحِ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالطَّعْنِ عَلَيْهِمْ مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:(2/178)
" أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ أَقْوَالِهِمْ، وَإِبْطَالِهَا مَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ مَعَ وُقُوعِ الْكَلَامِ فِيهَا وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْفِعْلِ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الْحُكْمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ مِنْ رَجُلَيْنِ عَرَبِيَّيْنِ مَعَ اشْتِهَارِ حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِذِي الْيَدَيْنِ حِينَ قَالَ أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ فَقَالَ كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا لِقَوْلِهِ وَتَكْذِيبًا لِظَنِّهِ قِيلَ: هَذَا لَا يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّتِهِ لِاحْتِمَالِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اجْتِمَاعَ الْقَصْرِ وَالنِّسْيَانِ لَمْ يَكُنْ
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ سَلِمَ الْحَدِيثُ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَخَلَا مِنْ شَوَائِبِ الْقَدْحِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ حُظِرَ بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ نَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ فَسَكَتْنَا فَإِذَا حُظِرَ الْكَلَامُ بَعْدَ إِبَاحَتِهِ حُمِلَ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ عَلَى حَالِ الْإِبَاحَةِ، قِيلَ: هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَوَى تَحْرِيمَ الْكَلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِمَكَّةَ عِنْدَ عَوْدِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ سَلَامِهِ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ مُبَاحًا لَمْ يَسْجُدْ لِأَجْلِهِ، فَإِنْ قِيلَ: بَعْدَ تَكَلُّمِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عَامِدًا وَاسْتَثْبَتَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَا لَهُ نَعَمْ أَوْ قَالَا صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ، وَكَانَا عَامِدَيْنِ، وَعِنْدَكُمْ أَنَّ عَمْدَ الْكَلَامِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَكَيْفَ يَصِحُّ لَكُمُ الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَذْهَبُكُمْ يَدْفَعُهُ، قِيلَ: أَمَّا كَلَامُ ذِي الْيَدَيْنِ فَهُوَ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ ظَنَّ حُدُوثَ النَّسْخِ وَقَصْرِ الصَّلَاةِ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ فَتَكَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا صُورَةُ النَّاسِي ثُمَّ اسْتَظْهَرَ بِسُؤَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَوْفًا مِنَ النِّسْيَانِ وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صِحَّةُ قَصْدِهِ فِي أَفْعَالِهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ مَاتَ بَعْدَ سَلَامِهِ لَحُمِلَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى النَّسْخِ دُونَ النِّسْيَانِ، وَأَمَّا جَوَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلِأَنَّهُ اعْتَقَدَ إِتْمَامَ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ ذَا الْيَدَيْنِ فِي قَوْلِهِ
وَأَمَّا جَوَابُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَوْلُهُمَا صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِي رَوَى عنهما أنهما أومآ إليه برؤوسهما، وَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ وَمَنْ رَوَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا فَغَمَزَا فَمَعْنَاهُ بِالْإِشَارَةِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(وَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وَحُدِّرَتَا كَالدُّرِّ لَمَّا يُثَقَّبِ)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّهُمَا أَجَابَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلا؛ بل أن إجابة(2/179)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واجبة في الصلاة وغيرها فلم سعهما تَرْكُ إِجَابَتِهِ، وَلَوْ كَانَا فِي الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَّمَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ فِي الصلاة فلم يرد عليه فخفف، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فَقَالَ: عِنْدَكَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} فَقَالَ: لَا أَعُودُ "
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ أَنَّ إِجْمَاعَنَا أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا وَسَهْوًا، ثُمَّ نُسِخَ عَمْدُ الْكَلَامِ وَبَقِيَ سَهْوُهُ، فَمَنْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِهِ فَقَدْ أَثْبَتَ نَسْخَهُ وَالنَّسْخُ لَا يَجُوزُ بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ، وَهَذِهِ دَلَالَةُ قَوْلِهِ لَا اعْتِرَاضَ لَهُمْ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا يَخْتَصُّ مِنْ إِبْطَالِ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ يُفَارِقَ عَمْدُهُ لِسَهْوِهِ فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ، كَتَقْدِيمِ رُكْنٍ عَلَى رُكْنٍ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا مَحْظُورَاتٌ تَخُصُّهَا فَجَازَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ بَعْضُ مَحْظُورَاتِهَا، كَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ مُبَاحٌ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَمْ تَبْطُلْ بِسَهْوِهِ الصَّلَاةُ
أَصْلُهُ: إِذَا أَرَادَ الْقِرَاءَةَ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالْكَلَامِ، وَلِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهَا أَصْلُهُ إِذَا سَلَّمَ فِي خِلَالِهَا نَاسِيًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ تَبْطُلْ صلاة بالسلم، لِأَنَّهُ مِنْ أَرْكَانِهَا، قِيلَ: لَوْ كَانَ مِنْ أَرْكَانِهَا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ عَلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَلَا، وَلَيْسَ كَوْنُ ذَلِكَ ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ ذُكِرَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَلَا تَرَى أَنَّ حَلْقَ الْمُحْرِمِ فِي مَوْضِعٍ نُسُكٌ وَعِبَادَةٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ غَيْرُ عِبَادَةٍ، بَلْ يَأْثَمُ وَيَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ، كَقَتْلِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ سَهْوَ الْكَلَامِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَلَا يُوقَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ فَسَقَطَتْ فِيهِ الْإِعَادَةُ، وَصَارَ كَالْخَطَأِ فِي وُقُوفِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ فِي الْعَاشِرِ
فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ ذِي الْيَدَيْنِ أَوْلَى مِنْهُ لِتَأَخُّرِهِ
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ وَارِدٌ فِي عَمْدِ الْكَلَامِ دُونَ سَهْوِهِ، لِأَنَّ السَّهْوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَيْهِ مَعَ تَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ وَقَوْلُهُ: " لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ " يَقْتَضِي فَسَادَ الْكَلَامِ لَا الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَنَا، لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَا أَمَرَهُ بِإِعَادَتِهَا، وَالْجَاهِلُ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي حُكْمِ الْمُتَكَلِّمِ نَاسِيًا
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَمَحْمُولٌ إِنْ صَحَّ عَلَى عَمْدِ الْكَلَامِ(2/180)
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَدَثِ، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ ثُمَّ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِبُطْلَانِ الطِّهَارَةِ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي سَهْوِهِ مَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِحَالٍ اسْتَوَى حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ سَهْوِ الْكَلَامِ مَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَهُوَ السَّلَامُ بِهَا اقْتَرَنَ حُكْمُ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ فَكَانَ جِنْسُ السَّهْوِ لَا يُبْطِلُهَا، وَجِنْسُ الْعَمْدِ يُبْطِلُهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ، لِأَنَّهُ كَلَامٌ يُبْطِلُهَا كَثِيرُهُ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي سَهْوِ الْكَلَامِ إِذَا طَالَ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَحَمَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: " وَإِنْ تَطَاوَلَ اسْتَأْنَفَ عَلَى الْأَعْمَالِ دُونَ الْكَلَامِ " فَسَقَطَ هَذَا السُّؤَالُ
وَالثَّانِي: يُبْطِلُهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ: قَطْعُ الْخُشُوعِ فِي كَثِيرِهِ وَعَدَمُهُ فِي قَلِيلِهِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا مَا تَرَكَهُ الْمُصَلِّي مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهِ نَاسِيًا فَعَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: بِمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَالْإِحْرَامُ
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِأَجْلِهِ وَهُوَ: التَّوَجُّهُ، وَالِاسْتِعَاذَةُ، وَقِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَالتَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ، وَتَكْبِيرَاتُ الْأَرْكَانِ وَهَيْئَاتُ الْأَفْعَالِ
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ وَيَلْزَمُ سُجُودُ السَّهْوِ مِنْ أَجْلِهِ، وَهُوَ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَالْقُنُوتُ
الْقِسْمُ الرابع: ما تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ وَيَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَنْ قَرِيبٍ مَعَ سُجُودِ السَّهْوِ، وَهُوَ الرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ إِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ أَتَى بِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ وَلَيْسَ لِقُرْبِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ حَدٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ، وَعَادَاتِهِمْ، وَحَكَى " الْبُوَيْطِيُّ " عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِرَكْعَةٍ مُعْتَدِلَةٍ لَا طَوِيلَةٍ، وَلَا قَصِيرَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَدٍّ وَلَا الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ فِي الْعَادَةِ
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ مِنْ أَحَدِ رَكَعَاتِهِ فَفِي صَلَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: صَلَّى بِنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَغْرِبَ فَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ، فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ تَرَكْتَ الْقِرَاءَةَ فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ؟ قَالُوا: حَسَنًا قَالَ: فَلَا بَأْسَ إِذًا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا مِنَ الْأَمْرِ الْعَامِّ المشهور(2/181)
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ لَا تَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ "، وَلِأَنَّهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِالنِّسْيَانِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ثُمَّ أَجَابَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجَوَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَرَكَ الْجَهْرَ بِالْقِرَاءَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّعْبِيَّ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَعَادَ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَعَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْفَاتِحَةَ بَعْدَ صَلَاتِهِ حَتَّى تَطَاوَلَ الزَّمَانُ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ وَإِنْ ذَكَرَهَا قَبْلَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ أَتَى بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ وَتَشَهَّدَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ تَكَلَّمَ، أَوْ سَلَّمَ عَامِدًا أَوْ أَحْدَثَ فيما بين إحرامه وبين سلامه اسْتَأْنَفَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْمُتَكَلِّمِ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا فَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُ عَامِدًا فِيهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلصَّلَاةِ أَمْ لَا، وَقَالَ مَالِكٌ: عَمْدُ الْكَلَامِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا كَإِعْلَامِ الْإِمَامِ بِسَهْوِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ وَعَمْدِهِ لِغَيْرِ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ يُبْطِلُهَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ كَلَامُهُ لِمَصْلَحَةٍ مَا لَمْ تَبْطُلْ صلاته سواء لمصلحة صلاته أما لَا كَإِرْشَادِ ضَالٍّ هَالِكٍ، أَوْ تَحْذِيرِ ضَرِيرٍ مِنْ بِئْرٍ، أَوْ سَبُعٍ اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَكَلَامِهِ، لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَوَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ وَاسْتِثْبَاتِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَوَابِهِمَا لَهُ، وَقَوْلِهِ لِبِلَالٍ: " أَقِمِ الصَّلَاةَ "، وَكُلُّ ذَلِكَ كَلَامُ عَمْدٍ يُصْلِحُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ بنى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى صَلَاتِهِ مَعَ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى إِبَاحَةِ عَمْدِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءٌ أَصْلَحَهَا أَمْ لَا، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ مَا لَا يُصْلِحُهَا إِجْمَاعًا، وَكَانَ الْبَاقِي عَلَى إِبَاحَتِهِ فَمَنْ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ فَقَدْ أَثْبَتَ نَسْخَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِدَلَالَةٍ قَاطِعَةٍ
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ أَحْدَثَ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا حَظْرٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَمَرَّ لِيُصْلِحَ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عوفٍ، فَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فَصَفَّقَ النَّاسُ إِلَيْهِ حَتَّى الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقِفَ فِي مَقَامِكَ فَقَالَ: مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّمَا التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ "
فَفِي الْخَبَرِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ صَفَّقَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه ولم يتكلم(2/182)
والثاني: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا نَابَ أَحَدَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ " فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّنْبِيهَ بِالتَّسْبِيحِ دُونَ الْكَلَامِ
وَهَذَا الْخَبَرُ عُمْدَةُ الْمَسْأَلَةِ، وَلِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَهَا قِيَاسًا عَلَى مَا لَا يُصْلِحُهَا
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ مَعَ أبي حنيفة، وَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّهُمْ نَاسٍ لِكَلَامِهِ غَيْرُ عَامِدٍ لِاعْتِقَادِهِمُ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ بَاطِلَةٌ إِذَا قال لإمامه قد نسيت صلاته أَوْ قَصُرَتْ كَقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ، قِيلَ: لِاسْتِقْرَابِ حُكْمِ الصَّلَاةِ، وَعَدَمِ النَّسْخِ الَّذِي كَانَ مُجَوَّزًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِدِلَالَةٍ قَاطِعَةٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ: رَفْعُ مَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ إِمَّا قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَلَيْسَ جَوَازُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ شَرْعًا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِصْحَابٌ لِلْإِبَاحَةِ فَجَازَ رَفْعُهُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا أَنَّ شُرْبَ النَّبِيذِ مُبَاحٌ لَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، وَلَكِنِ اسْتِصْحَابُ حَالِ الْإِبَاحَةِ فَجَازَ رَفْعُهُ لِمُحْتَمَلٍ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا نَسْخٌ، لَعَمْرِي، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَقَعِ النَّسْخُ لِمُحْتَمَلٍ وَإِنَّمَا عُلِمَ كَوْنُهُ مَنْسُوخًا بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ " ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَصْحَابِهِ جَالِسًا فِي مَرَضِهِ وَصَلَّى مَنْ خَلْفَهُ قِيَامًا، فَعُلِمَ بِهَذَا الْفِعْلِ تَقْدِيمُ النَّسْخِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي صَلَاتِهِ لَهُ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا لِكَلَامِهِ سَاهِيًا عَنْ صَلَاتِهِ، فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ نَاسِيًا لِصَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَلِأَنَّهُ إِنْ عَمَدَ الْكَلَامَ فَلَمْ يَقْصِدْ إِيقَاعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَصَارَ نَاسِيًا
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا بِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الكلام فيها، لقرب عهد بِالْإِسْلَامِ مِثْلَ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ فَصَلَاتُهُ جائزة، وعليه سجود السهو
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ جَاهِلًا بِحُكْمِ الْكَلَامِ هَلْ يُبْطِلُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا؟ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ كَمَنْ زَنَى عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ بِإِيجَابِ الْحَدِّ فِيهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ عَلِمَ بِهِ(2/183)
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْعَالِمُ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ إِذَا شَمَّتَ فِي صَلَاتِهِ عَاطِسًا أَوْ رَدَّ سَلَامًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَلَكِنْ لَوْ تَنَحْنَحَ أَوْ تَأَوَّهَ أَوْ بَكَى لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مَفْهُومًا يَصِحُّ فِي الْهِجَاءِ فَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ
وَقَدْ رَوَى مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي ولجوفه أزيز كأزير الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَعْنِي: غَلَيَانَ جَوْفِهِ بِالْبُكَاءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَأَصْلُ الْأَزِيزِ الِالْتِهَابُ وَالْحَرَكَةُ، فَأَمَّا إِنْ نَظَرَ فِي كِتَابٍ يَفْهَمُ مَا فِيهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّا لَوْ أَبْطَلْنَاهَا بِهِ لَأَبْطَلَهَا مَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِ، وَإِنْ حَرَّكَ بِهِ لِسَانَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ يَعْنِي، حَرَكَةً مَفْهُومَةً، فَلَوْ قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ مِنْ مُصْحَفٍ جَازَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ تَصَفُّحَ الْأَوْرَاقِ عَمَلٌ كَثِيرٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ النَّظَرِ، أَوِ التَّصَفُّحِ، فَلَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ النَّظَرِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَرَأَ فِي مُصْحَفٍ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَيْسَ التَّصَفُّحُ عَمَلًا كَثِيرًا لِمَا بَيْنَ تَصَفُّحِ الْأَوْرَاقِ مِنْ بُعْدِ المدى فدل على صحة صلاته فَأَمَّا الْمُحْدِثُ فِي صَلَاتِهِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ الْحَدَثَ وَتَعَمَّدَهُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ إِجْمَاعًا فعليه تجديد الطهارة، واستئناف الصلاة
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَغْلِبَهُ الْحَدَثُ وَيَسْبِقَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَطَهَارَتُهُ قَدْ بَطَلَتْ، وَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَطَاوَلِ الْفَصْلُ، أَوْ يَفْعَلْ مَا يُخَالِفُ الصَّلَاةَ مِنْ أَكْلٍ، أَوْ كَلَامٍ، أَوْ عَمَلٍ طَوِيلٍ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ بَنَى، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهَا اسْتَأْنَفَ وَكَذَا الْكَلَامُ فِي النَّجَاسَةِ إِذَا أَصَابَتْ جَسَدَهُ، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدِهِ مِثْلَ قَيْءٍ، أَوْ رُعَافٍ، أَوْ دَمِ خُرَاجٍ فحصلت على ظاهرة جَسَدِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ يَغْسِلُ النَّجَاسَةَ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَطَاوَلِ الزَّمَانُ، وَعَلَى الْجَدِيدِ يَسْتَأْنِفُ وَلَكِنْ لَوْ فَارَ دَمُ جُرْحِهِ فَلَمْ يُصِبْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ مَضَى عَلَى صَلَاتِهِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَخَالَفَ أبو حنيفة مَذْهَبَهُ فِي خُرُوجِ النَّجَاسَةِ فَقَالَ يَسْتَأْنِفُ صَلَاتَهُ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، فَإِذَا قِيلَ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ،(2/184)
وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ رَضِيَ الله عنهم وهو قول أبو حنيفة، وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ
وَدَلِيلُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَاءَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَوْ رَعَفَ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ "، وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ فِي صَلَاتِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهَا قِيَاسًا عَلَى حَدَثِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَإِذَا قِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا " فَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ حِينَ حُدُوثِ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ، فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ نَأْمُرُهُ بِالِانْصِرَافِ فِيهِمَا لِلطَّهَارَةِ فَقَدِ اسْتَعْمَلْنَا ظَاهِرَ الْخَبَرِ، قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ يَنْصَرِفُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَالِانْصِرَافُ مِنَ الصَّلَاةِ يَقْتَضِي الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ فِي الصَّلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا
أَصْلُهُ حَدَثُ الْعَامِدِ وَعَكْسُهُ سَلَسُ الْبَوْلِ وَحَدَثُ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِأَنَّ " كُلَّ مَا أَبْطَلَ الطَّهَارَةَ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ " كَانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ، وَلِأَنَّ مَا اسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ فِي إِبْطَالِ الطَّهَارَةِ اسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ كَالِاحْتِلَامِ، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ الْعَامِدِ مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ قِيَاسًا عَلَى الْمُضِيِّ فِيهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا قَاءَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ أَوْ رَعَفَ " الْحَدِيثَ، فَضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعُرْوَةَ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى الْبِنَاءِ الِاسْتِئْنَافُ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ بَنَى الرَّجُلُ دَارَهُ إِذَا اسْتَأْنَفَهَا
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مُسَافِرٍ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ يَنْوِي الْإِتْمَامَ؛ ثُمَّ أَحْدَثَ فَعَلَيْهِ الْبِنَاءُ عَلَى حُكْمِ صَلَاتِهِ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ
وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ، وَسَلَسِ الْبَوْلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا يَمْنَعِ الْمُضِيَّ فِيهَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ عَمِلَ فِي الصَّلَاةِ عَمَلًا قَلِيلًا مِثْلَ دَفْعِهِ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ قَتْلِ حيةٍ، أو ما أشبه، ذلك لم يضره "(2/185)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
وَجُمْلَةُ الْأَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَمَلًا طَوِيلًا فَمَتَى أَوْقَعَهُ فِي الصَّلَاةِ أَبْطَلَهَا عَامِدًا كَانَ، أَوْ نَاسِيًا، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ وَيَمْنَعُ مُتَابَعَةَ الْأَذْكَارِ، وَلَا حَدَّ لِطُولِهِ، وَلَكِنْ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا كَانَتِ الصَّلَاةُ جَائِزَةً مَعَ الْعَمَلِ الطَّوِيلِ كَمَا جَازَتْ مَعَ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنْ طَالَ قِيلَ: فِي كَلَامِ النَّاسِ إِذَا طَالَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَبْطُلُ صَلَاتَهُ، فَعَلَى هَذَا قَدِ اسْتَوَيَا
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ لَا يُبْطِلُهَا
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْأَفْعَالِ أَغْلَظُ مِنْ حُكْمِ الْأَقْوَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمُكْرَهَ عَلَى الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، فَلَمَّا افْتَرَقَا فِي تَغْلِيظِ الْحُكْمِ افْتَرَقَا فِي إِبْطَالِ الصَّلَاةِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْعَمَلِ مَا كَانَ قَلِيلًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ الْخُرُوجَ مِنْ صَلَاتِهِ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ عمل بطلت صلاته فأن تَبْطُلَ بِالْقَصْدِ مَعَ الْعَمَلِ أَوْلَى
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَقْصِدَ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلاة المؤمن لا يقطعها شيء وادرؤا مَا اسْتَطَعْتُمْ "، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ فِي صَلَاتِهِ مَارًّا أَوْ يَمْنَعَ مُجْتَازًا فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَدَعُ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْرَأْ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ " وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا، أَوْ يَخْطُوَ خُطْوَةً فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " اسْتَفْتَحْتُ الْبَابَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فَفَتَحَ لِي "
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَنِدَ عَلَى حَائِطٍ، أَوْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَصًا فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ
لَمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمِدُ فِي صَلَاتِهِ عَلَى وتدٍ كَانَ ثَابِتًا بِالْمَدِينَةِ مُشَاهَدًا حَتَّى قُلِعَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْتُلَ حَيَّةً أَوْ عَقْرَبًا بِضَرْبَةٍ، أَوْ ضَرْبَتَيْنِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ نَقْتُلَ فِي الصَّلَاةِ الْأَسْوَدَيْنِ الْحَيَّةَ، وَالْعَقْرَبَ "(2/186)
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَ فِي صَلَاتِهِ صَبِيًّا فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى وَعَلَى عَاتِقِهِ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَ إِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ حَمَلَهَا "
وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَحْمِلُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي صَلَاتِهِ
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي ثِيَابِ الصِّبْيَانِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُصْلِحَ ثَوْبَهُ وَيَعْبَثَ بِلِحْيَتِهِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مس لحيته في الصلاة
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الِالْتِفَاتُ فِي الصَّلَاةِ يَمِينًا وَشِمَالًا فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْتَفِتَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ وَيُحَوِّلَ قَدَمَيْهِ عَنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِدًا، أَوْ نَاسِيًا، فَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ طَالَ ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ، لِأَنَّهُ فَارَقَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ عَامِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ قَالَ: " هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ " إِنْ كَانَ نَاسِيًا فَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَرُبَ الزَّمَانُ وَقَصُرَ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً، لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَلْتَفِتَ بِوَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلِ قَدَمَيْهِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ، أَوْ لَا يَقْصِدَ فَإِنْ قَصَدَ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لأنه لو قطع الصلاة من غير الإلتفات بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ وَيَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَرْكَانِ وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ يَمِينًا(2/187)
وَشِمَالًا، وَلَا يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ
وَيُكْرَهُ الِالْتِفَاتُ فِي الصَّلَاةِ بِكُلِّ حالٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ لِلْمُلْتَفِتِ فِي صَلَاتِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلٌ عَلَيْكَ وَأَنْتَ مُعْرِضٌ عَنْهُ "
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْأَكْلُ فِي الصَّلَاةِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ عَامِدًا فِي أَكْلِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجْرِي بِهِ الرِّيقُ، وَلَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا، فَإِنْ تَطَاوَلَ أَكْلُهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِأَنَّهُ عَمَلٌ طَوِيلٌ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ، وَإِنَّ قَلَّ أَكْلُهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ
(فَصْلٌ: فِي النَّوَاهِي)
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْقُرْآنِ - يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ الْقُرْآنَ بَيْنَ أَذْكَارِهَا كَالْقُرْآنِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ، وَالتَّوَجُّهِ، وَبَيْنَ التَّوَجُّهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ، وَبَيْنَ الِاسْتِعَاذَةِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالتَّكْبِيرِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنِ الشِّكَالِ فِي الصَّلَاةِ " وَهُوَ: أَنْ يُلْصِقَ قَدَمَيْهِ بِالْأُخْرَى، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَرِهَ الشِّكَالَ فِي الْخَيْلِ فَهُوَ أَنْ يكون بثلاث قوائم مخجلة، وَوَاحِدَةٍ مُطْلَقَةٍ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِبْلٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ السَّبُعِ فِي الصَّلَاةِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ أَنْ يُلْصِقَ ذِرَاعَيْهِ بِالْأَرْضِ فِي سُجُودِهِ كَافْتِرَاشِ السَّبُعِ
وَرَوَى أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ فِي الصَّلَاةِ
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَهُوَ أَنْ يَضَعَ أَلْيَتَيْهِ عَلَى عقبيه في الصلاة بين السجدتين
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن يصلي الرجل مختصراً(2/188)
قال أبو عبيدة: هو أن يضع يديه في خصره
وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُنَيْنٍ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْإِقْعَاءِ فِي الصَّلَاةِ
وَرَوَاهُ قَتَادَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَقَدَمَيْهِ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لَا إِعْدَادَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَلَا تَسْلِيمَ " أَيْ: لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ فِيهَا
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُدَبِّجَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ كَمَا يُدَبِّجُ الْحِمَارُ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَنْ يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ فِي الرُّكُوعِ حَتَّى يَكُونَ أَخْفَضَ مِنْ ظَهْرِهِ
وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ التَّدْبِيجِ فِي الصَّلَاةِ
وَفَسَّرَهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْتَزِمَ
وَقَالَ مَعْنَاهُ حَتَّى يَتَّزِرَ ثَوْبَهُ إِنْ كَانَ إِزَارًا أَوْ بُرْدَةً عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَمِيصًا
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ بِثَوْبِهِ عَلَى مَنْكِبِهِ وَيُسْدِلَهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَيُلْقِيَ مَا وَصَلَ مِنْ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ
قِيلَ: أَرَادَ سَدْلَ الْيَدِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ زَنَّاءٌ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي حَاقِنًا(2/189)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَبِهِ طَوْفٌ
قال قطرب: الطرف الْحَدَثُ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن كفل الشيكان فِي الصَّلَاةِ
قَالَ قُطْرُبٌ: هُوَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ عَاقِدٌ شَعْرَهُ مِنْ وَرَائِهِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ قِعْدَةِ الشَّيْطَانِ فِي الصَّلَاةِ
قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: هِيَ الْجِلْسَةُ قَبْلَ الْقِيَامِ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْ مُفَسِّرِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ فَسَرَّ ذَلِكَ بِشَيْءٍ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِبْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ
وَهُوَ أَنْ يَنْقُرَ إِذَا سَجَدَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْمَئِنَّ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ
وَهُوَ أَنْ يَنْفُخَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ أَنْ يَلْتَفِتَ يَمِينًا وَشِمَالًا بِسُرْعَةٍ
وَرَوَى زِيَادُ بْنُ صُبَيْحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلْبِ فِي الصَّلَاةِ
وَهُوَ: أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى خَصْرَتِهِ وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ
وَرَوَى أبو منصور عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ أَصَابِعَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّثَاؤُبِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: لِيُمْسِكْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ يُثَقِّلُ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ(2/190)
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَرْضٍ مُزْبَلَةٍ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه نهى عن صلاة العجلان
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ بِصَلَاةٍ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّمَطِّي فِي الصَّلَاةِ
(فَصْلٌ: فِي الْخُشُوعِ)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 221] فَكَانَ تَرْكُ الْخُشُوعِ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْفَلَاحِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ، وَهَذَا كَالْمُشَاهَدِ، لِأَنَّهُمْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى الْجَائِزِ، وَالْمُبَاحِ، وَيَعْدِلُونَ عَنِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ كَانَتْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَهْوَنَ " فَعِمَادُ الصَّلَاةِ وَعَلَامَةُ قَبُولِهَا كَثْرَةُ الْخُشُوعِ فِيهَا فَمِنْ خُشُوعِ الْمُصَلِّي بَعْدَ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَإِنْكَارِ الدُّنْيَا مَصْرُوفَ الْقَصْدِ إِلَى أَدَاءِ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ يَصْفَرُّ وَجْهُهُ تَارَةً وَيَخْضَرُّ تَارَةً، وَيَقُولُ أَتَتْنِي الْأَمَانَةُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلْتُهَا، فلا أدري السيء فِيهَا أَمِ الْحَسَنُ
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ يَنْظُرَ فِي حَالِ قِيَامِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَفِي حَالِ جُلُوسِهِ إِلَى حِجْرِهِ
قَالَ مَالِكٌ: الْخُشُوعُ أَنْ يَنْظُرَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَنْ خُلَفَائِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ أَغَضُّ لِطَرْفِهِ، وَأَحْرَى أَنَّهُ لَا يَرَى مَا يَشْغَلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَرْفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، إِذَا دَعَا فِي صَلَاتِهِ(2/191)
لِرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِهِمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ "
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي قَرِيبًا مِنْ مِحْرَابِهِ لِيَصُدَّهُ عَنْ مُشَاهَدَةِ مَا يُلْهِي وَيَمْنَعَهُ مِنْ مُرُورِ مَا يُؤْذِي، وَلِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ارْهَقُوا الْقِبْلَةَ " يَعْنِي: ادْنُوَا مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِحْرَابٍ اعْتَمَدَ الْقُرْبَ مِنَ الْحَائِطِ أَوْ سَارِيَةٍ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْئًا أَوْ خَطَّ خَطًّا
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَلْبَسَ ثَوْبًا يُلْهِيهِ وَيَعْتَمِدَ لُبْسَ الْبَيَاضِ
وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " صَلَى رَسُولُ اللَّهِ فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ فَقَالَ لَقَدْ أَلْهَتْنِي أَعْلَامُ هَذِهِ اذْهَبُوا بِهَا وَائْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ "
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَضَعَ رِدَاءَهُ مِنْ عَاتِقِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يُشَمِّرَ كُمَّيْهِ، وَلَا يُكْثِرَ الْحَرَكَةَ وَالِالْتِفَاتَ، وَلَا يَقْصِدَ عَمَلَ شَيْءٍ أُبِيحَ لَهُ فِعْلُهُ فِي الصَّلَاةِ
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ مُتَلَثِّمًا، وَلَا مُغَطَّى الْوَجْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَقَدْ غَطَّى لِحْيَتَهُ فَقَالَ: " اكْشِفْ وَجْهَكَ "
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللِّحْيَةَ مِنَ الْوَجْهِ يَجِبُ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ
وَمِنَ الْخُشُوعِ أَنْ لَا يَتَنَخَّعَ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا يَبْصُقَ فَقَدْ رَوَى زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَفَلَ تِجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَفْلَتُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ "
فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النُّخَاعُ أَوِ الْبُصَاقُ أَخَذَهُ فِي ثَوْبِهِ فَإِنْ أَلْقَاهُ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ رَسَمَ الْخَلُوقَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُمْحِيَ بِهِ أَثَرَ الْبُصَاقِ
وَأَمَّا الْعَدَدُ بِالْيَدِ وَعَقْدُ الْأَصَابِعِ بِهِ فَلَا تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ لِكَوْنِهِ عَمَلًا يَسِيرًا، لَكِنْ إِنْ عَدَّ آيَ الْقُرْآنِ قَطَعَ خُشُوعَهُ، وَكَرِهْنَاهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ وَإِنْ عَدَّ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ لم(2/192)
يَقْطَعْ خُشُوعَهُ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ وَمَا بَقِيَ مِنْهَا وَاجِبٌ فَجَازَ عَقْدُ الْأَصَابِعِ بِهِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَعْقِدُ فِي صَلَاتِهِ عَقْدَ الْأَعْرَابِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وينصرف حيث شاء عن يمينه، وشماله فإن لم يكن له حاجة أحببت اليمين لما كان عليه السلام يحب من التيامن "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ حَتْمًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ "
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ أَكْثَرُ انْصِرَافِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ يَسَارِهِ نَحْوَ مَنْزِلِ فَاطِمَةَ، أَوْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَالْأَوْلَى إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى في وضوئه وانتعاله
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ فَاتَ رَجُلًا مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَانِ مِنَ الظُّهْرِ قَضَاهُمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ كَمَا فَاتَهُ وإن كانت مغرباً وفاته منها ركعة قضاها بأم القرآن وسورة وقعد "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ وَأَدْرَكَ مَعَهُ مِنَ الْمَغْرِبِ رَكْعَةً، وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِرَكْعَتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَيَأْتِيَ بِرَكْعَتَيْنِ بَدَلًا مِمَّا فَاتَهُ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ. قَالَ الْمُزَنِيُّ: هَذَا غَلَطٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُمَا بِالسُّورَةِ، لِأَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا يَقْضِيهِ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَمَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُهَا، وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَا يَقْضِيهِ أَوَّلًا فِي أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهِ بِالسُّورَةِ وَجَعَلَهُ آخِرًا فِي أَنَّهُ يَقْعُدُ فِيهِ لِلتَّشَهُّدِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنْ يُقَالَ قَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ فَقَالَ فِي " الْإِمْلَاءِ " وَ " الْأُمِّ " يَقْرَأُ فِيهِمَا بِالسُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ
وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: وَفِيمَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَلَا يَقْرَأُ فِيهِمَا بِالسُّورَةِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَنِ اعْتِرَاضِ الْمُزَنِيِّ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ إِنَّمَا لَا يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فِي الْآخِرَتَيْنِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدْرَكَ فَضِيلَةَ السُّورَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ إِمَّا مُنْفَرِدًا، أَوْ مَأْمُومًا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَأَمَّا هَذَا فَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِيمَا يَقْضِيهِ لِيُدْرِكَ فَضِيلَةَ مَا فَاتَهُ(2/193)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ قَضَاهُمَا بِالسُّورَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فيقضيهما بأم القرآن
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ فَهُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ (قال المزني) قد جعل هذه الركعة في معنى أولى يقرأ بأم القرآن وسورة وليس هذا من حكم الثالثة وجعلها في معنى الثالثة من المغرب بالقعود وليس هذا من حكم الأولى فجعلها آخرة أولى وهذا متناقض وإذا قال ما أدرك أول صلاته فالباقي عليه آخر صلاته وقد قال بهذا المعنى في موضع آخر (قال المزني) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن ما أدرك فهو أول صلاته وعن الأوزاعي أنه قال ما أدرك فهو أول صلاته (قال المزني) فيقرأ في الثالثة بأم القرآن ويسر ويقعد ويسلم فيها وهذا أصح لقوله وأقيس على أصله لأنه يجعل كل مصل لنفسه لا يفسدها عليه بفسادها على إمامه وقد أجمعوا أنه يبتدئ صلاته بالدخول فيها بالإحرام بها فإن فاته مع الإمام بعضها فكذلك الباقي عليه منها آخرها "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِيمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ وَقَدْ صلى بعض الصلاة فصلى معدماً أَدْرَكَ وَقَامَ بَعْدَ سَلَامِهِ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا وَفِعْلًا وَمَا يَقْضِيهِ آخِرُ صَلَاتِهِ حُكْمَا وَفِعْلًا
وَقَالَ أبو حنيفة مَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ فِعْلًا وَآخِرُهَا حُكْمًا، وَمَا يَقْضِيهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ حُكْمًا، وَآخِرُهَا فِعْلًا تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " فَكَانَ في أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يَقْضِيهِ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ آخِرَهَا لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا؛ بَلْ كان مودياً، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ اتَّبَعَهُ فِي تَشَهُّدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ أَوَّلِ صَلَاتِهِ، وَلَوْ قَنَتَ مَعَهُ فِي هَذِهِ الرَّكْعَةِ لَمْ يَقْرَأِ الْقُنُوتَ فِيمَا يَقْضِيهِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ مَعَ إِمَامِهِ مِنْ أَوَّلِ صَلَاتِهِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا " وَإِتْمَامُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ أَوَّلِهِ، وَبَقِيَّةِ آخِرِهِ، وَلِأَنَّهُ فِعْلُ صَلَاةٍ لَمْ يَلِ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهَا كَالْإِمَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا يَقْضِيهِ مِنْ أَوَّلِ صَلَاتِهِ لَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَوَجَبَ أَنْ يُعْتَدَّ بِالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إِذَا فَعَلَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ قَبْلَ سَلَامِهِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَرْكِ الْجَهْرِ، وَوُجُوبِ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِه، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ أَوَّلًا، ثُمَّ آخِرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا ثُمَّ آخِرًا، ثُمَّ أَوَّلًا، لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَلِأَنَّ مَا فِيهِ تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ فَالتَّحْرِيمُ فِي أَوَّلِهِ، وَالتَّحْلِيلُ فِي آخِرِهِ كَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وما فاتكم فاقضوا " فقد روينا من يخالفه(2/194)
عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَدَّوُا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] بِمَعْنَى فَإِذَا أُدِّيَتْ، وَكَمَا يُقَالُ قَضَيْتُهُ الْحَقَّ إِذَا أَدَّيْتُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ يَتْبَعُهُ فِي التَّشَهُّدِ، وَالْقُنُوتِ، قُلْنَا: لِأَنَّ عَلَيْهِ اتِّبَاعَ إِمَامِهِ كَمَا يَتْبَعُهُ فِيمَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ السُّجُودِ، وَأَمَّا الْقُنُوتُ فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ فَسَقَطَ اعْتِرَاضُهُمْ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلِّي الرَّجُلُ قَدْ صَلَّى مَرَّةً مَعَ الْجَمَاعَةِ كل صلاة الأولى فرضة وَالثَانِيَةُ سُنَّةٌ بِطَاعَةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ قَالَ إِذَا جِئْتَ فَصَلِّ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى الرَّجُلُ الْفَرِيضَةَ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ فُرَادَى، ثُمَّ أَدْرَكَ تِلْكَ الصَّلَاةَ جَمَاعَةً فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ، وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يُصَلِّيَهَا مَعَهُمْ أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحُذَيْفَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنْ صَلَّى الْأُولَى مُفْرَدًا أَعَادَهَا فِي جَمَاعَةٍ وَإِنْ صَلَّى الْأُولَى فِي جَمَاعَةٍ أَعَادَهَا إِلَّا مَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ خلفها كالصبح، والعصر
وقال مالك والأوزاعي: كُلَّ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الْمَغْرِبَ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُعِيدُ كُلَّ الصَّلَوَاتِ إِلَّا الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ
وَقَالَ أبو حنيفة: يُعِيدُ الظُّهْرَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ وَلَا يُعِيدُ الصُّبْحَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ
وَاسْتَدَلُّوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَنْعِ الْإِعَادَةِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُصَلَّى صَلَاةُ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ "
وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا فَرْضَانِ فِي وَقْتٍ "
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ رِوَايَةُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ مِنْ مِنًى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا الْتَفَتَ مِنْ سَلَامِهِ إِذَا بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فِي أُخْرَيَاتِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا فَقَالَا: صَلَّيْنَا فِي رحالنا فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذَا جِئْتُمَا فَصَلِّيَا، وَإِنْ كُنْتُمَا قَدْ صَلَّيْتُمَا يَكُونُ لَكُمَا [نَافِلَةً](2/195)
وَرُوِيَ فَالْأُولَى هِيَ صَلَاتُهُ، وَالثَّانِيَةُ تَطَوُّعٌ
وَرَوَى بُسْرُ بْنُ مِحْجَنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَجْلِسٍ فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَجَعَ إِلَى الْمَجْلِسِ وَمِحْجِنٌ قَاعِدٌ لَمْ يُصَلِّ فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَنَا أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ قَالَ: صَلَّيْتُ فِي أَهْلِي فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا صَلَّيْتَ فِي أَهْلِكَ وَأَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ فَصَلِّهَا " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِبَطْنِ النَخْلِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ رَاتِبَةٌ فِي وَقْتٍ أَدْرَكَ لَهَا الْجَمَاعَةَ بَعْدَ فِعْلِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ لَهُ إِعَادَتُهَا
أَصْلُهُ مَعَ أبي حنيفة الظُّهْرُ وَالْعِشَاءُ، وَقَوْلُنَا: راتبة احتراز مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَا تُصَلَّى صَلَاةُ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ " فَيَعْنِي: وَاجِبًا، وَنَحْنُ نَأْمُرُهُ بِذَلِكَ اسْتِحْبَابًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا فَرْضَانِ فِي يَوْمٍ "، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَرْضٌ وَالْأُخْرَى نَفْلٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِعَادَةِ مَا أَدْرَكَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فَرْضَهُ الْأُولَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَالْأُولَى هِيَ صَلَاتُهُ وَالثَّانِيَةُ تَطَوُّعٌ "، وَأَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْتَسِبُ لَهُ فَرِيضَةَ مَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِلْخَبَرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْأُولَى فَرِيضَةً لَوَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ ثانية
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا أَنْ يُومِئَ أَوْمَأَ، وَجَعَلَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
إِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ الْقِيَامِ فِي صَلَاتِهِ صَلَّى قَاعِدًا، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ صَلَّى مُومِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: مَعْنَاهُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ قِيَامًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَقُعُودًا مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ، وَعَلَى جُنُوبِهِمْ مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْقُعُودِ
وروى عمران بن الحصين أن رجلاً شكى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - النَّاصُورَ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب "، فإن قَدَرَ الْمُصَلِّي عَلَى الْقِيَامِ صَلَّى قَائِمًا، وَرَكَعَ قَائِمًا، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِانْتِصَابِ وَلَمْ يَقْدِرْ على الركوع قراء مُنْتَصِبًا، فَإِذَا أَرَادَ(2/196)
الرُّكُوعَ انْحَنَى وَبَلَغَ بِانْحِنَائِهِ إِلَى نِهَايَةِ إِمْكَانِهِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْتِصَابِ قَامَ رَاكِعًا فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوعَ خَفَضَ قليلاً، فإن عجزعن الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُطِقِ الْقِيَامَ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ غَيْرِ مُحْتَمَلَةٍ صَلَّى الْفَرْضَ قَاعِدًا يَعْنِي: بِمَشَقَّةٍ غَلِيظَةٍ فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا فَفِي كَيْفِيَّةِ قُعُودِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مُتَرَبِّعًا، وَأَصَحُّهُمَا مُفْتَرِشًا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنَّ الْقُعُودَ مُتَرَبِّعًا يُسْقِطُ الْخُشُوعَ، وَيُشْبِهُ قُعُودَ الْجَبَابِرَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي امْرَأَةً فَالْأَوْلَى أَنْ تَتَرَبَّعَ فِي قُعُودِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَقْعُدُ فِي موِضِعِ الْقِيَامِ مُتَرَبِّعًا، وَفِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ مُفْتَرِشًا، وَفِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ الْأَخِيرِ مُتَوَرِّكًا، وَهَذَا حَسَنٌ وَكَيْفَ مَا قَعَدَ أَجْزَأَ، فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوعَ انْحَنَى مُومِيًا بِجَسَدِهِ فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ، وَقَدَرَ عَلَى كَمَالِهِ أَتَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كَمَالِهِ أَتَى بِغَايَةِ إِمْكَانِهِ، وَإِنْ سَجَدَ عَلَى فَخِذِهِ جَازَ وَلَا يَحْمِلُهَا بِيَدِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَسْجُدُ عَلَى مِخَدَّةٍ مِنْ أَدَمٍ لِرَمَدٍ كَانَ بِهَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى وِسَادَةٍ لَاصِقَةٍ بِالْأَرْضِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّ صَحِيحًا سَجَدَ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ كَرِهْتُهُ، وَأَجْزَأَهُ إِنْ كَانَ يَنْسُبُهُ الْعَامَّةُ إِلَى أَنَّهُ فِي حَدِّ السَّاجِدِ فِي انْخِفَاضِهِ، فَأَمَّا إن كانت الوسادة عالية لا تنسب الْعَامَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُنْخَفِضٌ انْخِفَاضَ السَّاجِدِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلَّا أَنْ يُومِئَ أَوْمَأَ وَجَعَلَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ بِالرُّكُوعِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْقِيَامِ كَمَا يُطِيقُ، وَلَا يَحْتَسِبُ لَهُ بِالسُّجُودِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالرُّكُوعِ كَمَا يُطِيقُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي السُّجُودِ فَأَمَّا إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقُعُودِ فَصَلَّى مُضْطَجِعًا يُشِيرُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ اضْطِجَاعِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ الْقِبْلَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَرِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ؛ لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى قَفَاهُ وَرِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ يُومِي بِطَرْفِهِ "
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا فتح الصَّلَاةَ قَائِمًا فَقَرَأَ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ مَرِضَ وَعَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ قَعَدَ، وَتَمَّمَ قِرَاءَتَهُ وَأَنْهَى صَلَاتَهُ، فَلَوْ قَرَأَ فِي حَالِ انْخِفَاضِهِ جَازَ، فَلَوِ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا لِمَرَضِهِ فَقَرَأَ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ، ثُمَّ صَحَّ قَامَ وَتَمَّمَ قِرَاءَتَهُ، وَأَنْهَى صَلَاتَهُ، وَلَوْ قَرَأَ فِي حَالِ ارْتِفَاعِهِ لَمْ يجز(2/197)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تُجْزِئَهُ قِرَاءَتُهُ فِي حَالِ الِانْخِفَاضِ وَلَا تُجْزِئُهُ فِي حَالِ الِارْتِفَاعِ أَنَّ فِي الِانْخِفَاضِ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ قَاعِدًا، وَالِانْخِفَاضُ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْقُعُودِ فَأَجْزَأَتْهُ الْقِرَاءَةُ، وَفِي الِارْتِفَاعِ لَزِمَتْهُ الْقِرَاءَةُ قَائِمًا، وَالِارْتِفَاعُ أَنْقَصُ حَالًا مِنَ الْقِيَامِ مُنْتَصِبًا فَلَمْ تُجْزِهِ الْقِرَاءَةُ
(فَصْلٌ)
: وَلَوْ صَلَّى قَاعِدًا لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ قَبْلَ رُكُوعِهِ قَامَ مُنْتَصِبًا، ثُمَّ رَكَعَ فَلَوْ رَكَعَ فِي حَالِ قِيَامِهِ قَبْلَ اعْتِدَالِهِ وَانْتِصَابِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ صَلَّى قَائِمًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ ثُمَّ انْحَنَى لِيَرْكَعَ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَقَامَ رَاكِعًا قَبْلَ اعْتِدَالِهِ قَائِمًا أَجْزَأَهُ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُصَلِّيَ قَائِمًا يَلْزَمُهُ الِاعْتِدَالُ قَائِمًا قَبْلَ رُكُوعِهِ فَلَمَّا لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَالْوَاقِعُ فِي انْحِنَائِهِ فَرْضُهُ الرُّكُوعَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاعْتِدَالُ فَإِذَا قَامَ رَاكِعًا أَجْزَأَهُ
(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ أن يصلي قائماً بأم القرآن " وقل هو الله أحد "، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ خَلْفَ الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ يَقْرَأُ سُوَرًا طِوَالًا، وَيَثْقُلُ أَمَرْتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ مُنْفَرِدًا فَكَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ، فَإِنْ قَدَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَامِ قَامَ فَأَتَمَّ قِرَاءَتَهُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَاعِدًا لِعَجْزِهِ، ثُمَّ أَطَاقَ الْقِيَامَ فَأَبْطَأَ مُتَثَاقِلًا حَتَّى عَاوَدَهُ الْعَجْزُ فَمَنَعَهُ مِنَ الْقِيَامِ نُظِرَ فِي حَالِهِ حِينَ أَطَاقَ الْقِيَامَ، فَإِنْ كَانَ قَاعِدًا فِي مَوْضِعِ جُلُوسٍ مِنْ صَلَاةِ الْمُطِيقِ كَالتَّشَهُّدِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ اسْتَدَامَ فِعْلًا يَجُوزُ لِلْمُطِيقِ اسْتَدَامَتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَاعِدًا فِي مَوْضِعِ قِيَامٍ مِنْ صَلَاةِ الْمُطِيقِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَدَامَ الْقِيَامَ فِي مَوْضِعِ الْقُعُودِ صَارَ كَالْمُطِيقِ إِذَا قَعَدَ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً كَالْمُطِيقِ إِذَا أَخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى مَرِضَ ثُمَّ صَلَّاهَا قَاعِدًا لِعَجْزِهِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِمَا، وَهُوَ أَنَّ صِفَةَ الْأَدَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَالِ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا أَخَّرَهَا فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ قَضَاهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ فَرْضُ الْقِيَامِ، فَإِذَا حَدَثَتْ لَهُ الصِّحَّةُ فِي أَثْنَائِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فِيهَا وَصَارَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِهَا إِنْ أَخَلَّ بِهِ أَبْطَلَهَا
وَمِثَالُ ذَلِكَ: مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ بِهِ فَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنِ الْوَقْتِ حَتَّى يَتْلَفَ الثَّوْبُ وَيَعْدِمَ مَا يَسْتُرُهُ فَيُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَتُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ عُرْيَانًا ثُمَّ وَجَدَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فَأَبْطَأَ فِي أَخْذِهِ حَتَّى تَلِفَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، فَكَانَ هَذَا كَمَنَ حَدَثَتْ لَهُ الصِّحَّةُ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ كَمَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ قَضَاهَا فِي مَرَضِهِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ إِذَا قَرَأَ آيَةَ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَ، أو آية عذاب أن يستعيذ والناس، وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ "(2/198)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَيُسْتَحَبُّ فِي صَلَاتِهِ إِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ رَحْمَتَهُ وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْعَذَابِ فَقَدْ رَوَى حُذَيْفَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، فَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ الرَّحْمَةَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى وَاسْتَعَاذَ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ تَنْزِيهٍ سَبَّحَ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ في صلاته " أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فَقَالَ بَلَى "
وَرَوَى جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ أَلَيْسَ ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فَقُلْ بَلَى، وَإِذَا قَرَأْتَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحاكمين فقل بلى "
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ صَلَّتْ إِلَى جَنْبِهِ امْرَأَةٌ صَلَاةً هُوَ فِيهَا لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ لِلنِّسَاءِ أَنْ يَقِفْنَ خَلْفَ صُفُوفِ الرِّجَالِ، فَإِنْ تَقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ كَانَتْ صَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةً
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ صَلَّى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ خَلَفَ إِمَامٍ اعْتُقِدَ إِمَامَتُهُ جَمِيعِهِمْ، وَتَقَدَّمَتِ امْرَأَةٌ فَوَقَفَتْ أَمَامَ الرِّجَالِ كَانَتْ صَلَاتُهَا جَائِزَةً، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ مَنْ عَلَى يَمِينِهَا دُونَ مَنْ يَلِيهِ، وَمَنْ عَلَى يَسَارِهَا دُونَ مَنْ يَلِيهِ، وَمَنْ خَلْفَهَا دُونَ مَنْ يَلِيهِ، وَجَازَتْ صَلَاةُ مَنْ تَقَدَّمَهَا، وَإِنْ صَلَّوْا فُرَادَى، أَوْ صَلَّوْا جَمَاعَةً وَنَوَى الرِّجَالُ غَيْرَ صَلَاةِ النِّسَاءِ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْإِمَامُ إِمَامَةَ النِّسَاءِ فَصَلَاةُ جَمِيعِهِمْ جَائِزَةٌ
وَاسْتَدَلَّ فِي الْجُمْلَةِ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ " فَأَمَرَ الرَّجُلَ بِتَأْخِيرِ الْمَرْأَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا لَمْ يُؤَخِّرْهَا فَعَلَ مَنْهِيًّا فَاقْتَضَى بُطْلَانَ صَلَاتِهِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَقْطَعُ صَلَاةَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ " وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَالْيَهُودِيُّ، وَالْمَجُوسِيُّ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ
أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى عُرْيَانًا، وَهَذَا خَطَأٌ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يقطع صلاة المؤمن شيء وادرؤا ما استطعتم "(2/199)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} [الحجر: 24] أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ تُصَلِّي مَعَهُمُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَقَدَّمُ لِكَيْ لَا يَرَاهَا وَيَتَأَخَّرُ عَنْهَا بَعْضُهُمْ لِيَرَاهَا فَلَمْ يُبْطِلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَاةَ مَنْ تَأَخَّرَ وَلَا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ تَصِحُّ لِلرَّجُلِ إِذَا تَقَدَّمَ فِيهَا عَلَى النِّسَاءِ فَجَازَ أَنْ تَصِحَّ إِذَا وَقَفَ فِيهَا مَعَ النِّسَاءِ
أَصْلُهُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ
فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ "، فَالْأَمْرُ بِالتَّأْخِيرِ وَالنَّهْيُ عَنِ التَّقَدُّمِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَفَسَادِهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادُ بِالْإِقَامَةِ
وَأَمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يقطع الصلاة الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ "
فَالْمُرَادُ بِهِ الِاجْتِيَازُ وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّلَاةِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهَا. فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُمْنَعْ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهَا وَإِنَّمَا هُوَ مَمْنُوعٌ لمعنى غيره
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا قَرَأَ السَّجْدَةَ سَجَدَ فِيهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَرَأَ السَّجْدَةَ، أو سمع من يقرأها أَنْ يَسْجُدَ لَهَا فِي صَلَاةٍ كَانَ، أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ قَارِئًا كَانَ أَوْ مُسْتَمِعًا، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَقَالَ أبو حنيفة: سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْقَارِئِ، وَالْمُسْتَمِعِ فِي صَلَاةٍ وَغَيْرِ صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ سَجَدَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ سَجَدَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لهم لا يؤمنون وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 20] . فَذَمَّهُمْ بِتَرْكِ السُّجُودِ وَوَبَّخَهُمْ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا سُجُودُ مَفْعُولٍ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَسَجَدَاتِ الصَّلَاةِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسُورَةِ النَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَمَرَ بِهِ زِيدًا وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آيَةَ سَجْدَةٍ فَسَجَدَ، وَقَرَأَهَا آخَرُ فَلَمْ يَسْجُدْ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُنْتَ إِمَامَنَا، فَلَوْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا "(2/200)
وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالسُّجُودِ وَأَقَرَّهُ عَلَى تَرْكِهِ
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ سَجَدْتَ سَجَدْنَا " عَلَى سَبِيلِ الْمُتَابَعَةِ وَالتَّخْيِيرِ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَأَ السَّجْدَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَسَجَدَ وَقَرَأَهَا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى رِسْلِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ
وَرَوَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ قَالَ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
فَدَلَّ قَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَضْرَةِ الْمَلَإِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارِ، وَعَدَمُ مُخَالَفَتِهِمْ لَهُ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ يَجِبُ لِلْمُسَافِرِ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي الْأَحْوَالِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا
أَصْلُهُ سُجُودُ النَّافِلَةِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ السُّجُودُ لَهَا وَاجِبًا
أَصْلُهُ إِذَا أَعَادَ تِلْكَ الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عِنْدَ الْعَوْدِ إِلَى التِّلَاوَةِ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ التِّلَاوَةِ، كَالطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سُجُودٍ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ فَهُوَ مَسْنُونٌ كَسُجُودِ السَّهْوِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} فَالْمُرَادُ بِهَا الْكُفَّارُ بِدَلِيلِ مَا تَعَقَّبَهَا مِنَ الْوَعِيدِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ تَرَكَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ وقَوْله تَعَالَى: {لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] يَعْنِي لَا يَعْتَقِدُونَ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 25]
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَبَاطِلٌ السجود السَّهْوِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ كَوْنُهُ مُرَتَّبًا فِي أَوْقَاتٍ مُعْتَبَرَاتٍ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَسُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً سِوَى سَجْدَةِ " ص " فَإِنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَجَدَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ وَقَالَ فُضِّلَتْ بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْجُدُ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ (قَالَ) وَسَجَدَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في " إذا السماء انشقت " وعمر في " والنجم " (قال الشافعي) وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْمُفَصَّلِ سُجُودًا ومن لم يسجد فليست بفرض وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد وترك وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إلا أن نشاء "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ(2/201)
سُجُودَ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، ثَلَاثٌ مِنْهَا فِي الْمُفَصَّلِ، وَأَرْبَعٌ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ فَأُولَاهُنَّ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وَالثَّانِيَةُ: فِي الرَّعْدِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السموات وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] وَالثَّالِثَةُ: فِي النَّحْلِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ولله يسجد ما في السموات وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49] وَالرَّابِعَةُ: فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107] ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ سَجَدَاتٍ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ
وَالْخَامِسَةُ: فِي النِّصْفِ الثَّانِي وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]
وَالسَّادِسَةُ: فِي أَوَّلِ الْحَجِّ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ له من في السموات وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج: 18] الْآيَةَ
وَالسَّابِعَةُ: آخِرُ الْحَجِّ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] الْآيَةَ
وَالثَّامِنَةُ: فِي آخِرِ الْفُرْقَانِ وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 60] الْآيَةَ
وَالتَّاسِعَةُ: فِي سورة النمل وهي قوله عز وجل: {لا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات} [النمل: 25] الْآيَةَ
وَالْعَاشِرَةُ: فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة: 15] الْآيَةَ
وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: فِي حم السَّجْدَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ والشمس والقمر} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تعبدون} [فصلت: 37]
والثانية عشر: في المفصل في سورة النجم وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]
والثالثة عشر: فِي الْمُفَصَّلِ فِي سُورَةِ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يسجدون} [الانشقاق: 21](2/202)
والرابعة عشر: فِي الْمُفَصَّلِ فِي سُورَةِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] فَهَذِهِ سَجَدَاتُ الْعَزَائِمِ فَأَمَّا ص وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] فَهِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ لَا عَزِيمَةٍ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَقَالَ مَالِكٌ سُجُودُ الْقُرْآنِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً وَلَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ سُجُودٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ
وَقَالَ أبو حنيفة: سُجُودُ الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سِوَى السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ من الحج وأثبت مكانها سجد " ص " فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ لِإِسْقَاطِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ بِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَرَأَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُورَةَ النَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ، وَبِرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَسْجُدْ فِي شيءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ فَأَحَدُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَثَانِيهِمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَهُوَ الَّذِي قَرَأَ مَرَّتَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَثَالِثُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ الَّذِي قَرَأَ عَلَى أُبَيٍّ وَأَخَذَ عَنْهُ وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِثْبَاتِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ فَسَجَدَ كُلُّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ إِلَّا رَجُلًا وَأَنَّهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ ترابٍ وَرُوِيَ مِنَ الْحَصَا فَدَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ فَقَالَ يَكْفِي هَذَا فَقُتِلَ ببدرٍ، وَكَانَ هَذَا بِمَكَّةَ
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ فِي وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَّا رَجُلَيْنِ أَرَادَا الشُّهْرَةَ
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد في إذا السماء انشقت، وفي سورة اقرأ باسم ربك فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَرَأَ بِسُورَةِ وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ السُّجُودِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ، وَمَا ذُكِرَ أَنَّهُ قَوْلُ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَدْ خَالَفَهُمْ سِتَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلُّهُمْ يَقُولُ فِي الْمُفَصَّلِ سُجُودٌ فَكَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمْ أَوْلَى لِكَثْرَتِهِمْ، وَكَوْنِ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا أبو حنيفة فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُهُ سَجْدَةَ ص فِي الْعَزَائِمِ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سجد في(2/203)
سُورَةِ ص وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ لَا عَزِيمَةٍ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عيينة عن عبدة عن ذر عن ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ فِي سُورَةِ ص، وَقَالَ سَجَدَهَا دَاوُدُ لِلتَّوْبَةِ، وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قبل تَوْبَةِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَجَدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَيْسَتْ مِنَ الْعَزَائِمِ
وَالْفَصْلُ الثَّانِي: فِي إِسْقَاطِ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْحَجِّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ سُجُودَ الْعَزَائِمِ فِي الْقُرْآنِ إِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ، وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْحَجِّ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الْأَمْرِ فَخَالَفَتْ سُجُودَ الْعَزَائِمِ وَشَابَهَتْ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا} [النجم: 42] {وَكُنْ مِنَ الساجدين} وقوله تعالى: {ومن الليل فاسجد له} [الإنسان: 26] {وسجد لَيْلا طَوِيلا} [الإنسان: 26] ، فَلَمَّا وَرَدَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ سَقَطَ السُّجُودُ لَهُ كَذَلِكَ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْحَجِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى إِثْبَاتِهَا فِي سُجُودِ الْعَزَائِمِ رِوَايَةُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ قَالَ: " نَعَمْ مَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا لَمْ يَقْرَأْهُمَا "، وَلِأَنَّ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ أَوْكَدُ مِنَ الْأُولَى لِوُرُودِهَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَوُرُودِ الْأُولَى بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ فَكَانَ السُّجُودُ لَهَا أَوْلَى، فَأَمَّا اعْتِبَارُ أبي حنيفة فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] أَمْرٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ سُجُودِ الْعَزَائِمِ، وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الْإِخْبَارِ فِيمَا لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص: 73] فَعُلِمَ فَسَادُ اعْتِبَارِهِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سُجُودِ الْعَزَائِمِ فَمِنَ السُّنَّةِ لِمَنْ قَرَأَهَا أَوْ سَمِعَهَا مِنْ رَجُلٍ، أَوِ امْرَأَةٍ أَنْ يَسْجُدَ لَهَا فَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ لَهَا مُسْتَمِعًا كَانَ أَوْ قَارِئًا لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَلَاةٍ، أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ، فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ سَجَدَ لَهَا بَعْدَ تِلَاوَتِهَا ثُمَّ هَلْ يُكَبِّرُ لِسُجُودِهِ وَرَفْعِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يَسْجُدُ مُكَبِّرًا، وَيَرْفَعُ مُكَبِّرًا، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَسْجُدُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، وَيَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ مَسْتُورَ الْعَوْرَةِ عَلَى طَهَارَةٍ، وَكَبَّرَ وَسَجَدَ، وَسَبَّحَ فِي سُجُودِهِ كَتَسْبِيحِهِ فِي صَلَاتِهِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ دَاوُدَ "، ثُمَّ يَرْفَعُ مُكَبِّرًا بِلَا تَشَهُّدٍ، وَلَا سَلَامٍ نَصَّ عليه(2/204)
الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَشَهُّدٍ وَسَلَامٍ كَالصَّلَوَاتِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّهُ يُسَلِّمُ، وَلَا يَتَشَهَّدُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَأَمَّا سُجُودُ الشُّكْرِ فَمُسْتَحَبٌّ [الْقَوْلُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ] عِنْدَ حُلُولِ نِعْمَةٍ، أَوْ دَفْعِ نِقْمَةٍ وَقَالَ أبو حنيفة: سُجُودُ الشُّكْرِ بِدْعَةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَحْوَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَسَجَدَ وَأَطَالَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي فبشرني بأن من صل عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا، فَسَجَدْتُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ شُكْرًا "
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ رَأَى نُغَاشًا وَالنُّغَاشُ: النَّاقِصُ الْخَلْقِ فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ
وَرُوِيَ عَنْ بِكَّارِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَأَتَى بَشِيرُهُ بِظَفَرِ أَصْحَابٍ لَهُ قَالَ فَخَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَاجِدًا
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا بَلَغَهُ فَتْحُ الْيَمَامَةِ وَقَتْلُ مُسَيْلِمَةَ أَنَّهُ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ بَلَغَهُ فَتْحُ الْقَادِسِيَّةِ، وَالْيَرْمُوكِ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى ذَا الثُّدَيَّةِ بِالنَّهْرَوَانِ قَتِيلًا سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ
وَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْهُ لَفَعَلْتُ، وَفِي اسْتِفَاضَةِ ذَلِكَ وَتَسْمِيَتِهَا وَشَاهِدِ الْعُقُولِ لَهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَاحِدَ يُعَظِّمُ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ عِنْدَ إِدْخَالِ نِعْمَةٍ عَلَيْهِ مُطَابَقَةٌ لِقَوْلِنَا وَإِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ جَعَلَهَا بِدْعَةً مِنْ مُخَالِفِينَا، فَإِذَا أَرَادَ سُجُودَ الشُّكْرِ صَنَعَ مَا يَصْنَعُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ سَوَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِسُجُودِ الشُّكْرِ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا إِذَا قَرَأَ سَجْدَةَ ص فَإِنْ سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ شُكْرًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ سَجَدَ عِنْدَمَا قَرَأَ سَجْدَةَ ص فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهَا سَجْدَةُ شُكْرٍ(2/205)
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالتِّلَاوَةِ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ الْفَرِيضَةَ وَالنَّافِلَةَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو حنيفة، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يُصَلِّي فِي الْكَعْبَةِ فَرْضًا، وَلَا نَفْلًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ، وَالْوِتْرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ النَّافِلَةَ، واستدلوا بقوله تعالى: {وحيثما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وَإِذَا صَلَّى فِيهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَلِرِوَايَةِ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ الرُّومِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْبَيْتَ فَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ
وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْبَيْتَ، وَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ وَصَلَّى وَقَالَ: هذه القبلة، ولأنه حول ظهره لشئ مِنَ الْكَعْبَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ. أَصْلُهُ: إِذَا صَلَّى فِيهَا مُتَوَجِّهًا إِلَى الْبَابِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] ، فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ خَارِجُ الْبَيْتِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَكُونُ فِي الْبَيْتِ قِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ، وَتَخْصِيصُ بَعْضِهَا بِالْحُكْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ جَمِيعِهَا، لِأَنَّ الِاقْتِرَانَ فِي اللَّفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِرَانِ فِي الْحُكْمِ، فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَا مَنَعْتُمُ الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ كَمَا مَنَعْتُمْ مِنَ الطَّوَافِ فِيهِ، أَوْ جَوَّزْتُمُ الطَّوَافَ فِيهِ كَمَا جَوَّزْتُمُ الصَّلَاةَ فِيهِ، قِيلَ: لِأَنَّ الطَّوَافَ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْبَيْتِ فَإِذَا أَوْقَعَهُ فِيهِ لَمْ يَسْتَغْرِقْ جَمِيعَهُ وَالصَّلَاةُ تَفْتَقِرُ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْبَيْتِ فَإِذَا صَلَّى فِيهِ فَقَدْ صَلَّى إِلَى جُزْءٍ مِنْهُ وَهُوَ الْحَائِطُ
وَرَوَى بِلَالٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ فَلَمْ يُفْتَحْ لِي الْبَابُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلِّي فِي الْحِجْرِ فَإِنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ "، وَلِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ فَوَجَبَ أَنْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ
أَصْلُهُ إِذَا صَلَّى خارج البيت فأما تعلقهم بقوله تعالى: {وحيثما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144](2/206)
فَالْمُرَادُ بِهِ نَحْوُهُ، وَمَنْ صَلَّى فِي الْبَيْتِ فَقَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَيْتِ، لِأَنَّ حَائِطَ الْبَيْتِ مِنَ الْبَيْتِ، فَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ وَصُهَيْبٍ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ غَيْرِهِمَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي الْبَيْتِ وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَنِ اسْتَقْبَلَ الْبَابَ فَمَذْهَبُنَا إِنْ كَانَ لِلْبَابِ عَتَبَةٌ وَاسْتَقْبَلَهَا جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَتَبَةٌ أَوْ كَانَتْ فَلَمْ يَسْتَقْبِلْهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ فِي صَلَاتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا فَصَلَّى إِلَيْهِ جَازَ، لِأَنَّ الْبَابَ مِنْ أَبْعَاضِ الْبَيْتِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُغْلَقًا، وَالْآخَرُ مَفْتُوحًا فَإِنْ صَلَّى إِلَى الْمُغْلَقِ جَازَ، وَإِنْ صَلَّى إِلَى الْمَفْتُوحِ لَمْ يَجُزْ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَعَلَى ظَهْرِهَا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِنَاءِ مَا يَكُونُ سُتْرَةً لِلْمُصَلِّي فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يُصَلِّ إِلَى غَيْرِ شَيْءٍ مِنَ الْبَيْتِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْفَضَاءِ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ يَسْتَقْبِلُهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ شَيْءٍ مِنَ الْبَيْتِ، وَمَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِشَيْءٍ مِنْهُ وَقَدْ رَوَى دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: فِي الْمَجْزَرَةِ، وَالْمَزْبَلَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامِ، وَمَعَاطِنِ الإبل، وفوق ظهر بيت الله تعالى
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ أَمَامَهُ سُتْرَةٌ يَسْتَقْبِلُهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً مُتَّصِلَةً بِالْجُدْرَانِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَقْبَلَ شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ وَلَا مُتَّصِلَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْجَارٌ مُجْتَمِعَةٌ، أَوْ خَشَبٌ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَ مَا تَجَاوَزَ الْبَيْتَ وَلَمْ يَسْتَقْبِلْ بُنْيَانَ الْبَيْتِ
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ السُّتْرَةُ مَغْرُوسَةً كَخَشَبَةٍ قَدْ غَرَسَهَا، أَوْ رُمْحٍ قَدْ رَكَزَهُ فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ كَالْبِنَاءِ
وَالثَّانِي: بَاطِلَةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ اسْتَقْبَلَ مَا لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ وَلَا مُتَّصِلٍ بِهِ
(فَصْلٌ)
: فَلَوِ انْهَدَمَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ بناء الكعبة، استحب أَنْ يُنْصَبَ فِي مَوْضِعِهِ خَشَبٌ وَيُطْرَحَ عَلَيْهِ أَنْطَاعٌ لِيَسْتَقْبِلَهُ النَّاسُ فِي صَلَاتِهِمْ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ جَازَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ النَّاسُ مَكَانَ الْكَعْبَةِ وَتُجْزِئُهُمُ الصَّلَاةُ.(2/207)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا انْهَدَمَ بِنَاءُ الْكَعْبَةِ سَقَطَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا
وَقَالَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، وَالْفُقَهَاءُ: فَرْضُ التَّوَجُّهِ بَاقٍ وَإِنِ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ، لِأَنَّ الْمَكَانَ أَصْلٌ وَالْبِنَاءَ تَبَعٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُ الْأَصْلِ بِفَقْدِ التَّبَعِ، وَإِذَا كَانَ فَرْضُ التَّوَجُّهِ بَاقِيًا وَجَبَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ مَكَانَ الْكَعْبَةِ وَيَقِفَ خَارِجًا عَنْهُ وإن وقف في عرضة الْكَعْبَةِ وَمَكَانِهَا كَانَ فِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، كَمَنْ صَلَّى خَارِجَهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ إِلَيْهَا، لِأَنَّ مَنْ هُوَ فِي الشَّيْءِ لَا يُقَالُ إِنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا صَلَّى عَلَى سَطْحٍ يَعْلُو الْكَعْبَةَ وَيُشْرِفُ عَلَيْهَا، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ جَائِزٌ كَمَا لَوْ صَلَّى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، أَوْ جَبَلِ الْمَرْوَةِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ
(فَصْلٌ)
: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى فِي صَحْرَاءَ، أَوْ عَلَى جَبَلٍ أَنْ يَنْصِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَصًا، أَوْ يَضَعَ حَجَرًا، وَيَسْتَقْبِلَهُ فِي صَلَاتِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ وَمَعَهُ عَصًا فلينصب العصا، ويصلي إِلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَخُطَّ خَطًّا "؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ امْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْعُبُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَصَلَّى جَازَ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ بِهِ أَمَامَ صَلَاتِهِ إِنْسَانٌ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ؛ لِرِوَايَةِ الْمُطَّلِبِ بْنِ وَدَاعَةٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطُّوَّافِ سُتْرَةٌ مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ
(فَصْلٌ)
: وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ بِهِ فِي صَلَاتِهِ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ، أَوْ نَجِسٌ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِنْ مَرَّ بِهِ امْرَأَةٌ، أَوْ كَلْبٌ، أَوْ حِمَارٌ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرْءِ الْمَرْأَةُ، وَالْحِمَارُ، وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ " فَقِيلَ لَهُ: مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَبْيَضِ؟ قَالَ: " إِنَّهُ شَيْطَانٌ "
وَهَذَا قَوْلٌ يُخَالِفُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: " صَلَاةُ الْمَرْءِ لَا يَقْطَعُهَا شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ "
وَرُوِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الْقِبْلَةِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَرَنِي بِرِجْلِهِ لِأَقْبِضَ رِجْلَيَّ "
وَرُوِيَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَنَحْنُ بِالْبَادِيَةِ وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَصَلَّى إِلَى صَحْرَاءَ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ وَحِمَارُهُ وَكَلْبُهُ يَمْشِيَانِ بَيْنَ(2/208)
يَدَيْهِ، فَمَا بَالَى بِذَلِكَ وَمَا رَوَوْهُ مِنَ الْحَدِيثِ فَمَنْسُوخٌ، أَوْ أَرَادَ بِهِ قَطْعَ الْفَضِيلَةِ
(فَصْلٌ)
: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى إِلَى قِبْلَةٍ، أَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهَا؛ لِرِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ سهل بن أبي حثمة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعُ الشَّيْطَانُ صَلَاتَهُ "، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ نَحْوُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ لِرِوَايَةِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلْتُ بِلَالًا مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ؟ قَالَ: صَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ القبلة ثلاثة أذرع
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَقْضِي الْمُرْتَدُّ كُلَّ مَا تَرَكَ فِي الرِّدَّةِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عَنِ الْإِسْلَامِ زَمَانًا ثُمَّ عَادَ إِلَى إِسْلَامِهِ لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ مُجْزِئٌ عَنْهُ لَا تَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ أَحْبَطَتِ الرِّدَّةُ جَمِيعَ عَمَلِهِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ اسْتَأْنَفَ الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ، وَالْحَجَّ، وَلَمْ يَقْضِ مَا تَرَكَهُ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ قَبْلَ رِدَّتِهِ أَعَادَ ذَلِكَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَحْبَطَتْ جَمِيعَ مَا عَمِلَهُ
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ قَدْ أَحْبَطَتْ عَمَلَهُ، وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قد سلف} ، وَاقْتَضَى الظَّاهِرُ غُفْرَانَ عَمَلِهِ بِالِانْتِهَاءِ عَنِ الْكُفْرِ وَتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِ بِإِثْمٍ، أَوْ قَضَاءٍ
وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ "
قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ ذَلِكَ كَالْحَرْبِيِّ، وَالذِّمِّيِّ
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا "
وَفِيهِ دَلِيلَانِ:(2/209)
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ النَّاسِي وَهُوَ التَّارِكُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] أَيْ: تَرَكَهُمْ، وَالْمُرْتَدُّ تَارِكٌ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ بِحَقِّ هَذَا الظَّاهِرِ
وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ عَلَى النَّاسِي وَنَبَّهَ بِإِيجَابِهِ عَلَى الْعَامِدِ، لِأَنَّهُ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ النَّاسِي، وَلِأَنَّهُ تَارِكُ صَلَاةٍ بِمَعْصِيَةٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ بِإِسْلَامِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِهِ بِرِدَّتِهِ كَغَرَامَةِ الْأَمْوَالِ، وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ إِلَّا شَرْطٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِالْإِتْيَانِ بِهِ فَإِنَّهُ مُطَالَبٌ بِالصَّلَاةِ كَالْمُحْدِثِ، وَيُخَالِفُ الْكَافِرُ الْأَصْلِيُّ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا فَهُوَ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ، وَالْمُرْتَدُّ مُخَالِفٌ لِلْإِسْلَامِ وَمُطَالَبٌ بِهِ، وَلِأَنَّ لِلْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ حُكْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُفَارِقُ بِهِمَا الْإِسْلَامَ وَهُمَا مُفَارَقَةُ الْإِيمَانِ وَتَرْكُ الشَّرْعِيَّاتِ وَلِلْإِسْلَامِ حُكْمَيْنِ يُفَارِقُ بِهِمَا الْكُفْرَ وَهُمَا مُفَارَقَةُ الْكُفْرِ وَفِعْلُ الشرعيات، ثم كانت الردة تقضي الْتِزَامَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مُفَارَقَةُ الْكُفْرِ وَفِعْلُ الشَّرْعِيَّاتِ فَوَجَبَ أَنْ تَقْتَضِيَ الِالْتِزَامَ الْآخَرَ وَهُوَ فِعْلُ الشَّرْعِيَّاتِ
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ حُكْمَيِ الْإِسْلَامِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ الْمُرْتَدَّ كَالْإِيمَانِ، وَلِأَنَّ مَنْ كُلِّفَ تَصْدِيقَ الْغَيْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَكْذِيبِهِ كُلِّفَ الْمَصِيرَ إِلَى مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِ
أَصْلُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالْحَقِّ لَمَّا كُلِّفَ تَصْدِيقَ الشُّهُودِ كُلِّفَ الْمَصِيرَ إِلَى مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِمَا وَهُوَ الْغُرْمُ لِمَا شَهِدَا بِهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ لِتَصْدِيقِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَبَ أَنْ يُكَلَّفَ مُقْتَضَى تَصْدِيقِهِ وَمُقْتَضَاهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ أَحْدَثَ مَا اسْتُبِيحَ بِهِ دَمُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ عَنْهُ الصَّلَاةُ كَالْقَاتِلِ، وَالزَّانِي، وَالْمُحَارِبِ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ اسْتِرْقَاقِهِ، وَقَبُولِ جِزْيَتِهِ، وَهُدْنَتِهِ، وَمُؤَاخَذَتِهِ بِجِنَايَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي قَضَاءِ صَلَوَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ قَدِ اعْتَرَفَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَالْتَزَمَ الْقِيَامَ بِهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِصْيَانُهُ بِالرِّدَّةِ عُذْرًا لَهُ فِي إِسْقَاطِ مَا لَزِمَهُ، وَقَضَاءِ مَا تَرَكَهُ كَالْعَاصِي بِشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ فِعْلِ الزِّنَا فَأَمَّا قَوْله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ، لِأَنَّهُ عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] ، وَذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ؛ سِيَّمَا وَقَدْ فَسَّرَهُ بقوله عز وجل: {ومن يرتد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، فَالْمُرَادُ بِهِ غُفْرَانُ الْمَآثِمِ دُونَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَرْضٌ مُسْتَأْنَفٌ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ مَخْصُوصٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ؛ وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ "(2/210)
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَرْبِيِّ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَقْضِي مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فَجُنَّ زَمَانًا فِي رِدَّتِهِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ حِينًا لَزِمَهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِ جُنُونِهِ وَإِغْمَائِهِ، وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً فَحَاضَتْ فِي ردتها زماناً لم تقضي مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِ حَيْضِهَا
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْجُنُونَ، وَالْإِغْمَاءَ سَقَطَ بِهِمَا الْقَضَاءُ تَرْفِيهًا وَرَحْمَةً، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ مَعْصِيَةٌ لَمْ يَسْقُطِ الْقَضَاءُ كَالسَّكْرَانِ فَلَمَّا اقْتَرَنَ بِجُنُونِ الْمُرْتَدِّ وَإِغْمَائِهِ مَعْصِيَةٌ، وَهِيَ الرِّدَّةُ ثَبَتَ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ لَا يَتَرَخَّصُ، وَالْحَيْضُ إِنَّمَا أَسْقَطَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ لَا عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَمْ يَكُنْ لِاقْتِرَانِ الْمَعْصِيَةِ بِهِ تَأْثِيرٌ فِي ثُبُوتِ الْقَضَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الْحَائِضِ مَعْصِيَةٌ، وَصَلَاةَ الْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ طَاعَةٌ فَمِنْ حَيْثُ مَا ذَكَرْنَا افْتَرَقَ حُكْمُهُمَا فِي الْقَضَاءِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -(2/211)
(باب سجود السهو وسجود الشكر)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ شَكَّ فِي رَكَعَاتِهَا فَلَمْ يَدْرِ أركعة صلى، أو رَكْعَتَيْنِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَحَسَبَهَا رَكْعَةً، وَلَوْ كَانَ الشَّكُّ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ بَنَى عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الشَّكُّ بَيْنَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ بَنَى عَلَى ثَلَاثٍ وَهُوَ الْيَقِينُ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ شَكِّهِ، أَوْ كَانَ يَعْتَادُهُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ شَكِّهِ أَوْ كَانَ يَشُكُّ فِي أَقَلِّ أَوْقَاتِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ شَاكًّا وَيَعْتَادُهُ الشَّكُّ كَثِيرًا تَحَرَّى فِي صَلَاتِهِ وَاجْتَهَدَ، وَعَمِلَ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ حِينَئِذٍ وَاسْتَدَلَّ لِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِأَوَّلِ شَكِّهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ " قَالَ: وَمَعْنَاهُ: لَا شَكَّ فِيهَا فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا بِحُدُوثِ الشَّكِّ فِيهَا، وَاسْتَدَلَّ فِي جَوَازِ التَّحَرِّي فِيمَنِ اعْتَادَهُ الشَّكُّ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ "
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا وَكَانَ أَكْثَرُ ظَنِّهِ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا، قَعَدَ وَتَشَهَّدَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ "
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّحَرِّي فِي القلتين، وَالثَّوْبَيْنِ، وَالْإِنَاءَيْنِ، وَالْوَقْتَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ جَازَ التَّحَرِّي فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُشْتَبِهٌ قَدْ جُعِلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَهَذَا خَطَأٌ
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيُلْغِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَهُوَ جالس "(2/212)
وَرُوِيَ أَيْضًا: " فَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ " قَبْلَ السَّلَامِ
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيُتِمَّ رَكْعَةً، وَلْيَقْعُدْ وَيَتَشَهَّدْ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، فَإِنْ كَانَتْ خَمْسًا شَفَعَتْهَا السَّجْدَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا كَانَتِ السَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ "
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَاثْنَتَيْنِ بَنَى عَلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنْ شَكَّ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثٍ بَنَى عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَإِنْ شَكَّ بَيْنَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ بَنَى عَلَى ثَلَاثٍ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ جَمِيعًا خَيْرٌ مِنَ النُّقْصَانِ "
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ حَدِيثُ أبي سعيد الخدري، ولأنها صلاة وجب عليها فِعْلُهَا فَوَجَبَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي فِي أَدَائِهَا
أَصْلُهُ إِذَا تَرَكَ صَلَاةً مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا، وَلِأَنَّ أَرْكَانَ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّحَرِّي كَأَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا شُرِطَ الْيَقِينُ فِي أَصْلِهِ شُرِطَ الْيَقِينُ فِي بَعْضِهِ، كَالطَّهَارَةِ، وَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ كل ما لم يود من الطهارة بالتحري لم يود مِنَ الصَّلَاةِ بِالتَّحَرِّي كَأَصْلِ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِالشَّكِّ أَوَّلَ مَرَّةٍ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ شك طراً فِي عَدَدِ مَا صَلَّى فَلَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلَاةُ كَالْمُعْتَادِ الشَّكَّ، وَلِأَنَّ مَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ فَحُكْمُ الِابْتِدَاءِ، وَالْعَادَةِ فِيهِ عَلَى سَوَاءٍ كَالْحَدَثِ طَرْدًا، وَالْعَمَلِ الْيَسِيرِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ مَا لَا يُبْطِلُ كَثِيرُهُ الصَّلَاةَ لَا يُبْطِلُ قَلِيلُهُ الصَّلَاةَ كَالتَّسْبِيحِ
فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا غِرَارَ فِي الصَّلَاةِ " فَمَعْنَاهُ: لَا نُقْصَانَ فِيهَا وَهُوَ إِذَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ فَقَدْ أَزَالَ النُّقْصَانَ مِنْهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلْيَتَحَرَّ أَقْرَبَ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ "
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ تَحَرِّيَ الصَّوَابِ يُبَيِّنُ لَهُ يَقِينَ الشَّكِّ، أَوْ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ مَعَ بَقَاءِ الشَّكِّ
فأما الْحَدِيثُ الْآخَرُ إِنْ صَحَّ فَكَانَ مُعَارَضًا بِمَا رَوَيْنَاهُ فَرِوَايَتُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كَثْرَةُ الرُّوَاةِ وَالْبِنَاءُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَأْمَنُ بِهَذَا النُّقْصَانِ وَيَخَافُ الزِّيَادَةَ، وَرِوَايَتُهُمْ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ فَكَانَتْ رِوَايَتُنَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ خَيْرٌ مِنَ النُّقْصَانِ "(2/213)
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ جَوَازِ التَّحَرِّي فِي الْقِبْلَةِ وَالْإِنَاءَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ فَيُفَارِقُ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّجُوعَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْيَقِينِ مُتَعَذَّرٌ، وَفِي أَفْعَالِ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ فَجَازَ التَّحَرِّي فِيمَا تَعَذَّرَ الْيَقِينُ فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ فِيمَا لَمْ يَتَعَذَّرِ الْيَقِينُ فِيهِ
وَالثَّانِي: أَنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَلَائِلَ وَعَلَامَاتٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي التَّحَرِّي، وَالِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ لِمَا يُقْضَى مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ دَلَالَةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي التَّحَرِّي فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ سَجَدَ سجدتي السهو قبل التسليم وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سجد قبل التسليم "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جَائِزٌ قَبْلَ السَّلَامِ، وَبَعْدَهُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَسْنُونِ وَالْأَوْلَى فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَالْجَدِيدِ: أَنَّ الْأَوْلَى فِعْلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ رَبِيعَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: الْأَوْلَى فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ عَنْ نُقْصَانٍ فَالْأَوْلَى فِعْلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ زِيَادَةٍ فَالْأَوْلَى فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافُهُ مَعَ مَالِكٍ "، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مَا حَكَيْنَاهُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ قَبْلَ السَّلَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ
فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ "
وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ
قَالَ: وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إِنَّمَا أُخِّرَ فِعْلُهُ عَنْ سَبَبِهِ لِكَيْ يَنُوبَ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بَعْدَ السَّلَامِ أَوْلَى لِتَصِحَّ نِيَابَتُهُ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَهُ قَبْلَ السَّلَامِ لَمْ يَخْلُ هَذَا السَّهْوُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ سُجُودًا ثَانِيًا، أَوْ لَا يَقْتَضِيَ، فَإِنِ اقْتَضَى سُجُودًا ثَانِيًا لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ نَائِبًا عَنْ جَمِيعِ السهو(2/214)
وَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَكَانَ سَبَبُهُ زِيَادَةَ الْكَلَامِ، وَسَجَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ عِنْدَمَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ سَبَبَهُ النُّقْصَانُ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِلَافِ مَحَلِّهِ لِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُبْرَانٌ، فَإِذَا كَانَ لِنُقْصَانٍ اقْتَضَى فِعْلُهُ قَبْلَ السلام لتكمل به الصلاة، وإن كان الزيادة أَوْقَعَهُ بَعْدَ السَّلَامِ لِكَمَالِ الصَّلَاةِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً فليبين عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ "
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيُتِمَّ رُكُوعَهُ، وَيَقْعُدْ وَيَتَشَهَّدْ، وَيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، ثُمَّ يُسَلِّمْ فَإِنْ كَانَتْ خَمْسًا شَفَعَتْهَا السَّجْدَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعًا كَانَتِ السَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ "
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن بُحَيْنَةَ الْأَسَدِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَرَكَ الْجُلُوسَ الْأَوَّلَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، أَوْ قَالَ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ قَامَ فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ فَلَمَّا جَلَسَ وَتَشَهَّدَ سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ " وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ عَنْ سَبَبٍ وَقَعَ فِي صَلَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَلِأَنَّهُ سجود لو فعله في الصلاة، سجد عنه مُوجِبِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ سَجَدَاتِ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لِلصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ فِي الصَّلَاةِ كَمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ كَانَ شَرْطًا فِي سُجُودِ السَّهْوِ كَالطَّهَارَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحَلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ لَوَجَبَ إِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا قَبْلَ السَّلَامِ أَنْ يَسْجُدَ لِأَجْلِهِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَحَلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ لِلسَّهْوِ وَجُبْرَانٌ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ جُبْرَانًا لِلشَّيْءِ كَانَ وَاقِعًا فِيهِ
وَأَمَّا مَا رَوَوْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ
وَالثَّانِي: مُسْتَعْمَلَةٌ فَأَمَّا نَسْخُهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَسَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَكَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ
وَالثَّانِي: تَأَخُّرُ أَخْبَارِنَا وَتَقَدُّمُ أَخْبَارِهِمْ، لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَوَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَهُوَ مُتَقَدِّمُ الْإِسْلَامِ قَدْ هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَوَيَا سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: سَبْعُ سِنِينَ وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ مِنْ أَحْدَاثِ الْأَنْصَارِ، وَأَصَاغِرِهِمْ(2/215)
وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا بَعْدَ السَّلَامِ فِي التَّشَهُّدِ وَهُوَ قول سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ نَسِيَ السَّهْوَ ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ سَلَامِهِ فَأَتَى بِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَهُ قَبْلَ السَّلَامِ ثُمَّ سَهَا بعده لم يخل حاله من أحد الأمرين:
قُلْنَا: فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سُجُودٌ وَاقِعٌ عَنِ السَّهْوِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالَّذِي بَعْدَهُ
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّهُ يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ، وَلَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ السُّجُودَ الْأَوَّلَ لَا يَنُوبُ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ سَجْدَتِيِ السَّهْوِ تَنُوبُ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ فِي الْغَالِبِ وَوُقُوعُ السَّهْوِ بَعْدَ السُّجُودِ وَقَبْلَ السَّلَامِ نَادِرٌ فَجَازَ السُّجُودُ لَهُ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ مَالِكٍ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ مَعَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الزِّيَادَةَ تَمْنَعُ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا نُقْصَانٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ مِنْهَا رَكْعَةً عَامِدًا أَوْ زَادَ عَلَيْهَا رَكْعَةً عَامِدًا أَبْطَلَتْ صَلَاتَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نُقَصَانًا وَجَبَ أَنْ يكون السجود له في الصلاة جبراناً
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي الْخَامِسَةِ سَجَدَ أَوْ لَمْ يَسْجُدْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ أَوْ لَمْ يَقْعُدْ فَإِنَّهُ يَجْلِسُ لِلرَّابِعَةِ، وَيَتَشَهَّدُ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَظُنُّهَا رَابِعَةً ثُمَّ ذَكَرَ سَهْوَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ فِي خَامِسَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَى جُلُوسِهِ فِي الرَّابِعَةِ سَوَاءٌ جَلَسَ فِيهَا أَمْ لَا، سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ أَوْ لَمَ يَسْجُدْ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ لَمْ يَسْجُدْ يَجْلِسُ فِي الرَّابِعَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ فِي الْخَامِسَةِ عَادَ إِلَى جُلُوسِهِ فِي الرَّابِعَةِ بِنَاءً عَلَى صَلَاتِهِ وَإِنْ سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ قَبْلَ جُلُوسِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ لِبُطْلَانِ عَمَلِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَمْ يَسْجُدْ فِي الْخَامِسَةِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ خَرَجَ مِنَ الْخَامِسَةِ، وَإِنْ شَاءَ بَنَى عَلَيْهَا، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ وَسَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّ إِلَى هَذِهِ الرَّكْعَةِ رَكْعَةً ثَانِيَةً يَكُونَانِ لَهُ نَافِلَةً بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُلُوسَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الصَّلَاةِ دُونَ التَّشَهُّدِ وَالسَّلَامِ، فَإِذَا فَعَلَهُ وَقَامَ إِلَى خَامِسَةٍ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ صَارَ دَاخِلًا فِي نَافِلَةٍ ومكن(2/216)
أَصْلُهُ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي نَافِلَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهَا رَكْعَتَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ سَعِيدٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظُّهْرَ فَسَهَا فَصَلَّاهَا خَمْسًا فَقِيلَ يَا رَسُولَ الله أزيد من الصَّلَاةِ قَالَ: وَمَا ذَاكَ فَقَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ " وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ السَّلَامِ
وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنْ سُوَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَسْوَسَ الْقَوْمُ فَقَالَ مَا بَالُكُمْ فَقَالُوا صَلَّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سجدتي السهو وقال: " إنما أن بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ "، فَلَا يَخْلُو حَالُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ أَنْ يَكُونَ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ، أَوْ لَمْ يَقْعُدْ فَإِنْ كَانَ قَعَدَ فَلَمْ يُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى كَمَا قَالَ أبو حنيفة: وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْعُدْ فَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ كَمَا قَالَ أبو حنيفة، فَإِنْ قَالُوا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَعَادَ صَلَاتَهُ
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ، وَلَوْ أَعَادَهَا لَأَمَرَ مَنْ خَلْفَهُ بِالْإِعَادَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً لَمْ يَسْجُدْ لَهَا سُجُودَ السَّهْوِ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَا يَجْبُرُ الصَّلَاةَ الْبَاطِلَةَ فَإِنْ قَالُوا فَيَجُوزُ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ فِي الْخَامِسَةِ قَبْلَ سُجُودِهِ فِيهَا قِيلَ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا وَانْفَتَلَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ سُجُودِهِ وَسَلَامِهِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَكَلَّمَ فَقَالَ مَا بَالُكُمْ، وَكَلَّمَهُ النَّاسُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ وَقَبْلَ السُّجُودِ، وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِنْسِهَا عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهَا
أَصْلُهُ إِذَا ذَكَرَ سَهْوَهُ قَبْلَ سُجُودِهِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَعْدَادِ الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ سَهْوُهُ الصَّلَاةَ كَمَنْ سَجَدَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ، أَوْ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِهِ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَحَدِهِمَا وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ صحة صلاته وأن يَعُودُ فِي الرَّابِعَةِ إِلَى جُلُوسِهِ لَمْ تَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ أَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فَإِنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي الرَّابِعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أن يتشهد ويسجد سَجْدَتَيِ السَّهْوِ وَيسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ قَبْلَ قِيَامِهِ فَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ التَّشَهُّدِ بَعْدَ جُلُوسِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ إِعَادَةُ التَّشَهُّدِ ثُمَّ سُجُودُ السَّهْوِ ثُمَّ السَّلَامُ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذَا السَّلَامِ أَنْ يَتَعَقَّبَ أَمْرَيْنِ: الْقُعُودُ، وَالتَّشَهُّدُ، فَلَمَّا لَزِمَهُ إِعَادَةُ الْقُعُودِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ لَزِمَهُ إِعَادَةُ التَّشَهُّدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِهِ(2/217)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ التَّشَهُّدِ، بَلْ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ ثُمَّ يُسَلِّمُ، لِأَنَّ أُصُولَ الصَّلَاةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاعْتِدَادِ بِمَا فَعَلَهُ قَبْلَ السَّهْوِ وَتَرَكَ إِعَادَتَهُ كَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا إِذَا صَلَّى نَافِلَةً فَقَامَ إِلَى ثَالِثَةٍ نَاسِيًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا، وَيَجُوزَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الثَّانِيَةِ وَيَجُوزَ أَنْ يُكْمِلَ الثَّالِثَةَ، وَيُسَلِّمَ وَأَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ سَجَدَ مَعَهُ سُجُودَ السَّهْوِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَمْضِيَ فِي الثَّالِثَةِ وَيَرْجِعَ إِلَى الثَّانِيَةِ وَيسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَيُسَلِّمُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، أَوْ صَلَاةِ النَّهَارِ، وَاخْتَارَ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا
وقال آخرون: إن كانت صلاة فَالْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّهَا أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةَ لَيْلٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى الثَّانِيَةِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ نَسِيَ الْجُلُوسَ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَذَكَرَ فِي ارْتِفَاعِهِ وَقَبْلَ انْتِصَابِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُلُوسِ ثُمَّ يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ اعْتِدَالِهِ فَإِنَّهُ يَمْضِي "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَإِنْ تَرَكَهُ نَاسِيًا وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ ثُمَّ ذَكَرَهُ نَظَرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ ذَكَرَهُ قَبْلَ انْتِصَابِهِ عَادَ فَأَتَى بِهِ ثُمَّ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ انْتِصَابِهِ مَضَى فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: يَعُودُ إِلَيْهِ فِي الْحَالَتَيْنِ
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَعُودُ إِلَيْهِ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ؛ لِرِوَايَةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّانِيَةِ إِلَى الثَّالِثَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوِيَ قَائِمًا رَجَعَ وَجَلَسَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ أَنِ اسْتَوَى قَائِمًا لَمْ يَرْجِعْ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ "، وَلِأَنَّهُ إِذَا اعْتَدَلَ قَائِمًا فَقَدْ حَصَلَ فِي فَرْضٍ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِمَسْنُونٍ وَمَا لَمْ يَعْتَدِلْ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي فَرْضٍ فجاز له الرجوع إلى المسنون
(فصل)
: فإن صح أنه يعود إليه قبل انتصاب وَلَا يَعُودُ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِصَابِهِ فَانْتَصَبَ قَائِمًا ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ(2/218)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ مِقْدَارَ جَوَازِهِ فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ أَتَى بِعَمَلٍ طَوِيلٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِعَمَلِهِ مُنَافَاةَ الصَّلَاةِ فَصَارَ كَمَنْ قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ، فَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا فَعَادَ إِلَى الْجُلُوسِ بَعْدَ انْتِصَابِهِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ، لِأَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهُ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِهَا، فَلَوِ اتَّبَعُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، فَلَوْ ذَكَرَ الْإِمَامُ ذَلِكَ قَبْلَ انْتِصَابِهِ فَعَادَ إِلَى جُلُوسِهِ وَجَبَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ مَا لَمْ يَنْتَصِبُوا، فَإِنْ كَانُوا قَدِ انْتَصَبُوا فِي الْقِيَامِ قَبْلَ انْتِصَابِ الْإِمَامِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَتْبَعُونَهُ فِي الْجُلُوسِ، لِأَنَّهُ يَتَقَابَلُ عَلَيْهِمْ فَرْضَانِ فَرْضُ أَنْفُسِهِمْ وَمُتَابَعَةُ إِمَامِهِمْ فَلَمْ يَجُزْ تَرْكُ فَرْضِهِمْ لِمُتَابَعَةِ إِمَامِهِمْ
وَالْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ إِمَامِهِمْ فِي الْجُلُوسِ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِاقْتِدَائِهِمْ بِهِ؛ كَمَا لَوْ أَدْرَكُوهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ لَزِمَهُمُ الْجُلُوسُ مَعَهُ فِي التَّشَهُّدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فَرْضِهِمُ اتِّبَاعٌ لِإِمَامِهِمْ كَذَلِكَ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ ومتابعته في الجلوس
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ جَلَسَ فِي الْأُولَى فَذَكَرَ قَامَ وَبَنَى وعليه سجدتا السَّهْوِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا جَلَسَ فِي الْأُولَى مُسْتَرِيحًا أَوْ لِعَارِضٍ مِنْ مَرَضٍ فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ، وَإِنْ جَلَسَ فِيهَا لِلتَّشَهُّدِ نَاسِيًا يَظُنُّهَا ثَانِيَةً فَلْيَقُمْ إِلَى الثَّالثةِ، وَيَجْلِسْ فِيهَا لِلتَّشَهُّدِ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ وَيسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ، لِأَنَّهُ نَقَلَ سُنَّةً عَلَى الْبَدَنِ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْبِنَاءِ وَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِمَا أَوْقَعَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي صَلَاتِهِ
وَأَصْلُ ذلك: قصة ذي اليدين
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّهُ ناسٍ لسجدةٍ مِنَ الْأُولَى بَعْدَمَا اعْتَدَلَ قَائِمًا فَلْيَسْجُدْ لِلْأُولَى حَتَّى تَتِمَّ قَبْلَ الثَّانِيَةِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ قَامَ إِلَى رَكْعَةٍ ثَانِيَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سَجْدَةً نَاسِيًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الَّتِي نَسِيَهَا سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا فِي الثَّانِيَةِ أَوْ رَاكِعًا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ تَرْتِيبِ الْأَفْعَالِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " فَإِذَا أَرَادَ السجود فهل يجلس قبل سجوده أما لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ فَيَجْلِسَ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَوَاءٌ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ(2/219)
أَمْ لَا، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالسُّجُودِ عُقَيْبَ الْجُلُوسِ فَإِذَا عَقَّبَ جُلُوسَهُ بِالْقِيَامِ لَمْ يُجْزِهِ الِاعْتِدَادُ بِهِ وَلَزِمَهُ فِعْلُهُ لِيَكُونَ السُّجُودُ عُقَيْبَهُ كَالسَّعْيِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى عُقَيْبِ الطَّوَافِ، فَلَوْ طَافَ وَصَبَرَ زَمَانًا ثُمَّ أَرَادَ السَّعْيَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الطَّوَافَ، ثُمَّ يُعْقِبُهُ السَّعْيَ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْلِسَ بَلْ يَنْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا سَوَاءٌ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْجِلْسَةَ غي مَقْصُودَةٍ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا أُزِيدَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السجدتين، والقيام فاصل ينهما ونائب عن الجلسة
الوجه الثَّالِثُ: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ أَصْحَابُنَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ انْحَطَّ سَاجِدًا مِنْ فَوْرِهِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَلَسَ عَادَ فَجَلَسَ ثُمَّ سَجَدَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجِلْسَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ مَقْصُودٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا " فَإِذَا فَعَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَتُهُ كَسَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ وُجُوبِ تَعَقُّبِ السَّجْدَةِ بِالْجُلُوسِ فَفَاسِدٌ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ سَهْوَهُ عَنِ السَّجْدَةِ حَتَّى يَسْجُدَ فِي الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ السَّجْدَةَ تُجْزِئُهُ عَنِ الْأُولَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُقَيْبَ جُلُوسٍ وَإِنْ ذَكَرَ فَرَقًا، فَإِنَّ الْفَرَقَ اعْتِذَارٌ بَعْدَ وُجُودِ النَّقْصِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَصَحُّ الْوُجُوهِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ وَانْحَطَّ سَاجِدًا مِنْ فَوْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْلِسْ قَبْلَ قِيَامِهِ عَادَ فَجَلَسَ ثُمَّ سَجَدَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ قَدْ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهَا الْجِلْسَةَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَهَلْ يَنُوبُ ذَلِكَ مَنَابَ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ: لَا تَنُوبُ مَنَابَ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، لِأَنَّ هَذِهِ فَرِيضَةٌ وجلسة الاستراحة والنفل سنة، والنفل لا تنوب مَنَابَ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَسِيَ سَجْدَةً وَسَجَدَ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ تَنُبْ عَنْ سَجْدَةِ الْفَرْضِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ تَنُوبُ مَنَابَ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، لِأَنَّ نِيَّةَ الصلاة تبسط على أفعالها، وليس يلزمه تَحْدِيدُ النِّيَّةِ عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ مِنْهَا، فَإِذَا وَجَدَ الْفِعْلَ عَلَى صِفَةِ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ وَهَيْئَتِهِ قَامَ مَقَامَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَشَهَّدَ التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ أَجْزَأَهُ عَنْ فَرْضِهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ لِوُجُودِ ذَلِكَ عَلَى صِفَتِهِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا الْوَجْهَ فَرَّقَ بَيْنَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فِي أَنَّهَا لَا تَنُوبُ عَنْ سَجْدَةِ الْفَرْضِ وَبَيْنَ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ فِي أَنَّهَا تَنُوبُ عَنْ جُلُوسِ الْفَرْضِ بِأَنْ قَالَ: سُجُودُ التِّلَاوَةِ عَارَضٌ، وَالْعَارِضُ لَا يَنُوبُ عَنِ الرَّاتِبِ وَجِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ رَاتِبَةٌ فَجَازَ أَنْ تَنُوبَ عَنِ الرَّاتِبِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الثَّانِيَةِ أنه نسي سجدة ن الْأُولَى، فَإِنَّ عَمَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ كَلَا عَمَلٍ، فَإِذَا سَجَدَ فِيهَا كَانَتْ مِنْ حُكْمِ الْأُولَى وَتَمَّتِ الْأُولَى بِهَذِهِ السَّجْدَةِ، وَسَقَطَتِ الثَّانِيَةُ "(2/220)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ وَصَلَّى الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ ثُمَّ جَلَسَ فِيهَا مُتَشَهِّدًا وَذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سَجْدَةً نَاسِيًا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الثانية مُلْغًى كَلَا عَمَلٍ إِلَّا سَجْدَةً يَجْبُرُ بِهَا الْأُولَى، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِبَاقِي صَلَاتِهِ وَيسَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ
وَقَالَ مَالِكٌ: يُلْغِي مَا فعله في الأولى ويكون عمله فيها كل عَمَلٍ لِتَكُونَ الثَّانِيَةُ لَهُ أُولَى، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ قِيَامَهُ إِلَى الثَّانِيَةِ قَبْلَ كَمَالِ الْأُولَى يبطل ما فعله فيها من قيامه وَرُكُوعٍ وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ سُجُودِ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَوَجَبَ إِذَا سَجَدَ فِي الثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ سُجُودُهُ فِيهَا مَصْرُوفًا إِلَى الرَّكْعَةِ الْأُولَى لِبُطْلَانِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِسَجْدَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ السَّجْدَةَ فِي قِيَامِهِ انْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ السَّجْدَةَ فِي قِيَامِهِ انْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا مِنْهَا فِي قِيَامِهِ وَعَادَ جَالِسًا ثُمَّ سَجَدَ والوجه فِي قِيَامِهِ انْحَطَّ مِنْ فَوْرِهِ سَاجِدًا مِنْهَا فِي قِيَامِهِ وَعَادَ جَالِسًا ثُمَّ سَجَدَ. وَالْوَجْهُ الثالث: أنه كَانَ قَدْ جَلَسَ قَبْلَ قِيَامِهِ إِلَى الثَّانِيَةِ فَهِيَ مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْلِسْ فَهِيَ مَجْبُورَةٌ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ، وَهَذَا عَلَى المذهب الثالث
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَكَرَ فِي الرَّابِعَةِ أَنَّهُ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ كُلِّ ركعةٍ فَإِنَّ الْأُولَى صَحِيحَةٌ إِلَّا سَجْدَةً وَعَمَلُهُ فِي الثَّانِيَةِ كَلَا عملٍ، فَلَمَّا سَجَدَ فِيهَا سَجْدَةٍ كَانَتْ مِنْ حُكْمِ الْأُولَى وَتَمَّتِ الْأُولَى وَبَطَلَتِ الثَّانِيَةُ وَكَانَتِ الثَّالِثَةُ ثَانِيَةً فلما قدم فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ الثَّانِيَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ ثَالِثَةً كَانَ عَمَلُهُ كَلَا عَمَلٍ فلما سجد فيها سجدة كانت من حكم الثَّانِيَةِ فَتَمَّتِ الثَّانِيَةُ وَبَطَلَتِ الثَّالِثَةُ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ رَابِعَةً، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلَامِ، وَعَلَى هَذَا الْبَابِ كُلِّهِ وَقِيَاسِهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً فَالَّذِي يَحْصُلُ لَهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَكْعَتَانِ رَكْعَةٌ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَرَكْعَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّكْعَةَ الْأُولَى صَحِيحَةٌ إلا سجدة، وعلمه فِي الثَّانِيَةِ بَاطِلٌ إِلَّا سَجْدَةً تُضَمُّ إِلَى الْأُولَى فَيَتِمُّ لَهُ رَكْعَةٌ، وَعَمَلُهُ فِي الثَّالِثَةِ صَحِيحٌ إِلَّا سَجْدَةً وَهِيَ فِي التَّقْدِيرِ ثَانِيَةٌ وَعَمَلُهُ فِي الرَّابِعَةِ بَاطِلٌ إِلَّا سَجْدَةً تُضَمُّ إِلَى الثَّالِثَةِ الَّتِي هِيَ الثَّانِيَةُ فَيَتِمُّ لَهَا الرَّكْعَةُ الثَّانِيَةُ فَيَصِيرُ لَهُ رَكْعَتَانِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ قَامَ مَقَامَ تَشَهُّدِهِ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَشَهَّدَ فِي الرَّابِعَةِ تَشَهَّدَ فِي الثَّانِيَةِ وَقَامَ فيأتي الركعتين تَمَامَ صَلَاتِهِ وَتَشَهَّدَ فَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ(2/221)
وَقَالَ أبو حنيفة: يَأْتِي بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ وَيُجْزِئُهُ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " قَالَ: وَهَذَا قَدْ أَدْرَكَ جَمِيعَ الصَّلَاةِ إِلَّا أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا لَا غَيْرَ قال: ولأن كلما يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ لَا يُعْتَبَرُ التَّرْتِيبُ فِي فِعْلِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ إِذَا تَرَكَ صَوْمَ اليوم الأولى مِنْهُ وَصَامَ الثَّانِيَ لَمْ يَقَعْ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْهُ، وَوَقَعَ عَنِ الثَّانِي؛ كَذَلِكَ الصَّلَاةُ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ خَلْفَ الْإِمَامِ ثُمَّ سَهَا عَنِ اتِّبَاعِهِ فِي الْأُولَى حَتَّى دَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ صَلَّاهَا مَعَهُ وَصَحَّتْ هَذِهِ الرَّكْعَةُ لَهُ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ الْأُولَى، كَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُ الثَّانِيَةُ مَعَ بَقَاءِ سَجْدَةٍ مِنَ الْأُولَى
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ " وَمَعْنَاهُ: لَا رَكْعَةَ ثَانِيَةً لِمَنْ عَلَيْهِ أُولَى، وَلِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ كَمَالِ الْأُولَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَدَّ لَهُ بِالثَّانِيَةِ قَبْلَ كَمَالِ الْأُولَى
أَصْلُهُ إِذَا تَرَكَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى سجدتين، لأنه واقفنا أَنْ يَجْبُرَ سَجْدَتَيْنِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي السَّجْدَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ تَرْتِيبٍ إِذَا تَرَكَهُ عَامِدًا لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ بَعْدَهُ فَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَهُ نَاسِيًا
أَصْلُهُ إِذَا تَقَدَّمَ الرُّكُوعُ عَلَى السُّجُودِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا شُرِطَ فِعْلُهُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الذِّكْرِ لَمْ يَسْقُطْ بِالسَّهْوِ كَالطَّهَارَةِ
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالْخَبَرِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ قَضَاءَ مَا فَاتَ، وَالَّذِي فَاتَهُ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ فَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ مَا يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ يَسْقُطُ فِيهِ التَّرْتِيبُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، فَفَاسِدٌ بِالرُّكُوعِ يَتَكَرَّرُ فِي الرَّكَعَاتِ ثُمَّ التَّرْتِيبُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ تَرْتِيبُهُ عَامِدًا لَمْ يَبْطُلْ مَا صَامَهُ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا بَطَلَتْ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الرَّكْعَةَ أَوْكَدُ مِنَ السَّجْدَةِ فَمُنْكَسِرٌ بِهِ إِذَا تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّنَا نَقُولُ: إِنَّهَا تَكُونُ لَهُ أُولَى، وَإِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَ قَبْلَ سَلَامِهِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْهَا سَجْدَةً لَا يَدْرِي كَيْفَ تَرَكَهَا فَإِنَّهُ يُنْزِلُ ذَلِكَ عَلَى أَسْوَإِ أَحْوَالِهِ وَيَعْمَلُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِيهِ، فَأَحْسَنُ حَالَتِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنَ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ فَتَصِحُّ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَةً، فَأَسْوَأُ حَالَتِهِ أَنْ يكون قد تركها من أحد الركعات الثلاث، وإما الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةُ، أَوِ الثَّالِثَةُ فَتَصِحُّ لَهُ على العبرة المتقدمة ثلاث ركعات فيبني عليه وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَلَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَتَيْنِ لا يدي كيف تركها، فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَهَا مِنَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَتَصِحُّ لَهُ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ يَأْتِي بِهِمَا وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى سَجْدَةً وَأَتَى بِالثَّانِيَةِ كَامِلًا وَتَرَكَ(2/222)
من الثالثة سجدة وأتى بالرابعة كملاً فَيَحْصُلُ لَهُ رَكْعَتَانِ الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةُ مَجْبُورَةٌ بِالرَّابِعَةِ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ تَمَامِ صَلَاتِهِ، وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ لَا يَدْرِي كَيْفَ تَرَكَهُنَّ فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الثَّالِثَةِ سَجْدَةً وَمِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَتَيْنِ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَةً وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى سَجْدَةً وَأَتَى بِالثَّالِثَةِ كَامِلًا وَتَرَكَ مِنَ الثَّالِثَةِ سَجْدَةً وَمِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَةً؛ فَتَحْصُلُ لَهُ رَكْعَتَانِ الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بِالرَّابِعَةِ فَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ تَمَامِ صَلَاتِهِ
فَلَوْ تَرَكَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ لَا يَدْرِي كَيْفَ تَرَكَهُنَّ، فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الثَّالِثَةِ سَجْدَتَيْنِ وَمِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَتَيْنِ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ، وَأَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ مِنَ الْأُولَى سَجْدَةً وَأَتَى بِالثَّانِيَةِ كَامِلًا وَلَمْ يَأْتِ فِي الثَّالِثَةِ بِسُجُودٍ أَصْلًا وَتَرَكَ مِنَ الرَّابِعَةِ سَجْدَةً فَيَحْصُلُ لَهُ رَكْعَتَانِ إِلَّا سَجْدَةً الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَرُكُوعِ الثَّالِثَةِ مَعَ سَجْدَةٍ مِنْ سَجْدَتَيِ الرَّابِعَةِ فَيَأْتِي بِسَجْدَةٍ تَمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ تَمَامِ صَلَاتِهِ، ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا وَغَيْرِهِ فِي الْخَمْسِ وَالسِّتِّ وَمَا زَادَ
وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَ قَبْلَ سَلَامِهِ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَةً لُفِّقَ لَهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ الْأُولَى مَجْبُورَةٌ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةُ مَجْبُورَةٌ بِالرَّابِعَةِ وَإِنَّمَا احْتُسِبَ لَهُ بِسُجُودِ الرَّابِعَةِ وَإِنْ فَعَلَهَا نَاسِيًا، لِأَنَّهُ فَعَلَهَا قَاصِدًا بِهَا الْفَرِيضَةَ نَاسِيًا أَنَّهَا رَابِعَةٌ فَلِذَلِكَ مَا حُسِبَتْ لَهُ مِنْ فَرِيضَةٍ وَكَانَتْ عَمَّا تَرَكَهُ بِسَهْوِهِ، وَلَكِنْ لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ تَرَكَ مِنْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً وَكَانَ قَدْ سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ سَجْدَةً لَمْ تَنُبْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ عَنْ سَجْدَةِ الْفَرْضِ، لِأَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ سُنَّةٌ غَيْرُ رَاتِبَةٍ فِي الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَنُبْ عَنِ الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ فِي صَلَاتِهِ سَجْدَتَيْنِ وَكَانَ قَدْ سَجَدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ لِلسَّهْوِ سَجْدَتَيْنِ لَمْ تَنُبْ عَنْ فَرْضِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ سُجُودِ السَّهْوِ سُنَّةً مَقْصُودَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَنُوبَ عَنِ الْفَرْضِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ شَكَّ هَلْ سَهَا أَمْ لَا؟ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا شَكَّ هَلْ سَهَا فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا زَائِدًا مِثْلَ كَلَامٍ، أَوْ سَلَامٍ، أَوْ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ، أَوْ سَجَدَ سَجْدَةً زَائِدَةً أَوْ قَامَ إِلَى خَامِسَةٍ؟ فَشَكُّهُ مُطْرَحٌ، وَمَا تَوَهَّمَهُ مِنَ السَّهْوِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، وَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ " وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا " فَأَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ عَلَى يَقِينِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ أَوْ فِي الطَّلَاقِ، أَوْ فِي الْعِتْقِ طُرِحَ شَكُّهُ، وَبُنِيَ عَلَى الْيَقِينِ أَمْرُهُ كَذَلِكَ إِذَا شَكَّ فِي السَّهْوِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ نَظَرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ جَهِلَ جَوَازَهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَيَسْجُدُ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ لِأَجْلِ مَا فَعَلَهُ مِنْ سُجُودِ السَّهْوِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّكُّ هَلْ أَتَى بِالتَّشَهُّدِ الْأُولَى، أَوْ هَلْ قَنَتَ فِي الصُّبْحِ؟ أَوْ هَلْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَمْ لَا؟ أَوْ هَلْ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ؟(2/223)
فَإِنَّهُ يَطْرَحُ الشَّكَّ وَيَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِي فِعْلِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُطْرَحًا وَالْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ وَاجِبٌ، وَالْيَقِينُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا شَكَّ بِالْإِتْيَانِ بِهِ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَيْقَنَ السَّهْوَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ سَجَدَ للسهو أم لا؟ سجدهما وإن شك هل سجد سجدة أو سجدتين سجد أخرى "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ تَيَقَّنَ أَنَّهُ أَتَى فِي صَلَاتِهِ بِمَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ مِثْلُ سَلَامٍ، أَوْ كَلَامٍ، أَوْ تَرْكِ تَشَهُّدٍ أَوْ قُنُوتٍ، ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَتَى بِسُجُودِ السَّهْوِ لِأَجْلِهِ أَمْ لَا؟ فَهَذَا شَكٌّ حَصَلَ في نصان فَعَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ سَجَدَ إِحْدَى السَّجْدَتَيْنِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهَا لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ فِعْلِهَا
(فَصْلٌ)
: وَلَوْ سَهَا فِي سُجُودِ السَّهْوِ كَأَنْ سَجَدَ إِحْدَى السَّجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ أَوْ قَامَ سَاهِيًا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي حُكْمِ هَذَا السَّهْوِ، وَلَكِنْ مَذْهَبُ سَائِرِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ أنَّهُ لَا حُكْمَ لِهَذَا السَّهْوِ؛ بَلْ يَأْتِي بِالسَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَيُسَلِّمُ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ نَفْسَهُ جُبْرَانٌ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى جُبْرَانٍ كَصَوْمِ الْمُتَمَتِّعِ لَمَّا كَانَ جُبْرَانًا لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى جُبْرَانٍ فِي تَأْخِيرِهِ وَلَزِمَهُ ذَلِكَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجُبْرَانٍ
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَحْدَهُ: يَسْجُدُ لِهَذَا السَّهْوِ سَجْدَتَيْنِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمُ السَّهْوِ فِي غَيْرِهِ فَتَكُونُ السَّجْدَةُ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ نَائِبَةً عَنِ السَّهْوِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي سُجِدَتِ الثَّانِيَةُ نَائِبَةً عَنِ السَّهْوِ الثَّانِي، وَنَظِيرُهُ الْمُعْتَدَّةُ إِذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ بِشُبْهَةٍ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا قُرْءٌ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ فَالْقُرْءُ الْأَوَّلُ نَائِبٌ عَنِ الْعِدَّةِ الْأُولَى، وَالثَّانِي نَائِبٌ عَنِ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا التَّشْبِيهُ يَصِحُّ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْحُكْمِ، فَأَمَّا مَعَ فَسَادِ مَا ذَكَرْنَا فَلَا، فَأَمَّا إِذَا سَهَا بعد فراغه من سجود السهو قبل سَلَامِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا مُحْتَمَلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ عَلَيْهِ لِلْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّ السَّهْوَ لَمْ يَقَعْ فِي الْجُبْرَانِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ جُبْرَانِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَكَانَ بِالسَّاهِي قبل سجوده أشبه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ سَهَا سَهْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا سَجْدَتَا السَّهْوِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَثُرَ سَهْوُهُ فِي صَلَاتِهِ فَسَجْدَتَا السَّهْوِ تَنُوبُ عَنْ جَمِيعِ سَهْوِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ لِكُلِّ سهو سجدتان(2/224)
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ السَّهْوُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ نَابَتِ السَّجْدَتَانِ عَنْ جَمِيعِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ؛ وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ "، وَلِأَنَّهُ جُبْرَانٌ لَمْ يَتَدَاخَلْ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَدَاخَلَ جُبْرَانُهُ كَالنَّقْصِ الْمَجْبُورِ فِي الْحَجِّ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ نَاسِيًا، وَتَكَلَّمَ نَاسِيًا، وَمَشَى نَاسِيًا، ثَمَّ سَجَدَ لِكُلِّ ذَلِكَ سَجْدَتَيْنِ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لَمَّا أُخِّرَ عَنْ سَبَبِهِ وَجُعِلَ مَحَلُّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ نِيَابَتِهِ عَنْ جَمِيعِ السَّهْوِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَوْ وَجَبَ لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ لَوَجَبَ أَنْ يُفْعَلَا عُقَيْبَ السَّهْوِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ لَمَّا تَكَرَّرَ جُعِلَ مَحَلُّهُ عُقَيْبَ سَبَبِهِ، فَلَمَّا كَانَ سُجُودُ السَّهْوِ مُخَالِفًا لَهُ فِي مَحَلِّهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لَهُ فِي حُكْمِهِ
وَأَمَّا حَدِيثُ ثَوْبَانَ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ لِكُلِّ سَهْوٍ وَقَعَ فِي الصَّلَاةِ سَجْدَتَانِ، لِأَنَّ " كُلَّ " لَفْظَةٍ تَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَسْوِيَةُ الْحُكْمِ بَيْنَ قَلِيلِ السَّهْوِ وَكَثِيرِهِ، وَصِغَرِهِ وَكِبَرِهِ فِي أَنَّ فِيهِ سُجُودَ السَّهْوِ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنَّمَا تَكَرَّرَ جُبْرَانُهُ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ عُقَيْبَ سَبَبِهِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الجبر أن الواحد نائباً عَنْ جَمِيعِهِ، وَلَمَّا كَانَ سُجُودُ السَّهْوِ مُؤَخَّرًا عَنْ سَبَبِهِ كَانَ نَائِبًا عَنْ جَمِيعِهِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا سَهَا عَنْهُ مِنْ تَكْبِيرٍ سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، أَوْ ذِكْرٍ فِي رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ، أَوْ فِي جَهْرٍ فِيمَا يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ، أَوْ أَسَرَّ فِيمَا يَجْهَرُ فَلَا سُجُودَ لِلسَّهْوِ إِلَّا فِي عَمَلِ الْبَدَنِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
أَمَّا قَصْدُ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانَ مَا يَجِبُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَجُمْلَتُهُ ضَرْبَانِ:
أحدهما: ما وجب لزيادة، فَمِثْلُ أَنْ يَتَكَلَّمَ نَاسِيًا، أَوْ يَرْكَعَ رُكُوعَيْنِ، أَوْ يَقُومَ إِلَى خَامِسَةٍ أَوْ يَتَشَهَّدَ فِي ثَالِثَةٍ نَاسِيًا فِي كُلِّ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ
أَصْلُهُ قِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ
وَأَمَّا مَا وَجَبَ لِنُقْصَانٍ فَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ، وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ رُكْنًا مفروضاً
" قراءة الْفَاتِحَةِ "، وَالرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ، وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، فَأَمَّا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ فَرُكْنٌ مَفْرُوضٌ غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ وَالْإِحْرَامُ، لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ تَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الصلاة(2/225)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مَسْنُونًا مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَلَيْسَ يُمْنَعُ لِمَحَلِّهِ، وَذَلِكَ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، وَالْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ، وَالْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في التشهد الأولى فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: سُنَّةٌ فَيَسْجُدُ لِتَرْكِهَا سُجُودَ السَّهْوِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ بِسُنَّةٍ فَلَا سُجُودَ لِتَرْكِهَا
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ هَيْئَةً لِفِعْلٍ، أَوْ تَبَعًا لِمَحَلٍّ فَأَمَّا مَا كَانَ تَبَعًا لِمَحَلٍّ، كَالتَّوَجُّهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ، وَقِرَاءَةِ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَتَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالدُّعَاءِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَهَذَا كُلُّهُ تَبَعٌ لِمَحَلِّهِ، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ، وَمَا كَانَ هَيْئَةً لِفِعْلٍ كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَوَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَالِافْتِرَاشِ فِي الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ، وَالتَّوَرُّكِ فِي الْجُلُوسِ الثَّانِي، وَالْجَهْرِ فِيمَا يُسَرُّ وَالْإِخْفَاءِ فِيمَا يُجْهَرُ، وَهَذَا كُلُّهُ وَنَظَائِرُهُ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ، وَوَافَقَنَا أبو حنيفة فِي جَمِيعِهِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَوْجَبَ فِيهَا سُجُودَ السَّهْوِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَالْجَهْرُ فِيمَا يُسَرُّ، وَالْإِسْرَارُ فِيمَا يُجْهَرُ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي إِمَامًا وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ فِي تَرْكِ تَكْبِيرَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ ثَوْبَانَ " لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ "
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا سُجُودَ فِي الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ رِوَايَةُ أَبِي قَتَادَةَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَكَانَ يسمع أحياناً للآية الآيتين "
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ فِيمَا يُسَرُّ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَمَّا فَرَغَ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: " فَلَا بَأْسَ إِذًا "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَارَ فِيمَا يُجْهَرُ لَا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ، وَلِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْقِرَاءَةِ فَاقْتَضَى أَنْ لَا يُوجِبَ سُجُودَ السَّهْوِ كَالْمُنْفَرِدِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا سُجُودَ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ هُوَ أَنَّهُ تَكْبِيرٌ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَ فِيهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَقِيَاسًا عَلَى تَكْبِيرَاتِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنْ لَا سُجُودَ في قراءة السورة هو أنه ذكر مفعول فِي حَالِ الِانْتِصَابِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَوَجَبَ أن لا يلزم فِيهِ سُجُودُ السَّهْوِ كَالتَّوَجُّهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ، فَأَمَّا حَدِيثُ ثَوْبَانَ فَمَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى سَهْوٍ دُونَ سَهْوٍ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عليه "، فأما قوله الشَّافِعِيِّ: " وَلَا سُجُودَ إِلَّا فِي عَمَلِ الْبَدَنِ ": أَرَادَ بِهِ لَا سُجُودَ فِي(2/226)
الذِّكْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ مَقْصُودًا بِهِ عَمَلُ الْبَدَنِ كَالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْقُعُودَ فِيهِ مِنْ أَجْلِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ ذَكَرَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ أَنْ سَلَّمَ فإن ذكر قَرِيبًا أَعَادَهَا وَسَلَّمَ وَإِنْ تَطَاوَلَ لَمْ يُعِدْ "
قال الماوردي: وأصله هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ عِنْدَنَا سُنَّةٌ
وَقَالَ أبو حنيفة: وَاجِبٌ، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ تَرْكُهُ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ دَاوُدُ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ سُجُودُ السَّهْوِ وَاجِبٌ، فَإِنْ تَرَكَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ "، وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ جُبْرَانُ نَقْصٍ فِي عِبَادَةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا كَالْحَجِّ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليبن عَلَى الْيَقِينِ وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ تَامَّةً كَانَتِ الرَّكْعَةُ وَالسَّجْدَتَانِ نَافِلَتَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً كَانَتْ تَمَامًا لِصَلَاتِهِ وَكَانَتِ السَّجْدَتَانِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ "
وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَنُوبُ عَنِ الْمَسْنُونِ دُونَ الْمَفْرُوضِ، وَالْبَدَلُ فِي الْأُصُولِ عَلَى حَكْمِ مُبْدَلِهِ أَوْ أَخَفُّ، فَلَمَّا كَانَ الْمُبْدَلُ مَسْنُونًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ مُسَنُونًا وَلِأَنَّهُ سُجُودٌ ثَبَتَ فِعْلُهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فِي الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا كَسُجُودِ التِّلَاوَةِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ " فَظَاهِرُهُ الْأَمْرُ، لَكِنَّ صَرْفَنَا عَنْهُ بِصَرِيحِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ نَفْلًا
أما الْحَجُّ فَلَمَّا وَجَبَ جُبْرَانُهُ لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْ وَاجِبٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ، فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ سُجُودِ السَّهْوِ مَسْنُونًا فَمَحَلُّهُ فِي الِاخْتِيَارِ قَبْلَ السَّلَامِ، فَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ فِعْلِهِ عَامِدًا، أَوْ نَاسَيًا ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا سَجَدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَأَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ: لَا يَسْجُدُهُمَا وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ جُبْرَانٌ لِلصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ صُلْبِ صَلَاتِهِ ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ لَمْ يَصِحَّ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ فَلِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سُجُودِ السَّهْوِ أَوْلَى
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ يَسْجُدُهُمَا، وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ قِيَاسًا عَلَى جُبْرَانِ الْحَجِّ وَرَكْعَتِيِ الطَّوَافِ، لِأَنَّ الدِّمَاءَ الْوَاجِبَةَ فِي الْحَجِّ زَمَانُهَا يَوْمُ النَّحْرِ ثُمَّ لَمْ تَسْقُطْ بِالتَّأْخِيرِ كَذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ(2/227)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ سَهَا خَلْفَ إِمَامِهِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا سَقَطَ حُكْمُ سَهْوِهِ خَلْفَ إِمَامِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ " يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - ضُمَنَاءُ السَّهْوِ؛ وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ شَمَّتَ عَاطِسًا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فما فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِسَهْوِهِ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ مَسْنُونٌ، وَالْإِمَامُ قَدْ يَتَحَمَّلُ عَنِ المأموم المسنون ألا ترى أن المأمون لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَصَلَّى بَعْدَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ كَانَتْ لَهُ ثَانِيَةً، ثُمَّ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّشَهُّدِ وَاتِّبَاعُ إِمَامِهِ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ قَدْ يَحْمِلُ عَنْهُ التَّشَهُّدَ فَكَذَلِكَ فِي السَّهْوِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا لَمْ يَحْمِلْ عَنْهُ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ ركناً واجباً كان يتحمل السهو أولى
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ سَهَا إِمَامُهُ سَجَدَ مَعَهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
وَهُوَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا سَهَا تَعَلَّقَ سَهْوُهُ بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَلَزِمَهُ السُّجُودُ مَعَهُ
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الإمام ضامن فما صنع فاصنعوا "
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي سُجُودِ الْفَرْضِ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَهَا فِي صَلَاةٍ فَسَجَدَ لِسَهْوِهِ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ سَهْوُهُ بِالْإِمَامِ جَازَ أَنْ يُلْحِقَهُ سَهْوَ الْإِمَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ عَنْهُ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ بِالِائْتِمَامِ لَزِمَهُ بِالِائْتِمَامِ مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ، وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَهُ سَاجِدًا، وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مَحْمُولَةٌ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ فِي حُكْمِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ سَهَا خَلْفَ إِمَامِهِ سَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ السَّهْوِ لِكَمَالِ صَلَاةِ إِمَامِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَدْخُلَ النَّقْصُ فِي صَلَاتِهِ بِدُخُولِ النَّقْصِ فِي صَلَاةِ إمامه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ إِمَامُهُ سَجَدَ مِنْ خَلْفِهِ "
وَهَذَا كَمَا قَالَ
إِذَا سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِهِ إِمَّا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، فَعَلَى الْمَأْمُومِينَ سُجُودُ السَّهْوِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَسْجُدُ الْمَأْمُومُ إِذَا لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ، وبه قال المزني، وأبو حفص ابن الْوَكِيلِ مِنْ أَصْحَابِنَا
وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِأَنْ قَالَ الْمَأْمُومُ لَمْ يَسْهُ فِي صَلَاتِهِ وَإِنَّمَا سَجَدَ تَبَعًا لِإِمَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْجُدِ الْإِمَامُ سَقَطَ حكم الاتباع(2/228)
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْوَكِيلِ بِأَنْ قَالَ: الْمَأْمُومُ قَدْ تَرَكَ الْمَسْنُونَ إِذَا تَرَكَهُ الْإِمَامُ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ الْإِمَامَ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ قَبْلَ التَّشَهُّدِ قَامَ الْمَأْمُومُ مَعَهُ وَلَمْ يَتَشَهَّدْ، فَكَذَلِكَ يَتْرُكُ سُجُودَ السَّهْوِ لِتَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ، وَهَذَا خطأ
والدليل على خطأه أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَمُتَّصِلَةٌ بِهَا فِي إِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَسُقُوطِ سَهْوِهِ بِكَمَالِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَكَذَلِكَ إِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ الدَّاخِلُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ دَاخِلًا فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، وَإِذَا كَانَ النَّقْصُ دَاخِلًا فِي صَلَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ جُبْرَانُهُ بِسُجُودِ السَّهْوِ كَمَا يَلْزَمُهُ جُبْرَانُهُ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِتَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ، فَأَمَّا قَوْلُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يَسْجُدُ مَعَ إِمَامِهِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ يَسْجُدُ معه لجبران صلاته من النقض الدَّاخِلِ عَلَيْهَا مِنْ صَلَاةِ إِمَامِهِ فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُ بها
أما قَوْلُ ابْنِ الْوَكِيلِ أَنَّهُ يَتْرُكُ التَّشَهُّدَ اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ فَكَذَلِكَ سُجُودُ السَّهْوِ
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصَّلَاةِ فَرْضٌ، وَالتَّشَهُّدَ نَفْلٌ فَلَمْ يَجُزِ الْفَرْضُ بِالنَّفْلِ، وَلِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الِاتِّبَاعِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِيمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ جُبْرَانِ صَلَاتِهِ تَرْكٌ لِفَرْضِ اتِّبَاعِهِ فَلِذَلِكَ أَتَى بِهِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " فَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَهُ إِمَامُهُ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ سَجَدَهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ اتِّبَاعًا لِإِمَامِهِ لَا لِمَا يبقى من صلاته (قال المزني) القياس على أصله أنه إنما أسجد معه ما ليس من فرضي فيما أدركت معه اتباعاً لفعله فإذا لم يفعل سقط عني اتباعه وكل يصلي عن نفسه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ إِمَامٍ، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ فَسَهَا الْإِمَامُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا السَّهْوُ مُتَعَلِّقًا بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْإِمَامُ حِينَ تَمَّمَ صَلَاتَهُ مِمَّنْ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ قَامَ الْمَأْمُومُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَأَتَى بِهِ فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يتبع فِي سُجُودِهِ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِنْ تَبِعَهُ فَسَجَدَ مَعَهُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ سَجَدَ مَعَهُ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِبَاقِي صَلَاتِهِ، فَإِذَا تَمَّمَ صَلَاتَهُ سَجَدَ حِينَئِذٍ لِلسَّهْوِ قَبْلَ سَلَامِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ قَدْ سَهَا فِيمَا قَضَاهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَجْدَتِيِ السَّهْوِ تُجْزِئُهُ عَنْ سَهْوِهِ وَسَهْوِ إِمَامِهِ، لِأَنَّ جَمِيعَ السَّهْوِ يُجْبَرُ بِسَجْدَتَيْنِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ لِسَهْوِ إِمَامِهِ سَجْدَتَيْنِ فَيَأْتِي بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، لِأَنَّهُمَا سَهْوَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَمْ يَتَدَاخَلَا كَالْحُدُودِ إِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ تَدَاخَلَتْ، وَإِذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسَيْنِ لَمْ تَتَدَاخَلْ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ(2/229)
يَكُونَ تَغَايُرُهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا لِزِيَادَةٍ، وَالْآخَرُ لِنُقْصَانٍ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَدَاخُلِ السَّهْوِ مَعَ التَّغَايُرِ دَلِيلٌ عَلَى تَدَاخُلِهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ فَعَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي السُّجُودِ فَيَسْجُدَ مَعَهُ فَإِذَا سَجَدَ وَسَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ الْمَأْمُومُ فَقَضَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ هَلْ يُعِيدُ سُجُودَ السَّهْوِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، لَا يَقْضِي، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ إِنَّمَا لَزِمَهُ بِاتِّبَاعِ إِمَامِهِ، فَإِذَا سَجَدَ مَعَهُ سَقَطَ عَنْهُ حُكْمُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعَادَ السُّجُودَ كَأَنْ قَدْ جَبَرَ التَّشَهُّدَ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لَأَنَّ جُبْرَانَ السَّهْوِ سَجْدَتَانِ لَا غَيْرَ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ سُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ تَشَهُّدِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ، لِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ قَدْ لَزِمَهُ بِسَهْوِ إِمَامِهِ، وَمَحَلُّهُ آخِرَ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ فِعْلُهُ فِي مَحَلِّهِ، وَمَا فَعَلَهُ خَلْفَ إِمَامِهِ، وَإِنَّمَا فِعْلُهُ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ لَهُ وَقَدْ يَتْبَعُ إِمَامَهُ فِيمَا لَا يَحْتَسِبُ لَهُ كَمَا لَوْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَهَا الْمَأْمُومُ فِيمَا قَضَاهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فإن قيل: لا يعود سُجُودَ السَّهْوِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ لِسَهْوِهِ سَجْدَتَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ يُعِيدُ سُجُودَ السَّهْوِ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْجُدُ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ
وَالثَّانِي: سَجْدَتَيْنِ
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ فَسَهَا فِيهَا ثُمَّ عَلَّقَ الْمَأْمُومُ صَلَاتَهُ بِصَلَاتِهِ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُ سَهْوِ الْإِمَامِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُ هَذَا السَّهْوِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ سَهْوِ الْإِمَامِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَسْقُطُ عَنْهُ السَّهْوُ بِالِائْتِمَامِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَوِ اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ فَصَلَّى رَكْعَةً وَسَهَا فِيهَا ثُمَّ عَلَّقَ صَلَاتَهُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حُكْمُ هَذَا السَّهْوِ بِاتِّبَاعِ إِمَامِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ سَهْوُ إِمَامِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ قَبْلَ السَّلَامِ سَجَدَ مَعَهُ اتِّبَاعًا لَهُ، فَإِذَا قَامَ مَعَهُ لِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ لَمْ يُعِدْ، وَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ بَعْدَ السَّلَامِ لَمْ يَسْجُدْ مَعَهُ فِي الْحَالِ وَلَا فِي آخِرِ الصَّلَاةِ بِحَالٍ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمُ هَذَا السَّهْوِ، لِأَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ صَلَاتَهُ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِصَلَاتِهِ الْحُكْمُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَلَمَّا كَانَ النَّقْصُ دَاخِلًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ سَهْوِ الْإِمَامِ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَهُ فَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ بَعْدَ السَّلَامِ سَجَدَ الْمَأْمُومُ بَعْدَ قَضَاءِ ما عليه، وإن سجد قبل السلام سجد مَعَهُ ثُمَّ فِي الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ، فَأَمَّا إِذَا دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ وَقَدْ سَبَقَهُ بِرَكْعَةٍ فَصَلَّى الْإِمَامُ خَمْسًا سَاهِيًا فَتَبِعَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِسَهْوِهِ أَجْزَأَتِ الْمَأْمُومَ صَلَاتُهُ، فَإِنْ تَبِعَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ،(2/230)
وَلَوْ أَنَّ إِمَامًا مُسَافِرًا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ يَنْوِي الْقَصْرَ فَصَلَّى أَرْبَعًا سَاهِيًا لَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزَّائِدِ فِي صَلَاتِهِ، وَلَوْ ذَكَرَ سَهْوَهُ وَهُوَ فِي الثَّالِثَةِ عَادَ جَالِسًا وَتَشَهَّدَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ فَعَلَيْهِمُ اتِّبَاعُهُ إِذَا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ مَا لَمْ يَعْلَمُوا بِخِلَافِ قِيَامِهِ إِلَى الْخَامِسَةِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قِيَامِهِ إِلَى الثَّالِثَةِ أنه أحدث فيه الإتمام، فإن علموا أنه قام ساهياً غيرنا وإتمام صَلَاتِهِ لَمْ يَتْبَعُوهُ، فَإِنْ تَبِعُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ فَصَلَاتُهُمْ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا مُسَافِرِينَ فَرْضُهُمْ رَكْعَتَيْنِ، أَوْ مُقِيمِينَ فَرْضُهُمْ أَرْبَعًا وَصَارُوا فِي اتِّبَاعِهِمْ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ كَاتِّبَاعِهِمْ لَهُ لَوْ قام إلى الخامسة
(مسألة)
: قال المزني: " سمعت الشافعي رحمه الله يقول إذا كانت سجدتا السهو بعد التسليم تَشَهَّدَ لَهُمَا وَإِذَا كَانَتَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَجْزَأَهُ التشهد الأول (قال الشافعي) فإذا تكلم عامداً بطلت صلاته وإن تكلم ساهياً بنى وسجد للسهو لأن أبا هريرة رضي الله عنه روى عن رسول الله أنه تكلم بالمدينة ساهياً فبنى وكان ذلك دليلاً على ما روى ابن مسعود من نهيه عن الكلام في الصلاة بمكة لما قدم من أرض الحبشة وذلك قبل الهجرة وأن ذلك على العمد (قال الشافعي) وأحب سجود الشكر ويسجد الراكب إيماء والماشي على الأرض ويرفع يديه حذو منكبيه إذا كبر ولا يسجد إلا طاهراً (قال المزني) وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه رأى نغاشاً فسجد شكراً لله وسجد أبو بكر حين بلغه فتح اليمامة شكراً (قال المزني) النغاش الناقص الخلق "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ إِنْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ أَجْزَأَهُ التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ، فَأَمَّا إِنْ سَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَجَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ بَعْدَ سُجُودِهِ وَيُسَلِّمُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ، أَوْ كَانَ يَرَاهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَأَخَّرَهُ سَاهِيًا
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنْ كَانَ يَرَى سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ يَرَاهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَأَخَّرَهُ سَاهِيًا لَمْ يَتَشَهَّدْ وَلَمْ يُسَلِّمْ، بَلْ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ لَا غَيْرَ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِرِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سلم فِي ثَلَاثٍ مِنَ الْعَصْرِ نَاسِيًا حَتَى أَخْبَرَهُ " الْخِرْبَاقُ " فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَسَلَّمَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَتَشَهَّدَ، ثُمَ يُسَلِّمُ، وَلِأَنَّ مِنْ حُكْمِ سُجُودِ السَّهْوِ أَنْ يَكُونَ بِتَشَهُّدٍ وَسَلَامٍ فَوَجَبَ أَنْ يَصِلَهُ بِذَلِكَ إِذَا فَعَلَهُ بَعْدَ السَّلَامِ، فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ، وَأَمَّا سُجُودُ الشُّكْرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -(2/231)
(بَابُ أَقَلِّ مَا يُجْزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ أَنْ يُحْرِمَ وَيَقْرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ يَبْتَدِئُهَا بِ " بِسْمِ الله الرحمن الرحيم " إن أحسنها ويركع حتى يطمئن راكعاً ويرفع حتى يعتدل قائماً ويسجد حتى يطمئن ساجداً على الجبهة ثم يرفع حتى يعتدل جالساً ثم يسجد الأخرى كما وصفت ثم يقوم حتى يفعل ذلك في كل ركعة ويجلس في الرابعة ويتشهد ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويسلم تسليمة يقول: " السلام عليكم " فإذا فعل ذلك أجزأته صلاته وضيع حظ نفسه فيما ترك "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا أَفْرَدَ الشَّافِعِيُّ فُرُوضَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَإِنْ ذَكَرَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي جُمْلَةِ سُنَنٍ وَهَيْئَاتٍ فَأَحَبَّ إِفْرَادَهَا بِاخْتِصَارٍ وَإِحْصَاءٍ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الِاحْتِيَاطِ وَالتَّعْرِيفِ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَغْفَلَ ذِكْرَ النِّيَّةِ فِي الْفُرُوضِ وَهِيَ الْعُمْدَةُ وَالْمَدَارُ؟ قِيلَ: لِأَصْحَابِنَا عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَصَدَ أَعْمَالَ الصَّلَاةِ الَّتِي تُفْعَلُ بِجَوَارِحِ الْبَدَنِ لَا جَارِحَةِ الْقَلْبِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ: وَأَقَلُّ مَا يُجَزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ النِّيَّةَ مَذْكُورَةٌ فِيمَا أَوْرَدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ: وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ عَمَلِ الصَّلَاةِ أَنْ يُحْرِمَ، وَلَا يَكُونُ مُحْرِمًا قَطُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ فُرُوضَ الصَّلَاةِ ضَرْبَانِ: شَرَائِطُ وَأَفْعَالٌ
فَالشَّرَائِطُ مَا يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، وَالْأَفْعَالُ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّلَاةِ
(شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ)
فَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَخَمْسَةٌ:
الأول: طهارة الأعضاء من نجس وحدث
الثاني: ستر العورة بلباس طاهر
الثالث: فعل الصلاة على مكان طاهر
الرابع: العلم بدخول الوقت
الخامس: استقبال القبلة(2/232)
وأما أفعال الصلاة وفرائضها خمس عشرة:
الأول والثاني: تكبيرة الإحرام مع النية
الثالث: القيام
الرابع: قراءة الفاتحة يبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم
الخامس: الركوع
السادس: الطمأنينة فيه
السابع: الرفع من الركوع
الثامن: الاعتدال فيه
التاسع: السجود
العاشر: الطمأنينة فيه
الحادي عشر: الجلسة بين السجدتين
الثاني عشر: الطمأنينة فيها
الثالث عشر: التشهد الأخير والقعود فيه
الرابع عشر: الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الخامس عشر: التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى، وَمَا سِوَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَسُنَنٌ وَهَيْئَاتٌ، فَمَنْ أَتَى بِهَا فَقَدْ فَعَلَ فَضْلًا وَحَازَ أَجْرًا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ ضَيَّعَ حَظَّ نَفْسِهِ فِي رَغْبَتِهِ مِنْ طَلَبِ الْفَضْلِ، وَصَلَاتُهُ مجزئة والله تعالى أعلم
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ أُمَّ الْقُرْآنِ فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُكَبِّرُهُ مَكَانَ أُمِّ الْقُرْآنِ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ غَيْرَ أُمِّ الْقُرْآنِ قَرَأَ بِقَدْرِهَا سَبْعَ آيَاتٍ لَا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهَا قَرَأَ غَيْرَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاتِهِ بَدَلًا مِنَ الْفَاتِحَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَرَأَ سَبْعَ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: سَبْعُ آيَاتٍ مِثْلُ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ، وَأَعْدَادِ حُرُوفِهَا لِيَكُونَ الْبَدَلُ مُسَاوِيًا لِمُبْدَلِهِ، وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى أَعْدَادِ الْآيِ وَأَعْدَادِ الْحُرُوفِ، فَلَمَّا لَمَّ يَجُزِ النُّقْصَانُ مِنْ عَدَدِ الْآيِ لَمْ يَجُزِ النُّقْصَانُ مِنْ عَدَدِ الْحُرُوفِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعَدَدِ الْآيِ دُونَ الْحُرُوفِ، فَإِذَا قَرَأَ سَبْعَ آيَاتٍ طِوَالًا كُنَّ أَوْ قِصَارًا أَجْزَأَتْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَرَأَ آيَةً عَدَدُ حُرُوفِهَا كَعَدَدِ حُرُوفِ الْفَاتِحَةِ لَمْ يَجُزْ فَعُلِمَ أَنَّ عَدَدَ الْآيِ مُعْتَبَرٌ دُونَ عَدَدِ الْأَحْرُفِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِهِمَا جميعاً.(2/233)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَاسْتُحِبَّ أَنْ يَقْرَأَ ثَمَانِيَ آيَاتٍ لِتَكُونَ الْآيَةُ الثَّامِنَةُ بَدَلًا مِنَ السُّورَةِ "، فَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُكَرِّرُهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفَاتِحَةِ أَوْكَدُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَاتِحَةُ الْكِتَابِ عِوَضٌ عَنِ الْقُرْآنِ " فَلَمَّا جَعَلَهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ عِوَضًا عَنِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْقُرْآنَ عِوَضًا عَنْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ تَكْرَارَهَا أَفْضَلُ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقْرَأُ الْآيَةَ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَيَقْرَأُ مَعَهَا سِتَّ آيَاتٍ مِنْ غَيْرِهَا
وَهَذَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَدَلٌ مِنَ الْفَاتِحَةِ إِذَا لَمْ يُحْسِنْهَا فَوَجَبَ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ بعضها أن يكون بدل مِمَّا يُحْسِنُهُ مِنْهَا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْفَاتِحَةَ وَلَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَبِّحَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَيَحْمَدَهُ بَدَلًا مِنَ الْقِرَاءَةِ
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الذِّكْرِ، وَهَذَا خَطَأٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ رِفَاعَةَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَلْيَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ لِيُكَبِّرْ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَقْرَأْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَلْيُكَبِّرْهُ، وَلْيَرْكَعْ حَتَى يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا " وَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْفَى أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَجِدَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ فَعَلِّمْنِي مَا يَجْزِينِي مِنَ الْقِرَاءَةِ فَقَالَ: " قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " فَقَالَ: هَذَا لِلَّهِ فَمَا لِي فَقَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي، وَارْزُقْنِي، وَعَافِنِي فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى يَدَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَمَّا هَذَا فَقَدْ مَلَأَ يَدَيْهِ خَيْرًا "
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بَدَلًا مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَعْرَابِيَّ ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَقُولُ ذَلِكَ بَعْدَ كَلِمَاتِ الْفَاتِحَةِ وَحُرُوفِهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ ذَلِكَ تَقُومُ مَقَامَ آيَةٍ وَهِيَ خَمْسُ كَلِمَاتٍ تَقُومُ مَقَامَ خَمْسِ آيَاتٍ فَيَأْتِي بِكَلِمَتَيْنِ وَيُجْزِئُهُ، فَلَوْ كَانَ يُحْسِنُ آيَةً من القرآن ففيه وجهان:
أحدهما: أن يُكَرِّرُهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ
وَالثَّانِي: يَقْرَأُ الْآيَةَ ثُمَّ يُتَمِّمُ ذَلِكَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ، فَلَوْ لَمْ يُحْسِنِ التَّكْبِيرَ بِالْعَرَبِيَّةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُسَبِّحَ وَيُكَبِّرَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَعَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا تَعْلِيمُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ تَعْلِيمُ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الشَّيْءِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصِّيَامِ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَكَذَلِكَ إِذَا قَدَرَ(2/234)
عَلَى تَعْلِيمِ الْفَاتِحَةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَيْهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ سَوَاءٌ طَالَ الزَّمَانُ أَوْ قَصُرَ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعِيدُ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا مِنْ وَقْتِ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّعْلِيمِ إِلَى أَنْ تَعَلَّمَ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُعِيدَ مَا صَلَّى مِنْ وَقْتِ قُدْرَتِهِ إِلَى أَنْ تَعَاطَى التَّعْلِيمَ وَأَخَذَ فِيهِ، لِأَنَّ أَخْذَهُ فِي التَّعْلِيمِ قَدْ أَزَالَ عَنْهُ حُكْمَ التَّفْرِيطِ فَسَقَطَ عَنْهُ إِعَادَةُ مَا صَلَّى فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال: " فَإِنْ تَرَكَ مِنْ أُمِّ الْقُرْآنِ حَرْفًا وَهُوَ فِي الرَّكْعَةِ رَجَعَ إِلَيْهِ وَأَتَمَّهَا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ وَتَطَاوَلَ ذَلِكَ أعاد "
قال الماوردي: وقد مضيت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ وَاسْتَوْفَيْنَا فُرُوعَهَا، فَنَقُولُ: إِذَا تَرَكَ آيَةً مِنَ الْفَاتِحَةِ نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَهَا قَرِيبًا أَعَادَ، وَأَتَى بِهَا وَبِمَا بَعْدَهَا لِمَا عَلَيْهِ مِنْ مُوَالَاةِ الْقِرَاءَةِ، فَلَوْ شَكَّ فِي الْآيَةِ الَّتِي تَرَكَهَا اسْتَأْنَفَ الْقِرَاءَةَ مِنْ أَوَّلِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ أَوَّلَ آيَةٍ مِنْهَا، فَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْآيَةِ الَّتِي تَرَكَهَا وَمَا بَعْدَهَا ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ، فَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ سَلَامِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا أَتَى بِمَا تَرَكَ وَصَلَّى رَكْعَةً كَامِلَةً وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا كَانَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إذا نوى قَطْعَ الْقِرَاءَةِ فَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ فِي غَيْرِهَا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى قطعاً وهو يقرأها أَجَزْأَهُ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ تَغْيِيرُ النِّيَّةِ مُؤَثِّرًا فِيهَا، فَأَمَّا إذا سكت عنها غير ناوٍ قطع الْقِرَاءَةَ فَإِنْ طَالَ سُكُوتُهُ اسْتَأْنَفَ الْقِرَاءَةَ وَإِنْ لَمْ يَطُلْ بَنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ
فَأَمَّا تَشْدِيدُ آيات الفاتحة فهي أَرْبَعَ عَشْرَةَ تَشْدِيدَةً فَإِنْ تَرْكَ التَّشْدِيدَ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمُشَدَّدَةَ تَقُومُ مَقَامَ حَرْفَيْنِ فَإِذَا تَرَكَ التَّشْدِيدَ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ حَرْفًا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، فَإِنْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ هَذَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنْ لَوْ شَدَّدَ الْمُخَفَّفَ جَازَ وَإِنْ أَسَاءَ - وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -(2/235)
(باب طول القراءة وقصرها)
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصُّبْحِ مَعَ أُمِّ القرآن بطوال الْمُفَصَّلِ وَفِي الظُّهْرِ شَبِيهًا بِقِرَاءَةِ الصُّبْحِ وَفِي العصر نحواً مما يقرؤه فِي الْعِشَاءِ وَأُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْعِشَاءِ بسورة الجمعة و {إذا جاءك المنافقون} وَمَا أَشْبَهَهَا فِي الطُّولِ وَفِي الْمَغْرِبِ بالعاديات وما أشبهها "
قال الماوردي: قد ذكرنا أَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالِاخْتِيَارُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الصبح بطوال المفصل
" الطُّورِ " وَ " الذَّارِيَاتِ "، وَ " قَافْ " وَ " الْمُرْسَلَاتِ " وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ فِيهَا بِالْوَاقِعَةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ بِسُورَةِ قافٍ
وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ بِالْمُرْسَلَاتِ
وَرَوَى قُطْبَةُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَرَأَ فِي الصُّبْحِ بِسُورَةِ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى قِصَّةِ مُوسَى وَعِيسَى أَخَذَ بِرُسْغَيْهِ فَرَكَعَ، لِأَنَّ وَقْتَ الصُّبْحِ مُتَّسِعٌ فَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى سُوَرٍ طِوَالٍ لِيُدْرِكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ، فَأَمَّا الظُّهْرُ فَيَقْرَأُ فِيهَا قَرِيبًا مِمَّا هُوَ فِي الصُّبْحِ لَكِنْ دُونَهُ فِي الطُّولِ قَلِيلًا
فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى الظهر فسجد فيها، فقدرنا، ترك السجدة(2/236)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وَنَحْوَهَا، فَأَمَّا الْعَصْرُ فَيَخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا بِأَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا يَقْرَأُ فِي عِشَاءِ الْآخِرَةِ
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الظُّهْرِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَفَى الْعَصْرِ بِأَوْسَطِهَا
فَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَيَخْتَارُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ بالعاديات، وَلِأَنَّ وَقْتَهَا أَضْيَقُ الْأَوْقَاتِ فَلِذَلِكَ اخْتُصَّتْ بِقِصَارِ السُّوَرِ فَأَمَّا عِشَاءُ الْآخِرَةِ فَيَخْتَارُ فِيهَا أَوْسَطَ الْمُفَصَّلِ نَحْوَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ، {وَإِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ مِنْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قرأ فيها " بالشمس وضحاها والليل إذا يغشى "
وهذا كله على طريق الاختيار وكيف ما قَرَأَ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ أَوَاخِرَ السُّوَرِ الطِّوَالِ جَازَ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ قَرَأَ جَمِيعَ السُّورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْآيِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْأَعْرَافِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ(2/237)
(بَابُ الصَّلَاةِ بِالنَّجَاسَةِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةِ مِنْ مسجدٍ وغيره)
قال الشافعي: رحمه الله تعالى: وَإِذَا صَلَّى الْجُنُبُ بِقَوْمٍ أَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَالْعَبَّاسِ " قال المزني " يقول كما لا يجزئ عني فعل إمامي فكذلك لا يفسد علي فساد إمامي ولو كان معناي في إفساده معناه لما جاز أن يحدث فينصرف وأبني ولا أنصرف وقد بطلت إمامته واتباعي له ولم تبطل صلاتي ولا طهارتي بانتقاض طهره "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي إِمَامٍ صَلَّى بِقَوْمٍ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ جُنُبٌ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَحْدَهُ فَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ
وَقَالَ أبو حنيفة: عَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ بِكُلِّ حَالٍ كَالْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ مَعَهُ وغلط عَلَيْهِ فَأَلْزَمَهُ حَدَثَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ عَمَدَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ جُنُبًا فَعَلَيْهِمُ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ صَلَّى بِهِمْ نَاسِيًا فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ وَعَلَى الْإِمَامِ الْإِعَادَةُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ " وَالضَّمَانُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْحَقِّ الْمَضْمُونِ تَعَلُّقًا بِالضَّامِنِ وَالضَّامِنِ تَعَلُّقًا بِالْحَقِّ الْمَضْمُونِ وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا " فَجَعَلَ صَلَاتَهُمْ تَابِعَةً لِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَعُلِمَ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا قَالُوا: وَلِأَنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ مَنْ لَوْ كَانَ عَالِمًا بِحَالِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ جَاهِلًا بِحَالِهِ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا صَلَّى خَلْفَ امْرَأَةٍ، وَهَذَا خَطَأٌ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَأَوْمَأَ إِلَى الْقَوْمِ أَنْ مَكَانَكُمْ ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً، وَصَلَّى بِهِمْ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ فِي صلاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ فَقَالَ لِلْقَوْمِ امْكُثُوا ثُمَّ رَجَعَ وَاغْتَسَلَ وَجَاءَ رَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً
فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَى تَرَوْنِي "
وَالثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِالْوُقُوفِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِحْرَامِهِمْ لَأَمْرَهُمْ بِالْقُعُودِ فَدَلَّ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْوُقُوفِ عَلَى تَقْدِيمِ إِحْرَامِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ روى جابرالبياضي عَنْ سَعِيدِ بْنِ(2/238)
الْمُسَيَّبِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِقَوْمٍ وَهُوَ جُنُبٌ فَأَعَادَ وَأَعَادُوا "، قِيلَ هَذَا مَتْرُوكٌ، وَجَابِرٌ الْبَيَاضِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّا نَقَلْنَا صِحَّةَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ مَعَ بُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ
وَرَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَيُّمَا إِمَامٍ سَهَا فَصَلَّى بِقَوْمٍ وَهُوَ جُنُبٌ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْقَوْمِ مَاضِيَةٌ وَلْيَغْتَسِلْ هُوَ وَيُعِيدُ صَلَاتَهُ "، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِمَامِ: " إِنْ أَتَمَّ فَلَهُ وَلَكُمْ، وَإِنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهِ دُونَكُمْ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ حَالٍ
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ نَظَرَ إِلَى كِسَائِهِ، وَفِيهِ شيءٌ مِنْ دمٍ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَمَرَ بِغَسْلِهِ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ
وَرَوَى كثير من الصَّلْتِ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَخَذَ بِيَدِي فَخَرَجْنَا نَحْوَ الصَّحْرَاءِ، فَلَمَّا صَارَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ نَظَرَ إِلَى ثَوْبِهِ وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَنِيٍّ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِنَّا أَكَلْنَا وَدَكًا فَلَانَتْ مَفَاصِلُنَا فَأَجْنَبْنَا، ثُمَّ غَسَلَهُ وَرَجَعَ فَأَعَادَ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُعِيدُوا وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّهُ هَمَّ بَعْضُهُمْ بِالْإِعَادَةِ فَمَنَعَهُ
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ فَرَأَى فِي ثَوْبِهِ أَثَرَ الِاحْتِلَامِ فَقَالَ: أُرَانِي قَدْ كَبِرْتُ أَحْتَلِمُ وَلَا أَعْلَمُ فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِمَعْنًى انْفَرَدَ بِهِ وَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاةُ غَيْرِهِ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ جُنُبًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بُطْلَانُ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْحَدَثِ يُوجِبُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لَوَجَبَ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحَدَثُ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ فَأَبْطَلَهَا أَنْ تَبْطُلَ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ لِبُطْلَانِ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْحَدَثِ، وَفِي إِجْمَاعِهِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، وَإِنَّ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِالْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ لَا يُبْطِلُ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّ بُطْلَانَ طَهَارَةِ الْإِمَامِ لَا تُوجِبُ فَسَادَ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَدَثِهِ عِنْدَ مُتَابَعَتِهِ كَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ عَلَى طُهْرٍ بِقَوْلِهِ لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الطُّهْرِ بِرُجُوعِهِ كَالْمَرْأَةِ إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ رَجَعَتْ
فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ " فَالْمُرَادُ بِهِ ضَمَانُ الْإِمَامَةِ لَا ضَمَانُ الِائْتِمَامِ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَبَرِ " فَإِنْ أَتَمَّ فَلَهُ وَلَكُمْ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ دُونَكُمْ " فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ دَلَالَةٌ لَهُ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ(2/239)
وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ " فَالْمُرَادُ مَا ظَهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِ دُونَ طَهَارَتِهِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَبَانَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا "
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ قَدْ كُلِّفَ مَعْرِفَةَ حَالِ الْإِمَامِ فِي كَوْنِهِ رَجُلًا، أَوِ امْرَأَةً لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الزِّيِّ وَالْهَيْئَةِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ مَعْرِفَةَ طَهَارَةِ إِمَامِهِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهَا وَعَدَمِ إِمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا، أَلَا ترى الحاكم أن الحكم لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةِ نَفْسَيْنِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُمَا فَاسِقَانِ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ، وَلَوْ بَانَ أَنَّهُمَا امْرَأَتَانِ نَقَضَ حُكْمَهُ، وَإِذَا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ عَمْدِ الْإِمَامِ وَنِسْيَانِهِ فَغَلَطٌ، لِأَنَّ مَا نَقَضَ الطُّهْرَ فَحُكْمُ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ فِيهِ سَوَاءٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَى المأمومين، وإن كان إمامه مُحْدِثًا فَبَانَ حَدَثُ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ مَعَ إِمَامِهِمْ لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ لِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ، وَلَهُمُ الْبِنَاءُ عَلَى الظُّهْرِ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعِينَ سِوَى الْإِمَامِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَأَنْ تَصِحَّ لِإِمَامِهِمْ جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمُ الْجُمُعَةُ وَيَبْنُونَ عَلَى الظُّهْرِ، لِأَنَّ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِالْإِمَامِ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ لَهُ لَمْ تَصِحَّ لَهُمْ
وَالْوَجْهُ الثاني: تصح لهم الجمعة لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَأَنْ تَصِحَّ لِإِمَامِهِمْ جَازَ أَنْ تَصِحَّ لَهُمُ الْجُمُعَةُ وَإِنْ لم تَصِحَّ لِإِمَامِهِمْ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ صَلَّى رَجُلٌ وَفِي ثَوْبِهِ نجاسةٌ مِنْ دمٍ أَوْ قَيْحٍ وَكَانَ قَلِيلًا مِثْلَ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَمَا يَتَعَافَاهُ النَّاسُ لَمْ يُعِدْ وَإِنْ كان كثيراً أو قليلاً بولاً أو عذرةً أو خمراً وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ أَعَادَ فِي الوقت وغير الوقت (قال المزني) ولا يعدو من صلى بنجاسةٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا فَرْضَهُ أَوْ غَيْرَ مؤدٍّ وليس ذهاب الوقت بمزيلٍ منه فَرْضًا لَمْ يُؤَدِّهِ وَلَا إِمْكَانُ الْوَقْتِ بموجبٍ عليه إعادة فرضٍ قد أداه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ تَوَقِّي الْأَنْجَاسِ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ، وَإِنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنْ صَلَّى وَعَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ قَلَّتِ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثُرَتْ أَيُّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَحَرَ جَزُورًا وَأَصَابَ ثِيَابُهُ مِنْ فَرْثِهَا وَدَمِهَا فَقَامَ وَصَلَّى. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الثَّوْبِ جَنَابَةٌ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، اتْلُوا عَلَيَّ الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا غَسْلُ الثَّوْبِ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذهبنا إليه قوله تعالى " {وثيابك فطهر وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 4، 5] وَالرِّجْزُ: النَّجَاسَةُ وَأَمَّا قَوْله تعالى: {وثيابك فطهر} ففيه تأويلان:(2/240)
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَّ تَأْوِيلَهُ لَا تَلْبَسْ ثِيَابَكَ عَلَى الْغَدْرِ وَالْمَعَاصِي، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ غَدَرَ دَنِسَ الثَّوْبِ، وَلِمَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ طَاهِرَ الثَّوْبِ وَقَالَ امْرُؤُ القيس:
(ثبا بَنِي عوفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ ... وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ كَيْ لا تنجر كبر، أَوْ خُيَلَاءَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فَمُبَاحٌ وَمَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ "
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: قَالَهُ الْحَكَمُ، وَمُجَاهِدٌ: أَنَّ مَعْنَاهُ وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُحْشَرُ الْمَرْءُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا " يَعْنِي: عَمَلَهُ الصَّالِحَ، وَالطَّالِحَ
وَالتَّأْوِيلُ الرَّابِعُ: قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ: أَنَّ خُلُقَكَ فَحَسِّنْ
وَالتَّأْوِيلُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَعْنَاهُ وَقَلْبَكَ فَطَهِّرْ قَالَ الشَّاعِرُ:
(وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكَ مِنِّي خليقةٌ ... فُسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثَيَابِكِ تَنْسَلِي)
يَعْنِي: قَلْبِي مِنْ قَلْبِكِ
وَالتَّأْوِيلُ السَّادِسُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَالْفُقَهَاءُ: أَنَّ مَعْنَاهُ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] مِنَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ، وَهُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الثِّيَابِ مَا لُبِسَتْ، وَحَقِيقَةُ الطَّهَارَةِ عَنِ النَّجَاسَةِ فَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ إِذَا كَانَ الظَّاهِرُ جَلِيًّا، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ الْأَصْنَامِ
وَالثَّانِي: مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْمُشْرِكِينَ من طَهَارَتِهِمْ كَانَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْأَنْجَاسِ أَوْلَى
وَرَوَى الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ " وَمَا وَجَبَ الْعَذَابُ مِنْ أَجْلِهِ فَاجْتِنَابُهُ وَاجِبٌ
وَرَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال في دم الحيض: " حتيه ثم اقرضيه ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ " وَرَوَتْ أُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مِحْصَنٍ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: " اقرضيه واغسليه بِمَاءٍ وسدرٍ " فَدَلَّ أَمْرُهُ بِغَسْلِهِ عَلَى وُجُوبِ إزالته(2/241)
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالنَّجَاسَةُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا اسْتَوَى حُكْمُ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ وَهُوَ الْغَائِطُ، وَالْبَوْلُ وَالْخَمْرُ، وَمَا لَا يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: يعني عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ، فَمَا دُوَنَهُ قَالَ: لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَسِيرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يُعْفَى عَنْهَا قِيَاسًا عَلَى أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا أَعَادَ الصَّلَاةَ فِي قَلِيلِ النَّجَاسَةِ، وَكَثِيرِهَا وَإِنْ فَاتَ لَمْ يُعِدْ فِي قَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرِهَا
وَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فَرَأَى فِي ثَوْبِهِ لُمَعًا مِنْ نجاسةٍ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِتَغْسِلَهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَعَادَ صَلَاتَهُ
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الظَّوَاهِرِ هُوَ أَنَّهَا نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْفَى عَنْهَا
أَصْلُهُ مَعَ أبي حنيفة مَا زَادَ عَلَى الدِّرْهَمِ وَمَعَ مَالِكٍ مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ، وَلِأَنَّ التَّطْهِيرَ إِذَا أَمْكَنَ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فِي مَحَلٍّ لَمْ يَجُزِ الْعَفْوُ عَنْهُ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ كَأَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فِي الْحَدَثِ
فَأَمَّا قِيَاسُ أبي حنيفة عَلَى أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ عِنْدَهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَكَيْفَ يَكُونُ أَصْلًا لِوَاجِبٍ، لِأَنَّ الْحَرَامَ لَا يَجُوزُ أَنْ يقنص مِنْ أَصْلِ حَلَالٍ، وَلَا الْحَلَالُ مِنْ أَصْلِ حَرَامٍ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ مَخْصُوصٌ بِالرُّخْصَةِ مَعْدُولٌ عَنْ حُكْمِ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَكَيْفَ قَدَّرَهُ أبو حنيفة بِالدِّرْهَمِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي خِلْقَتِهِمْ وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنَ الْخَبَرِ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الصَّلَاةَ فِي الْحَالِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاهَا بَعْدَ زَمَانٍ، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْقَضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ، لأنه يَعْلَمِ النَّجَاسَةَ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْإِعَادَةُ عِنْدَنَا فِي مَثْلِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ثُمَّ أَفْسَدَ مَذْهَبَهُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنْ لَا يَعْدُوَ مَنْ صَلَّى بِنَجَاسَتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا فَرْضَهُ، أَوْ غَيْرَ مُؤَدٍّ وَلَيْسَ ذَهَابُ الْوَقْتِ بِمُزِيلٍ عَنْهُ فَرْضًا لَمْ يُؤَدِّهِ وَلَا إِمْكَانُ الْوَقْتِ بِمُوجِبٍ عَلَيْهِ إِعَادَةَ فَرْضٍ قَدْ أَدَّاهُ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ النَّجَاسَةِ مَا عُفِيَ عَنْ قَلِيلِهِ وَلَمْ يُعْفَ عَنْ كَثِيرِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَمَاءِ الْقُرُوحِ، وَالْبُثُورِ، وَالْمِدَّةِ إِذَا لَمْ يَخْتَلِطْ كُلُّ ذَلِكَ بِدَمٍ، لِأَنَّ فِي التَّحَرُّزِ مِنْ قَلِيلِ ذَلِكَ مَشَقَّةٌ غَالِبَةٌ، فَأَمَّا سَائِرُ الدِّمَاءِ سِوَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهَا كَالْأَبْوَالِ لَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهَا(2/242)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا دُونَ كَثِيرِهَا
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَكَأَنَّهُ أَصَحُّ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ دَمِ الْإِنْسَانِ مِنْ فِصَادِهِ، أَوْ حِجَامِهِ، أَوْ رُعَافِهِ، أَوْ جُرْحِهِ وَلَا يُعْفَى عَنْ دَمِ غَيْرِهِ مِنْ بَهِيمَةٍ، أَوْ آدَمِيٍّ فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ فَلَا حَدَّ لَهُ إِلَّا مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ مِنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ مِنَ " الْمَبْسُوطِ " إِذَا كَانَ مَاءُ الْقُرُوحِ لُمْعَةً وَجَبَ إِزَالَتُهُ
وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: إِذَا كَانَ كَقَدْرِ الْكَفِّ وَجَبَتْ إِزَالَتُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا بَلْ هُوَ تَقْرِيبٌ عَلَى مَعْنَى الْفَرْقِ وَالْعَادَةِ، فَإِنْ فَحُشَ وَجَبَتْ إِزَالَتُهُ، وَإِنْ قَلَّ عُفِيَ عَنْهُ
(فَصْلٌ)
: إِذَا سَلَّمَ الرَّجُلُ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ رَأَى عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةً أَوْ بَدَنِهِ نَجَاسَةً فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُمْكِنُ حُدُوثُهَا بَعْدَ السَّلَامِ فَالصَّلَاةُ مُجْزِئَةٌ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِاسْتِقْرَارِ الْأَدَاءِ وَعَدَمِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَيَقَّنَ تَقَدُّمَ النَّجَاسَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَفِي الصَّلَاةِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا شَاهَدَهَا إِلَّا بَعْدَ السَّلَامِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِرِوَايَةِ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ ثُمَّ خَلَعَهُمَا فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ قَالُوا خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهَا قَذَرًا
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ فِيهَا دَمَ حلمةٍ، وَلِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ أَشْيَاءَ، كَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَبِتَرْكِ أَشْيَاءَ كَالنَّجَاسَةِ، وَالْكَلَامِ، ثُمَّ كَانَ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا، أَوْ نِسْيَانًا وَمَا أُمِرَ بِتَرْكِهِ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَنِسْيَانِهِ كَالْكَلَامِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الْمَأْمُورُ بِتَرْكِهَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ عَمْدِهَا وَنِسْيَانِهَا كَالْكَلَامِ فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ مَعَ الْعَمْدِ، وَتَصِحُّ مَعَ النِّسْيَانِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ لَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَوَجَبَ إِذَا تَرَكَهَا سَاهِيًا أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ قِيَاسًا عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّهُ حَامِلٌ نَجَاسَةً لَوْ كَانَ عَالِمًا بِهَا لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ سَاهِيًا لَهَا أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ(2/243)
أَصْلُهُ إِذَا تَطَهَّرَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِالنَّجَاسَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ ثم يسهى عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيدِ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ على وجهين:
أحدهما: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِتَفْرِيطِهِ فِي إِزَالَتِهَا
وَالثَّانِي: خَرَّجَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا نَجِسًا ولم يجد ما يغسله صلى عريان، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ نَجِسًا كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ، وَإِنْ صَلَّى فِيهِ أَعَادَ
وَقَالَ مَالِكٌ، وَالْمُزَنِيُّ: صَلَّى فِيهِ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ بَعْضُهُ نَجِسًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ نَجِسًا كَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وبين أن يصلي عريان وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ هُوَ: أَنَّهُ مَعْنَى يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أَدَاءِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ نَجِسًا أَنْ لَا يَسْقُطَ مَعَهُ أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ دَمُ الْبَرَاغِيثِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا نَجِسٌ يَقْتَضِي تَنْجِيسَ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَدَمُ البراغيث لا ينجس جميعه، ولأنه نَجَاسَةٌ عَلَى شَيْءٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ فَرْضُ الصَّلَاةِ مَعَهَا أَصْلُهُ: إذا كان ثوب طاهر
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ وَالْآخَرُ نَجِسٌ وَلَا يَعْرِفُهُ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فيصلي فيه ويجزئه وكذلك إِنَاءَانِ مِنْ مَاءٍ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ وَالْآخَرُ نَجِسُّ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى التَّحَرِّي وَيُجْزِئُهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الْإِنَاءَيْنِ فَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي الثَّوْبَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا طَاهِرًا وَالْآخَرُ نَجِسًا فَجَائِزٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة فَإِذَا بَانَ لَهُ طَهَارَةُ أَحَدِهِمَا بِالِاجْتِهَادِ صَلَّى فِيهِ وَأَجْزَأَهُ
وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ: لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا؛ بَلْ يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا وَيُعِيدُ فِي الْآخَرِ
قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَهُ مُجْتَهِدًا بِالشَّكِّ كَمَنْ تَرَكَ صَلَاةً مِنْ جُمْلَةِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا بِعَيْنِهَا لَمَا لَزِمَهُ إِعَادَةُ الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا لِفَرْضِهِ بِيَقِينٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الثَّوْبَيْنِ كَذَلِكَ قَالَ: وَيُفَارِقُ هَذَا الْإِنَاءَيْنِ حَيْثُ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا أَنَّهُ لَوْ أُمِرَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكَانَ حَامِلًا لِنَجَاسَةٍ بِيَقِينٍ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ عِبَادَةٌ تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ والظاهر،(2/244)
فَجَازَ دُخُولُ التَّحَرِّي فِيهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ قِيَاسًا عَلَى الْقِبْلَةِ وَالْأَوَانِي، وَمَعْنَى قَوْلِنَا: تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ هُوَ: أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ قَدْ غَسَلَهُ
وَقَوْلُنَا: تُؤَدَّى بِالظَّاهِرِ هُوَ: جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي ثياب المشركين واليقين في القبلة أن يعانيها، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْهَا، وَالْيَقِينُ فِي الْمَاءِ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِمَاءِ النَّهْرِ وَالظَّاهِرُ بِمَاءِ الْأَوَانِي، فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى أَدَاءِ فَرْضِهِ بِيَقِينٍ فَمُنْتَقَضٌ عَلَيْهِ بِجِهَاتِ الْقِبْلَةِ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ إِلَى جَمِيعِهَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَدَاءُ فَرْضَيْنِ بِيَقِينٍ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ تَرْكِهِ لِصَلَاةٍ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ وَبَيْنَ الثَّوْبَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَا سِوَى فَرْضِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ نَافِلَةٌ وَفِعْلُهَا عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ طَاعَةٌ، وَفِعْلُ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فِي ثَوْبٍ نجس معصية فافترقا من هذا الوجه
والوجه الثَّانِي: هُوَ أَنَّ عَلَيْهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ مِنَ الْخَمْسِ فَلَا يُمْكِنُهُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهَا إِلَّا بِقَضَاءِ الْخَمْسِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي الظَّاهِرِ مِنَ الثَّوْبَيْنِ فَافْتَرَقَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا
وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَشَقَّةِ فِي إِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إِذَا تَرَكَ أَحَدَهَا، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ خَمْسٍ سَوَاءٌ تَرَكَ صَلَاةً، أَوْ صَلَاتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا وَإِذَا نَالَ الْمَشَقَّةَ فِي إِعَادَةِ الصلاة في الثياب لأنه قَدْ يَكُونُ مَعَهُ ثَوْبٌ نَجِسٌ فِي جُمْلَةِ أَلْفِ ثَوْبٍ طَاهِرٍ لَا يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ، فَلَوْ كُلِّفَ إِعَادَةَ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ ثَوْبٍ مَرَّةً لَلَزِمَهُ إِعَادَةُ تِلْكَ الصَّلَاةِ أَلْفَ مَرَّةٍ وَهَذَا أَعْظَمُ مَشَقَّةً
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّحَرِّي فِي ثَوْبَيْنِ، فَكَذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ مِنَ الثِّيَابِ سَوَاءٌ كَانَ الطَّاهِرُ أَكْثَرَ مِنَ النَّجَسِ أَوِ النَّجِسُ أَكْثَرَ مِنَ الطَّاهِرِ، فَإِذَا بَانَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي طَهَارَةُ أَحَدِهِمَا صَلَّى فِيهِ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ كَالْقِبْلَةِ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِبْلَةَ فِي مَوْضِعِهَا لَا تَنْتَقِلُ فِي أَحْوَالِهَا وَيَكُونُ مَهَبُّ الشَّمَالِ فِي وَقْتٍ قِبْلَةً لَهُ، وَمَهَبُّ الْجَنُوبِ فِي وَقْتٍ قِبْلَةً لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ ضِدَّهُمَا فِي وَقْتٍ قِبْلَةً لَهُ لِتَغْيِيرِ أَحْوَالِهِ وَتَنَقُّلِ أَمَاكِنِهِ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَكْرَارُ الِاجْتِهَادِ لِتَكُونَ الصَّلَاةُ وَالثَّوْبُ الطَّاهِرُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالنَّجَاسَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمْ تَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الِاجْتِهَادِ، فَلَوْ أَعَادَ الِاجْتِهَادَ عِنْدَ صَلَاتِهِ فِي الثَّوْبَيْنِ ثَانِيَةً فَبَانَ لَهُ نَجَاسَةُ مَا صَلَّى فِيهِ وَطَهَارَةُ مَا تَرَكَهُ، فَإِنْ بَانَ لَهُ عِلْمُ ذَلِكَ قَطْعًا مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ أَعَادَ صَلَاتَهُ الْأُولَى، لِأَنَّ الْعِلْمَ الْقَاطِعَ قَاضٍ عَلَى الْعِلْمِ الظَّاهِرِ فَجُوِّزَ لَهُ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الثَّانِي لِيَقِينِ طَهَارَتِهِ، وَإِنْ عَلِمَ نَجَاسَتَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي لَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى فِيهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصَّلَاةَ فِيهِ، لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ الثَّانِيَ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يصلي عريان، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُصَلِّي فِي الثَّانِي، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ عَلَى نَحْوِ مَا قَالَهُ فِي الْإِنَاءَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ، وَعَلَى مَذْهَبِ(2/245)
الْمُزَنِيِّ: يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا وَيُعِيدُ فِي الْآخَرِ عَلَى أَصْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ، فَلَوْ لَمْ يَبِنْ لَهُ باجتهاد الطَّاهِرُ مِنَ النَّجَسِ وَكَانَ الشَّكُّ بَاقِيًا فَمَذْهَبُ الشافعي أنه يصلي عريان وَيُعِيدُ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا طَاهِرًا، وَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ وقد ساعده بعض أصحابنا في هذا الموضع عِنْدَ بَقَاءِ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ يُصَلِّي فِي أَحَدِهِمَا وَيُعِيدُ فِي الْآخَرِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَأَجْزَاهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ
(فَصْلٌ)
: إِذَا كَانَ مَعَهُ ثَوْبٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ وَثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ وَقَدْ أَشْكَلَا عَلَيْهِ فَفِي جَوَازِ التَّحَرِّي فِيهِمَا مَعَ وُجُودِ الثَّوْبِ الطَّاهِرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مَتْرُوكٌ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَالْيَقِينِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الطَّاهِرِ مَعَ وُجُودِ الْيَقِينِ، أَلَا تَرَاهُ لَوْ وَجَدَ إِنَاءَ مَاءٍ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ جَازَ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ وَتَرْكُ مَاءَ دِجْلَةَ وَإِنْ كَانَتْ طَهَارَةُ الْإِنَاءِ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ وَطَهَارَةُ دِجْلَةَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، كَذَلِكَ فِي الثَّوْبَيْنِ الْمُشَكِلَيْنِ مَعَ وُجُودِ ثَوْبٍ طَاهِرٍ فَلَوْ كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ، وَالْآخَرُ نَجِسٌ وَقَدْ أَشْكَلَا عَلَيْهِ فَتَحَرَّى فِيهِمَا وَغَسَلَ مَا غَلَبَ قَلْبُهُ أَنَّهُ نَجِسٌ، جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا وَصَلَّى فِيهِمَا جَمِيعًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا طَاهِرٌ بِغَسْلِهِ وَالْآخَرَ طَاهِرٌ بِاجْتِهَادِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ لَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ شَاكٌّ فِي زَوَالِهَا فَلَمْ يَجُزْ أداء الصلاة فيهما
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ غَسَلَهُ كُلَّهُ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ معه ثوب واحداً أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ لَا يَعْرِفُ مَوْضِعَهَا فَعَلَيْهِ غَسْلُهَا، وَلَيْسَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنَ الثَّوْبِ مُسَاوٍ لِغَيْرِهِ فِي جَوَازِ طَهَارَتِهِ وَحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ إِذَا اخْتَلَطَا غَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ، وَلَمْ يَسَعْ فِيهِ الاجتهاد، وإذا تميزا وأشكلا ساغ فيهما الِاجْتِهَادُ فَعَلَى هَذَا لَوْ شَقَّ الثَّوْبَ لَمْ يجز له الاجتهاد لجواز أن يصادف الثوب مَحَلَّ النَّجَاسَةِ فَتَحْصُلُ النَّجَاسَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ قَمِيصًا فَعَلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي أَحَدِ كُمَّيْهِ فَأَرَادَ الِاجْتِهَادَ بَيْنَهُمَا وَغَسَلَ مَا يُؤَدِّيهِ الِاجْتِهَادُ إِلَى نَجَاسَتِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ لِأَنَّ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ طَاهِرٌ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْآخَرُ طَاهِرٌ بِالْغَسْلِ عَلَى مَعْنَى مَا قَالَهُ فِي الثَّوْبَيْنِ(2/246)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ حُلُولَ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ شَاكٌّ فِي زَوَالِهَا، فَلَوْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ: إِنَّ الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا لَا يَجُوزُ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا يَجُوزُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن أصاب ثوم المرأة من دم حيضها قرضته بِالْمَاءِ حَتَى تُنَقِّيَهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ الْمَرْأَةِ مِنْ دَمِ حَيْضِهَا فَعَلَيْهَا غَسْلُهُ لِلصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ دم الحيض، حتيه ثم اقرضيه ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ، فَإِنْ غَسَلَتْهُ وَأَزَالَتْهُ بِلَا حَتٍّ، وَلَا قَرْضٍ جَازَ
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا يَجُوزُ لِلْخَبَرِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ أمره بالحت والقرض مِنْ صِفَاتِ الْغَسْلِ، وَمُخَالَفَةُ الصِّفَةِ لَا تُبْطِلُ الْحُكْمَ مَعَ وُجُودِ الْإِزَالَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالْغَسْلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ: " نَدِّيهِ بِالْمَاءِ وَحُكِّيهِ بِصَلْعٍ، وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ " وَلَيْسَ هَذَا شَرْطٌ لَازِمٌ فِي الْغَسْلِ كَذَلِكَ الْحَتُّ وَالْقَرْضُ، فَإِذَا غَسَلَتْهُ بِالْمَاءِ فَزَالَ لَوْنُهُ وَأَثَرُهُ وَرِيحُهُ فَقَدْ طَهُرَ، وَجَازَ لَهَا الصَّلَاةُ فِيهِ وَإِنْ بَقِيَ لَوْنُهُ، أَوْ رِيحُهُ لَمْ يَطْهُرْ، وَإِنْ بَقِيَ أَثَرُهُ دُونَ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَلَمْ يُمْكِنْ إِزَالَتُهُ فَقَدَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " الْأُمِّ " عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهِ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ يَسَارٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن دم الحيض إذا لم يخرج من الثَّوْبِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ، وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِبَعْضِ النِّسَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا: " لَطِّخِيهِ بِوَرْسٍ "، وَلِأَنَّ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى إِزَالَتِهِ فِي حُكْمِ مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ، وَأَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي كَوْنِهِ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَمَنْ غَلِطَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَدْ خَالَفَ مَنْصُوصَ الشَّافِعِيِّ مَعَ السنة والواردة فيه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويجوز أن يصلي بثوب الْحَائِضِ وَالثَّوْبِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ الرَّجُلُ أَهْلَهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا ثَوْبُ الْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ فَطَاهِرَانِ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ: " نَاوِلِينِي الخُمرة فَقَالَتْ: أَنَا حائض فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَيْسَتِ الْحَيْضَةُ فِي يَدِكِ " فَأَمَّا ثَوْبُ الْجُنُبِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ أَهْلَهُ فَطَاهِرٌ أَيْضًا، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ أَهْلَهُ فِيهِ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَقِيَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فَمَدَّ إِلَيْهِ يَدَهُ لِيُصَافِحَهُ فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْ(2/247)
مُصَافَحَتِهِ، وَقَالَ إِنِّي جُنُبٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " المؤمن ليس بنجس "
(مسألة)
: قال " وَإِنْ صَلَّى فِي ثَوْبِ نَصْرَانِيٍّ أَجْزَأَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ قَذَرًا، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ منه "
أَمَّا الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى فَيَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ وَالطَّهَارَةُ بِمَائِهِمْ، لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ إِنَّمَا هُوَ مُعْتَقَدَاتُ الْقُلُوبِ، وَهُمْ فِي الْأَبْدَانِ سَوَاءٌ، وَالِاعْتِقَادَاتُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّطْهِيرِ وَالتَّنْجِيسِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْأَبْوَالَ، فَأَمَّا مَنْ يَعْتَقِدُ مِنْهُمُ اسْتِعْمَالَ الْأَبْوَالِ فَفِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي ثِيَابِهِمْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ حَرْمَلَةُ عَنْهُ نَصًّا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي ثِيَابِهِمْ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ فِيهَا نَجَاسَةٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ مَا لَمْ يُعْلَمْ بَعْضُ النَّجَاسَةِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا حُلُولُ النَّجَاسَةِ فِيهَا، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَوْ تَنَزَّهَ عَنْ لُبْسِ ثِيَابِهِمْ وَالصَّلَاةِ فِيهَا كان أولى
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَصْلُ الْأَبْوَالَ وَمَا خَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ حَيٍّ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَكُلُّ ذَلِكَ نَجِسٌ إِلَّا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ مِنَ الرَّشِّ عَلَى بَوْلِ الصَّبِيِّ مَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ وَلَا يَتَبَيَّنُ لِي فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ وَلَوْ غُسِلَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّينَ فَنَجِسٌّ إِجْمَاعًا صَغِيرًا كَانَ، أَوْ كَبِيرًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، لِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ " وَلَوْلَا أَنَّهُ نَجِسٌ يَلْزَمُهُ اجْتِنَابُهُ مَا اسْتَحَقَّ عَذَابَ الْقَبْرِ عَلَيْهِ
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فقال: اللهم ارحمني ومحمد أو لا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا فَمَا لَبِثَ أَنْ بَالَ فَعَجِلَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ " فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ بَوْلِ الْآدَمِيِّينَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ إِلَّا بَوْلَ الصَّبِيِّ قَبْلَ الطَّعَامِ، فَإِنَّهُ يُطَهَّرُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ، فَأَمَّا بَوْلُ الصَّبِيَّةِ فَلَا يَطْهُرُ إِلَّا بِالْغَسْلِ قَبْلَ أَكْلِ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ
وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: لَا يَطْهُرُ بولها جَمِيعًا إِلَّا بِالْغَسْلِ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُطَهَّرُ بَوْلُهُمَا جَمِيعًا بِالرَّشِّ وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ فِي جَوَازِ الرش(2/248)
عَلَى بَوْلِ الْغُلَامِ وَوُجُوبِ غَسْلِ بَوْلِ الْجَارِيَةِ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ وَيُنْضَحُ عَلَى بَوْلِ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ "
وَهَذَا نَصٌّ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ
وَرَوَتْ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَجْلَسَ الْحَسَنَ فِي حِجْرِهِ فَبَالَ عَلَيْهِ فَقَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: لَوْ أَخَذْتَ ثَوْبًا وَأَعْطَيْتَنِي إِزَارَكَ لأغسله فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْأُنْثَى، وَيُنْضَحُ عَلَى بَوْلِ الذَّكَرِ " وَهَذَا نَصٌّ أَيْضًا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ
وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِطِفْلٍ لَهَا لِيُحَنِّكَهُ فَبَالَ فِي حِجْرِهِ فَنَضَحَ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَثَبَتَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْلًا وَفِعْلًا بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَوَازِ الرَّشِّ عَلَى بَوْلِ الصَّبِيِّ مَا لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَغَسْلِ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، ثم الفرق بينهما في المعنى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ بَوْلَ الْجَارِيَةِ أَحَرُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَمَنِيَّ الْغُلَامِ أَحَرُّ مِنْ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ عَلَى مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ خَفَّ الْحُكْمُ فِي بَوْلِ الْغُلَامِ، وَغَلُظَ فِي بَوْلِ الْجَارِيَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ بُلُوغُ الْغُلَامِ بِمَائِعٍ طَاهِرٍ وَهُوَ الْمَنِيُّ. وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِمَائِعٍ نَجِسٍ وَهُوَ الْحَيْضُ جَازَ أَنْ يَفْتَرِقَا فِي حُكْمِ طَهَارَةِ الْبَوْلِ عَلَى أَنَّ الْغُلَامَ كَثِيرًا مَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ فَكَانَ حُكْمُ بِوْلِهِ أَخَفَّ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ " وَلَا يَبِينُ لِي فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيَّةِ " وَقَدْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَبِينُ لِي مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ
وَالثَّانِي: أَنَّ فَرْقَ الْمُشَاهَدَةِ بَيْنَهُمَا فِي كَوْنِ بَوْلِ الصَّبِيِّ أَبْيَضَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَبَوْلِ الصَّبِيَّةِ بِضِدِّهِ لَا يَبِينُ لي المعنى فيه فَأَمَّا أَبْوَالُ مَا عَدَا الْآدَمِيِّينَ وَأَرْوَاثُهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَبْوَالَ جَمِيعِهَا وَأَرْوَاثَهَا نجسة بكل حال، وبه قال من الصابة ابن عمر، ومن التَّابِعِينَ الْحَسَنُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَبُو ثَوْرٍ(2/249)
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ: أَنَّ أَبْوَالَهَا وَأَرْوَاثَهَا كُلَّهَا طَاهِرَةٌ
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَمَالِكٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، أَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وروثه طاهر، وبول ما لا يؤكل لمه وَرَوْثَهُ نَجِسٌ
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ أَبْوَالَ جَمِيعِهَا وَأَرْوَاثَهَا نَجِسَةٌ إِلَّا مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مِنْ ذَرْقِ الْخُفَّاشِ وَالطَّيْرِ وَغَيْرِهِ فَأَمَّا مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فإن كان غير مأكول اللحم فهو كالعدرة يُعْفَى عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَذَرَقَهُ كَالْعَذِرَةِ أَيْضًا يُعْفَى عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنه
وَقَوْلُهُ: يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّفَاحُشُ، وَقَدْرُ التَّفَاحُشِ رُبْعُ الثَّوْبِ فَفَرَّقَ بَيْنَ بَوْلِهِ وَرَوْثِهِ وَسَوَّى أبو يوسف، ومحمد بَيْنَ بَوْلِهِ وَرَوْثِهِ فِي اعْتِبَارِ التَّفَاحُشِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَدْرُ ذَلِكَ الرُّبْعُ، وَاسْتَدَلُّوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى طَهَارَةِ ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ بِرِوَايَةِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا أُكِلَ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِبَوْلِهِ "
وَبِرِوَايَةِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَنَةَ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْمَدِينَةِ فَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ فَانْتَفَخَتْ أَجْوَافُهُمْ فَبَعَثَهُمْ إِلَى لِقَاحِ الصَّدَقَةِ لِيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا
قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طاف بالبيت راكباً على راحلته يومي إِلَى الْبَيْتِ بِمِحْجَنِهِ وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِ الرَّاحِلَةِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنَ الْبَوْلِ وَالرَّوْثِ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَامْتَنَعَ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِهِ قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى ذَرْقِ الْحَمَامِ مَعَ كَثْرَتِهِ فَدَلَّ هَذَا الْفِعْلُ عَلَى طَهَارَتِهِ
قَالُوا: وَلِأَنَّ عسل النحل من المخرج وليس بنجس، ولأن الأنفخة كَرِشٌ وَهِيَ طَاهِرَةٌ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى تَنْجِيسِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66] فَامْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا بِإِخْرَاجِ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ
وَفَائِدَةُ الِامْتِنَانِ إِخْرَاجُ طَاهِرٍ مِنْ بَيْنِ نَجِسَيْنِ
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ في كبير أما أحدهما يسعى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَتَنَزَّهُ مِنَ البول(2/250)
فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْأَبْوَالِ، وَلِأَنَّهُ نَجِسٌ مِنَ الْآدَمِيِّ فَكَانَ نَجِسًا مِنَ الْبَهَائِمِ
أَصْلُهُ: الدَّمُ وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ دَمُهُ نَجِسٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَوْلُهُ نَجِسًا كَالْآدَمِيِّ، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَرَاوِيهِ أَبُو جَهْمٍ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا بَأْسَ بِهِ " يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، بَلْ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَأَنَّهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ غَيْرِهِ
وَفَائِدَتُهُ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، لِأَنَّهُ أَنْفَعُ فِي التَّدَاوِي مِنْ بَوْلِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ، فَأَمَّا حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ شُرْبِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ: جَوَازُ شُرْبِهِ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَتِهِ قِيلَ: بَاطِلٌ بِالْمَيِّتَةِ، وَأَمَّا طَوَافُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهَا النَّجَاسَةُ، وَمَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ النَّجَاسَةُ فَلَا بَأْسَ بِفِعْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ الْعَاصِ فِي الصَّلَاةِ. وَالطِّفْلُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْبَهِيمَةِ فِي إِرْسَالِ النَّجَاسَةِ عَلَى أَنَّ عَادَةَ الْإِبِلِ أَنَّهَا لَا تُرْسِلُ النَّجَاسَةَ فِي سَيْرِهَا، وَأَمَّا إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِعْلُ جَمِيعِهِمْ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِعْلُ جَمِيعِهِمْ لَمْ يَلْزَمْ، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ، وَلَوْ كَانُوا كُلَّ الْأُمَّةِ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ، وَالْحَسَنَ يُخَالِفَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا الْعَسَلُ فَخَارِجٌ مِنْ فَمِ النَّحْلِ لَا مِنْ دُبُرِهَا عَلَى أَنَّ النَّحْلَ حَيَوَانٌ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَبَوْلُهُ وَرَوْثُهُ نجس بإجماعنا، وإياهم، وأما الأنفخة فَلَبَنٌ جَامِدٌ، وَلِذَلِكَ حَلَّ أَكْلُهُ وَسَاغَتْ طَهَارَتُهُ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هُوَ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ كَرِشٌ فَأَمَّا جَرَّةُ الْبَعِيرِ الَّتِي يُخْرِجُهَا مِنْ جَوْفِهِ ثُمَّ يَجْتَرُّهَا فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي نجاستها كالقيء سَوَاءٌ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَيَفْرُكُ الْمَنِيَّ فَإِنْ صَلَّى بِهِ وَلَمْ يْفَرُكْهُ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم يصلي فيه " وروي عن ابن عباس أنه قال " أمطه عنه بِإِذْخِرَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ كَبُصَاقٍ أَوْ مُخَاطٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْمَنِيُّ طَاهِرٌ فِي أَصْلِ خَلْقِهِ، وَعَلَى كُلِّ أَحْوَالِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ
وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَنِيُّ نَجِسٌ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ إِلَّا أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَابِسًا طُهِّرَ بالفرك وإن كان رطباً نجس بِالْغَسْلِ
وَقَالَ مَالِكٌ: الْمَنِيُّ طَاهِرٌ فِي أَصْلِ خَلْقِهِ وَإِنَّمَا تَنَجَّسَ فِي ظُهُورِهِ بِمُرُورِهِ فِي الذَّكَرِ بِمَرِّ الْأَنْجَاسِ، وَلَا يُطَهَّرُ إِلَّا بِالْغَسْلِ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا(2/251)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّمَا يُغْسَلُ الْمَنِيُّ وَالدَّمُ وَالْبَوْلُ " فَدَلَّ جَمْعُهُ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ عَلَى إِجْمَاعِهِ فِي النَّجَاسَةِ؛ وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " اغْسِلِيهِ رَطْبًا، وَافْرُكِيهِ يَابِسًا "
وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ، وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ يُوجِبُ الْغَسْلَ فَأَشْبَهَ دَمَ الْحَيْضِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِ اللَّذَّةِ فَأَشْبَهَ الْمَذْيَ، وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ فِي الْأَصْلِ دَمٌ اسْتَحَالَ وَيَسْتَحِيلُ دَمًا فِي ثَانِي حَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا إِلْحَاقًا بِأَحَدِ طَرَفَيْهِ، وَهَذَا خَطَأٌ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] فَأَطْلَقَ عَلَى الْمَنِيِّ اسْمَ الْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْطَلِقَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ فِي الطَّهَارَةِ
وَرَوَى شَرِيكٌ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الْمَنِيِّ: " أَمِطْهُ عَنْكَ بِإِذْخِرَةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ كَبُصَاقٍ، أَوْ مُخَاطٍ " فَشَبَّهَهُ بِالْبُصَاقِ الطَّاهِرِ فِي حُكْمِهِ، وَأَمَرَ بِإِمَاطَتِهِ بِالْإِذْخِرَةِ، وَالْأَنْجَاسُ لَا تَطْهُرُ بِالْحَشَائِشِ، فَدَلَّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى طَهَارَتِهِ
وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ " وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَالِكٍ، لِأَنَّ أبا حنيفة يُجِيزُ فَرْكَهُ يَابِسًا وَرَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيهِ "، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ أبا حنيفة يَرَى أَنَّ فَرْكَ الْمَنِيِّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الصَّلَاةِ(2/252)
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَسْلِتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الْإِذْخِرِ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَحِتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ "
وَهَذَا آخِرُ دَلَالَةٍ عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ كل ما لا يجب غسلها يَابِسًا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا
أَصْلُهُ: سَائِرُ الطَّاهِرَاتِ، وَلِأَنَّهُ أَصْلُ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالطِّينِ، وَلِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالْبَيْضِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا ك " اللبن " فَإِنْ قِيلَ: الْمَنِيُّ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، قِيلَ: إِذَا اسْتَدْخَلَتِ الْمَاءَ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ، وَحَرَّمَهَا مَا بَقِيَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَأَمَّا أَخْبَارُهُمْ إِنْ صَحَّتْ فَمَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَوْلِ، فالمعنى فيه: كونه نجسا، ووجوب غسل يديه كَوُجُوبِ غَسْلِ رَطْبِهِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى غَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ، بِعِلَّةِ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْغَسْلِ فَلَيْسَ الدَّمُ مُوجِبًا لِلْغَسْلِ، وَإِنَّمَا انْقِطَاعُ الدَّمِ يُوجِبُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ دَمٌ اسْتَحَالَ فَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَسْتَحِيلَ مَنِيًّا كَمَا يَسْتَحِيلُ لَبَنًا طَاهِرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا وَضَحَ طَهَارَةُ الْمَنِيِّ بِمَا ذَكَرْنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ، وَحَكَى ابْنُ الْقَاصِّ فِي كِتَابِ " الْمِفْتَاحِ " عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ فِي مَنِيِّ الْمَرْأَةِ قَوْلَيْنِ، وَحَكَى الْكَرَابِيسِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ: نَجَاسَةُ الْمَنِيِّ، وَكُلُّ هَذَا غَلَطٌ أَوْ وَهْمٌ لَيْسَ يُعْرَفُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصٌّ عَلَيْهِ، وَلَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، بَلْ صَحَّ بِطَهَارَةِ جَمِيعِهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ إِلَّا إِنَّا نَسْتَحِبُّ غَسْلَهُ إِنْ كَانَ رَطْبًا، وَفَرْكَهُ إِنْ كَانَ يَابِسًا لِلْخَبَرِ
فَأَمَّا الْعَلَقَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: طَاهِرَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ حَكَاهُ الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ عَنِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ مَوْجُودٌ فِيهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: إِنَّهَا نَجِسَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ طَاهِرًا، ثُمَّ يَسْتَحِيلُ نَجِسًا ثُمَّ يَعُودُ طَاهِرًا كَالْعَصِيرِ إِذَا اشْتَدَّ فَصَارَ خَمْرًا، ثُمَّ انْقَلَبَ فَصَارَ خَلًّا قَالَ: وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ إِذَا صَارَ عَلَقَةً، وَأَمَّا مَنِيِّ مَا سِوَى الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَاتِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:(2/253)
أَحَدُهَا: أَنَّ مَنِيَّهَا طَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنِيَّهَا نَجِسٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَجِسًا إِذَا مَاتَ بَعْدَ حَيَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا فِي حَالِ مَوْتِهِ قَبْلَ حَيَاتِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمَوَاتِ الْأَوَّلِ كَ " حُكْمِ " الْمَوَاتِ الثَّانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] أَلَا تَرَى ابْنَ آدَمَ لَمَّا كَانَ طَاهِرًا بَعْدَ مَوْتِهِ حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ قَبْلَ حَيَاتِهِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنِيَّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ ومني ما لا يؤكل لحمه نحس اعتباراً بلبنه
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلِّي عَلَى جِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِذَا ذَكَّى، وَفِي صُوفِهِ وَشَعْرِهِ وَرِيشِهِ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَهُوَ حَيٌّ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي جُلُودِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِذَا كَانَ مُذَكًّى، وَإِنْ لَمْ يدبغ، لأن الزكاة أَبْلَغُ مِمَّا يُعْمَلُ فِيهِ مِنَ الدِّبَاغَةِ لِتَطْهِيرِهَا جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانَاتِ، وَاخْتِصَاصِ الدِّبَاغَةِ بِتَطْهِيرِ الْجِلْدِ وَحْدَهُ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي دِبَاغِهِ طَهَارَتَهُ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهَا تَنْشِيفُهُ وَامْتِنَاعُ فَسَادِهِ، فَأَمَّا الطَّاهِرُ مِنَ الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالرِّيشِ وَالْوَبَرِ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ، وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَعَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80]
وَرَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ عَلَيْهِ فِي غَزَاةِ تَبُوكَ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ ضيقة الكمام يعني صوف
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ شُمَّ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَوَائِحُ كَرَوَائِحِ الضَّأْنِ مِنْ لِبَاسِهِمُ الصُّوفَ، وَلِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِنَفْعِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَ " اللَّبَنِ "
وَقَوْلُنَا: لِنَفْعِهِ احْتِرَازٌ مما قطع من أعضائه
(مسألة)
: " ولا تصل مَا انْكَسَرَ مِنْ عَظْمِهِ إِلَّا بِعَظْمِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ذَكِيًّا فَإِنْ رَقَعَهُ بِعَظْمِ مَيْتَةٍ أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ عَلَى قَلْعِهِ، فَإِنْ مَاتَ صَارَ مَيِّتًا كُلَّهُ وَاللَّهُ حَسِيبُهُ "(2/254)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا انْدِرَتْ سِنُّ إِنْسَانٍ وَانْفَصَلَتْ مِنْ جَسَدِهِ فَذَلِكَ نَجِسٌ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا سَقَطَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ نَجِسٌ "
فَأَمَّا مَوْضِعُ الْعَظْمِ مِنْ جَسَدِهِ، وَمَوْضِعُ السِّنِّ مِنْ فِيهِ فَطَاهِرٌ بِإِجْمَاعٍ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصِلَ عَظْمَهُ أَوْ يَرُدَّ سِنَّهُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِعَظْمٍ طَاهِرٍ قَدْ أُخِذَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ بَعْدَ ذَكَاتِهِ، فَأَمَّا بِعَظْمِهِ النَّجِسِ، وَسِنِّهِ النَّجِسِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ النَّجَاسَةِ فِي صَلَاتِهِ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِفِعْلِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي حَالِهِ، فَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ التَّلَفَ مِنْ قَلْعِهِ، أَوْ زَمَانِهِ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ أُمِرَ بِقَلْعِهِ وَاجِبًا، فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ رَكِبَهُ اللَّحْمُ وَتَغْشَّاهُ أَمْ لَا
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: إِنْ رَكِبَهُ اللَّحْمُ لَمْ يُقْلَعْ كَ " شَارِبِ الْخَمْرِ "، لَا يُؤْمَرُ بِاسْتِقَاءِ مَا شَرِبَهُ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ بَلْ عَلَيْهِ قَلْعُهُ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ فِي غَيْرِ مَعْدِنِهَا لَيْسَ به ضرورة إلى تنقيتها، فوجب أن يلزمها إِزَالَتُهَا كَمَا كَانَتْ عَلَى ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ، وَفَارَقَ شَارِبَ الْخَمْرِ لِحُصُولِ الْخَمْرِ فِي مَعْدِنِ الْأَنْجَاسِ وَمَحَلِّ الْمُسْتَقْذَرَاتِ مَعَ اسْتِهْلَاكِهِ وَسُرْعَةِ زَوَالِهِ عَلَى أَنَّنَا نَأْمُرُهُ بِاسْتِقَاءِ الْخَمْرِ اسْتِحْبَابًا، هَذَا الْكَلَامُ فِيهِ إِذَا أَمْكَنَهُ فِعْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَلَفٍ، أَوْ زَمَانَةٍ، فَأَمَّا إِنْ خَافَ مِنْ فِعْلِهِ تَلَفَ نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أُقِرَّ عَلَى حَالِهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِقَلْعِهِ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنْ تَطْهِيرِ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ حِرَاسَةَ النَّفْسِ وَاجِبٌ وَاسْتِعْمَالَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ، وَإِنْ تَلِفَ مِنْ أَجْلِهِ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ بِفِعْلِ الْمَعَاصِي مُؤَاخَذٌ بِهَا وَإِنْ تَلِفَ، كَالْقَاتِلِ، وَالزَّانِي، وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدْ فِي الِابْتِدَاءِ عَظْمًا طَاهِرًا، وَخَافَ التَّلَفَ إِنْ لَمْ يَصِلْهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَصِلَهُ بِهِ فَوَجَبَ إِذَا خَافَ التَّلَفَ أَنْ يُقَرَّ عَلَى حَالِهِ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِعْلُ الزِّنَا وَقَتْلُ النُّفُوسِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُحَلَّانِ فِي ضَرُورَةٍ وَلَا غَيْرِهَا عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا: أَنَّ حَدَّ الزِّنَا، وَالْقِصَاصِ رَدْعٌ لَهُ إِنْ عَاشَ وَزَجْرٌ لِغَيْرِهِ إِنْ مَاتَ وَقَلَعَ مَا وَصَلَ مِنْ نَجَاسَةٍ لِأَجْلِ صَلَاتِهِ وَتَبَلُّغِهِ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ فَكَانَ تَرْكُهُ حَيًّا يُؤَدِّي الصَّلَاةَ حَسَبَ إِمْكَانِهِ أَوْلَى
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ إِذَا خَافَ التَّلَفَ، وَقَلَعَهُ إِذَا أَمِنَ مِنَ التَّلَفِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ حَتَّى مَاتَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " صَارَ مَيِّتًا كُلُّهُ وَاللَّهُ حَسْبُهُ " يَعْنِي: يُحَاسِبُهُ عَلَى مَا ضَيَّعَ مِنْ صَلَوَاتِهِ بِالنَّجَاسَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْلَعَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ لِسُقُوطِ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَزَوَالِ التَّكْلِيفِ لِيَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَأَمَّا مَنْ تَحَرَّكَتْ أَسْنَانُهُ وَلَمْ تُفَارِقْ مَوْضِعَهَا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُقِرَّهَا عَلَى حَالِهَا أَوْ يَشُدَّهَا بِحَسَبِ إِمْكَانِهِ، وَيَرْبِطَهَا بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَبَطَ أسنانه بالذهب(2/255)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تَصِلُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا بِشَعْرِ إِنْسَانٍ وَلَا شَعْرِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ بِحَالٍ "
قَالَ الماوردي: وهذا كما قال
(القول في وصل الشعر بشعر نجس)
لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ نَجِسٍ بِحَالٍ، وَسَوَاءٌ فِي النَّهْيِ شُعُورُ الْآدَمِيِّينَ، وَشُعُورُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّعُورِ النَّجِسَةِ لِمَا عَلَى الْمُصَلِّي مِنَ اجْتِنَابِ الْأَنْجَاسِ
وَقَدْ رَوَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَتِي أَصَابَهَا الْحَصْبَاءُ فَتَمَزَّقَ شَعْرُهَا أَفَأَصِلْهُ؟ قَالَ: " لَا لُعِنَتِ الْوَاصِلَةُ وَالْمَوْصُولَةُ "
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَالْوَاشِرَةَ، والمستوشرة، والنامصة، والمتنمصة، وَالْعَاضِهَةَ، وَالْمُسْتَعْضِهَةَ
فَأَمَّا الْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الَّتِي تَصِلُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْفَاحِشَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الَّتِي تَصِلُ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ نَجِسٍ فَأَمَّا الَّتِي تَصِلُ شَعْرَهَا بِشَعْرٍ طَاهِرٍ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَمَةً مَبِيعَةً تَقْصِدُ بِهِ غُرُورَ الْمُشْتَرِي أَوْ حُرَّةٌ تَخْطُبُ الْأَزْوَاجَ تَقْصِدُ بِهِ تَدْلِيسَ نَفْسِهَا عَلَيْهِمْ، فَهَذَا حَرَامٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ "
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ ذَاتَ زَوْجٍ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِلزِّينَةِ عِنْدَ زَوْجِهَا أَوْ أَمَةً تَفْعَلُ ذَلِكَ لِسَيِّدِهَا، فَهَذَا غَيْرُ حَرَامٍ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ الزِّينَةِ لِزَوْجِهَا مِنَ الْكُحْلِ وَالْخِضَابِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " لعن السلتاء والمهراء "، فَالسَّلْتَاءُ الَّتِي لَا تَخْتَضِبُ، وَالْمَرْهَاءُ الَّتِي لَا تَكْتَحِلُ يُرِيدُ مَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ كَرَاهَةً لِزَوْجِهَا، فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ زِينَةً لَهُ فَكَذَلِكَ(2/256)
صِلَةُ الشَّعْرِ لِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ فِي الزِّينَةِ وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ
وَأَمَّا الْوَاشِرَةُ، وَالْمُسْتَوْشِرَةُ: هِيَ الَّتِي تَبْرُدُ الْأَسْنَانَ بِحَدِيدَةٍ لِتَجْدِيدِهَا وَزِينَتِهَا
وَأَمَّا الْوَاشِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَنْقُشُ بَدَنَهَا وَتَشِمُهُ بِمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنَ الْخُضْرَةِ فِي غَرْزِ الْإِبَرِ فَيَبْقَى لَوْنَهُ عَلَى الْإِبَرِ
وَأَمَّا الْوَشْمُ بِالْحِنَّاءِ وَالْخِضَابِ فَمُبَاحٌ، وَلَيْسَ مِمَّا تَنَاوَلَهُ النَّهْيُ
فَأَمَّا النَّامِصَةُ، وَالْمُتَنَمِّصَةُ: فَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ الشَّعْرَ مِنْ حَوْلِ الْحَاجِبَيْنِ وَأَعَالِي الْجَبْهَةِ، وَالنَّهْيُ فِي هَذَا كُلِّهِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ فِي الْوَاصِلَةِ، وَالْمُسْتَوْصِلَةِ
وَأَمَّا الْعَاضِهَةُ، وَالْمُسْتَعْضِهَةُ: فَهِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّاسِ
قَالَ الشَّاعِرُ:
(إِنَّ الْعَيْضَهَةَ لَيْسَتْ فِعْلَ أَحْرَارِ)
وَأَمَّا خِضَابُ الشَّعْرِ فَمُبَاحٌ بِالْحِنَّاءِ، وَالْكَتَمِ ومحظور السواد إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ؛ وَلِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُبْغِضٌ لِلشَّيْخِ الْغِرْبِيبِ أَلَا لَا تُغَيِّرُوا هَذَا الشَّيْبَ، فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ، فَمَنْ كَانَ لا محالة فاعلاً فبالحناء والكتم
(مسألة)
: [القول في تطهير الأرض إذا أصابها نجاسة] قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ بَالَ رَجُلٌ فِي مَسْجِدٍ أَوْ أَرْضٍ يطهر بأن يصب عليه ذنوباً مِنْ مَاءٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيَّ حِينَ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ " صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: وهو " الدلو العظيم " وَإِنْ بَالَ اثْنَانِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إِلَّا دَلْوَانِ "
قال الماوردي: هذا صحيح إذا أصاب الأرض بول صب عَلَيْهِ مَا يَغْمُرُهُ حَتَّى أَزَالَ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ فَقَدْ طَهُرَ الْمَكَانُ وَالْمَاءُ جَمِيعًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ أَصْحَابُنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُنْفَصِلِ عَنِ الثَّوْبِ النَّجِسِ إِذَا زَالَ عَنْهُ النَّجَاسَةُ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ طَاهِرٌ أَيْضًا كَالْأَرْضِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَكَمَ بِتَنْجِيسِهِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ بِأَنْ قَالَ يُطَهَّرُ الثَّوْبُ مَعَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا، لِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا انْدَفَعَ عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ نَجِسَ الْمَحَلُّ الثَّانِي، فَكَانَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى تَطْهِيرِ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: كُلُّ مَا انْفَصَلَ عَنِ النَّجَاسَةِ وَأُزِيلَ بِهَا فَهُوَ نَجِسٌ بِكُلِّ حَالٍ، فَإِذَا أَصَابَ الْأَرْضَ بَوْلٌ لَمْ تَطْهُرْ إِلَّا بِكَشْطِ مَا أَصَابَ الْبَوْلُ مِنْهَا، فَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ حَتَّى غَمَرَهُ(2/257)
لَمْ تَطْهُرْ إِلَّا أَنْ يَنْدَفِعَ الْمَاءُ عَنْهَا إِلَى بَحْرٍ، أَوْ نَهْرٍ، وَبُنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ نَجِسٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا طَاهِرٌ
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْكَلَامُ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ بِكَشْطِ الْمَوْضِعِ وَإِزَالَةِ الْمَكَانِ، وَهَذَا نَصٌّ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَجِسَ الْمَاءُ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَنْجَسَ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَاءٌ قَلِيلٌ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَإِذَا ثَبَتَ تَنْجِيسُهُ بِمَا ذَكَرْنَا ثَبَتَ تَنْجِيسُ الْمَكَانِ أَيْضًا
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ طَهَارَةِ الْمَكَانِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا فَمَا لَبِثَ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَعَجِلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُمْ عَنْهُ وَقَالَ: " صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَبِّ الذَّنُوبِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ، وَزَوَالِ النَّجَاسَةِ بِمَا وَرَدَ عَلَيْهَا مِنَ الماء، فعلم بذلك طهارة ما الفصل عَنْهَا مِنَ الْمَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنِ الثَّوْبِ نَجِسًا لَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ بَلَلِهِ نَجِسًا، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَوَجَبَ غَسْلُهُ، وَلَوْ وَجَبَ غَسْلُهُ لَتَعَذَّرَتْ طَهَارَتُهُ لِبَقَاءِ بَلَلِهِ فِي الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى طَهَارَةِ بَلَلِهِ، وَإِذَا كَانَ الْبَلَلُ طَاهِرًا كَانَ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ طَاهِرًا، لِأَنَّ الْمَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ طَاهِرًا وَبَعْضُهُ نَجِسًا، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِكَشْطِ الْمَكَانِ فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ صَحَّ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا لِوُرُودِهِمَا فِي زَمَانَيْنِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ اطِّرَاحِ أَحَدِهِمَا وَاسْتِعْمَالِ الْآخَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَالذَّنُوبُ هُوَ: الدَّلْوُ الْكَبِيرُ قَالَ الشَّاعِرُ:
(لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوبُ ... فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ)
وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالذَّنُوبِ عَنِ النَّصِيبِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: 59] يَعْنِي: نَصِيبًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا غَالِبَاتٌ ... لِكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذَنُوبُ)
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الذَّنُوبِ مِنَ الْمَاءِ هَلْ هُوَ حَدٌّ فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ: الذَّنُوبُ حده فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ كُوثِرَ الْبَوْلُ بِدُونِ الذَّنُوبِ لَمْ يَطْهُرْ، وَإِنْ بَالَ اثْنَانِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إِلَّا دَلْوَانِ(2/258)
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: لَيْسَ الذَّنُوبُ حَدًّا، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالْمُكَاثَرَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنُصُوصِهِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ: " وَيُشْبِهُ الْمَاءُ أَنْ يَكُونَ سَبْعَةَ أَمْثَالِ النَّجَاسَةِ "، وَلَيْسَ سَبْعَةُ أَمْثَالِهَا حَدًّا فِي طَهَارَتِهِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيبِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الذَّنُوبَ لَيْسَ بِحَدٍّ فِي طَهَارَتِهِ هُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ طَهَارَةِ الْبَوْلَةِ بِالذَّنُوبِ تُؤَدِّي إِلَى تَطْهِيرِ كَثِيرِ النَّجَاسَةِ بِقَلِيلِ الْمَاءِ وَقَلِيلِ النَّجَاسَةِ بِكَثِيرِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بَوْلُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مُمَاثِلًا لِبَوْلِ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ فَمُتَّفَقٌ عَلَى قَدْرِ نَجَاسَتِهَا، وَيَخْتَلِفُ قَدْرُ الْمَاءِ فِي طَهَارَتِهَا، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ مِنَ الْحُكْمِ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُغْسَلِ الْبَوْلُ عَنِ الْأَرْضِ حَتَّى تَقَادَمَ عَهْدُهُ، وَزَالَتْ رَائِحَتُهُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ فَنَجَاسَةُ الْأَرْضِ بَاقِيَةٌ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ طَهُرَتِ الْأَرْضُ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِتُرَابِهَا وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَجَاسَةِ الْأَرْضِ هُوَ أَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَوَجَبَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَطُولِ الْمُكْثِ قِيَاسًا عَلَى الثَّوْبِ وَالْبِسَاطِ
فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَرْضِ، وَالْبِسَاطِ أَنَّ الْأَرْضَ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا تَجْذِبُ النَّجَاسَةَ الرَّطْبَةَ إِلَى قَرَارِهَا فَيُطَهَّرُ ظَاهِرُهَا، وَلَيْسَ لِلثَّوْبِ قَرَارٌ تَنْزِلُ إِلَيْهِ نَدَاوَةُ النَّجَاسَةِ
قِيلَ: هَذَا يَفْسُدُ بِالْبِسَاطِ النَّجِسِ إِذَا جَفَّ وَجْهُهُ وَنَزَلَتِ النَّجَاسَةُ إِلَى أَسْفَلِهِ هُوَ نَجِسٌ وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْأَرْضِ فِيهِ مَوْجُودًا، وَلِأَنَّهُ تُرَابٌ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَرُبَ عَهْدُ نَجَاسَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ، لِأَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَةَ نَجِسَةٌ لِنُزُولِ النَّجَاسَةِ إِلَيْهَا وَبِإِثَارَةِ التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ تَصِلُ إِلَيْهَا
قُلْنَا: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا إِذَا كَشَطَ وَجْهَ الْأَرْضِ وَأَخَذَ أَعْلَى التُّرَابِ أَنْ يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِهِ، وَفِي إِجْمَاعِنَا عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّعْلِيلِ وَتَسْوِيَةِ الْحَالِ فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّيَمُّمِ بِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْخَمْرُ فِي الْأَرْضِ كَالْبَوْلِ وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ رِيحُهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الْخَمْرُ فَنَجِسٌ بِالِاسْتِحَالَةِ وَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَقَالَ الْحَسَنُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعَدَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِخَلْقِهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَعُدُّ لِخَلْقِهِ نَجِسًا(2/259)
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَعَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]
وَالْأَرْجَاسُ: أَنْجَاسٌ إِلَّا مَا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِرَاقَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالسَّمْنِ الذَّائِبِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَأَمَّا الْآيَةُ فَتَقْتَضِي طَهَارَةَ الْخَمْرِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ مَعَهُ فِي طَهَارَتِهَا وَنَجَاسَتِهَا فِي الدُّنْيَا وَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ تَكُونَ فِي الدُّنْيَا نَجِسَةً وَيَقْلِبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَيْنَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُغَيِّرُ حُكْمَهَا، فَإِذَا ثَبَتَتْ نَجَاسَةُ الْخَمْرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَمَتَى أَصَابَتِ الْأَرْضَ فَقَدْ نَجِسَتْ فَإِنْ كَشَطَ الطَّبَقَةَ الَّتِي لَاقَاهَا الْخَمْرُ فَقَدْ طَهَّرَ الْمَكَانَ أَيْضًا، وَإِنْ زَالَ رِيحُهُ وَبَقِيَ لَوْنُهُ فَالْمَكَانُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ اللَّوْنَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، فَكَانَ بَقَاؤُهُ دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ عَيْنِهِ، فَلَوْ ذَهَبَ لَوْنُهُ وَبَقِيَ رِيحُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِتَقْصِيرِ الْغَاسِلِ لِغَسْلِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ أُعِيدَ غَسْلُهُ زَالَتِ الرَّائِحَةُ فَالْمَكَانُ نَجِسٌ وَإِنْ كَانَ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ مِنْ غير تقصير الْغَسْلِ فَفِي طَهَارَةِ الْمَكَانِ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَجِسٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ " فَجَعَلَ الرَّائِحَةَ كَاللَّوْنِ فِي التَّنْجِيسِ لِلْمَاءِ كَذَلِكَ رَائِحَةُ الْخَمْرِ كَلَوْنِهِ فِي تَنْجِيسِ الْأَرْضِ بِهِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمَكَانَ طَاهِرٌ مَعَ بَقَاءِ الرَّائِحَةِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ ذَكِيُّ الرِّيحِ، فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضًا تَعَدَّى رِيحُهُ لِقُوَّةِ ذَكَائِهِ فِيمَا جَاوَرَهُ وَاتَّصَلَ بِهِ مِنْ غَيْرِ حُلُولِ جُزْءٍ مِنَ الْعَيْنِ فِيهِ؛ فَصَارَ ذَلِكَ كَ " الْمَيْتَةِ " عَلَى حَافَّةِ بِئْرٍ طَالَ مُكْثُهَا، وَرَاحَ الْمَاءُ بِهَا لتعدي رائحتها، فلما كان الماء طاهر، أو تَغَيَّرَ رِيحُهُ، لِأَنَّ التَّغْيِيرَ بِمُجَاوَرَةِ الْمَيْتَةِ وَتَعَدِّي الرَّائِحَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ رِيحِ الْخَمْرِ لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْمَحَلِّ وَكَانَ اللَّوْنُ مُفَارِقًا لَهُ، لِأَنَّ اللَّوْنَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى مَا جَاوَرَهُ وَالرَّائِحَةَ مُتَعَدِّيَةٌ
فَأَمَّا الثَّوْبُ إِذَا بَقِيَتْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ [فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ حَتَّى تَزُولَ الرَّائِحَةُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْأَرْضِ لِأَنَّ حُكْمَ النجاسة فيها أخف لكونها معتدية لِلْأَنْجَاسِ وَلِأَنَّ رَائِحَةَ الْخَمْرِ] لَا تَتَعَدَّى إِلَى الثَّوْبِ إِلَّا بِحُلُولِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ فِيهِ لِبُعْدِهِ منه فَشَابَهُ لَوْنُ الْخَمْرِ فِي الْأَرْضِ، فَأَمَّا الْإِنَاءُ إِذَا بَقِيَتْ فِيهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ فَلَمْ تَزُلْ بِالْغَسْلِ فَهُوَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْأَرْضِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَطْهُرُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الرَّائِحَةِ فِيهِ لِطُولِ الْمُكْثِ وَكَثْرَةِ الْمُجَاوَرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْأَرْضِ سَوَاءٌ فَأَمَّا النَّيْلُ وَالْحِنَّاءُ إِذَا بُلَّا بِبَوْلٍ وَخُضِبَ بِهِ الْيَدُ أَوْ ثَوْبٌ، ثُمَّ غُسِلَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا لَوْنُهُ فَقَدْ حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ طَهَارَتُهُ، لِأَنَّ اللَّوْنَ عَرَضٌ، وَالنَّجَاسَةَ لَا تُخَالِطُ الْعَرَضَ، وَإِنَّمَا تُخَالِطُ الْعَيْنَ فَإِذَا زَالَتِ الْعَيْنُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ زَالَتِ النَّجَاسَةُ بزوال محلها(2/260)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَلَوْ صَلَّى فَوْقَ قَبْرٍ أَوْ إِلَى جَنْبِهِ وَلَمْ يَنْبِشْ أَجْزَأَهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَقْبَرَةِ، أَوْ عَلَى قَبْرٍ مَكْرُوهَةٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُجْعَلَ الْقُبُورُ مَحَارِيبَ فَإِنْ صَلَّى فَوْقَ قَبْرٍ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَحَقَّقَ نَبْشُهُ فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بَاطِلَةٌ
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: جَائِزَةٌ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ "، وَلِأَنَّ تُرَابَ الْمَقْبَرَةِ قَدْ خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ إِذَا نُبِشَ رَمِيمُ الْمَيِّتِ، فَلَوْ قِيلَ فَالْمَيِّتُ عِنْدَكُمْ طَاهِرٌ، قِيلَ: هُوَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَمَا فِي جَوْفِهِ لَيْسَ بِطَاهِرٍ
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يُنْبَشْ فَالصَّلَاةُ فِيهِ جَائِزَةٌ
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: بَاطِلَةٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى على قبر سكينة وَلِأَنَّهَا بُقْعَةٌ طَاهِرَةٌ فَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْبِقَاعِ
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: لَا يُعْلَمُ هَلْ نُبِشَ أَمْ لَا، وَالشَّكُّ فِيهِ مُحْتَمَلٌ فَفِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهَا النَّبْشُ فَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ نَبْشِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمَكَانِ وَالنَّبْشُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَرِضَ شَكُّ النَّجَاسَةِ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ
(فَصْلٌ)
: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَجْزَرَةِ وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَمَّا نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ وَالْمَجْزَرَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:(2/261)
أَحَدُهُمَا: خَوْفُ النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ دَاخِلَ الْحَمَّامِ مَحَلُّ الْأَقْذَارِ، وَالْمَجْزَرَةَ مَعْدِنُ الْأَنْجَاسِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الصَّلَاةُ فِي ذَلِكَ كَالصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ فِي التَّقْسِيمِ وَالْجَوَازِ سِيَّمَا إِنْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ الْمَكَانِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ [مَعَ الْكَرَاهَةِ وَإِنْ شَكَّ فَعَلَى وَجْهَيْنِ]
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَهْيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ لِأَجْلِ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ، وَفِي الْمَجْزَرَةِ خَوْفُ نُفُورِ الذَّبَائِحِ فَعَلَى هَذَا الصَّلَاةُ فِيهَا مَكْرُوهَةٌ لِأَجْلِ النَّهْيِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ ما لم يعلم يقين النجاسة
فأما نهينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: إِيذَاءُ الْمَارَّةِ وَالْمُجْتَازِينَ وَإِيذَاءُ الْمُصَلَّى بِهِمْ، وَقِلَّةُ خُشُوعِهِ بِاجْتِيَازِهِمْ، فَعَلَى هَذَا الصَّلَاةُ جَائِزَةٌ مَعَ مَا فِيهَا من الكراهة
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا خَالَطَ التُّرَابَ مِنْ نَجِسٍ لَا تُنَشِّفُهُ الأرض إنما يتفرق فيه فلا يطهره إلا الماء "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا صَحِيحٌ وَجُمْلَةُ النَّجَاسَةِ ضَرْبَانِ مَائِعَةٌ كَالْبَوْلِ، وَالْخَمْرِ، وَالْمَاءِ النَّجِسِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي طَهَارَةِ الْأَرْضِ مِنْهَا وَمُسْتَجْسِدَةٌ، وَهِيَ كُلُّ عَيْنٍ قَائِمَةٍ وَجَسَدٍ مُشَاهَدٍ كَالْمَيْتَةِ، وَالْعَذْرَةِ، وَالْعَظْمِ النَّجِسِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الدَّمُ، لِأَنَّهُ يَجْمُدُ فَيَسْتَجْسِدُ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الْأَرْضِ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَهَا حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ يَابِسًا أُزِيلَ عَنْهَا وَالْأَرْضُ طَاهِرَةٌ، وَلَمْ يُغْسَلِ الْمَكَانُ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا أُزِيلَ عَنْهَا وَغُسِلَ الْمَكَانُ بِمِثْلِ مَا يُغْسَلُ بِهِ الْبَوْلُ مِنَ الْمُكَاثَرَةِ بِالْمَاءِ فَإِنْ غُسِلَ الْمَكَانُ قَبْلَ إِزَالَةِ النجاسة لم يطهر وإن كانت النَّجَاسَةُ مُخْتَلِطَةً بِالتُّرَابِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَلَا طَرِيقَ إِلَى طَهَارَةِ الْمَكَانِ بِإِيرَادِ الْمَاءِ عَلَيْهِ لِاخْتِلَاطِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ بِهِ وَإِنَّمَا تُطَهَّرُ بِأَحَدِ الأمرين إِمَّا بِقَلْعِ التُّرَابِ عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ذَهَابُ جَمِيعِهَا وَظُهُورُ مَا لَمْ يُلَاقِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَهَذَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ
وَالثَّانِي: أَنْ يُطَيِّنَ الْمَكَانَ بِمَا يَمْنَعُ مَسِيسَ النَّجَاسَةِ وَمُلَاقَاتِهَا، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ طَهُرَ ظَاهِرُ الْمَكَانِ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأَكْرَهُهَا " كَأَنَّهُ جَعَلَهَا كَالْمَقْبَرَةِ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهَا لَمْ تُنْبَشْ
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا نَجِسَ مَوْضِعٌ مِنَ الْأَرْضِ فَأَشْكَلَ الطَّاهِرُ مِنَ النَّجَسِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي صَحْرَاءَ أَوْ فَضَاءٍ صَلَّى فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ النَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ صَلَاتِهِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ النَّجَاسَةَ فِي أَحَدِ بَيْتَيْهِ وَقَدْ أَشْكَلَا عَلَيْهِ اجْتَهَدَ فِيهِمَا كَالثَّوْبَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ قَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَوْضِعُهَا مِنْهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:(2/262)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالصَّحْرَاءِ يُصَلِّي فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ مَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينُ نَجَاسَتِهِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ غَسْلِ جَمِيعِهِ قَالُوا: كَمَنِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ فِي عَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ يَسِيرٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّزْوِيجُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِعَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ كَثِيرٍ وَجَمٍّ غَفِيرٍ مِنْهُنَّ جَازَ لَهُ التَّزْوِيجُ بِأَيَّتِهِنَّ شَاءَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا أُخْتُهُ، وَكَانَ هَذَا مِثَالَ الْأَرْضِ إِذَا اتسعت، أو ضاقت
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا ضَرَبَ لَبِنًا فِيهِ نَجَاسَةُ بولٍ لَمْ يَطْهُرْ إِلَّا بِمَا تَطْهُرُ بِهِ الْأَرْضُ مِنَ الْبَوْلِ وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُ شَيْئًا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ
إِذَا نُجِّسَ التُّرَابُ بِبَوْلٍ، أَوْ خَمْرٍ، أَوْ دَمٍ، أَوْ أَيِّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ، ثُمَّ ضَرَبَهُ لَبِنًا فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ لَا يُطَهَّرُ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الْمَاءِ، لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَقْهَرْهُ وَلَا يَغْلِبْ عَلَيْهِ، فَإِذَا جَفَّ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَحَدِ الأمرين، إِمَّا أَنْ يَبْسُطَ عَلَيْهِ بِسَاطًا طَاهِرًا وَإِلَّا بِأَنْ يُرِيقَ عَلَيْهِ مَاءً يُكَاثِرُهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ غَمَرَ ظَاهِرَ النَّجَاسَةِ فَيَطْهُرُ ظَاهِرَهُ دُونَ بَاطِنِهِ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَهُوَ حَامِلُهُ لِنَجَاسَةٍ بَاطِنَةٍ
وَالطَّرِيقُ إِلَى طَهَارَةِ بَاطِنِةِ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَتَمَاتَّ فِيهِ وَيَغْلِبَ الْمَاءُ عَلَى أَجْزَاءِ نَجَاسَتِهِ، ثُمَّ يَضْرِبُ لَبِنًا فَيَطْهُرُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً، وَإِذَا كَانَتْ مُسْتَجْسِدَةً كَالرَّوْثِ، وَالْعَذْرَةِ، فَلَا طَرِيقَ إِلَى طَهَارَتِهِ بِالْمَاءِ، فَإِنْ طُبِخَ آجُرًّا فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُهُ
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إِذَا ضُرِبَ اللَّبِنُ، وَفِيهِ الرَّوْثُ ثُمَّ طُبِخَ بِالنَّارِ طَهُرَ، لِأَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ الرَّوْثَ وَيَبْقَى الطِّينُ فَيَصِيرُ خَزَفًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمِصْرَ فَقَالَ: " إِذَا ضَاقَ الشَّيْءُ اتَّسَعَ " وَلَيْسَ يُرِيدُ بِذَلِكَ الطَّهَارَةَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِبَاحَةَ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَطْهُرْ ذَلِكَ بِالطَّبْخِ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي طَهَارَةِ الْأَنْجَاسِ، وَلَيْسَ وَإِنْ أَكَلَتِ النَّارُ مَا فِيهِ مِنَ الرَّوْثِ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، لِأَنَّ التُّرَابَ قَدْ نَجِسَ بِمُجَاوَرَةِ الرَّوْثِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَاءِ فِيهِ فَإِذَا زَالَ الروث بالنار المحروقة لَهُ بَقِيَتْ نَجَاسَةُ التُّرَابِ الْحَادِثَةُ عَنْ مُجَاوَرَةِ الرَّوْثِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِالطَّهَارَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ فُرِشَ الْمَسْجِدُ بِلَبِنٍ مَضْرُوبٍ بِبَوْلٍ أَوْ نَجَاسَةٍ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُصَلًّى عَلَى نَجَاسَةٍ، وَلَوْ بَنَى بِهِ حَائِطًا فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى إِلَيْهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ كرهنا ذلك كله(2/263)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْبِسَاطُ كَالْأَرْضِ، فَإِنْ صَلَّى فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ طَاهِرٍ وَالْبَاقِي نَجِسٌ لَمْ تَسْقُطْ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ أَجْزَأَهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا صَلَّى بساط على بَعْضُهُ طَاهِرٌ، وَبَعْضُهُ نَجِسٌ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْمَكَانِ الطَّاهِرِ وَلَمْ يُمَاسِّ النَّجَاسَةَ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ، أَوْ ثِيَابِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُصَلٍّ عَلَى نَجَاسَةٍ، وَلَا بِحَامِلٍ لَهَا فَشَابَهَ مَنْ صَلَّى عَلَى مَكَانٍ طَاهِرٍ مِنْ أَرْضٍ نَجِسَةٍ
وَقَالَ أبو حنيفة: وَإِنْ كَانَ الْبِسَاطُ مُتَحَرِّكًا بِحَرَكَتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ سُكُونِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ صِحَّتِهَا مَعَ حَرَكَتِهِ كَالْبِسَاطِ الطَّاهِرِ، وَلِأَنَّهَا حَرَكَةٌ لَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ الْمُتَّصِلُ بِمَحَلِّهَا طَاهِرًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَّصِلُ بِمَحَلِّهَا نَجِسًا كَالسَّرِيرِ، وَالسَّفِينَةِ فَأَمَّا إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ عَلَيْهِ أَحَدُ طَرَفَيْهِ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ عَلَيْهِ نَجَاسَتُهُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبِسَاطِ وَالثَّوْبِ أَنَّهُ حامل للثوب فصار حاملاً لنجاسته؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّوْبَ يَتْبَعُهُ وَيَنْجَرُّ مَعَهُ، والبساط لا يتبعه ولا وَلَا يَنْجَرُّ مَعَهُ
(فَصْلٌ)
: لَا بُدَّ لِلْمُصَلِّي مِنْ طَهَارَةِ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَعْضَائِهِ وَثِيَابِهِ، فَإِنْ أَصَابَ فِي صَلَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ، أَوْ ثِيَابِهِ مَوْضِعًا نَجِسًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: فَإِنْ كان الموضع الذي يحازي صَدْرَهُ نَجِسًا وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ بَدَنُهُ وَلَا ثَوْبُهُ إِذَا هَوَى فِي صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ
وَقَالَ أبو حنيفة: فِي رِوَايَةِ محمد عَنْهُ: تَفْتَقِرُ الصَّلَاةُ إِلَى طَهَارَةِ مَوْضِعِ الْقَدَمَيْنِ وَالْجَبْهَةِ حَسْبُ وَلَا يَضُرُّ نَجَاسَةُ مَا يُلَاقِيهِ بَاقِي الْجَسَدِ
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أبي يوسف عَنْهُ: يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةِ مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ دُونَ جَبْهَتِهِ وَسَائِرِ بَدَنِهِ فَجَعَلَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ: هُوَ أَنَّهُ مَوْضِعٌ مِنْ جَسَدِهِ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ فَوَجَبَ إِذَا كَانَ عَلَى نَجَاسَةٍ أَنْ لَا تَصِحَّ صَلَاتُهُ كَالْقَدَمَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي الْقَدَمَيْنِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا فِي الْكَفَّيْنِ كَالنَّجَاسَةِ وَالْحَدَثِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ يُلَاقِي بَدَنَ الْمُصَلِّي فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتَهُ كَالْقَدَمَيْنِ، وَإِذَا صَلَّى وَمَعَهُ عَلَاقَةُ كَلْبٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْعَلَاقَةُ تَحْتَ قَدَمِهِ أَجَزَأْتُهُ صَلَاتُهُ كالبساط، وإن كانت بيده، أو مشدودة بيده فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَائِزَةٌ، لِأَنَّ لِلْكَلْبِ اختياراً يتصرف بِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُضَافًا إِلَى نَجَاسَةٍ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ لِاتِّصَالِ النَّجَاسَةِ بِهِ
فَأَمَّا إِذَا أَخَذَ فِي صَلَاتِهِ رِبَاطَ مَيْتَةٍ، فَإِنْ تَرَكَهُ تَحْتَ قَدَمِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَإِنْ أخذ بيده،(2/264)
أَوْ رَبَطَهُ بِيَدَيْهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْكَلْبِ الَّذِي لَهُ اخْتِيَارٌ يَنْصَرِفُ بِهِ، فَلَوْ أَمْسَكَ بِيَدِهِ رِبَاطَ سَفِينَةٍ فِيهَا نَجَاسَةٌ وَكَانَتْ صَغِيرَةً تَنْصَرِفُ بِإِرَادَتِهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ كَمَا لَوْ أَمْسَكَ رِبَاطَ مَيْتَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى تَصْرِيفِهَا نَظَرَ فِي رِبَاطِهَا، فَإِنْ كَانَ مُلْقًى عَلَى النَّجَاسَةِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِاتِّصَالِ النَّجَاسَةِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ طَرَفُ رِبَاطِهَا مَشْدُودًا بِمَكَانٍ طَاهِرٍ مِنْهَا فَفِي صَلَاتِهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: جَائِزَةٌ
(فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي حَمْلِ الْمُسْتَقْذَرِ في الصلاة)
إِذَا حَمَلَ فِي صَلَاتِهِ طَائِرًا، أَوْ حَيَوَانًا طَاهِرًا فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَلَوْ حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسُهَا مَضْمُومًا أَوْ كَانَ ضَمًّا ضَعِيفًا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِنَجَاسَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُهَا مَضْمُومًا ضَمًّا وَثِيقًا بِرَصَاصٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَلَاتَهُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، كَمَا لَوْ حَمَلَ طَائِرًا مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ فِيهِ نَجَاسَةً مُسْتَبْطِنَةً فَكَذَلِكَ إِذَا حَمَلَ قَارُورَةً فِيهَا نَجَاسَةٌ، وَهَذَا غَلَطٌ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ نَجَاسَةَ الطَّيْرِ فِي مَعِدَتِهَا فَجَرَتْ مَجْرَى النَّجَاسَةِ فِي جَوْفِ الْمُصَلِّي وَنَجَاسَةُ الْقَارُورَةِ مُسْتَوْدَعَةٌ فَجَرَتْ مَجْرَى النَّجَاسَةِ الظاهرة
(مسألة: القول في دخول الجنب المسجد)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَمُرَّ الْجُنُبُ فِي الْمَسْجِدِ مَارًّا، وَلَا يُقِيمُ فِيهِ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تغتسلوا} قَالَ: وَذَلِكَ عِنْدِي مَوْضِعُ الصَّلَاةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
الْجُنُبُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمُقَامِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ لَهُ الِاجْتِيَازُ فِيهِ مَارًّا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ جَابِرٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ لَا مُقِيمًا، وَلَا مَارًّا تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لَا لِجُنُبٍ، وَلَا لِحَائِضٍ " قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِيَازُ فِيهِ كَالْحَائِضِ، وَمَنْ عَلَى رِجْلِهِ نَجَاسَةٌ، وَلِأَنَّهُ جُنُبٌ حَلَّ مَسْجِدًا فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا(2/265)
مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] يَعْنِي: بِالصَّلَاةِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ يُسَمَّى صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] وَالصَّلَاةُ لَا تُهْدَمُ وَإِنَّمَا يُهْدَمُ مَكَانُهَا، وَإِنْ كَانَ الِاسْمُ وَاقِعًا عَلَيْهِ كَانَ النَّهْيُ مَصْرُوفًا إِلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] وَالْعُبُورُ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْعُبُورُ عَلَى مَكَانِهَا فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] وَلَا مَوْضِعَ الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ جُنُبٌ {إِلا عَابِرِي سبيل} فَاسْتَثْنَى الِاجْتِيَازَ مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] مُسَافِرًا عَادِمًا لِلْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ، وَيُصَلِّي فَيُحْمَلُ أَوَّلُ الْآيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَآخِرُهَا عَلَى الِائْتِمَارِ، وَأَنْتُمْ حَمَلْتُمْ آخِرَ الْآيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَوَّلَهَا عَلَى الْمَجَازِ فَيَسْتَوِي التَّأْوِيلَانِ، وَيَتَقَابَلَان، وَكَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهَ بِالْحَالِ، وَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قُلْنَا: إِذَا تَقَابَلَ التَّأْوِيلَانِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ وَاحْتِيجَ إِلَى التَّرْجِيحِ، فَتَأْوِيلُنَا أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا حَمَلُوا إِضْمَارَ الصَّلَاةِ عَلَى فِعْلِهَا لَمْ يَسْتَفِيدُوا بِالْآيَةِ إِلَّا إِبَاحَةَ الصَّلَاةِ لِلْجُنُبِ الْمُتَيَمِّمِ، وَإِبَاحَةُ الصَّلَاةِ لِلْجُنُبِ إِذَا تَيَمَّمَ مُسْتَفَادٌ بِآيَةٍ أُخْرَى، وَحَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِمَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ
وَالثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ولا جنباً} الْجُنُبُ الَّذِي لَمْ يَسْتَبِحْ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ وهو المستثنى منه، ويجب أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] الْمُرَادُ بِهِ جُنُبًا لَمْ يَسْتَبِحْ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، لِأَنَّهُ الِاسْتِثْنَاءُ فَكَانَ تَأْوِيلُنَا أَوْلَى بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مِنَ التَّرْجِيحِ
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وَهَذَا مِمَّا لَا يُوصَفُ بِهِ الْمُجْتَازُ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِهِ الْمُصَلِّي قِيلَ قَدْ يُوصَفُ بِهِ الْمُجْتَازُ بِمَوْضِعِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ إِذَا سَكِرَ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْهُ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ إِذَا دَخَلَهُ فَنَهَى عَنْهُ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ أَطْفَالَكُمْ وَمَحَارِيبَكُمْ "، لِأَنَّهُمْ يُرْسِلُونَ الْبَوْلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ كَالسَّكْرَانِ الَّذِي رُبَّمَا نَجَّسَ الْمَسْجِدَ بِغَيْرِ قَصْدِهِ
ثُمَّ الدَّلِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ طريق المعنى: وهو أَنَّهُ مُكَلَّفٌ آمَنُ مِنْهُ تَنْجِيسَ الْمَسْجِدِ فَجَازَ لَهُ الْعُبُورُ فِيهِ كَالْمُحْدِثِ، وَهَذَا خَيْرُ قِيَاسٍ فِي الْمَسْأَلَةِ
وَقَوْلُنَا: مُكَلَّفٌ احْتِرَازٌ مِنَ الصِّغَارِ، والمجانين
وقولنا: من منه تنجيس المسجد احترازاً مِنَ الْحَائِضِ، وَصَاحِبِ النَّجَاسَةِ فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ(2/266)
بالحديث فضعيف، لأن رواية ابْنُ خَلِيفَةَ عَنْ جَسْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالْأَفْلَتُ بْنُ خَلِيفَةَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ صَحَّ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُقَامِ وَاللُّبْثِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَائِضِ وَصَاحِبِ النجاسة فمنتقص بِمَنِ احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِدِ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِيَازُ فِيهِ إِجْمَاعًا، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ: مَا يَخَافُ على المسجد التي هي من الجنب ما مؤنة. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُقِيمِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ أَمْرَ الِاجْتِيَازِ أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ أَمْرِ الْمُقَامِ بِدَلِيلِ الْمُحْتَلِمِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَرُدَّ الْأَخَفُّ مِنْهُمَا إِلَى الْأَصْلِ
وَالثَّانِي: أَنَّ اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ إنما أريد به القرية وَالْجُنُبُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ أَفْعَالُ الْقُرْبِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ الذِّكْرُ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، فَمِنْ أَجْلِ هَذَا لَمْ يُبَحْ لَهُ الْمُقَامُ فِيهِ وَالْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ إِنَّمَا يَكُونُ لِغَرَضٍ أَوْ لِحَاجَةٍ، وَالْجُنُبُ فِيهِمَا كالمحدث فاستويا في حكم الاجتياز
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأكره ممر الحائض فيه "
(القول في دخول الحائض المسجد)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا مُقَامُ الْحَائِضِ فِي الْمَسْجِدِ وَلُبْثُهَا فِيهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا أُحِلُّهُ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ " فَأَمَّا مُرُورُهَا فِيهِ وَعُبُورُهَا مِنْهُ فَعَلَى حَسَبِ حَالِهَا إِنْ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ لِغَلَبَةِ دَمِهَا وَسَيَلَانِهِ وَضَعْفِ شِدَادِهَا وَاسْتِرْخَائِهِ مُنِعَتْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَحَرُمَ عَلَيْهَا الْعُبُورُ فِيهِ، وَإِنْ أَمِنَتْ سَيَلَانَ الدَّمِ لِضَعْفِهِ وَقُوَّةِ شِدَادِهِ جَازَ لَهَا الْعُبُورُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ كَالْجُنُبِ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْمُقَامِ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتِ الْحَائِضُ بِتَحْرِيمِ الِاجْتِيَازِ فِيهِ لِمَا يُخَافُ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِدَمِهَا، فَإِذَا أَمِنَتْهُ زَالَ مَا اخْتَصَّتْ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الِاجْتِيَازِ فِيهِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لَهُ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ يُطْلِقُونَ الْقَوْلَ فِيهَا وَيَمْنَعُونَهَا مِنَ اجْتِيَازِهَا، وَإِطْلَاقُهُمْ مَحْمُولٌ على ما ذكرناه مِنَ التَّفْصِيلِ فِي اعْتِبَارِهَا حَالَهَا، لِأَنَّ الْحِجَاجَ يَقْتَضِيهِ مَعَ تَصْرِيحٍ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا بِهِ
(دُخُولُ المستحاضة المسجد)
فأما المستحاضة إذ أَمِنَتْ سَيَلَانَ الدَّمِ جَازَ لَهَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ والمقام فيه كالمحدث، وإن لم يأمن مِنْ سَيَلَانِهِ مُنِعَتْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالِاجْتِيَازِ خَوْفًا مِنْ تَنْجِيسِ الْمَسْجِدِ بِدَمِهَا، كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ الَّذِينَ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُمْ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ لِإِرْسَالِهِمُ النَّجَاسَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَأَطْفَالَكُمْ "(2/267)
(دخول المشرك المسجد)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيتَ الْمُشْرِكُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] (قال المزني) فإذا بات فيه المشرك فالمسلم الجنب أولى أن يجلس فيه ويبيت وأحب إعظام المسجد عن أن يبيت فيه المشرك أو يقعد فيه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
وَجُمْلَةُ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ قَدْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ ذِمَّتِهِمْ وَقَبُولِ حُرِّيَّتِهِمْ أَنْ لَا يَدْخُلُوا مَسَاجِدَنَا فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُ مَسْجِدٍ بِحَالٍ
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونُوا مِمَّنْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاجِدَنَا بِإِذْنِنَا إِلَّا الْحَرَمَ، وَمَسَاجِدَهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُهُ
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ مَسْجِدٍ بِحَالٍ لَا الْحَرَمُ وَلَا غَيْرَهُ
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة: يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ الْمَسْجِدِ كُلِّهَا فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] فَسَقَطَ بِصَرِيحِ الْآيَةِ قَوْلُ أبي حنيفة، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وأبو حنيفة أَجَازَهُ لَهُمْ، وَسَقَطَ بِدَلِيلِهَا قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّهُ خَصَّ مَنْعَهُمْ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَعْنِي: الْحَرَمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْحَرَمِ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِهِ، وَلَيْسَ نَصُّهُ عَلَى الْحَرَمِ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَنَصَّ عَلَى مَا دُونَهُ فِي الْحَرَمِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَالِكٍ رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْزَلَ وَفْدَ ثقيفٍ فِي الْمَسْجِدِ " وَرُوِيَ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي فَدْيِ أَسْرَاهُمْ أَنْزَلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: فَكُنْتُ فِيهِمْ حَيْثُ أَسْمَعُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وروي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَدَّ ثُمَامَةَ بْنَ أثالٍ عَلَى ساريةٍ مِنْ سواري المسجد " فأما المزني فإن مَنَعَ الْمُشْرِكَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَالْمَبِيتِ فِيهِ بكل قال: لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَهُ لَكَانَ الْجُنُبُ الْمُسْلِمُ أَوْلَى بِهِ لِمَوْضِعِ حُرْمَتِهِ وَتَشْرِيفِهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْلِمِ الْمَبِيتُ فِيهِ كَانَ الْمُشْرِكُ أولى(2/268)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْوَارِدُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيْهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سبيلٍ حتى تغتسلوا} [النساء: 43] وقال تعالى: {وإن أحداً مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فَفَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْمُشْرِكِ الَّذِي هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَجْلِهِ يُرْجَى زَوَالُهُ بِدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمُقَامِهِ فِيهِ إِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَظُهُورَ حُجَّتِهِ فَرُبَّمَا أَسْلَمَ مِنْ شِرْكِهِ وَلَا يُرْجَى لِمُقَامِ الْجُنُبِ فِيهِ زَوَالُ جَنَابَتِهِ وَارْتِفَاعُ حَدَثِهِ إِلَّا بِالْغُسْلِ والمساجد لم تبن للغسل، وإنما بنت لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالصَّلَاةِ
(الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَمُرَاحِ الْغَنَمِ)
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ اخْتِيَارٌ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فإنها جنٌّ من جنٍّ خلقت " وكما قال حين ناموا عن الصلاة " أخرجوا بنا من هذا الوادي فإن به شيطاناً " فكره قربه لا لنجاسة الإبل لا موضعاً فيه شيطانٌ وقد مر بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شيطانٌ فخنقه ولم تفسد عليه صلاته ومراح الغنم الذي تجوز فيه الصلاة الذي لا بول فيه ولا بعر والعطن موضع قرب البئر الذي يتنحى إليه الإبل ليرد غيرها الماء لا المراح الذي تبيت فيه "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ وَأَبَاحَ الصَّلَاةَ فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ فَأَمَّا الْعَطَنُ، فَهُوَ: مَوْضِعٌ يَكُونُ قَرِيبَ الْبِئْرِ تَنَحَّى إِلَيْهِ الْإِبِلُ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمَاءِ لِتَرِدَ غَيْرُهَا وَأَمَّا مَرَاحُ الْغَنَمِ فَهُوَ: مَوْضِعٌ عَالٍ يَقْرُبُ مِنَ الْغَنَمِ يَأْوِي إِلَيْهِ الرَّاعِي لِحِرَاسَتِهَا وَمَنَعَ الْوَحْشَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْعَطَنُ وَالْمُرَاحُ قَدْ نَجِسَا بِالْبَوْلِ وَالْبَعْرِ فَالصَّلَاةُ فِيهَا بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَا طَاهِرَيْنِ فَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا فِي الْعَطَنِ مَكْرُوهَةٌ، وَفِي الْمُرَاحِ مُبَاحَةٌ
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلَاةَ فِي مَرَاحِ الْغَنَمِ فصلوها فَإِنَّهَا سكينةٌ وبركةٌ، وَإِذَا أَدْرَكْتُمُ الصَّلَاةَ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ فَاخْرُجُوا ثُمَّ صَلُّوا فَإِنَّهَا جنٌّ مِنْ جنٍّ خُلِقَتْ أَلَا تَرَوْنَهَا كَيْفَ تَشْمَخُ بِأَنْفِهَا إِذَا نَفَرَتْ "(2/269)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَعْطَانَ الْإِبِلِ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهَ الْإِبِلَ بِهَا، وَلَيْسَ مَرَاحُ الْغَنَمِ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أخير أَنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ
وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَعْطَانِ تُعَرِّي عَنِ الْخُشُوعِ لِمَا يَخْشَى الْمُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نُفُورِ الْإِبِلِ وَلَيْسَ للغنم نفور فيخافه المصلي فيسقط به خشوعه، ألا تراه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَبَّهَ قَوْمًا بِالْإِبِلِ فَذَمَّهُمْ وَشَبَّهَ آخَرِينَ بِالْغَنَمِ فَمَدَحَهُمْ، وَقَالَ: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْغَنَمِ لينٌ مَشْيُهَا لَا تُؤْذِي مَنْ جَاوَرَهَا "
وَالثَّالِثُ: أَنَّ أَعْطَانَ الْإِبِلِ لَيْسَتْ عَلَى اسْتِوَاءٍ مِنَ الْأَرْضِ بَلْ يُرْتَادُ لَهَا الرَّفْعُ وَالْوَسَخُ وَالْمَكَانُ الْحَزَزُ، لِأَنَّهَا عَلَيْهِ أَصْلَحُ، وَلَا يُرْتَادُ لِلْغَنَمِ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا أَجْلَسَهَا تُرْبَةً وَأَعْلَاهَا بُقْعَةً، وَأَسَوَاهَا مَوْضِعًا، وَأَلْطَفَهَا مَرْبَعًا، لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إِلَّا فِيهِ وَلَا تُنْجِبُ إِلَّا عَلَيْهِ
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ جَوَّزْتُمُ الصَّلَاةَ فِيهَا وَهَلَّا أَوْجَبَ النَّهْيُ بُطْلَانَ الصَّلَاةِ فِيهَا؟ قِيلَ: لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِهَا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالشَّيَاطِينِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد مر به في صلاة شَيْطَانٌ وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -(2/270)
(بَابُ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ ويجوز فيها الفريضة والقضاء والجنازة وغيرها)
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحْمَدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس " وعن أبي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل ذلك وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة " وعن الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فإذا ارتفعت فارقها فإذا استوت قارنها فإذا زالت فَارَقَهَا فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإِذَا غَرَبَتْ فارقها " وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الصلاة في تلك الساعات وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة وعن جبير بن مطعم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يَا بَنِي عَبْدِ منافٍ مَنْ وَلِيَ منكم من أمر النَّاسِ شَيْئًا فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا البيت أو صلى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نهارٍ " (قال الشافعي) وبهذا أقول والنهي عن الصلاة في هذه الأوقات عن التطوع إلا يوم الجمعة للتهجير حتى يخرج الإمام فأما صلاة فرضٍ أو جنازةٍ أو مأمورٍ بها مؤكدةٍ وإن لم تكن فرضاً أو كان يصليها فأغفلها فتصلى في هذه الأوقات بالدلالة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قوله: " من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " وبأنه عليه السلام رأى قيساً يصلي بعد الصبح فقال ما هاتان الركعتان؟ قال ركعتا الفجر فلم ينكره وبأنه عليه السلام صلى ركعتين بعد العصر فسألته عنهما أم سلمة فقال: " هما ركعتان كنت أصليهما فشغلني عنهما الوفد " وثبت عنه عليه السلام أنه قال: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " فأحب فضل الدوام وصلى الناس على جنائزهم بعد العصر وبعد الصبح فلا يجوز أن يكون نهيه عن الصلاة في الساعات التي نهى فيها عنها إلا على ما وصفت والنهي فيما سوى ذلك ثابت إلا بمكة وليس من هذه الأحاديث شيء مختلفٌ (قال المزني) قلت أنا هذا خلاف قوله فيمن نسي ركعتي الفجر حتى صلى الظهر والوتر حتى صلى الصبح أنه لا يعيد والذي قبل هذا أولى بقوله وأشبه عندي بأصله "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ، مِنْهَا: وَقْتَانِ نَهَى عَنِ(2/271)
الصَّلَاةِ فِيهِمَا لِأَجْلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا لِلْوَقْتِ، وَثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ لَا لِفِعْلِ الصَّلَاةِ
فَأَمَّا الْوَقْتَانِ اللَّذَانِ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِمَا لِأَجْلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا لِلْوَقْتِ، فَهُمَا بَعْدَ فِعْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَبَعْدَ فِعْلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ العصر إذا دخل فالتنقل فِيهِ جَائِزٌ مَا لَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ فَإِذَا صلى العصر منع من التنقل بعدها
والدلالة على النهي على الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ بِالْإِسْنَادِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَى تَغْرُبَ الشَّمْسُ
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ الجندعي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشَّمْسُ "
وَالدَّلَالَةُ عَلَى النَّهْيِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لِأَجْلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ صَلَّى أَحَدُهُمَا الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ الْآخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ أَنْ يَتَنَفَّلَ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ صَلَّى أَنْ يَتَنَفَّلَ فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ لِلْفِعْلِ لَا لِلْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مَوْجُودٌ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّ الْعَصْرَ وَهُوَ غير ممنوع من التنقل
وَأَمَّا الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ، فَهِيَ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الشمس إلى أن ترفع وَتَنْبَسِطَ، وَإِذَا اسْتَوَتْ لِلزَّوَالِ إِلَى أَنْ تَزُولَ، وَإِذَا دَنَتْ إِلَى الْغُرُوبِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا، وَإِذَا اسْتَوَتْ فَارَقَهَا، فَإِذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ قَارَنَهَا " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ(2/272)
وَرَوَى عَامِرُ بْنُ عُقْبَةَ الْجُهَنِيُّ أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الصلاة من ثلاثة أوقاتٍ وأن تدفن فِيهِنَّ مَوْتَانَا، حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ تَقُومُ الظَّهِيرَةُ حَتَّى تَزُولَ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَوْلُهُ: حِينَ تَضَيَّفُ مَالَتْ لِلْمَغِيبِ، وَقَدْ سُمِّيَ الضَّيْفُ ضَيْفًا، لِأَنَّهُ مَالَ إِلَيْكَ وَنَزَلَ عَلَيْكَ
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ قِيلَ: فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَهْيَهُ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُمْ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى وَبَعْدَ الْعَصْرِ لِيَكُونَ أَقْوَى لَهُمْ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَعِنْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لِأَجْلِ الْقَائِلَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَجْلِسُ فِيهَا لِمَعَالِمِ دِينِهِمْ وَتِلَاوَةِ الْوَحْيِ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا يَنْقَطِعُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ فَنَهَاهُمْ عَنْهَا وَعِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ "
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَا صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ مُقَارَنَةِ الشَّيْطَانِ لِلشَّمْسِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ
فأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَعَهَا قَرْنُ الشَّيْطَانِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَرْنُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْإِنْسِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالْمَجُوسِ، وَغَيْرِهِمْ
وَالثَّانِي: جُنْدُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ يَصْرِفُهُمْ فِي أَعْمَالِهِ وَيُنْهِضُهُمْ فِي مَرْضَاتِهِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَقْبِلُ الشَّمْسَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فَيَبْرُزُ بِبُرُوزِهَا وَعِنْدَ قِيَامِهَا، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا لِيُظْهِرَ مَكْرَهُ ومكائده فيكون كل من يسجد لها سجد لَهُ، وَالْقَرْنُ: عِبَارَةٌ عَنِ الِارْتِفَاعِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، فَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ بَعْضُ الْبُلْدَانِ دُونَ بَعْضٍ، وَبَعْضُ الْأَيَّامِ دُونَ بَعْضٍ، وَبَعْضُ الصَّلَوَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ الْبُلْدَانِ فَمَكَّةُ مَخْصُوصَةٌ مِنْ سَائِرِ الْبُلْدَانِ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا
وَقَالَ أبو حنيفة: مَكَّةُ فِي النَّهْيِ كَغَيْرِهَا لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا(2/273)
وَالدَّلَالَةُ عَلَى تَخْصِيصِهَا مِنَ النَّهْيِ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ: أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا جُنْدُبٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَنْهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا إِلَّا بِمَكَّةَ
وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ شَيْئًا فَلَا يَمْنَعَنَّ أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ "
فَإِذَا ثَبَتَ تَخْصِيصُ مَكَّةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَخْصِيصِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ: إِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَجَوَازِ فِعْلِهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ دُونَ سَائِرِ النَّوَافِلِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا إِنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِجَوَازِ فِعْلِ النَّوَافِلِ كُلِّهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِعُمُومِ التَّخْصِيصِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اخْتَلَفُوا فِي تَنَفُّلِ الرَّجُلِ فِي مَنْزِلِهِ بِمَكَّةَ وَسَائِرِ الْحَرَمِ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ لَا يَجُوزُ
وَالثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ يَجُوزُ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْمَعْنَى فِي تَخْصِيصِ مَكَّةَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِهَا
قِيلَ: حِرَاسَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهَا مِنْ أَنْ يَخْتَطِفَهَا شَيْطَانٌ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَطْرَافِ الْحَرَمِ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْرُسُونَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ "
وَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَيَّامِ فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ وَانْتِصَافِ النَّهَارِ مَخْصُوصٌ بِجَوَازِ التَّنَفُّلِ فِيهِ دُونَ بَاقِي الْأَوْقَاتِ الْأَرْبَعَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ نِصْفَ النَّهَارِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالصَّلَاةِ يَطْرُدُ عَنْهُ النَّوْمَ الْمُفْضِيَ إِلَى نَقْضِ الطَّهَارَةِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا تَخْصِيصُ بَعْضِ الصَّلَاةِ بِالنَّهْيِ فَهِيَ صَلَاةُ نَافِلَةٍ ابْتَدَأَ بِهَا الْمُصَلِّي مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، فَأَمَّا ذَوَاتُ الْأَسْبَابِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَالْمَسْنُونَاتِ فَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالْفَائِتَةِ، وَالْوِتْرِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، والعيدين، والاستسقاء(2/274)
وَقَالَ أبو حنيفة: الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ الْمَنْهِيُّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ فِيهَا صَلَاةُ فَرْضٍ، وَلَا نَفْلٍ إِلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ فَأَمَّا صُبْحُ يَوْمِهِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ
وَأَمَّا الْوَقْتَانِ اللَّذَانِ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِمَا لِأَجْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا فِعْلُ النَّوَافِلِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ لَهَا أَسْبَابٌ، أَمْ لَا، وَتَجُوزُ فِيهِمَا الْفَرِيضَةُ اسْتِدْلَالًا بِعُمُومِ النَّهْيِ فِي الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الصُّنَابِحِيِّ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ
قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ مُنِعَ مِنْ نَوَافِلِ عِبَادَةٍ مُنِعَ مِنْ فَرَائِضِهَا قِيَاسًا عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ فِيهِمَا صَوْمُ التَّطَوُّعِ لَمْ يَجُزْ فِيهِمَا صَوْمُ الْفَرْضِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ رِوَايَةُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ، أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا "، وَكَانَ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، فَإِنْ قَابَلُوا هَذَا الْخَبَرَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ "، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وَقَالُوا: خَبَرُكُمْ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ، وَخَاصٌّ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَخَبَرُنَا عَامٌّ فِي الصَّلَوَاتِ، خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ فَتَسَاوَى الْخَبَرَانِ
قُلْنَا: خَبَرُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ عُمُومَنَا لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ، وَعُمُومُ خَبَرِكُمْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ إِلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ، وَالْفَرَائِضُ كُلُّهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِأَجْلِ الْفِعْلِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذكرناه ما روي عن قيس بن قهد قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الصُّبْحَ، فَلَمَّا فَرَغْنَا قُمْتُ وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ يَا قَيْسُ؟ فَقُلْتُ: رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ "
وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ الْعَصْرِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ؟ فَقَالَ: " رَكْعَتَانِ كُنْتُ أُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ فشغلني عنهما الوفد من تَمِيمٍ فَنَسِيتُهُمَا " وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ فَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ "
وَهَذَا نَصٌّ بَطَلَ بِهِ قَوْلُ أبي حنيفة، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لها سبب فحاز فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ
أَصْلُهُ عَصْرُ يَوْمِهِ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أبي حنيفة بِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ وَعُمُومِهَا فَفِيهَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ الَّتِي لَا أَسْبَابَ لَهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ(2/275)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ قَصَدَ تَأْخِيرَهَا وَإِيقَاعَهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَعْمِدُوا بِالصَّلَاةِ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَغُرُوبَهَا " وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ فَمُنْتَقَضٌ بِشَهْرِ رَمَضَانَ يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُ الْفَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ صَوْمُ النَّفْلِ، وَيَنْتَقِضُ أَيْضًا بِعَصْرِ يَوْمِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَيَوْمِ الْفِطْرِ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَنْعَقِدُ فِيهِمَا بِحَالٍ، وَقَدْ تَنْعَقِدُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بَعْضُ الصَّلَوَاتِ إِجْمَاعًا وَهِيَ عَصْرُ يَوْمِهِ وَسَائِرُ الْفَرَائِضِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ الْفَصْلِ فَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ، وَأَمَّا اعْتِرَاضُ الْمُزَنِيِّ بِالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَسَنَشْرَحُ الْمَذْهَبَ فِيهِمَا وَنُوَضِّحُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ فِي اعْتِرَاضِهِ عِنْدَ وُرُودِ ذَلِكَ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ فِي أُخْرَى أَتَمَّهَا ثم قضى وإن ذكر خارج الصلاة بَدَأَ بِهَا فَإِنْ خَافَ فَوْتَ وَقْتِ الَّتِي حضرت بدأ بها ثم قضى. (قال المزني) قال أصحابنا يقول الشافعي التطوع وجهان. أَحَدُهُمَا: صَلَاةُ جَمَاعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ لَا أُجِيزُ تَرْكَهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا وَهِيَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَكُسُوفِ الشمس والقمر والاستسقاء وصلاة منفرد وصلاة بعضها أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ وَيُشَبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ ثُمَّ رَكْعَتَا الْفَجْرِ ومن ترك واحدة منهما أسوأ حالاً ممن ترك جميع النوافل وقالوا إن فاته الوتر حتى تقام الصبح لم يقض وإن فاتته رَكْعَتَا الْفَجْرِ حَتَّى تُقَامَ الظُّهْرُ لَمْ يَقْضِ وَلَا أُرَخِّصُ لِمُسْلِمٍ فِي تَرْكِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وإن لم أوجبهما (وقال) إن فاته الوتر لم يقض وإن فاته ركعتا الفجر حتى تقام صلاة الظهر لم يقض وقالوا فأما صلاة فريضة أو جنازة أو مأمور بها مؤكدة وإن لم تكن فرضاً أو كان يصليها فأغفلها فليصل في الأوقات التي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالدلالة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قوله: " من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " وبأنه عليه السلام رأى قيساً يصلي بعد الصبح فقال: " ما هاتان الركعتان "؟ فقال: ركعتا الفجر فلم ينكره وبأنه صلى ركعتين بعد العصر فسألته عنهما أم سلمة فقال: " هما ركعتان كنت أصليهما فشغلني عنهما الوفد " وثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " وأحب فضل الدوام (قال المزني) يقال لهم فإذا سويتم في القضاء بين التطوع الذي ليس بأوكد وبين الفرض لدوام التطوع الذي ليس بأوكد فلم أبيتم قضاء الوتر الذي هو أوكد ثم ركعتي الفجر اللتين تليان في التأكيد اللتين هنا أوكد؟ أفتقضون الذي ليس بأوكد ولا تقضون الذي هو أوكد؟ وهذا من القول غير مشكل وبالله التوفيق ومن احتجاجكم قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في قضاء التطوع: " من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " فقد خالفتم ما احتججتم(2/276)
به في هذا فإن قالوا فيكون القضاء على القرب لا على البعد قيل لهم لو كان كذلك لكان ينبغي على معنى ما قلتم أن لا يقضي ركعتي الفجر نصف النهار لبعد قضائهما من طلوع الفجر وأنتم تقولون يقضي ما لم يصل الظهر وهذا متباعد وكان ينبغي أن تقولوا إن صلى الصبح عند الفجر أن له أن يقضي الوتر لأن وقتها إلى الفجر أقرب لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصبح فليوتر " فهذا قريب من الوقت وأنتم لا تقولونه وفي ذلك إبطال ما اعتللتم به "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ
وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِيهَا، وَأَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ تَرْتِيبَ الْفَوَائِتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْقَضَاءِ، وَأَنَّ مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً فَائِتَةً وَهُوَ فِي فَرْضِ وَقْتِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي صَلَاتِهِ وَيَقْضِيَ مَا فَاتَهُ، وَدَلَّلْنَا عَلَى جَمِيعِهِ بِمَا لَيْسَ لَنَا حَاجَةٌ إِلَى إِعَادَتِهِ وبالله التوفيق(2/277)
(باب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان)
قال الشافعي رضي الله عنه: " الْفَرْضُ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَتَضَمَّنُ هَذَا الْفَصْلُ الْخِلَافَ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوِتْرُ وَاجِبٌ
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى هَذَا غَيْرُ أبي حنيفة
وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَهُ بِرِوَايَةِ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهِيَ الْوِتْرُ جَعَلَهَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ "
وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ زَادَكُمْ صَلَاةً هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ حَافِظُوا عَلَيْهَا "
قَالُوا: وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أحدهما: إخباره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْوَارِدُ مِنْ جِهَتِهِ وَاجِبٌ
وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ تُضَافُ إِلَى شَيْءٍ مَحْصُورٍ، وَالنَّوَافِلَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فَدَلَّ أَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى الْفَرَائِضِ الْمَحْصُورَةِ(2/278)
وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا "
قَالُوا: فَنَفَى تَارِكَ الْوِتْرِ عَنِ الْمِلَّةِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ لِيَسْتَحِقَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بِتَرْكِهِ
وَبِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ "
وَهَذَا أَمْرٌ
وَبِرِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَلَفْظُهُ على لفضه وجوب
وبرواية فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: " الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ وِتْرٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً كَالْمَغْرِبِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، فَلَوْ كَانَتِ الْوِتْرُ وَاجِبَةً لَكَانَتْ سِتًّا، وَالسِّتُّ لَا تَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهَا وُسْطَى فَعُلِمَ أَنَّهَا خَمْسٌ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " مَا الْإِسْلَامُ قَالَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، قَالَ: فَهَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ " فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ "، وَلَمْ يَقُلْ سِتٌّ
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: " هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا " فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا " فَنَفَى عَنْهُ وُجُوبَ غَيْرِهَا، ثُمَّ أَكَّدَ النفي بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ "
وَالثَّالِثُ: قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ " وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا " فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ "، فَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِهِ مُفْلِحًا(2/279)
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ هَلْ تَجِبُ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ وَلَا لِقَوْمِكَ "، فَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَعَمَّ وُجُوبُهُ جَمِيعَ النَّاسِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ الْمُخْدِجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُدْعَى بِأَبِي مُحَمَّدٍ يَقُولُ إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ قَالَ الْمُخْدِجِيُّ: فَوَجَدْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ فَقَالَ: كَذَبَ أَبُوِ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " خَمْسٌ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِهِنَّ كَانَتْ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ " وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ قَالَ لَمَّا عَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فُرِضَ عَلَى أُمَّتِهِ خَمْسُونَ صَلَاةً فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَلْ رَبَّكَ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قَالَ: فَتَرَدَّدْتُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى رَدَّهَا إِلَى خَمْسٍ وَسَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي إِلَّا أَنِّي قَدْ مَضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي وَجَعَلْتُ لَهُمْ بِكُلِّ حَسَنَةٍ أَمْثَالَهَا: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29]
ورَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُتِبَ عَلَيَّ الْوِتْرُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، وَكُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَةُ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ " وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ يُسَنَّ لَهَا الْأَذَانُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْكَافَّةِ ابْتِدَاءً بِأَصْلِ الشرع قياساً عَلَى سَائِرِ النَّوَافِلِ، وَلِأَنَّ الصَّلَوَاتِ ضَرْبَانِ فَرْضٌ، وَنَفْلٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي جِنْسِ الْفَرْضِ وِتْرٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسِ النَّفْلِ وِتْرٌ كَالْفَرَائِضِ
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسِهِ وِتْرٌ كَالْفَرَائِضِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ سُنَنِهَا أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِغَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نَفْلًا قِيَاسًا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهَا وَلَا يَفْسُقُ تَارِكُهَا، وَلَا يُقْتَلُ مَنْ تَوَانَى عَنْهَا فَكَانَتْ بِالنَّوَافِلِ أَشْبَهَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيمَا ذَكَرْنَا
فَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَنْ جَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ " فَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنَا بِصَلَاةِ النَّفْلِ كَمَا أَمَرَنَا بِالْوَاجِبِ(2/280)
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " زَادَكُمْ " فَهُوَ دَلِيلُنَا، لِأَنَّهُ زَادَ لَنَا لَا عَلَيْنَا، وَقَوْلُهُمُ الزِّيَادَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى مَحْصُورٍ فَيُقَالُ لَهُمُ النَّوَافِلُ ضَرْبَانِ: مُؤَكَّدَةٌ، وَغَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ، فَالْمُؤَكَّدَةُ مَحْصُورَةُ الْقَدْرِ، كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَالنَّوَافِلِ الْمُوَظَّفَاتِ قَبْلَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْدَهَا عَلَى أَنَّ مِنْ أَصِلِهِمْ أَنَّهَا غَيْرُ مَزِيدَةٍ عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ فَرْضًا تُزَادُ عَلَى الْوَظَائِفِ، وَلَا نَفْلًا تُزَادُ عَلَى النَّوَافِلِ فَسَقَطَ مِنْ حَيْثُ أَوْرَدُوهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا " فَمَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِإِجْمَاعٍ؛ لِأَنَّ تَارِكَ الْوِتْرِ لَا يَكُونُ كَافِرًا خَارِجًا عَنِ الْمِلَّةِ فَاحْتَجْنَا وَإِيَّاهُمْ إِلَى تَأْوِيلٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَنَحْنُ أَقْدَرُ عَلَى تَأْوِيلِهِ مِنْهُمْ، فَنَقُولُ: مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يُوتِرْ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا غَيْرُ سُنَّةٍ، فَلَيْسَ مِنَّا عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا " وَتَوْقِيرُ الْكَبِيرِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فعله واستحبابه
والثاني: أن في تخصيص أَهْلِ الْقُرْآنِ بِهِ
وَقَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ: " إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ، وَلَا لِقَوْمِكَ " دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً وَنَدْبًا
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ مَسْنُونٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَغْرِبِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهَا صَلَاةٌ سُنَّ لَهَا أَذَانٌ وإقامة، ثم يقال لأبي حنيفة: ما تعم الْبَلْوَى بِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى أَصْلِكَ بِالْقِيَاسِ، وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَ مَعَكَ فِيهِ تَوَاتُرٌ فَلِمَ أَثْبَتَّ وُجُوبَهُ، وَفِيهِ مُخَالَفَةُ أَصْلِكَ فَإِنْ ذَكَرَ جَوَابًا كَانَ تَوْقِيفًا وَاعْتِذَارًا تَفْصَحُهُ السِّيَرُ - والله أعلم -
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: صَلَاةُ جَمَاعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ، لَا أُجِيزُ تَرْكَهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَهِيَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَصَلَاةُ مُنْفَرِدَةٍ وَبَعْضُهَا أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ، فَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ وَيُشَبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ، ثُمَّ ركعنا الْفَجْرِ، وَلَا أُرَخِّصُ لِمُسْلِمٍ فِي تَرْكِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ أُوجِبْهُمَا، وَمَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَسْوَأُ حَالًا مِنْ تَرْكِ جَمِيعِ النَّوَافِلِ "(2/281)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالصَّلَاةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
فَرْضٌ
وَتَطَوُّعٌ
فَالْفَرْضُ: خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ جَحَدَهُنَّ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَهُنَّ غَيْرَ جَاحِدٍ فَقَدْ فَسَقَ فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا سُنَّ فِعْلُهُ فِي جَمَاعَةٍ، وَهُوَ خَمْسُ صلوات العيدان، والخسوفان، الاستسقاء
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا سُنَّ فِعْلُهُ مُفْرَدًا، وَهُوَ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَصَلَاةُ الضُّحَى، وَالسُّنَنُ الْمُوَظَّفَاتُ مَعَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ
فَأَمَّا مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ فَهُوَ آكَدُ، وَأَفْضَلُ مِمَّا سُنَّ مُنْفَرِدًا لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْفَرَائِضِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمَاعَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْفَرَائِضُ ضَرْبَيْنِ، ضَرْبٌ فُرِضَ فِي جَمَاعَةٍ، وَهُوَ الْجُمُعَةُ، وَضَرْبٌ لَمْ يُفْرَضْ فِي جَمَاعَةٍ
وَالسُّنَّةُ ضَرْبَانِ
ضَرْبٌ فِي جَمَاعَةٍ
وَضَرْبٌ لَمْ يُسَنَّ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ وَجَدْنَا مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَفْرُوضِ أَوْكَدَ وَأَفْضَلَ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سُنَّ فِي الْجَمَاعَةِ مِنَ الْمَسْنُونِ أَوْكَدَ وَأَفْضَلَ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الَّتِي سُنَّ لَهَا الْجُمُعَةُ أَدَاؤُهَا جَمَاعَةً أَفْضَلَ مِنْ أَدَائِهَا فُرَادَى وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّوَافِلُ الَّتِي سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ أَفْضَلَ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي لَمْ تُسَنَّ فِي جَمَاعَةٍ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي جَمَاعَةٍ أَفْضَلُ وَآكَدُ فَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِقُوَّةِ سَبَبِهَا، وَظُهُورِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِهَا، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَسْتَوِي حُكْمُ جَمِيعِهَا فِي الْفَضْلِ وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْكَدَ مِنْ بَعْضٍ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " فَجَعَلَ مَا سِوَى الْخَمْسِ تَطَوُّعًا، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهَا فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوَكْدَ مِنْ بَعْضٍ لِاسْتِوَاءِ أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِعْلِهِ لَهَا وَحَمْلِهِ عَلَيْهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَهَا أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا سُنَّ فِعْلُهُ مُفْرَدًا بَعْضُهُ أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سُنَّ فِي الْجَمَاعَةِ بَعْضُهُ أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ، فعلى هذا(2/282)
أَوْكَدُ ذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّ لَهَا وَقْتًا رَاتِبًا فِي السَّنَةِ مُعَيَّنًا فِي الْيَوْمِ فَشَابَهَتِ الْفَرَائِضَ، ثُمَّ يَلِيهَا فِي التَّأْكِيدِ صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ، ثُمَّ خُسُوفِ الْقَمَرِ لِوُرُودِ الْقُرْآنِ بِهِمَا، ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا النَّوَافِلُ الَّتِي سُنَّ فِعْلُهَا مُنْفَرِدًا، فَأَوْكَدُهَا صَلَاتَانِ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَفِي أَوْكَدِهِمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ أَوْكَدُ مِنَ الْوِتْرِ
وَالثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ الْوِتْرُ أَوْكَدُ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ
وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْكَدُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " فَكَانَ ظَاهِرًا يَقْتَضِي تَفْضِيلَهَا عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفَرَائِضَ أَفْضَلُ
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَثَّ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِفِعْلِهَا
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَتْرُكُوهَا وَلَوْ دَهَمْتُمُ الْخَيْلَ "
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حِينَ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بِالْوَادِي خَرَجَ مِنْهُ فَابْتَدَأَ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَقَدَّمَهَا عَلَى صَلَاةِ الْفَرْضِ. فَدَلَّ عَلَى تَأْكِيدِهَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَوْتَرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِلَّا عَلَى الْأَرْضِ، وَجَعَلَهَا فِي حَيِّزِ الْفَرْضِ فَدَلَّ عَلَى تَفْضِيلِهَا؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَحْصُورَةٌ بالعدد لا يزاد عليها ولا ينقض مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَوْكَدَ مِنَ الْوِتْرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا عَدَدٌ مَحْصُورٌ، وَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي لَهَا عَدَدٌ مَحْصُورٌ، وَلِأَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ تَتْبَعُ الصُّبْحَ، وَالْوِتْرَ يَتْبَعُ الْعِشَاءَ، وَالصُّبْحُ أَوْكَدُ مِنَ الْعِشَاءِ لِأَنَّهَا صَلَاةُ الْوُسْطَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعُهَا أَوْكَدَ مِنْ مَتْبُوعِ الْعِشَاءِ
وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الْوِتْرَ أَوْكَدُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة عَلَى وُجُوبِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُقَدَّمَةِ فِي صَدْرِ الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مَشْرُوعَةٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْكَدُ مِنْ فِعْلِهِ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا وَرَكْعَتِي الْفَجْرِ مُجْمَعٌ(2/283)
عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ أَوْكَدَ فَمَنْ قَالَ بالقول الأول(2/284)
انْفَصَلَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْوِتْرَ مَشْرُوعَةٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ فِعْلِهِ، فَإِنْ قَالَ:(2/285)
فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاسْتَوَيَا عَلَى أَنَّا قَدْ رَوَيْنَا فِيهِ قَوْلًا فلم يَكُنْ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَجْهٌ، وَانْفَصَلَ عَنِ التَّرْجِيحِ بِالِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا، فَإِنْ قَالَ: قَدْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ التَّرْجِيحُ عَلَيْنَا بِمَذْهَبِ غَيْرِنَا
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا أَوْضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوَجُّهِ الْقَوْلَيْنِ، فَصَلَاةُ الْوِتْرِ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ أَوْكَدُ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ " فَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ هِيَ الْوِتْرُ نَفْسُهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَقَالَ الْمُزَنِيُّ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ " وَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هِيَ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ غَيْرُ الْوِتْرِ وَهِيَ صَلَاةٌ يُصَلِّيهَا الْإِنْسَانُ فِي اللَّيْلِ وِرْدًا لَهُ
وَأَصْلُ التَّهَجُّدِ فِي اللِّسَانِ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ: تَهَجَّدْتُ إِذَا نِمْتَ قَالَ لَبِيدٌ:
(قَدْ هَجَدْنَا فَقَدْ طَالَ السُّرَى ... وَقَدَرْنَا إِنْ خَنَا الدَّهْرُ غَفَلْ)
وَيُقَالُ: تَهَجَّدْتُ إِذَا سَهِرْتَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فَالتَّهَجُّدُ عَلَى هَذَا أَنْ يُصَلِّيَ وَقْتَ يَكُونُ النَّاسُ فِيهِ نِيَامًا، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هَلْ تَكُونُ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ أَوْكَدَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ أَوْكَدُ، لِأَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قَدْ كَانَ نَائِبًا عَنِ الْفَرَائِضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْكَدَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ الَّتِي لَمْ تَنُبْ عَنْ فَرْضٍ قَطُّ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ " مَعْنَاهُ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَتْبَعُ الْوِتْرَ فِي التَّأْكِيدِ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَعَلَيْهِ أَصْحَابُنَا: أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْكَدُ مِنْ صَلَاةِ التَّهَجُّدِ لِمَا تَقَدَّمَ
وَالدَّلِيلُ فِي تَأْكِيدِهَا عَلَى الْوِتْرِ، فَأَمَّا مَا عَدَا الْوِتْرَ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مِنَ النَّوَافِلِ الْمُوَظَّفَاتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، فَقَدْ حَكَى الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ قبل العشاء، وركعتين بعدها
(فصل: القول في صلاة الضحى)
وَأَمَّا صَلَاةُ الضُّحَى فَسُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ قَدْ فَعَلَهَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدَاوَمَ عَلَيْهَا وَاقْتَدَى بِهِ السَّلَفُ فِيهَا وَرُوِيَ أَنَّ أَقَلَّ مَا كَانَ يُصَلِّيهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَأَكْثَرَ مَا كَانَ يُصَلِّيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَانِي رَكَعَاتٍ وَرُوِيَ(2/286)
أَنَّ آخِرَ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ويختار أن يصليها ثمان رَكَعَاتٍ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَوَقْتُهَا فِي الِاخْتِيَارِ إِذَا مَضَى مِنَ النَّهَارِ رُبُعُهُ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَعِشَاءِ الْآخِرَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَيَقُولُ: " هَذِهِ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ فَمَنْ صَلَّاهَا غُفِرَ لَهُ " وَكَانَ الصَّالِحُونَ مِنَ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُصَلُّونَهَا وَيُسَمُّونَهَا صَلَاةَ الْغَفْلَةِ أَيِّ النَّاسُ غَفَلُوا عَنْهَا وَتَشَاغَلُوا بِالْعَشَاءِ وَالنَّوْمِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخْتَارٌ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا أَفْضَلُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " فَيُخْتَارُ فَضْلُ الدَّوَامِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُعِينٌ
(الْقَوْلُ فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ)
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ فَاتَهُ الْوِتْرُ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ لَمْ يَقْضِ "
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَإِنْ فَاتَهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ حَتَّى تُقَامَ الظُّهْرُ لَمْ يَقْضِ، لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ "
قال الماوردي: وهذا صحيح. أما إذا نَسِيَ الْوِتْرَ وَذَكَرَهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيُصَلِّيهَا وَتَكُونُ أَدَاءً لَا قَضَاءً، فَأَمَّا إِذَا نَسِيَ الْوِتْرَ وَذَكَرَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ نَسِيَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ثُمَّ ذَكَرَهَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَقْضِي وَنَقَلَهُ فِي الْقَدِيمِ وَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عُمُومُهُ عَلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ يَقْضِي ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَأَجَابَ عَمَّا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِهِ " لَا يُقْضِي بِجَوَابَيْنِ ":
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ أَوْجَبَ قَضَاءَ الْوِتْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِعَادَةَ الصُّبْحِ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيهِمَا وَهُمَا:
الْأَوَّلُ: إِيجَابُ الْوِتْرِ
والثاني: إيجاب تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا يَقْضِي " يَعْنِي: وَاجِبًا، فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَيَقْضِي وَلَوْ بَعْدَ نَوْمٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ صَلَاةَ وِتْرٍ، وَرَكْعَتَيْ فَجْرٍ فَهَذَا جَوَابٌ(2/287)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَضَاءِ ذَلِكَ أَمْرًا لَازِمًا مِنْ أَجْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " الْوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ "
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " فَصَرَفَ وُجُوبَ الْقَضَاءِ مِنْ أَجْلِ هَذَا، وَأَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِالْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنَ النَّفْلِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْفَرْضِ، فَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَرَكْعَتَيِ الصُّبْحِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تُقْضَى
وَوَجْهُهُ: أَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تُفْعَلُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْوَقْتِ، أَوْ لِتَعَلُّقِهَا بِالذِّمَّةِ أَوْ تَبَعًا لِفِعْلِ فَرِيضَةٍ، وَالْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ لَمْ يَتَعَلَّقَا بِالْوَقْتِ، وَلِأَنَّ وَقْتَيْهِمَا قَدْ فَاتَا وَهِيَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالذِّمَّةِ، لِأَنَّ النَّافِلَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ وَلَيْسَ يُفْعَلَانِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ، لِأَنَّ مَتْبُوعَهَا قَدْ سَقَطَ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا لَا يُفْعَلَانِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تُقْضَى وَهُوَ الصَّحِيحُ
وَوَجْهُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا " وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا وَقْتٌ رَاتِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ فَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَإِذَا أَكْمَلَ فَرْضَهُ رَكَعَهُمَا
وَقَالَ أبو حنيفة: يَرْكَعْهُمَا قَبْلَ فَرْضِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " فَأَمَّا إِذَا قِيلَ لَا يَقْضِي فَهَلْ يَسْقُطُ فِعْلُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى أَوْ بِدُخُولِ وَقْتِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِدُخُولِ الْوَقْتِ فَعَلَى هَذَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الْوِتْرِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ
وَالثَّانِي: بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا يُصَلِّي الْوِتْرَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَإِذَا صَلَّاهَا سَقَطَ فِعْلُ الْوِتْرِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَإِذَا صَلَّاهَا سَقَطَ فِعْلُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى " وَفِي ذَلِكَ دلالتان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّوَافِلَ مَثْنَى مَثْنَى بِسَلَامٍ مَقْطُوعَةٍ والمكتوبة موصولة والأخرى أن الوتر واحدة فيصلي النافلة مثنى مثنى قائماً وقاعداً إذا كان(2/288)
مقيماً وإن كان مسافراً فحيث توجهت به دابته كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي الوتر على راحلته أينما توجهت به "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
(الْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ)
الْأَفْضَلُ فِي نَوَافِلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى، يَقْطَعُ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ، بِسَلَامٍ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ مَا بَعْدَهُمَا بِإِحْرَامٍ وَأَيَّ عَدَدٍ صَلَّى بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ وَلَا يُكْرَهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: الْأَفْضَلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أربعاً بسلام وأكده أَنْ يَزِيدَ فِي النَّهَارِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَفِي الليل على ثماني تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا يُسَلِّمُ فِيهِنَّ إِلَّا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ "، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِنْ خَشِيَ أحدكم الصبح فليوتر بواحدة قَبْلَهَا "
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى " فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَثْنَى: أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي كُلِّ مَثْنَى، قِيلَ: لَا يَكُونُ مَثْنَى إِلَّا بِسَلَامٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جَمْعُ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَى سَلَامٍ وَإِحْرَامٍ
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ
وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّوَافِلُ الْمَسْنُونَةُ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْكَدَ، وَكَانَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ اقْتَضَى وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُسَنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّوَافِلِ أَفْضَلَهَا رَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ مِنْ جِنْسِهَا، وَلِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ غَالِبِ الْفَرَائِضِ وبينها(2/289)
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّهَا تُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَقْلُ فِعْلٍ قَدْ رَوَيْنَا مَا يُعَارِضُهُ، مَعَ قَوْلٍ يعاضده فكان ما ذهبنا إليه أولى
(فصل: القول في فعل النافلة قاعداً)
فَأَمَّا صَلَاةُ النَّافِلَةِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى القيام فجائز، ولو صلاها قائماً فكان أَوْلَى، وَلَوْ صَلَّاهَا قَائِمًا مُضْطَجِعًا مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا سَفَرٍ جَازَ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ الْقَاعِدِ فِي الْأَجْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ "، وَهَذَا وَارِدٌ فِي النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ دُونَ الْفَرْضِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ إِذَا صَلَّى قَاعِدًا حَسْبَ طَاقَتِهِ كَانَ كَالْمُصَلِّي قَاعِدًا فِي التَّمَامِ والأجر، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مِنْ أَحَدٍ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ عَمَلًا فَعَجَزَ عَنْهُ عِنْدَ مَرَضِهِ إِلَّا وَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَلَكًا يَكْتُبُ لَهُ ثَوَابَ مَا تَرَكَ مِمَّا عَجَزَ عَنْهُ "، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ النَّوَافِلُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى القيام
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَمَّا قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ وَرَأَيْتُهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَقُومُونَ لِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَحَبُّ إِلَيَّ عِشْرُونَ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ يَقُومُونَ بِمَكَّةَ وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثَةٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: " أَمَّا الْأَصْلُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهِيَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَجَمَعَهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ فَجَمَعَهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ انْتَظَرُوهُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَصَلَّوْا مُتَفَرِّقِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدْ عَلِمْتُ بِاجْتِمَاعِكُمْ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرْتُ لِأَنِّي خِفْتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ " وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ وَأَوَّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجْمَعُ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيُصَلِّي بِهِمُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ، وَالْعَشْرَ الثَّانِيَ وَيَتَخَلَّى لِنَفْسِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ، إِلَى أَنْ قَرَّرَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا(2/290)
سَمِعُوا قِرَاءَةً طَيِّبَةً تَبِعُوا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلْتُمُ الْقُرْآنَ أَغَانِيَ فَجَمَعَهُمْ إِلَى أبي فصارت ستة قَائِمَةً، ثُمَّ عَمِلَ بِهَا عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْأَئِمَّةُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ سُنَّةٍ سَنَّهَا إِمَامٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَثَبَتَ فَالَّذِي أَخْتَارُ عِشْرُونَ رَكْعَةً خَمْسُ ترويحات كل ترويحة شفعين كل شفع ركعتين بِسَلَامٍ ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً جَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَعَلَيْهِ النَّاسُ بِمَكَّةَ
قال الشَّافِعِيُّ: " وَرَأَيْتُهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَقُومُونَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً بسبع ترويحات، ويوثرون بِثَلَاثٍ " وَإِنَّمَا خَالَفُوا أَهْلَ مَكَّةَ فِي ذَلِكَ وَزَادُوا فِي عَدَدِ رَكَعَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا تَرْوِيحَةً طَافُوا سَبْعًا إِلَّا التَّرْوِيحَةَ الْخَامِسَةَ فَإِنَّهُمْ يُوتِرُونَ بَعْدَهَا، وَلَا يَطُوفُونَ فَيَحْصُلُ لَهُمْ خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ وَأَرْبَعُ طَوَافَاتٍ، فَلَمَّا لم يكن أَهْلَ الْمَدِينَةِ مُسَاوَاتُهُمْ فِي الطَّوَافِ الْأَرْبَعِ، وَقَدْ سَاوَوْهُمْ فِي التَّرْوِيحَاتِ الْخَمْسِ جَعَلُوا مَكَانَ أَرْبَعِ طَوَافَاتٍ أَرْبَعَ تَرْوِيحَاتٍ زَوَائِدَ فَصَارَ لَهُمْ تِسْعُ تَرْوِيحَاتٍ تَكُونُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً لِتَكُونَ صَلَاتُهُمْ مُسَاوِيَةً لِصَلَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَطَوَافِهِمْ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ لَهُ تِسْعُ أَوْلَادٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ جَمِيعَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فَقَدَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَصَلَّى تَرْوِيحَةً فَصَارَتْ سُنَّةً وَقِيلَ: بَلْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ تِسْعَ قَبَائِلَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ سَارَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَاقْتَتَلُوا فَقَدَّمَ كُلُّ قَبِيلَةٍ رَجُلًا فَصَلَّى بِهِمْ تَرْوِيحَةً ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَقِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ فَفِي النَّوَافِلِ الَّتِي تُفْعَلُ فُرَادَى مَا هُوَ أَوْكَدُ مِنْهُ، وَذَلِكَ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَهَذَا قَوْلُ أبي العباس بن سريج
ووالتأويل الثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَفْضَلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي انْفِرَادِهِ تَعْطِيلُ الْجَمَاعَةِ، فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا كان ذلك كَذَلِكَ، لِرِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ صَلَاةَ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ "
فَأَمَّا إِنْ تَعَطَّلَتِ الْجَمَاعَةُ بِانْفِرَادِهِ فَصَلَاتُهُ جَمَاعَةً أَفْضَلُ لِمَا فِي تَعْطِيلِهَا مِنْ إطفاء نور المساجد وترك السنة المأثورة
(مسألة: الْقَوْلُ فِي قُنُوتِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَقْنُتُ إِلَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ، وَمُعَاذٌ الْقَارِي "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صحيح(2/291)
وَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي جَمِيعِ الدَّهْرِ وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ
فَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فَغَيْرُ سُنَّةٍ فِي شيء من السنة إلى فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ
وَقَالَ أبو حنيفة: الْقُنُوتُ سُنَّةٌ فِي الْوِتْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيٍّ وَقَالَ: صَلِّ بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلَا تَقْنُتْ بِهِمْ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ وَالْعَشْرِ الثَّانِي؛ وَتَخَلَّفَ فِي مَنْزِلِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ فَقَالُوا أَبَقَ أُبَيُّ وَقَدَّمُوا مُعَاذًا فَصَلَّى بِهِمْ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ وَقَنَتَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ عَلَى أَنَّ الْقُنُوتَ سُنَّةٌ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لَا غَيْرَ
فَأَمَّا رِوَايَتُهُمْ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ فِي الْوِتْرِ فَلَيْسَ بثابتٍ لِأَنَّ أُبَيًّا لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ
قَالَ الْمُزَنِيُّ: سَأَلْنَا الشَّافِعِيَّ أَكَانَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ فَقَالَ: لَا يُحْفَظُ عَنْهُ قَطُّ، وَحَسْبُكَ بِالشَّافِعِيِّ يَقُولُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ رُوِيَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الشَّهْرِ حِينَ كَانَ يَقْنُتُ فِي سَائِرِ الصلوات ثم ترك
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَآخِرُ اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَوَّلِهِ وَإِنْ جَزَّأَ اللَّيْلَ أَثْلَاثًا فَالْأَوْسَطُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقُومَهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَحَبَّ الْمُصَلِّي أَنْ يُجَزِّئَ لَيْلَهُ جُزْأَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِنَوْمِهِ أَوْ لِشُغْلِهِ وَالْآخَرُ لِصَلَاتِهِ، فَالْجُزْءُ الْأَخِيرُ أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجْعَلَهُ لِصَلَاتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ؛ وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَجَاءَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَامَ بَعْدَ الْعِشَاءِ إِلَى أَنِ انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَقَامَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى أَنْ جَاءَ بِلَالٌ " وَلِأَنَّهُ إِذَا قَدَّمَ نَوْمَهُ كَانَ ذَلِكَ أَسْكَنَ لِجَسَدِهِ، وَأَخْلَى لِقَلْبِهِ، وَأَنْقَى لِرُوعِهِ، وَأَمْكَنَ لَهُ فِي عَادَتِهِ وَأَمَّا إِنِ اخْتَارَ أَنْ يُجَزِّئَ لَيْلَهُ أَثْلَاثًا فَيَجْعَلُ ثُلُثًا لِنَوْمِهِ وَثُلُثًا لِصَلَاتِهِ وَثُلُثًا لِنَظَرِهِ فِي أَمْرِهِ فَالثُّلُثُ الْأَوْسَطُ أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجْعَلَهُ لِصَلَاتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] يَعْنِي: نَاشِئَةَ مَا تَنْشَأُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ الصَّلَاةُ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ يَعْنِي: الْأَسْوَدَ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ(2/292)
يَوْمًا، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ أَخِي دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ الثُّلُثَ وَيَقُومُ النِّصْفَ، وَيَنَامُ السُّدُسَ وَلِأَنَّ أَوْسَطَ اللَّيْلِ أَهْدَأَهُ وَأَخْلَاهُ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَرْنَاهُ
(مسألة: الْقَوْلُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ)
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الْمُزَنِيُّ: " قلت أنا في كِتَابِ اخْتِلَافِهِ ومالكٍ قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ أَيَجُوزُ أَنْ يُوتِرَ بواحدةٍ لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ؟ قَالَ نَعَمْ والذي اختاره ما فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدةٍ والحجة في الوتر بواحدةٍ السنة والآثار. رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أحدكم الصبح صلى ركعة الوتر له ما قد صلى " وعن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدةٍ وأن ابن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين من الوتر حتى يأمر ببعض حاجته وأن عثمان كان يحيي الليل بركعةٍ هي وتره وعن سعد بن أبي وقاصٍ أنه كان يوتر بواحدةٍ وأن معاوية أوتر بواحدةٍ فقال ابن عباس أصاب (قال المزني) قلت أنا فهذا به أولى من قوله يوتر بثلاثٍ وقد أنكر على مالكٍ قوله لا يحب أن يوتر بأقل من ثلاثٍ ويسلم بين الركعة والركعتين من الوتر واحتج بأن من سلم من اثنتين فقد فصلهما مما بعدهما وأنكر على الكوفي أن يوتر بثلاث كالمغرب فالوتر بواحدة أولى به (قال المزني) ولا أعلم الشافعي ذكر موضع القنوت من الوتر ويشبه قوله بعد الركوع كما قال في قنوت الصبح ولما كان من رفع رأسه بعد الركوع يقول: " سمع الله لمن حمده " وهو دعاء كان هذا الموضع بالقنوت الذي هو دعاء أشبه ولأن من قال يقنت قبل الركوع يأمره أن يكبر قائماً ثم يدعو وإنما حكم من كبر بعد القيام إنما هو للركوع فهذه تكبيرة زائدة في الصلاة لم تثبت بأصلٍ ولا قياسٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
أَقَلُّ الْوِتْرِ عِنْدَنَا رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَكْثَرُهُ أَحَدَ عَشَرَ رَكْعَةً، فَإِنْ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ خَمْسٍ، أَوْ سَبْعٍ، أَوْ تِسْعٍ، أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ مَوْصُولَةٍ بِتَسْلِيمَةٍ أَجَزَأَهُ، أَوْ مَفْصُولَةٍ بِتَسْلِيمَتَيْنِ جَازَ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مَفْصُولَةً بِتَسْلِيمَتَيْنِ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ اثْنَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِالْأَخِيرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ
وَقَالَ مَالِكٌ: أَقَلُّ الْوِتْرِ ثَلَاثَةٌ لَكِنْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ(2/293)
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ فَصَلُّوا وِتْرَ اللَّيْلِ " فَأَمَرَ أَنْ يَكُونَ الْوِتْرَ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَبِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ الْبَتْرَاءِ ركعةٍ واحدةٍ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرُبَّمَا وَصَلُوهُ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ " قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا قِيَاسًا عَلَى بَعْضِ رَكْعَةٍ
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بركعةٍ "
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ واحدةٍ وَيَقُولُ هَذَا وِتْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مسلمٍ، وَلَيْسَ بواجبٍ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بثلاثٍ فَلْيُوتِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بواحدةٍ فَلْيُوتِرْ " فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ، وَعَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ تُجْزِئُ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ سَائِغٌ
وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي فِي اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ اثْنَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بواحدةٍ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " فَدَلَّ مَا رَوَيْنَاهُ قَوْلًا، وَفِعْلًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ كَانَ صَلَاةً جَازَ أَنْ يَكُونَ شَطْرُهُ صَلَاةً كَالْأَرْبَعِ، وَلِأَنَّ أَقَلَّ نَوْعَيِ الْعَدَدِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَلَاةً، كَالشَّفْعِ الَّذِي أَقَلُّهُ رَكْعَتَانِ، وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُفْعَلَ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَلَاةً كَالرَّكْعَتَيْنِ
فَمَا تَعَلُّقُهُمْ بِمَا رَوَوْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ فَصَلُّوا وِتْرَ اللَّيْلِ " فَحَدِيثُ مَجْهُولٍ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَإِنْ سَلِمَ لَهُمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْأَفْرَادِ دُونَ الْأَزْوَاجِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَسَاوِيَهُمَا فِي الْعَدَدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ افْتِرَاقُهُمَا فِي غَيْرِ الْعَدَدِ إِذَا صَحَّ التَّشْرِيكُ بَيْنَهُمَا، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يُعَارِضُهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثَةٍ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْمَغْرِبِ وَأَوْتِرُوا بِخَمْسٍ، أَوْ تِسْعٍ " وأما نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ الْبَتْرَاءِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ " فَمَحْمُولٌ عَلَى الْفَرْضِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(2/294)
فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى بَعْضِ الرَّكْعَةِ، فَالْوَصْفُ بِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُمْ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ قَدْ تَكُونُ فَرْضًا إِذَا نَذَرَهَا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الرَّكْعَةِ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً بِانْفِرَادِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ
فَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثٌ بِسَلَامَيْنِ فَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّا لَا نَجِدُ فِي الشَّرْعِ صَلَاةً لَا يَكُونُ السَّلَامُ فِيهَا قَطْعًا فَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يَعْنِي بِقَوْلِهِ إِنَّهَا ثَلَاثٌ لَا يُجَزِئُ أَقَلُّ مِنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً كَقَوْلِ أبي حنيفة، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الْوِتْرَ هِيَ الْمُفْرَدَةُ فَهُوَ كَقَوْلِنَا، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ اتفاق الجميع على أن الثلاث ركعات يجهز فِيهَا كُلِّهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَكَانَ مِنْ حُكْمِهَا أَنْ لَيْسَ فِي الثَّلَاثَةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَكَالْمَغْرِبِ، فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الرَّكْعَةَ الْمُفْرَدَةَ لَهَا حُكْمُ نَفْسِهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَهَا، وَإِنْ وَصَلَ ذَلِكَ بِهَا لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّتِهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْوِتْرُ عِنْدَكُمْ رَكْعَةً فَلِمَ لَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ تُبْطِلُهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، قِيلَ: لِظُهُورِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَوُرُودِ السُّنَّةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا
وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهُنَّ بخمس لا يجلس إلا في الخامسة
أما الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى الشَّافِعِيِّ قَدْ قَالَ فِي مَوَاضِعَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، وَحُكِيَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ ظَنَّ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَهُ ثَانٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ بَلْ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الوتر واحدة
(فصل القول في استحباب تأخير الوتر)
إِذَا أَرَادَ صَلَاةَ اللَّيْلِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْوِتْرَ لِيَخْتِمَ بِهِ صَلَاتَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِرَكْعَةٍ "، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ إِلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ بَعْدَ نَوْمِهِ، وَعِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ فَالِاخْتِيَارُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْوِتْرَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَصَلَّى أَوْتَرَ حِينَئِذٍ، فَإِنْ أَوْتَرَ ثُمَّ نَامَ، وَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى صَلَاتِهِ جَازَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُوتِرُ وَيَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَهَجَّدُ
وَمِثْلُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَهَجَّدُ وَيُوتِرُ بَعْدَهُ
وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ أَمَّا أَنْتَ فَتَأْخُذُ بِالْحَزْمِ، وَقَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَّا أَنْتَ فتعمل(2/295)
عَمَلَ الْأَجْلَادِ، فَلَوْ أَوْتَرَ وَنَامَ ثُمَّ قَامَ وَصَلَّى لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الْوِتْرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وأبي حنيفة، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ رَكْعَةَ وِتْرِهِ قَدِ انْتَقَضَتْ فَيَشْفَعُهَا بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يَتَهَجَّدُ، بما أراد أن يوتر ثُمَّ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ وِتْرِهِ وَأَنَّ الْإِعَادَةَ لَا تَلْزَمُهُ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا وِتران فِي لَيْلَةٍ " فَلَوْ أَوْتَرَ قَبْلَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ لَمْ يُجْزِهِ لِتَقْدِيمِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَزِمَهُ إِعَادَتُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَأَمَّا مَوْضِعُ الْقُنُوتِ وَصِفَتُهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فَلَمْ نَحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الْوِتْرِ، فأبو حنيفة. وَمَالِكٌ يَخْتَارَانِ أَنْ يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بِ " سَبِّحْ "، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَفِي الثَّالِثَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِ " سَبِّحْ " وَفِي الثانية: {قل يا أيها الكافرون} وَفِي الثَّالِثَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ "، وَقَدْ رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى لِزِيَادَتِهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -(2/296)
(بَابُ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ وَالْعُذْرِ بِتَرْكِهَا)
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بسبع وعشرين درجة ". قال الشافعي: " ولا أُرخِّصُ لمن قدَر على صلاةِ الجماعةِ في تركِ إتيانها إلا من عُذر "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لِلْجُمُعَةِ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلَّا فِي جَمَاعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ لَهَا فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ فَأَمَّا الْجَمَاعَةُ لِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ فَلَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ أَمْ سُنَّةٌ؟ فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهَا فَرَضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ كَالْجُمُعَةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَمِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منهم معك} [النساء: 102] الْآيَةَ
فَأَمَرَ بِالْجَمَاعَةِ فِي حَالِ الْخَوْفِ، وَالشِّدَّةِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي تَرْكِهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهَا
وَبِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُر بالحَطب فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُر بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُر رَجُلًا فَيَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ لَمْ يَشْهَدُوا الصَّلَاةَ وَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ " فَلَمَّا تَوَاعَدَ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنْهَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا
وَبِمَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ "(2/297)
وَرُوِيَ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الضَّرِيرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أتجدُ قَائِدًا قَالَ: لَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً "
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنْ لَا يحضُروا الْمَغْرِبَ، وعشاءُ الْآخِرَةِ، وَلَوْ عَلِمُوا مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَوْ زَحْفًا "
وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَضَلَلْتُمْ "
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ "
وَهَذَا الْخَبَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ مُسْنَدًا وَلَا صَحِيحًا، وَلَا فَاسِدًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَقَدْ رأيتُنا إِذَا كُنَّا مَرْضَى وَنَحْنُ نُهَادِي إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ "، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ لَهَا وَاجِبَةً كَالْجُمُعَةِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي صَدْرِ الْبَابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " صلاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً "
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صلاةُ الْجَمَاعَةِ أفضلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ "
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ لَفْظَةَ أَفْضَلَ مَوْضُوعَةٌ لِلِاشْتِرَاكِ فِيمَا لِأَحَدِهِمَا(2/298)
مَزِيَّةٌ فِيمَا شَارَكَهُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُرَادُ بِهِمَا الْمَعْذُورُ بِمَرَضٍ صَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ من(2/299)
صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا قِيلَ: حَمَلَهُ عَلَى الْمَرِيضِ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَرِيضِ مُفْرَدًا كَصَلَاتِهِ الصُّبْحَ جَمَاعَةً فِي الْفَضْلِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَعْمَلُ عَمَلًا ثُمَّ مَرِضَ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَلَكَيْنِ أَنْ يَكْتُبَا لَهُ أَجْرَ عملهِ فِي صِحَّتِهِ "
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ عَلَى صَلَاةِ النَّافِلَةِ هِيَ فِي الجماعة أفضل منها منفدراً
قيل: لا يصح حمله على الناقلة، لِأَنَّ صَلَاةَ النَّافِلَةِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته فِي الْجَمَاعَةِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ "
وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ رِوَايَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ وَكُلَّمَا كَثُرَتْ كَانَ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ مِنَ الصَّلَاةِ مِثْلَ مَا بَيْنَ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ وَقِلَّتِهِمْ مِنَ الْفَضْلِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ فَرْضٍ، لِأَنَّ الْعُدُولَ مِنْ قَلِيلِ الْجَمَاعَةِ إِلَى كَثِيرِهَا غَيْرُ فَرْضٍ
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يُصَلِّ فِي عُمُرِهِ صَلَاةً وَاحِدَةً فِي جَمَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ " فَخَرَجَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ التَّرْغِيبِ فِيهَا لَا مَنْ زَعَمَ وُجُوبَهَا أَوْجَبَهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَيَحْمِلُ ذلك على من يرها سُنَّةً أَبَدًا
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ فَرَاغِ النَّاسِ مِنَ الصَّلَاةِ،(2/300)
فَقَالَ: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ "، فَلَوْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ تَأَخُّرَهُ، وَلَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِهِ، وَلَمَا أَخْبَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ معه صدقة عليه، ولأنها تؤدى صلاة جَمَاعَةً وَفُرَادَى فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ الْجَمَاعَةُ فِيهَا كَالنَّوَافِلِ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] فَالْمُرَادُ بِهَا تَعْلِيمُ صَلَاةِ الْخَوْفِ، وَبَيَانُهَا عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي حِرَاسَتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ صَلَّوْا مُنْفَرِدِينَ اشْتَغَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يُؤْمَنْ سَطْوَةُ الْعَدُوِّ بِهِمْ عِنْدَ انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ مِنْهُمْ لِشُغْلِهِمْ، وَلَوْ أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا مَعًا لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الظَّفَرِ بِهِمْ وَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَفْتَرِقُوا فَرِيقَيْنِ فَيُصَلِّيَ بِفَرِيقٍ وَيَحْرُسَهُمْ فَرِيقٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ثُمَّ أُخَالِفَ عَلَى رِجَالٍ لَمْ يَشْهَدُوا الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ " هُوَ أَنَّ تَحْرِيقَ بُيُوتِهِمْ لِنِفَاقِهِمْ لَا لِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْجَمَاعَةِ غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِتَخَلُّفِهِمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ لِأَجْلِ النِّفَاقِ لَا لِأَجْلِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَرْقُ الدُّورِ، وَنَهْبُ الْأَمْوَالِ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَالْإِجْمَاعِ
والثاني: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْخَبَرِ: " ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ لَمْ يَشْهَدُوا الصَّلَاةَ " وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الصَّلَاةَ بِنَفْسِهِ وَأَدَّاهَا جَمَاعَةً فِي مَنْزِلِهِ قد أدى أنه فَرْضَهُ مِنْ غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ " فَالْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ الْجُمُعَةِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ: فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا عَلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ بِدَلِيلِ إِجْمَاعِنَا أَنَّ الضَّرِيرَ مَعْذُورٌ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بيْننا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنْ لَا يحضُروا الْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ " فَجَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ طَائِفَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفِينَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابِهِ لِتَخْصِيصِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مَعَ اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْجَمَاعَةِ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ(2/301)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْحَثِّ والترغيب كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَضَلَلْتُمْ " كَالْجَوَابِ عَنِ الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ " فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَا صَلَاةَ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فِي مَسْجِدِهِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمَقْصُودُهُ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى فَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَهَا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهَا
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُمُعَةِ فَالْمُخَالِفُ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجُمُعَةِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ لَهَا؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا، وَلَمَّا لَمْ تَكُنِ الْجَمَاعَةُ مِنْ شَرْطِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لَمْ تَكُنِ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةً لَهَا
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِيهِمَا وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَدَلِيلُنَا مَا تَقَدَّمَ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ، أَوْ قَرْيَةٍ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ أساؤا بِتَرْكِهَا، وَلَمْ يَأْثَمُوا وَيُؤْمَرُوا بِهَا، وَيُؤَاخَذُوا عَلَى تَرْكِهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا مِن ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ لَمْ تُقَمْ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، عليكم بالجماعة وإن الذثب يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ " فَعَلَى هَذَا إِنْ أَجْمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا فَقَدْ عَصَوْا وَأَثِمُوا بِقُعُودِهِمْ عَنْهَا، وَوَجَبَ عَلَى السُّلْطَانِ قِتَالُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا وَإِنْ قَامَ بِفِعْلِهَا مَنْ تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ مِنْهُمْ وَانْتَشَرَ ظُهُورُهَا بَيْنَهُمْ سَقَطَ فَرْضُ الْجَمَاعَةِ عَنْهُمْ، فَإِذَا كَانَتْ قَرْيَةً صَغِيرَةً، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَانْتَشَرَتْ وَظَهَرَتْ سَقَطَ الْفَرْضُ، وَكَانَ لِبَاقِي أَهْلِهَا أَنْ يُصَلُّوا مُنْفَرِدِينَ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ بِإِقَامَتِهَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ، وَلَا بِإِقَامَتِهَا فِي الْمَنَازِلِ وَالْبُيُوتِ لِعَدَمِ ظُهُورِهَا، وَانْتِشَارِهَا، حَتَّى تُقَامَ فِي عِدَّةِ مَسَاجِدَ تَظْهَرُ بِهَا الْجَمَاعَةُ وَتَنْتَشِرُ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلُّوا مُنْفَرِدِينَ
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ جَمَعَ فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدٍ وَإِنْ صَغُرَ أَجْزَأَ عَنْهُ وَالْمَسْجِدُ الْأَعْظَمُ، وَحَيْثُ كَثُرَتِ الْجَمَاعَاتُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ "(2/302)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَقَلُّ الْعَدَدِ الَّذِي يُدْرَكُ بِهِ الْجَمَاعَةُ فَهُوَ اثْنَانِ يَأْتَمُّ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَيُدْرِكَانِ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ "
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَحَيْثُ كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ أَوْلَى وَأَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجَمْعِ الْيَسِيرِ وَالْجَمَاعَةُ الْيَسِيرَةُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَنْزِلِ فَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ أَفْضَلُ مَا رَوَاهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَوْلَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الْوَاحِدِ كُلَّمَا كَثُرَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى " وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَنْزِلِ مَا رَوَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِنُورٍ تَامٍّ فِي الْقِيَامَةِ "
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " يُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ " وَأَمَّا إذا لم يكن في المسجد قَبِيلَتِهِ، أَوْ مَحَلَّتِهِ مَنْ يُقِيمُ بِالْجَمَاعَةِ الْيَسِيرَةِ غَيْرُهُ وَكَانَ فِي ذَهَابِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ، وَالْجَمْعِ الْأَكْبَرِ تَعْطِيلٌ لِجَمْعِ مَسْجِدِهِ الْيَسِيرِ، فَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِهِ وَجَمْعِهِ الْيَسِيرِ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْجَمْعِ الْكَثِيرِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قُوَّةِ ظُهُورِهَا، وَكَثْرَةِ انتشارها، أو عمارة الْمَسَاجِدِ بِإِقَامَتِهَا
(فَصْلٌ)
وَإِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ ثُمَّ دَخَلَهُ قَوْمٌ لَمْ يُدْرِكُوا الْجَمَاعَةَ فَأَرَادُوا أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ تِلْكَ الصَّلَاةَ جَمَاعَةً كَرِهْنَا ذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْمَسْجِدِ مُؤَذِّنٌ ثَابِتٌ وَإِمَامٌ مُنْتَدَبٌ قَدْ رَسَمَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَافٍ وَتَفْرِيقِ الْجَمَاعَةِ وَتَشَتُّتِ الْكَلِمَةِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يظهر طَرِيقٍ تُصَلِّي فِيهِ الْمَارَّةُ، وَالْمُجْتَازُونَ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ مِرَارًا، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عَنْهُ: " وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ ذَاتِ الرِّيحِ، أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلْيَبْدَأْ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ " قَالَ فِيهِ أَقُولُ لِأَنَّ الْغَائِطَ يَشْغَلُهُ عَنِ الْخُشُوعِ قَالَ فَإِذَا حَضَرَ فِطْرُهُ أَوْ طَعَامُ مَطَرٍ وَبِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ وَكَانَتْ نَفْسُهُ شَدِيدَةَ التَّوَقَانِ إِلَيْهِ أَرْخَصْتُ لَهُ فِي تَرْكِ إِتْيَانِ الْجَمَاعَةِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَقَدِ احْتَجَّ فِي موضعٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فابدءُوا بِالْعَشَاءِ " (قَالَ الْمُزَنِيُّ) فَتَأَوَّلَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِئَلَّا يَشْغَلَهُ منازعةُ نَفْسِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهَا مَا فِيهِ مَقْنَعٌ وغنى، وذكرنا(2/303)
أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا كَانَ مُسِيئًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا سُنَّةٌ، أَوْ عَاصِيًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهَا فَرْضٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا بِالتَّخَلُّفِ عَنْهَا فَلَا يَكُونُ مُسِيئًا ولا عاصياً، والعذر على ضربين
[الأول] : خاص
[الثاني] : عَامٌّ، فَالْعُذْرُ الْعَامُّ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، وَالرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الْبَارِدَةُ، وَالْوَحْلُ الْمَانِعُ إِلَّا أَنَّ الْمَطَرَ عُذْرٌ فِي جَوَازِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَجَوَازِ الْجَمْعِ بين الصلاتين، والوحل، والريح ليس بِعُذْرٍ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَمِنْ ذَلِكَ الزَّلْزَلَةُ، وَالْخَوْفُ الْعَامُّ مِنْ مُتَغَلِّبٍ غَيْرِ مَأْمُونٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَعْذَارِ الْعَامَّةِ مَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ ذَاتِ الرِّيحِ أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِذَا ابْتَلَّتِ النِّعَالُ فَالصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ
وَفِي النِّعَالِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَنَى بِهَا النِّعَالَ الْمَعْهُودَةَ فِي اللِّبَاسِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَنَى بِهَا الْأَرْجُلَ وَالْأَقْدَامَ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ عنى بها حجارة صغاراً: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا، أَوْ مَشْغُولًا بِتَمْرِيضِ قَرِيبٍ لَهُ أَوْ نَسِيبٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فِي مَرَضِهِ، أَوْ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ أَيِ: الْغَائِطَ وَالْبَوْلَ فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُصَلِّي أحدُكم وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ "
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا يصلي أحدُكم وهو زنّاء " أو يكون تَائِقَ النَّفْسِ إِلَى الطَّعَامِ عِنْدَ حَضُورِ الْجَمَاعَةِ شَدِيدَ الْقَوْمِ إِلَيْهِ لِغَلَبَةِ الْجُوعِ عَلَيْهِ فَيَبْدَأُ بما يطفي لهب جوعه ويسكن توقان نَفْسِهِ مِنْ أَكْلِ تَمْرَةٍ أَوْ تَمْرَتَيْنِ أَوْ لُقْمَةٍ أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُدْرِكُ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ بَادَرَ إِلَيْهَا وَلَمْ يَسْتَوْفِ أَكْلَهُ، فَإِنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، وَكَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَكْلَهُ
وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بالعشاء(2/304)
وحكم العشاء والغذاء فَيَ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَمِنَ الْعُذْرِ أَيْضًا: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ ماله من سلطان، أو ذا جر، أَوْ يَكُونَ ذَا عُسْرَةٍ يَخَافُ مُلَازَمَةَ غَرِيمٍ شَحِيحٍ، أَوْ يَكُونَ مُسَافِرًا وَيَخَافُ إِنْ صَلَّى جماعة إن رحل أَصْحَابُهُ وَيَنْقَطِعَ عَنْ صُحْبَتِهِمْ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ خَوْفٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يأتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، فَقِيلَ: وَمَا الْعُذْرُ قَالَ: الْمَرَضُ وَالْخَوْفُ، وَلِأَنَّ هَذِهِ أَحْوَالٌ تَمْنَعُهُ وَتَبْعَثُهُ عَلَى الْعَجَلَةِ، وَتَدْعُوهُ إِلَى السَّهْوِ فَعُذِرَ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَجْلِهَا، وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهَا وَأَشْبَاهُهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ -(2/305)
(بَابُ صَلَاةِ الْإِمَامِ قَاعِدًا بقيامٍ وَقَائِمًا بقعودٍ)
(مسألة)
: قال الشافعي وَأُحِبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّى الَّذِينَ خَلْفَهُ قِيَامًا أَجْزَأَتْهُ وَإِيَّاهُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ وَفِعْلُهُ الْآخِرُ ناسخٌ لِفِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَفَرَضَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ قَائِمًا وَعَلَى الصَّحِيحِ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا فَكُلٌّ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا لِمَرَضِهِ وَعَجْزِهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ قَائِمًا لِأَمْرَيْنِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الصَّلَاةِ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ مرُوا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ ومُرُوا أَبَا بكرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ
وَالثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ أَكْمَلُ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ مِنَ الْإِلْبَاسِ عَلَى الرَّاجِلِ فَلَا يَدْرِي إِذَا رَآهُ جَالِسًا أَهُوَ فِي مَكَانِ قِيَامٍ، أَوْ جُلُوسٍ
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَصْحَابِهِ قَاعِدًا فِي مَوْضِعِهِ
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ
أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرَضِهِ الِاسْتِخْلَافُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا صَلَّى قاعداً مرتين أو ثلاث فكان الاقتداء بأكثر أفعاله الأولى
وَالثَّانِي: أَنَّ خُرُوجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرَضِهِ وَصَلَاتَهُ قَاعِدًا بِأَصْحَابِهِ إِنَّمَا كَانَ لِيَعْهَدَ إِلَيْهِمْ، أَلَا تَرَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: احْمِلُوني حَتَّى أَعْهَدَ إِلَى النَّاسِ
وَالثَّالِثُ: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُبَايِنٌ لِسَائِرِ أُمَّتِهِ فِي فَضِيلَةِ الِائْتِمَامِ بِهِ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ أَنْ يُقِرَّ عَلَى خَطَأٍ فَكَانَتِ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَهُوَ قَاعِدٌ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَ غَيْرِهِ وَهُوَ قَائِمٌ فَإِنْ صَحَّ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فَصَلَاتُهُمْ جَائِزَةٌ، وَعَلَى الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا قِيَامًا إِذَا قَدَرُوا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
وَقَالَ مَالِكٌ: إِمَامَةُ الْقَاعِدِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَعَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهُ الْإِعَادَةُ(2/306)
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِمَامَةُ الْقَاعِدِ جَائِزَةٌ، وَيُصَلِّي مَنْ خَلْفَهُ قَاعِدًا وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَقَيْسُ بْنُ قَهْدٍ، فَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدٌ بَعْدِي جَالِسًا " وَلِأَنَّ المأموم إذا أكمل ما إِمَامِهِ بِرُكْنٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِائْتِمَامُ بِهِ القارئ بِالْأُمِّيِّ
وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ مِنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ فَصَلَّى قَاعِدًا وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قِيَامًا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَإِذَا رَكَعَ فاركعوا، وإذا صلى قائماً فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ
وَبِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ركب فرساً فصرع فوقع على جِزع نَخْلَةٍ، فَانْفَكَّتْ قَدَمُهُ فَجِئْنَاهُ نعودُه وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَصَلَّى التَّطَوُّعَ فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ جِئْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ فَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا أَنِ اقْعُدُوا فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ وَلَا تَفْعَلُوا كَمَا تَفْعَلُ الفُرس بعُظمائها
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ مِنَ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ رِوَايَةً مُسْتَفِيضَةً، وَنَقْلًا متواتراً: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ وَجَدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خِفَّةً فَخَرَجَ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَتَنَحْنَحَ النَّاسُ أَبَا بكر فتأخر قليلا، وَكَانَ هَذَا فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى وَمَاتَ فِي يَوْمِهِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَذَلِكَ سنه على أن قوله مَنْسُوخٌ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْقُعُودِ خَلْفَ الْقَاعِدِ ثُمَّ يُقِرُّهُمْ بِالْقِيَامِ خَلْفَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ خَاصَّةً أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الصَّلَاةُ صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا كَالْقَائِمِ قِيَاسًا عَلَى الْقَائِمِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قعوداً أجمعين "، فموضع الدليل منه تجوز إِمَامَةِ الْقَاعِدِ، وَلَيْسَ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ مَانِعٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ فِي جَوَازِ إِمَامَةِ الْقَاعِدِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَحْمَدَ خَاصَّةً، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ فَلَمْ يُجِزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا
أَصْلُهُ: إِذَا كان إمامه قائماً، أو كان منفرداً، ولا اتِّبَاعَ الْإِمَامِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ رُكْنًا مُقَرَّرًا عَلَيْهِ وَلَا يُلْجِئُهُ إِلَى مَا لَا يَلْزَمُهُ فِي حَالِ الْعَجْزِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَا يُسْقِطُهُمَا اتِّبَاعُ الْإِمَامِ وَلَا يَحْمِلُهُمَا إِلَى الْإِيمَاءِ(2/307)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا يَؤُمَّنَّ أَحَدُكُمْ بَعْدِي جَالِسًا " فَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ وَالرَّجْعَةِ، وَيَتَظَاهَرُ بِسَبِّ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فَلَمْ يَجِبْ قَبُولُ خَبَرِهِ، وَلَوْ وَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِهِ، لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَلَوْ سُلِّمَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ
قُلْنَا: فِي الْأُمِّيِّ كَلَامٌ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ، لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ تَحَمَّلَ القراءة موثراً فِي إِمَامَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الْقِيَامِ مُؤَثِّرًا فيها
(فصل)
: فأما المضطجع إذا صلى مؤمناً بِقِيَامٍ وَقُعُودٍ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ مِنَ الْقِيَامِ جَائِزَةٌ
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ للقائم أن يأتم بالمومئ " قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَصِحُّ مِنْهُ، فَإِنِ ائْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهَا لَمْ يَصِحَّ الصَّلَاةُ دُونَ بَعْضٍ
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ هُوَ: أَنَّ عَجْزَ الْإِمَامِ عَنِ الْأَرْكَانِ الْكَامِلَةِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ جَوَازِ الْإِمَامَةِ، وَلَا مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنَ الْأَرْكَانِ الْمَفْرُوضَةِ، إِذَا عَجَزَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا انْتَقَلَ إِلَى بَدَلِهَا وَصَارَ الْبَدَلُ مَعَ الْعَجْزِ قَائِمًا مَقَامَ الرُّكْنِ الْمَفْرُوضِ فَجَازَتْ إِمَامَتُهُ، وَصَلَاةُ مَنْ أَمَّهُ
فَإِنْ قِيلَ: الْإِيمَاءُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِأَنَّ بَدَلَ الشيء يكون من غيره، ولا يجوز جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ كَالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ، وَالْكَفَّارَاتِ، فَلَمَّا كَانَ الْإِيمَاءُ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهَا
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِيمَاءَ هُوَ نَفْسُهُ رُكُوعٌ وَسُجُودٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْهُمَا وَلَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْحِنَاءِ فِي رُكُوعِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ، وَإِنَّمَا كَانَ رُكُوعُهُ دُونَ رُكُوعِ الْقَادِرِ عَلَى الِانْحِنَاءِ، وَلَا يُقَالُ إِنَّمَا يأتي به من الرجوع هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ كَذَا فِي الْإِيمَاءِ
الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مِنَ الشيء بدلاً عنه كالقعود هو جُزْءٌ مِنَ الْقِيَامِ،(2/308)
لِأَنَّ الْقِيَامَ هُوَ الِانْتِصَابُ بِأَعْلَى الْبَدَنِ، ثُمَّ كَانَ الْقُعُودُ بَدَلًا عَنِ الْقِيَامِ كَذَلِكَ الْإِيمَاءُ بدل من الرجوع والسجود
فأما الجواب عن قوله ليس يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ائْتَمَّ بِهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، أَوْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يُقَالَ بَلِ ائْتَمَّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، أَوْ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ مِنْهَا فَهُوَ أَنْ يقال: يَتَضَمَّنُهَا فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ أَتَى بِهِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ أَتَى بِبَدَلِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التقسيم فيه، وإجماعنا على صحة ائتمانه به فسقط عنا
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ لِنَفْسِهِ جَالِسًا رَكْعَةً، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ قَامَ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ، فَإِنْ تَرَكَ الْقِيَامَ أَفْسَدَ عَلَى نَفْسِهِ وَتَمَّتْ صَلَاتُهُمْ إِلَّا أَنْ يَعْلَمُوا بِصِحَّتِهِ وَتَرْكِهِ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ فَيَتَّبِعُوهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً جَالِسًا لِمَرَضِهِ وَعَجْزِهِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا، وَهَذَا غَلَطٌ، لأنه بقيامه قد انتقل من حالة النقض إِلَى حَالَةِ التَّمَامِ وَانْتِقَالُ الْمُصَلِّي مِنْ أَنْقَصِ حَالَتِهِ إِلَى أَكْمَلِهَا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ كَالْمُتَنَفِّلِ رَاكِبًا إِذَا نَزَلَ فَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ هَذَا بِالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا فِي الصَّلَاةِ قَدِ انْتَقَلَ مِنْ حَالَةِ النَّقْصِ إِلَى حَالَةِ الْكَمَالِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْبِنَاءُ، وَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا السُّؤَالُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ بِانْقِطَاعِ دَمِهَا قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ حَالَةِ الْكَمَالِ إِلَى حَالَةِ النَّقْصِ، لِأَنَّهَا وَدَمُهَا جَارِي أَحْسَنُ حَالًا مِنْهَا بَعْدَ انْقِطَاعِهِ أَلَا تَرَاهَا مَعَ جَرَيَانِ دَمِهَا لَا يَلْزَمُهَا إِزَالَةُ نَجَسِهِ عَنْهَا، وَإِذَا انْقَطَعَ لَمْ يَجُزْ لَهَا الصَّلَاةُ إِلَّا بَعْدَ طَهَارَتِهَا وَإِزَالَةِ نَجَاسَتِهَا فَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَأَمَّا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فَإِنَّهُ يقول: تبني المستحاضة على صلاتها فإن انْقَطَعَ دَمُهَا، فَسَقَطَ عَنْهُ الْجَوَابُ، وَلِأَنَّ كُلَّ حال جاز أن يبن الْمُصَلِّي فِيهَا لِانْتِقَالِهِ مِنْ حَالِ الْكَمَالِ إِلَى حال النقص جاز أن يبني من حالة الانتقاص إلى حالة الْكَمَالِ
أَصْلُهُ: الْمَسْتُورُ الْعَوْرَةِ إِذَا سُلِبَ فِي صَلَاتِهِ مَا كَانَ مَسْتُورًا بِهِ
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا المصلي مضطجعاً مؤمناً إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَقُومَ وَيَبْنِيَ عَلَى الْمَاضِي مِنْ صَلَاتِهِ وَقَدْ أَجْزَأَهُ(2/309)
وَقَالَ أبو حنيفة إِذَا قَدَرَ الْمُومِئُ عَلَى القيام أو القعود بطلت صلاته، وكذلك الْعُرْيَانُ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا، وَالْأُمِّيُّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ قَالَ: لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى شَرْطٍ مِنْ شرائط الصلاة عَجْزِهِ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: وَهُوَ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ أَصْلًا
أَصْلُهُ: إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ بَدَلٌ عَنِ الْقِيَامِ، وَالِاضْطِجَاعَ بَدَلٌ عَنِ القعود، فلما تقرر أن القاعد عَلَى الْقِيَامِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُبْدَلِ، وَيَبْنِي عَلَى صلاته كذلك المضطجع إذا قدر على العقود يَنْتَقِلُ إِلَى مُبْدَلِهِ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ فَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِالْقَاعِدِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ
وَالْمَعْنَى فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، كَوْنُهَا مُحْدِثَةً فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ فَخَالَفَتِ الْعَاجِزَ إِذَا صَحَّ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْعَاجِزِ الْمُضْطَجِعِ أَنْ يَقُومَ إِذَا قَدَرَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الْجُلُوسَ فِي وضع الْقِيَامِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَ صَلَاتَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ قَائِمًا فَقَعَدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقُعُودِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ لَكِنْ تَصِيرُ نَفْلًا، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ، فَإِذَا بطلت صلاة الإمام بترك القيام ولا يعلم المؤموم بِحَالِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، لِأَنَّ قُدْرَةَ الْإِمَامِ عَلَى الْقِيَامِ أَمْرٌ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُكَلَّفُوا الْوُصُولَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَصَارُوا كَمَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ وهم لا يعلموا بِحَالِهِ، وَإِنْ عَلِمُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْقِيَامِ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ إِمَامَتِهِ وَبَنَوْا عَلَى صَلَاتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ إِمَامَتِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ، كَمَنْ صَلَّى خَلْفَ جُنُبٍ وَهُوَ يعلم بجنايته
(مسألة)
: قَالَ الشافعيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَكَذَلِكَ إِنْ صَلَّى قَائِمًا رَكْعَةً ثُمَّ ضعُف عَنِ الْقِيَامِ أَوْ أصابته عِلّة مانعةُ فَلَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ عَلَى صلاته "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
إِذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِالصَّلَاةِ قَائِمًا لِصِحَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ، ثُمَّ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ لِعِلَّةٍ أَصَابَتْهُ أَوْ لِضَعْفٍ غَلَبَ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَقْعُدَ وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ جَالِسًا وَيُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ لَوِ افْتَتَحَهَا جَالِسًا لِعَجْزِهِ كَانَ لَهُ إِتْمَامُهَا وَهُوَ جَالِسٌ فَكَانَ مَا افْتَتَحَهُ قَائِمًا، ثُمَّ طَرَأَ الْعَجْزُ فِي بَعْضِهِ أَوْلَى بِإِتْمَامِهِ، فَإِنْ عجز عن القعود لغلبة عليه ووهي قُوَاهُ اضْطَجَعَ وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ مُومِيًا وَأَجْزَأَهُ
(مَسْأَلَةٌ)
: قال: " وَإِنْ صَلَّتْ أَمَةٌ رَكْعَةً مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ وَرَكَعَتْ ثُمَّ أُعتقت فَعَلَيْهَا أَنْ(2/310)
تَسْتَتِرَ إِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا مِنْهَا،، وَتَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ الثَّوْبُ بَعِيدًا مِنْهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ حُكْمَ الْعَوْرَاتِ وَتَفْصِيلَهَا وَدَلَّلْنَا عَلَى إِيجَابِ سَتْرِهَا، وَذَكَرْنَا عَوْرَةَ الرَّجُلِ، وَعَوْرَةَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ، وَعَوْرَةَ الْأَمَةِ، فَإِذَا تَقَرَّرَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ رَأْسَ الْأَمَةِ وَشَعْرَهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَأَنَّ صَلَاتَهَا مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ جَائِزَةٌ، لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَلْزَمُهُ سَتْرُ عَوْرَتِهِ وَرَأْسُ الْأَمَةِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَلَمْ يَلْزَمْهَا سَتْرُهُ، فَإِذَا صَلَّتِ الْأَمَةُ بَعْضَ الصَّلَاةِ وَرَأْسُهَا مَكْشُوفٌ ثُمَّ أُعْتِقَتْ قَبْلَ تَمَامِهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا تَغْطِيَةُ رَأْسِهَا لِكَوْنِهَا حُرَّةً فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهَا إلا مستورة
وإذ تقرر الأمر على هذا فليس يخلوا حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ واحدة لِمَا تَسْتُرُ رَأْسَهَا أَوْ عَادِمَةً، فَإِنْ عَدِمَتْ مَا تَسْتُرُ بِهِ بَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا وَأَجْزَأَتْهَا سَوَاءٌ عَلِمَتْ بِعِتْقِهَا أَمْ لَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْعُرْيَانِ الَّذِي لَا يَجِدُ ثوباً فيصلي عريان، ولا إعادة عليه وإن كانت واحدة لِمَا تَسْتَتِرُ بِهِ فَلَهَا حَالَانِ
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَعْلَمَ عِتْقَهَا فِي الصَّلَاةِ
وَالثَّانِي: أَنْ لَا تعلم به إلا بعد تَقْضِيَ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَإِنْ عَلِمَتْ بِعِتْقِهَا فِي الصَّلَاةِ فَلَيْسَ يَخْلُو الثَّوْبُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا، فَإِنْ كان الثوب قريباً وجب عليه تَنَاوُلُهُ وَالِاسْتِتَارُ بِهِ، فَإِذَا اسْتَتَرَتْ بِهِ فِي الْحَالِ بَنَتْ عَلَى صَلَاتِهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ اسْتِدْبَارُ الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ فَأَمَّا إِنِ اسْتَدْبَرَتِ الْقِبْلَةَ فِي أَخْذِهَا فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الِاسْتِدْبَارَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ بَعِيدًا، أَوْ كَانَ قَرِيبًا فَلَمْ تَأْخُذْهُ مُضِيَّ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بِمَاذَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا عَلَى وَجْهَيْنِ
إِنَّمَا بَطَلَتْ صَلَاتُهَا بِرُؤْيَةِ الثَّوْبِ كَمَا يَبْطُلُ تَيَمُّمٌ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رُؤْيَةُ الثَّوْبِ تُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَالْمُتَيَمِّمِ لَوَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتُهَا وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا كَالْمُتَيَمِّمِ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ صَلَاتِهَا وَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ قَرِيبًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الثَّوْبِ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ صَلَاتَهَا إِنَّمَا بَطَلَتْ بِالْمُضِيِّ لِأَخْذِ الثَّوْبِ وَتَطَاوُلِ الْعَمَلِ فِيهِ
فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنَّهَا ما لم تمضي فَهِيَ عَلَى صَلَاتِهَا حَتَّى تَمْضِيَ وَإِنْ دُفِعَ الثَّوْبُ إِلَيْهَا فَاسْتَتَرَتْ بِهِ بَنَتْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهَا وَأَجْزَأَهَا(2/311)
وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا تَمْضِي لِأَخْذِ الثَّوْبِ وَلَا انْتَظَرَتْ من تناولها إياه فَصَلَاتُهَا بَاطِلَةٌ وَإِنْ لَمْ يَمْضِ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَنْ مَضَى، لَكِنْ إِنِ انْتَظَرَتْ مَنْ تناولها الثوب فناولها إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ شَيْءٍ فِي الصَّلَاةِ ولا إحداث عمل فيها طَوِيلٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا: قد بطلت صلاتها، ولأن الِانْتِظَارَ عَمَلٌ طَوِيلٌ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ صَلَاتَهَا لَا تَبْطُلُ، وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى وَيُجْزِئُهَا، لِأَنَّ الِانْتِظَارَ لَيْسَ بفعل يبطل الصلاة كالراكع إِذَا أَحَسَّ بِالدَّاخِلِ فَانْتَظَرَهُ جَازَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّوْبِ فِي وُجُوبِ أَخْذِهِ، وَبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ، وَبَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَا بَطَلَتْ بِرُؤْيَتِهِ صَلَاتُهُ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ
أَحَدُهَا: أَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ يَجِبُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ، فإن أحرام بها سقط فرضها، فإن أرحم بِهَا ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي وَقْتٍ سَقَطَ عَنْهُ فِعْلُ الطَّهَارَةِ فِيهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ يَجِبُ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا وَجَدَ الثَّوْبَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي زَمَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ اسْتِصْحَابُ الطَّهَارَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا يَلْزَمُهُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا
قِيلَ: إِنَّمَا يَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الطَّهَارَةِ مَعَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا الطَّهَارَةَ، وَهُوَ فِي الثَّوْبِ يَسْتَعْمِلُ السِّتْرَ مَعَ أَفْعَالِهَا، لَا حُكْمَ السِّتْرِ فَافْتَرَقَا
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ استدامة الثوب كابتدائه في الحكم بدلة أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ، وَهُوَ لَابِسُهُ حَنِثَ وَاسْتِدَامَةُ الطَّهَارَةِ مُخَالِفَةٌ لِابْتِدَائِهَا فِي الْحُكْمِ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَتَطَهَّرُ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ وُجُودُ الثَّوْبِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهَا، فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْمَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ كَوُجُودِهِ فِي ابْتِدَائِهَا فَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ
وَالْفَرْقُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ قَدْ أَتَى بِبَدَلِ الْمَاءِ فَجَازَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَالْعُرْيَانُ لَمْ يَأْتِ بِالسِّتْرِ وَلَا بِبَدَلِهِ، لِأَنَّ الْعُرْيَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنِ السِّتْرِ فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَدَمِ الْبَدَلِ، كَالْمُسْتَحَاضَةِ إذا انقطع حيضها لما لم تأتي بِالطَّهَارَةِ عَنِ النَّجَاسَةِ، وَلَا بِبَدَلِ الطَّهَارَةِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، أَنْ لَا تَعْلَمَ الْأَمَةُ بِعِتْقِهَا إِلَّا بَعْدَ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْصُوصُهُ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ، كَمَنْ صَلَّى وَهُوَ جُنُبٌ، أَوْ مُحْدِثٌ، فَلَمْ يَعْلَمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ خَرَجَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا مِنْ أَيْنَ خَرَجَ هَذَا الْقَوْلُ(2/312)
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُتَيَمِّمِ إِذَا صَلَّى بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِ أَنَّهُ فِي رَحْلِهِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ: فِي الْمُسَافِرِينَ إِذَا رَأَوْا سَوَادًا وَظَنُّوهُمْ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِبِلٌ أَوْ وَحْشٌ والله أعلم
(مسألة)
: قال المُزنيّ: " وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي عُرياناً لَا يَجِدُ ثَوْبًا ثُمَّ يَجِدُهُ، وَالْمُصَلِّي خَائِفًا ثُمَّ يَأْمَنُ، وَالْمُصَلِّي مَرِيضًا يُومِئُ ثُمَّ يَصِحُّ أَوْ يُصَلِّي وَلَا يُحْسِنُ أُمَّ الْقُرْآنِ ثُمَّ يُحْسِنُ إِنَّ مَا مَضَى جَائِزٌ عَلَى مَا كُلِّفَ وَقَابَضَ عَلَى مَا كُلِّفَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذِهِ مَسَائِلُ قَصَدَ الْمُزَنِيُّ بِإِيرَادِهَا نَصَّ قَوْلِهِ فِي الْمُتَيَمِّمِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهَا تَبْطُلُ وَالْجَوَابُ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ لَا يَصِحُّ، وَالْفَرْقُ بينهما قد مضى، فإذا وجد المصلي عريان فِي تَضَاعِيفِ صَلَاتِهِ ثَوْبًا فَعَلَيْهِ أَخْذُهُ، كَالْأَمَةِ سَوَاءً عَلَى مَا مَضَى مِنَ التَّقْسِيمِ وَالْجَوَابِ، وَكَذَلِكَ الْخَائِفُ إِذَا صَلَّى مُومِيًا ثُمَّ أَمِنَ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ أَمِنًا، وَأَجْزَأَهُ؛ فَأَمَّا الْأُمِّيُّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ فِيمَا مَضَى مِنْهَا فَتُجْزِئُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ، فَأَمَّا الرَّكْعَةُ الَّتِي تَعَلَّمَ فِيهَا الْفَاتِحَةَ فَلَيْسَ يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أقسام:
[القسم الْأَوَّلُ] إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَلَا يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا لِأَنَّهُ تَعَلَّمَهَا بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهَا، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَلَّمَهَا بَعْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَقَبْلَ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِهَا، فَعَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا لِإِدْرَاكِ مَحَلِّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَلَّمَهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِهَا، فَعَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِبَدَلِهَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي إِدْرَاكِ الْمَحَلِّ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبَدِّلِ " الْمُتَيَمِّمِ " إِذَا رَأَى الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِهِ في الصلاة "
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يؤدِّبُوا أَوْلَادَهُمْ، ويُعلّموهم الطهارة وَيَضْرِبُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذَا عقلُوا "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَلْزَمُ الْآبَاءَ حَتْمًا وَاجِبًا أَنْ يُعَلِّمُوا صِبْيَانَهُمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ إِذَا عَقَلُوا وهم إذا بلغوا سبع سنين، ويلزموهم أَنْ يَضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا حِينَ الْبُلُوغِ، وَهُوَ فِي الْجَوَارِي لِتِسْعٍ وَالْغِلْمَانِ لِعَشْرٍ
وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا قُوا أنفسَكُم وأَهليكُم ناراً}(2/313)