بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللَّهُمَّ يَسِّرْ وَأَعِنْ يَا كَرِيمُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْضَحَ لَنَا شَرَائِعَ دِينِهِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِتَنْزِيلِ كِتَابِهِ وَأَمَدَّنَا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ حَتَّى تَمَهَّدَ لِعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ أُصُولٌ، بِنَصٍّ وَمَعْقُولٍ، تَوَصَّلُوا بِهَا إِلَى عِلْمِ الْحَادِثِ النازل، وإدراك الغامض الْمُشْكِلِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ هِدَايَتِهِ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ تَوَسَّطَ بِحُجَّتَيِ النصوص المنقولة والمعاني المعقولة حتى لم يصره بالميل إلى أحدهما مقصرا عن الأخرى أَحَقَّ، وَبِطَرِيقِهِ أَوْثَقَ. وَلَمَّا كَانَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِ اقْتَصَرُوا عَلَى مُخْتَصَرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى الْمُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِانْتِشَارِ الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ عَنْ فَهْمِ الْمُتَعَلِّمِ، وَاسْتِطَالَةِ مُرَاجَعَتِهَا عَلَى الْعَالِمِ حَتَّى جَعَلُوا الْمُخْتَصَرَ أَصْلًا يُمْكِنُهُمْ تَقْرِيبُهُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ، وَاسْتِيفَاؤُهُ لِلْمُنْتَهِي، وَجَبَ صَرْفُ الْعِنَايَةِ إِلَيْهِ وَإِيقَاعُ الِاهْتِمَامِ بِهِ. وَلَمَّا صَارَ مُخْتَصَرُ الْمُزَنِيِّ بِهَذِهِ الْحَالِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لَزِمَ اسْتِيعَابُ الْمَذْهَبِ فِي شَرْحِهِ واستيفاء اختلاف الفقهاء المغلق بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ مُقْتَضَى الشرح الذي يقتضي الِاقْتِصَارَ عَلَى إِبَانَةِ الْمَشْرُوحِ لِيَصِحَّ الِاكْتِفَاءُ بِهِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَدِ اعْتَمَدْتُ بِكِتَابِي هَذَا شَرْحَهُ عَلَى أَعْدَلِ شُرُوحِهِ وَتَرْجَمْتُهُ بِ " الْحَاوِي " رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ حَاوِيًا لِمَا أُوجِبُهُ بِقَدْرِ الحال من الاستيفاء والاستيعاب في أوضح تقديم وأصح ترتيب وأسهل مأخذ واحد فِي فُصُولٍ. وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَكْرَمَ مَسْؤُولٍ أَنْ يَجْعَلَ التَّوْفِيقَ لِي مَادَّةً وَالْمَعُونَةَ هِدَايَةً بِطَوْلِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ: اخْتَصَرْتُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ مَعَ إِعْلَامِيِّهِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ وَيَحْتَاطَ فِيهِ لِنَفْسِهِ، وَبِاللَّهِ التوفيق.
وقال الْمَاوَرْدِيُّ: ابْتَدَأَ الْمُزَنِيُّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ فِي كِتَابِهِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيهَا مِنْ حُسَّادِ الْفَضْلِ مَنْ أَغْرَاهُمُ التَّقَدُّمُ بِالْمُنَازَعَةِ، وَبَعَثَهُمُ الِاشْتِهَارُ عَلَى الْمَذَمَّةِ، وَكَانَ مِمَّنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيهَا " النَّهْرُمَانِيُّ " وَ " المغربي " و " القهي " وَأَبُو طَالِبٍ الْكَاتِبُ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُمُ ابْنُ دَاوُدَ فَكَانَ اعْتِرَاضُهُمْ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ؛ فَأَوَّلُ وُجُوهِ اعْتِرَاضِهِمْ فِيهَا أَنْ قَالُوا: لِمَ لَمْ يَحْمَدِ الله تعالى(1/7)
تَبَرُّكًا بِذِكْرِهِ وَاقْتِدَاءً بِغَيْرِهِ، وَاتِّبَاعًا لِمَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ ".
فَالْجَوَابُ عَنْهُ من خمسة أوجه:
أحدها: أن يقلب الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ، وَيُسْتَعْمَلَ دَلِيلُ الْخَبَرِ فِي سُؤَالِهِمْ فَيُقَالُ لَهُمْ: إِنْ كَانَ سُؤَالُكُمْ ذَا بَالٍ فَهَلَّا قَدَّمْتُمْ عَلَيْهِ حَمْدَ اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ذِي بَالٍ، فَلَا نُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ سُؤَالٍ انْقَلَبَ عَلَى سَائِلِهِ كَانَ مُطَّرَحًا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ تَارَةً يَكُونُ خَطًّا، وَتَارَةً يَكُونُ لَفْظًا، وَهُوَ أَشْبَهُ الْأَمْرَيْنِ بظاهر الأمر، والمزني تَرَكَ حَمْدَ اللَّهِ خَطًّا وَقَدْ ذَكَرَهُ لَفْظًا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ تَصْنِيفِ كُلِّ بَابٍ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُزَنِيَّ قَدْ حَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَأَتَى بِهِ كِتَابَةً وَلَفْظًا، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي هُوَ كَمَا وَصَفَ وَفَوْقَ مَا يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير، فَحَذَفَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاقِلِينَ.(1/8)
وَالْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِحَمْدِ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ روي: " لم يبدأ بذكر الله ".
والثاني: يقدر اسْتِعْمَالِهِ، لِأَنَّ التَّحْمِيدَ إِنْ قُدِّمَ عَلَى التَّسْمِيَةِ خُولِفَ فِيهِ الْعَادَةُ، وَإِنْ ذُكِرَ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَقَعْ بِهِ الْبِدَايَةُ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذِكْرُ اللَّهِ، وَقَدْ بَدَأَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ".
وَالْجَوَابُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِهِ مَحْمُولٌ عَلَى ابتداء الخطبة دُونَ غَيْرِهَا، زَجْرًا عَمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَيْهِ من تقديم المنثور والمنظوم والكلام المنثور، وَإِنَّمَا كَانَ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا خَطَبَ فَتَرَكَ التَّحْمِيدَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ ".
وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] . وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] . وَلَيْسَ فِي ابْتِدَائِهِمَا حَمْدُ اللَّهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْمُرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِمَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى دَالٌّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ فَقَدْ قَالَ: فَهُوَ أَبْتَرُ وَكِتَابُ الْمُزَنِيِّ أَشْهَرُ كِتَابٍ صنف، وأبدع مُخْتَصَرٍ أُلِّفَ، فَعُلِمَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْخُطَبِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ وَالْكُتُبِ.
فَصْلٌ: وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي
أَنْ قَالُوا: لِمَ قَالَ: اخْتَصَرْتُ قَبْلَ اخْتِصَارِهِ؟ وَهَذَا كَذِبٌ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَرْجَمَ كِتَابَهُ بعد فراغه منه، وأراد ما قد اختصر بالاختصار.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ صَوَّرَ الْكِتَابَ فِي نَفْسِهِ مُخْتَصَرًا أَوْ أَشَارَ بِالِاخْتِصَارِ إِلَى مَا فِي نَفْسِهِ مُخْتَصَرًا.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: اخْتَصَرْتُ بِمَعْنَى سَأَخْتَصِرُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فَعَلْتُ بِمَعْنَى سَأَفْعَلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] بِمَعْنَى سَيَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ. {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] بِمَعْنَى سَيُنَادِي أَصْحَابُ الْجَنَّةِ.
فَصْلٌ: وَالِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ
: إِنْ قَالُوا: لِمَ قَالَ: اختصرت هذه؟ وَ " هَذَا " كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ إِشَارَةً إلى حاضر معين كما أن ذلك إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَاضِرٌ يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَهَذَا جَهْلٌ بِاللُّغَةِ، وهو مَوْضُوعُ الْكَلَامِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:(1/9)
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَرْجَمَ كِتَابَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُ إِشَارَةً إِلَى حَاضِرٍ مُعَيَّنٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ صَوَّرَهُ فِي نَفْسِهِ، وَأَشَارَ إِلَى مَا يُعَيِّنُ فِي ضَمِيرِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ " هَذَا " وَإِنْ كَانَ إِشَارَةً إِلَى حَاضِرٍ مُعَيَّنٍ فَقَدْ يَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ إِشَارَةً إِلَى غَائِبٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [المرسلات: 38] {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 35] إِشَارَةً إِلَى يَوْمِ القيامة وإن لم يكن موضوعا حاضرا لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَائِبٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2] يَعْنِي هَذَا الْكِتَابُ.
وَكَقَوْلِ خفاف بن ندبة السلمي:
(فإن تك قد أصبت حميمها ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا)
(أَقُولُ لَهُ والرمح يأطر منه ... تَأَمَّلْ خِفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا)
يَعْنِي: إِنَّنِي أَنَا هَذَا.
فَصْلٌ
: ثُمَّ يَبْدَأُ بِشَرْحِ التَّرْجَمَةِ فَيَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ " اخْتَصَرْتُ هَذَا " فَحَدُّ الِاخْتِصَارِ هُوَ تَقْلِيلُ اللَّفْظِ مَعَ اسْتِبْقَاءِ الْمَعْنَى، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: هُوَ مَا دَلَّ قَلِيلُهُ على كثيره، وهي اختصار الاجتماعة، كَمَا سُمِّيَتِ الْمُخْتَصَرَةَ لِاجْتِمَاعِ السُّوَرِ فِيهَا، وَسُمِّيَ خَصْرُ الْإِنْسَانِ لِاجْتِمَاعِهِ وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أبي ربيعة:
(رأت رجلا أما إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضْحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَخْصُرُ)(1/10)
معنى أنه مجتمع مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ. وَأَمَّا " هَذَا " فَهِيَ كَلِمَةُ إِشَارَةٍ تَجْمَعُ حَرْفًا وَاسْمًا، فَالْحَرْفُ الْهَاءُ الْمَوْضُوعَةُ لِلتَّنْبِيهِ، وَالِاسْمُ ذَا وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ حَسُنَ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا، فَنَقُولُ: هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ اخْتَصَرَ كِتَابَهُ وَهَلَّا بَسَطَهُ فَإِنَّ الْمَبْسُوطَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِفْهَامِ، وَأَغْنَى عَنِ الشَّرْحِ.
قِيلَ: إِنَّمَا اخْتَصَرَهُ لِأَنَّ الْمُخْتَصَرَ أَقْرَبُ إِلَى الْحِفْظِ، وَأَبْسَطُ لِلْقَارِئِ، وَأَحْسَنُ مَوْقِعًا في النفوس، ولذلك تداول إِعْجَازَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حيوة} [البقرة: 179] لِاخْتِصَارِ لَفْظِهِ وَإِجْمَاعِ مَعَانِيهِ وَعَجِبُوا مِنْ وَجِيزِ قَوْله تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] . وَمِنَ اخْتِصَارِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] . وَقَالُوا: إِنَّهَا أخصر آية في كتاب الله تعالى. واستسحنوا اخْتِصَارَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] كَيْفَ جَمَعَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْوَجِيزِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ وَجَمِيعِ الْمَلْبُوسَاتِ. وَلِفَضْلِ الِاخْتِصَارِ عَلَى الْإِطَالَةِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَتْ لِيَ الْحِكْمَةُ اخْتِصَارًا ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: خَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَلَمْ يَطُلْ فَيَمَلَّ. غير أن للإطالة موضعا يحمد فِيهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُخْتَصَرًا بِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي بَعْضِ خُطَبَاءِ إِيَادٍ:
(يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً ... وَحْيَ الْمُلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ)
غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِصَارَ فِيمَا وَضَعَهُ الْمُزَنِيُّ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: مُخْتَصَرُ الْكِتَابِ لِيُحْفَظَ وَيُبْسَطُ لِيُفْهَمَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شَرَطَ اخْتِصَارَ كِتَابِهِ، وَقَدْ أَطَالَ كَثِيرًا مِنْهُ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ شَرَطَ اخْتِصَارَ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدِ اخْتَصَرَهُ وَإِنَّمَا أَطَالَ كَلَامَ نَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَغْلَبِ وَالْأَغْلَبُ منه مختصر.(1/11)
فَصْلٌ
: وَأَمَّا قَوْلُهُ: " مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ " فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَقَالُوا: عِلْمُ الشَّافِعِيِّ لَا يُمْكِنُهُ اخْتِصَارُهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُضْمَرٌ فِي النَّفْسِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ عَرَضٌ، وَالْعُرُوضُ يَسْتَحِيلُ اخْتِصَارُهَا. وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ فَاسِدٌ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ مُرَادِ الْمُزَنِيِّ بِهِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِهِ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَرَادَ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ فَعَبَّرَ بِالْعِلْمِ عَنِ الْكُتُبِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوصَلُ بِهَا إِلَى الْعِلْمِ كَمَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 48] ، أَيْ مِنْ كِتَابٍ، وقال أبو علي ابن أَبِي هُرَيْرَةَ: أَرَادَ مِنْ مَعْلُومِ الشَّافِعِيِّ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّهُ حَادِثٌ عَلَى الْعِلْمِ كَمَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يحيطون بشيء من علمه} ، أَيْ مِنْ مَعْلُومِهِ، وَمَعْلُومُ الشَّافِعِيِّ مَا أُخِذَ عنه قولا ورسما.
فصل: اعتراض ورد
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَقَدِ اعْتَرَضَ فِيهِ مَنْ ذَكَرْنَا، وَقَالُوا: الْمَعْنَى هُوَ صِفَةُ الْحُكْمِ وَاخْتِصَارُهُ مُبْطِلٌ لَهُ. وَهَذَا جَهْلٌ بِمَقْصُودِ الْكَلَامِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الْمُزَنِيِّ بِمَا اخْتَصَرَهُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اخْتِصَارَ الْمَعْنَى هُوَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ، وَأَخْصَرِ كَلَامٍ. وَقَدْ أَفْصَحَ الْمُزَنِيُّ بِهَذَا فِي أَوَّلِ جَامِعِهِ الْكَبِيرِ فَقَالَ: وَلَيْسَ اخْتِصَارُ الْمَعَانِي هُوَ تَرْكُ بَعْضِهَا وَالْإِتْيَانُ بِالْبَعْضِ، وَلَكِنِ الْإِتْيَانُ بِالْمَعَانِي بِأَلْفَاظٍ مُخْتَصَرَةٍ.(1/12)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اخْتِصَارَهُ الْمَعْنَى غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى عَيْنِهِ. وَلِمَنْ قَالَ بِهَذَا فِي كَيْفِيَّتِهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ اخْتَصَرَ الْمَعْنَى بِإِيرَادِ إِحْدَى دَلَائِلِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ جَمِيعِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ اخْتِصَارًا لَهَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِمَعْنَيَيْنِ مِثْلَ: الْكَلْبِ الْمَيِّتِ هُوَ نَجَسٌ، لِأَنَّهُ كَلْبٌ، وَلِأَنَّهُ مَيِّتٌ، اخْتَصَرَ ذَلِكَ بِإِيرَادِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعَلِّلَ الْأُصُولَ بِمَعْنًى يَجْمَعُ أُصُولًا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ تَعْلِيلِ كُلِّ أَصْلٍ مِنْهَا، بِمَعْنًى مُفْرَدٍ. مِثْلَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ " فَعَلَّلَ إِثْبَاتَ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ بِأَنَّهُ عمل مقصود في عينه يصير التَّعْلِيلُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَلَا يَحْتَاجُ أن تختصر كُلَّ عِبَادَةٍ مِنْهَا بِمَعْنًى يُوجِبُ النِّيَّةَ فِيهَا فَيَكُونُ هَذَا اخْتِصَارًا لِلْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: " وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ " يُرِيدُ: عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ؛ فَيَكُونُ " مِنْ " بِمَعْنَى " عَلَى "، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} [الأنبياء: 77] . أَيْ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَرَ مَنْصُوصَاتِ الشَّافِعِيِّ اخْتَصَرَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فُرُوعًا مِنْ عِنْدِهِ كَمَا فعل في الجوالة وَالضَّمَانِ وَالشَّرِكَةِ وَالشُّفْعَةِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا قَوْلُهُ: " لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ " فَمَعْنَاهُ: لِأُسَهِّلَهُ عَلَى فَهْمِ مَنْ أَرَادَهُ، لِأَنَّ التَّقْرِيبَ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا عَلَى تَقْرِيبِ الدَّانِي مِنَ الْبَعِيدِ.
وَإِمَّا تَقْرِيبُ التَّسْهِيلِ عَلَى الْفَهْمِ، وَهَذَا مُرَادُ الْمُزَنِيِّ دُونَ الْأَوَّلِ لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَقْرِيبِ الْعِلْمِ إِنَّمَا هُوَ تَسْهِيلُهُ عَلَى الْفَهْمِ لَا الْأَدْنَى مِنَ الْبُعْدِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: على من أراده. وتقريب الأدنى، فقال فِيهِ: مَنْ أَرَادَهُ. فَأَمَّا الْهَاءُ الَّتِي فِي أُقَرِّبَهُ وَأَرَادَهُ، فَهُمَا كِنَايَتَانِ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِيمَا يَرْجِعَانِ إِلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:(1/13)
أحدها: أنهما كنايتان يرجعان إِلَى الْعِلْمِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لِأُقَرِّبَ عِلْمَ الشَّافِعِيِّ بِاخْتِصَارِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَنْ أَرَادَ العلم.
والثاني: أنهما كنايتان يرجعان إِلَى الْكِتَابِ وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لِأُقَرِّبَ هَذَا الْكِتَابَ بِاخْتِصَارِهِ، عَلَى مَنْ أَرَادَهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْكِنَايَةَ الْأُولَى تَرْجِعُ إِلَى الْعِلْمِ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لِأُقَرِّبَ هَذَا الْكِتَابَ بِاخْتِصَارِهِ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ. وَخَصَّ بِهِ الْمُرِيدَ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمُرِيدِ لَا يُقَرَّبُ عَلَى فَهْمِهِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا قَوْلُهُ: " مَعَ إِعْلَامِيِّهِ نَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ " فَفِيهِ خَمْسُ كِنَايَاتٍ؛ مِنْهُنَّ كِنَايَتَانِ فِي " إِعْلَامِيِّهِ " وَهُمَا الْيَاءُ وَالْهَاءُ، وَثَلَاثُ كِنَايَاتٍ فِي نَهْيِهِ وَتَقْلِيدِهِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِي أَنَّ الْيَاءَ كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ وَأَنَّ الْهَاءَ فِي تقليده وغيره كنايتان رَاجِعَتَانِ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْهَاءِ التي في إعلامه، وَفِي الْهَاءِ الَّتِي فِي نَهْيِهِ، إِلَى مَا تَرْجِعُ الْكِنَايَةُ بِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ رَاجِعَتَانِ إِلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَيَكُونُ تقدير الكلام: مع إعلام الشافعي ونهي الشَّافِعِيِّ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ رَحِمَهُ الله.
والثاني: أنهما كنايتان راجعتان إلى المزيد عَنْ تَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ، وَهَذَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْهَاءَ الَّتِي فِي " إِعْلَامِيِّهِ " كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ إلى المزيد، وَالْهَاءَ الَّتِي فِي " نَهْيِهِ " كِنَايَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الشافعي، ويكون تقدير الكلام: مع إعلامي المزيد من نَهْيِ الشَّافِعِيِّ عَنِ التَّقْلِيدِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنِ التَّقْلِيدِ صَادِرًا عَنِ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْمُزَنِيِّ وَالْمُرِيدِ.(1/14)
فَصْلٌ
: فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ نَهَى الشَّافِعِيُّ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ، وَتَقْلِيدُهُ جَائِزٌ لِمَنِ اسْتَفْتَاهُ مِنَ الْعَامَّةِ، وَيَجُوزُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ؟
قِيلَ: أَمَّا التَّقْلِيدُ فَهُوَ قَبُولُ قَوْلٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؛ مَأْخُوذٌ مِنْ قِلَادَةِ الْعُنُقِ. وَإِطْلَاقُ هَذَا النَّهْيِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا نَصِفُهُ مِنْ أَحْوَالِ التَّقْلِيدِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّقْلِيدِ ينقسم قسمين.(1/15)
قسم فيما يجوز فيه التقليد وفيما لَا يَجُوزُ.
وَقِسْمٌ فِيمَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ، وَفِيمَنْ لَا يَجُوزُ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَيَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
قِسْمٌ يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ.
وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ.
وَقِسْمٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُقَلِّدِ وَالْمُقَلَّدِ. فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ فَتَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتُ صِفَاتِهِ، وَبَعْثُهُ أَنْبِيَاءَهُ، وَتَصْدِيقُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا جَاءَ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِالْعَقْلِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ، فَصَارَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْعَقْلِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ لِبَعْضِهِمْ تَقْلِيدُ بَعْضٍ، كَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ لِبَعْضِهِمْ تَقْلِيدُ بَعْضٍ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي آلَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
وَأَمَّا مَا يَجُوزُ فيه التقليد فالأخبار. وهي تنقسم إلى قسمين: أخبار تواتر وأخبار(1/16)
آحَادٍ. فَأَمَّا أَخْبَارُ التَّوَاتُرِ فَخَارِجٌ عَنْ حَدِّ التَّقْلِيدِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِهِ.(1/18)
وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَتَقْلِيدُ الْمُخْبَرِ بِهِ إِذَا كَانَ ظَاهِرَ الصِّدْقِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَعَتِ الضرورة فيما غاب إلى قبول الخبرية لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، جَازَ التَّقْلِيدُ فِيهِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ أَنْ(1/19)
يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ تَقْلِيدًا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّسْلِيمُ لِقَوْلِهِ إِلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فِي عَدَالَتِهِ فَصَارَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا بِدَلِيلٍ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ لَيْسَتْ بِدَلِيلٍ عَلَى صِحَّةِ الْخَبَرِ كَمَا لَا يكون عَدَالَةُ الْعَالِمِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ فَتْوَاهُ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ مَا اخْتَصَّ بِالْقَوْلِ الْمَقْبُولِ مِنْ خَبَرٍ أو حكم مَا اخْتَصَّ بِالْقَائِلِ مِنْ عَدَالَةٍ وَصِدْقٍ.
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُقَلِّدِ وَالْمُقَلَّدِ فَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَنْقَسِمُ إِلَى تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ وَحَظْرٍ وَاسْتِحْبَابٍ وَكَرَاهِيَةٍ وَوُجُوبٍ وَإِسْقَاطٍ، فَالتَّقْلِيدُ فِيهَا مختلف باختلاف أحوال الناس من فهم آلَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ أَوْ عَدَمِهِ، لِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَلَوْ مُنِعَ جَمِيعُ النَّاسِ مِنَ التَّقْلِيدِ وَكُلِّفُوا الِاجْتِهَادَ لَتَعَيَّنَ فَرْضُ الْعِلْمِ عَلَى الْكَافَّةِ، وَفِي هَذَا حَلُّ نِظَامٍ وَفَسَادٌ، وَلَوْ جَازَ لِجَمِيعِهِمُ الِاجْتِهَادُ لَبَطَلَ الِاجْتِهَادُ، وَسَقَطَ فَرْضُ الْعِلْمِ،(1/20)
وفي هذا تعطيل الشريعة وذهاب العلم، فكذلك ما وَجَبَ الِاجْتِهَادُ عَلَى مَنْ نَفَعَ بِهِ كِفَايَةً لِيَكُونَ الْبَاقُونَ تَبَعًا، وَمُقَلِّدِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إليهم لعلهم يحذرون} فَلَمْ يَسْقُطِ الِاجْتِهَادُ عَنْ جَمِيعِهِمْ وَلَا أُمِرَ بِهِ كَافَّتُهُمْ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ فِيمَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ.
وقسم فيمن يجوز تقليده.
وقسم يختلف بِاخْتِلَافِ حَالِ السَّائِلِ وَالْمَسْؤُولِ.
فَأَمَّا مَنْ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فَهُمُ الْعَامَّةُ الَّذِينَ عُدِمُوا آلَةَ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُمْ بِعَدَمِ الْآلَةِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ، كَالْأَعْمَى الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلْبَصِيرِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِي الْقِبْلَةِ، لِأَنَّهُ بِفَقْدِ الْبَصَرِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقِبْلَةِ وَخَطَئِهَا. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَامَّةِ اسْتَفْتَى فَقِيهًا فِي حَادِثَةٍ فَأَفْتَاهُ بِجَوَابِهَا فَاعْتَقَدَهُ الْعَامِّيُّ مَذْهَبًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقَدًا لَهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِصِحَّتِهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ. فَلَوْ عَلِمَ حُكْمَ الْحَادِثَةِ وَدَلِيلَهَا، وَأَرَادَ أَنْ يُفْتِيَ غَيْرَهُ بِهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ فِيهَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ بِمِثْلِ وُصُولِ الْعَالِمِ إِلَيْهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي، وَهُوَ أَصَحُّ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ هُنَاكَ دَلَالَةٌ تُعَارِضُهَا هِيَ أَقْوَى مِنْهَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا نَصًّا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةٍ جَازَ تَقْلِيدُهُ فِيهَا وَاسْتِفْتَاؤُهُ فِي حُكْمِهَا، وَإِنْ كَانَ نَظَرًا أَوِ اسْتِنْبَاطًا لَمْ يَجُزْ.
فصل: من يجوز تقليدهم
وَأَمَّا مَنْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ فَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ:
أحدها: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا شَرَعَهُ وَأَمَرَ بِهِ.
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الْمُخْبِرُونَ عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ.
وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْمُجْمِعُونَ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
وَالصِّنْفُ الرَّابِعُ: الصَّحَابَةُ فِيمَا قالوه وفعلوه.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتَقْلِيدُهُ فِيمَا شَرَعَهُ وَأَمَرَ بِهِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عنه فانتهوا} [الحشر: 7] . ومنع أَصْحَابِنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ(1/21)
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَقْلِيدًا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ؛ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ لَا يُسْأَلُ عَنْ دَلِيلٍ فِيهِ، وَهَذِهِ صِفَةُ التَّقْلِيدِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَحْكَامِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا اجْتِهَادًا أَمْ لَا؟
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فَضِيلَةٌ تَقْتَضِي الثَّوَابَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَمْنُوعًا مِنْهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَإِنَّمَا يُشَرِّعُ الْأَحْكَامَ بِوَحْيِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ أَمْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] .
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِأَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْأَحْكَامِ أَمْ يَلْزَمُهُمْ سُؤَالُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمعاذ: " بما تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ ".
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاجْتِهَادُ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ، وَالنَّصُّ مُمْكِنٌ فِي عَصْرِهِ بِسُؤَالِهِ.
والمذهب الثالث: يجوز لمن بعد، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُ، لِإِمْكَانِ السُّؤَالِ عَلَى مَنْ قَرُبَ، وَتَعَذُّرِهِ عَلَى مَنْ بَعُدَ.
فصل: الصنف الثاني
وأما الصِّنْفُ الثَّانِي وَهُمُ الْمُخْبِرُونَ عَنْهُ فَتَقْلِيدُهُمْ فِيمَا أخبروا به ورووه عنه واجب إن كَانَ الْمُخْبِرُ وَاحِدًا، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ: إِنِّي لَا أَقْبَلُ إِلَّا خَبَرَ اثْنَيْنِ حَتَّى يَتَّصِلَ ذَلِكَ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي سَهْوِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَمْ يَعْمَلْ أَبُو بَكْرٍ عَلَى خَبَرِ الْمُغِيرَةِ فِي إِعْطَاءِ الْجَدَّةِ السُّدُسَ حَتَّى أَخْبَرَهُ مُحَمَّدُ بن سلمة. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ عَمِلَتْ عَلَى خَبَرِ عَائِشَةَ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَعَمِلَ عُمَرُ عَلَى خَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْعُدُولِ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ ثبوت.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا عُلِمَ إِسْلَامُهُ جَازَ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِ، وَقَبُولُ شَهَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ عَدَالَتِهِ، لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَقَالَ: " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا(1/22)
اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَشْهَدُ أَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ " فَقَبِلَ خَبَرَهُ وَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ لَمَّا عَلِمَ إِسْلَامَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ عَدَالَتِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ خَطَأٌ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَكُونُ عَلَى صِفَةٍ لَا يَجُوزُ مَعَهَا قَبُولُ خَبَرِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَجْهُولَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِ الْمَجْهُولِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ إِسْلَامِهِ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ خَبَرِ الْمُسْلِمِ إِلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ، فَأَمَّا خَبَرُ الْأَعْرَابِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَسْلَمَ فِي الْحَالِ فَكَانَ عَدْلًا عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَدَالَةُ بِخِلَافِ الْأَعْصَارِ مِنْ بَعْدِهِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ خَبَرِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ، وَلَكِنْ لَوْ سَمِعَ صَغِيرًا وَرَوَى كَبِيرًا جَازَ فَقَدْ كَانَ سَمْعُ ابْنِ عباس وابن زبير قَبْلَ بُلُوغِهِمَا، فَقَبِلَ الْمُسْلِمُونَ أَخْبَارَهُمَا، وَلَا يَصِحُّ لِلْمُخْبِرِ أَنْ يَرْوِيَ إِلَّا بَعْدَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَسْمَعَ لَفْظَ مَنْ أَخْبَرَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ فَيَعْتَرِفَ بِهِ، وَإِمَّا بِالْإِجَازَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ، وَمِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ أَجَازَ الرِّوَايَةَ(1/23)
بِالْإِجَازَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الْإِجَازَةُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ وَإِنْ كَانَتْ عامة لم يجز.(1/24)
وهو يروي كتبا في السنن، أو يقول: أجزت لمحمد بن خالد الدمشقي، وهناك جماعة مشتركون هذا الاسم.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ دَفَعَ الْمُحَدِّثُ الْكِتَابَ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: قَدْ أَجَزْتُكَ هَذَا جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهِ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكُلُّ هَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ غَلَطٌ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ وَلَا الْعَمَلُ عَلَيْهِ إلا أن يقويه الْمُحَدِّثُ، أَوْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ مَجْهُولٌ قَدْ يَكُونُ فِيهِ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ، ولو صحت الإجازة لبطلت الرحلة، ولا يستغني النَّاسُ بِهَا عَنِ الطَّلَبِ وَمُعَانَاةِ السَّمَاعِ، فَإِذَا سَمِعَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَكَتَبَهُ جَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ مِنْ كِتَابِهِ إِذَا وَثِقَ بِهِ، وَعَرَفَ خَطَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لِمَا يَرْوِيهِ، وَلَا ذَاكِرًا لَهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ خَطِّهِ، وَإِنْ عَرَفَهُ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَهُ وَيَحْفَظَهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ نَشْهَدَ بِمَعْرِفَةِ خَطِّهِ حَتَّى يَذْكُرَ مَا نَشْهَدُ بِهِ، وَهَذَا فَاسِدٌ بِالْأَثَرِ الْمَعْمُولِ عَلَيْهِ وَالِاعْتِبَارِ الْمَأْخُوذِ بِهِ فَالْأَثَرُ مَا عَمِلَ عليه المسلمون(1/25)
فِيمَا أَخَذُوهُ مِنْ أَحْكَامِهِمْ، مِنْ كُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهَا كِتَابُهُ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَمِنْهَا الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ قِرَابِ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في نصف الزكاة فلما جاز ذلك في الْأَحْكَامُ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الشَّهَادَةِ جَازَ أن يعمل عليه فيما رواه على خطه وإن لم يجز أن نشهد بِخَطِّهِ. وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ " فَلَوْلَا أَنَّ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ جَائِزٌ لَمْ يَكُنْ لِتَقْيِيدِهِ بِالْخَطِّ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَزَالُوا عَلَى قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحُدُوثِهِ يَسْمَعُونَ عَمَّنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ فَلَا يُنْكِرُونَهُ، وَلَا يَجْتَنِبُونَ سَمَاعَهُ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ سَمَاعِ صَوْتِ الْمُحَدِّثِ، وَإِنْ لَمْ يره لرحمه أَوْ لِذَهَابِ بَصَرِهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ جَازَ أَنْ يَرْوِيَ مِنْ خَطِّهِ الْمَوْثُوقِ بِهِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ.
فصل: الصنف الثالث
وَأَمَّا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وَهُمُ الْمُجْمِعُونَ عَلَى حُكْمٍ فَتَقْلِيدُهُمْ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَاجِبٌ، وَفَرْضُ الِاجْتِهَادِ عَنَّا فِيهِ سَاقِطٌ، لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً لَا يَجُوزُ خِلَافُهَا وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ النَّظَّامُ وَذَهَبَ إِلَيْهِ الْخَوَارِجُ مِنْ إِبْطَالِ الْإِجْمَاعِ وَإِسْقَاطِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، اسْتِدْلَالًا بِتَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ إِلَّا وَاحِدًا وَهُوَ عَلَى الْآخَرِ لجوز، فلما كان خلاف الجميع إلا واحد جَازَ خِلَافُهُمْ مَعَ الْوَاحِدِ لِأَنَّ هَذِهِ شُبْهَةٌ فَاسِدَةٌ يُبْطِلُهَا النَّصُّ وَيُفْسِدُهَا الدَّلِيلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . فَتَوَعَّدَ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ جَوَّزَ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ فَقَدِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ " ومن أبطل الإجماع جعلهم مجتمعين على ضلال، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنَ الْكَافَّةِ مَعَ اخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ اتِّفَاقَهُمْ، وَلَا يَخْلُو ذَلِكَ الدَّلِيلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ، أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ لَمْ يَجُزْ خِلَافُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ إِلَّا بِمَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:(1/26)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْأَخْفَى كَانَ وُصُولُهُ إِلَى الْأَظْهَرِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْكَافَّةِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، وَيَكُونُ الْوَاحِدُ بِهِ ظَافِرًا.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا مَا عُلِمَ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ ضَرُورَةً كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَتَحْرِيمِ الرِّبَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَهَذَا يَجِبُ الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ، لِأَنَّ مَا عُلِمَ حُكْمُهُ ضَرُورَةً لَوْ صُوِّرَ أَنَّ الْأُمَّةَ خَالَفَتْهُ لَكَانُوا مَحْجُوبِينَ بِهِ فَصَارَ حُكْمُهُ ثَابِتًا بِغَيْرِ الْإِجْمَاعِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى الْإِجْمَاعِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْ ضَرُورَةٍ وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَمَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَتَحْرِيمِ بِنْتِ الْبِنْتِ، كَالْبِنْتِ، وَإِحْلَالِ بِنْتِ الْعَمِّ، بِخِلَافِ الْعَمَّةِ، فَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ، وَهَلْ يَكُونُ إِجْمَاعُ الْعَامَّةِ مَعَهُمْ مُعْتَبَرًا فِيهِ؟ لَوْلَا وَفَاقُهُمْ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ إِجْمَاعًا عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ مُعْتَبَرٌ فِي انْعِقَادِهِ وَلَوْلَاهُ مَا ثَبَتَ إِجْمَاعًا لِاشْتِرَاكِهِمْ وَالْعُلَمَاءَ فِي الْعِلْمِ بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَهُوَ مُنْعَقِدٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ دُونَهُمْ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا وَقَعَ عَنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَلَيْسَ الْعَامَّةُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِمَنْ يَكُونُ خِلَافُهُ مُؤَثِّرًا وَخِلَافُ الْعَامَّةِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعُهُمْ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ.(1/27)
والضرب الثالث: ما اختص بالعلماء بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ دُونَ الْعَامَّةِ كَنَصْبِ الزَّكَاةِ، وَتَحْرِيمِ المرأة على خالتها وعمتها، وَإِبْطَالِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ من أهل الاجتهاد والفتيات دُونَ الْعَامَّةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُرَاعَى فِيهِ إجماع غير الفقهاء ومن الْمُتَكَلِّمِينَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُرَاعَى إِجْمَاعُهُمْ فِيهِ وَيُؤَثِّرُ خِلَافُهُمْ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِجْمَاعَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَخِلَافُهُمْ فِيهِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ أَقْوَمُ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ، وَأَكْثَرُ حِفْظًا لِلْفُرُوعِ، وَأَكْثَرُ ارْتِيَاضًا بِالْفِقْهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْعُلَمَاءِ هُمُ الْمُعْتَبَرُونَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَخَالَفَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ لَمْ يَنْعَقِدِ الْإِجْمَاعُ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ خَالَفَ الصَّحَابَةَ فِي مَسَائِلَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا أَقْوَالَهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لِتَفَرُّدِهِ بِالْخِلَافِ فِيهِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ خِلَافُ الْوَاحِدِ مَانِعًا مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ أَبَدًا؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا يُمْنَعُ خِلَافُ الْوَاحِدِ إِنْ أَنْكَرَهُ مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْبَاقِينَ إنكار، فيكون ترك التكبير مِنْهُمْ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْخِلَافِ فِيهِمْ، فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ كَانَ مَحْجُوبًا بِهِمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَدِ ارْتَفَعَ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ أَنْكَرُوا قَوْلَهُ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يُنْكِرُوهُ، لأن ممن شهد لله بِالْحَقِّ، وَلِأَنَّ قَوْلَ الْأَقَلِّ غَيْرُ مَحْجُوجٍ بِالْأَكْثَرِ، كَذَلِكَ قَوْلُ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَ الْأَكْثَرِ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ قَوْلِ الْأَقَلِّ، وَهَكَذَا لَوْ أَجْمَعُوا ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَطَلَ الْإِجْمَاعُ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ إِجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ، وَخَصَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ كُلَّ عَصْرٍ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ فِيمَا أَجْمَعُوا حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِهِ لَبَطَلَ التَّبْلِيغُ وَلَمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَصْرٍ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ فَعَلَى هَذَا لَوِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي حَادِثَةٍ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ فِيهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِهِمْ بَعْدَ خِلَافِ الصَّحَابَةِ قَبْلَهُمْ، فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدِ انْعَقَدَ، وَالْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ قَدِ ارْتَفَعَ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ(1/28)
إِجْمَاعُ الْعَصْرِ الثَّانِي حُجَّةً مَعَ عَدَمِ الْخِلَافِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَا كَانَ حُجَّةً لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْخِلَافِ بَاقٍ، وَالْإِجْمَاعَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ، لِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الْقَوْلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُ التَّابِعِينَ مُبْطِلًا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ لَوْ رَفَعَ الْقَوْلَ الْآخَرَ، كَانَ نَسْخًا، وَلَا يَجُوزُ حُدُوثُ النَّسْخِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْوَحْيِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَدْرَكَ أَحَدُ التَّابِعِينَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَخَالَفَهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَوْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ، وَأَنَّ خِلَافَ التَّابِعِيِّ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْكَرَتْ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عبد الرحمن خلافه، لأن ابن عَبَّاسٍ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وقالت: أراك كالفروج يصفع مَعَ الدِّيَكَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ أن خلافه معتد به، ومانع انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ دُونَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ عَاصَرَ الصَّحَابَةَ كَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ فَكَانُوا يُفْتُونَ بِاجْتِهَادِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِمْ فَصَارُوا مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَنَعُوهُمْ مِنَ الفتى خَوْفًا مِنَ الْفُتْيَا بِمَا يُخَالِفُهُمْ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إِنَّ التَّابِعِيَّ إِنْ كَانَ حِينَ أَدْرَكَهُمْ خَاضَ مَعَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فيه أعيد بِخِلَافِهِ، وَلَمْ يَنْعَقِدِ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ، وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ سَبَقَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَكُونُ انقراض العصر شرطا في صحة الإجماع قبل الْإِجْمَاعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِجْمَاعٌ عَنْ قَوْلٍ.
وَالثَّانِي: إِجْمَاعٌ عَنِ انْتِشَارٍ وَإِمْسَاكٍ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى الِانْتِشَارِ وَالْإِمْسَاكِ، لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِالْتِمَاسِ الدَّلِيلِ، وَيُحْتَمَلُ الْوِفَاقُ، فَإِذَا انْقَرَضُوا عَلَيْهِ زَالَ الاحتمال، ويثبت أنه إمساك وفاق، ولكن اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَاسِكِينَ فِيهِ، هَلْ يُعْتَبَرُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِهِمْ وُجُودُ الرِّضَى مِنْهُمْ وَالِاعْتِقَادِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ فِيهِ اعْتِقَادُهُمْ، لِأَنَّ بِالِاعْتِقَادِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ.(1/29)
وَالثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَى لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ غَيْرُ مَوْصُولٍ إِلَيْهِ، وَالرِّضَى دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ عَنْ قَوْلٍ فَهُوَ أَوْكَدُ مِنْهُ، لِانْتِفَاءِ الِاحْتِمَالِ عَنْهُ، وَلَيْسَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِي انْعِقَادِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِهِ لِأَنَّ لِبَعْضِ الْمُجْمِعِينَ الرُّجُوعَ كَمَا رَجَعَ عَلِيٌّ _ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي بيع أمهات الأولاد، لو كَانَ مُنْعَقِدًا لَمَا جَازَ خِلَافُهُ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا فِيهِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ يُبْطِلُ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِي حَيَاتِهِ كَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِهِمُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ كان الإجماع منعقد، لِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ حجة على من بعدهم.
فصل: الصنف الرابع
فَأَمَّا الصِّنْفُ الرَّابِعُ وَهُمُ الصَّحَابَةُ فَتَقْلِيدُهُمْ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ وَلَهُمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى الشَّيْءِ قَوْلًا، وَيَتَّفِقُوا لَفْظًا، فَهَذَا إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، وَتَقْلِيدُهُمْ فِيهِ وَاجِبٌ، وَالْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِيهِ لَازِمٌ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَوْلًا، وَيَنْتَشِرَ فِي جَمِيعِهِمْ وَهُمْ مِنْ بَيْنِ قَائِلٍ بِهِ، وَسَاكِتٍ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَظْهَرَ الرِّضَى مِنَ الساكت عما ظهر النطق مِنَ الْقَائِلِ، فَهَذَا إِجْمَاعٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، لِأَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نُطْقٌ مَوْجُودٌ فِي رضاء السَّاكِتِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنَ السَّاكِتِ الرِّضَى وَلَا الْكَرَاهَةُ، فَهُوَ حُجَّةٌ، لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا خِلَافَهُ لَمْ يَسَعْهُمُ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ وَهَلْ يَكُونُ إِجْمَاعًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أحدهما: يكون إجماعا، لأنه كَانَ فِيهِمْ مُخَالِفٌ لَبَعَثَتْهُ الدَّوَاعِي عَلَى إِظْهَارِ خِلَافِهِ، لِأَنَّ كَتْمَ الشَّرِيعَةِ يَنْتَفِي عِنْدَهُمْ، فَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ نَسَبَ إِلَى سَاكِتٍ كَلَامًا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ: إِنْ كَانَ مَا قَالَهُ الْوَاحِدُ فِيهِمْ حُكْمًا حَكَمَ بِهِ كَانَ انْتِشَارُهُ فِيهِمْ وَسُكُوتُهُمْ عَنِ الْخِلَافِ فِيهِ إجماعا وإن كان فينا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ إِلَّا عَنْ مَشُورَةٍ وَمُطَالَعَةٍ وَبُعْدِ نَظَرٍ وَمُبَاحَثَةٍ، وَإِنْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ بضد هذا، إن كان فينا إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ لَا يَجُوزُ اعْتِرَاضُ السَّاكِتِينَ فِيهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ الْمُبَايَنَةِ وَالْفُتْيَا غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَلَيْسَ الْمُخَالَفَةُ فِيهَا مُبَايَنَةً، وَكَانَ السُّكُوتُ دَلِيلًا عَلَى رِضًى وَمُوَافَقَةٍ.(1/30)
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ قَوْلًا لَا يُعْلَمُ انْتِشَارُهُ وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ خِلَافُهُ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، وَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وأبي حنيفة إِنَّهُ حُجَّةٌ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَأْخُذُ بِقَوْلٍ، مِنْ غَيْرِ طَلَبِ دَلِيلٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ آحَادِهِمْ حُجَّةٌ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ أن يختص به العموم الكتاب والسنة أولا؟ على وجهين:
أحدهما: يجوز لأن عموم يَخْتَصُّ بِقِيَاسٍ مُحْتَمَلٍ وَقَوْلُهُ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ الْمُحْتَمَلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ كَانُوا يَتْرُكُونَ أَقْوَالَهُمْ لِعُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَيَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ خِلَافُهُ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ حجة علينا وعلى الصحابي، وليس قول الواحد حجة على جميع الصحابة، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَافَقَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ فَهَلْ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى بِانْفِرَادِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قِيَاسَ الْمَعْنَى بِانْفِرَادِهِ أَوْلَى لِأَنَّ بِانْفِرَادِهِ حُجَّةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ مَعَ مُوَافَقَةِ قِيَاسِ النَّصِّ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْمُنْفَرِدِ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ:: وَقَدْ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِهِ فِي عُيُوبِ الْحَيَوَانِ حَيْثُ أَخَذَ بِقَضَاءِ عُثْمَانَ لِمُوَافَقَتِهِ قِيَاسَ التَّقْرِيبِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ قياس المعنى.
والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ قَوْلًا يُخَالِفُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيَظْهَرُ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَيَنْتَشِرُ فِيهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ.
قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ " فَإِنِ اسْتَوَى أَخَذَ بِقَوْلِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدِي ". فَإِنِ اسْتَوَى صَارَ كَالدَّلِيلَيْنِ إِذَا تَقَابَلَا فَيَرْجِعُ إِلَى التَّرْجِيحِ.(1/31)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ يَعُودُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ إِلَى مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ، وَيَقْتَضِيهِ الِاجْتِهَادُ، لِأَنَّ التَّقْلِيدَ مَعَ الِاخْتِلَافِ يُفْضِي إِلَى اعْتِقَادِ مَا لَا يُؤْمَنُ كَوْنُهُ جَهْلًا وَالْإِقْدَامُ عَلَى مَا لَا يُؤْمَنُ بِهِ يَكُونُ قَبِيحًا، وَقُبْحُ مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مُقَرَّرٌ فِي الْعُقُولِ وَإِفْرَادُ الصَّحَابَةِ كَإِفْرَادِ سَائِرِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْحَادِثَةِ لَكِنْ إِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى مَا سِوَى الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ، لَيْسَ بِحَقٍّ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ يَجُوزُ تَقْلِيدُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ فِيهَا وَلَمْ يَرُدَّ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا مِنْهَا بِنَهْيِهِ عَنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَنْ يَخْتَلِفُ حَالُهُمْ بِاخْتِلَافِ حال السائل والمسؤول فهم علماء الأمصار، فَإِنْ كَانَ السَّائِلُ عَامِّيًّا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ جَازَ لَهُ تَقْلِيدُهُمْ، فِيمَا يَأْخُذُ بِهِ ويعمل عليه، لقوله تعالى: {فاسئلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] . ولأن العامي عادم لآلة الاجتهاد للوصل إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ فَجَرَى مَجْرَى الضَّرِيرِ يَرْجِعُ فِي الْقِبْلَةِ لِذَهَابِ بَصَرِهِ إِلَى تَقْلِيدِ الْبَصِيرِ لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ فِي الأعيان من المعينين عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَا يُقَلِّدَ إِلَّا أَعْلَمَهُمْ وَأَوْرَعَهُمْ وَأَسَنَّهُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَعْلَمِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا فِي الْعِلْمِ، وَالْعَامِّيُّ لَيْسَ بِمُشَارِكٍ فَصَارَ عَادِمًا لِآلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي أَعْلَمِهِمْ، كَمَا كَانَ عَادِمًا لِآلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي حُجَّةِ قَوْلِهِمْ، فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ وَجَدَ عَالِمَيْنِ وَعَلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَعْلَمُ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ الْأَعْلَمِ عِنْدَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: هُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّ كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَعْلَمَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَوْصَلَ إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا، أَوْ مُسَاوِيًا فِيهَا، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لَوِ اسْتَفْتَى فَقِيهًا لَمْ يَسْكُنْ إِلَى فُتْيَاهُ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى يَصِيرُوا عَدَدًا تَسْكُنُ نَفْسُهُ إِلَى فُتْيَاهُمْ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ سُؤَالُ غَيْرِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى فُتْيَاهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ نُفُورُ نَفْسِهِ وَلَا سُكُونُهَا حُجَّةً.
وَلَوِ اسْتَفْتَى فَقِيهًا، ثُمَّ رَجَعَ الْفَقِيهُ عَنْ فُتْيَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّائِلُ بالرجوع فهو على ما كان عليه الْعَمَلِ بِهَا، وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِرُجُوعِهِ، فَإِنْ كَانَ الْفَقِيهُ خَالَفَ نَصًّا لَزِمَ السَّائِلَ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ قَدْ خالف أولى التصوير فَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ السَّائِلُ بِمَا أَفْتَاهُ به لم(1/32)
يَنْقُضْهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ أَمْسَكَ عَنْهُ، وَلَوِ اسْتَفْتَى فَقِيهَيْنِ فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِتَحْلِيلٍ، وَالْآخِرُ بِتَحْرِيمٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، كَمَا كَانَ بِالْخِيَارِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى قَوْلِ أَحَدِهِمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَثْقَلِهِمَا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ.
فَهَذَا مَا فِي تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ، ولم يرده الشافعي رحمه الله بالنبي عَنْ تَقْلِيدِهِ، فَأَمَّا الْعَالِمُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يقلد عالما فعلى ضربين:
أحدهما: أن يرد تَقْلِيدَهُ فِيمَا يُفْتَى بِهِ أَوْ يُحْكَمُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَجَوَّزَهُ أبو حنيفة، وَلِذَلِكَ أَجَازَ لِلْعَامِّيِّ الْقَضَاءَ لِيَسْتَفْتِيَ الْعُلَمَاءَ فِيمَا يَحْكُمُ به، وهذا خطأ، لقوله تعالى: {فاسئلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] . فجعل فقد هذا الْعِلْمِ فِي سُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ بِأَوْلَى مِنْ تَقْلِيدِ صَاحِبِهِ له، كالمبصرين لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا تَقْلِيدُ صَاحِبِهِ فِي الْقِبْلَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرُدَّ تَقْلِيدَهُ فِيمَا نَزَلَتْ بِهِ مِنْ حَادِثَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا لِاجْتِهَادِهِ فِيهَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِيهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، وَيَصِيرُ كَالْعَامِّيِّ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إِلَى الدَّلَالَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَصَّلُ إِلَى الْحُكْمِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ بِالسُّؤَالِ عَنْ وَجْهِ الدَّلِيلِ فَيَصِلُ بِاجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ بَعْدَ السُّؤَالِ وَالْكَشْفِ إِلَى حُكْمِ الْحَادِثَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ، فَهَذَا مَا فِي تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ لِلْمُجْتَهِدِ، وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيُّ بِالنَّهْيِ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ.
فَصْلٌ
قَوْلُهُ: " لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ " فَالْمَعْنِيُّ بِالنَّاظِرِ هُوَ الْمُرِيدُ، وَالنَّظَرُ ضربان:
الأول: نظر مشاهدة بالبصر.
والثاني: نَظَرُ فِكْرٍ بِالْقَلْبِ، وَمُرَادُهُ هُوَ الْفِكْرُ بِالْقَلْبِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ بِالْبَصَرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ ينظروا في ملكوت السموات وَالأَرْضِ} [الأعراف: 185] . يَعْنِي أَفَلَمْ يَتَفَكَّرُوا بِقُلُوبِهِمْ لِيَعْتَبِرُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: " لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ " تَأْوِيلَانِ عَلَى مَا مَضَى.
أَحَدُهُمَا: فِي الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: فِي مُخْتَصَرِهِ هَذَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ " لِدِينِهِ " فَلِأَنَّ الْفِقْهَ عِلْمٌ دِينِيٌّ، فَالنَّاظِرُ فِيهِ نَاظِرٌ فِي دِينِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " وَيَحْتَاطُ لِنَفْسِهِ ": أَيْ لِيَطْلُبَ الِاحْتِيَاطَ لِنَفْسِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِي الْمَذَاهِبِ فَتَرَكَ التَّقْلِيدَ بطلب الدلالة. والله أعلم.(1/33)
[كتاب الطهارة]
باب الطهارة
قال المزني رحمه الله: قال الشافعي رضي الله عنه: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْتَرَضَ مَنْ ذَكَرْنَا إعناته للمزني على هَذَا الْفَصْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالُوا أَسْنَدَ الْمُزَنِيُّ الْقُرْآنَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقُرْآنُ مَقْطُوعٌ بِهِ، لَا يَقْتَصِرُ إِلَى الْإِسْنَادِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ بَعْدَ الِاسْتِيعَاذِ مِنْ خِدَعِ الْهَوَى أَنَّ الْمُزَنِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إِسْنَادَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِضَافَةَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ إِلَى الشَّافِعِيِّ لِيَعْلَمَ النَّاظِرُ فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ بِالْآيَةِ هُوَ الشَّافِعِيُّ دُونَ الْمُزَنِيِّ.
وَالِاعْتِرَاضُ الثَّانِي إن قَالُوا: قَدَّمَ الدَّلِيلَ عَلَى الْمَدْلُولِ وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْمَوْضُوعِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَمَّا ابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ حَسُنَ أَنْ يَبْدَأَ بِتَقْدِيمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَدْلُولِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ مُبْتَدِئًا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَسْأَلَةٍ فَالْأَوْلَى تَأْخِيرُهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ. وَضَرْبٌ يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى أَصْلِ الْبَابِ فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُهُ عَلَى الْبَابِ.
فَصْلٌ: دَلَائِلُ طَهَارَةِ الْمَاءِ
وَالدَّلَائِلُ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ وَجَوَازِ التَّطْهِيرِ بِهِ آيتان:(1/35)
إِحْدَاهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طهورا} ، وَالثَّانِيَةُ: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ به} . وَسُنَّتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: مَا رَوَاهُ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ ".
وَالثَّانِيَةُ: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سلمة(1/36)
أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَمَعَنَا الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ". وَرُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ أَنَّ الْعَرَكِيَّ قَالَ: " إِنَّا نَرْكَبُ فِي الْبَحْرِ فِي أَرْمَاثٍ لَنَا ". وَالْعَرَكِيُّ: الصَّيَّادُ.
والأرماث: الخشب يضم بعضه إلى بعض فنركب عَلَيْهَا فِي الْبَحْرِ ". قَالَ الشَّاعِرُ:
(تَمَنَّيْتُ مِنْ حُبِّي بُثَيْنَةَ أَنَّنَا ... عَلَى رَمَثٍ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ لَنَا وَفْرُ)
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " هذا الحديث نصف العلم الطهارة، وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى طَهَارَةِ مَا يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى طَهَارَةِ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْمَاءُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ أَوْ نَابِعًا مِنَ الْأَرْضِ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الطَّهُورُ الْمَوْصُوفُ بِهِ الْمَاءُ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فَهُوَ صِفَةٌ تَزِيدُ عَلَى الطاهر يتعدى التطهير منه لغيره، فَيَكُونُ مَعْنَى الطَّهُورِ هُوَ الْمُطَهِّرُ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ، وَابْنُ دَاوُدَ وَالْأَصَمُّ: إِنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى الطَّاهِرِ لَا يَخْتَصُّ بِزِيَادَةِ التَّعَدِّي.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَجْوِيزُهُمْ إِزَالَةَ الْأَنْجَاسِ بِالْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَاتِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] . يَعْنِي طَاهِرًا لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّطْهِيرِ بِهِ وَقَالَ جرير:(1/37)
(إِلَى رَجَحِ الْأَكْفَالِ عُدَّ مِنَ الظُّبَى ... عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ)
يَعْنِي: طَاهِرًا، لِأَنَّ رِيقَهُنَّ لَا يَكُونُ مُطَهِّرًا قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ فَعُولٍ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ فَاعِلُهُ مُتَعَدِّيًا، كَالْمَقْتُولِ وَالْقَاتِلِ، وَكُلَّ فَاعِلٍ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ كَانَ فَعُولُهُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ كَالصَّبُورِ وَالصَّابِرِ فَلَمَّا كَانَ الطَّاهِرُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّهُورُ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهُورَ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَمَا انْطَلَقَ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ، كَالْقَتُولِ وَالضَّرُوبِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ اسْمُ الطَّهُورِ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ وُجُودِ التَّطَهُّرِ بِهِ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ لِتَعَدِّي الْفِعْلِ مِنْهُ، بَلْ لِلُزُومٍ، وَالصِّفَةُ لَهُ أَيِ الْوَصْفُ، قَالُوا وَلِأَنَّ الطَّهُورَ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَوَجَبَ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِعْلُ التَّطْهِيرِ مِنْهُ كَالْقَتُولِ وَالضَّرُوبِ فَلَمَّا لَمْ يَتَكَرَّرْ مِنْهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُسْتَعْمَلًا عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَاءَ يُتَطَهَّرُ بِهِ، وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَدِّي الْفِعْلِ مِنْهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ فِي تَعَدِّي فِعْلِهِ إِلَيْهِمْ إِذْ قَدْ عَلِمُوا طَهَارَتَهُ قَبْلَ سُؤَالِهِمْ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ قَبْلِي نَبِيٌّ " فَذَكَرَ مِنْهَا: " وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرَابُهَا طَهُورًا " يَعْنِي مُطَهِّرًا، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ طَاهِرًا عَلَى مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا افْتَخَرَ بِمَا خُصَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّطْهِيرِ بِهِ. وَقَالَ عليه السلام: " دِبَاغُهَا طَهُورُهَا ". أَيْ مُطَهِّرُهَا.
وَقَالَ: " طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ " أَيْ: مُطَهِّرُهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى مُطَهِّرٍ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ.
وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَهُوَ أَنَّ فَعُولَ أَبْلَغُ فِي اللُّغَةِ مِنْ فَاعِلٍ، فَلَمَّا اخْتَصَّ قَوْلَهُمْ طَهُورٌ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ التَّطْهِيرُ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ دُونَ مَا كَانَ طَاهِرًا مِنَ الْخَشَبِ وَالثِّيَابِ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُبَالَغَةِ تَعَدِّي الطَّهُورِ، وَلُزُومُ الطَّاهِرِ، وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَ فَعُولِهِ وَفَاعِلِهِ بِالتَّكْرَارِ، لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي، كَالْقَتُولِ وَالْقَاتِلِ وَمَا لَمْ يُمْكِنِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّكْرَارِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي، وَلَيْسَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ طَهُورٍ وَطَاهِرٍ بِتَكْرَارِ الْفِعْلِ فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّعَدِّي.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْآيَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:(1/38)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ صِفَةٌ لِلْمَاءِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا عَدَمُ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى التَّطْهِيرِ بِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ الِامْتِنَانُ بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ فِي الجنة مما هو أعز مَشْرُوبًا فِي الدُّنْيَا.
وَأَمَّا قَوْلُ جَرِيرٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا، لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْمَدْحَ لِرِيقِهِنَّ بِالطَّهُورِ بِهِ مُبَالَغَةً، وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ طَاهِرًا لما كان مادحا، لأن ريق البهائم طاهرا أَيْضًا، وَإِنَّمَا بَالَغَ بِأَنْ جَعَلَهُ مُطَهِّرًا تَشْبِيهًا بِالْمَاءِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ كُلَّ فَعُولٍ كَانَ مُتَعَدِّيًا كَانَ فَاعِلُهُ مُتَعَدِّيًا.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي التَّعَدِّي إِذَا أَمْكَنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ التَّعَدِّي، وَلَيْسَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّهُورِ وَالطَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ التَّعَدِّي. فَثَبَتَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ التَّعَدِّي.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لَمْ يَنْطَلِقِ الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ وُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ فَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بِصِفَةٍ قَدْ تُوجَدُ فِي الْبَاقِي مِنْهُ كَقَوْلِهِمْ طَعَامٌ مشبع، وماء مروي، ونار مُحْرِقَةٌ، وَسَيْفٌ قَاطِعٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ كَانَ متعديا لتكرر الفعل منه.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ صِفَةٌ لِجِنْسِ الْمَاءِ وَجِنْسُ الْمَاءِ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ فِعْلُ الطَّهَارَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْمَاءِ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الْفِعْلُ فِي إِمْرَارِهِ عَلَى العضو وانتقاله من محل إلى محل.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلُّ مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مَالِحٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ سَمَاءٍ أَوْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ مُسَخَّنٍ وَغَيْرِ مُسَخَّنٍ فَسَوَاءٌ وَالتَّطَهُّرُ بِهِ جَائِزٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَقَالُوا: قَوْلُهُ " فَكُلُّ مَاءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ أَوْ مَالِحٍ " خَطَأٌ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ مَاءٌ مِلْحٌ، وَلَا تَقُولُ: مَالِحٌ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَامَّةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِهِ إِفْهَامَ الْعَامَّةِ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ مَاءٌ مِلْحٌ لَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ هُوَ الصَّوَابَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ مَاءٌ مِلْحٌ وَمَاءٌ مَالِحٌ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ شَاعِرُ قُرَيْشٍ:(1/39)
(فَلَوْ تَفِلَتْ فِي الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ مَالِحٌ ... لَأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ رِيقِهَا عَذْبًا)
وَقَالَ آخَرُ:
(تَلَوَّنْتَ أَلْوَانًا عَلَيَّ كَثِيرَةً ... وَخَالَطَ عَذْبًا مِنْ إِخَايِكَ مَالِحُ)
وَمَاءُ الْبَحْرِ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وعن سعيد بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُمْ كَرِهُوهُ وَقَدَّمُوا التَّيَمُّمَ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] . فَمَنْعُهُ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي الْحُكْمِ فِي الطَّهَارَةِ بِهِمَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْبَحْرُ نَارٌ مِنْ نَارٍ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْبَحْرِ: " الْبَحْرُ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِي هِنْدٍ الْفِرَاسِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ الْبَحْرُ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ " وَلِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي طَعْمِهِ وَلَوْنِهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ يَمْنَعُ مِنْ تَسَاوِي الْحُكْمِ فِي الطَّهَارَةِ بِهِ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ طَعْمِهِ مَانِعًا مِنْ تَسَاوِي حُكْمِهِ فِي الطَّهَارَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 12] . فَإِنَّمَا نَعْنِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَالْآخَرُ مِلْحٌ أُجَاجٌ غَيْرُ سَائِغٍ شَرَابُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " الْبَحْرُ نَارٌ فِي نَارٍ " يَعْنِي أَنَّهُ كَالنَّارِ لِسُرْعَةِ إِتْلَافِهِ أَوْ أَنَّهُ يَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] . فَثَبَتَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ الْمَالِحِ وَالْعَذْبِ، فَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي يَنْعَقِدُ مِنْهُ الْمِلْحُ فَإِنِ ابْتَدَأَ بِالْجُمُودِ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْجَارِي، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنْ كَانَ مَاءً جَارِيًا فَهُوَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَصِيرُ مِلْحًا بِجَوْهَرِهِ فِي الْمَاءِ، دُونَ الْبَرِّيَّةِ كَأَعْيُنِ الْمِلْحِ الَّتِي تَنْبُعُ مَاءً مَائِعًا وَيَصِيرُ جَوْهَرُهُ مِلْحًا جَامِدًا فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ يَتَنَاوَلُهُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ يُؤَوَّلُ عَنْهُ إِذَا جَمُدَ فِي ثَانِي الْحَالِ كَمَا يَجْمُدُ الْمَاءُ فَيَصِيرُ ثَلْجًا. قَالَ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَاءِ كَالنِّفْطِ وَالْقَارِ.(1/40)
فَصْلٌ:
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِئْرٍ أَوْ سَمَاءٍ فَإِنَّمَا أَرَادَ مَاءَ بِئْرٍ أَوْ مَاءَ سَمَاءٍ فَحَذَفَ ذِكْرَ الْمَاءِ اكْتِفَاءً بِفَهْمِ السَّامِعِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر: 12] . يَعْنِي مَاءَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّا مَاءُ السَّمَاءِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ لِقَوْلِهِ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] . وَأَمَّا مَاءُ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 21] . يَعْنِي بِهَا مَاءَ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ.
فَصْلٌ
: وَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ فَيُرِيدُ بِهِ أَيْضًا مَاءَ بَرَدٍ أَوْ مَاءَ ثَلْجٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الطهارة به ما روي عنه عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ كما تطهر النوب مِنَ الدَّرَنِ " وَلِأَنَّهُ كَانَ مَاءً فَجَمُدَ، ثُمَّ صَارَ مَاءً حِينَ ذَابَ وَانْحَلَّ، فَأَمَّا إِذَا أُخِذَ الثَّلْجَ وَالْبَرَدَ فَدَلَكَ بِهِ أَعْضَاءَ طَهَارَتِهِ قَبْلَ ذَوَبَانِهِ وَانْحِلَالِهِ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يُجْزِيهِ، وَإِطْلَاقُ مَا قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ إِمْرَارَهُ الثَّلْجَ عَلَى أَعْضَائِهِ يَكُونُ مَسْحًا يَصِلُ إِلَى الْعُضْوِ بِكُلِّ الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ فِي الْعُضْوِ الْمَسْحَ كَالرَّأْسِ أَجْزَأَهُ بِحُصُولِ الْمَسْحِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ الْغَسْلَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ حَدَّ الْغَسْلِ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ، وَهَذَا مَسْحٌ، وَلَيْسَ بِغَسْلٍ وَمَسْحُ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ غَيْرُ مُجْزِئٍ، فَلَوْ كَانَ فِي إِمْرَارِهِ عَلَى الْأَعْضَاءِ يَذُوبُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَجْرِي مَاؤُهُ عَلَيْهَا فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا يُجْزِئُ لِحُصُولِ الْغَسْلِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ، وَالثَّانِي لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ بَعْدَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ صَارَ جَارِيًا.
فَصْلٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ " مُسَخَّنٍ وَغَيْرِ مُسَخَّنٍ فَسَوَاءٌ، وَالتَّطَهُّرُ بِهِ جَائِزٌ " فَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْمُسَخَّنِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَخَّنِ بِالنَّارِ وَبَيْنَ الْحَامِي بِالشَّمْسِ فِي أَنَّ الْمُسَخَّنَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَالْمُشَمَّسَ مَكْرُوهٌ.
وَالثَّانِي: الرَّدُّ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَزَعَمُوا أَنَّ الْمُسَخَّنَ بِالنَّارِ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُسَخَّنُ لَهُ الْمَاءُ فَيَسْتَعْمِلُهُ وَالصَّحَابَةُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَا يُنْكِرُونَهُ، وَلِأَنَّ تَسْخِينَ الْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّبْرِيدِ يُرْفَعَانِ عَنْهُ تَارَةً وَيَحِلَّانِ فِيهِ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَبْرِيدُهُ مَانِعًا مِنَ اسْتِعْمَالِهِ لَمْ يَكُنْ تَسْخِينُهُ الدَّافِعَ لِرَدِّهِ مَانِعًا مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، وَلَعَلَّ مُجَاهِدًا كَرِهَ مِنْهُ مَا اشْتَدَّ حَمَاهُ، فَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِعْمَالُهُ، وذلك عندنا(1/41)
مكروه، وكذلك كما اشْتَدَّ بَرْدُهُ فَلَمْ يُمْكِنِ اسْتِعْمَالُهُ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْمِيَاهُ كُلُّهَا نَوْعَانِ: نَوْعٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ مِيَاهٍ مَاءُ الْمَطَرِ، وَمَاءُ الثَّلْجِ، وَمَاءُ الْبَرَدِ، وَنَوْعٌ يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ أَرْبَعُ مِيَاهٍ: مَاءُ الْبَحْرِ، وَمَاءُ النَّهْرِ، وَمَاءُ الْعَيْنِ، وَمَاءُ الْبِئْرِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْمِيَاهِ طَاهِرَةٌ مُطَهِّرَةٌ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ والرائحة.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا أَكْرَهُ الْمَاءَ الْمُشَمَّسَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ لِكَرَاهِيَةِ عُمْرَ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ: " يُورِثُ الْبَرَصَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَهَذَا صَحِيحٌ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مَكْرُوهٌ لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عنهما - شَمَّسَتْ مَاءً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تفعلي يا حميرا فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ " وَرُوِيَ عَنْ عُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ الْمَاءَ الْمُشَمَّسَ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ، فَإِذَا ثَبَتَ الْخَبَرُ وَالْأَثَرُ كَرَاهِيَةُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَا أَثَّرَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مِنْ مِيَاهِ الْأَوَانِي، وَأَمَّا مِيَاهُ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ لَا يُكْرَهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّمْسَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا كَتَأْثِيرِهَا فِي الْأَوَانِي.
وَالثَّانِي: التَّحَرُّزُ مِنْهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَمِنَ الْأَوَانِي مُمْكِنٌ وَتَأْثِيرُ الشَّمْسِ فِي مِيَاهِ الْأَوَانِي قَدْ يَكُونُ تَارَةً بِالْحَمَا، وَتَارَةً بِزَوَالِ بِرْدِهِ، وَالْكَرَاهَةُ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ، فَإِنْ لَمْ تُؤَثِّرِ الشَّمْسُ فِيهِ لَمْ يُكْرَهْ فَسَوَاءٌ مَا قَصَدَ بِهِ الشَّمْسَ، وَمَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمَكْرُوهَ مِنْهُ مَا قَصَدَ بِهِ الشَّمْسَ دُونَ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعَائِشَةَ: " لَا تَفْعَلِي " فَكَانَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْفِعْلِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ نَصَّ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ وَأَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالْقَصْدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَكَذَا أَيْضًا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا حَمِيَ بِالشَّمْسِ فِي بِلَادِ تِهَامَةَ وَالْحِجَازِ، وَبَيْنَ مَا حَمِيَ بِهَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ النَّهْيَ مَخْصُوصًا بِمَا حَمِيَ بِتِهَامَةَ وَالْحِجَازِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ تُورِثُ الْبَرَصَ دُونَ مَا حَمِيَ بِالْعِرَاقِ وَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ إِنَّمَا هُوَ إِطْلَاقُ قَوْلٍ(1/42)
بِغَيْرِ دَلِيلٍ مَعَ عُمُومِ النَّهْيِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ الْبِلَادِ، فَأَمَّا مَا حَمِيَ بِالشَّمْسِ ثُمَّ بَرُدَ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى حَالِ الْكَرَاهَةِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ لَهُ قَبْلَ الْبَرْدِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ كَانَ لِأَجْلِ الْحَمْيِ، فَإِذَا زَالَ الْحَمْيُ زَالَ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ، وَكَانَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى عُدُولِ الطِّبِّ فَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ بَعْدَ بَرْدِهِ يُورِثُ الْبَرَصَ كَانَ مَكْرُوهًا، وَإِنْ قَالُوا: إِنَّهُ لَا يُورِثُ الْبَرَصَ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِغَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ في الشريعة، لأن من الطِّبِّ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمُشَمَّسُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَلَا يُرْجَعُ إِلَى قَوْلِهِ فِيهِ.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ كَرَاهَةُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ فَإِنَّمَا تَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا يُلَاقِي الْجَسَدَ مِنْ طَهَارَةِ حَدَثٍ، وَإِزَالَةِ نَجَسٍ أَوْ بَرَدٍ، أَوْ تَنْظِيفٍ، أَوْ شُرْبٍ، سَوَاءٌ لَاقَى الْجَسَدَ فِي عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ عِبَادَةٍ، فَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا لَا يُلَاقِي الْجَسَدَ مِنْ غَسْلِ ثَوْبٍ أَوْ إِنَاءٍ أَوْ إِزَالَةِ نَجَاسَةٍ عَنْ أَرْضٍ، فَلَا يُكْرَهُ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِمُلَاقَاةِ الْجَسَدِ دُونَ غَيْرِهِ، فأما إن استعماله فِي طَعَامٍ يُرِيدُ أَكْلَهُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَبْقَى فِي الطَّعَامِ كَالْمُرِّيِّ بِهِ فِي الطَّبْخِ كَانَ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْقَى مَا يُعَافِيهِ كَالدَّقِيقِ الْمَعْجُونِ بِهِ، أَوِ الْأُرْزِ الْمَطْبُوخِ به لم يكره.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ مَاءِ وَرْدٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ عَرَقٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُعْتَصَرًا مِنْ شَجَرٍ أَوْ ثَمَرٍ، أَوْ وَرَقٍ، كماء الورد والبقول الفواكه فَهُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَدَثٍ، وَلَا نَجَسٍ وَحُكِيَ عَنِ ابن أبي ليلى والأصم أنه طاهر يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ دُونَ الْحَدَثِ، فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَصَمُّ فَاسْتَدَلَّا بِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا كَالْمَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: أَوْدَعَ كُلَّ مَاءٍ مَعْدِنًا وَأَوْدَعَ هَذِهِ الْمِيَاهَ فِي النَّبَاتِ كَمَا أَوْدَعَ غَيْرَهَا فِي الْعُيُونِ وَالْآبَارِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ حُكْمُهَا فِي التَّطْهِيرِ بِاخْتِلَافِ مَعَادِنِهَا كَسَائِرِ الْمِيَاهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَاءَ(1/43)
الْمُطْلَقَ بِالتَّطْهِيرِ، وَتَخْصِيصُ الذِّكْرِ إِذَا عُلِّقَ بِصِفَةٍ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهَا بِالْحُكْمِ وَمَنَعَ غَيْرَهَا مِنَ الْمُشَارَكَةِ ولأن مَا خَرَجَ عَنِ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ خَرَجَ عَنْ حُكْمِهِ فِي التَّطْهِيرِ كَالْأَدْهَانِ وَمَاءِ اللَّحْمِ وهذا يفسد ما استدلوا به.
فصل: دليل أبي حنيفة والرد عليه
وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَجُرُّهُ فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ " وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ بَعْدَهُ إِلَّا التُّرَابُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِغَيْرِ الْمَاءِ مَدْخَلٌ فِي تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أصاب ثوبها دم قبلته وَقَرَصَتْهُ بِرِيقِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الرِّيقَ يُزِيلُ النجاسة، قالوا: وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ فَزَالَ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِهِ كَالْمَاءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا أَزَالَ عَيْنَ النَّجَاسَةِ أَوْجَبَ إِزَالَةَ حُكْمِهَا، كَالْقَطْعِ بِالْمِقَصِّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ إِزَالَةَ عَيْنِهِ بَعِيدًا لَمْ يَخْتَصَّ بِالْمَاءِ كَالطِّيبِ عَلَى بَدَنِ الْمُحْرِمِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا ثَبَتَ لِمَعْنًى زَالَ الْحُكْمُ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَلَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِي تَنْجِيسِ الْمَحَلِّ وُجُودَ الْعَيْنِ وَجَبَ إِذَا ارْتَفَعَتْ أَنْ يَزُولَ تَنْجِيسُ الْمَحَلِّ، قَالُوا: وَلِأَنَّ إِنَاءَ الْخَمْرِ لَمَّا طَهُرَ بِانْقِلَابِهِ خَلًّا، عُلِمَ أَنَّ الْخَلَّ طَهَّرَهُ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْخَلُّ مُطَهِّرًا لِإِنَاءِ الْخَمْرِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مُطَهِّرًا لِكُلِّ نَجِسٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ هِرًّا لَوْ أَكَلَتْ فَارَةً أَوْ مَيْتَةً ثُمَّ وَلَغَتْ فِي إِنَاءٍ كان الماء طاهرا، فدل أن فيها طهر بريقها، قالوا: ولأن لَمَّا كَانَ لِغَيْرِ الْمَائِعِ مَدْخَلٌ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ فِي الدِّبَاغَةِ لَمْ يَكُنِ الْمَاءُ مُخْتَصًّا بِالْإِزَالَةِ فَكَانَ الْمَائِعُ أَوْلَى مِنَ الْجَامِدِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِزَالَةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ هَذَا مَخْرَجَ الْفَضِيلَةِ لِلْمَاءِ وَالِامْتِنَانِ بِهِ فَلَوْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الِامْتِنَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِالنَّصِّ عَلَى الْمَاءِ التَّنْبِيهَ عَلَى مَا سواه لنص على أدون الْمَائِعَاتِ، لِيَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَعْلَاهَا فَلَمَّا نَصَّ عَلَى الْمَاءِ وَعَلَى أَعْلَى الْمَائِعَاتِ عُلِمَ أَنَّ اختصاصه بالحكم.(1/44)
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " ولا سيما فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ " فَأَمَرَهَا بِالْمَاءِ، وَالْأَمْرُ إِذَا وَرَدَ مُقَيَّدًا بِشَرْطٍ لَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ، كَرَفْعِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّهُ غَسْلٌ مَفْرُوضٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ النَّجَسُ كَالدُّهْنِ، وَالْمَرَقِ، وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ نَوْعَيْنِ مِنَ التَّطْهِيرِ:
أَحَدُهُمَا: تَطْهِيرُ نَفْسِهِ بِالْمُكَاثَرَةِ.
وَالثَّانِي: تَطْهِيرُ غَيْرِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ. فَلَمَّا انْتَفَى عَنِ المائع تطهير نفسه بالمكاثرة. وجب أن تنتفي عَنِ الْمَائِعِ تَطْهِيرُ غَيْرِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ التَّطْهِيرِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْمَائِعِ قِيَاسًا عَلَى تَطْهِيرِ الْمُكَاثَرَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا نَجِسَ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ نَجِسَ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ بِكُلِّ حَالٍ كَغَيْرِهِ الْمَائِعِ طَرْدًا، وَكَالْمَاءِ عَكْسًا، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ مُلَاقَاةُ الْحِلِّ وَالنَّجَاسَةِ يُوجِبُ أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ، ولأن إزالة النجس أعلا مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ كَانَ مُحْدِثًا، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي النَّجَاسَةِ دون الحدث، فلم يَجُزِ اسْتِعْمَالُ الْمَائِعَاتِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهُوَ أَخَفُّ الْأَمْرَيْنِ حَالًا فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِأَنَّهُ أَغْلَظُهُمَا حَالًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَعَلُّقِهِمْ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ " فَهُوَ أَنَّهَا إِشَارَاتٌ إِلَى غَيْرِ النَّجَاسَةِ، أَوْ إِلَى نَجَاسَةٍ يَابِسَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّجَاسَةَ الرَّطْبَةَ لَا تُطَهَّرُ بِالدَّلْكِ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا عَلَى نَجَاسَةٍ يَسِيرَةٍ يُعْفَى عَنْ مِثْلِهَا أَوْ عَلَى أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لِتُلِينَ النَّجَاسَةَ بَرِيقِهَا، ثُمَّ تَغْسِلُهَا بِدَلِيلِ أَنَّ الرِّيقَ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على الماء، فالمهنى فِي الْمَاءِ أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلِذَلِكَ أَزَالَ النَّجَسَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْقَطْعِ بِالْمِقَصِّ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَزَالَ مَحَلَّ النَّجَاسَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطِّيبِ فِي بَدَنِ الْمُحْرِمِ فَالْمَعْنَى فِي الطِّيبِ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إِزَالَةُ رِيحِهِ لَا إِزَالَةَ حُكْمِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّجَاسَةُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ ارْتِفَاعَ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِكَمِ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، ويقول: ليس ارتفاع معنى الحكم موجب لِارْتِفَاعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ،(1/45)
فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُونَ مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إِنَّ ارْتِفَاعَهُ يُوجِبُ ارْتِفَاعَ حُكْمِهِ فَعَلَى هذا أن يَكُونُ الْمَعْنَى هُوَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ دُونَ الْعَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ مَعَ عَدَمِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ إِذَا نَجِسَ، وَقَدْ يُوجَدُ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَلَا يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ مَا لَمْ تُغَيِّرْهُ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا حُكْمُ النَّجَاسَةِ لَمْ يَزُلْ بِالْمَائِعِ فَكَانَ مَعْنَى الْحُكْمِ بَاقِيًا، وَأَمَّا نَجَاسَةُ الْإِنَاءِ إِذَا ارْتَفَعَتْ بِانْقِلَابِ الخمر خلا، وإنما كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْإِنَاءِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ إِجْزَاءِ الْخَمْرِ فَإِذَا انْقَلَبَتْ فِي الْإِنَاءِ خَلًّا انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ مَعَهَا فَصَارَتْ خَلًّا فَطَهَّرَ الْجَمِيعَ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إِزَالَةَ نَجَسٍ، وَإِنَّمَا هُوَ انْقِلَابُ خَمْرٍ إِلَى خَلٍّ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْهِرَّةِ إِذَا أَكَلَتْ فَأْرَةً فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّنَا مَتَى عَلِمْنَا نَجَاسَةَ فَمِهَا بِأَنْ وَلَغَتْ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ عَنِ الْعَيْنِ فَالْمَاءُ نُجِّسَ، وَإِنْ غَابَتْ عَنِ الْعَيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَصَحُّهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّجَاسَةِ فِي فَمِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَاءَ طاهر لأن الأصل طاهرة الْمَاءِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنَّ الْهِرَّةَ حِينَ غَابَتْ وَلَغَتْ فِي إِنَاءٍ آخَرَ فَطَهُرَ فَمُهَا.
وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالدِّبَاغَةِ فَحُكْمُهَا خَارِجٌ عَنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ لَا تَجُوزُ بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْمَائِعَاتِ حُكْمًا فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ سَائِرِ الْأَنْجَاسِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " أَوْ عَرَقٍ فِيهِ لِأَصْحَابِنَا رِوَايَتَانِ ":
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِرَقٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ يَعْنِي عُرُوقَ الْأَشْجَارِ، إِذَا اعْتُصِرَ مَاؤُهَا، كَانَ غَيْرَ مُطَهِّرٍ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: عَرَقٌ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، يَعْنِي: عَرَقَ الْإِنْسَانِ يَرْشَحُ مِنْ بَدَنِهِ، لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ، وإن كان طاهرا، وكذلك كلما اعْتُصِرَ مِنْ أَجْوَافِ الْإِبِلِ إِذَا نُحِرَتْ عِنْدَ الْعَطَشِ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ، وَيَكُونُ نَجِسًا وسمي عرقا.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَوْ مَاءِ زَعْفَرَانٍ أَوْ عُصْفُرٍ. ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَطَهُ مَذْرُورٌ طَاهِرٌ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ وَالْحِنَّاءِ، أَوْ خَالَطَ الْمَائِعَ طَاهِرٌ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْخَلِّ، فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَغَيُّرِ الْمَاءِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَائِعُ الْمَخَالِطُ أَكْثَرَ وَإِنْ غَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ، وَجَوَّزَ أبو حنيفة اسْتِعْمَالَهُ فِي الْأَنْجَاسِ عَلَى أَصْلِهِ، وَفِي الْأَحْدَاثِ أَيْضًا مَا لَمْ يَحْتَرِزْ بِالْمَذْرُورِ فَيَخْرُجُ عَنْ طَبْعِهِ فِي الْجَرَيَانِ وَمَا لَمْ يَكُنِ الْمَائِعُ أَكْثَرَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا كَانَ طَاهِرًا إِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَمْنَعْهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ،(1/46)
كَالتُّرَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَسْلُبْهُ التُّرَابُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ لَمْ يَسْلُبْهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمَذْرُورَاتِ حُكْمَ التَّطْهِيرِ، كَمَا الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ بِالْمُخَالَطَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ تَغَيُّرٍ لَوْ كَانَ لِطُولِ الْمُكْثِ لو يمنع مِنَ التَّطْهِيرِ، وَجَبَ إِذَا كَانَ بِالْمُخَالَطَةِ أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ التَّطْهِيرِ كَالْمُلُوحَةِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَا تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنَ التَّطْهِيرِ بِهِ كَمَاءِ الْبَاقِلَّاءِ وَلِأَنَّهُ مَا تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَأْكُولٍ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ جَوَازَ التَّطَهُّرِ بِهِ كَالْمَرَقِ، وَلِأَنَّ الْمَذْرُورَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ مُوَافِقٌ لِلْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، وَالتَّطْهِيرِ وَهُوَ التُّرَابُ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَسْلُبْهُ وَاحِدَةً مِنْ صِفَتَيْهِ لَا الطَّهَارَةِ وَلَا التَّطْهِيرِ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُمَا فِيهِمَا.
وَقِسْمٌ مُخَالِفٌ لِلْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ وَهُوَ النَّجَاسَةُ فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ سَلَبَهُ الْوَصْفَيْنِ مَعًا الطَّهَارَةَ وَالتَّطَهُّرَ، لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَقِسْمٌ مُوَافِقٌ الْمَاءَ فِي الطَّهَارَةِ دُونَ التَّطْهِيرِ وَهُوَ الزَّعْفَرَانُ وَمَا شَاكَلَهُ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ وَجَبَ أَنْ يَسْلُبَهُ الصِّفَةَ الَّتِي يُخَالِفُهُ فِيهَا وَهُوَ التَّطْهِيرُ دُونَ الصِّفَةِ الَّتِي وَافَقَهُ فِيهَا، وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَمْنَعُ مِنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ التُّرَابِ وَسَائِرِ الْمَذْرُورَاتِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَالْمَعْنَى فِيهِ فَقْدُ الْغَلَبَةِ بِعَدَمِ التَّأْثِيرِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُلُوحَةِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَسَنَذْكُرُ الْمَذْهَبَ فِيمَا تَغَيَّرَ بِالْمِلْحِ.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " أَوْ نَبِيذٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَنْبِذَةِ لَا نَيًّا، وَلَا مَطْبُوخًا، لَا فِي حَضَرٍ، وَلَا فِي سَفَرٍ، وَهُوَ نَجِسٌ إِنْ أَسْكَرَ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِسَائِرِ الْأَنْبِذَةِ، وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِنَبِيذِ التَّمْرِ الْمَطْبُوخِ، إِذَا كَانَ مُسْكِرًا فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ، وَقَالَ: محمد بن الحسن: يَجْمَعُ بَيْنَ النَّبِيذِ وَالتَّيَمُّمِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو فَزَارَةَ الْعَبْسِيُّ عَنْ أَبِي زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنِ(1/47)
ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَمَعَكَ مَاءٌ، قُلْتُ لَا مَعِي نَبِيذُ التَّمْرِ فَقَالَ: " هَاتِهِ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ ". وَتَوَضَّأَ بِهِ ثُمَّ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْفَجْرِ. قَالُوا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " النَّبِيذُ وُضُوءُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ ". قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عباس توضآ بالنبيذ، فلا يخلوا فِعْلُ ذَلِكَ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ عَنْ قِيَاسٍ أَوْ تَوْقِيفٍ، فَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا، لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ فَثَبَتَ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 26] . وَفِي النَّبِيذِ مَاءٌ فَلَمْ يَجُزْ أن يتيمم مع وجوده.
قالوا: وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ سُمِّيَ فِي الشَّرْعِ طَهُورًا فَجَازَ الوضوء به كالماء.
قالوا: وَلِأَنَّ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ عُضْوَانِ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَثَبَتَ فِيهِمَا بَدَلٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَالْوَجْهِ واليدين.
قالوا: لأن الْوُضُوءَ نَوْعُ تَطْهِيرٍ يُفْضِي إِلَى بَدَلَيْنِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماء فتيمموا} . فَنَقَلَنَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ إِلَى التُّرَابِ بِلَا وَسِيطٍ، وَهُوَ النَّبِيذُ، وَلَيْسَ النَّبِيذُ مَاءً مُطْلَقًا، لَا فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي الشَّرْعِ.
فَإِنْ قَالُوا: هُوَ مَاءٌ فِي الشَّرْعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ ".
قِيلَ: لَوْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّبِيذَ مَاءٌ فِي الشَّرْعِ لَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَمْرٌ فِي الشَّرْعِ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ مَا يُسَاوِي حُكْمَ سَائِرِ الْمِيَاهِ، وَفِي مُبَايَنَتِهِ لَهَا مَعَ مَا مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ لَا يَدْفَعُ الْحَدَثَ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُسْتَبَاحَ بِهِ الصَّلَاةُ كَالْخَلِّ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ، كَالنَّقِيعِ، وَلِأَنَّهُ(1/48)
شَرَابٌ مُسْكِرٌ فَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ كَالْخَمْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَائِعٍ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ قَبْلَ طَبْخِهِ، لَمْ يَجُزِ التَّطَهُّرُ بِهِ بَعْدَ الطَّبْخِ كَالْمَاءِ النَّجِسِ، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الطَّبْخِ عِنْدَهُمْ عَدَمُ التَّطْهِيرِ دُونَ إِبَاحَتِهِ كَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ يَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ عِنْدَهُمْ قَبْلَ الطَّبْخِ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الطَّبْخِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: ضَعْفُ الْخَبَرِ من وجهين ضعف رواية لِأَنَّ أَبَا فَزَارَةَ كَانَ نَبَّاذًا بِالْكُوفَةِ وَأَبُو زيد مجهول وليس رِوَايَةُ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي فَزَارَةَ دَلِيلًا عَلَى ثِقَتِهِ كَمَا رَوَى(1/49)
الشَّعْبِيُّ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَقَالَ كَانَ وَالِدُهُ كَذَّابًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الطحاوي خَصَّ نَقْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لأبي حنيفة قَالَ: فَاعْتَمَدَ أبو حنيفة فيها على حديث ابن مسعود، وليس ثابت فَهَذَا أَحَدُ الْأَجْوِبَةِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: مُعَارَضَةُ الْخَبَرِ مما تنفيه وَهُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ رَوَى عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ: لَا وَدِدْتُ(1/50)
أَنْ لَوْ كُنْتُ مَعَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ إِنَّكَ كُنْتَ مَعَهُ، قَالَ فَقَدْنَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُلْنَا: اغْتِيلَ أَوِ اسْتُطِيرَ فَبِتْنَا بشر ليلة بات لها أهلها فلما أصحبنا أَقْبَلَ مِنْ نَاحِيَةِ حِرَاءَ وَذَكَرَ أَنَّ دَاعِيَ الْجِنِّ أَتَاهُ.
فَتَعَارَضَتِ الرِّوَايَةُ فَسَقَطَتَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَخَبَرُنَا مُثْبِتٌ وَخَبَرُكُمْ نَافٍ وَالْمُثْبَتُ أَوْلَى.
قِيلَ: هما سواء فخبركم ثبت كَوْنَ عَبْدِ اللَّهِ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَنْفِي كَوْنَهُ مَعَ الصَّحَابَةِ، وَخَبَرُنَا يُثْبِتُ كَوْنَهُ مَعَ الصَّحَابَةِ وَيَنْفِي كَوْنَهُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: تَسْلِيمُ الْخَبَرِ وَالِانْفِصَالُ عَنْهُ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إِمَّا بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ التَّيَمُّمِ، لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجِنَّ كَانَتْ بِمَكَّةَ، وَآيَةُ التَّيَمُّمِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَإِمَّا بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي مَا نَبَذَ فِيهِ التَّمْرَ لِيُحِلُّوا لِأَنَّ قَوْلَهُ تَمْرَةٌ طيبة وماء طهور تقتضي ذلك تمييزا أَحَدِهِمَا مِنَ الْآخَرِ وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنَّ مَعِي نَبِيذًا، يَعْنِي: مَا يَصِيرُ نَبِيذًا، وَبِمَعْنَى قَدْ نَبَذَ فِيهِ تَمْرًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَمْرًا وَمَاءً طَهُورًا.
قِيلَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْآخَرِ عَلَى الْمَجَازِ كَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَذَا يُجَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ قَدْ نَبَذَ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَبِيذٌ مُشْتَدٌّ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَهُ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلَوْ كَانَ لَنَقَلُوهُ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَا حَتْمًا دِرَايَةً إِنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُمَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: " إِنَّ فِي النَّبِيذِ مَاءَ سهو " هو جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَاءٌ وَانْتَقَلَ عَنْهُ لِأَنَّ اسْمَ الْمَاءِ فِي اللُّغَةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَنْطَلِقَ اسْمُ الْمَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَاءً لَكَانَ الْخَلُّ أَحَقَّ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ مُطْلَقٌ لَاسْتَوَى حُكْمُهُ وَحُكْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي الِاسْمِ وَالْحُكْمِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ بأنه مائع سمي في الشرع طهور فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " فَوَصَفَ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَاءِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ النَّبِيذِ فِي الْحَضَرِ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ.(1/51)
وَأَمَّا قِيَاسُهُمُ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ بِهِ فِي انْتِقَالِهِمَا إلى بلل يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ فَرْضُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ عَنْهُ بَدَلَ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ إِذَا بُدِّلَ كَالْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ فَمُنْتَقَصٌ بِالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ليس له بدلا إِلَّا الصَّوْمُ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي بَدَلِ الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ وُجُودُ النَّصِّ فِيهِمَا، وَاقْتِصَارُ النَّصِّ فِي الْوُضُوءِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ بِالثَّانِي مِنْ بَدَلِ الْعِتْقِ جِنْسُ البدل الثاني حتى تكون طعاما بعد الصيام لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ ثُبُوتُ أَصْلِهِ حَتَّى يَكُونَ بَدَلًا ثَانِيًا بَعْدَ أَوَّلٍ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ مَاءٍ بُلَّ فِيهِ خُبْزٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ حَتَّى يُضَافَ إِلَى مَا خَالَطَهُ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي شَرْحِ الْمِيَاهِ إِلَّا أَنَّا نَخْتَصِرُهُ بِقِسْمٍ جَامِعٍ نُمَهِّدُ بِهِ أُصُولَهُ وَتُبْتَنَى عَلَيْهِ فُرُوعُهُ، فَنَقُولُ: الْمَاءُ ضَرْبَانِ مُطْلَقٌ، وَمُضَافٌ، فَالْمُطْلَقُ عَلَى حُكْمِ أَصْلِهِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَالْمُضَافُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِضَافَةٌ تَمْنَعُ من جواز استعماله، وإضافة لا تمنع منه، فَأَمَّا الَّتِي لَا تَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فَإِضَافَتَانِ إِضَافَةُ قَرَارٍ كَمَاءِ الْبَحْرِ وَالزَّهْرِ، وَإِضَافَةُ صِفَةٍ كَمَاءٍ عَذْبٍ أَوْ أُجَاجٍ، فَأَمَّا الْمَانِعَةُ مِنْ جواز الاستعمال فيتقسم إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِضَافَةُ حُكْمٍ وَإِضَافَةُ جِنْسٍ وَإِضَافَةُ غَلَبَةٍ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ إِضَافَةُ الْحُكْمِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا سَلَبَ الْمَاءَ حُكْمُ التَّطْهِيرِ دُونَ الطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ.
وَالثَّانِي: مَا سَلَبَهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ وَالطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ النَّجِسِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ إِضَافَةُ الْجِنْسِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ وَكُلِّ مُعْتَصَرٍ مِنْ نَبَاتٍ فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ، وَلَا نَجَسٍ، وَخَالَفَنَا أبو حنيفة فِيهِ فيجوز إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ مَعَهُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ إِضَافَةُ الْغَلَبَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: غَلَبَةُ مُخَالَطَةٍ.
وَالثَّانِي: غَلَبَةُ مُجَاوَرَةٍ.
فَأَمَّا غَلَبَةُ الْمُخَالَطَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمَائِعٍ كَالْعَسَلِ أَوْ مَذْرُورٍ كَالزَّعْفَرَانِ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَمَّا غَلَبَةُ الْمُجَاوَرَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ بِجَامِدٍ كَالْخَشَبِ أَوْ مُتَمَيِّزٍ كَالدُّهْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ جواز استعماله.(1/52)
فَصْلٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْسِيمِ الْمِيَاهِ فَجَمِيعُ الْفُرُوعِ مُرَتَّبٌ عَلَيْهَا وَمُسْتَفَادٌ مِنْهَا فَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ وَالْبُرَّ وَالشَّعِيرَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَغَيَّرَهُ، فَإِنْ كَانَ بِحَالِهِ صَحِيحًا لَمْ يَنْحَلَّ فِي الْمَاءِ فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُجَاوَرَةٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِالْخَشَبِ وَإِنْ ذَابَ فِي الْمَاءِ وَانْحَلَّ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُخَالَطَةٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِمَذْرُورِ الزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ، وَهَكَذَا حُكْمُ سَائِرِ الْحُبُوبِ مِنَ الْأُرْزِ وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَإِنْ طُبِخَ بِالنَّارِ فَإِنِ انْحَلَّتْ فِي الْمَاءِ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ لَمْ يَنْحَلَّ وَلَا تغير بها الماء فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ انْحِلَالِ أَجْزَائِهَا فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَمَا لَوْ يَتَغَيَّرُ بِلَا انْحِلَالٍ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ بِالطَّبْخِ صَارَ مَرَقًا.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْقَطِرَانَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ فغيره فقد قال الشافعي في كتاب الأمم: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَكِنَّ الْقَطِرَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
[الْأَوَّلُ] : ضَرْبٌ فِيهِ دُهْنِيَّةٌ فَتَغَيُّرُ الْمَاءِ بِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، كَمَا لو تغير بدهن.
و [الثاني] : ضَرْبٌ لَا دُهْنِيَّةَ فِيهِ فَتَغَيُّرُ الْمَاءِ فِيهِ مانع من جواز استعماله، كما لو يتغير بِمَائِعٍ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالشَّمْعِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ، كَمَا لَوْ تغير بدهن، ولو تغير شحم أُذِيبَ فِيهِ بِالنَّارِ كَانَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ الشَّحْمَ دُهْنٌ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ الشَّحْمِ لِلْمَاءِ تَجْعَلُهُ مَرَقًا.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالْكَافُورِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
حَالٌ يُعْلَمُ انْحِلَالُ الْكَافُورِ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ.
وَحَالٌ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَنْحَلَّ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ.
وَحَالَةُ شَكٍّ فِيهِ، فَيُنْظَرُ فِي صَفَاءِ التَّغَيُّرِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ الطَّعْمُ دُونَ الرَّائِحَةِ فَهُوَ دال على تغير المخالطة ولا يجوز اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنْ كَانَ تَغَيُّرَ الرِّيحُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ فِيهِ تَغَيُّرُ الْمُخَالَطَةِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَغْلِبُ تَغَيُّرُ الْمُجَاوَرَةِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ.(1/53)
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَنِيَّ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ كَانَ طَاهِرًا لِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَاءَ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ بِمَائِعٍ غَيْرَ الْمَنِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُمَاعُ فِي الْمَاءِ كَالدُّهْنِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، لِأَنَّ تَغَيُّرَهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ.
قَالَ أَبُو العباس بن العاص: إن الورق في الماء بعد أن ربا فَاسْتِعْمَالُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْصَرْ فِيهِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَرَقُ الشَّجَرِ مَدْقُوقًا نَاعِمًا فَغَيَّرَ الْمَاءَ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ كَالزَّعْفَرَانِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الاسفرايني: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالْوَرَقِ الْمَدْقُوقِ تَغَيُّرُ مُخَالَطَةٍ، وَتَغَيُّرُهُ بِالْوَرَقِ الصَّحِيحِ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالْمِلْحِ لَمْ يَنْحَلَّ أَنْ يَكُونَ مِلْحَ حَجَرٍ أَوْ مِلْحَ جَمْدٍ فَإِنْ كَانَ مِلْحَ حَجَرٍ فَاسْتِعْمَالُ مَا تَغَيَّرَ بِهِ مِنَ الْمَاءِ غَيْرُ جَائِزٍ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِمَا يَنْحَلُّ فِيهِ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ كَالْكُحْلِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِلْحَ جَمْدٍ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَا قَدْ جَمَدَ، فَإِذَا ذَابَ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ كَالثَّلْجِ إِذَا ذَابَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَحَالَ عَنِ الْمَاءِ فَصَارَ جَوْهَرًا كَغَيْرِهِ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا تَغَيَّرَ بِالْجَمَادِ أَوْ بِطُولِ المكث كان استعماله جائز لِأَنَّهُ تَغَيُّرُ مُجَاوَرَةٍ، فَأَمَّا إِذَا تَغَيَّرَ بِالتُّرَابِ فَإِنْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يُجْزِئُ بِطَبْعِهِ لَمْ يجز استعماله، لأنه صار علينا، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا بِطَبْعِهِ لَكِنْ تَكَدَّرَ لَوْنُهُ وَتَغَيَّرَ طَبْعُهُ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَذْرُورٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الأصح يجوز قَرَارٌ لِلْمَاءِ لَا يَنْفَكُّ غَالِبًا عَنْهُ كَالطِّينِ.(1/54)
وَمِنَ الْفُرُوعِ الْمُضَاهِيَةِ لِهَذَا الْفَصْلِ تَكْمِيلُ مَاءِ الطَّهَارَةِ بِمَائِعٍ طَاهِرٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ يَكْتَفِي فِي غَسْلِهِ بِعَشَرَةِ أَرْطَالٍ مِنْ مَاءٍ فَيَجِدُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ قِيمَتُهَا بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَبَنٍ أَوْ مَائِعٍ غَيْرِهِ، وَلَا تُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ اسْتِعْمَالَ جَمِيعِهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْإِحَاطَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَائِعِ فِي طَهَارَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِمَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ مِنَ الْمَائِعِ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَعْمَلَ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ هِيَ مِقْدَارُ الْمَاءِ وَبَقِيَ مِنْهُ رطلين هِيَ مِقْدَارُ الْمَائِعِ جَازَ، وَإِنْ أُحِطْنَا عِلْمًا بِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِمَائِعٍ فَرْدٍ، وَأَنَّ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ لَيْسَ بِمَاءٍ فَرْدٍ فَكَذَا إِذَا اسْتَعْمَلَ الْكُلَّ لِكَوْنِ الْمَائِعِ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/55)
باب الآنية
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَيَتَوَضَّأُ فِي جُلُودِ الميتة إذا دبغت " واحتج بقوله عليه السلام: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " كَذَلِكَ جُلُودُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ السِّبَاعِ إِذَا دُبِغَتْ إِلَّا جِلْدَ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، لِأَنَّهُمَا نَجِسَانِ وَهُمَا حَيَّانِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا بَدَأَ بِأَوَانِي الْجُلُودِ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا وَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يطهر منها، وللكلام فيها مقدمتان.
أحدهما: أَنَّ الْحَيَوَانَ كُلَّهُ طَاهِرٌ إِلَّا خَمْسَةً: وَهِيَ الْكَلْبُ، وَالْخِنْزِيرُ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ كَلْبٍ وَحَيَوَانٍ طَاهِرٍ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ خِنْزِيرٍ وَحَيَوَانٍ طَاهِرٍ، وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ عَلَى تَنْجِيسِهَا فِي مَوْضِعِهِ، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا مِنْ دَوَابِّهِ وَطَائِرِهِ طَاهِرٌ فِي حَيَاتِهِ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَيْتَةَ كُلَّهَا نَجِسَةٌ إِلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ: وَهِيَ الْحُوتُ، وَالْجَرَادُ وَابْنُ آدَمَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْجَنِينُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالصَّيْدُ إِذَا مَاتَ فِي يَدِ الْجَارِحِ بَعْدَ إِرْسَالِ مُرْسِلِهِ، وَسَنَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَمَا سِوَاهَا مِنَ الْمَيْتَةِ كُلِّهَا نَجِسَةٌ فَإِذَا ثَبَتَتْ هَاتَانِ الْمُقَدِّمَتَانِ، فَكُلُّ مَا كَانَ طَاهِرًا بَعْدَ مَوْتِهِ جَازَ اسْتِعْمَالُ جِلْدِهِ قَبْلَ دِبَاغِهِ إِلَّا ابْنَ آدَمَ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ مُحَرَّمٌ لِحُرْمَتِهِ، وَلَيْسَ لِلْجَرَادِ جِلْدٌ يُوصَفُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَالْحُوتُ فقد يكون لبعضه من البحري جِلْدٌ يُنْتَفَعُ بِهِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَمَا كَانَ مِنْهُ نَجِسًا فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْخَمْسَةِ لَا يَطْهُرُ جِلْدُ شَيْءٍ مِنْهَا بِذَكَاتِهِ وَلَا بِدِبَاغِهِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَائِبٍ وَلَا يَابِسٍ.
وَقَالَ أبو يوسف، وَدَاوُدُ: يَطْهُرُ جُلُودُ جَمِيعِهَا بِالدِّبَاغَةِ.(1/56)
وَقَالَ أبو حنيفة: يَطْهُرُ جِلْدُ الْكَلْبِ دُونَ الخنزير استدلالا بعموم قوله عليه السلام: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ "، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَيًّا فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ.
قَالَ: وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ قِيَاسًا عَلَى الضَّبُعِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قوله عليه السلام: " لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ "، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَجِسٌ فِي حَيَاتِهِ فَلَمْ يَطْهُرْ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَطْهُرْ مِنَ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَطْهُرْ مِنَ الْكَلْبِ كَاللَّحْمِ، وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ إِنَّمَا تَزُولُ بِالْمُعَالَجَةِ إِذَا كَانَتْ طَارِئَةً عَلَى مَحَلٍّ طَاهِرٍ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ لَازِمَةً لِوُجُودِ الْعَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ ظُهُورِهَا فَلَا يَطْهُرُ بِالْمُعَالَجَةِ كَالْعُذْرَةِ وَالدَّمِ وَنَجَاسَةُ الْكَلْبِ لَازِمَةٌ لَا طَارِئَةٌ، وَلِأَنَّ الْحَيَاةَ أقوى في التطهير من الدباغة لتطهرها جَمِيعَ الْحَيَوَانِ حَيًّا وَاخْتِصَاصُ الدِّبَاغَةِ بِتَطْهِيرِ جِلْدِهَا منفردا فلما لم يؤثر الْحَيَاةُ فِي تَطْهِيرِ الْكَلْبِ فَالدِّبَاغَةُ أَوْلَى أَنْ لَا تُؤَثِّرَ فِي تَطْهِيرِ جِلْدِهِ فَأَمَّا عُمُومُ قوله عليه السلام فَمَخْصُوصٌ بِدَلِيلِنَا، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فالمعنى فيه: طهارته حيا وكذلك الضبع.
فصل
وأما الحيوان الطاهر فضربان:
[الأول] : مأكول.
و [الثاني] : غير مأكول. فأما الْمَأْكُولُ كَالْبَغْلِ، وَالْحِمَارِ وَالسَّبُعِ، وَالذِّئْبِ فَيَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ وَلَا يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ كَمَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ.
وَقَالَ أبو ثور - إبراهيم بن بشر - لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَمَا لَا يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ، فَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى طَهَارَةِ جلده بالذكاة بقوله عليه السلام: " دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ " فَأَقَامَ الذَّكَاةَ مَقَامَ الدِّبَاغَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ جِلْدَهُ بِالدِّبَاغَةِ يَطْهُرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ بِالذَّكَاةِ كَالْمَأْكُولِ.(1/57)
قَالَ: وَلِأَنَّ مَا طَهَّرَ جِلْدَ الْمَأْكُولِ طَهَّرَ جِلْدَ غَيْرِ الْمَأْكُولِ كَالدِّبَاغَةِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ تَقْوِيتَ الرُّوحِ إِذَا لَمَّ يُطَهِّرْ غَيْرَ الْجِلْدِ لَمْ يُطَهِّرِ الْجِلْدَ كَالرَّمْيِ فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ من الحيوان طردا، وفي غير المقدرور عَلَيْهِ عَكْسًا، وَلِأَنَّهَا ذَكَاةٌ لَا تُبِيحُ أَكْلَ لَحْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفِيدَ طَهَارَةَ جِلْدِهِ كَزَكَاةِ الْمَجُوسِيِّ طَرْدًا، أَوْ كَزَكَاةِ الْمُسْلِمِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ التَّطْهِيرَ الْمُسْتَفَادَ بِذَكَاةِ الْمَأْكُولِ يَنْتَفِي عَنْ ذكاة غير المأكول كتطهر اللحم.
وأما الخبر فمعنى قوله عليه السلام: " دباغ الأديم ذكاته "، أي: مطهره أو الذكاة لَا تُطَهِّرُ، لِأَنَّهَا تُبْقِي نَجَاسَةً نَظَرًا بِالْمَوْتِ لا إنها تبقى نجاسة ثابتة،، قبل عَلَى الْمَأْكُولِ فَالْمَعْنَى فِي ذَكَاتِهِ أَنَّهَا أَبَاحَتْ أَكْلَ لَحْمِهِ فَأَفَادَتْ طَهَارَةَ جِلْدِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُ الْمَأْكُولِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الدِّبَاغَةِ فَالْمَعْنَى فِي الدِّبَاغَةِ: أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِنَفْيِ النَّجَاسَةِ الطَّارِئَةِ بِالْمَوْتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الذَّكَاةُ.
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فاستدل على أن مالا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ "، فَلَمَّا لَمْ تَعْمَلِ الذَّكَاةُ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ الدِّبَاغَةُ وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ(1/58)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نهى عن افتراش جلود السباع " فلو كانت تطهر بالدباغة لم ينه عن افتراشها، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَطْهُرَ بِالدِّبَاغَةِ كَالْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَلِأَنَّ الدباغة أحد مَا يَطْهُرُ بِهِ الْجِلْدُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ كَالذَّكَاةِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عليه السلام: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ كَالْمَأْكُولِ ولأن ما ينفي عَنِ الْمَأْكُولِ تَنْجِيسُ جِلْدِهِ نُفِيَ عَنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ تَنْجِيسَ جِلْدِهِ كَالْحَيَاةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الدِّبَاغَةِ وَالذَّكَاةِ مَا يُوَضِّحُ الْجَوَابَ عَنْهُ.
وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قبل الدباغة أو على ما بعد الدباغة إذا كان الشعر باقيا، لأن المقصود منها شعورها كَالْفُهُودَةِ وَالنُّمُورَةِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فالمعنى فيه: نجاسة فِي الْحَيَاةِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الذَّكَاةِ فَالْمَعْنَى فِي الذَّكَاةِ: أَنَّهَا لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، وَلِلدِّبَاغَةِ مَدْخَلٌ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ.
فصل
فأما المأكول فَيَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالذَّكَاةِ إِجْمَاعًا، وَبِالدِّبَاغَةِ إِنْ مَاتَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] . إشارة إلى حملها وإجرائها.
وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرَيْنِ: " أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ ". وَلِأَنَّ مَا نَجِسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالدِّبَاغَةِ كَاللَّحْمِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَطْهُرْ بِهِ اللَّحْمُ لَمْ يَطْهُرْ بِهِ الجلد كالغسل، ولعلة التَّنْجِيسِ بِالْمَوْتِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْتَفِعَ التَّنْجِيسُ مَعَ بَقَاءِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الْعِلَّةِ مُحَالٌ.
وَدَلِيلُنَا: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ وَعْلَةَ الْمِصْرِيِّ عَنِ(1/59)
ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا دبغ الإهاب فَقَدْ طَهُرَ " إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَحِقَهُ التَّنْجِيسُ، فصار بمثابة قوله أَيُّمَا إِهَابٍ نَجِسَ بِالْمَوْتِ طَهُرَ بِالدِّبَاغَةِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِشَاةٍ لِمَوْلَاةِ مَيْمُونَةَ مَيْتَةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا عَلَى أَهْلِ هَذِهِ لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَتْ مَيْتَةً فَقَالَ: إِنَمَا حُرِّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا " وَهَذَا نَصٌّ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَمَرَ أَنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ " وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ فَجَازَ أَنْ يَطْهُرَ جِلْدُهُ بعد وفاة روحه كالمذكي، ولأنه جلد نجس بعد طهارة فجاز أن يطرأ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ كَالَّذِي نَجِسَ بِدَمٍ، أَوْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعَ ضَعْفِهِ مُرْسَلٌ، لِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ قَالَ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(1/60)
وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ سَنَةٌ، وَقَدْ كَانَ يرويه مرة عن شيخه قَوْمِهِ نَاسٍ مِنْ جُهَيْنَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ عَلَى مَا قَبْلَ الدِّبَاغَةِ، لِأَنَّ اسْمَ الْإِهَابِ يَتَنَاوَلُ الْجِلْدَ قَبْلَ دِبَاغِهِ، وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ الِاسْمُ بعد دباغة، قال عنترة:
(فشككت بِالرُّمْحِ الْأَصَمِّ إِهَابَهُ ... لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْفَتَى بِمُحَرَّمِ)
وَأَمَّا الْآيَةُ فَمَخْصُوصَةٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى اللَّحْمِ فَهُوَ قِيَاسٌ يَرْفَعُ النَّصَّ فَاطَّرَحْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي اللَّحْمِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلدِّبَاغَةِ فِيهِ تَأْثِيرٌ لَمْ يَطْهُرْ بِهَا وَالْجِلْدُ لَمَّا أَثَّرَتْ فِيهِ الدِّبَاغَةُ طَهُرَ بِهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْغَسْلِ فَكَذَا الْجَوَابُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْجِلْدِ كَتَأْثِيرِ الدِّبَاغَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمَوْتَ عِلَّةُ التَّنْجِيسِ فعنه جوابان:
أحدهما: أن علة التنجيس الْمَوْتُ وَفَقْدُ الدِّبَاغَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَوْتَ عِلَّةٌ في تنجيسه غَيْرِ مُتَأَبِّدٍ وَفَقْدَ الدِّبَاغَةِ عِلَّةٌ فِي التَّنْجِيسِ المتأبد.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ، فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ في الذائب واليابس والصلاة عَلَيْهِ وَفِيهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَطْهُرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ وَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسِ دُونَ الذَّائِبِ وجازت الصلاة عليه، ولم يجز فيما اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الدِّبَاغَةَ تُؤَثِّرُ فِيمَا لَاقَتْهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْجِلْدِ دُونَ بَاطِنِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَطْهُرَ بِهَا ظَاهِرُ الْجِلْدِ دُونَ بَاطِنِهِ.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُهُ عليه السلام: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ.
وَرُوِيَ عَنْ سَوْدَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ وَدَبَغْنَا إِهَابَهَا فَجَعَلْنَاهُ قِرْبَةً كُنَّا نَنْبِذُ فِيهَا(1/61)
إلى أن صارت شنا ". ومالك لَا يُجَوِّزُ الِانْتِبَاذَ فِيهَا وَإِنَّمَا يُجَوِّزُ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْمَاءِ، لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلِأَنَّ مَا طَهُرَ به ظاهر الجلد طهر به باطنه كَالذَّكَاةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنَ الْجِلْدِ طَهُرَ بالذكاة طهر بالدباغة كالظاهر.
وأما استدلاله بأنها تؤثر فيما لاقته فخطأ، لأن تأثيرها في نشف الرطوبة الباطنة والسهوكة الداخلة كتأثيرها في الظاهر فيها.
فَإِذَا ثَبَتَ طَهَارَةُ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ بِالدِّبَاغَةِ فَهُوَ قبل الدباغة ممنوع من الاستعمال في الذائب.
وقال الزهري: هو قبل الدباغة وبعدها عَلَى سَوَاءٍ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الذَّائِبَاتِ وَالْيَابِسَاتِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَنَّ عَنَاقًا كَانَتْ عِنْدَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهَا مَاتَتْ قَالَ أَلَا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ، فَأَبَاحَ الانتفاع به من غير أن يذكر دباغا. ودليلنا قوله عليه السلام: " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " عَلَى أَنَّ قبل دباغة لم يطهر الإهاب، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ تَنْجِيسَ اللَّحْمِ أَوَجَبَ تَنْجِيسَ الجلد كنجاسة الكلب، ولأن فقد الحياة يوجب تَسَاوِيَ الْحُكْمِ فِي الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ كَالْحُوتِ، وَالْجَرَادِ فِي التَّطْهِيرِ، وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فِي التَّنْجِيسِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الدِّبَاغَةِ بِمَا بَيَّنَهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ وَعَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْيَابِسَاتِ.
فَصْلٌ: بِمَا يَكُونُ الدِّبَاغُ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ وَأَنَّهُ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ طَاهِرٌ انْتَقَلَ الْكَلَامُ فِيهِ إِلَى مَا تَكُونُ بِهِ الدِّبَاغَةُ فَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِالنَّصِّ عَلَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ(1/62)
إِلَى أَنَّ حُكْمَ الدِّبَاغَةِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ لِأَنَّ الدِّبَاغَةَ رُخْصَةٌ فاقتضى أن يكون حكمها موقوف عَلَى النَّصِّ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَعْنَى فِي الشث والقرظ أنه منشف مجفف بكل شَيْءٍ كَانَ فِيهِ تَنْشِيفُ الْجِلْدِ وَتَجْفِيفُهُ جَازَتْ بِهِ الدِّبَاغَةُ حَتَّى بِالشَّمْسِ وَالنَّارِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - رحمه الله - أَنَّ الْمَعْنَى فِي الشَّثِّ وَالْقَرَظِ أَنَّهُ يُحْدِثُ فِي الْجِلْدِ أَرْبَعَةَ أَوْصَافٍ:
أَحَدُهَا: تَنْشِيفُ فُضُولِهِ الطاهرة ورطوبته الباطنة.
والثاني: تطيب رِيحِهِ وَإِزَالَةُ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ سُهُوكَةٍ وَنَتَنٍ.
وَالثَّالِثُ: نَقْلُ اسْمِهِ مِنَ الْإِهَابِ إِلَى الْأَدِيمِ وَالسِّبْتِ وَالدَّارِشِ.
وَالرَّابِعُ: بَقَاؤُهُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ فَكُلُّ شَيْءٍ أَثَّرَ فِي الجلد هذه الأوصاف الأربعة من العفص وقشور الرمان جازت به الدباغة، لأنه في معنى الشث والقرظ وهذا صحيح من وجهين:
أحدهما: أنه لما أثر الشث والقرظ هذه الأوصاف الأربعة لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِالدِّبَاغَةِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ فَصَارَ جَمِيعُهَا مُعْتَبَرًا وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا على الشث والقرظ مقصود، لأنها في غيرها موجودة.
والثاني: أن الدباغة عرف في العرب ولم يكن في عرفهم مقصورا عَلَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ، كَمَا قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ لِاخْتِلَافِ عَادَتِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَلَا اقْتَصَرُوا فِيهَا عَلَى مُجَرَّدِ التَّجْفِيفِ بِالشَّمْسِ كَمَا قَالَ أبو حنيفة فصار كلا المذهبين مدفوعان بِعُرْفِ الْكَافَّةِ وَمَعْهُودِ الْجَمِيعِ فَثَبَتَ بِهَذَا جَوَازُ الدِّبَاغَةِ بِمَا سِوَى الشَّثِّ وَالْقَرَظِ إِذَا حَدَثَ فِي الْجِلْدِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْأَوْصَافِ الْأَرْبَعَةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ شَرْطًا فِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ شَرْطًا فِيهَا وَيَجْرِي الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مَذْرُورَاتِ الدباغة من الأشياء المنشقة فإذا دبغ الْجِلْدُ طَهُرَ وَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ لقوله - عليه السلام -: " أو ليس في الشث والقرظ ما يذهب رجسه وَنَجَسِهِ " فَجَعَلَ مُجَرَّدَ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ مُذْهِبًا لِرِجْسِهِ وَنَجَسِهِ وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَطْهُرُ بِانْقِلَابِهِ فَلَيْسَ لِطَهَارَتِهِ إِلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ يَطْهُرُ بِهِ كَالْخَمْرِ إذا انقلب خَلًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي الدِّبَاغَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا لِرِوَايَةِ مَيْمُونَةَ(1/63)
قَالَتْ: مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَجُرُّونَ شَاةً لَهُمْ مِثْلَ الْحِمَارِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَقَالُوا إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ: يطهر الْمَاءُ وَالْقَرَظُ " فَأَحَالَ تَطْهِيرَهُ عَلَى الْمَاءِ وَالْقَرَظِ، وَلِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ أَغْلَظُ تَنْجِيسًا وَالْمَاءَ أَقْوَى تَطْهِيرًا فَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ أَخَصَّ فَعَلَى هَذَا في كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي إِنَاءِ الدِّبَاغَةِ لِيَلِينَ الْجِلْدُ بِالْمَاءِ فَيَصِلُ عَمَلُ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ إِلَى جِمِيعِ أَجْزَاءِ الْجِلْدِ فيكون أبلغ في تنشيفها وتطهيرها فيصير دباغة الجلد وتطهيره بها جميعا معا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ لِيَخْتَصَّ الشَّثُّ وَالْقَرَظُ بِدِبَاغَتِهِ وَيَخْتَصَّ الْمَاءُ بِتَطْهِيرِهِ، فَيَصِيرُ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ وَقَبْلَ الْغَسْلِ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الدِّبَاغَةُ بِمَا كَانَ نجسا من الشث والقرظ فيه وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ طَهَارَةَ الْجِلْدِ مُخْتَصَّةً بِالشَّثِّ وَالْقَرَظِ دُونَ الْمَاءِ، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَرْتَفِعُ بِالنَّجَاسَةِ إذ ما لَا يَرْفَعُ نَجَاسَةَ نَفْسِهِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَرْفَعَ نَجَاسَةَ غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الدِّبَاغَةَ بِهَا جَائِزَةٌ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْعَلُ طَهَارَةَ الْجَلْدِ مُخْتَصَّةً بِالْمَاءِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ فِي الْجِلْدِ وَإِنْ كَانَ نَجِسًا كَتَأْثِيرِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِالْمُلَاقَاةِ نَجِسًا فَعَلَى هَذَا إِذَا انْدَبَغَ بِهِ لَمْ يَطْهُرْ إِلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ.
فَصْلٌ
وَالدِّبَاغَةُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى فِعْلِ فَاعِلٍ، لِأَنَّ مَا طَرِيقُهُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ لا يفتقر إلى فعل كَالسَّيْلِ إِذَا مَرَّ بِنَجَاسَةٍ فَأَزَالَهَا طَهُرَ مَحَلُّهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تَفْتَقِرْ إِزَالَتُهَا إِلَى نِيَّةٍ بِخِلَافِ الْحَدَثِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ جِلْدَ ميتة وألقته في المدبغة فاندبغ صار طاهر فأما إن أخذ رجل جلد ميتة بغيره فَدَبَغَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ مِلْكًا لِرَبِّهِ أَوْ لِدَابِغِهِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:(1/64)
أَحَدُهَا: يَكُونُ مِلْكًا لِرَبِّهِ دُونَ دَابِغِهِ كَالْخَمْرِ المنقلب خلا في يد أحده يكون ملكه لِرَبِّهِ دُونَ مَنْ صَارَ خَلًّا فِي يَدِهِ.
والوجه الثاني: يكون ملكا لدباغه دون ربه كالمحيي أرضا مَوَاتٍ بَعْدَ إِجَازَةِ غَيْرِهِ يَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ أَحْيَاهَا دُونَ مَنْ أَجَازَهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ رَبُّ الْجِلْدِ قَدْ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهُ فَأَخَذَهُ الدَّابِغُ فَدَبَغَهُ كَانَ مِلْكًا لدَابِغِهِ دُونَ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ فَغَصْبُهُ إِيَّاهُ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّهِ دُونَ دَابِغِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يُوصَفُ بِثُبُوتِ الملك عليه وإنما يوصف الْيَدِ عَلَيْهِ فَإِذَا رَفَعَ يَدَهُ زَالَتْ صِفَةُ استحقاقه.
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ تَعَلَّقَ الْكَلَامُ بِفَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَيَانُ حُكْمِهِ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ.
وَالثَّانِي: بَيَانُ حُكْمِهِ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ.
فَأَمَّا مَا قَبْلَ الدِّبَاغَةِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ دُونَ الذَّائِبَاتِ وَيَجُوزُ هِبَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَا رَهْنُهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بَعْدَ نَجَاسَتِهِ جَازَ بَيْعُهُ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] . لأن الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَالْعُذْرَةِ.
وَأَمَّا الثَّوْبُ فَهُوَ طَاهِرُ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا جَاوَرَتْهُ النَّجَاسَةُ فجاز بيعه لأن العذرة تَتَنَاوَلُ عَيْنًا ظَاهِرَةً وَإِنْ جَاوَرَتْهَا نَجَاسَةٌ وَكَذَلِكَ الْجِلْدُ الطَّاهِرُ إِذَا جَاوَرَتْهُ نَجَاسَةٌ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغَةِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَرَهْنِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَيْتَةِ لَا تَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعِهَا كَالْمُضْطَرِّ إِلَى أَكْلِهَا، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الدِّبَاغَةِ إِنَّمَا هُوَ التَّطْهِيرُ وَلَيْسَ التَّطْهِيرُ عِلَّةً فِي جَوَازِ الْبَيْعِ كَ " أُمِّ الْوَلَدِ ".
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ فَجَازَ بَيْعُهُ كَ " الْمُزَكَّى " وَلِأَنَّ حُدُوثَ النَّجَاسَةِ إِذَا مَنَعَ مِنْ جواز البيع كان مأذونا بِجَوَازِ الْبَيْعِ كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ إِذَا ارْتَفَعَتْ بِانْقِلَابِهَا خَلًّا، وَلِأَنَّ دِبَاغَةَ الْجِلْدِ قَدْ أَعَادَتْهُ إِلَى حُكْمِ الْحَيَاةِ فَلَمَّا كَانَ بَيْعُهُ فِي الْحَيَاةِ جائز اقتضى أن يكون بعد الدباغة جائز.
فَأَمَّا الْآيَةُ فَمَخْصُوصَةٌ، وَأَمَّا الْمُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّمَا اسْتَبَاحَهَا لِمَعْنًى فِيهِ لَا فِي الْمَيْتَةِ وَاسْتِبَاحَةُ الْجَلْدِ لِمَعْنًى فِي الْجِلْدِ لَا في المستبيح.(1/65)
وَأَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ فَالْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهَا لِحُرْمَتِهَا فلم تكن طهارتها علما فِي جَوَازِ بَيْعِهَا وَجِلْدُ الْمَيْتَةِ لَمْ يَجُزْ بيعه لنجاسته وكانت طهارته علما في جواز بيعه فَإِذَا ثَبَتَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ تَعَلَّقَ بِهِمَا فَرْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: جَوَازُ أَكْلِهِ إِنْ كَانَ مِنْ جِلْدِ مَأْكُولٍ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ بَيْعَهُ لَا يَجُوزُ لَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِهِ لِبَقَاءِ حُكْمِ مَوْتِهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ بَيْعِهِ كَانَ فِي جَوَازِ أَكْلِهِ وَجْهَانِ:
أحدهما: يجوز لأن إباحته الْبَيْعَ لِارْتِفَاعِ حُكْمِ الْمَوْتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يجوز للنص على تحريم أكله بقوله عليه السلام: " إِنَّمَا حَرُمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا ".
وَالْفَرْعُ الثَّانِي: فِي جَوَازِ إِجَارَتِهِ فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَتْ إِجَارَتُهُ، وَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ بَيْعِهِ فَفِي جواز إجارته وجهان كالكلب المعلم.
مسألة
: قال الشافعي رحمه الله: ولا يطهر بالدباغ إِلَّا الْإِهَابُ وَحْدَهُ، وَلَوْ كَانَ الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَالرِّيشُ لَا يَمُوتُ بِمَوْتِ ذَوَاتِ الرُّوحِ أَوْ كَانَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لَكَانَ ذَلِكَ فِي قَرْنِ الميتة وسيها وَجَازَ فِي عَظْمِهَا، لِأَنَّهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُعَوَّلِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ الصُّوفَ، وَالشَّعْرَ، وَالرِّيشَ، وَالْوَبَرَ ضَرْبَانِ طَاهِرٌ، وَنَجِسٌ، فَالطَّاهِرُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا أُخِذَ مِنَ الْمَأْكُولِ اللَّحْمَ فِي حَيَاتِهِ.
وَالثَّانِي: مَا أُخِذَ مِنْهُ بَعْدَ ذَكَاتِهِ.
وَالنَّجِسُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا أُخِذَ من غير المأكول وما أخذ من ميت وأنه ذُو رُوحٍ إِذَا فَقَدَهَا نَجِسَ بِالْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَظْمِ، وَالْقَرْنِ، وَالسِّنِّ، وَالظُّفُرِ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، هَذَا الْمَرْوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي كتبه، والذي نقله أصحاب الْقَدِيمِ، وَحَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الشافعي رجع عن تنجيس الشعر، وحكى إِبْرَاهِيمُ الْبَلَدِيُّ عَنِ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنْ تَنْجِيسِ شَعْرِ ابن آدم، وحكى(1/66)
الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّعْرَ تَابِعٌ لِلْجِلْدِ يَنْجَسُ بِنَجَاسَتِهِ وَيَطْهُرُ بِطَهَارَتِهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذِهِ الْحِكَايَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي شَذَّتْ عَنِ الْجُمْهُورِ وَخَالَفَتِ الْمَسْطُورَ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا قَوْلًا ثَانِيًا لِلشَّافِعِيِّ فِي الشَّعْرِ أَنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يُحِلُّهُ رُوحٌ وَامْتَنَعَ جُمْهُورُهُمْ مِنْ تَخْرِيجِهَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ لِمُخَالَفَتِهَا نُصُوصَ كُتُبِهِ وَمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ عَنْ أَصْحَابِهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ مِنْهُ حِكَايَةُ غَيْرِهِ. وَأَمَّا شَعْرُ بَنِي آدَمَ فَخَرَّجُوهُ عَلَى قَوْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَشْهَرُ عَنْهُ أَنَّهُ نجس بعد انفصاله وإن عفى عن سيره، لأنه شعر غَيْرِ مَأْكُولٍ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ طَاهِرٌ لِأَنَّ ابْنَ آدَمَ لَمَّا اختص شعره بِالطَّهَارَةِ مَيِّتًا اخْتُصَّ شَعْرُهُ بِالطَّهَارَةِ مُنْفَصِلًا، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُ أَنَّ شعر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحْدَهُ طَاهِرٌ وَشَعْرُ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ نَجِسٌ، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ حَلَقَ شَعْرَهُ بِمِنًى قَسَّمَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَنَعَهُمْ مِنْهُ وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ اخْتِصَاصُ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ قِيلَ لَهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى طَهَارَةِ شَعْرِهِ فَقَدْ حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ وَشَرِبَ مِنْ دَمِهِ بِحَضْرَتِهِ أَفَتَقُولُ إِنَّ دمه طاهر؟ فركب الباب، وقال: أقول بطهارته، لأنه لا يجوز أن يقر أحد على منكر، وقد أقر أبو طَيْبَةَ عَلَى شُرْبِهِ.
قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امرأة شربت بوله فقال: " إِذًا لَا يُوجِعُكِ بَطْنُكِ " أَفَتَقُولُ بِطَهَارَةِ بَوْلِهِ؟ قَالَ: لَا، لِأَنَّ الْبَوْلَ مُنْقَلِبٌ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّعْرُ وَالدَّمُ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ قِيلَ لَهُ: فَقَدْ بَطَلَ دَلِيلُكَ عَلَى طَهَارَةِ دَمِهِ بِإِقْرَارِهِ أَبَا طَيْبَةَ عَلَى شَرَابِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَدْخُولٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كسائر أمته كان منهم طاهرا ونجسا، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ قَسْمِ شَعْرِهِ بَيْنَ(1/67)
أَصْحَابِهِ فَقَدْ أَلْقَى شَعْرَهُ مِرَارًا وَلَمْ يُقَسِّمْهُ وَلَا خَصَّ بِهِ أَحَدًا وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّةً بِمِنًى، وَقَصَدَ بِهِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ إِمَّا التوصل إِلَيْهِمْ مِنْ بَرَكَتِهِ وَإِمَّا لِتَمَيُّزِ مَنْ خَصَّهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ لَهُمْ شَرَفًا وَفَخْرًا، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى أَبِي طَيْبَةَ شُرْبَهُ دَمَهُ وَنَهَاهُ عَنْ مِثْلِهِ وَقَالَ حَرَّمَ اللَّهُ جِسْمَكَ عَلَى النَّارِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَالْمَذْهَبُ نَجَاسَةُ الشَّعْرِ بِالْمَوْتِ لِحُلُولِ الرُّوحِ فِيهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ أَقُولُ فِيهِ لَا حَيَاةَ وَلَا أَقُولُ فِيهِ رُوحٌ، وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ تَتَّفِقُ الْمَعْنَى فِيهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الشَّعْرُ وَالْعَظْمُ لَيْسَ بِذِي رُوحٍ، وَلَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ. وَقَالَ مَالِكٌ: الشعر ليس بذي روح ولا في العظم رود تنجس بِالْمَوْتِ
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا رُوحَ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ.
فَأَمَّا دَلِيلُهُمْ عَلَى أَنْ لَا رُوحَ فِيهِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الألم من سمات الرُّوحِ فَلَمَّا كَانَ وُجُودُهُ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ الْحَيَاةِ كَانَ انْتِفَاؤُهُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ وَلَيْسَ فِي الشَّعْرِ وَالْعَظْمِ أَلَمٌ فَلَمْ يَكُنْ فيه حياة.
والثاني: أن ما حلته الْحَيَاةُ أَسْرَعَ إِلَيْهِ الْفَسَادُ بِزَوَالِ الْحَيَاةِ كَاللَّحْمِ، فلما كان العظم والشعر على حاله وَاحِدَةٍ قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ فِي انْتِفَاءِ الْفَسَادِ عَنْهُ دَلَّ عَلَى أَنْ لَا حَيَاةَ فِيهِ.
والثالث: أن ما حلته الحياة فالشرع مانع مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَالْجِلْدِ وَمَا لَمْ تُحِلَّهُ الْحَيَاةُ لَمْ يَمْنَعِ الشَّرْعُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَاللَّبَنِ، فَلَمَّا جَازَ أَخْذُ الشَّعْرِ مِنَ الْحَيَوَانِ دَلَّ على أن ليس فيه حياة.
وأما دليلهم عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] . فَكَانَ مِنْهَا دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَقْتَضِيهِ عُمُومُ لَفْظِهَا مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ.(1/68)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ خِطَابٌ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الِامْتِنَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ بِتَنْجِيسِ شَيْءٍ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ الِامْتِنَانِ.
وَالثَّانِي: حَدِيثُ أم سلمة أن النبي عليه السلام قال: " لا بأس بمسك الميت إِذَا دُبِغَ وَشَعْرِهَا إِذَا غُسِلَ "، فَمَا اقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثُ طَهَارَةَ الشَّعْرِ بَعْدَ الْغَسْلِ وَالْعَيْنُ النَّجِسَةُ لَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ دَلَّ عَلَى طَهَارَةِ الشَّعْرِ قَبْلَ الْغَسْلِ.
وَالثَّالِثُ: مَا رُوِيَ أَنَّ النبي - عليه السلام - سُئِلَ عَنِ الْفِرَاءِ فَقَالَ: " أَيْنَ الدِّبَاغُ " فَدَلَّ عَلَى طَهَارَةِ الشَّعْرِ بِالدِّبَاغِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي لَا تَنْجَسُ بِانْفِصَالِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ لا تنجس باتصالها بالحيوان كَالْوَلَدِ طَرْدًا وَالْأَعْضَاءِ عَكْسًا، فَلَمَّا لَمْ يَنْجَسِ الشَّعْرُ بِأَخْذِهِ حَيًّا لَمْ يَنْجَسْ بِاتِّصَالِهِ مَيِّتًا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ الْحَيَاةِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: نَجَاسَةُ الْمَوْتِ. فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى ثبوت الحياة فثلاثة أشياء:
أحدها: قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رميم قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78، 79] . وَالْإِحْيَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَيَاةٍ تَعُودُ بِهَا إِلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّمَاءَ مِنْ سِمَاتِ الْحَيَاةِ لِحُدُوثِ النَّمَاءِ بِوُجُودِهَا وَفَقْدِهِ بِزَوَالِهَا فَلَمَّا كَانَ الشَّعْرُ نَامِيًا فِي حَالِ الِاتِّصَالِ مَفْقُودَ النَّمَاءِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحَيَاةِ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا اتَّصَلَ نَامِيًا بِذِي حَيَاةٍ وَجَبَ أَنْ تُحِلَّهُ كَاللَّحْمِ طَرْدًا وَاللَّبَنِ عَكْسًا.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَةٍ بِالْمَوْتِ فَخَمْسَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] . هَذَا تَحْرِيمُ تَنْجِيسٍ لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ وَالشَّعْرُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَيْتَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ مَيْتَةً يَحْنَثُ بِمَسِّهِ وَلَيْسَ إِذَا انْفَرَدَ بِاسْمٍ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجُمْلَةِ فِي الِاتِّصَالِ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ عَلَى مَحَلٍّ نَجِسٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَشَعْرِ الْخِنْزِيرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَا طَرَأَ عَلَى الْحَيَوَانِ مِنْ حَظْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ وَبِالشَّعْرِ كَالْإِحْرَامِ.(1/69)
والرابع: أن ما ورد التَّعَبُّدُ بِقَطْعِهِ فِي حَالٍ نَجِسٍ بِالْمَوْتِ قِيَاسًا على موضع الختان والتعبد في قطع الشَّعْرِ يَكُونُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ ما وجب الأرش يقطعة لَحِقَهُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ كَاللَّحْمِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ عِلَّةَ الْحَيَاةِ حُدُوثُ الْأَلَمِ فَهُوَ أَنَّ لِلْحَيَاةِ عِلَّتَيْنِ، حُدُوثُ الْأَلَمِ فِي حَالٍ وَوُجُودُ النَّمَاءِ فِي حَالٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ لِلْحَيَاةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَقْدُ الْأَلَمِ مَانِعًا مِنْ ثُبُوتِ الْحَيَاةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنه قد يُفْقَدُ الْأَلَمُ مِنْ لَحْمِ الْعَصَبِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ الشَّعْرُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَلَمَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُؤْلِمَةِ عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ الدَّمِ فِيهِ أَوْ قُرْبِهِ مِنَ الْعَصَبِ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ بِحَسْبَ أَلَمِهِ فَكَذَلِكَ فِي حَالِ عَدَمِهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ امْتِنَاعَ الْفَسَادِ عَنْهُ دليل على عدم الحياة منه فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ إِسْرَاعَ الْفَسَادِ إِنَّمَا يَكُونُ لِكَثْرَةِ الرُّطُوبَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِلْدَ قَبْلَ دِبَاغِهِ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ لِرُطُوبَتِهِ وَبَعْدَ الدِّبَاغِ يَنْتَفِي عَنْهُ الْفَسَادُ لِذَهَابِ رُطُوبَتِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِلْدَ لَا حَيَاةَ فِيهِ كَذَلِكَ الشَّعْرُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِبَاحَةِ أَخْذِهِ فِي الْحَيَاةِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْحَيَاةِ فِي اللَّحْمِ وَفَقْدِهَا فِي الشَّعْرِ، وَلَكِنَّ أَخْذَ الشَّعْرِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَضُرُّ بِالْحَيَوَانِ وَرُبَّمَا نَفَعَهُ فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَةِ أَخْذِهِ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَاللَّحْمُ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ إِضْرَارٌ بِهِ فَمَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] . فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا عَامَّةٌ وَمَخْصُوصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلِيلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ لِأَنَّهُ أَبَاحَهَا إِلَى حِينٍ فَقَدَ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ، لِأَنَّهُ قَالَ: " ومن أصوافها " فدل على أن منها ما لا يكون أثاثا، ومنها مَا يَكُونُ أَثَاثًا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ أُمِّ سلمة فرواية يُوسُفُ بْنُ السَّفْرِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ أُمِّ سلمة عن النبي - عليه السلام - وَيُوسُفُ بْنُ السَّفْرِ ضَعِيفٌ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:(1/70)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ لَا بَأْسَ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الِاسْتِعْمَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ الْغَسْلَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْغَسْلِ نَجِسًا وَالْغَسْلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَلَمْ يَكُنْ فِي ظَاهِرِهِ دَلِيلٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْفِرَاءِ " أَيْنَ الدِّبَاغُ " يَعْنِي لِاسْتِصْلَاحِ لَبْسِهَا إِذْ لَا يَكُونُ لَبْسُهَا قبل الدباغ.
وأما استدلالهم فَإِنَّمَا لَمْ يَنْجَسْ بِمَوْتِ الْأُمِّ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أنه منفصل عَنْهَا وَالشَّعْرُ مُتَّصِلٌ بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تُفَارِقُ الْوَلَدَ بِمَوْتِ الْأُمِّ وَتُفَارِقُ الشَّعْرَ بِمَوْتِ الْأَصْلِ لِوُجُودِ النَّمَاءِ فِي الْوَلَدِ وَفَقْدِ النماء في الشعر فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ الشَّعْرِ بِالْمَوْتِ فَلَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَلَا بِالدِّبَاغِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ: وَالشَّعْرُ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ مطهر بالغسل لقوله عليه السلام: " لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وشعرها إِذَا غُسِلَ " وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لأن الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ لَا تَطْهُرُ بِالْغَسْلِ كَاللَّحْمِ، وَالرَّوَثِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ النَّاسِ فِي إِبَاحَةِ الاستعمال فِي حُصُولِ التَّطْهِيرِ، فَلَوْ دُبِغَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ بشعره لطهر الْجِلْدُ دُونَ الشَّعْرِ، لِتَأْثِيرِ الدِّبَاغَةِ فِي الْجِلْدِ دُونَ الشَّعْرِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ اسْتِعْمَالُهُ إِلَّا بَعْدَ إِمَاطَةِ الشَّعْرِ عَنْهُ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ قَبِلَ إِمَاطَتِهِ في يابس جاز وإن استعماله فِي ذَائِبٍ نُظِرَ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَاطِنِهِ الَّذِي لَا شَعْرَ عَلَيْهِ جَازَ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي ظَاهِرِهِ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّعْرُ نَجِسَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ فَيَكُونُ طَاهِرًا.(1/71)
فَصْلٌ
فَلَوْ بَاعَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَعْدَ دِبَاغَتِهِ وَقَبْلَ إِمَاطَةِ الشَّعْرِ عَنْهُ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ جِلْدَ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَبِيعَ الْجِلْدَ دُونَ شَعْرِهِ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَبِيعَهُ مَعَ شَعْرِهِ فَالْبَيْعُ فِي الشَّعْرِ بَاطِلٌ، وَفِي الْجِلْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَبِيعَهُ مُطْلَقًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَقْتَضِي إِطْلَاقُهُ دُخُولَ الشَّعْرِ فِي الْبَيْعِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَقْتَضِي دُخُولَهُ فِي الْبَيْعٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الْبَيْعُ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ الْعَقْدُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْعُ الْجِلْدِ جَائِزًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْبَيْعِ لِاتِّصَالِهِ بِالْمَبِيعِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبَيْعُ فِي الشَّعْرِ بَاطِلًا وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الجلد؟ على القولين من تفريق الصفقة، فَلَوْ رَأَى شَعْرًا فَلَمْ يَعْلَمْ أَطَاهِرٌ هُوَ أم نجس فهذا على ثلاثة أضراب:
أَحَدُهَا " أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ مَأْكُولِ اللحم.
والثالث: أن يشكل هَلْ هُوَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ نَجِسٌ إِذْ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ طَاهِرٌ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ، وَأَنَّ الطَّاهِرَ أَخَذَهُ فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّ شَكَّ فَلَمْ يَعْلَمْ أَمِنْ شَعْرِ مَأْكُولٍ أَوْ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي أُصُولِ الْأَشْيَاءِ هَلْ هِيَ عَلَى الْحَظْرِ أَوْ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَشْيَاءَ فِي أُصُولِهَا عَلَى الْحَظْرِ كَانَ هَذَا الشَّعْرُ نَجِسًا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ كَانَ هَذَا الشَّعْرُ طَاهِرًا.
فَصْلٌ
فأما حمل الميتة - أي ولد الْمَيْتَةِ - إِذَا انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا حَيًّا فَهُوَ طَاهِرٌ لَكِنْ قَدْ نَجِسَ ظَاهِرُ جِسْمِهِ بِالْبَلَلِ الْخَارِجِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ قَدِ انْفَصَلَ عَنْهَا في حياتها كان البلل الخارج معه ومع البيضة من الطاهر وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: نَجِسُّ كَالْبَوْلِ.
وَالثَّانِي: طَاهِرٌ كَالْمَنِيِّ، وَهَكَذَا الْبَلَلُ الْخَارِجُ مِنَ الْفَرْجِ فِي حال المباشرة على هذين الوجهين، فَأَمَّا مَا فِي جَوْفِ الطَّائِرِ الْمَيِّتِ مِنَ الْبَيْضِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ نَجِسٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لأنه قبل الانفصال حرمتها.(1/72)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لتميزه فيها فَصَارَ بِالْوَلَدِ أَشْبَهَ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ قَوِيًّا فَهُوَ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا رَخْوًا، فَهُوَ نَجِسٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَيَّاضِ وَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْقَطَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَوْ وُضِعَتْ هَذِهِ الْبَيْضَةُ تَحْتَ طَائِرٍ فَصَارَتْ فَرْخًا كَانَ الْفَرْخُ طَاهِرًا عَلَى الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْعَظْمُ، وَالْقَرْنُ، وَالسِّنُّ، وَالظُّفُرُ، وَالْخُفُّ، وَالْحَافِرُ فَضَرْبَانِ:
[الأول] : ضَرْبٌ أُخِذَ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَهُوَ نَجِسٌ إذا لا أصل لطهارة أجزائه.
و [الثاني] : وَضَرْبٌ أُخِذَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الذَّكَاةِ فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّ الذَّكَاةَ قَدْ طَهَّرَتْ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ سِوَى دَمِهِ وَحُكِيَ عَنْ بعض الشاذة أَنَّهُ قَالَ بِطَهَارَةِ دَمِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.
فَأَمَّا الْمَأْخُوذُ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَنَجِسُّ لِمَا دَلَّلْنَا، وَكَذَا الْمَأْخُوذُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ لِرِوَايَةِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَا قُطِعَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ ". فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ طَاهِرًا كَالشَّعْرِ.
قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّعْرَ طَاهِرٌ بَارِزٌ فَصَارَ كَالْمُتَمَيِّزِ، وَالْعَظْمَ بَاطِنٌ كَامِنٌ يَجْرِي مَجْرَى اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّعْرَ يُسْتَخْلَفُ، وَفِي أَخْذِهِ منفعة فصار باللبن أشبه، والعظم لا يستخلف وفي أخذه مضرة بالأعضاء وَإِذَا نَجِسَ الْعَظْمُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ، وَلَا بالغسل، ولا(1/73)
بِالطَّبْخِ، وَحُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّ الْعَظْمَ النَّجِسَ إِذَا طُبِخَ حَتَّى خَرَجَ دُهْنُهُ صَارَ طَاهِرًا، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ عَظْمَ الْمَيْتَةِ نَجِسُ الذَّاتِ فلم يطهر بفراق ما جافره من الدهن، ولا يجوز استعماله في شيء من الذائبات لكن يجوز في الْيَابِسَاتِ، وَيَجُوزُ وَقُودُهُ فِي النَّارِ تَحْتَ الْقُدُورِ، وَفِي التَّنَانِيرِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ دُخَانِهِ وَدُخَانِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ الْمُوقَدَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَبَاحَ الِاسْتِصْبَاحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِ دُخَانِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ حَادِثٌ عَنْ عَيْنٍ نَجِسَةٍ وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُ النَّجَاسَةَ فَعَلَى هَذَا هَلْ يُعْفَى عَنْهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْهُ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَاعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ نَادِرَةٌ فَكَانَ التَّحَرُّزُ مِنْهُمَا مُمْكِنًا فَعَلَى هَذَا لَوْ حَصَلَ فِي تَنُّورٍ مَسْجُورٍ وَجَبَ مَسْحُهُ قَبْلَ الْخَبْزِ فِيهِ؛ فَإِنْ مَسَحَهُ بِخِرْقَةٍ يَابِسَةٍ طَهُرَ، لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَابِسَةٌ زَالَتْ عَنْهُ بِالْمَسْحِ وَإِنْ مَسَحَهُ بِخِرْقَةٍ رَطْبَةٍ لَمْ يطهر إلا بالغسل.
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا بِدُهْنٍ فِي عظم فيل، واحتج بكراهية ابن عمر لذلك.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
وَالْفِيلُ فِي الْأَصْلِ طَاهِرُ الْخِلْقَةِ حَيًّا.
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ سَبُعٌ، وَالسِّبَاعُ عِنْدَهُ نَجِسَةٌ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي.
وَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ مَأْكُولٌ وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي مِنَ الدليل عليه حديث ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَعَنْ كُلِّ ذِي مخلب من الطيور ". وَالْفِيلُ مِنْ أَعْظَمِهَا نَابًا وَبَيْعُهُ إِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ.
فَأَمَّا إِذَا مَاتَ أَوْ ذُكِّيَ فَالْحُكْمُ فِيهِمَا قد عم سوى، وَكُلُّهُ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا جِلْدُهُ بِالدِّبَاغَةِ، وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّ جِلْدَهُ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ لِثِخَنِهِ، وَأَنَّ الدِّبَاغَةَ لَا تصل إلى(1/74)
باطنه، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعِيَانِ مِنْ وُصُولِ الدِّبَاغَةِ إِلَيْهِ فَتَأْثِيرُهَا فِيهِ مَعَ الْعُمُومِ الْمُشْتَمَلِ عَلَيْهِ.
فَأَمَّا عَظْمُهُ وَنَابُهُ الَّذِي هُوَ الْعَاجُ فَنَجِسٌ لَا يَطْهُرُ بِحَالٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: هُوَ طَاهِرٌ سَوَاءٌ مَاتَ أَوْ ذُكِّيَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْعَظْمَ لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ ذُكِّيَ كَانَ عَظْمُهُ طَاهِرًا، لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ عِنْدَهُ وَإِنْ مَاتَ كَانَ نَجِسًا، لِأَنَّ الْعَظْمَ تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ عِنْدَهُ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ فَاسِدٌ، وَمَا مَهَّدْنَا مِنَ الْأُصُولِ كَافٍ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَجِسٌ فَلَا يَطْهُرُ بِحَالٍ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: طَهَارَةُ الْعَاجِ خرطه صار فإذا فرط طَاهِرًا.
وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ فِي جِهَازِ فَاطِمَةَ سِوَارَانِ مِنْ عَاجٍ.
وَهَذَا غَلَطٌ: لِأَنَّ جُمْلَةَ الْعَيْنِ نَجِسَةٌ وَالْعَيْنُ النَّجِسَةُ لَا تَطْهُرُ بِذَهَابِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ وَبَقَاءِ بَعْضِهَا، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي جِهَازِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ سِوَارَانِ مِنْ عَاجٍ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مِنْ عَظْمِ بَعِيرٍ.
وَقِيلَ: مِنْ ذَبْلٍ وَهُوَ عَظْمُ سَمَكَةٍ فِي البحر سمي عاجا لبياضه.
فأما استدلال الشَّافِعِيُّ بِكَرَاهَةِ ابْنِ عُمَرَ فَهِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، لأن عمرو بن دينار روى أنه كره، لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ وَإِنَّمَا خَصَّ الشَّافِعِيُّ عَظْمَ الْفِيلِ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ مَا بَيَّنَهُ مِنْ عَظْمِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِلْخِلَافِ فِيهِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ لَهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَ رَجُلٌ إِنَاءً مِنْ عَاجٍ وَاسْتَعْمَلَهُ في الذئبات صَارَ نَجِسًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي يَابِسٍ كَرِهْنَاهُ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، وَلَوِ اتَّخَذَ مُشْطًا مِنْ عَاجٍ ثُمَّ سَرَّحَ بِهِ شَعْرَهُ كَرِهْنَاهُ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ وَكَانَ الْمُشْطُ أَوِ الشَّعْرُ نِدِيًّا فَقَدْ نَجِسَ، وَوَجَبَ غَسْلُ شَعْرِهِ وَإِنْ كَانَ يَابِسًا جَازَ.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَأَمَا جِلْدُ كُلِّ ذَكِيٍّ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
كُلُّ مَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا ذُكِّيَ فَجِلْدُهُ طَاهِرٌ وَاسْتِعْمَالُهُ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ فِي الذَّائِبِ وَالْيَابِسِ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَا لَمْ يَنْجَسْ بِفَرْثٍ وَلَا دَمٍ وَلَيْسَ يُدْبَغُ لِنَجَاسَتِهِ وَلَكِنْ(1/75)
لِاسْتِحْكَامِهِ وَبَقَائِهِ وَتَنْشِيفِ فُضُولِهِ الَّتِي تُسْرِعُ فِي فَسَادِهِ، وَلِأَنَّ تَطَيُّبَ النَّفْسِ بِاسْتِعْمَالِهِ لِطِيبِ رَائِحَتِهِ.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلَا أَكْرَهُ مِنَ الْآنِيَةِ إِلَّا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَمَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كما قال الأواني ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاسْتِعْمَالُهَا حَرَامٌ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وغيره.
وَقَالَ دُوَادُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشُّرْبِ وَحْدَهُ دُونَ الْأَكْلِ وَغَيْرِهِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ ". فَلَمَّا خَصَّ الشُّرْبَ بِالذِّكْرِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالتَّحْرِيمِ.
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ اسْتَسْقَى مِنْ دِهْقَانٍ بِالْمَدَائِنِ مَاءً فَسَقَاهُ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَحَذَفَهُ ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَى الْقَوْمِ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ نُهِيتُهُ أَنْ تَسْقِيَنِي فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَامَ فِينَا خَطِيبًا فَقَالَ: لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَلْبِسُوا الدِّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ ".
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " نَهَى عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ " وَهَذَا نَصٌّ؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأَكْلِ وَدَاوُدُ يُجِيزُهُ، وَلِأَنَّ(1/76)
الشُّرْبَ فِيهِ أَصْوَنُ اسْتِعْمَالًا مِنَ الِاغْتِسَالِ مِنْهُ فلما كان الشرب محرما، وكان مَا سِوَاهُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الشُّرْبِ فِيهِ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إِمَّا لِمَا فِيهِ مِنَ الْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ الْمُفْضِي إِلَى الْبَغْضَاءِ وَالْمَقْتِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ انْكِسَارِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ الْمُفْضِي إِلَى التحاسد التقاطع، وَوُجُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِيمَا سِوَى الشُّرْبِ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ وُجُودِهِ فِي الشُّرْبِ وَكَانَ بِالتَّحْرِيمِ أَحَقَّ.
وَأَمَّا نَصُّهُ عَلَى الشرب ينبه بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا نَصَّ عَلَى الْفِضَّةِ يُنَبَّهُ بِهِ عَلَى الذَّهَبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: " إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ نَارَ جَهَنَّمَ " فَالْجَرْجَرَةُ: التَّصْوِيتُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
(وَهُوَ إِذَا جَرْجَرَ بعد الهب ... جَرْجَرَ فِي حَنْجَرِهِ كَالْحَبِّ)
وَقَوْلُهُ: نَارُ جَهَنَّمَ. فالجرجرة يَعْنِي: سَيَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا فَعَبَّرَ عَنِ الحال بالمآل كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] . يَعْنِي: يَصِيرُ يَوْمَ القيامة نارا.
فإذا ثبت تحريم استعمالها فأكل فيها وتوضأ مِنْهَا كَانَ الطَّعَامُ حَلَالًا وَالْوُضُوءُ جَائِزًا وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْتِعْمَالِ عَاصِيًا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي الْإِنَاءِ لَا لِمَعْنًى فِي الْمَاءِ وَالطَّعَامِ بِخِلَافِ الْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي يَخْتَصُّ النَّهْيُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ لَا فِي غَيْرِهِ، وَالْأُصُولُ مُقَرَّرَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ وُرُودِ النهي عن الشيء لمعنى فيه فتقتضي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبَيْنَ وُرُودِهِ لِمَعْنًى فِي غيره فلا تقتضي فساد المناهي عَنْهُ كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي بُقْعَةٍ نَجِسَةٍ لِمَا اخْتُصَّ لِمَعْنًى فِي الْبُقْعَةِ بَطَلَتْ، وَفِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ لَمَّا اخْتُصَّ لِمَعْنًى فِي الْمَالِكِ لَمْ يَبْطُلْ وَالْأَوْلَى: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَوَقَّى الْمَعْصِيَةَ بِأَكْلِ مَا فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَنْ يُخْرِجَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مِنْهَا ثُمَّ يَأْكُلَهُ إِنْ شَاءَ وَلَا يَعْصِي بِهِ كَمَا حُكِيَ أن فرقد السبخي، والحسن البصري حضرا وليمة بالبصرة مقدم إِلَيْهِمَا طَعَامٌ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ فَقَبَضَ يَدَهُ عَنِ الْأَكْلِ مِنْهُ فَأَخَذَ الْحَسَنُ الْإِنَاءَ وَأَكَبَّهُ عَلَى الْخِوَانِ وَقَالَ: كُلِ الْآنَ إِنْ شِئْتَ. فَأَمَّا اتِّخَاذُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلِادِّخَارِ وَالزِّينَةِ دُونَ الِاسْتِعْمَالِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِاخْتِصَاصِ الِاسْتِعْمَالِ بِالتَّحْرِيمِ.(1/77)
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ادِّخَارَهَا دَاعٍ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا وَمَا دَعَا إِلَى الْحَرَامِ كَانَ حَرَامًا كَإِمْسَاكِ الْخَمْرِ لَمَّا كَانَ دَاعِيًا إِلَى تَنَاوُلِهَا كَانَ الْإِمْسَاكُ حَرَامًا.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي: مِنَ الْأَوَانِي فَهُوَ مَا سِوَى أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يَكُنْ فَاخِرًا وَلَا ثَمِينًا " كَالصُّفْرِ " وَ " النُّحَاسِ " وَ " الرَّصَاصِ " وَ " الْخَشَبِ " وَ " الْحَجَرِ " فَاسْتِعْمَالُهَا جَائِزٌ إِذَا كانت طاهرة. وقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه تؤضأ فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَاخِرًا ثَمِينًا فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ كَثْرَةُ ثَمَنِهِ لِحُسْنِ صَنْعَتِهِ وَلِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ كَأَوَانِي الزُّجَاجِ الْمُحْكَمِ وَالْبَلُّورِ الْمَخْرُوطِ فَاسْتِعْمَالُهَا حَلَالٌ؛ لِأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الصَّنْعَةِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ وَهُوَ قَبْلَ الصَّنْعَةِ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ كَثْرَةُ ثَمَنِهِ لِنَفَاسَةِ جَوْهَرِهِ كَالْعَقِيقِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْمُبَاهَاةَ بِهَا أَعْظَمُ، وَالْمُفَاخَرَةَ فِي اسْتِعْمَالِهَا أَكْثَرُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا حَلَالٌ لِاخْتِصَاصِ خَوَاصِّ النَّاسِ بِمَعْرِفَتِهَا وَجَهْلِ أَكْثَرِ الْعَوَامِّ بِهَا، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ يَعْرِفُ قَدْرَهُمَا الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الطِّيبِ الرَّفِيعِ كَالْكَافُورِ الْمُرْتَفِعِ وَالْكَافُورِ الْمُصَاعِدِ، وَالْمَعْجُونِ مِنَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ فَتَخْرُجُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا بِحُصُولِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ بِهَا.
وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا لِانْصِرَافِ عَوَامِّ النَّاسِ عَنْهَا، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُرْتَفِعِ مِنْهَا كَالصَّنْدَلِ وَالْمِسْكِ فاستعمالها جائز.
مسألة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَكْرَهُ الْمُضَبَّبَ بِالْفِضَّةِ لِئَلَّا يَكُونَ شَارِبًا عَلَى فِضَّةٍ
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وهذا صحيح، اعْلَمْ أَنَّ الْمُضَبَّبَ بِالْفِضَّةِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّضْبِيبُ فِي جَمِيعِ الْإِنَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّضْبِيبُ فِي جَمِيعِ الْإِنَاءِ حَتَّى قَدْ غَطَّى جَمِيعَهُ وَغَشَّى سَائِرَهُ فَاسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ كَالْمُصْمَتِ مِنْ أَوَانِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: اسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ إِنَاءٌ جَاوَرَتْهُ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ فَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ إِنَاءً بِكَفِّهِ وَفِيهَا خَاتَمٌ.(1/78)
قَالَ: وَلِأَنَّ الْفِضَّةَ تَابِعَةٌ لِلْإِنَاءِ فَأَشْبَهَ الثَّوْبَ الْمُطَرَّزَ، وَمَا كَانَ سِوَاهُ مِنْ حَرِيرٍ وَلُحْمَتُهُ قُطْنٌ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ شَرِبَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إِنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ " وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ غِشَاءَ الْإِنَاءِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هُوَ إِنَاءٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ جَاوَرَهُ غيره وأوني الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهَا لِمُجَاوَرَةِ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ أَوَانِيَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهَا إِمَّا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ وَإِمَّا لِمَا فِيهَا مِنَ انْكِسَارِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ وَإِمَّا لِمَا فِيهَا مِنْهُ السَّرَفُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي الْمُضَبَّبِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا كَتَحْرِيمِ الْمُصْمَتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ إِنَاءٌ جَاوَرَتْهُ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِنَاءٌ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ جَاوَرَهُ غَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُمَا لَوِ اسْتَوَيَا لَكَانَ تَغْلِيبُ الْحَظْرِ أَوْلَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْفِضَّةَ تَابِعَةٌ فَصَارَتْ كَالثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ الْفِضَّةَ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا فِي الْإِبَاحَةِ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَجْعَلَ غَيْرَ الْفِضَّةِ تَابِعَةً لِلْفِضَّةِ فِي التَّحْرِيمِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّوْبِ الْمَنْسُوجِ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ وبين الإناء من الفضة أو الْحَرِيرَ مُبَاحٌ لِجِنْسٍ مِنَ النَّاسِ وَهُوَ النِّسَاءُ فَجَازَ أَنْ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ مَعَ غَيْرِهِ وَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَمْ يَأْتِ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ لِأَحَدٍ فَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ مَعَ غَيْرِهِ.
فَصْلٌ
وَإِنْ كَانَ التَّضْبِيبُ فِي بَعْضِ الْإِنَاءِ دُونَ جميعه فضربان: أحداهما: أَنْ يَكُونَ بِالْفِضَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِالذَّهَبِ فإن كان بالذهب فاستعماله حرام، لأن الذَّهَبِ مُبَاهَاةً وَسَرَفًا، وَإِنْ كَانَ بِالْفِضَّةِ فَعَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَاسْتِعْمَالُهُ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَاهَاةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا لِحَاجَةٍ فَإِنْ كَانَ فِي أَعَالِيهِ وَمَوْضِعِ الشُّرْبِ مِنْهُ كَانَ استعماله حرام.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِأَنْ لَا يَكُونَ شَارِبًا عَلَى فِضَّةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي أَسَافِلِهِ، وَغَيْرِ مَوَاضِعِ الشُّرْبِ مِنْهُ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ مَكْرُوهًا.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانت له قصعة فيها حلقتين فضة وكان لسيفه قبيعة قائمة فِضَّةٌ، وَأَهْدَى فِي بُدْنِهِ عَامَ حَجِّهِ جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ.(1/79)
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَاسْتِعْمَالُهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَفِي كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: غَيْرُ مَكْرُوهٍ كَالثَّوْبِ الْمُطَرَّزِ بِالْحَرِيرِ.
وَالثَّانِي: مَكْرُوهٌ بِخِلَافِ الطِّرَازِ، لِأَنَّ الْحَرِيرَ أَخَفُّ لِإِبَاحَتِهِ لِجِنْسٍ مِنَ النَّاسِ فَكَانَ حُكْمُهُ أَخَفَّ مِنَ الفضة التي لم يستبح أوانيها لجنس.
مسألة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَاءِ مُشْرِكٍ وَبِفَضْلِ وُضُوئِهِ مَا لَمْ يعلم نجاسته فقد توضأ عمر - رضي الله عنه - مِنْ مَاءٍ فِي جَرَّةٍ نَصْرَانِيَّةٍ ".
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ في أبدانهم، وثيابهم، وأوانيهم، وهو قول جمهور الْفُقَهَاءِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُدَ أَنَّهُمْ أَنْجَاسٌ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ مَا لَقَوْهُ بِأَجْسَادِهِمُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] فَنَصَّ على نجاستهم.
ودليلنا قوله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَعَامَهُمْ مَصْنُوعٌ بِأَيْدِيهِمْ وَمِيَاهِهِمْ وَفِي أَوَانِيهِمْ فَدَلَّ عَلَى طَهَارَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِبَ مَاءً مِنْ مَزَادَةِ وَثَنِيَّةٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ عمر رضي الله عنه توضأ من جر نَصْرَانِيَّةٍ وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَ يَأْذَنُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي دُخُولِ مَسْجِدِهِ وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ حِينَ أَسَرَهُ عَلَى سَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَكَانَ أَوْلَى الْأُمُورِ بِهِ تَطْهِيرُ مَسْجِدِهِ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَنْجِيسِ الْأَعْيَانِ، وَلَوْ كَانَ بِسُوءِ مُعْتَقَدِهِ يُنَجِّسُ مَا كَانَ طَاهِرًا لَكَانَ حُسْنُ مُعْتَقَدِنَا يُطَهِّرُ مَا كَانَ نَجِسًا.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] . فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَنْجَاسُ الْأَبْدَانِ كَنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَذَلِكَ، وَأَوْجَبَ الْوُضُوءَ عَلَى مَنْ صَافَحَهُمْ.(1/80)
والثاني: وهو قول الجمهور أنه سماهم نجسا، لِأَنَّهُمْ لَا يَغْتَسِلُونَ مِنَ الْجَنَابَةِ فَصَارُوا لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْغُسْلُ كَالنَّجَاسَةِ الَّتِي يَجِبُ غَسْلُهَا لا أنهم في أبدانهم أنجاس.
فَإِذَا ثَبَتَ طَهَارَةُ الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أضرب. [الأول] : ضَرْبٌ مِنْهُمْ يَرَوْنَ اجْتِنَابَ الْأَنْجَاسِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى واستعمال مياههم والصلاة في ثيابهم جائزة.
و [الثاني] ضرب مِنْهُمْ لَا يَرَوْنَ اجْتِنَابَهَا وَلَا يَعْتَقِدُونَ الْعِبَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِهَا كَالدَّهْرِيَّةِ، وَالزَّنَادِقَةِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ مِيَاهِهِمْ وَالصَّلَاةُ فِي ثِيَابِهِمْ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ، وَنَكْرَهُهَا خَوْفًا مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أن لا يجتبنوها وَيَرَوْنَ الْعِبَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِهَا كَالْبَرَاهِمَةِ مِنَ الْهِنْدِ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمَجُوسِ يَرَوْنَ اسْتِعْمَالَ الْأَبْوَالِ قُرْبَةً، فَاسْتِعْمَالُ مِيَاهِهِمْ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، وَأَمَّا الصلاة في ثيابهم، فيجوز فيما لَمْ يَلْبَسُوهُ كَثِيرًا كَالْيَوْمِ أَوْ بَعْضِهِ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ لِبَاسُهُمْ لَهَا حَتَّى طَالَ زَمَانُهُمْ فِيهَا، فَفِي جَوَازِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَمَنْ صَلَّى فِيهَا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا حُلُولُ النَّجَاسَةِ كَالْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يَخْلُو لِبَاسُهُ إِذَا طَالَ عَلَيْهِ مِنْ حُلُولِ الْمَاءِ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ عِبَادَةً فَلَمْ يَنْفَكَّ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كُرِهَتْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ نَجَاسَتَهَا بِالشَّكِّ، وَأَشَدُّ مَا يُكْرَهُ مِنْ ثِيَابِ مَنْ لَا يَجْتَنِبُ الْأَنْجَاسَ الْمَيَارِزَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ، فَأَمَّا أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَا يَرَى أَكْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ جَازَ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ، وَمَنْ كَانَ يَرَى أَكْلَهُ، فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهَا إِذَا طَالَ اسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَتُهَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ: إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَا مُحْتَاجٌ إِلَى آنِيَتِهِمْ، فَقَالَ: فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ ثُمَّ اطْبُخُوا فِيهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا جَائِزٌ، وَإِنْ كُرِهَتِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ فِي طَهَارَتِهَا، وَإِسْقَاطُهَا بِحُكْمِ الشَّكِّ فِي نَجَاسَتِهَا غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/81)
باب السواك
قال الشافعي رحمه الله: " وأجب السِّوَاكَ لِلصَّلَوَاتِ، وَعِنْدَ كُلِّ حَالٍ تَغَيَّرَ فِيهَا الفم للاستيقاظ من النوم والأدم وَكُلِّ مَا يُغَيِّرُ الْفَمَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَهُمْ بِهِ شَقَّ أَوْ لَمْ يشق.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، السِّوَاكُ عِنْدَنَا سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، وَفَضِيلَةٌ حَسَنَةٌ، لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ.
وَرُوِيَ مَثْرَاةٌ لِلْمَالِ، مَنْمَاةٌ لِلْوَلَدِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " طَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ بِالسِّوَاكِ، فَإِنَّهَا مَسَالِكُ القرآن ".(1/82)
وروي أن الناس استبطئوا الْوَحْيَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: وَكَيْفَ لَا يُبْطِئُ وَأَنْتُمْ لَا تُسَوِّكُونَ أَفْوَاهَكُمْ، وَلَا تُقَلِّمُونَ أَظْفَارَكُمْ، وَلَا تَنْقَعُونَ بَرَاجِمَكُمْ ".
وَرَوَى الزُّبَيْرُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ،، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِفَاضُ الْمَاءِ، يَعْنِي: " الاستنجاء ". فَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السِّوَاكَ مَأْمُورٌ بِهِ، فَهُوَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: السِّوَاكُ وَاجِبٌ، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ تركه في صحة الصلاة. وقال إسحاق بن رَاهْوَيْهِ السِّوَاكُ وَاجِبٌ، فَإِنْ تَرَكَهُ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَرَكَهُ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ، وَاسْتَدَلَّا جَمِيعًا عَلَى وُجُوبِهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَرَأَى فِي أَسْنَانِهِمْ صُفْرَةً، فَقَالَ؛ مَا لِي أَرَاكُمْ تَدْخُلُونَ عَلَيَّ قُلْحًا اسْتَاكُوا. وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالْقَلَحُ فِي الْأَسْنَانِ: الصُّفْرَةُ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَى خَشِيتُ أَنْ يَدْرِدَنِي ". أَيْ: تَتَنَاثَرُ أَسْنَانِي، فَأَصِيرُ أَدْرَدَ مِنْ كَثْرَةِ السِّوَاكِ، وَمِنْ قَوْلِ الشاعر:
(أخذت بالجمة رأسا ارعوا ... وَبِالثَّنَايَا الْوَاضِحَاتِ الدَرْدَرَا)
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بتأخير(1/83)
الْعِشَاءِ، وَبِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِ صَلَاةٍ ". وَفِيهِ دَلِيلَانِ.
أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا، لَأَمَرَهُمْ بِهِ، شَقَّ أَوْ لَمْ يَشُقَّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: " لَأَمَرْتُهُمْ " بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يَفْرِضَهُ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لم يفرض، وروى عن النبي عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: " كُتِبَ الْوِتْرُ عَلَيَّ وَلَمْ يُكْتَبْ عليكم، وكتب الأضحى علي ولم يكتب عليكم وكتب السواك علي وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ " وَهَذَا نَصٌّ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اسْتَاكُوا فَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ لِإِزَالَةِ الْقَلَحِ، وَإِزَالَةُ الْقَلَحِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَأَمَّا الْخَبَرُ الْآخَرُ، فَقَدْ بَيَّنَهُ " حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يفرضه ". فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي خَمْسَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النوم، لرواية أبي وائل عن حذيفة ابن الْيَمَانِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان إذا قام من الليل، شوص فَاهُ بِالسِّوَاكِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الشَّوْصُ الْغَسْلُ. والموص مِثْلُهُ، وَأَنْشَدَ لِامْرِئِ الْقَيْسِ:
(بِأَسْوَدَ مُلْتَفِّ الْغَدَائِرِ وارد ... وذي أشر تسوفه وتشوص)
والحالة الثَّانِيَةُ: عِنْدَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ، لِرِوَايَةِ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يوضع له وضوءه وسواكه.(1/84)
والحالة الثَّالِثَةُ: عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ الله بن حنظلة بن أبي عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَمَرَ بالسواك لكل صلاة.
والحالة الرابعة: عند قراءة القرآن، لقوله عليه السلام: " السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَبِّ ". وَالْفَمُ قَدْ يَتَغَيَّرُ فِي أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: إِمَّا عِنْدَ كَثْرَةِ الْكَلَامِ، وَإِمَّا بِطُولِ السُّكُوتِ، وَإِمَّا بِشِدَّةِ الْجُوعِ، وَإِمَّا لِأَكْلِ مَا يُغَيِّرُ الْفَمَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُرِيحَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالِاسْتِيقَاظُ مِنَ النَّوْمِ، وَالْأَزْمُ، وَفِي الْأَزْمِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْجُوعُ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ، وَكَانَ طبيب العرق فَقَالَ: مَا أَلَذُّ؟ فَقَالَ: الْأَكْلُ، فَقَالَ: وَمَا الدَّوَاءُ؟ قَالَ: الْأَزْمُ. يَعْنِي الْجُوعَ وَالِاحْتِمَاءَ. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
(الْمُطْعِمُونَ إِذَا مَا أَزْمَةٌ ... وَالطَّيِّبُونَ ثِيَابًا كُلَّمَا عَرِقُوا)
وَالثَّانِي: أَنَّهُ السُّكُوتُ، وهو في اللغة: الإمساك، فتارة يقربه عَنِ الْجُوعِ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الْأَكْلِ، وَتَارَةً يُعَبِّرُ بِهِ عَنِ السُّكُوتِ، لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الكلام.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: السِّوَاكُ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالتَّحَرُّكِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: تَسَاوَكَتِ الْإِبِلُ، إِذَا اضْطَرَبَتْ أَعْنَاقُهَا مِنَ الْهُزَالِ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ
(إِلَى اللَّهِ أشكوا مَا أَرَى بِجِيَادِنَا ... تَسَاوَكُ هَزْلَى مُخُّهُنَّ قَلِيلُ)
وَالْكَلَامُ فِي السِّوَاكِ يَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي صِفَةِ السِّوَاكِ.
وَالثَّانِي: مَا يُسْتَحَبُّ بِهِ السِّوَاكُ.
فَأَمَّا صِفَةُ السِّوَاكِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَاكَ عرضا في ظاهر الأسنان. وباطنها، ويمر السوك على أطراف أسنانه، وكراسي أضراسه، ليجلوا جَمِيعًا مِنَ الصُّفْرَةِ، وَالتَّغَيُّرِ، وَمَمَرُّهُ عَلَى سَقْفِ حَلْقِهِ إِمْرَارًا خَفِيفًا لِيَزُولَ الْخُلُوفُ عَنْهُ، فَقَدْ كان النبي عليه السلام يشوص فاه(1/85)
بِالسِّوَاكِ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَسْتَاكَ طُولًا مِنْ أَطْرَافِ أَسْنَانِهِ إِلَى عَمُودِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِدْمَاءِ اللثة، وفساد الْعَمُودِ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اسْتَاكُوا عَرْضًا وَادَّهِنُوا غِبًّا وَاكْتَحِلُوا وِتْرًا ". وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ أَنْ يَدَّهِنَ غِبًّا، وَلَا يَدَّهِنُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَرَنِ الثَّوْبِ، وَتَنْمِيسِ الشَّعْرِ، وَكَذَلِكَ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ كَثْرَةِ الْأَدْفَاهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ كَثْرَةُ التَّدْهِينِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ الدُّهْنُ لِتَحْسِينِ الْبَشَرَةِ، وَإِذْهَابِ النَّوْسِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " ادَّهِنُوا يَذْهَبِ النَّوْسُ عَنْكُمْ وَالْبَسُوا تَظْهَرْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَأَحْسِنُوا إِلَى مَمَالِيكِكُمْ، فَإِنَّهُ أَكْبَتُ لِعَدُوِّكُمْ، وَأَدْفَعُ لِنَقْمَةِ اللَّهِ عَنْكُمْ "، فَأَمَّا مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَاكَ بِهِ، فَهُوَ الْأَرَاكُ، لِرِوَايَةِ أَبِي خَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَسْتَاكُ بِالْأَرَاكِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْأَرَاكُ، اسْتَاكَ بِعَرَاجِينِ النَّخْلِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ، اسْتَاكَ بِمَا وَجَدَهُ، وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْعُودُ الَّذِي يَسْتَاكُ بِهِ نَدِيًّا، وَلَا يَكُونَ يَابِسًا فَيَجْرَحَ، وَلَا رطبا فلا تبقى، فَلَوْ لَفَّ عَلَى أُصْبُعِهِ خِرْقَةً خَشِنَةً، وَأَمَرَّهَا عَلَى أَسْنَانِهِ حَتَّى زَالَ الصُّفْرَةَ وَالْخُلُوفَ، فَقَدْ أَتَى بِسُنَّةِ السِّوَاكِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُ يقول مقام العود في الانقاء، فأما خلال أَسْنَانَهُ بِالْحَدِيدِ، أَوْ بَرَدَهَا بِالْمِبْرَدِ، فَمَكْرُوهٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُذِيبُ الْأَسْنَانَ وَيُفْضِي إِلَى انْكِسَارِهَا.
والثاني: أنها تخشن فتراكب الصُّفْرَةُ وَالْخُلُوفُ فِيهَا، وَلِذَلِكَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْوَاشِرَةَ وَالْمُسْتَوْشِرَةَ، وَهِيَ: الَّتِي تُبَرِّدُ أَسْنَانَهَا بِالْمِبْرَدِ، فَأَمَّا الصَّائِمُ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَسْتَاكَ غَدْوَةً، وَيُكْرَهَ لَهُ أَنْ يَسْتَاكَ عَشِيًّا عَلَى مَا نذكره في كتاب الصيام، لقوله عليه السلام: لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، فَإِنِ اسْتَاكَ عَشِيًّا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ وَإِنْ أَسَاءَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.(1/86)
باب نية الوضوء
قال الشافعي رضي الله عنه: وَلَا يُجْزِئُ طَهَارَةٌ مِنْ غُسْلٍ وَلَا وُضُوءَ إِلَّا بِنِيَّةٍ وَاحْتَجَّ عَلَى مَنْ أَجَازَ الْوُضُوءَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِنِيَّةٍ وَهُمَا طَهَارَتَانِ فَكَيْفَ يفترقان.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: الطَّهَارَةُ ضَرْبَانِ مِنْ نَجَسٍ وَحَدَثٍ.
فَأَمَّا طَهَارَةُ النَّجَسِ فَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ إِجْمَاعًا لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ إِنَّمَا هُوَ تَعَبُّدُ مُفَارَقَةٍ وَتَرْكٍ، وَالتُّرُوكُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ كَسَائِرِ مَا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهِ فِي عِبَادَاتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا طَهَّرَ ما أصبته النَّجَاسَةُ مِنَ الْأَرْضِ وَالثَّوْبِ بِمُرُورِ السَّيْلِ عَلَيْهِ وَإِصَابَةِ الْمَاءِ لَهُ عُلِمَ أَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّ النِّيَّةَ فِي إِزَالَتِهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.
فَأَمَّا طَهَارَةُ الْحَدَثِ فَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِنِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَائِعٍ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، أَوْ بِجَامِدٍ كَالتُّرَابِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ الْكُوفِيُّ تَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ بِمَائِعٍ أَوْ جَامِدٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ وَالتَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تعالى: {ياأيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . فَأَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ وَلَمْ يذكر النية.
وفي إيجابها ما يخرج الْغَسْلَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ جواز الصلاة وذلك نسخ لِأَنَّهُ إِبْطَالُ حُكْمِهِ، وَفِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ آيَةَ الطَّهَارَةِ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ مَا يُوجِبُ منع(1/87)
الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ كَيْفَ أَتَوَضَّأُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: تَوَضَأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، اغْسِلْ وَجْهَكَ وَذِرَاعَيْكَ وَامْسَحْ بِرَأْسِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ.
فَأَجَابَهُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ دُونَ النِّيَّةِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ فَوَجَبَ أَلَّا تَفْتَقِرَ إلى نية كإزالة النجاسة.
قالوا: وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ فَوَجَبَ أَلَّا يفتقر إلى نية كستر العورة.
قالوا: وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَوْ كَانَتْ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ لَمَا صَحَّ غُسْلُ الذِّمِّيَّةِ مِنَ الْحَيْضِ، وَلَمَا اسْتَبَاحَ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ وَطْأَهَا، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ غُسْلِهَا وَجَوَازِ وَطْئِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ طَهَارَتِهَا.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] [فَأُمِرُوا] بِالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . وَمِنْهَا دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أنَّ قَوْلَهُ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . يَعْنِي: لِلصَّلَاةِ فَحُذِفَ ذِكْرُهَا اكْتِفَاءً بِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ: إِذَا رَأَيْتَ الْأَمِيرَ فَقُمْ يَعْنِي: لِلْأَمِيرِ. وَإِذَا رَأَيْتَ الْأَسَدَ فَتَأَهَّبْ يَعْنِي: لِلْأَسَدِ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . يَعْنِي: لِلسَّرِقَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] . يَعْنِي: قَبْلَ قِيَامِكُمْ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لِإِرَادَةِ الصَّلَاةِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم التميمي عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى(1/88)
اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. وَالدَّلَالَةُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إِثْبَاتَ وُجُودِهَا، لِأَنَّهَا قَدْ تُوجَدُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا إِثْبَاتُ حُكْمِهَا.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَكَانَ دَلِيلُ خِطَابِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ مَا لَمْ يَنْوِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِإِثْبَاتٍ مَا اتَّصَلَ بِهَا وَنَفْيِ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ قَوْلًا إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا قُوَةً وَلَا عَمَلًا إِلَّا بِنِيَّةٍ.
وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى أَعْمَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى نِيَّاتِكُمْ ".
ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا طَهَارَةٌ مِنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ، فَإِنْ قِيلَ: قِيَاسُ الْوُضُوءِ عَلَى التَّيَمُّمِ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ أَصْلٌ وَالتَّيَمُّمَ فَرْعٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُ الْأَصْلِ مِنَ الْفَرْعِ.
قيل: التَّيَمُّمُ بَدَلٌ مِنَ الْوُضُوءِ وَلَيْسَ بِفَرْعٍ لَهُ، لِأَنَّ فَرْعَ الْأَصْلِ مَا كَانَ حُكْمُهُ مَأْخُوذًا مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ.
وَلَيْسَ حُكْمُ التَّيَمُّمِ مَأْخُوذًا مِنَ الْوُضُوءِ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُبْدَلِ مَأْخُوذًا مِنْ بَدَلِهِ إِذَا كَانَ الْبَدَلُ مُجْتَمِعًا عَلَى حُكْمِهِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَرْجِعُ فِي حَالِ الْعُذْرِ إِلَى شَرْطِهَا. فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النية شَطْرِهَا كَالصَّلَاةِ فَإِنْ مَنَعُوا أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ عبادة كان نزاعا مطرحا، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ قُرْبَةً لِلَّهِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْوُضُوءِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ " وَمَنْ كَانَتْ هذه حالته فن الْمُحَالِ أَلَّا تَكُونَ عِبَادَةً، وَلِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ كَانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا فِي بَدَلِهِ كَانَتِ النِّيَّةُ شرطا في مبدله كالكفارت، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا افْتَقَرَ نَقْلُهُ إِلَى النِّيَّةِ افْتَقَرَ فَرْضُهُ إِلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.(1/89)
وَبَيَانُهُ: أَنَّ أبا حنيفة أَوْجَبَ النِّيَّةَ فِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ فَاقْتَضَى أَنْ تَجِبَ النِّيَّةُ فِي فَرْضِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ وَجْهَيِ اسْتِدْلَالِنَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْنَا بِهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فهو: أن في قوله: توضأ كما أمرك اللَّهُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا ذَكَرَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِالنِّيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْأَعْرَابِيِّ مُتَضَمِّنٌ النِّيَّةَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أحدها: أن قوله طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَاسَةِ بِالْجَامِدِ وَالْمَائِعِ سَوَاءٌ فِي سُقُوطِ النِّيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَصْلِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَانْتَقَضَتِ النِّيَّةُ، بِالتَّيَمُّمِ.
والثاني: أنا نقلبه عليهم، فنقول فوجب أن يستوي الطَّهَارَةُ بِالْمَائِعِ وَالْجَامِدِ فَيَ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ قِيَاسًا عَلَى إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ إِزَالَةَ الْأَنْجَاسِ طَرِيقُهَا التَّرْكُ، وَالتُّرُوكُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ. كَتَرْكِ الرِّبَا وَالْقَتْلِ، وَالْغَصْبِ، وَالْوُضُوءُ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ مِنْ شَرْطِهِ النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ، مَخْصُوصٌ مِنْ سَائِرِ التُّرُوكِ بِإِيجَابِ النِّيَّةِ فِيهِ،، وَالْقِيَاسِ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ الْمَخْصُوصِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي النَّجَاسَةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ لَا تَتَعَدَّى إِلَى مَحَلِّ مُوجِبِهَا. وَالْحَدَثُ يَتَعَدَّى مَحَلَّ مُوجِبِهِ كَالتَّيَمُّمِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ، عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّهَارَةُ لِاخْتِصَاصِهَا بِالصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لِلصَّلَاةِ مُقَارِنٌ لِلصَّلَاةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، فَاكْتَفَى بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الْوُضُوءِ، لِأَنَّ فِعْلَهُ يَتَقَدَّمُ الصَّلَاةَ، وَإِنَّمَا يَسْتَصْحِبُ حُكْمَهُ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِزْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِطَهَارَةِ الذِّمِّيَّةِ فَهُوَ: أَنَّ طَهَارَتَهَا غَيْرُ مُجْزِئَةٍ، وَكَذَلِكَ لَزِمَهَا إِعَادَةُ الطَّهَارَةِ إِذَا أَسْلَمَتْ، وَإِنَّمَا أَجَزْنَا غَسْلَهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ، لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُضَيَّقٌ، وَفِي مَنْعِهِ مِنْ وَطْئِهَا إِلَّا بَعْدَ إِسْلَامِهَا تَفْوِيتٌ لِحَقِّهِ وَمَنْعٌ مِنْ تَزْوِيجِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَصَارَتْ كَالْمَجْنُونَةِ الَّتِي يَسْتَبِيحُ زوجها وطأها إذا اغتسلت في جنوبها بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ، وَلَوْ أَفَاقَتْ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ إِلَّا بِنْيَةٍ كَذَلِكَ الذِّمِّيَّةُ يَجُوزُ وَطْؤُهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضِهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَوْ أَسْلَمَتْ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا إذا اغتسلت إلا بنية.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَقَدْ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: وُضُوءٌ، وَغُسْلٌ وَتَيَمُّمٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ.(1/90)
فَأَمَّا الْغُسْلُ فَقَدْ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَفَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَمَسْنُونٌ. فَأَمَّا فرض الأعيان فثلاثة:
الأول: غسل الجنابة، والثاني: وغسل الحيض، والثالث: غسل النِّفَاسِ، وَالنِّيَّةُ فِيهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتِ النِّيَّةُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى كَانَ وُجُوبُهَا فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى أَوْلَى.
فَأَمَّا الْمَسْنُونُ فَغُسْلُ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَمَا يَسْتَوْفِي عَدَدَهُ فِي مَوْضِعِهِ فَالنِّيَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ لِيَمْتَازَ بِهَا عَمَّا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مِنَ الْغُسْلِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ كَانْتِ النِّيَّةُ مُسْتَحَقَّةً فِي فَرْضِهَا كَانَتِ النِّيَّةُ مُسْتَحَقَّةً فِي نَفْلِهَا كالصلاة، والصيام.
وأما فرض الكفاية: فغسل الموتى، فالظاهر من مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أَنَّهُ يُجْزِئُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّ الْمُزَنِيَّ نَقَلَ عَنْهُ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ ": أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا مَاتَ وَلَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ كَرِهَتْ أَنْ تُغَسِّلَهُ فَلَوْ غَسَّلَتْهُ أَجْزَأَ ".
فَلَوْ كَانَتِ النِّيَّةُ عِنْدَهُ شَرْطًا فِي جَوَازِ غُسْلِهِ لَمَا جَازَ أَنْ تُغَسِّلَهُ الذِّمِّيَّةُ، لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنَ الذِّمِّيَّةِ لَا تَصِحُّ فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الطَّهَارَةِ إِذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا فِي بَدَنِ الْغَيْرِ سَقَطَتِ النِّيَّةُ عَنْ فَاعِلِ التطهير كالزوج إِذَا اسْتَحَقَّ غُسْلَ زَوْجَتِهِ الْمَجْنُونَةِ مِنْ حَيْضِهَا لِيَسْتَبِيحَ وَطْأَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ النِّيَّةُ فِي غُسْلِهَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ كَوُجُوبِهَا فِي غُسْلِ الْحَيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، لِأَنَّ غُسْلَ الْأَبْدَانِ إِذَا اسْتَحَقَّ تعبد الله تَعَالَى اسْتَحَقَّتِ النِّيَّةُ فِيهِ، كَالْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، وَلَوْ كَانَ غُسْلُ الْمَيِّتِ لَا يَسْتَحِقُّ النِّيَّةَ فِيهِ لَمَا وَجَبَ غُسْلُ الْغَرِيقِ لِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جَسَدِهِ.
وَفِي اسْتِحْقَاقِ غُسْلِهِ بَعْدَ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جَسَدِهِ، دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ النِّيَّةِ الْمَفْقُودَةِ فِي الْغُسْلِ الْأَوَّلِ، فَأَمَّا غُسْلُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ الْمَجْنُونَةَ فَإِنَّمَا سَقَطَتِ النِّيَّةُ عَنْهُ، لِأَنَّ غُسْلَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُرِدْ إِصَابَتَهَا لَمَا وَجَبَ غَسْلُهَا، وَلَيْسَ كذلك غسل الميت لأنه قد استحق تعبد الله جل جلاله. والله أعلم.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَوْ لِقِرَاءَةِ مُصْحَفٍ أَوْ لِجَنَازَةٍ أَوْ لِسُجُودِ قُرْآنٍ أَجْزَأَهُ أَنْ يُصَلِّيَ به الفريضة ".
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: فِي مَحَلِّ النِّيَّةِ.
وَالثَّانِي: فِي زَمَانِ النِّيَّةِ.
وَالثَّالِثُ: فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ.
وَالرَّابِعُ: فِيمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَّةُ.(1/91)
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَحَلُّ النِّيَّةِ: فَهُوَ الْقَلْبُ، لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْإِنَاءِ، لِاخْتِصَاصِهَا بِإِنَاءِ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ وَهُوَ الْقَلْبُ. فَالنِّيَّةُ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: النِّيَّةُ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ لِيُظْهِرَ بِلِسَانِهِ مَا اعْتَقَدَهُ بِقَلْبِهِ فَيَكُونُ عَلَى كَمَالٍ مِنْ نِيَّتِهِ وَثِقَةٍ مِنَ اعْتِقَادِهِ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ لَمَّا اخْتَصَّ بِاللِّسَانِ لَمْ يَلْزَمِ اعْتِقَادُهُ بِالْقَلْبِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ إِذَا اخْتَصَّتْ بِالْقَلْبِ لَا يَلْزَمْ ذِكْرُهَا بِاللِّسَانِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ ذَكَرَ النِّيَّةَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْتَقِدْهَا بِقَلْبِهِ لَمْ يُجِزْهُ عَلَى المذهبين معا. فلو اعتقدها بِقَلْبِهِ وَذَكَرَهَا بِلِسَانِهِ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ جَمِيعًا وَذَلِكَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ.، وَلَوِ اعْتَقَدَ النِّيَّةَ بِقَلْبِهِ ولم يذكرها بلسانه أجزاء عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى مَذْهَبِ الزُّبَيْرِيِّ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ زَمَانُ النِّيَّةِ فَهُوَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ غُسْلًا فَعِنْدَ أَوَّلِ إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَسَدِهِ، فَإِنْ نَوَى بَعْدَ أَنْ غَسَلَ بَعْضَ جَسَدِهِ أَجْزَأَتْهُ النِّيَّةُ لَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ مَا غَسَلَهُ قَبْلَ نِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ فِي الْغُسْلِ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الِابْتِدَاءُ بِمَحَلٍّ مِنْ جَسَدِهِ فَكُلُّ مَوْضِعٍ مِنْهُ فِي جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِغَسْلِهِ جَائِزٌ فَجَازَ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ غُسْلِهِ وَلَا يَعْتَدُّ بِمَا غَسَلَهُ مِنْ قَبْلُ وَإِنْ كَانَ وُضُوءًا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الِابْتِدَاءُ بِوَجْهِهِ.
وَمِنْ حِكَمِ الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مَنُوطَةً بِأَوَّلِهَا مَا خَلَا الصَّوْمَ الْمَخْصُوصَ بِالشَّرْعِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ فِي النِّيَّةِ أربعة حوال:
أَحَدُهَا: حَالُ اسْتِحْبَابٍ.
وَالثَّانِيَةُ: حَالُ جَوَازٍ.
وَالثَّالِثَةُ: حال فساد.
والرابعة: حال اختلاف.
فأما الحالة الْأُولَى: فِي الِاسْتِحْبَابِ، فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ وَيَسْتَدِيمَهَا ذِكْرًا إِلَى غَسْلِ وَجْهِهِ، ثُمَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوَجْهِ أَنْ يَسْتَدِيمَهَا حكما وليس عليه أن يستديمها ذكرا، ومعنى استدامتها ذِكْرًا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَصْحِبًا لِذِكْرِهَا وَاعْتِقَادِهَا، فَإِنْ أَخَلَّ بِهَا نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا لَمْ يُجِزْهُ، وَهَذَا لَازِمٌ لَهُ فِي الْوُضُوءِ إِلَى غَسْلِ الْوَجْهُ وَاسْتِدَامَتُهَا حُكْمًا أَنْ يَكُونَ مُسْتَصْحِبًا(1/92)
لِحُكْمِ نِيَّتِهِ فَلَا يُحْدِثُ نِيَّةً تُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِيَّتِهِ وَإِنْ أَخَلَّ بِذِكْرِهِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ، وَهَذَا لَازِمٌ لَهُ بَعْدَ الْوَجْهِ إِلَى فَرَاغِهِ مِنْ طَهَارَتِهِ، فَإِنِ اسْتَدَامَهَا ذكرا كان أكمله.
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّانِيَةُ: فِي الْجَوَازِ: فَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَيُجْزِئُهُ وَإِنْ أَخَلَّ بِالنِّيَّةِ فِيمَا قَبِلُ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ الْوَجْهَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ غَسْلِ الْكَفَّيْنِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ مَسْنُونٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَتَرْكُهُ لَا يَقْدَحُ فِي وُضُوئِهِ فَكَذَلِكَ تَرْكُ النِّيَّةِ عِنْدَهُ.
لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا فَعَلَهُ ثُمَّ أَحْدَثَ النِّيَّةَ بَعْدَهُ. هَلْ يَكُونُ فَاعِلًا لِلْمَسْنُونِ مِنْهُ مُعْتَدًّا بِهِ مِنْ وُضُوئِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ فاعلا لمسنونه، ولا معتد بِهِ مِنْ وُضُوئِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ نِيَّةٍ قَارَنَتْهُ أَوْ تَقَدَّمَتْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِلسُّنَّةِ مُعْتَدًّا بِهِ مِنَ الْوُضُوءِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ طَهَارَةٍ قَدْ أَتَى بِالنِّيَّةِ لَهَا فِي مَحَلِّهَا، فَلَوْ نَوَى بَعْدَ أَنْ غَسَلَ بَعْضَ وَجْهِهِ انْعَقَدَتْ نِيَّتُهُ وَلَزِمَهُ إِعَادَةُ غَسْلِ مَا كَانَ غَسَلَهُ كَالْجُنُبِ إِذَا نَوَى عِنْدَ غَسْلِ بَعْضِ جَسَدِهِ.
وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ فِي الْفَسَادِ: فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ فَلَا يُجْزِئُهُ لِفَسَادِ نِيَّتِهِ بِتَأْخِيرِهَا عَنِ ابْتِدَاءِ وُضُوئِهِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ وَجْهِهِ مُبْتَدِئًا بِالنِّيَّةِ بِهِ حَتَّى تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِغَسْلِ الْوَجْهِ.
وَأَمَّا الْحَالُ الرَّابِعَةُ فِي اخْتِلَافِ النِّيَّةِ: فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ غَسْلِ وَجْهِهِ وَيَحِلَّ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ فَإِنْ نَوَى قَبْلَ أَخْذِهِ فِي الْوُضُوءِ فِي غَسْلِ الْكَفَّيْنِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لَمْ يُجِزْهُ.
وَإِنْ نَوَى عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ أَوْ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ غَسْلَ الْكَفَّيْنِ شُرُوعٌ فِي الْوُضُوءِ فَصَارَتِ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ ابْتِدَائِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ، لِأَنَّهُ غَسْلٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَيُجْزِئُهُ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، لِأَنَّهُمَا فِي الْوَجْهِ فَصَارَتِ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ أَخْذِهِ فِي تَطْهِيرِ الْوَجْهِ.(1/93)
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ سَوَاءٌ نَوَى عِنْدَ غَسْلِ كَفَّيْهِ أَوْ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ حَتَّى يَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ، لِأَنَّ الْوُضُوءَ قَدْ يَصِحُّ بِغَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَاسْتِنْشَاقٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حِينَ تَمَضْمَضَ أَوِ اسْتَنْشَقَ أَصَابَ الْمَاءُ شَيْئًا مِنْ وَجْهِهِ فَيُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَاوِيًا عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ: فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا رَفْعَ الْحَدَثِ أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ، أَوِ الطَّهَارَةَ لِفِعْلِ مَا لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُتَوَضِّئًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُغْتَسِلًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُتَيَمِّمًا.
فَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا أَجْزَأَهُ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ سَوَاءٌ عَيَّنَ الْحَدَثَ فِي نِيَّتِهِ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ نَوَى رَفْعَ جَمِيعِهَا، أَوْ رَفْعَ أَحَدِهَا، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ، لِأَنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ فَإِذَا نَوَى رَفْعَهُ زَالَ مَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ وَأَجْزَأَهُ.
فَلَوْ كَانَ بِهِ حَدَثَانِ حَدَثٌ مِنْ بَوْلٍ وَحَدَثٌ مِنْ نَوْمٍ فَنَوَى رَفْعَ أَحَدِهِمَا ارْتَفَعَا مَعًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَقَاءُ أَحَدِهِمَا مَعَ ارْتِفَاعِ الْآخَرِ، فَلَوْ نَوَى رَفْعَ أَحَدِهِمَا عَلَى أَلَّا يَرْفَعَ الْآخَرَ فَفِي صِحَّةِ وُضُوئِهِ وَارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُضُوءَهُ بَاطِلٌ وَحَدَثَهُ بَاقٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ فِي نِيَّتِهِ بَقَاءَ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا فَفَسَدَتِ النِّيَّةُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَحَدَثَهُ مُرْتَفِعٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى رَفْعَ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى حُكْمًا، فَبَطَلَ الشَّرْطُ، فَلَوْ كَانَ بِهِ حَدَثٌ مِنْ بَوْلٍ لَا غَيْرَ فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ مِنْ نَوْمٍ وَلْمٍ يَكُنْ قَدْ أَحْدَثَ عَنْ نَوْمٍ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ تَغْيِيرَ النِّيَّةِ عَنِ الْحَدَثِ لَا يَلْزَمُ، وَالنَّوْمُ حُدُوثٌ فَصَارَ نَاوِيًا رَفْعَ الْحَدَثِ.
وَإِنْ كَانَ مُغْتَسِلًا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ فَلَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي نِيَّتِهِ الْأَكْبَرَ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ نِيَّتَهُ تَنْصَرِفُ إِلَى حَدَثِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ بِهِ حَدَثَانِ أَصْغَرُ وَأَكْبَرُ فَاغْتَسَلَ فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ هَلْ يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْحَدَثِ الْأَكْبَرِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ سَقَطَ حُكْمُهُ فَعَلَى هَذَا يُجْزِئُهُ غُسْلُهُ عَنْ حَدَثِهِ الْأَكْبَرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ حَدَثُهُ الْأَصْغَرُ فَعَلَى هَذَا لَا يُجْزِئُهُ غُسْلُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْحَدَثَيْنِ لِامْتِيَازِهِمَا وَإِنْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ يُحْتَمَلُ التَّشْرِيكُ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ عَيَّنَ النِّيَّةَ فَنَوَى غسل(1/94)
الْجَنَابَةِ أَوْ كَانَتِ امْرَأَةً فَنَوَتْ غُسْلَ الْحَيْضِ أَجْزَأَهُمَا ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ جُنُبًا فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُرْفَعَ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرْفَعَ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى.
فَإِنْ كَانَ مُتَيَمِّمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ، لِأَنَّ حَدَثَهُ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ وَهَكَذَا الْمُسْتَحَاضَةُ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَنْوُوا رَفْعَ الْحَدَثِ لِأَنَّ حَدَثَهُمْ لَا يَرْتَفِعُ.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ أَنْ يَنْوُوا رَفْعَ الْحَدَثِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَسْتَبِيحُونَ الصَّلَاةَ بِطَهَارَتِهِمْ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ فيجزئه، لأن الحدث مانع من استباحتها فَصَارَ اسْتِبَاحَتُهَا رَفَعًا لِلْحَدَثِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَوَضِّئًا أَوْ مُغْتَسِلًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الَّتِي يَسْتَبِيحُ فِعْلَهَا وَسَوَاءٌ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا أَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ صَلَاةٍ بِعَيْنِهَا سَوَاءٌ كَانَتِ الصلاة فرضا أو نفلا، لأن النقل لَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِالْحَدَثِ كَالْفَرْضِ.
فَأَمَّا الْمُتَيَمِّمُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ فِي نِيَّتِهِ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِتَيَمُّمِهِ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ فِي النِّيَّةِ أَنْ يُعَيِّنَ الصَّلَاةَ الَّتِي يَتَيَمَّمُ لَهَا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا لَمْ يَرْفَعِ الْحَدَثَ وَاخْتَصَّ بِأَدَاءِ فَرْضٍ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ صَارَ شَرْطًا فِيهَا فَيَلْزِمَهُ تَعْيِينُهَا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ التَّيَمُّمَ لِنَافِلَةٍ فَيَجُوزُ أَلَّا يَنْوِيَ تَعْيِينَ النية لها لأن النوافل لا تتعيين. فَلَوْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَهَا وَمَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ مَا لَمْ يُحْدِثْ لِأَنَّ النَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعُمَرَ حِينَ أَذْكَرَهُ عَامَ الْفَتْحِ أَنَّهُ صَلَّى الْخَمْسَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمْدًا فَعَلْتَ ذَلِكَ يَا عُمَرُ. فَلَوْ تَوَضَّأَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ عَلَى أَلَّا يُصَلِّيَ بِهِ مَا سِوَاهَا مِنَ الصَّلَاةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهَا: أَنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّ الْحَدَثَ إِذَا ارْتَفَعَ لِصَلَاةٍ ارْتَفَعَ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وُضُوءَهُ بَاطِلٌ وَحَدَثَهُ بَاقٍ لِأَنَّ حَدَثَهُ إِذَا لم يترفع لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ لَمْ يَرْتَفِعْ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ.(1/95)
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ وُضُوءَهُ يَصِحُّ وَحَدَثَهُ يَرْتَفِعُ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا دُونَ غَيْرِهَا لِأَنَّ الطَّهَارَةَ قَدْ تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ لِصَلَاةٍ بِعَيْنِهَا دُونَ غَيْرِهَا كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَالْمُتَيَمِّمِ وَالْمَاسِحِ عَلَى خُفَّيْهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ لِفِعْلِ مَا لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ فَجُمْلَةُ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَطَهَّرُ لَهَا أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَجِبُ فِيهِ طَهَارَةٌ وَلَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ كَالطَّوَافِ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَحَمْلِ المصحف وسجود السهو والسكر وَالتِّلَاوَةِ.
فَمَنْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ يَنْوِي فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ وَصَحَّ وضوءه وَغُسْلُهُ، لِأَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا كَانَ مَانِعًا مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَالصَّلَاةِ صَارَ الْمُتَوَضِّئُ لَهُ كَالْمُتَوَضِّئِ لِفِعْلِ الصَّلَاةِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَلَيْسَ بِمَنْدُوبٍ فِيهِ إِلَى الطَّهَارَةِ كَالصِّيَامِ وَعُقُودِ الْمَنَاكِحِ وَالْبَيْعَاتِ وَلِقَاءِ السُّلْطَانِ وَالْخُرُوجِ إِلَى سَفَرٍ فَهَذِهِ كُلُّهَا أَعْمَالٌ تَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ وَلَيْسَ الْإِنْسَانُ مَنْدُوبًا فِيهَا إِلَى الطَّهَارَةِ فَإِذَا تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَوُضُوؤُهُ وَغُسْلُهُ بَاطِلَانِ لَا يَرْتَفِعُ بِهِمَا حَدَثٌ وَلَا يُسْتَبَاحُ بِهِمَا صَلَاةٌ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَمْ يَكُنْ لِلطَّهَارَةِ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَهَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَ لِلتَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ فَهُوَ عَلَى حدثه ووضوء غَيْرُ مُجْزِئٍ وَلَكِنْ لَوْ تَوَضَّأَ لِرَفْعِ الْحَدَثِ وَالتَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَجْزَأَهُ لِأَنَّ التَّبَرُّدَ وَالتَّنَظُّفَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهْ.
والضرب الثالث: ما يصح فعله طَهَارَةٍ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ فِي فِعْلِهِ إِلَى الطَّهَارَةِ كَالْمُحْدِثِ إِذَا تَوَضَّأَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ طَاهِرًا أَوْ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمُقَامِ فِيهِ أَوْ لِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ وَأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ لِأَنْ يُؤَذِّنَ أَوْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَوْ لِأَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ أَوْ لِزِيَارَةِ قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَفِي صِحَّةِ وُضُوئِهِ وَارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَحَدَثَهُ مُرْتَفِعٌ، لِأَنَّهُ وَضَوْءٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، فَأَشْبَهَ وُضُوءَهُ لِمَا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَاسْتِشْهَادًا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: وَلَوْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَوْ قِرَاءَةِ مُصْحَفٍ فَجَمَعَ بَيْنَ الْوُضُوءِ لِلْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ لِلنَّافِلَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ وُضُوءَهُ بَاطِلٌ وَحَدَثَهُ بَاقٍ لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ لِمَا يَصِحُّ بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَأَشْبَهَ وُضُوءَهُ لِمَا لَمْ يُنْدَبْ فِيهِ إِلَى الْوُضُوءِ، وَحَمَلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ أَوْ لِقِرَاءَةِ مُصْحَفٍ أَنَّهُ أَرَادَ الْقَارِئَ فِي الْمُصْحَفِ إِذَا كَانَ حَامِلًا لَهُ.
وَمَنْ تَوَضَّأَ لِحَمْلِ مُصْحَفٍ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ لِأَنَّ حمل المصحف لا يجوز لمحدث (وعلى هذين الوجهين يَكُونُ الْجَوَابُ) فِيمَنْ تَوَضَّأَ يَنْوِي تَجْدِيدَ الطَّهَارَةِ لِأَنَّ تَجْدِيدَ الطَّهَارَةِ مَنْدُوبٌ(1/96)
إليه فيكون (في صحة) : الطهارة وجهان: فأما من توضأ ينوي الطهارة وحدها أجزأه وضوءه وارتفع حدثه لأن الطهارة ترفع الْحَدَثِ، وَلَكِنْ لَوْ نَوَى الْوُضُوءَ وَحْدَهُ فَالْوُضُوءُ قَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا فَيَكُونُ فِي ارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَجْهَانِ كَمَنْ تَوَضَّأَ لمندوب إليه.
فأما الْجُنُبُ: إِذَا نَوَى الْغُسْلَ وَحْدَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْغُسْلَ قَدْ يَكُونُ تَارَةً عِبَادَةً وَتَارَةً غَيْرَ عِبَادَةٍ (فَصَارَ نَاوِي الطَّهَارَةِ يُجْزِئُهُ وَنَاوِي الْغُسْلِ لَا يُجْزِئُهُ) وَفِي نَاوِي الْوُضُوءِ وَجْهَانِ:
فَأَمَّا الْجُنُبُ إِذَا نَوَى بِغُسْلِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أو المقام فِي الْمَسْجِدِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ الْجُنُبَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ وَلَا أَنْ يُقِيمَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَكِنْ لَوْ نَوَى أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ عَابِرُ سَبِيلٍ كَانَ فِي صِحَّةِ غُسْلِهِ وَجْهَانِ، لِأَنَّ غُسْلَهُ لِلْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَكَذَا لَوْ نَوَى غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهُ غُسْلٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فَلَوْ تَوَضَّأَ مُحْدِثٌ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَصَلَّاهَا ثُمَّ جَدَّدَ وَضَوْءَهُ لِلظُّهْرِ وَصَلَّاهَا ثُمَّ أحدث وقت العصر فتوضأ أو صلاها ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ غَسْلَ وَجْهِهِ فِي إِحْدَى الطَّهَارَاتِ الثَّلَاثِ، نَظَرَ فَإِنْ تَيَقَّنَ تَرْكَهُ مِنْ طَهَارَةِ الصُّبْحِ أَعَادَهَا وَلَمْ يُعِدِ الْعَصْرَ وَفِي إِعَادَةِ الظُّهْرِ وَجْهَانِ لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ لَهَا تَجْدِيدًا لَا فَرْضًا وَإِنْ تَيَقَّنَ تَرْكَهُ مِنْ طَهَارَةِ الظُّهْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَتُهَا وَلَا إِعَادَةُ الصُّبْحِ قَبْلَهَا وَلَا إِعَادَةُ الْعَصْرِ بَعْدَهَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُجَدِّدْ طَهَارَتَهُ لِلظُّهْرِ وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَهُ مِنْ طَهَارَةِ الْعَصْرِ أَعَادَهَا وَحْدَهَا، وَإِنْ شَكَّ وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيِّ طَهَارَةٍ تَرَكَهَا أَعَادَ الصُّبْحَ وَالْعَصْرَ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَرَكَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَفِي وُجُوبِ إِعَادَةِ الظُّهْرِ وَجْهَانِ لِأَنَّهُ تَوَضَّأَ لَهَا تَجْدِيدًا.
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَنْ تَصِحُّ مِنْهُ النِّيَّةُ:
فَتَصِحُّ فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهَا مِمَّنْ قَدْ جَمَعَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ وَالْإِسْلَامَ فَإِذَا كَانَ فِي حَالِ نِيَّتِهِ لِوُضُوئِهِ أَوْ غُسْلِهِ أَوْ تَيَمُّمِهِ عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا انْعَقَدَتْ نِيَّتُهُ وَصَحَّتْ طَهَارَتُهُ.
فَأَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْبَالِغِ إِذَا تَوَضَّأَ فَإِنْ كَانَ طِفْلًا لا يميز فوضوءه بَاطِلٌ وَطَهَارَتُهُ عَبَثٌ لِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ مِثْلِهِ لَا تَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مُرَاهِقًا مُمَيِّزًا صَحَّ وضوءه إِذَا نَوَى وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ حَتَّى لَوْ بَلَغَ بَعْدَ وُضُوئِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ الْوُضُوءُ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ لِصِحَّةِ قَصْدِهِ. أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ: " لَوْ أَحْرَمَ صَبِيٌّ بِصَلَاةٍ ثُمَّ بَلَغَ فِي تَضَاعِيفِهَا وَأَتَمَّهَا أَجْزَأَهُ " فَلَوْلَا صِحَّةُ نِيَّتِهِ فِي طَهَارَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَانْعِقَادِهَا بِقَصْدِهِ لَمْ تُجْزِهِ.
وَهَكَذَا لَوْ فَعَلَ صَبِيٌّ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَاغْتَسَلَ نَاوِيًا ثُمَّ بَلَغَ صَحَّ غُسْلُهُ وَارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ.
وَلَكِنْ لَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِنَفْلٍ أَوْ لِفَرْضٍ ثُمَّ بَلَغَ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ فَرْضًا بِحَالٍ لِأَنَّهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِفَرْضٍ فَصَارَ حِينَ تَيَمَّمَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى التَّيَمُّمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ الْفَرْضَ كَمَنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّفْلَ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ إِذَا تَوَضَّأَ فِي حَالِ جُنُونِهِ عَنْ حَدَثٍ أَوِ اغْتَسَلَ من جنابة لم يجزه وضوءه وَلَا غُسْلُهُ وَلَزِمَهُ إِعَادَةُ(1/97)
ذَلِكَ بَعْدَ إِفَاقَتِهِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ لِلصَّبِيِّ تَمْيِيزًا وَقَصْدًا وَلَيْسَ لِلْمَجْنُونِ قَصْدٌ وَلَا تَمْيِيزٌ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَلْزَمُهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ عَنْ حَدَثِهِ فِي كُفْرِهِ فَلَوْ كَانَ قَدْ تَوَضَّأَ مِنَ الْحَدَثِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ نَاوِيًا فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُجْزِيهِ لِأَنَّهُ أَصَحُّ قَصْدًا مِنَ الصَّبِيِّ وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ مِنْهُ مَعَ الْكُفْرِ انْعِقَادُ عِبَادَةٍ كَمَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ انْعِقَادُ الصَّلَاةِ وَخَالَفَ الصَّبِيَّ الَّذِي تَصِحُّ مِنْهُ انْعِقَادُ الصلاة، وأما إِذَا أَجْنَبَ الْكَافِرُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنَّ حُكْمَ جَنَابَتِهِ سَاقِطٌ بِإِسْلَامِهِ، فَإِنَّ اغْتِسَالَهُ مِنْهَا غَيْرُ وَاجِبٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ "، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْ جَمِيعَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْغُسْلِ مَعَ كَوْنِهِمْ غَالِبًا عَلَى جَنَابَةٍ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ حُكْمَ جَنَابَتِهِ بَاقٍ، وَإِنَّ الْغُسْلَ عَلَيْهِ بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَاجِبٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ حُكْمُ حَدَثِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَلَزِمَهُ الْوُضُوءُ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ جَنَابَتِهِ وَلَزِمَهُ الْغُسْلُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَالْبُلُوغِ وَهُمَا فِي حَالِ (الْحَدَاثَةِ) مِنْ غَيْرِ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَالْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ أَوْلَى أَنْ يَلْزَمَهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَأَمَّا الْمُرْتَدُّ إِذَا أَسْلَمَ جُنُبًا فَمَأْخُوذٌ بِجَنَابَتِهِ وَالْغُسْلُ مِنْهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِوِفَاقِ أَبِي سَعِيدٍ فَلَوْ كَانَ قَدِ اغْتَسَلَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ كَانَ على وجهين كالكافر.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ نَوَى فَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ أَجْزَأَهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُحْدِثْ نِيَّةَ أَنْ يَتَبَرَّدَ أَوْ يَتَنَظَّفَ فَيُعِيدُ مَا كَانَ غَسَلَهُ لتبرد أو لتنظف ".
قال الماوردي: أما تَقْطِيعُ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْ وَجْهِهِ وَحْدَهُ وَيَنْوِيَ عِنْدَ غَسْلِ ذِرَاعَيْهِ رَفْعَ الْحَدَثِ عَنْهُمَا لَا غَيْرَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ:(1/98)
أحدهما: لا يجزيه كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْطِيعُ النِّيَّةِ عَلَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّلَهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا فَلَمْ يَجُزْ تَقْطِيعُ النِّيَّةِ عَلَيْهَا فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَصُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي مُتَوَضِّئٍ غَسَلَ وَجْهَهُ نَاوِيًا بِهِ رَفْعَ الحدث جملة ثم استحصب حُكْمَ نِيَّتِهِ حَتَّى غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَيَّرَ النِّيَّةَ عِنْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ فَيُجْزِيهِ غَسْلُ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسْحُ رَأْسِهِ دُونَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا سَوَاءٌ قُلْنَا بِجَوَازِ تَقْطِيعِ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَاءِ الطهارة أولا لِأَنَّ نِيَّتَهُ الْأُولَى كَانَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ أَعْضَائِهِ فَارْتَفَعَ حَدَثُ مَا غَسَلَهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ وَلَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُ مَا غَيَّرَ فِيهِ النِّيَّةَ مِنْ غَسْلِ رِجْلَيْهِ وَلَا يُجْزِيهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهَذَا الْوُضُوءِ شَيْئًا حَتَّى يُعِيدَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ نَاوِيًا بغسلهما ما رَفْعَ الْحَدَثِ فَإِنْ فَعَلَ هَذَا وَالزَّمَانُ قَرِيبٌ لم يطل صح وضوءه وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/99)
باب سنة الوضوء
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ " ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ نَوْمٍ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ فَأُحِبُّ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ أَعْمَالِ وُضُوئِهِ التَّسْمِيَةُ فَيَقُولُ: " بِسْمِ اللَّهِ " وَهِيَ سنة. وقال أبو حامد الإسفرايني: هِيَ هَيْئَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْهَيْئَةِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ قَالَ: الْهَيْئَةُ مَا تَهَيَّأَ بِهِ لِفِعْلِ الْعِبَادَةِ، وَالسُّنَّةُ مَا كَانَتْ فِي أَفْعَالِهَا الرَّاتِبَةِ فِيهَا وهكذا نقول في غسل الكفين: وهذا يعد في العبارة مَعَ تَسْلِيمِ الْمَعْنَى.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: التسمية واجبة فإن تركها عامدا بطل وضوءه وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أَجْزَأَهُ.
وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ هِيَ وَاجِبَةٌ وَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَهِ عليه ".(1/100)
قالوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ ابْتِدَاؤُهَا إِلَى نُطْقٍ كَالصَّلَاةِ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فَلَمَّا كَانَتْ وَاجِبَاتُ الْوُضُوءِ مَأْخُوذَةً مِنْهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ: " تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ "، وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّسْمِيَةِ فِيهَا ذِكْرٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِأَعْضَائِهِ "، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ كَالصِّيَامِ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهَا التَّسْمِيَةُ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَدِيثِ فَضَعِيفُ الْإِسْنَادِ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقَيْنِ وَاهِيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَبُو فَضَّالٍ عَنْ جَدَّتِهِ عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَالثَّانِي: يَعْقُوبُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَيْسَ فِي التَّسْمِيَةِ حَدِيثٌ ثَبْتٌ وَلَوْ سَلِمَ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَحَمُّلَ التَّسْمِيَةِ عَلَى النِّيَّةِ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ دُونَ الْإِجْزَاءِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَمُنْتَقَضٌ بِالطَّوَافِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ كَانَ فِي أَوَّلِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مُبْتَدِئًا بِهَا عَلَى طَهَارَتِهِ فَإِنْ نَسِيَهَا فِي الِابْتِدَاءِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ يُسَمِّي إِذَا ذَكَرَهَا فِي ابْتِدَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ آخرها.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ مِنْ إِنَائِهِ عَلَى يَدَيْهِ فيغسلهما ثلاثا ".
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ غَسْلُ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ سُنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُتَوَضِّئٍ أَوْ مُغْتَسِلٍ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: غَسْلُ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ فَإِنْ غَمَسَهُمَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا نَجَّسَ الْمَاءَ سَوَاءٌ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ كَفَّيْهِ أَمْ لَا، وَقَالَ دَاوُدُ: غَسْلُهُمَا وَاجِبٌ لَكِنْ لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ نَجَاسَةَ كَفَّيْهِ.(1/101)
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: غَسْلُهُمَا وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ وَلَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنِ النَّجَاسَةَ.
وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، فَحَمْلَهُ الْحَسَنُ وَدَاوُدُ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ مِنَ النَّوْمِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ عَلَى نَوْمِ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَالْبَيَاتُ يَكُونُ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للأعرابي: " تَوَضَأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ اغْسِلْ وَجْهَكَ وَذِرَاعَيْكَ "، فَلَمْ يُقَدَّمْ فِي الْآيَةِ، وَالْخَبَرِ عَلَى الْوَجْهِ فَرْضًا وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ غَسْلُهُ فِي وُضُوئِهِ مِنْ غَيْرِ النَّوْمِ لَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ فِي وُضُوئِهِ مِنَ النَّوْمِ أَصْلُهُ سَائِرُ الْجَسَدِ.
وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَلَّا تَلْزَمَ تَكْرَارَ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ فِيهَا كَالتَّيَمُّمِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ التَّعْلِيلِ دَلِيلُنَا عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ خَوْفَ النَّجَاسَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْأَحْجَارَ وينامون فيعرقون وربما حصلت أيديهم موضع النجاسة فنجست وهذا متوهم وتنجسيها شَكٌّ وَمَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي تَنْجِيسِهِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قَيْسًا الْأَشْجَعِيَّ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: فَكَيْفَ بِنَا إِذَا أَتَيْنَا مِهْرَاسَكُمْ هَذَا، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكَ يَا قَيْسُ.
وَلَوْ كَانَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَاجِبًا عَلَى مَنْ أَرَادَ إِدْخَالَهُمَا فِي الْإِنَاءِ لَوَجَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يُدْخِلْهُمَا فِي الْإِنَاءِ.
فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غَسْلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا سُنَّةٌ فَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُتَوَضِّئٍ سَوَاءٌ قَامَ مَنْ نَوْمٍ أَوْ لَمْ يَقُمْ لَكِنَّهُ إِذَا قَامَ مِنْ نَوْمٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَغْسِلَهُمَا ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ فَإِنْ لَمْ يَقُمْ مِنْ نَوْمٍ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ (قَبْلَ غَسْلِهِمَا وَإِنْ شَاءَ غَسَلَهُمَا قبل إدخالهما) .
قال لِأَنَّ الْقَائِمَ مِنَ النَّوْمِ شَاكٌّ فِي نَجَاسَتِهِمَا وَغَيْرَ الْقَائِمِ مِنْ نَوْمٍ مُتَيَقِّنٌ لِطَهَارَتِهِمَا وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِيمَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ أَوْ لَمْ يَقُمْ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى (يغسلهما لِأَنَّهُ) لَمَّا اسْتَوَيَا فِي سُنَّةِ الْغَسْلِ وَإِنْ وَرْدَ النَّصُّ فِي(1/102)
الْقَائِمِ مِنَ النَّوْمِ فَاسْتَوَيَا فِي تَقْدِيمِ الْغَسْلِ عَلَى الْغَمْسِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ غَمَسَ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا فَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُمَا أَوْ شَكَّ فِيهِ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ يَدِهِ فَهِيَ نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ قَلِيلٍ فَيَكُونُ نجسا.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الِإنَاءِ فَيَغْرِفُ غَرْفَةً لِفِيهِ وَأَنْفِهِ وَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا وَيُبْلِغُ خَيَاشِيمَهُ الْمَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَيَرْفَقُ ".
قال الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِيِ فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي أَصْلِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ.
وَالثَّانِي: فِي صِفَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَصْلِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أربعة مذاهب.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَالِكٌ أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ، وَفِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ الْغُسْلُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى والصغرى معا.
والمذهب الثالث: وهو قول أحمد وداود وأبو ثَوْرٍ أَنَّ الِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبٌ فِي الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَالْمَضْمَضَةُ سُنَّةٌ فِيهِمَا.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَصَاحِبَيْهِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى مَسْنُونَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَهُمَا فِي الطَّهَارَتَيْنِ بِغُسْلِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُمَا وَفِعْلُهُ بَيَانٌ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِنْشَاقَ فِيهِمَا دُونَ الْمَضْمَضَةِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرْهُ " وَبِحَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أخبرني عن الوضوء قال: أسبغ الوضوء وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا ".(1/103)
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى إِيجَابِهَا فَيَ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى بِرِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَبِلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ " قَالَ: وَفِي الْأَنْفِ شَعْرٌ وَفِي الْفَمِ بَشَرَةٌ.
وَبِمَا رَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ أسباط عن سفيان عن سَعِيدٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً، قَالَ وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ سُنَّ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى كَالْأُذُنَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ مِنَ الْبَدَنِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ كَالْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَ شَعْرِ الْوَجْهِ، قَالَ وَلِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا لَا يَشُقُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِيهِمَا لَا يُفْطِرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا وَاجِبًا كَظَاهِرِ الْبَدَنِ.
قَالَ وَلِأَنَّ اللِّسَانَ يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ فِي التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ وهو دليل الْجَنَابَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] . فَكَانَ الْغُسْلُ وَحْدَهُ غاية الحكم.(1/104)
وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِلْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ تُفِيضِي عَلَيْكِ الْمَاءَ فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ ". فَكَانَ مِنْهُ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِفَاضَةِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ.
وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ تَذَاكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غُسْلَ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: " أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا طَهَارَةٌ عن حدث فوجب ألا يستحق فيها المضمضة والاستنشاق كغسل الميت ولأن مالا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْمَيِّتِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ مِنَ الْجُنُبِ كَالْعَيْنَيْنِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِقَوْلِهِ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ رَاوِيَهُ الْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَكَانَ الْحَارِثُ ضَعِيفًا وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنَ الشَّعْرِ وَالْبَشَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ شَعْرَ الْعَيْنِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ راويه أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً، أَنَّهُ رَوَاهُ بَرَكَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَكَانَ بَرَكَةُ مَشْهُورًا بِوَضْعِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَرِيضَةً يَعْنِي تَقْدِيرًا أَلَا تَرَاهُ جَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَالثَّلَاثُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عن قولهم إن كَانَ مَسْنُونًا فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى كَانَ مَفْرُوضًا في الطهارة الكبرى منتقض بِالْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ وَالتَّكْرَارِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ كُلَّ مَحَلٍّ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ لِأَنَّ غَسْلَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَاجِبٌ وَمِنَ الْجَنَابَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ.
فَإِنْ قَالُوا داخل العينين لا يجب غسله من وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَقِيلٌ لَا يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ فَهَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ عَلَى أَنَّ بُطُونَ الْجُفُونِ غَيْرُ صَقِيلَةٍ تَقْبَلُ النَّجَاسَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَقَلُّ مِنَ الدِّرْهَمِ فَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْجُفُونَ الْأَرْبَعَةَ أَكْثَرُ مِنَ الدِّرْهَمِ.(1/105)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا لَا يَشُقُّ فَهَذَا يُفْسَدُ بِالْحُلْقُومِ لِأَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِ بِالشُّرْبِ لَا يَشُقُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِيهِ لَا يُفْطِرُ وَهَذَا يُفْسَدُ بِدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ حُكْمُ الْجَنَابَةِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُ الْحَدَثِ بِعُضْوٍ ثُمَّ يَرْتَفِعُ بِغَسْلِ غَيْرِهِ كَالْمُحْدِثِ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ وَإِذَا غَسَلَ أَعْضَاءَهُ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يُمْنَعْ فَهَذَا جَوَابُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَوْجَبَهُمَا فِي الطَّهَارَتَيْنِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لهما فالجواب عنه أنه ليس له فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانًا المجمل فِي الْكِتَابِ وَالطَّهَارَةُ مَعْقُولَةٌ غَيْرُ مُجْمَلَةٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِنْشَاقَ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرَ، فَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَهُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَمَعْدُولٌ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا إِلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ فَهُوَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمُبَالَغَةِ وَتِلْكَ غير واجبة فلم يكن منه دليل.
فصل
وأما الفصل الثاني: في صِفَةِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَكَيْفِيَّتِهِمَا: أَمَّا الْمَضْمَضَةُ فَهِيَ إِدْخَالُ الْمَاءِ إِلَى مُقَدَّمِ الْفَمِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهَا إِدَارَتُهُ فِي جَمِيعِ الْفَمِ، وَالِاسْتِنْشَاقُ فَهُوَ إِدْخَالُ الْمَاءِ مُقَدَّمَ الْأَنْفِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ إِيصَالُهُ إِلَى خَيْشُومِ الْأَنْفِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِمَا سُنَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَيْهِمَا إلا أن يكون صائما فيبالغ في المضمضمة وَلَا يُبَالِغُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: " أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صَائِمًا ". وَالْفَرْقُ فِي الصَّائِمِ بَيْنَ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَلَا يُبَالِغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ بِإِطْبَاقِ حَلْقِهِ رَدُّ الْمَاءِ عَنْ وُصُولِهِ إِلَى جَوْفِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْمَاءِ بِخَيْشُومِهِ عن الوصول إلى رأسه. فإذا ما تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَالسُّنَّةُ فِيهِمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَفِي كَيْفِيَّتِهِمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهُ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَغْرِفُ الْمَاءَ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى فَيَأْخُذُ مِنْهُ بِفَمِهِ فَيَتَمَضْمَضُ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ بِأَنْفِهِ فَيَسْتَنْشِقُ ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَانِيَةً ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَالِثَةً كُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يُقَدِّمُ الْمَضْمَضَةَ ثَلَاثًا عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ وَدَلِيلُ ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثلاثا.(1/106)
والقول الثاني: راويه الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ بِغَرْفَتَيْنِ فَيَغْرِفُ غَرْفَةً فَيَتَمَضْمَضُ بِهَا ثَلَاثًا وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ ثُمَّ يَغْرِفُ غَرْفَةً ثَانِيَةً وَيَسْتَنْشِقُ بِهَا ثَلَاثًا.
وَدَلِيلُهُ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سُئِلَ عَنِ الْوُضُوءِ فَأَتَى بِالْمِيضَأَةِ إِلَى أَنْ قَالَ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا الْحَدِيثَ. وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتوضأ.
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَغْرِفُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلَاثًا مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ إِلَى أُصُولِ أُذُنَيْهِ وَمُنْتَهَى اللِّحْيَةِ إِلَى مَا أَقْبَلَ مِنْ وَجْهِهِ وذقنه ".
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ غَسْلُ الْوَجْهِ أَوَّلُ الْأَعْضَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْوُضُوءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى اغْسِلْ وَجْهَكَ وَذِرَاعَيْكَ وَامْسَحْ بِرَأْسِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ، وَتَوَضَّأَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إِلَّا بِهِ ".
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَحَدُّ الْوَجْهِ مُخْتَلِفٌ فِي الْعِبَارَةِ عَنْهُ فَحَدَّهُ الْمُزَنِيُّ هَكَذَا فَقَالَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ إِلَى أُصُولِ أُذُنَيْهِ وَمُنْتَهَى اللِّحْيَةِ إِلَى مَا أَقْبَلَ مِنْ وَجْهِهِ وَذَقْنِهِ.
وَحَكَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ حَدَّ الْوَجْهِ أَوْجَزُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ فَقَالَ: (حَدُّ الْوَجْهِ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ وَأُصُولِ الْأُذُنَيْنِ إِلَى مَا أَقْبَلَ مِنَ الذَّقَنِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَقَدْ حَدَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِغَيْرِ هَذَيْنِ فَقَالَ حَدُّهُ طُولًا مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إِلَى الذَّقْنِ وَعَرْضًا مِنَ الْأُذُنِ إلى الأذن.(1/107)
فَأَمَّا حَدُّ الْمُزَنِيِّ فَفَاسِدٌ لِأَنَّهُ حَدَّ الْوَجْهَ بِالْوَجْهِ وَإِذَا كَانَ الْوَجْهُ مَحْدُودًا بِمَا وَصَفْنَا فَالِاعْتِبَارُ بِالْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَعْلَى شَعْرُ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ مِنْ مُقَدَّمِهِ كَالْأَجْلَحِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِهِ، وَلَوِ انْحَدَرَ شَعْرُ رَأْسِهِ حَتَّى دَخَلَ فِي جَبْهَتِهِ كَالْأَغَمِّ كَانَ مِنْ وَجْهِهِ وَأَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَ هدبة بن خشرم:
(فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا)
فسما مَوْضِعَ الْغَمَمِ وَجْهًا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَعْرٌ.
فَصْلٌ
فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَالْجَبْهَةُ كُلُّهَا مِنَ الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ الْجَبِينَانِ مِنَ الْوَجْهِ أَيْضًا وَالنَّزْعَتَانِ مِنَ الرَّأْسِ، فَأَمَّا التَّحَاذِيفُ وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ فِي أَعَالِي الْجَبْهَةِ مَا بَيْنَ بَسِيطِ الرَّأْسِ وَمُنْحَدَرِ الْوَجْهِ تُوجَدُ الْحِفَافُ وَالتَّحْذِيفُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْجَبْهَةِ؟
فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَجْهِ لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ بِهِ مِنْ مُنْحَدَرِ الْوَجْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّزْعَتَانِ مِنَ الرَّأْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَعْرٌ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا فِي مُنْحَدَرِ الْوَجْهِ وَتَسْطِيحِهِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا حَدَّ الْوَجْهَ مِنْ قَصَاصِ الشَّعْرِ لِيَدْخُلَ فِيهِ مَوْضِعُ التَّحَاذِيفِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: هُوَ مِنَ الرَّأْسِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ بِنَبَاتِ الشَّعْرِ فِي الرَّأْسِ وَعَدَمِ نَبَاتِهِ فِي الْوَجْهِ، فَلَمَّا كَانَ شَعْرُ التَّحَاذِيفِ يَتَّصِلُ نَبَاتُهُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْسِ دُونَ الْوَجْهِ.
وَلِأَنَّ التَّحَاذِيفَ وَالْحِفَافَ مِنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّينَ وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ عَلَى عَادَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ الْمَوْضِعُ تَارَةً مِنَ الْوَجْهِ إِنْ حُفَّ وَتَارَةً مِنَ الرَّأْسِ إِنْ لَمْ يُحَفَّ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا حَدَّ الْوَجْهَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ مَوْضِعُ التَّحَاذِيفِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدِي لِأَنَّ اسْمَ الْوَجْهِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا حَصَلَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الصُّدْغَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمَا هَلْ هُمَا مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْوَجْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ هُمَا مِنَ الْوَجْهِ لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ بِهِمَا كَالْجَبِينِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ هُمَا مِنَ الرَّأْسِ لِاتِّصَالِ شَعْرِهِمَا بِشَعْرِ الرَّأْسِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ مَا اسْتَعْلَى مِنَ الصُّدْغَيْنِ عَنِ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ وَمَا انْحَدَرَ عَنِ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ مَحْدُودٌ بِالْأُذُنَيْنِ فَمَا عَلَا مِنْهُمَا لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّهِ.(1/108)
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا كَانَ أَمْرَدَ غَسَلَ بَشَرَةَ وَجْهِهِ كُلَّهَا وَإِنْ نَبَتَتْ لِحْيَتُهُ وَعَارِضَاهُ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى لِحْيَتِهِ وَعَارِضَيْهِ وَإِنْ لَمَ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَى بَشَرَةِ وَجْهِهِ الَّتِي تَحْتَ الشَّعْرِ أَجْزَأَهُ إِذَا كان شعره كثيفا ".
قال الماوردي: وهذا صحيح، وجملته أن وجه الْمُتَوَضِّئِ لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَمْرَدًا لَا شَعْرَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِلَ الْمَاءَ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرَةِ فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجْزِهِ حتى يستوعب جميعه.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَا لِحْيَةٍ كَثِيفَةٍ قَدْ سَتَرَتِ الْبَشَرَةَ فَيَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبَشَرَةِ وَإِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى الشَّعْرِ السَّاتِرِ لِلْبَشَرَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَ الشَّعْرِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ إِنَّ عَلَيْهِ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَ الشَّعْرِ كَالْجَنَابَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْوُضُوءِ كَاسْتِحْقَاقِهِ فِي الْجَنَابَةِ،، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ فِي الْوُضُوءِ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الْجَنَابَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ لَزِمَهُ إِيصَالُهُ إِلَى مَا تَحْتَ اللِّحْيَةِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ بَشَرَةِ الْوَجْهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . وَاسْمُ الْوَجْهِ يَتَنَاوَلُ مَا يَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَمَا تَحْتَ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ لَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الِاسْمُ وَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ الْحُكْمُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ وَغَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً، وَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَصِلُ فِيهَا الْمَاءُ إِلَى مَا تَحْتَ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فِي الْعَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْفَرْضُ إِلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ، وَبِالْعَادَةِ فَرَّقْنَا بَيْنَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَبَيْنَ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ لِأَنَّ شَعْرَ اللِّحْيَةِ يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فِي الْعَادَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ غَسْلُ مَا تَحْتَهُ وَشَعْرُ الذِّرَاعَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ لَا يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فِي الْعَادَةِ فَلَزِمَ إِذَا صَارَ كَثِيفًا فِي النَّادِرِ أَنْ يُغْسَلَ مَا تَحْتَهُ، وَأَمَّا الْغَسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ مُسْتَحَقٌّ فِي الجنابة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً "، وَفِي الْوُضُوءِ إنما يلزمه غسل ما ظهر لقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْبَشَرَةِ لَا يَلْزَمُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى جَمِيعِ الشَّعْرِ الظَّاهِرِ، وَإِنْ تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجِزْهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَلْزَمُهُ أَنْ يَغْسِلَ الرُّبْعَ مِنْ شَعْرِ اللِّحْيَةِ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْخُفَّيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَغْسِلَ شَيْئًا مِنْهُمَا وَهَذَا خَطَأٌ(1/109)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ عَلَى بَشَرَةِ الْوَجْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غَسْلُهُ كَالْحَاجِبَيْنِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ اسْتِيعَابَ غَسْلِهِ وَاجِبٌ فَفَرْضُ الْغَسْلِ يَنْتَقِلُ عَنِ الْبَشَرَةِ إِلَى الشَّعْرِ عَلَى سَبِيلِ الْأَصْلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ غَسَلَ الشَّعْرَ ثُمَّ ذَهَبَ شَعْرُهُ، فَظَهَرَتِ الْبَشَرَةُ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهَا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: فَرْضُ الْغَسْلِ يَنْتَقِلُ إِلَى الشَّعْرِ عَلَى سَبِيلِ البدل، فإن ظهرت الْبَشَرَةُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّعْرِ لَزِمَهُ غَسْلُهَا كَظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ فَرْضَ الْغَسْلِ يَتَعَلَّقُ بِالشَّعْرِ دُونَ الْبَشَرَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجِزْهُ، وَخَالَفَ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَجْزَأَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَإِلَى شَعْرِ اللِّحْيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْأَصْلِ.
فَأَمَّا الْبَيَاضُ الَّذِي بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْعِذَارِ فَهُوَ مِنَ الْوَجْهِ يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْمُلْتَحِي وَغَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهُ مِنَ الْمُلْتَحِي لِأَنَّ شَعْرَ الْعِذَارِ حَائِلٌ بَيْنَهُ وبين الوجه وهذا خطأ، لأن عليا بْنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ إِبْهَامَيْهِ فِي أُصُولِ أُذُنَيْهِ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مِنَ الْوَجْهِ لَمْ يَسْتُرْهُ شَعْرُ اللِّحْيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فَرْضُ غَسْلِهِ كَالْوَجْنَةِ وَالْجَبْهَةِ.
فَصْلٌ: وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ
مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَكُونَ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ لَا يَسْتُرُهُ شَعْرُ الْبَشَرَةِ فَهَذَا يَلْزَمُهُ غَسْلُ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى غَسْلِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ مُوَاجِهٌ بِهِمَا جَمِيعًا فَلَوْ غَسَلَ الشَّعْرَ دُونَ الْبَشَرَةِ، أَوِ الْبَشَرَةِ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجِزْهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الْوَجْهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ عَلَيْهِ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ وَإِنْ كَانَ الشَّعْرُ خَفِيفًا لِأَنَّ الْبَشَرَةَ بَاطِنَةٌ كَمَا لَوْ كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ وَقَالَ: " هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي " وَلِأَنَّهَا بَشَرَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ وَجْهِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهَا كَالَّتِي لَا شَعْرَ عَلَيْهَا وَلِأَنَّهُ حَائِلٌ لَهُ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ فَرْضُ الْمَحَلِّ قِيَاسًا على لبس خف مخرق.(1/110)
فصل: والحالة الرَّابِعَةُ
أَنْ يَكُونَ بَعْضُ شَعْرِهِ خَفِيفًا لَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ وَبَعْضُهُ كَثِيفًا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْكَثِيفُ مُتَفَرِّقًا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْخَفِيفِ لَا يَمْتَازُ مِنْهُ وَلَا يَنْفَرِدُ عَنْهُ فَهَذَا يَلْزَمُهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ مَعًا لِأَنَّ إِفْرَادَ الْكَثِيفِ بالغسل يشق وإمراره على الخفيف لا يجزي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَفِيفُ مُتَمَيِّزًا مُنْفَرِدًا عَنِ الْكَثِيفِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا تَحْتَ الْخَفِيفِ دُونَ الْكَثِيفِ اعْتِبَارًا بِمَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ وَلَوْ غَسَلَ بَشَرَةَ جَمِيعِهِ كَانَ أَوْلَى.
فَأَمَّا شَعْرُ الْحَاجِبَيْنِ وَأَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ وَالشَّارِبِ وَالْعَنْفَقَةِ فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الْأَرْبَعَةُ يَلْزَمُهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهَا مِنَ الْبَشَرَةِ سَوَاءٌ كَانَ شَعْرُهَا خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا.
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَبَعْضُهُمْ يصله بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَنْسُوا الْمَغْفَلَةَ وَالْمَنْشَلَةَ "، فَالْمَغْفَلَةُ: الْعَنْفَقَةُ وَالْمَنْشَلَةُ مَا تَحْتَ الْخَاتَمِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ مَوَاضِعُ يَخِفُّ شَعْرُهَا فِي الْغَالِبِ فَإِنْ كَثُفَتْ كَانَ نَادِرًا فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُ الْغَسْلِ عَنِ الْبَشَرَةِ كَشَعْرِ الذِّرَاعَيْنِ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ فاعتبر حكمه بما بينهما.
فَصْلٌ: فَأَمَّا صِفَةُ الْغَسْلِ
: فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَكَذَا فَعَلَ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لَهُ، وَلِأَنَّهُ أَسْبَغُ لِغَسْلِ وَجْهِهِ فَيَبْدَأُ بِأَعْلَى وَجْهِهِ ثُمَّ يَنْحَدِرُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنُ لَهُ فَيَجْرِي الْمَاءُ بِطَبْعِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ مَسَّ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَسِنُهُ وَالسَّنُّ بِغَيْرِ إِعْجَامٍ صَبُّ الْمَاءِ وَبِالشِّينِ تَفْرِيقُ الْمَاءِ ثُمَّ يَمُرُّ بِيَدَيْهِ بِالْمَاءِ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ الْمَاءُ جَمِيعَ مَا يَجِبُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ خَالَفَ مَا وَصَفْنَا فِي الِاخْتِيَارِ وَأَوْصَلَ الْمَاءَ إِلَى جَمِيعِ وَجْهِهِ أَجْزَأَهُ فَأَمَّا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْعَيْنَيْنِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا سُنَّةٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا فَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كان يفضله.(1/111)
وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِيهِ وَيَنَالُهُ فَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان إذا تؤضأ مَسَحَ بِأُصْبُعَيْهِ آمَاقَ عَيْنَيْهِ.
فَلَوْ كَانَ غَسْلُ الْعَيْنَيْنِ مَسْنُونًا أَوْ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ احْتِيَاطًا لِنَفْسِهِ أَوْ بَيَانًا لِغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَيُدْخِلُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فِي الْغَسْلِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ غَسَلَ مَا بَقِيَ مِنْهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وإن كَانَ أَقْطَعَهُمَا مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ فيهما. وأحب أن لو أمس موضهما الماء ".
قال الْمَاوَرْدِيُّ: غَسْلُ الذِّرَاعَيْنِ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا غَسَلَهُمَا لَزِمَهُ غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ مَعَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ إِلَّا زفر بن الهذيل، فَإِنَّهُ قَالَ: غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى جعلهما ما حَدًّا فَقَالَ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . وَالْحَدُّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . فَجَعَلَ اللَّيْلَ حَدًّا فَلَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيمَا لَزِمَ إِتْمَامُهُ مِنَ الصِّيَامِ وَكَمَا قَالَ بِعْتُكَ الدَّارَ وَحْدَهَا إِلَى الدُّكَّانِ لَمْ يَكُنِ الدُّكَّانُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . فَكَانَ الدَّلِيلُ فِي الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى مَعَ وَلَيْسَتْ غَايَةً لِلْمَحْدُودِ فَتَصِيرُ حَدًّا وَتَقْدِيرُهُ مَعَ الْمَرَافِقِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] . أَيْ مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، وَكَقَوْلِهِ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف؛ 14] . أَيْ مَعَ اللَّهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِلَى وَإِنْ كَانَتْ حَدًّا وَغَايَةً فَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْحَدَّ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لَمْ يَدْخُلْ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ بِعْتُكَ الثَّوْبَ(1/112)
مِنَ الطَّرَفِ إِلَى الطَّرَفِ فَيَدْخُلُ الطَّرَفَانِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِهِ وَكَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ إِمْسَاكُ اللَّيْلِ فِي جُمْلَةِ الصِّيَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّهَارِ ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ أَدَارَ يَدَيْهِ عَلَى مِرْفَقَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِيجَابَ غَسْلِهِمَا مَا لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ قَبْلَ زفر فَكَانَ زفر محجوبا بإجماع من تقدمه.
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غَسْلَ الذِّرَاعَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَاجِبٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ أحد أمرين:
الأول: إما أن تكون يده سليمة أو قطعا، فَإِنْ كَانَ سَلِيمَ الْيَدِ بَدَأَ بِغَسْلِ ذِرَاعِهِ الْيُمْنَى فَأَجْرَى الْمَاءَ عَلَيْهِ وَأَدَارَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بَدَأَ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ إِلَى مِرْفَقِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ بَدَأَ مِنْ مِرْفَقِهِ إِلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَوَقَفَ مَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى يَسَارِهِ يَفْعَلُ كَذَلِكَ ثَلَاثًا ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَهُ الْيُسْرَى كَذَلِكَ ثَلَاثًا فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الْكَفِّ بَاقِيَ الذِّرَاعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الذِّرَاعَ مَعَ الْمِرْفَقِ وَفَرْضُ الْكَفِّ قد سقط بزواله إلى غير بدل.
والحالة الثانية: أن يكون أقطع الذراع يأتي الْمِرْفَقِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الْمَرْفِقَ لِبَقَائِهِ مِنْ جملة المفروض في الغسل.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الذِّرَاعِ وَالْمِرْفَقِ فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ فِيهِ لِزَوَالٍ مَا فُرِضَ غَسْلُهُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَمَسَّ مَوْضِعَهُ الْمَاءَ اخْتِيَارًا لَا وَاجِبًا.
وَأَنْكَرَ ابْنُ دَاوُدَ ذَلِكَ عَلَى الشَّافِعِيِّ إِنْكَارَ عِنَادٍ وَعَنَتٍ وَالْوَجْهُ فِي اسْتِحْبَابِهِ ذَلِكَ أُمُورٌ مِنْهَا الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ غَسْلَهُ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ خَلَفًا فِيمَا فَاتَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ مَوْضِعٌ قَدْ يَصِلُ إِلَيْهِ الْمَاءُ فِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فَلَمْ يقدم ذلك لزوال الْعُضْوِ.
وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَهُمَا مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ فِيهِمَا، فَنَقَلَ جَوَابَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ هَذَا غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ أَوْ سَهْوٌ فِي النَّقْلِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَقْطَعَ الذِّرَاعَيْنِ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ لَزِمَهُ غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ فِيهِمَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ جَوَابُ الْمُزَنِيِّ صَوَابٌ وَنَقْلُهُ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا غَلِطَ عَلَيْهِ فِي التَّأْوِيلِ وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ أَيْ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقَيْنِ فَحُذِفَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا وَاكْتَفَى بِفَهْمِ السَّامِعِ. ,(1/113)
فَصْلٌ
إِذَا خُلِقَتْ لِرَجُلٍ يَدٌ زَائِدَةٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا خَارِجًا مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ أَوْ مِنْ فَوْقِهِ. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ فَغَسْلُهُمَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ مَعَ ذِرَاعَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي كَفِّهِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا فَوْقَ الْمِرْفَقِ مِنَ الْيَدِ الزَّائِدَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا قَبْلَ الْمِرْفَقِ مِنَ الْيَدِ الزَّائِدَةِ إِلَى مَا انْحَدَرَ مِنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِخُرُوجِ أَصْلِهِ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُهُ لِمُشَارَكَتِهِ فِي اسْمِ الْيَدِ وَمُقَابَلَتِهِ مَحَلَّ الْفَرْضِ، فَلَوِ اسْتَرْسَلَتْ جِلْدَةٌ مِنْ عَضُدِهِ، فَإِنْ لم تلتصق بالذراع لم يلزمه غسلها، لأنها غير متصلة بمحل الفرض ولا ينطلق عليها اسم اليد.
وإن التصقت بالذراع إلى المرفق وَجَبَ غَسْلُهَا لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالِالْتِصَاقِ فِي حُكْمِ الذِّرَاعِ.
فَأَمَّا إِنِ اسْتَرْسَلَتْ جِلْدَةٌ مِنَ الذِّرَاعِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِهَا سَوَاءٌ الْتَصَقَتْ بِالْعَضُدِ أَمْ لَا لِأَنَّهَا مِنَ الذراع. والله أعلم.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ ثَلَاثًا وَأُحِبُّ أَنْ يَتَحَرَّى جَمِيعَ رَأْسِهِ وَصُدْغَيْهِ يَبْدَأُ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَسْحُ الرَّأْسِ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ مَسْحُهُ منه على ثلاث مَذَاهِبَ شَتَّى.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ ما ينطلق اسم المسح عليه ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا.
وَقَالَ مَالَكٌ الْوَاجِبُ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ فَإِنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ عَامِدًا لَمْ يُجِزْهُ وَإِنْ تَرَكَ أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ. . وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى مَسْحِ جَمِيعِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَعَنْ أبي حنيفة روايتان:
أحدهما: أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ النَّاصِيَةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ النَّزْعَتَيْنِ.
وَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ وَبِهَا قَالَ أبو يوسف: إن الواجب مسح ربعه بثلاثة أَصَابِعَ فَإِنْ مَسَحَ الرُّبُعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ أَقَلَّ مِنَ الرُّبُعِ لَمْ يُجِزْهُ، فَحَدُّ الْمَمْسُوحِ وَالْمَمْسُوحِ بِهِ.(1/114)
فأما مالك فاستدل بقوله تعالى: ِ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ يَمْسَحَ جميع ما انطلق عليه اسم الرأس، وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى ما قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الذي بدأ منه، وبحديث الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ فَلَمَّا بَلَغَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ فَأَمَرَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ الْقَفَا ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
ولأنه أحد الأعضاء الظاهرة فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِيعَابُهُ بِالتَّطْهِيرِ وَاجِبًا كَالْوَجْهِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ مَحَلًّا لِفَرْضِ الْمَسْحِ تَعَلَّقَ بِهِ فَرْضُ الْمَسْحِ أَصْلُهُ الْبَعْضُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، وَمِنْهُ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُدْخِلُ فِي الْكَلَامِ حَرْفًا زَائِدًا إِلَّا بِفَائِدَةٍ، وَالْبَاءُ الزَّائِدَةُ، قَدْ تَدْخُلُ فِي كَلَامِهِمْ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا لِلْإِلْصَاقِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَصِحُّ الكلام بحذفها، ولا يتعدى الفعل إلى مفعوله إِلَّا بِهَا كَقَوْلِهِمْ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . لِمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَقُولُوا مَرَرْتُ زَيْدًا، وَلْيَطَّوَّفُوا الْبَيْتَ كَانَ دُخُولُ الْبَاءِ لِلْإِلْصَاقِ، وَلِتَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَإِمَّا لِلتَّبْعِيضِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَصِحُّ الْكَلَامُ بِحَذْفِهَا، وَبِتَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ بَعْدَهَا لِيَكُونَ لِزِيَادَتِهَا فَائِدَةٌ.
فَلَمَّا حَسُنَ حَذْفُهَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: {وامسحوا رءوسكم} [المائدة: 6] ، صَلَحَ دَلَّ عَلَى دُخُولِهَا لِلتَّبْعِيضِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَ كَلِمَةٍ اقْتَصَرُوا عَلَى أَوَّلِ حَرْفٍ مِنْهَا اكْتِفَاءً بِهِ، عَنْ جَمِيعِ الْكَلِمَةِ كَمَا قيل في قوله تعالى: {كهيعص} أَنَّ الْكَافَ مِنْ كَافِي، وَالْهَاءَ مِنْ هَادِي، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافِ. أَيْ وَقَفْتُ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: نَادَوْهُمْ أَنْ أَلْجِمُوا أَلَا تَا فَقَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا، وَمَعْنَاهُ نَادَوْهُمْ أَنْ أَلْجِمُوا أَلَا تركبون قالوا جميعا ألا فاركبوا.(1/115)
وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ كَانَتِ الْبَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (المائدة: 6) ، مُرَادًا بها بعض رؤوسكم لِأَنَّهَا أَوَّلُ حَرْفٍ مِنْ بَعْضٍ.
وَالدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ أَوْ قَالَ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَرَوَى أَبُو مَعْقِلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتوضأ عليه عمامةٌ فطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رَأْسِهِ وَلَمْ يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ تَرَكَهُ نَاسِيًا فِي الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ فُرُوضِ الطَّهَارَةِ كَمَسْحِ الْأُذُنَيْنِ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَيْ دَلِيلِنَا مِنْهَا، فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بن زيد والمقدام بن معد يكرب فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَأَنَسٍ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ فَمُنْتَقَضٌ بِمَسْحِ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَحَلٌّ لِفَرْضِ المسح وليس مسح جميعه واجب
(فصل: استدلال أبي حنيفة)
وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ رُبُعِهِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، قَالَ وَالنَّاصِيَةُ رُبُعُ الرَّأْسِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْمُوجِبَةِ لِمَسْحِ الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِرُبُعٍ وَلَا ثُلُثٍ ثُمَّ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح مقدم رأسه وذلك أَقَلُّ الرُّبُعِ، لِأَنَّهُ مَسَحَ بِالْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ مِنْهُ مَا انْطَلَقَ اسْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ قياساُ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ مَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَى الرُّبُعِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ، فَلَمْ(1/116)
يَتَقَدَّرْ فَرْضُهُ بِالرُّبُعِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، ولأن التقدير لا يثبت قياساً ولا سيما أبي حنيفة، وَلِأَنَّ تَقْدِيرَهُ بِالرُّبُعِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ قَدْرِهِ بِأَقَلَّ مِنْهُ أَوْ بِأَكْثَرَ فَكَانَ مُطَّرِحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ: استحباب مسح جميع الرأس)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَرْضَ فِي الرَّأْسِ مَسْحُ بَعْضِهِ وَإِنْ قَلَّ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسَحَ جَمِيعَهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ والمقدام بن معد يكرب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بَجَمِيعِ رَأْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ بِاسْتِيعَابِ مَسْحِ رَأْسِهِ مُؤَدِّيًا بِالْإِجْمَاعِ فَرْضَ مَا مَسَحَهُ، فَإِذَا أَرَادَ مَسْحَ رَأْسِهِ كُلِّهِ مَسَحَ بِيَدَيْهِ عَلَى مَا وَصَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَيَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْمَاءِ وَيَبْدَأُ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَيُمِرُّهُمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى مُقَدَّمِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَيَمْسَحُ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَصُدْغَيْهِ. فَمَنْ جَعَلَ مِنْ أَصْحَابِنَا الصُّدْغَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ قَالَ إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِاسْتِيعَابِ مَسْحِ الرَّأْسِ.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُمَا مِنَ الرَّأْسِ قَالَ إِنَّمَا أَمَرَ بِمَسْحِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْهُ لِيَصِيرَ بِالْمُجَاوَرَةِ إِلَيْهِمَا مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ الرَّأْسِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَوْعَبَ مَسْحَ رَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: السُّنَّةُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَا زَادَ عَنِ الْمَرَّةِ مَكْرُوهٌ استدلالاُ بِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح رأسه مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ فِي الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ التَّكْرَارُ فِيهِ مَسْنُونًا كَالتَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ وَاسْتِيعَابَهُ سُنَّةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ تَكْرَارُ مَسْحِهِ سُنَّةً ثَانِيَةً لِأَنَّ الْعُضْوَ الْوَاحِدَ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ سُنَّتَانِ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ عُضْوٌ فِي الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِ سُنَّتَانِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَلِأَنَّ الْمَسْنُونَ فِي الرَّأْسِ الْمَسْحُ وَفِي تَكْرَارِهِ خُرُوجٌ عَنْ حَدِّ المسح إلى الغسل والغسل غير مسنون فكذلك مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِنْ تَكْرَارِ الْمَسْحِ غَيْرُ مَسْنُونٍ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ حُمْرَانَ وَشَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَأَبُو(1/117)
رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا. وَرَوَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ مَسْنُونًا قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْوُضُوءِ فَكَانَ التَّكْرَارُ مَسْنُونًا فِيهِ كَالْغَسْلِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ بِأَنَّهُ مَسَحَ مَرَّةً فَهُوَ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْجَوَازِ، وأحاديثنا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهَا طَهَارَةٌ أُسْقِطَ فِيهَا الْمَسْنُونُ وَاقْتُصِرَ عَلَى بَعْضِ الْفَرْضِ، فَكَأَنَّ التَّكْرَارَ أُسْقِطَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَسْحُ الرَّأْسِ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْعُضْوَ الْوَاحِدَ لَا يَدْخُلُهُ الْمَسْنُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَغَلَطٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَجْهَ فِيهِ سُنَّتَانِ: الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالتَّكْرَارُ ثَلَاثًا فَكَذَا الرَّأْسُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يَصِيرُ بِتَكْرَارِ الْمَسْحِ مَغْسُولًا فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَكْرُوهَ هُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِغَسْلِهِ وَهَذَا لَمْ يُبْتَدَأْ بِهِ، وَإِنَّمَا أَفْضَى إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَصِيرُ مَغْسُولًا لِأَنَّ حَدَّ الْغَسْلِ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِتَكْرَارِ مَسْحِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَفِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ فَرْضٌ وَسُنَّتَانِ وَهَيْئَةٌ، فَأَمَّا الْفَرْضُ فَمَسْحُ بعضه وإن قيل، وَأَمَّا السُّنَّتَانِ فَإِحْدَاهُمَا، اسْتِيعَابُ جَمِيعِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: تَكْرَارُهُ ثَلَاثًا، وَأَمَّا الْهَيْئَةُ فَالْبِدَايَةُ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ إِذْهَابُ يَدَيْهِ إِلَى مُؤَخَّرِهِ ثُمَّ رَدُّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرْضِ فَمَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ إِذَا مَسَحَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ مَسَحَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ فِي الْإِمْكَانِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالرَّأْسِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ كَالْفِدْيَةِ عَلَى الْمُحَرَّمِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهُ بِهَذَا الْعَدَدِ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ وَمَا دُونَهَا بَلْ يَكُونُ مَسْحُ أَقَلِّهِ مُعْتَبَرًا بِأَنْ يَمْسَحَ بِأَقَلِّ شَيْءٍ مِنْ إِصْبَعِهِ عَلَى أَقَلِّ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِهِ، فَيَكُونُ هُوَ الْأَقَلُّ الَّذِي لَا يُجْزِئُ دُونَهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فِي العرف وما(1/118)
دُونَهُ خَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ، فَامْتَنَعَ مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ أَنْ يَكُونَ حَدًّا، وَكَانَ مَا وَافَقَ الْعُرْفَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَدًّا.
(فَصْلٌ: القول في المسح على العمائم)
وإذا مسح بعض رأسه فيحتار أَنْ يُكْمِلَ ذَاكَ بِمَسْحِ الْعِمَامَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِرِوَايَةِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ.
فَأَمَّا إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ الْعِمَامَةِ وَحْدَهَا دُونَ الرَّأْسِ لم يجزيه فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حنبل وسفيان الثوري يجزيه اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمُ الْبَرْدُ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرهم أن يمسحوا على العصائب والنساخين، يعني بالعصائب العمائم، والنساخين يَعْنِي بِهِ الْخِفَافَ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ يَسْقُطُ فِي التَّيَمُّمِ فَجَازَ الِاقْتِصَارُ بِالْمَسْحِ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ كَالرِّجْلَيْنِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، فَأَوْجَبَ الظَّاهِرُ تَعَلُّقَ الْفَرْضِ بِالرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ " وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ لَا يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ كَالْوَجْهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يمسحوا على العمائم والنساخين، فَقَدْ كَانَتْ عَمَائِمُ الْعَرَبِ إِذْ ذَاكَ صِغَارًا وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَصَائِبَ لِصِغَرِهَا وَلَمْ تَكُنْ تَعُمُّ جَمِيعَ الرَّأْسِ وَلَا تَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَسْحِ إِلَيْهِ، إِمَّا مُبَاشَرَةً أَوْ بَلَلًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على الخفين، فالمعنى فيه لحوق المشقة بنزعهما وَأَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ اسْتِيعَابُ غَسْلِهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الرَّأْسِ لِأَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ بَعْضِهِ وَلَا يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ سَتْرِ رَأْسِهِ.
(فَصْلٌ)
: فإذا ثبت أن الفرض مباشرة الرأسة بِهِ فَسَوَاءٌ كَانَ مَحْلُوقَ الشَّعْرِ فَمَسَحَ بَشَرَةَ الرَّأْسِ أَوْ كَانَ نَابِتَ الشَّعْرِ فَمَسَحَ عَلَى الشَّعْرِ دُونَ الْبَشَرَةِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ اسْمَ الرَّأْسِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا فَلَوْ كَانَ بَعْضُ رَأْسِهِ مَحْلُوقًا وَبَعْضُهُ شَعْرًا نَابِتًا كَانَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ مَسَحَ عَلَى الْمَوْضِعِ الْمَحْلُوقِ مِنْهُ أَوْ مَسَحَ عَلَى الشَّعْرِ النَّابِتِ فَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِ رَأْسِهِ ثُمَّ حَلَقَهُ أَجْزَأَهُ الْمَسْحُ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ قَدْ كَانَ وَاقِعًا فِي مَحَلِّهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ كَشَطَ جِلْدَةً مِنْهُ أَجْزَأَهُ غَسْلُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبَشَرَةِ تَحْتَ الْجِلْدِ الْمَكْشُوطِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَا جُمَّةٍ عَلَى رأسه فَلَهُ فِي مَسْحِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:(1/119)
أَحَدُهَا: أَنْ يَمْسَحَ أَصْلَ الْجُمَّةِ النَّابِتَةِ عَلَى الرأس فيجزيه سَوَاءٌ وَصَلَ بَلَلُ الْمَسْحِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَمْ لَا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَا جُمَّةٍ فمسح طرف شعره النابت أجزأه.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْسَحَ عَلَى أَطْرَافِ الْجُمَّةِ وَأَهْدَابِ الشعر الخارج عن حد الرأس فلا يجزيه لِأَنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِمَا عَلَا فَكَانَ الْمُسْتَرْسِلُ مِنْهُ لَا يُسَمَّى رَأْسًا فَلَمْ يُجْزِئْهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَهَكَذَا لَوْ عَقَصَ أَطْرَافَ شَعْرِهِ الْمُسْتَرْسِلِ وَشَدَّهُ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ وَمَسَحَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَائِلًا دُونَ الرَّأْسِ كَالْمَسْحِ على العمامة.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمْسَحَ مِنْ شَعْرِ جُمَّتِهِ مَوْضِعًا لَا يَخْرُجُ عَنْ مَنَابِتِ رَأْسِهِ وَلَا يَتَجَاوَزُ حده ففي إجزائه وجهان:
أحدها: لَا يَجُوزُ لِاسْتِرْسَالِهِ كَمَا لَوْ مَسَحَ الْمُسْتَرْسِلَ الْخَارِجَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أصح أن يجزيه لِأَنَّهُ مَسَحَ شَعْرًا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ فَصَارَ كَمَسْحِهِ أُصُولَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة: القول في مسح الأذنين)
قال الشافعي رضي الله عنه: وَيَمْسَحُ أُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا بماءٍ جديدٍ وَيُدْخِلُ أُصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ وَاجِبٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ أُذُنَيْهِ حِينَ تَوَضَّأَ، وَعِنْدَهُ أَنَّ أَفْعَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْوُجُوبِ مَا لَمْ يَصِرْ فِيهَا دَلِيلٌ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ " فَلَمَّا اقْتَصَرَ بِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ انْتَفَى وُجُوبُ مَا عَدَاهَا وَهَذَا مُخَصَّصٌ لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ دَلِيلًا عَلَى الْإِيجَابِ فَكَيْفَ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَسْحَ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِمَا هَلْ هُمَا مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْوَجْهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:(1/120)
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الرَّأْسِ وَلَا مِنَ الْوَجْهِ، بَلْ هَمَّا سُنَّةٌ على حيالهما فيمسحان بِمَاءٍ جَدِيدٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة ومالك أنهما من الرأس لكن قال أبو حنيفة يُمْسَحَانِ مَعَ الرَّأْسِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَمْسَحُهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ يُغْسَلَانِ مَعَهُ وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مِنَ الْوَجْهِ يُغْسَلُ مَعَهُ، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهُمَا مِنَ الرَّأْسِ يُمْسَحُ مَعَهُ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ بِرِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ ".
وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) {الأعراف: 150) . أَيْ بِأُذُنِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأُذُنُ رَأْسًا، قَالَ وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ مُتَّصِلٌ بِالرَّأْسِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ حُكْمًا قِيَاسِيًّا عَلَى جَوَانِبِ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: " سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ "، فَأَضَافَ السَّمْعَ إِلَى الْوَجْهِ وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْوَجْهِ وَمَا أَدْبَرَ مِنَ الرَّأْسِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْوَجْهَ مَا حَصَلَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَالْمُوَاجَهَةُ حَاصِلَةٌ بِمَا أَقْبَلَ مِنْهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْوَجْهِ.
وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَخَذَ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا " وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِفَرْضِ مَسْحِ الرَّأْسِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الرَّأْسِ، أَصْلُهُ الْيَدَانِ طَرْدًا
وَآخِرُ الرَّأْسِ عَكْسًا.
وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أَحَدُ نوعي الوضوء فوجب أن يتنوع أعضائه نَوْعَيْنِ فَرْضًا وَسُنَّةً كَغَسْلِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ سُنَّةً مُفْرَدَةً وَهُوَ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَبَعْضُهُ فَرْضٌ وَهُوَ بَاقِي الْأَعْضَاءِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ لَا يُجْزِئُ حَلْقُ شَعْرِهِ عَنْ نُسُكِ الْمُحْرِمِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْسِ كَالْوَجْهِ وَلِأَنَّ لِلرَّأْسِ أَحْكَامًا ثَلَاثَةً مِنْهَا فَرْضُ الْمَسْحِ، وَمِنْهَا إِحْلَالُ الْمُحْرِمِ بِحَلْقِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ(1/121)
وَمِنْهَا وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ بِتَغْطِيَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْأُذُنَيْنِ مِنْ أَحْكَامِ الرَّأْسِ مَا سِوَى الْمَسْحِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمُ الْمَسْحِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْبَيَاضُ الْمُحِيطُ بِالْأُذُنِ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ قُرْبِهِ فَلِأَنْ لَا تَكُونَ الْأُذُنُ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ بُعْدِهَا أَوْلَى.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ ". فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَاوِيَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، وَشَهْرٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ خَرَفَ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ فَخَلَطَ فِي حَدِيثِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ فِي حَالِ الْخَرِيطَةِ مَا أُنْشِدَ فِيهِ مِنَ الشِّعْرِ مَا أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنْ ذِكْرِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ قَالَ: لَا أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ أَبِي أُمَامَةَ، وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسَحَانِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) {الأعراف: 150) . أَيْ بِأُذُنِهِ فَهُوَ تَأْوِيلٌ يَدْفَعُونَ عَنْهُ بِالظَّاهِرِ مِنَ اسْمِ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا قياسهم على إجزاء الرأس فالمعنى فيه أنه محل لفرض الْمَسْحُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأُذُنَانِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ ذَهَبَ بِأَنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ بِقَوْلِهِ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، فَالْوَجْهُ إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْجُمْلَةِ وَالذَّاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن: 27) . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَيْنِ لَيْسَتَا مِنَ الْوَجْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْكَيِّ فِي الْوَجْهِ وَأَبَاحَ الْكَيَّ فِي الْأُذُنِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ عَلَى حِيَالِهِمَا مُفْرَدَةٌ بِمَاءٍ جَدِيدٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَمْسَحَهُمَا مَعًا بِيَدَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُقَدِّمُ يُمْنَى عَلَى يُسْرَى وَلَيْسَ فِي أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ عُضْوَانِ لَا تُقَدَّمُ الْيُمْنَى مِنْهُمَا عَلَى الْيُسْرَى غَيْرَ الْأُذُنَيْنِ ثُمَّ يُدْخِلُ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ لِرِوَايَةِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا وَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ بماءٍ جَدِيدٍ ".
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُدْخِلُ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:(1/122)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَحَكَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يُدْخِلُ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْهِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مَاءِ أُذُنَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِدْخَالُ الْأُصْبُعَيْنِ فِي الصِّمَاخَيْنِ سُنَّةً زَائِدَةً عَلَى مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ أنه يدخل إصبعيه في صماخيه بماء أذنيه فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ وَلَا يَكُونُ سُنَّةً زَائِدَةً عَلَى مَسْحِ الأذنين، وقد حكى عن أبي العباس ابن سُرَيْجٍ فِي مَسْحِ أُذُنَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُهُمَا ثَلَاثًا مِعِ وَجْهِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ، وَيَمْسَحُهُمَا مَعَ رَأْسِهِ كَمَا قَالَ أبو حنيفة وَيَمْسَحُهُمَا ثَلَاثًا مُفْرَدَةً كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُو الْعَبَّاسِ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ احْتِيَاطًا وَاسْتِحْبَابًا لِيَكُونَ مِنَ الخلاف خارجاً.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: ثم يغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً إلى الكعبين.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَفَرْضُهُمَا عِنْدَ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ الْغَسْلُ دُونَ الْمَسْحِ، وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِيهِمَا الْمَسْحُ دُونَ الْغَسْلِ، وَجَمَعَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَأَوْجَبَ غَسْلَهُمَا وَمَسْحَهُمَا. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ} (المائدة: 6) . بِخَفْضِ الْأَرْجُلِ وَكَسْرِ اللَّامِ عَطْفًا عَلَى الرَّأْسِ. قَرَأَ بِذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كثير وحمزة وأحد الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَاصِمٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحَ لِعَطْفِهِمَا عَلَى الرَّأْسِ الْمَمْسُوحِ.
قَالَ: ويؤيد ذلك أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ سَمِعَ الْحَجَّاجَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: أَمَرَ اللَّهُ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ، إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ(1/123)
بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ، فَقَالَ وَأَرْجُلِكُمْ بِالْخَفْضِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْمَسْحُ، وَيَأْبَى النَّاسُ إِلَّا الْغَسْلَ، وَقَالَ: غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ.
فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ تُوجِبُ الْمَسْحَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ ماءٍ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى رِجْلِهِ وَفِيهَا النَّعْلُ فَغَسَلَهَا بِهَا ثُمَّ فَعَلَ بِالْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: قُلْتُ وَفِي النَّعْلَيْنِ، قَالَ: وَفِي النَّعْلَيْنِ.
وَرَوَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى كَظَامَةَ قومٍ. وَرُوِيَ سُبَاطَةَ قومٍ فَبَالَ قَائِمًا وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ، قَالُوا وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ عُضْوٌ يَسْقُطُ فِي التَّيَمُّمِ مِثْلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ الْمَسْحَ كَالرَّأْسِ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْخُفَّ بَدَلٌ عَنِ الرِّجْلِ فَلَمَّا كَانَ الْبَدَلُ مَمْسُوحًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْدَلُ مَمْسُوحًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) . إِلَى قَوْلِهِ: وَأَرْجُلَكُمْ بِنَصْبِ الْأَرْجُلِ وَفَتْحِ اللَّامِ مِنْهَا عَطْفًا عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، قَرَأَ بِذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ.
وَمِنَ الْقُرَّاءِ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَاصِمٍ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ الْغَسْلَ لِعَطْفِهِمَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَغْسُولِ، فَإِنْ قِيلَ إِنْ كَانَتْ(1/124)
هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمَنْصُوبَةُ تَدُلُّ عَلَى الْغَسْلِ فَالْقِرَاءَةُ الْمَخْفُوضَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمَسْحِ، قِيلَ الْقِرَاءَةُ الْمَنْصُوبَةُ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْغَسْلِ وَالْقِرَاءَةُ الْمَخْفُوضَةُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى مَسْحِ الْخُفَّيْنِ فَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى عَطْفِ الْمُجَاوَرَةِ دُونَ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الرَّأْسِ، وَكَانَ الرَّأْسُ مَخْفُوضًا عَلَى إِعْرَابِ مَا جَاوَرَهُ، وَهَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) {إبراهيم: 14) .
فَخُصَّ الْعَاصِفُ وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا لِأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الرِّيحِ لَا مِنْ صِفَةِ الْيَوْمِ، وَالرِّيحُ مَرْفُوعَةٌ، وَالْيَوْمُ مَخْفُوضٌ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُجَاوِرًا لِلْيَوْمِ أَعْطَاهُ إِعْرَابَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِفَةً لَهُ، وَكَقَوْلِهِمْ: جُحْرُ ضبٍّ خربٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خربٌ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْجُحْرِ الْمَرْفُوعِ لَا لِلضَّبِّ الْمَخْفُوضِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّبِّ أُعْطِيَ إِعْرَابَهُ، وَكَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
(لَقَدْ كَانَ فِي حولٍ ثواءٍ ثَوَيْتِهِ ... تَقَضِّي لباناتٌ ويسأم سائم)
فخض الثَّوَاءَ لِمُجَاوَرَتِهِ الْحَوْلَ وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا.
ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ أَنَّ النَّاقِلِينَ لِوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ وَالرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ فَنَقَلُوا جَمِيعًا حِينَ وَصَفُوا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ غَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَكَانَ مَا نَقَلُوهُ مِنْ فِعْلِهِ بَيَانًا لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ من فرضه.(1/125)
وَرَوَى عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يَتَوَضَّأُ وَهُوَ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فَقَالَ: " بِهَذَا أُمِرْتُ ".
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: اطَّلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ بَيْتِهِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَقَالَ: " ويلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ " فَجَعَلْنَا نُدَلِّكُ أَقْدَامَنَا وَنَغْسِلُهَا غَسْلًا.
وَرَوَى الْقَاسِمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ويلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، ويلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، ويلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ "، فَمَا بَقِيَ أحدٌ فِي الْمَسْجِدِ شريفٌ وَلَا وضيعٌ إِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ يُقَلِّبُ عُرْقُوبَيْهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا ".
وَرَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا تَوَضَّأَ يُدَلِّكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ دَالَّةٌ عَلَى الْغَسْلِ دُونَ الْمَسْحِ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كُلِّ هَذَا.
وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ الله كيف(1/126)
يُعْرَفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لرجلٍ خيلٌ غرٌ محجلةٌ في خيلٍ بهمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ، قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ.
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْغَسْلِ لِأَنَّ آثَارَ التَّحْجِيلِ يَكُونُ مِنَ الْغَسْلِ لَا مِنَ الْمَسْحِ فَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ عُضْوٌ مَفْرُوضٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَغْسُولًا كَالْوَجْهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ دَلِيلًا، وَاسْتِعْمَالًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كِتَابُ اللَّهِ الْمَسْحُ وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ الْغَسْلُ فَكَانَ إِنْكَارُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ أَنَّ الْكِتَابَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْغَسْلِ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ رُوِّينَاهُ عَنْهُ بِخِلَافِهِ وَأَنَّهُ قَرَأَ بِالنَّصْبِ، وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ يَعْنِي الْوَجْهَ وَالذِّرَاعَيْنِ يُغْسَلَانِ فِي الْوُضُوءِ وَيُمْسَحَانِ فِي التَّيَمُّمِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ غَسَلَهُمَا فِي نَعْلَيْهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ أَقْرَأَ الْحَسْنَ وَالْحُسَيْنَ بِالْخَفْضِ قَالَ فَنَادَانِي عَلِيٌّ مِنَ الْحُجْرَةِ بِالْفَتْحَةِ بِالْفَتْحَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتى كطامة قومٍ وَرُوِيَ سُبَاطَةَ قومٍ فَالْكِظَامَةُ الْمَطْهَرَةُ وَالسُّبَاطَةُ الْفِنَاءُ فَبَالَ قَائِمًا وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ فَقَدْ أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَنَعَتْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَالَ قَائِمًا.
وَقِيلَ بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ لِجُرْحٍ كان في مابضه، وَالْمَأْبِضُ: هُوَ عِرْقٌ فِي بَاطِنِ السَّاقِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَقَعَتْ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ مَسْحَ النَّعْلَيْنِ لَا يُجْزِئُ عن مسح(1/127)
الرِّجْلَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّيَمُّمِ فَبَاطِلٌ بِالْجُنُبِ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي بَدَلِهِ الْغَسْلُ وَإِنْ كَانَ سَاقِطًا فِي التَّيَمُّمِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا كَانَ بَدَلُهُ مَمْسُوحًا كَانَ مُبْدَلُهُ مَمْسُوحًا فباطل بالوجه وهو التَّيَمُّمِ مَمْسُوحٌ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ وَفِي الْوُضُوءِ مَغْسُولٌ والوضوء مبدل والله أعلم.
مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: والكعبان هما العظمتان النَّاتِئَانِ وَهُمَا مُجْتَمَعُ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَعَلَيْهِمَا الغسل كالمرفقين.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْكَعْبَانِ هُمَا النَّاتِئَانِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ.
وَحُكِيَ عَنْ محمد بن الحسن أَنَّ الْكَعْبَ مَوْضِعُ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ وَهُوَ النَّاتِئُ مِنْهُ. اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ ذَاكَ لُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْكَعْبَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا قَالَهُ محمد وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ الشافعي بالشرع وأنكر أصحابنا ذلك فقالوا: بَلِ الْكَعْبُ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ لُغَةً وَشَرْعًا أما اللغة فمن وجهين: نقل واشتقاق. فأما النَّقْلُ فَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ قُرَيْشٍ، وَنِزَارٍ، كُلِّهَا مُضَرَ وَرَبِيعَةَ، لَا يَخْتَلِفُ لِسَانُ جَمِيعِهِمْ أَنَّ الْكَعْبَ اسْمٌ لِلنَّاتِئِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَهُمْ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِسَانُهُمْ مُعْتَبَرًا فِي الْأَحْكَامِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ بِلِسَانِهِمْ نَزَلَ.
وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَهُوَ أَنَّ الْكَعْبَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا اسْمٌ لِمَا اسْتَدَارَ وَعَلَا وَلِذَلِكَ قَالُوا قَدْ كَعَّبَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إِذَا عَلَا وَاسْتَدَارَ وَجَارِيَةٌ كُعُوبٌ.
وَسُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً لِاسْتِدَارَاتِهَا وَعُلُوِّهَا وَلَيْسَ يَتَّصِلُ بِالْقَدَمِ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ إِلَّا مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ لِعُلُوِّهِ وَاسْتِدَارَتِهِ، فَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ نَقْلًا وَاشْتِقَاقًا، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ نَصٌّ وَاسْتِدْلَالٌ:
أَمَّا النَّصُّ فَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِزْرَةُ الْمُسْلِمِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَلَا حَرَجَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ وَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِجَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ: " ارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ ". فَدَلَّ(1/128)
نَصُّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَيْنِ أَسْفَلُ السَّاقِ لَا مَا قَالُوهُ مِنْ ظَاهِرِ الْقَدَمِ، وأما الاستدلال بقوله تعالى: {أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) {المائدة: 6) . فَلَمَّا ذَكَرَ الْأَرْجُلَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَذَكَرَ الْكَعْبَيْنِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمَرَافِقِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ رَاجِعَةً إِلَى كُلِّ رِجْلٍ فَيَكُونُ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَانِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمُسْتَدِيرِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَعَلَى مَا قَالُوهُ يَكُونُ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكَعْبَ مَا وَصَفْنَا وَجَبَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ، وَخَالَفَ زفر كَخِلَافِهِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فَإِذَا أَرَادَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ بَدَأَ بِالْيُمْنَى مِنْهُمَا فَغَسَلَهَا مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ إِلَى كَعْبَيْهِ إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ غيره يصب الماء عليه غسلها مِنْ كَعْبَيْهِ إِلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى كَذَلِكَ ثَلَاثًا.
(مسألة: القول في تخليل الأصابع)
قال الشافعي رضي الله عنه: وَيُخَلِّلُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقِيطَ بْنَ صَبِرَةَ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ أَكْمَلُ الْوُضُوءِ إن شاء الله.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ فَمَأْمُورٌ بِهِ لِرِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أخبرني عن الْوُضُوءِ قَالَ: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ أَصَابِعُهُ مُتَضَايِقَةً أَوْ مُتَرَاكِبَةً لَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالتَّخْلِيلِ فَالتَّخْلِيلُ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى مَا بَيْنَهَا بِغَيْرِ تَخْلِيلٍ فَالتَّخْلِيلُ سُنَّةٌ فَيَبْدَأُ فِي تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِ الْيُمْنَى مِنْ خِنْصَرِهِ إِلَى إِبْهَامِهِ ثُمَّ بِالْيُسْرَى مِنْ إِبْهَامِهِ إِلَى خِنْصَرِهِ لِيَكُونَ تَخْلِيلُهَا نَسَقًا عَلَى الْوَلَاءِ وَكَيْفَمَا خَلَّلَهُمَا وَأَوْصَلَ الْمَاءَ إِلَيْهِمَا أَجْزَأَهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَذَلِكَ أَكْمَلُ الْوُضُوءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ خَالَفَهُ فِي الْأَكْمَلِ فَأَضَافَ بَعْضُهُمْ إِلَى كَمَالِ الْوُضُوءِ إِدْخَالَ الْمَاءِ فِي الْعَيْنَيْنِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ، وَزَادَ عَطَاءٌ فِيهِ تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ، وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ مَسْحَ الْحَلْقِ بِالْمَاءِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْخِلَافِ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَكْمَلُ الْوُضُوءِ فَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَيْسَ يَعُودُ إِلَى الْكَمَالِ وَلَكِنْ يَعُودُ إِلَى مَا نَدَبَ إِلَى فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَقْدِيرُهُ، " فيوض كَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا أَذْكَارُ الْوُضُوءِ فَالْمَسْنُونُ مِنْهَا هُوَ التَّسْمِيَةُ أَمَّا الْوُضُوءُ وَقَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا مَا سِوَى التَّسْمِيَةِ مِنَ الْأَذْكَارِ عِنْدَ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ جَاءَتْ بِهَا آثَارٌ(1/129)
مَنْقُولَةٌ يَخْتَارُ الْعَمَلَ بِهَا وَإِنْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ أَوْكَدَ مِنْهَا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ: اللَّهُمَّ اسْقِنِي مِنْ حَوْضِ نَبِيِّكَ كَأْسًا لَا ظمأ بَعْدَهُ، وَيَقُولُ عِنْدَ الِاسْتِنْشَاقِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنِي رَائِحَةَ جِنَانِكَ وَنَعِيمَكَ، وَيَقُولُ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ اللَّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهِي يَوْمَ تَبْيَضُّ فِيهِ وُجُوهٌ وتسود فيه وُجُوهٌ، وَيَقُولُ عِنْدَ غَسْلِ ذِرَاعَيْهِ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كِتَابِي بِيَمِينِي وَحَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، وَلَا تُعْطِنِي كِتَابِي بِشِمَالِي فَأَهْلِكَ، وَيَقُولُ عِنْدَ مَسْحِ رَأْسِهِ اللهم اظللني تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّكَ، وَيَقُولُ عِنْدَ مَسْحِ أُذُنَيْهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَيَقُولُ عِنْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ اللَّهُمَّ أَجِزْنِي عَلَى الصِّرَاطِ وَلَا تَجْعَلْنِي مِمَّنْ يَتَرَدَّى فِي النَّارِ فَهَذَا كُلُّهُ مَأْثُورٌ عَنِ الْفُضَلَاءِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ والتابعين.
(فَصْلٌ)
: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْمَأْقَيْنِ " وَهِيَ تَثْنِيَةُ مَأْقٍ وَهُوَ طَرَفُ الْعَيْنِ الَّذِي يَلِي الْأَنْفَ وَهُوَ مَخْرَجُ الدَّمْعِ، فَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ فَهُوَ اللِّحَاظُ وَمَسْحُ الْمَأْقَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهِمَا فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا رَمْصٌ ظَاهِرٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى مَحَلِّهِ كَانَ مَسْحُهُمَا وَاجِبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا رَمْصٌ كَانَ مَسْحُهُمَا مُسْتَحَبًّا كَالتَّخْلِيلِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: وَأُحِبُّ أَنْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى مَا سَقَطَ مِنَ اللِّحْيَةِ عَنِ الْوَجْهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِيهَا قَوْلَانِ قَالَ يُجْزِيهِ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يُجْزِيهِ فِي الْآخَرِ، قَالَ الْمُزَنِيُّ: يُجْزِيهِ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَا سَقَطَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ مِنَ الرَّأْسِ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَلَّا يَجْعَلَ مَا سَقَطَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الْوَجْهِ مِنَ الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ نَقَلَهَا الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَجُمْلَةُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَتَجَاوَزِ الْأُذُنَ عَرْضًا، وَلَمْ يَسْتَرْسِلْ عَنِ الذَّقَنِ طُولًا فَإِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنْ تَجَاوَزَ الْأُذُنَيْنِ عَرْضًا وَاسْتَرْسَلَ عَنِ الذَّقْنِ طُولًا لَزِمَهُ غَسْلُ مَا قَابَلَ الْبَشَرَةَ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِغَسْلِ مَا انْتَشَرَ عَنْهَا عَرْضًا وَمَا اسْتَرْسَلَ مِنْهَا طُولًا، وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَمَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ إِمْرَارَ الْمَاءِ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَتَرْكَهُ مُجْزِئٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَمْ يكن ما استرسل من شعره داخل فَيَ حُكْمِهِ كَالرَّأْسِ. وَلِأَنَّ انْتِقَالَ الْفَرْضِ فِي الْبَشَرَةِ إِلَى مَا يُوَازِيهَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَا يُحَاذِيهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ إِمْرَارَ الْمَاءِ واجب عليه وتركه غير مجزى، وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَاللِّحْيَةُ يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْوَجْهِ لُغَةً وَشَرْعًا:
أَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ الْوَجْهَ سُمِّيَ وَجْهًا لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ لَهُ وَاللِّحْيَةُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهَا(1/130)
الْمُوَاجَهَةُ فَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي اسْمِ الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ قَالُوا قَدْ بَقَلَ وَجْهُهُ وَنَبَتَ وَجْهُهُ إِذَا خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ.
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُغَطُّوا اللِّحْيَةَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا مِنَ الْوَجْهِ " فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللِّحْيَةَ مِنَ الْوَجْهِ لُغَةً وَشَرْعًا وَجَبَ غَسْلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) .
وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ ظَاهِرٌ نَبَتَ عَلَى مَحَلٍّ مَغْسُولٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ وَاجِبًا قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَسْتَرْسِلْ مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ وَلِأَنَّ كُلَّ شَعْرٍ وَاجِبٌ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَطُولَ وَجَبَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ طَالَ قِيَاسًا عَلَى الشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ وَشَعْرِ الذِّرَاعِ. فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ فَمُمْتَنِعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِمَا تَرَأَّسَ وَعَلَا وَلِذَلِكَ قِيلَ فُلَانٌ رَئِيسُ قَوْمِهِ إِذَا عَلَاهُمْ بِأَمْرِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي اسْمِهِ، وَالْوَجْهُ: اسْمٌ لِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ فَدَخَلَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ فِي اسْمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يَغْسِلَ شَعْرَ الْوَجْهِ مَعَ الْوَجْهِ فَأَوْجَبْنَاهُ، وَالِاحْتِيَاطُ ألا يسمح عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ فَأَسْقَطْنَاهُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِمَا فَرْقًا مَانِعًا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَمُنْتَقَضٌ بِالشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ وَالْعَنْفَقَةِ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخُفَّيْنِ أَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ إِلَيْهِمَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَلِذَلِكَ بَطَلَ الْمَسْحُ بِظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْفَرْضُ مَقْصُورًا عَلَى مَحَلِّ الْقَدَمَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَعْرُ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَكَذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ غَسْلُ الْوَجْهِ بِظُهُورِ الْبَشَرَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْفَرْضُ مَقْصُورًا عَلَى مَسْحِ الْبَشَرَةِ وَكَانَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ مَا انْتَقَلَ الفرض إليه.
(مسألة)
: قال الشافعي وَلَوْ غَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً وَلَمْ يَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا قذرٌ وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ مَرَّةً مَرَّةً وَمَسَحَ بعض رأسه بيده أو ببعضهما مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ أجزأه. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح بناصيته وعلى(1/131)
عمامته. (قال الشافعي) والنزعتان من الرأس وغسل رجليه مرةً مرةً وعم بكل مرةٍ ما غسل أجزأه وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لا يقبل الله تبارك وتعالى صلاة إِلَّا بِهِ " ثمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ " ثَمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي وَوُضُوءُ خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم " (قال) وفي تركه أن يتمضمض ويستنشق ويمسح أذنيه ترك للسنة وليست الأذنان من الوجه فيغسلا ولا من الرأس فيجزي مسحه عليهما فهما سنةٌ على حيالهما واحتج بأنه لما لم يكن على ما فوق الأذنين مما يليهما من الرأس ولا على ما وراءهما مما يلي منابت شعر الرأس إليهما ولا على ما يليهما إلى العنق مسحٌ وهو إلى الرأس أقرب كانت الأذنان من الرأس أبعد. (قال المزني) لو كانتا من الرأس أجزأ من حج حلقهما عن تقصير الرأس فصح أنهما سنةٌ على حيالهما.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: الْوُضُوءُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ فَقِسْمٌ فَرِيضَةٌ، وَقِسْمٌ سُنَّةٌ، وَقِسْمٌ هَيْئَةٌ، وَقِسْمٌ فَضِيلَةٌ: فَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَسِتٌّ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهَا وَسَابِعٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ:
أَحَدُّهَا: النِّيَّةُ.
وَالثَّانِي: غَسْلُ جَمِيعِ الْوَجْهِ.
وَالثَّالِثُ: غَسْلُ الذِّرَاعَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ.
وَالرَّابِعُ: مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ وَإِنْ قَلَّ.
وَالْخَامِسُ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ.
وَالسَّادِسُ: التَّرْتِيبُ.
وَالسَّابِعُ: الْمُخْتَلَفُ فِيهِ الْمُوَالَاةُ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، هُوَ فَرْضٌ فَإِنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَإِنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ أَجْزَأَهُ، فَأَمَّا الْمَاءُ الطَّاهِرُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي عَدَدِ فُرُوضِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَانَ يَعُدُّهُ فَرْضًا ثَامِنًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَعَشْرٌ: خَمْسٌ قَبْلَ الْوَجْهِ وَخَمْسٌ بَعْدَهُ، فَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي قَبْلَ الْوَجْهِ:
أَحَدُهَا: التَّسْمِيَةُ.
وَالثَّانِي: غَسْلُ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثًا.
وَالثَّالِثُ: الْمَضْمَضَةُ.
وَالرَّابِعُ: الِاسْتِنْشَاقُ.
وَالْخَامِسُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَيَرْفُقَ. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَضُمُّ إِلَيْهَا سَادِسًا وَهُوَ السِّوَاكُ.
وَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي بَعْدَ الْوَجْهِ:
أَحَدُهَا: التَّبْدِئَةُ بِالْمَيَامِنِ.(1/132)
وَالثَّانِي: اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الرَّأْسِ.
وَالثَّالِثُ: مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ.
وَالرَّابِعُ: إِدْخَالُ السَّبَّابَتَيْنِ فِي صِمَاخَيِ الْأُذُنَيْنِ.
وَالْخَامِسُ: تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ.
وكان ابن العاص يَضُمُّ إِلَيْهِمَا سَادِسًا وَهُوَ مَسْحُ الْعُنُقِ بِالْمَاءِ.
وَأَمَّا الْهَيْئَةُ فَهِيَ التَّبْدِيَةُ فِي الْوَجْهِ بِأَعْلَاهُ وَفِي الْيَدَيْنِ بِالْكَفَّيْنِ وَفِي الرَّأْسِ بِمُقَدَّمِهِ وَفِي الرِّجْلَيْنِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ وَهَيْئَتِهِ.
وَأَمَّا الْفَضِيلَةُ فَهُوَ التَّكْرَارُ ثَلَاثًا فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَجْزَأَهُ وَهُوَ الْغَرَضُ وَإِنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْفَضِيلَةُ فِي الثَّلَاثِ وَالْمَرَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرَّتَيْنِ وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالسُّنَّةِ وَالْعِبْرَةِ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لا يقبل الله تبارك وتعالى صلاةً إِلَّا بِهِ " ثمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ " ثَمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي وَوُضُوءُ خَلِيلِي إِبْرَاهِيمَ " وَلِأَنَّ الْمَرَّتَيْنِ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقْرَبُ إِلَى الثَّلَاثِ مِنَ الْمَرَّةِ فَكَانَ أَكْثَرَ فَضْلًا.
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ فَغَيْرُ مَسْنُونَةٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَرَاهَتِهَا فَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ عَمَلٍ وَبِرٍّ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ مَكْرُوهَةٌ وَهَذَا أَصَحُّ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حِينَ تَتَوَضَّأُ ثَلَاثًا فَمَنْ زَادَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ " وَلِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ إِسْرَافًا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عن عبد الله بن عمران أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بسعيد وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: " مَا هَذَا السَّرَفُ " فَقَالَ: فِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ قَالَ: " نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نهرٍ جارٍ.(1/133)
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قومٌ يَتَعَبَّدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ ".
(فَصْلٌ: جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ يصب الماء على المتوضئ)
فَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ فِي الْوُضُوءِ بِمَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ فَلَا نَسْتَحِبُّهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَمَّ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا أُحِبُّ أَنْ يُشَارِكَنِي فِي وُضُوئِي أحدٌ " فَإِنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ جَازَ فَقَدْ صَبَّ الْمُغِيرَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وُضُوءَهُ فِي غَزْوَةِ تبوكٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَقِفَ الصَّابُّ لِلْمَاءِ عَلَى يَسَارِهِ فَإِنَّهُ أمكن وأحسن في الأدب:
القول في التنشيف بعد الوضوء: فأما مسح بلل من وضوءه وَتَنْشِيفُهُ بِثَوْبٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَوْبًا لِيُنَشِّفَ بِهِ وُضُوءَهُ فَأَبَى وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَبْقَى عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِي " فَإِنْ نَشَّفَ بِثَوْبٍ جَازَ فَقَدْ رَوَى مُعَاذُ بن جبل قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا تَوَضَّأَ مَسَحَ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُ صَاحِبِ الثَّوْبِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَكْرَهُ إِذَا تَوَضَّأَ أَنْ يَنْثُرَ يَدَهُ وَأَطْرَافَهُ مِنَ الْمَاءِ. فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: " إِنَّهَا مَرَاوِحُ الشَّيَاطِينِ ".(1/134)
(مسألة: النزعتان من الرأس)
قال الشافعي رضي الله عنه: والنزعتان من الرأس. أَمَّا النَّزْعَتَانِ فَهُمَا الْبَيَاضُ الَّذِي يَسْتَعْلِي فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ مِنْ جَانِبَيْهِ وَهُمَا مِنَ الرَّأْسِ وقد ذهب قوم إلى أنهما من وجه لِذَهَابِ الشَّعْرِ عَنْهُمَا وَاتِّصَالِ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بِهِمَا وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ هُدْبَةُ بْنُ خَشْرَمٍ:
(ولا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا وَالْوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا)
فَأَضَافَ النَّزْعَةَ إِلَى الْوَجْهِ فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْهُ وَهَذَا خَطَأٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّزْعَتَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ دُخُولُهُمَا فِي حَدِّ الرَّأْسِ وَلَيْسَ ذَهَابُ الشَّعْرِ عَنْهُمَا بِمُخْرِجٍ لَهُمَا مِنْ حُكْمِ الرَّأْسِ.
كَمَا أَنَّ الْأَجْلَحَ وَالْأَجْلَهَ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ الشَّعْرُ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ كُلِّهِ، وَالْأَجْلَحُ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ شَعْرُ نَاصِيَتِهِ كُلِّهِ لَا يَخْرُجُ ذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الرَّأْسِ وَإِنْ ذَهَبَ شَعْرُهُ كَذَلِكَ الْأَنْزَعُ فَلِهَذَا دَلِيلٌ وَلِأَنَّ الْأَغَمَّ هُوَ الَّذِي قَدِ انْحَدَرَ شَعْرُ رَأْسِهِ فِي جَبْهَتِهِ وَكَذَلِكَ الْأَنْزَعُ ثُمَّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا انْحَدَرَ فِي الْجَبْهَةِ مِنْ شَعْرِ الْأَغَمِّ وَالْأَنْزَعِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا اسْتَعْلَى فِي الرَّأْسِ مِنْ بَيَاضِ الْأَنْزَعِ مِنَ الْوَجْهِ فَهَذَا دَلِيلٌ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ النزعة من الرأس وذلك ظَاهِرٌ فِي شِعْرِهِمْ قَالَ الشَّاعِرُ:
(لَيَالِيَ لَوْنِي واضحٌ وَذُؤَابَتِي ... غَرَابِيبُ فِي رَأْسِ امْرِئٍ غَيْرِ أَنْزَعَا)
وَشِعْرُ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ دَالٌّ عَلَيْهِ أيضاً لأنه قال:
(ولا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا وَالْوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا)
وَالْوَجْهُ بِالْخَفْضِ عَطْفٌ عَلَى الْقَفَا فَكَأَنَّهُ قَالَ أَغَمَّ الْقَفَا وَأَغَمَّ الْوَجْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَمَمَ مِنَ الْوَجْهِ ثُمَّ قَالَ لَيْسَ بِأَنْزَعَا عَلَى مَعْنَى الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّزْعَتَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا أَجْزَأَهُ وَاللَّهُ أعلم بالصواب.
(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُجْزِئُ مِنْ مَسْحِ بَعْضِ الرأس ولا يجزئ إلا مسح الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ إِنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ بدلٌ مِنَ الْغَسْلِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَمَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ بدلٌ مِنْ غَيْرِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الرَّأْسِ مَسْحُ بَعْضِهِ، فَأَمَّا الْوَجْهُ فِي التَّيَمُّمِ فَالْوَاجِبُ مَسْحُ جَمِيعِهِ فَإِنْ قِيلَ وَهُوَ سُؤَالٌ لِمَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ مِنْ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ لِمَ أَجَزْتُمْ مَسْحَ بَعْضِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ وَمَنَعْتُمْ مِنْ مَسْحِ بَعْضِ الْوَجْهِ(1/135)
فِي التَّيَمُّمِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَسْحِ الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ بِحَرْفِ الْبَاءِ فَقَالَ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ) {المائدة: 6) . كَمَا أَمَرَ بِمَسْحِ الرأس في الوضوء بحرف الباء، فقال: فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، فَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ تُوجِبُ التَّبْعِيضَ فَهَلَّا كَانَتْ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ وَجَبَ التَّبْعِيضُ، فَإِنْ لَمْ تُوجِبِ التَّبْعِيضَ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ فَهَلَّا كَانَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلتَّبْعِيضِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَهَذَا سُؤَالُ إِلْزَامٍ وَكَسْرٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْبَاءَ تُوجِبُ التَّبْعِيضَ فِي اللُّغَةِ مَا لَمْ يَصْرِفْهَا عَنْهُ دَلِيلٌ وَقَدْ صَرَفَهَا عَنِ التَّبْعِيضِ فِي التَّيَمُّمِ دَلِيلٌ وَعَاضَدَهَا عَلَى التَّبْعِيضِ فِي الْوُضُوءِ دَلِيلٌ فَافْتَرَقَا، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هُوَ أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ لَفْظِهِ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ مُبْدَلِهِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْفَرْقُ فَاسِدٌ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَهَذَا بَدَلٌ مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ اسْتِيعَابُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ كَمَا يَلْزَمُ اسْتِيعَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ قُلْ قَدْ كَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الرِّفْقَ وَالتَّخْفِيفَ لِجَوَازِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لَمْ يَجِبِ اسْتِيعَابُهُمَا بِالْمَسْحِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُبَايِنَةِ لِلتَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّيَمُّمُ لِأَنَّهُ مُغْلِظٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَغَلِطَ بِالِاسْتِيعَابِ وَفَرْقٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا تَخَفَّفَ بِسُقُوطِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَتَخَفَّفْ بِالتَّبْعِيضِ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَا يَخْتَصُّ إِلَّا بِالتَّبْعِيضِ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ فِي تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ)
قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ، وَغُسْلَهُ أَجْزَأَهُ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِابْنِ عُمَرَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْوُضُوءِ أَفْضَلُ وَمُتَابَعَةُ الْأَعْضَاءِ أَكْمَلُ انْقِيَادًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنَ التَّعْجِيلِ وَاتِّبَاعًا لقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَإِنْ فَرَّقَ فَالتَّفْرِيقُ ضَرْبَانِ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ:
فَالْقَرِيبُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْوُضُوءِ وَحْدَهُ مَا لَمْ تَجِفَّ الْأَعْضَاءُ مَعَ اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ فِي غَيْرِ بَرْدٍ وَلَا حَرٍّ مُشْتَدٍّ وَلَيْسَ الْجَفَافُ مُعْتَبَرًا، وَإِنَّمَا زَمَانُهُ هُوَ التَّعْبِيرُ.
وَأَمَّا الْبَعِيدُ فَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ زَمَانُ الْجَفَافِ فِي اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَالْوُضُوءُ مَعَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ جَائِزٌ وَالْوُضُوءُ مَعَهُ صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمِنَ التَّابِعِينَ الحسن وسعد بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وأبو(1/136)
حنيفة. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ فَرَّقَهُ لِعُذْرٍ جَازَ، وَإِنْ فَرَّقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنَّ مُطْلَقَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوُضُوءِ لِقَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) {المائدة: 6) . يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَالتَّعْجِيلَ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّأْجِيلِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ عَلَى الْوَلَاءِ ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ " يَعْنِي إِلَّا بِمِثْلِهِ فِي الْمُوَالَاةِ، وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ عَلَى قَدَمَيْهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الظُّفُرِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَرْجِعُ فِي حَالِ الْعُذْرِ إِلَى شَطْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُوَالَاةُ مِنْ شَرْطِهَا كَالصَّلَاةِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ هُوَ أَنَّ التَّفْرِيقَ لَا يَمْنَعُ مِنَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} . فَوَجَبَ أَلَّا يَمْنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْأَوَامِرُ تَقْتَضِي الْفَوْرَ قِيلَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا خِلَافٌ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي مَنْزِلِهِ وَفِي رِجْلَيْهِ خُفَّانِ فَلَمْ يَمْسَحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَحَضَرَتْ جنازة فدعى بِمَاءٍ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ فِي تَطْهِيرٍ فَجَازَ كَالتَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازَ فِيهَا التَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ جَازَ فِيهَا التَّفْرِيقُ الْكَثِيرُ كَالْحَجِّ طَرْدًا، وَالصَّلَاةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازِ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى أَبْعَاضِهَا جَازَ تَفْرِيقُ أَبْعَاضِهَا كَالزَّكَاةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَفْرِيقُ نِيَّةِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، جَازَ تَفْرِيقُ مَا يُؤَدِّيهِ فِي زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ كَذَا الْوُضُوءُ لَمَّا جَازَ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَائِهِ جَازَ تَفْرِيقُ النية على أَعْضَائِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ فَالْحُكْمُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ سَوَاءٌ وَتَفْرِيقُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَأَمَّا تَفْرِيقُ التَّيَمُّمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَطَائِفَةٌ يُخَرِّجُونَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَتَفْرِيقِ الْوُضُوءِ سَوَاءٌ، وَكَانَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُونَ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ وَيُبْطِلُونَهُ بِالتَّفْرِيقِ قَوْلًا وَاحِدًا وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ تَعْجِيلَ التَّيَمُّمِ لِلصَّلَاةِ مُسْتَحَقٌّ وَتَعْجِيلَ الْوُضُوءِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/137)
(مسألة: القول في ترتيب أعضاء الوضوء)
قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنْ بَدَأَ بِذِرَاعَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ رَجَعَ إِلَى ذِرَاعَيْهِ فَغَسَلَهُمَا حَتَى يَكُونَا بَعْدَ وَجْهِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْوُضُوءِ وَلَاءً كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) {المائدة: 6) . (هكذا قرأه المزني إلى الكعبين) فإن صلى بالوضوء على غير ولاءٍ رجع فبنى على الولاء من وضوئه وأعاد الصلاة واحتج بقول الله عز وجل وعز {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} (البقرة: 158) . فبدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالصفا وقال: " نبدأ بما بدأ الله به ".
قال الماوردي: الفصل، وَهُوَ كَمَا قَالَ التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَاجِبٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَحْمَدُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة ومالك: التَّرْتِيبُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) {المائدة: 6) . وَلَهُمْ فِيهَا دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدَّمَ فِيهَا بَعْضَ الْأَعْضَاءِ كَمَا قَدَّمَ مَحَلَّ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَدَأَ مِنَ الْمِرْفَقِ إِلَى الْبَنَانِ أَجْزَأَهُ فَكَذَا لَوْ بَدَأَ بِالْيَدَيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ أجزأه.
والثاني: أنه لو عَطَفَ الْيَدَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ الْمُوجِبَةِ لِلِاشْتِرَاكِ وَالْجَمْعِ دُونَ التَّرْتِيبِ لُغَةً، وَشَرْعًا.
أَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا فِي لِسَانِهِمْ أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلِاشْتِرَاكِ دُونَ التَّرْتِيبِ اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْقَ زَيْدًا وَعَمْرًا لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيمُ لِقَاءِ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْبِدَايَةِ بِلِقَاءِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكَ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) {آل عمران: 43) . فَقَدَّمَ ذِكْرَ السُّجُودِ وَهُوَ مُؤَخَّرٌ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتُ فَقَالَ: " سَيَّانِ أَنْتُمَا قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثم شئت ".
فلو كان الْوَاوُ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ إِلَيْهِ فَرْقٌ وَلَا فَائِدَةٌ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ وَنَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ فَأَخَذَ مِنْ(1/138)
بَلَلِ لِحْيَتِهِ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ ".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ قَبْلَ يَدَيْكَ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، قالوا ولأنها طهارة لا يستحق فيهما التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ الْمُتَجَانِسَيْنِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ التَّرْتِيبُ فِيهَا بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ شُرِعَ فِي طَهَارَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا كَتَقْدِيمِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَلِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَوِ اغْتَسَلَ بَدَلًا مِنَ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يُرَتِّبْ، وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ مُسْتَحَقًّا لَمْ يُجْزِهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (المائدة: 6) . والدلالة فيها من أربعة أوجه:
أحدهما: أَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرْتِيبِ إِجْمَاعًا، فَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيمُ الْوَجْهِ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ التَّرْتِيبِ، فَإِنْ قِيلَ الْفَاءُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّعْقِيبِ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ فَأَمَّا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلَا.
قِيلَ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلتَّعْقِيبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَيْسَ إِذَا أَفَادَتِ الْجَزَاءَ بَعْدَ الشَّرْطِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهَا فِي التَّعْقِيبِ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ التَّعْقِيبِ دُونَ الْجَمْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّهُ عَطْفٌ بِالْأَعْضَاءِ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرْتِيبِ لُغَةً وَشَرْعًا، أَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَثَعْلَبٍ وَهُمَا إِمَامَانِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ مِنْ أصحاب الشافعي وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ عَبْدَ بَنِي الْحِسْحَاسِ يُنْشِدُ قَوْلَهُ:
(عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيًا ... كَفَى الشَيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا)(1/139)
فَقَالَ عُمْرُ: وَلَوْ قَدَّمْتَ الْإِسْلَامَ عَلَى الشَّيْبِ لَأَجَزْتُكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إنَّ الصَفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) {البقرة: 158) . فَبَدَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالصَّفَا وَقَالَ: " ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَهُ بِهِ ". وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى ". فَلَوْلَا أَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّعْقِيبَ وَالتَّرْتِيبَ لَمْ يَكُنْ لَهَا فَائِدَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مَمْسُوحًا بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَجَانِسَيْنِ إِلَّا لِفَائِدَةٍ فِي إِدْخَالِ غَيْرِ جِنْسِهِ فِيمَا بَيْنَ جِنْسِهِ فَلَوْلَا أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ فِي ذِكْرِ الْمَمْسُوحِ بَيْنَ الْمَغْسُولَيْنِ لَجَمَعَ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ الْمُتَجَانِسَةِ وَأَفْرَدَ الْمَمْسُوحَ عَنْهَا.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ فِي مَذْهَبِ الْعَرَبِ الْبِدَايَةَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إِلَّا لِغَرَضٍ وَالرَّأْسُ أَقْرَبُ إِلَى الْوَجْهِ مِنَ الْيَدَيْنِ فَلَوْلَا أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ لَقَدَّمَ الرَّأْسَ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امرئٍ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ ". وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ لَا يُسَوِّغُ خِلَافَهُ، وَرَوَى عمرو بن عنبسة قال قلت يا رسول الله أخبرني عن الْوُضُوءِ فَقَالَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ يَقْرَبُ وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا فِيهِ وَأَنْفِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ إِلَّا جَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى مِرْفَقَيْهِ إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ ثَمَّ يُمْسَحُ بِرَأْسِهِ إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ مَعَ الْمَاءِ ".
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ذَكَرَهُ مُسْلِمُ ابن حجاج ...(1/140)
.... وَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ.
وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ ". وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوَضَّأَ مُنَكِّسًا لِأَنَّهُ يُقْبِلُ مُرَتِّبًا، ثَبَتَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مُرَتَّبًا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُنَكِّسًا، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَرْجِعُ فِي حَالِ الْعُذْرِ إِلَى شَطْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ مِنْ شَرْطِهَا كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِالتَّنْكِيسِ كَالطَّوَافِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى ذَلِكَ الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ لِأَنَّ التَّنْكِيسَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَهَذَا الْقِيَاسُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ دُونَ أبي حنيفة لِأَنَّ أبا حنيفة يُجِيزُ الطَّوَافَ مُنَكَّسًا، وَلَا يُجِيزُهُ مَالِكٌ.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى شُرِعَ فِي الطَّهَارَةِ وَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ فَرْضًا وَسُنَّةً كَالْغُسْلِ وَالْمَسْحِ فَفَرْضُ الْغَسْلِ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَسُنَّتُهُ الْكَفَّانِ وَالْمَضْمَضَةُ، وَفَرْضُ الْمَسْحِ الرَّأْسُ وَسُنَّتُهُ الْأُذُنَانِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ فَرْضًا وَسُنَّةً فَفَرْضُهُ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَسُنَّتُهُ الْيُمْنَى قَبْلَ اليسرى فأما الجواب عن استشهادهم بقوله تعالى: {اسْجُدِي وَارْكَعِي} ، فَهُوَ أَنَّ الْوَاوَ وَإِنْ لَمْ تُوجِبِ التَّرْتِيبَ فَهِيَ لَا تُوجِبُ التَّنْكِيسَ وَإِنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا عَلَى تَقْدِيمِ اللَّفْظِ أَوْ تَأْخِيرِهِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَتِهِمْ مُقَدَّمًا عَلَى الرُّكُوعِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتُ فَهُوَ أَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ الْوَاوِ وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّهَا لَا مُهْلَةَ فِيهَا وَلَا تَرَاخِيَ وَلَفْظَةُ ثُمَّ تُوجِبُ التَّعْقِيبَ وَالتَّرَاخِيَ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ بَعْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ مَعَ ضَعْفِهِ وَأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أبي حنيفة تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ فَهُوَ نَقْلُ وَاقِعَةِ حَالٍ لَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَى عُمُومِهَا وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ اسْتِيعَابَ رَأْسِهِ بَعْدَ مَسْحِ بَعْضِهِ أَوْ نَسِيَ المرة الثانية والثالثة بعد الأولة فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ نقل.(1/141)
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رضوان الله عليه أنه سئل عن تقديم الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَقَالَ: مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ، وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ مُخَالِفٌ وَمَعَ الْخِلَافِ يَسْقُطُ الْإِجْمَاعُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ فِي الْجَنَابَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ فِي الْوُضُوءِ وَلَيْسَ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ تَرْتِيبٌ فَكَذَلِكَ فِي بَدَنِ الْجُنُبِ وَإِنَّمَا التَّرْتِيبُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَغَايِرَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى أَنَّهُمَا كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ تَخْرِيقَ أحد الخفين جاز في المنع من المسح مجزى تَخْرِيقِهِمَا فَلَمَّا سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ سَقَطَ فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ الْمُتَغَايِرَةُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْمُحْدِثِ إِذَا اغْتَسَلَ فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ عَنْهُ إِذَا اغْتَسَلَ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَعْضَاءِ طَهَارَتِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِي غُسْلِهِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ، وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ إِذَا اغْتَسَلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ طَهَارَتَانِ مِنْ جِنْسٍ. فَإِحْدَاهُمَا كُبْرَى وَهِيَ الْغُسْلُ وَالتَّرْتِيبُ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَالْأُخْرَى صُغْرَى وَهِيَ الْوُضُوءُ وَالتَّرْتِيبُ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ رَفْعَ حَدَثِهِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ التَّرْتِيبِ فِيهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ فَخَالَفَ وَنَكَّسَ وُضُوءَهُ أَجْزَأَهُ مِنْهُ غَسْلُ وَجْهِهِ وَحْدَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ مَا بَعْدَهُ، فَلَوْ نَكَّسَ وُضُوءَهُ أَرْبَعَ مِرَارٍ صَحَّ لَهُ مِنْهَا وُضُوءٌ كَامِلٌ، لِأَنَّهُ يُعِيدُ بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى بِالْوَجْهِ.
وَفِي الثَّانِيَةِ: بِالذِّرَاعَيْنِ.
وَفِي الثَّالِثَةِ: بِالرَّأْسِ.
وَفِي الرَّابِعَةِ: بِالرِّجْلَيْنِ، فَلَوْ رَتَّبَ الْوَجْهَ وَالذِّرَاعَيْنِ وَقَدَّمَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرَّأْسِ أَعَادَ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ لِيَكُونَ غَسْلُهُمَا بَعْدَ الرَّأْسِ، وَلَوْ نَسِيَ أَحَدَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ اسْتَأْنَفَ وُضُوءَهُ كُلَّهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ غَسْلَ وَجْهِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي عَدَدِ مَا صَلَّى إِذَا شَكَّ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُتَوَضِّئُ مَوْضِعًا مِنْ وَجْهِهِ غَسَلَهُ مِنْ وَجْهِهِ وَأَعَادَ غَسْلَ(1/142)
مَا بَعْدَ الْوَجْهِ لِيَكُونَ بَعْدَ كَمَالِ غَسْلِ الْوَجْهِ مُتَوَضِّئًا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَنْ وَجْهِهِ اسْتَأْنَفَ جَمِيعَ وُضُوئِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ: جَوَازُ تَقْدِيمِ الْيُسْرَى عَلَى اليمنى في الوضوء) .
قال الشافعي رضي الله عنه: وإن قدم يسرى على يمنى أجزأه.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَسُنَّةٌ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّمَ ذَلِكَ فِي وُضُوئِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " إذا توضأتم وإذا لبستم فابدأوا بِمَيَامِنِكُمْ، وَبِأَيْمَانِكُمْ "، فَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فِيهِمَا وَقَدَّمَ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى أَجْزَأَهُ لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّمَ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى وَقَالَ: لَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ وَلِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمَا عَلَى سَوَاءٍ فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِمَا مُسْتَحَبًّا لَا وَاجِبًا، فَأَمَّا التَّرْتِيبُ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَسْنُونَةِ فِي الْوُضُوءِ وَهِيَ غَسْلُ الْكَفَّيْنِ " وَ " الْمَضْمَضَةُ ثُمَّ الِاسْتِنْشَاقُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَسْنُونٌ وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِي تَقْدِيمِ الِاسْتِنْشَاقِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَتَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ عَلَى الْكَفَّيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِهِ وَأَجْزَائِهِ بِخِلَافِ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا وَاجِبًا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ سُنَّةً كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا مَسْنُونًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَرْتِيبَهَا وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَتْ مَسْنُونَةً وَإِنْ نَكَّسَ وَخَالَفَ التَّرْتِيبَ لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يُقَدِّمْهُ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي فَرْضِهِ اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي مَسْنُونِهِ قِيَاسًا عَلَى أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ لَوْ جَدَّدَ وُضُوءَهُ لَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ التَّجْدِيدُ فِيهِ مَسْنُونًا.
فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِيهِ وَاجِبًا، وَهُوَ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ.
وَقِسْمٌ يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِيهِ مَسْنُونًا، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الْأَعْضَاءُ الْمَسْنُونَةُ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِيهَا وَجْهَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ: وُجُوبُ الطَّهَارَةِ لِحَمْلِ المصحف ومسه)
قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يحمل المصحف ولا يسمه إلا طاهراً.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ لِحَمْلِ الْمُصْحَفِ وَمَسِّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَهُ مَنْ لَيْسَ بِطَاهِرٍ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَجُوزُ حَمْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي(1/143)
سُلَيْمَانَ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) {آل عمران: 64) . وَقَدْ عَلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَمَسُّونَهُ وَيَتَدَاوَلُونَهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا لَمْ تَجِبْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَأَوْلَى أَلَّا تَجِبَ بِحَمْلِ مَا كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّمَا لَمْ يَكُنْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ مُسْتَحَقًّا فِيهِ لَمْ تَكُنِ الطَّهَارَةُ مُسْتَحَقَّةً فِيهِ كَأَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُتُبِ الْفِقْهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَصِحُّ مَسُّهُ فَعَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكِتَابُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ إِلَيْهِ وَلَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ إِلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَزَّلٍ وَمَسُّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَانَ: " أَلَّا تَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا وَأَنْتَ طاهرٌ "، وَرَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا طَاهِرًا "، فَإِنْ قِيلَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إِلَّا طَاهِرًا يَعْنِي: إِلَّا مُسْلِمًا.
قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: " لَا تَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا وَأَنْتَ طاهرٌ "، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّطْهِيرُ مِنَ النَّجَاسَةِ مُسْتَحَقًّا كَانَ التَّطْهِيرُ مِنَ الْحَدَثِ مُسْتَحَقًّا فِيهِ كَالصَّلَاةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ كِتَابِهِ إِلَى قَيْصَرَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَيْصَرَ كَانَ مُشْرِكًا وَالْمُشْرِكُ مَمْنُوعٌ مِنْ مَسِّهِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ كِتَابًا قَدْ تَضَمَّنَ مَعَ الْقُرْآنِ دُعَاءً إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ بنفسه مَقْصُودًا فَجَازَ تَغْلِيبًا لِلْمَقْصُودِ فِيهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ أَغْلَظُ حُكْمًا فهو(1/144)
أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيَمْنَعُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ فَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَلِأَنَّ الْعُضْوَ الَّذِي يَمَسُّهُ بِهِ مِنْ جَسَدِهِ لَا يَتَعَدَّى كَشْفَ الْعَوْرَةِ إِلَيْهِ وَيَتَعَدَّى حُكْمَ الْحَدَثِ إِلَيْهِ فَافْتَرَقَا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّهَارَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي حَمْلِ الْمُصْحَفِ فَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ حَمْلُهُ، فَأَمَّا الَّذِي عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَهُ أَوْ يَمَسَّهُ بِالْعُضْوِ النَّجِسِ مِنْ بَدَنِهِ فَأَمَّا بِأَعْضَائِهِ الَّتِي لَا نَجَاسَةَ عَلَيْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّلَاةِ كَالْمُحْدِثِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إسحاق يجوز والفرق بين المحدث وَالنَّجَاسَةِ أَنَّ الْحَدَثَ يَتَعَدَّى إِلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالنَّجَاسَةُ لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ مَا هَيَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُ المصحف ولا سبع منه، ولا جزؤ وَإِنْ قَلَّ، وَسَوَاءٌ حَمَلُوهُ مُبَاشِرِينَ لَهُ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ وَضَعُوهُ فِي أَكْمَامِهِمْ أَوْ أَخَذُوهُ بِعِلَاقَةٍ كُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَقَالَ أبو حنيفة التَّحْرِيمُ مَقْصُورٌ عَلَى مَسِّهِ دُونَ حَمْلِهِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ مَسُّ الطِّيبِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ حَمْلُهُ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ مِنْ مَسِّهِ فَلَمَّا حَرُمَ الْأَدْنَى مِنَ الْمَسِّ كَانَ تَحْرِيمُ الْأَغْلَظِ مِنَ الْحَمْلِ أَوْلَى فَأَمَّا الطِّيبُ فِي الْمُحْرِمِ فَالتَّحْرِيمُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ وَلَيْسَ فِي حَمْلِهِ اسْتِمْتَاعٌ بِهِ وَفِي حَمْلِهِ إِنْ كَانَ رَطْبًا اسْتِمْتَاعٌ بِهِ يَمْنَعُ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا اسْتِمْتَاعٌ بِهِ فَلَمْ يَحْرُمْ وَتَحْرِيمٌ الْمُصْحَفِ لِحُرْمَتِهِ فَاسْتَوَى فِيهِ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ.
(فَصْلٌ)
: وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ مَسُّهُ وَلَا مَسُّ مَا لَا كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ جِلْدِهِ وَوَرَقِهِ، وَأَجَازَ أبو حنيفة لِلْمُحْدِثِ دُونَ الْجُنُبِ أَنْ يَمَسَّ مِنَ الْمُصْحَفِ مَا لا كتابة فيه من جلد وورق، ولم يَحْمِلَهُ بِعَلَاقَتِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُرْمَةَ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِالْكِتَابَةِ الْمَتْلُوَّةِ دُونَ الْجِلْدِ وَالْوَرَقِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْجِلْدَ وَالْوَرَقَ الَّذِي لَا كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُصْحَفِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ حَنِثَ بِمَسِّ جِلْدِهِ وَبَيَاضِهِ كَمَا يَحْنَثُ بِمَسِّ كِتَابَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ مَسُّ جِلْدِهِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَسُّ كِتَابَتِهِ كَالْجُنُبِ وَقَدْ تَحَرَّرَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا حَرُمَ أَنْ يَمَسَّهُ الْجُنُبُ حَرُمَ أَنْ يَمَسَّهُ الْمُحْدِثُ كَالْكِتَابَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُصْحَفِ مَسُّ مَا فِيهِ مِنَ الْكِتَابَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَمَسَّ مَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابَةٌ كَالْجُنُبِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا حَمْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فَهِيَ ضَرْبَانِ؛
أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ كَثِيرًا وَلَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ غَالِبًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا سُورَةُ الْإِخْلَاصِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِلْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ لَا لِلْمَكْتُوبِ فِيهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا عَلَى وَرَقٍ أَوْ عَلَى فِضَّةٍ وذهب.(1/145)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ كَثِيرًا وَيَتَعَامَلُونَ بِهِ غَالِبًا فَفِي جَوَازِ حَمْلِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا يَلْحَقُ بِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ مِنَ التَّحَرُّزِ مِنْهَا.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا أَحَادِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُتُبُ الْفِقْهِ الَّتِي لَا قُرْآنَ فِيهَا فَيَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا وَكَذَلِكَ الْأَدْعِيَةُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ فِيهِ آيٌ مِنَ الْقُرْآنِ مِثْلُ كِتَابِ الْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ وَالثَّانِي: يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ فِيهَا. فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ فَإِنْ كَانَ مَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ أَكْثَرَ مِنْ تَفْسِيرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ حَمْلُهُ لِأَنَّنَا إِنْ غَلَّبْنَا حُرْمَةَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْأَغْلَبَ فَالْقُرْآنُ هُوَ الْأَغْلَبُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ فِيهِ أَكْثَرَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ غَلَّبْنَا حُرْمَةَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ غَلَّبْنَا الْأَغْلَبَ مِنَ الْمَكْتُوبِ جَازَ، فَأَمَّا الثِّيَابُ الَّتِي قَدْ كُتِبَ عَلَى طَرَزِهَا آيٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ لُبْسُهَا وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كُلَّهَا قُرْآنٌ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِلُبْسِهَا التَّبَرُّكُ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمُحْدِثَ مَمْنُوعٌ مَنْ حَمْلِهَا لِأَنَّهَا كُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّلَةٌ كَالْقُرْآنِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مَنْ حَمَلَهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فقصرت حرمتها عَنْ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُبْدَلَةٌ لِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا وَالْمُبْدَلُ لَا حُرْمَةَ لَهُ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا حَمْلُ الْمُصْحَفِ مَعَ قُمَاشٍ هُوَ فِي جُمْلَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقُرْآنَ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ حَمْلُهُ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةُ الْقُمَاشِ مَقْصُودًا فَفِي جَوَازِ حَمْلِهِمْ لَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُ تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ، وَقَدْ حَكَاهُ حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ وَالْأَلْوَاحِ الَّتِي فِيهَا الْقُرْآنُ إِذَا كَانُوا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ على وجهين:(1/146)
أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُونَ مِنْهُ كَالْبَالِغِينَ لِأَنَّ مَا لَزِمَتِ الطَّهَارَةُ لَهُ فِي حَقِّ الْبَالِغِينَ لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ لَهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْبَالِغِ كَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ وَيَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ طَهَارَتَهُمْ غَيْرُ كَامِلَةٍ بِخِلَافِ الْبَالِغِ فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ فِي حَمْلِهِ مَا لَيْسَ بِكَامِلٍ مِنَ التَّطْهِيرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي مَنْعِهِمْ مِنْهُ مَعَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ فِي حَمْلِهِ مَعَ مُدَاوَمَةِ الْحَدَثِ مِنْهُمْ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَرْكِ تَعْلِيمِهِ فَيُرَخَّصُ لَهُمْ حَمْلُهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمُحْدِثُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِيَدِهِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ تَصَفَّحَهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ جاز، ولو تصحفها بِكُمِّهِ الْمَلْفُوفِ عَلَى يَدِهِ لَمْ يَجُزْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ كُمِّهِ وَالْعُودِ أَنَّهُ لَابِسٌ لِكُمِّهِ وَاضِعٌ ليده عليه فجرى مجرى المباشرة، والعود باين منه وهو غير منسوب إلى مباشرته.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ كَتَبَ مُصْحَفًا فَإِنْ كَانَ حَامِلًا لِمَا يُكْتَبُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ جُنُبًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَامِلٍ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا جَازَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كِتَابَتُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ تِلَاوَتِهِ وَلِلْمُحْدِثِ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ التَّالِي لَهُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْكِتَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ كَتَبَ الْفَاتِحَةَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ تِلَاوَتِهَا، فَجَازَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَتْلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مسألة: حكم قراءة الجنب وغيره القرآن)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا جُنُبٌ، قال أبو إبراهيم: إن قدم الوضوء وأخر يعيد الوضوء والصلاة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، وَجَوَّزَ لَهُمْ دَاوُدُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْحَائِضِ أَنْ تَقْرَأَ دُونَ الْجُنُبِ، وَاسْتَدَلَّ دَاوُدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) {المزمل: 20) . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَرِوَايَةُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يذكر الله على كل أحيائه، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا حَسَدَ إِلَا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ورجلٍ آتَاهُ اللَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ " وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ(1/147)
سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا. وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَأَنْتَ جنبٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي آكُلُ وَأَشْرَبُ وَأَنَا جُنُبٌ وَلَا أَقْرَأُ وَأَنَا جُنُبٌ " وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ قَدْ كَانَ مَشْهُورًا فِي الصَّحَابَةِ مُنْتَشِرًا عِنْدَ الْكَافَّةِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَى رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ: وَطِئَ أَمَتَهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَطِئْتَ الْمَمْلُوكَةَ فَأَنْكَرَ فَقَالَتْ لَهُ إِنْ كُنْتَ لَمْ تَطَأْ فَاقْرَأْ فَقَالَ:
(شَهدت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ ... وَأَنَّ الْنَارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا)
(وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الماء طافٍ ... وفوق العرش رب العالمين)
(وتحمله ملائكةٌ شدادٌ ... ملائكة الإله مسومين)
فَتَشَبَّهَ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَظَنَّتْهُ قُرْآنًا فَقَالَتْ صَدَّقْتُ رَبِّي وَكَذَّبْتُ بَصَرِي، ثُمَّ إِنَّ عبد الله أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: " امْرَأَتُكَ أَفْقَهُ مِنْكَ "، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ.
فَأَمَّا مالك فَإِنَّهُ قَالَ إِنَّ الْحَائِضَ إِنْ لَمْ تَقْرَأْ نَسِيَتْ لِتَطَاوُلِ الْحَيْضِ بِهَا وَأَنَّهُ قَدْ رُبَّمَا اسْتَوْعَبَ شَطْرَ زَمَانِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجُنُبُ وَهَذَا خَطَأٌ لِوُرُودِ النَّصِّ بِنَهْيِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ،(1/148)
وَلِأَنَّ حَدَثَ الْحَيْضِ أَغْلَظُ مِنْ حَدَثِ الْجَنَابَةِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الصِّيَامِ وَالْوَطْءِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُمَا الْجَنَابَةُ، فَلَمَّا كَانَ الْجُنُبُ مَمْنُوعًا فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْحَائِضُ مَمْنُوعَةً ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ فَلَمَّا كَانَ الْمَسْجِدُ مَمْنُوعًا مِنَ الْحَائِضِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَا مَمْنُوعَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الصَّلَاةِ فَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقُرْآنِ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ بِدَلِيلٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَذْكَارِ الَّتِي لَيْسَتْ قُرْآنًا، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ مَخْصُوصٌ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ مَمْنُوعُونَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوا مِنْهُ آيَةً وَلَا حَرْفًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ تَعَوُّذًا وَتَبَرُّكًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يَقْرَءُوا صَدْرَ الْآيَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرَءُوا بَاقِيَهَا وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ لِأَنَّ حُرْمَةً يَسِيرَةً كَحُرْمَةٍ كَثِيرَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحَظْرِ، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَتِ الْجَنَابَةُ مِنْ كَثِيرِهِ مَنَعَتْ مِنْ يَسِيرِهِ كَالصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ)
: وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ أَنْ يَقْرَأَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَمْنَعْهُ وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقْرَأَ لِأَنَّهَا كَالْمُحْدِثِ، فَلَوْ أَرَادَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ أَنْ يَقْرَءَا بِقُلُوبِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَا بِهِ بِلِسَانِهِمَا جَازَ وَهَكَذَا لَوْ نَظَرَا فِي الْمُصْحَفِ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِمَا الْقُرْآنُ كَانَ جَائِزًا لَهُمَا لِأَنَّهُمَا يُنْسَبَانِ إِلَى الْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ سِرًّا بِاللِّسَانِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِسْرَارَ بِالْقُرْآنِ كَالْجَهْرِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَاللَّهُ أعلم.(1/149)
باب الاستطابة
قال الشافعي: أخبرنا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ محمدٍ بْنِ عَجْلَانَ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ فَإِذَا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا بغائطٍ وَلَا ببولٍ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ "، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَذَلِكَ فِي الصَّحَارِي لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ جَلَسَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فدل على أن البناء مخالفٌ للصحاري.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ إِنَّمَا سُمِّيَ بَابَ الِاسْتِطَابَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَنْجِيَ يُطَيِّبُ بِهِ نَفْسَهُ.
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: اسْتَطَابَ وَأَطَابَ إِذَا اسْتَنْجَى وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
(يَا رَخَمًا قَاظَ عَلَى مطلوب ... يعجل كيف الخارئ المتطيب)
يَعْنِي الْمُسْتَنْجِيَ وَسُمِّيَ اسْتِنْجَاءً لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا قَضَاءَ الْحَاجَةِ اسْتَتَرُوا بِنَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُرْتَفِعُ مِنْهَا، وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} (يونس: 92) . أَيْ: نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ.
وَأَمَّا الْغَائِطُ فَهُوَ الْمَكَانُ الْمُسْتَقِلُّ بَيْنَ عَالِيَيْنِ فَكَنَّى بِهِ عَنِ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ لَهُ.(1/150)
قال الشاعر:
(أما أتاك عن الْحَدِيثُ)
(إِذْ أَنَا بِالْغَائِطِ أَسْتَغِيثُ ... وَصِحْتُ فِي الْغَائِطِ يَا خَبِيثُ)
وَعَقْدُ هَذَا الْبَابِ وَمَدَارُهُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ " يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَعَلَهَا مُقَدِّمَةً يَأْنَسُ بِهَا السَّامِعُ لِأَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَحْشَةً عَلَى السَّامِعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَثَّهُمْ عَلَى سُؤَالِهِ فِيمَا احْتَشَمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَأَدَبِهِمْ كَمَا يَسْأَلُ وَالِدَهُ فِيمَا احْتَشَمَ غَيْرُهُ مِنْ سُؤَالِهِ.
وَالثَّالِثُ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْوَالِدَ يَلْزَمُهُ تَعْلِيمُ وَلَدِهِ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ دِينِهِ وَأَدَبِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي بَيَانِ الْأَدَبِ الشَّرْعِيِّ فَقَالَ: " فَإِذَا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا لِغَائِطٍ وَلَا بولٍ "، فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا ولا استدبارها فِي الْبُنْيَانِ وَلَا فِي الصَّحَارِي وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَصَاحِبَيْهِ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الْبُنْيَانِ وَالصَّحَارِي وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا وَلَا اسْتِدْبَارُهَا فِي الصَّحَارِي وَيَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الْبُنْيَانِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ.(1/151)
وَالرَّابِعُ: مَا رَوَاهُ محمد بن الحسن مَذْهَبًا ثَانِيًا أَنَّهُ أَجَازَ اسْتِدْبَارَهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَنَعَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ غَيْرَ أَنَّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ هُوَ الَّذِي يُعَوِّلُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِدْبَارِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَدِيثَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " فإذا ذهب أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لغائطٍ وَلَا بولٍ "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ.
وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لغائطٍ أَوْ بولٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا، قَالَ فَقَدِمْنَا الشَامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَكُنَّا نَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ إِنْ قَالُوا كُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ فِيهِ الْقِبْلَةَ اسْتَوَى فِيهِ الْبُنْيَانُ وَالصَّحَارِي كَالصَّلَاةِ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ بِفَرْجِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَالصَّحَارِي قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَ مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّحْرَاءِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْبُنْيَانِ كَوُجُودِهِ فِي الصَّحَارِي فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ الْمَنْعُ فِيهِمَا.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبُنْيَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهَا حَائِلٌ وَالْحَائِلُ عَنِ الْقِبْلَةِ لَا يَمْنَعُ حُكْمًا تَعَلَّقَ بِهَا دَلِيلُهُ الْجِبَالُ فِي الصَّحَارِي لِذِي الْحَاجَةِ، وَالْبُنْيَانُ لِلصَّلَاةِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَدِيثَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا، ثُمَّ إِنِّي رَأَيْتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بسنةٍ وَقَدْ قَعَدَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ.
وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ وَاسِعُ بن حيان عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلَا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ لَقَدِ ارْتَقَيْتُ عَلَى ظَهْرِ بيتٍ لَنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.(1/152)
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ إِذَا كَانَ مُبَاحًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ كَانَ مُبَاحًا إِلَى الْقِبْلَةِ قِيَاسًا عَلَى كَشْفِهَا لِلْمُبَاشَرَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ جِهَةٍ لَا يَحْرُمُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ إِلَيْهَا فِي الْمُبَاشَرَةِ لَمْ يَحْرُمْ كَشْفُ الْعَوْرَةِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.
(فَصْلٌ)
: وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَبَاحَ اسْتِدْبَارَهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَدِيثَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: لَقَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ شيءٍ حتى الخرأة، قَالَ: أَجَلٌ لَقَدْ نَهَانَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بغائطٍ وبولٍ وَأَلَّا نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، وَأَلَّا يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أحجارٍ أَوْ نَسْتَنْجِيَ برجيعٍ أَوْ عظمٍ) .
وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ أَبُو زَيْدٍ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ أَبِي مَعْقِلٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَتَيْنِ ببولٍ أَوْ غائطٍ) .
فَلَمَّا نَصَّ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ عُلِمَ إِبَاحَةُ الِاسْتِدْبَارِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالْقِبْلَةِ اخْتَصَّ بِاسْتِقْبَالِهَا دُونَ اسْتِدْبَارِهَا كَالصَّلَاةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ (مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ) مِنْ تَحْرِيمِ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ فِي الصَّحَارِي مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي أَيُّوبَ، وَعَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ فِي الْبُنْيَانِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْآخَرُونَ مِنْ حَدِيثَيْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِمَا حَدِيثَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ: قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا قَالَ: بَلَى إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْفَضَاءِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شيءٌ يَسْتُرُكَ فَلَا بأسٍ.(1/153)
وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَذَكَرْنَا اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِالْفُرُوجِ فَقَالَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِفُرُوجِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَوَقَدْ فَعَلُوا حَوِّلُوا بِمَقْعَدَتِي إِلَى الْقِبْلَةِ ".
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَهُوَ وَأَنَّ الصَّحَارِيَ لَا تَخْلُو غَالِبًا مِنْ مُصَلًّى فِيهَا فَيَتَأَذَّى بِكَشْفِ عَوْرَتِهِ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ إِنِ اسْتَقْبَلَهَا أَبْدَا إِلَيْهِ دُبُرَهُ وَإِنِ اسْتَدْبَرَهَا أَبْدَا إِلَيْهِ قُبُلَهُ فَمُنِعَ مِنِ اسْتِقْبَالِهَا واستدبارها لأن لا يقطع المصلين إِلَيْهَا وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْبُنْيَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِيهَا مُسْتَتِرٌ بِالْجِدَارِ مَعَ أَنَّ تَجَنُّبَ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ فِي الْمَنَازِلِ مَعَ ضِيقِهَا شَاقٌّ فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى مَنْ أَجَازَ الِاسْتِدْبَارَ فِي الصَّحْرَاءِ هُوَ أَنَّهُ أَحَدُ الْفَرْجَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ مُوَاجَهَةُ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَالْقُبُلِ وَعَلَى مَنْ حَرَّمَ الِاسْتِقْبَالَ فِي الْمَنَازِلِ أَنَّهُ أَحَدُ الْفَرْجَيْنِ فَلَمْ يَحْرُمْ فِي الْبُنْيَانِ مُوَاجَهَةُ الْقِبْلَةِ كَالدُّبُرِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى عُمُومِ تَحْرِيمِهِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ دَالٌّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي الصَّحَارِي دُونَ الْبُنْيَانِ، لِأَنَّهُ قَالَ: " فَإِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ وَالذَّهَابُ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الصَّحَارِي، دُونَ المنازل فيقال دخل وَلِأَنَّهُ قَالَ " الْغَائِطَ " وَذَلِكَ يَكُونُ فِي الصَّحَارِي دُونَ الْمَنَازِلِ؛ لِأَنَّهُ الْمَوْضِعُ الْمُسْتَقِلُّ بَيْنَ عَالِيَيْنِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِمَتْنِهِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا يَقْتَضِي الْعُمُومَ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَدَ فِي غَيْرِهِ مِنَ التَّخْصِيصِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِ أَبِي أَيُّوبَ فَذَلِكَ اجْتِهَادٌ مِنْهُ فَلَمْ يَلْزَمْ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمَعَانِي فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابٌ عَنْهَا وَانْفِصَالٌ مِنْهَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْآخَرُونَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَنَازِلِ، وَالْبُنْيَانِ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْمُشَاهَدَةِ لَهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْآخَرِينَ بِحَدِيثَيْ سَلْمَانَ وَمَعْقِلٍ أَنَّ مَنْصُوصَهُمَا الِاسْتِقْبَالُ فَصَحِيحٌ لَكِنْ أَرَادَ بِالْفَرْجَيْنِ مَعًا قُبُلًا وَدُبُرًا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَحْرِيمِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا فِي الصَّحَارِي دُونَ الْمَنَازِلِ فَجَلَسَ فِي الصَّحْرَاءِ إِلَى مَا يَسْتُرُهُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ دَابَّةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا(1/154)
هَلْ يُغَلَّبُ حُكْمُ الصَّحْرَاءِ فِي الْمَنْعِ مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا أَوْ يُغَلَّبُ حُكْمُ السُّتْرَةِ فِي جَوَازِ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّغْلِيبَ لِلسُّتْرَةِ لِوُجُودِ الِاسْتِتَارِ بِهَا وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ وَالِاسْتِدْبَارُ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّغْلِيبَ لِلْمَكَانِ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الصَّحْرَاءِ فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِقْبَالِ وَالِاسْتِدْبَارِ لأن القضاء فِيهَا أَغْلَبُ وَبَنَى عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِذَا كَانَ فِي مِصْرَ بَيْنَ خَرَابٍ قَدْ صَارَ فَضَاءً كَالصَّحْرَاءِ.
فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ وَالِاسْتِدْبَارُ اعْتِبَارًا بِصِفَةِ الْمَكَانِ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْمَكَانِ وَهَذَا التَّحْرِيمُ يَخْتَصُّ بِالْقِبْلَةِ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رَوَى مَعْقِلُ بْنُ أَبِي مَعْقِلٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَتَيْنِ قِيلَ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَهَى عَنِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ كَانَتْ قِبْلَةً، وَنَهَى فِي زَمَانٍ آخَرَ عَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ حِينَ صَارَتْ قِبْلَةً فَجَمَعَ الراوي بنيهما فِي رِوَايَتِهِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَأَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكَانَ نَهْيُهُ عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ عَامَ خَيْبَرَ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَقَصَدَ بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ مَنِ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِالْمَدِينَةِ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ وَمَنِ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ اسْتَدْبَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَارَ نَهْيُهُ عَنِ اسْتِقْبَالِهَا نَهْيًا عَنِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ واستدبارها وهذا تأويل بعض أصحابنا من المتقدمين.
(فصل)
: وأعلم أن الاستنجاء فِي الصَّحَارِي بَعْدَ تَحْرِيمِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا آدَابًا مُسْتَحَبَّةً وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهَا وَعَمِلَ السَّلَفُ عَلَيْهَا وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ أَدَبًا تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ فقسم منها مختص بِمَكَانِ الِاسْتِنْجَاءِ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ آدَابٍ، وَقِسْمٌ مِنْهَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْتَنْجِي فِي نَفْسِهِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ. فَأَمَّا الثمانية التي تختص بمكان الاستنجاء.
أحدهما: الْإِبْعَادُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصيانة وإكمال الْعِشْرَةِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا ذَهَبَ بَعُدَ، وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا أَرَادَ الْبُرَازَ انْطَلَقَ حَتَى لَا يراه أحدٌ.(1/155)
والثاني: أن يستتر بسترة لأن لا يَرَاهُ مَارٌّ فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رملٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حرجٍ "، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُحْدِثُوا فِي الْقَزَعِ فَإِنَّهُ مَأْوَى الْخَافِينَ "، الْقَزَعُ هُوَ الْوَضْعُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ يَسْتُرُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَزَعِ الرَّأْسِ الَّذِي لَا شَعْرَ فِيهِ، وَمَأْوَى الْخَافِينَ هُوَ مَأْوَى الْجِنِّ سُمُّوا الْخَافِينَ لِاسْتِخْفَائِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يتوقى مهاب الرياح لأن لا يَرُدَّ الرِّيحُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ، وَقَدْ رَوَى الْأَعْرَجُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ لِلْغَائِطِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الرِّيحَ ".
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَرْتَادَ لِبَوْلِهِ أرضاَ لَيِّنَةً حَتَّى لَا يَرْتَفِعَ لِبَوْلِهِ رَشِيشٌ يُؤْذِيهِ فَقَدْ رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ يومٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبُولَ فَأَتَى دَمِثًا فِي أَصْلِ جدارٍ فَبَالَ ثُمَّ قَالَ: " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَبُولَ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ ".
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَتَوَقَّى الْبَوْلَ فِي ثُقْبٍ أَوْ سِرَبٍ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَلَيْهِ مِنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ مَا يُؤْذِيهِ أَوْ لِئَلَّا يُؤْذِيَ حَيَوَانًا فِيهِ، وَقَدْ رَوَى قَتَادَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ فَقِيلَ لِقَتَادَةَ: وَلِمَ يُكْرَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ مَسَاكِنُ الْجِنِّ.
وَالسَّادِسُ: أن يتوقى في الجواد، وَقَوَارِعَ الطُّرُقِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجْلِسُ فِيهَا النَّاسُ أَوْ يَنْزِلُهَا السَّيَّارَةُ لِئَلَّا يَتَأَذَّوْا بِهَا.
فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْحِمْيَرِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اتقوا(1/156)
الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ، الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ ". وَالْمَوَارِدُ: هِيَ الطُّرُقُ إِلَى الْمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
(أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صراطٍ ... إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مستقيمٍ) .
وَالسَّابِعُ: أَنْ يَتَوَقَّى الْقُبُورَ أَنْ يُحْدِثَ عَلَيْهَا أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا صِيَانَةً لَهَا وَحِفَاظًا لِحُرْمَةِ أَهْلِهَا فَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ جَلَسَ عَلَى قبرٍ يَبُولُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَغَوَّطُ عَلَيْهِ فَكَأَنَّمَا جَلَسَ عَلَى جمرةٍ ".
وَالثَّامِنُ: أَلَّا يَتَغَوَّطَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْمُثْمِرَةِ وَلَا يَبُولَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ بِهَذَا مَأْكُولًا وَبِهَذَا طَهُورًا وَمَشْرُوبًا فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ تَغَوَّطَ عَلَى نهرٍ يُتَوَضَّأُ مِنْهُ وَيُشْرَبُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ " فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ آدَابٍ تُخْتَصُّ بِمَكَانِ الْمُسْتَنْجِي.
وَأَمَّا الثَّمَانِيَةُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهِ فِي نَفْسِهِ:
أَحَدُهَا: أَلَّا يَكْشِفَ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ وَأَصْوَنُ، فَقَدْ رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَمْ يَرْفَعْ ثَوْبَهُ حَتَّى يدنوا مِنَ الْأَرْضِ) .
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى فَإِنَّهُ أَنْجَحُ لَهُ، وَقَدْ رَوَى سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: لَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ نَتَوَكَّأَ عَلَى الْيُسْرَى وَأَنْ نَنْصِبَ الْيُمْنَى.(1/157)
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَغُضَّ طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ، وَلَا يُكَلِّمَ أَحَدًا، فَقَدْ رَوَى أَبُو عِيَاضٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمُتَغَوِّطَيْنَ أَنْ يَتَحَدَّثَا فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ.
وَالرَّابِعُ: أَلَّا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ لِأَنَّ يَمِينَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَتْ لِمَا عَلَاهُ وَيُسْرَاهُ لِمَا سَفَلَ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن يمس ذكره بيمينه ".
والخامس: أَنْ يَقُولَ عِنْدَ جُلُوسِهِ مَا رَوَاهُ النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ محتضرةٌ فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْخَلَاءَ فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ ".
وَالسَّادِسُ: إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى خَلَعَهُ قَبْلَ دُخُولِهِ أَوْ جُلُوسِهِ فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ ".
وَالسَّابِعُ: أَنْ يَنْثُرَ ذَكَرَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ مَقَامِهِ بَعْدَ أَنْ يَتَنَحْنَحَ لِتَخْرُجَ بَقَايَا بَوْلِهِ مِنْ ذَكَرِهِ فَقَدْ رَوَى عِيسَى بْنُ يَزْدَادُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْثُرْ ذَكَرَهُ ثَلَاثًا ".(1/158)
وَالثَّامِنُ: أَنْ يَقُولَ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ مَا رَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ وَهْرَامَ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا خَرَجَ أَحَدُكُمْ مِنَ الْخَلَاءِ فَلْيَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي مَا يُؤْذِينِي وَأَمْسَكَ عَلَيَّ مَا يَنْفَعُنِي " فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ آدَابٍ تَخْتَصُّ بِالْمُسْتَنْجِي فِي نَفْسِهِ وَهِيَ تَمَامُ سِتَّةَ عَشَرَ، وبالله التوفيق.
(مسألة: وجوب الاستنجاء)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن جَاءَ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ خَرَجَ مِنْ ذَكَرِهِ أَوْ مِنْ دُبُرِهِ شيءٌ فَلْيَسْتَنْجِ بماءٍ أَوْ يَسْتَطِيبَ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ لَيْسَ فِيهَا رجيعٌ وَلَا عظمٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الِاسْتِنْجَاءُ وَاجِبٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الِاسْتِنْجَاءُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ مُجْزِيَةٌ، وَجَعَلَ مَحَلَّ الِاسْتِنْجَاءِ مِقْدَارًا يَعْتَبِرُ بِهِ سَائِرَ النَّجَاسَاتِ وَحَدُّهُ بِالدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ وَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ "، فَلَمَّا قَرَنَهُ بِالِاكْتِحَالِ وَوَضَعَ الْحَرَجَ عَنْ تَارِكِهِ دَلَّ عَلَى عَدَمِ إِيجَابِهِ، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَا يَلْزَمُهُ إِزَالَةُ أَثَرِهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إِزَالَةُ عَيْنِهَا كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ.
وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَا تَجِبُ إِزَالَتُهَا بِالْمَاءِ فَلَمْ تَجِبْ إِزَالَتُهَا بِغَيْرِ الْمَاءِ قِيَاسًا عَلَى الْأَثَرِ. وَدَلِيلُنَا عموم قوله تعالى: {وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ) {المدثر: 5) ، ولم يفرق وَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ إِلَى قَوْلِهِ فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ ". وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ "، فَلَمَّا أَمَرَ بِالْأَحْجَارِ وَعَلَّقَ الْإِجْزَاءَ بِهَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا وَعَدَمِ الْإِجْزَاءِ بِفَقْدِهَا، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَقْدِرُ فِي الْغَالِبِ عَلَى إِزَالَتِهَا مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ إِزَالَتُهَا وَاجِبَةً قِيَاسًا عَلَى مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ،(1/159)
وَلِأَنَّ كُلَّ مَا مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مَنَعَ مِنْهَا وَإِنْ نَقَصَ عَنِ الدِّرْهَمِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ بِمَائِعٍ أُقِيمَ فِيهَا الْجَامِدُ مَقَامَهُ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً كَالتَّيَمُّمِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ من وجهين:
أحدها: أَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ لَا عَائِدٌ إِلَى الْإِيتَارِ فَإِذَا تَرَكَهُ إِلَى الشَّفْعِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى تَرْكِ الْأَحْجَارِ إِلَى الْمَاءِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَمُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِهِمْ بِالْمَنِيِّ يَجِبُ عِنْدَهُمْ إِزَالَةُ عَيْنِهِ دُونَ أَصْلِهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي دَمِ الْبَرَاغِيثِ لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ فِي إِزَالَتِهِ وَكَذَلِكَ قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَثَرِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ يَشُقُّ إِزَالَتُهُ بِالْحَجَرِ.
(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يُوجِبُ الِاسْتِنْجَاءَ وَهُوَ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ وَكُلُّ ذِي بَلَلٍ خرج من السبيلين.
وقسم لا يجوب الِاسْتِنْجَاءَ وَهُوَ الصَّوْتُ وَالرِّيحُ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ مَوْضُوعٌ لِإِزَالَةِ النَّجَسِ، وَالصَّوْتُ وَالرِّيحُ لَا يُنَجِّسُ مَا لَاقَاهُ فَلَمْ يَجِبِ الِاسْتِنْجَاءُ مِنْهُ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُنَجِّسِ الثَّوْبَ فَلَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ مِنْهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ وَهُوَ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مِنَ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا بَلَلَ مَعَهَا كَالدُّودِ وَالْحَصَى إِذَا خَرَجَا يَابِسَيْنِ، فَفِي وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ لِعَدَمِ الْبَلَلِ كَالصَّوْتِ وَالرِّيحِ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ لِوُجُودِ الْعَيْنِ كَالْغَائِطِ والبول.
(فَصْلٌ)
: وَمَا أَوْجَبَ الِاسْتِنْجَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ نَادِرٌ وَمُعْتَادٌ، فَالْمُعْتَادُ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ بَيْنَ الْأَحْجَارِ وَالْمَاءِ، وَالنَّادِرُ كَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَدَمِ النَّاصُورِ، وَالْقَيْحِ. فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْأَحْجَارِ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى الْمُعْتَادِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الْمَاءُ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِنَضْحِ الْمَاءِ عَلَى الْمَذْيِ، وَلِأَنَّهُ نَادِرٌ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ غَالِبًا فِي مَحَلِّهِ فَأَشْبَهَ نَجَاسَةَ الْبَدَنِ، فَأَمَّا دَمُ الْحَيْضِ فَمُعْتَادٌ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَنَادِرٌ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَحْجَارِ وَالْمَاءِ فَإِنِ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ، رَوَى عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ حَائِطًا فَقَضَى حَاجَتَهُ وَخَرَجَ عَلَيْنَا(1/160)
وَقَدِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ وَإِنِ اسْتَعْمَلَ الْأَحْجَارَ وَحْدَهَا وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا أَجْزَأَهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ كَقَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الدِّرْهَمِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ وَلَمْ يَجْزِهِ الْأَحْجَارُ فَلَمْ يَجْعَلْ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مَوْضِعًا يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ فِيهِ، وَفِيمَا مَضَى دَلِيلٌ عَلَيْهِ كَافٍ، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْهُ إِلَّا فِي حَالِ صروره وَقَالَ: قَدْ كَانَ الْقَوْمُ يَبْعَرُونَ بَعْرًا وَأَنْتُمْ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فَأَتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ وَلَعَلَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنَعَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا انْتَشَرَ عَنِ السَّبِيلَيْنِ.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَا فَرْقَ فِي اسْتِعْمَالِ الْأَحْجَارِ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وَعَدَمِهِ، وَالْعَدَدُ مُعْتَبَرٌ فِي اسْتِعْمَالِهَا وَهُوَ ثَلَاثٌ لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدَ: الْعَدَدُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَإِنَّمَا الْإِنْقَاءُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فَإِذَا أَنْقَى بِحَجَرٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ ". وَاسْمُ الْوَتْرِ يَقَعُ عَلَى الْمَرَّةِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ فَأَوْلَى أَلَّا يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الْأَحْجَارِ الَّتِي هِيَ فَرْعٌ، وَلِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ الْإِنْقَاءُ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ كَالثَّلَاثِ.
ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ "، وَهَذَا أَمْرٌ، وَحَدِيثُ سَلْمَانَ: لَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أحجارٍ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اسْتَنْجَى أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ ثَلَاثًا "، وَحَدِيثُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ فَقَالَ: " بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُوتِرْ ثَلَاثًا " وَرَوَى أَبُو رَزِينٍ الْبَاهِلِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ الْبَاهِلِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " الِاسْتِجْمَارُ تَوٌّ فَإِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ بتوٍّ " وَالتَّوُّ: الْوِتْرُ يُرِيدُ بِهِ ثَلَاثًا.
وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ شُرِعَ إِزَالَتُهَا بِعَدَدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْعَدَدَ كَالْوُلُوغِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ " فَهُوَ أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ.(1/161)
وأما الجواب عن استدلالهم اسْتِدْلَالِهِ بِالْمَاءِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَصْلٍ لِلْأَحْجَارِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا اعْتُبِرَتْ فِيهِ إِزَالَةُ الْأَثَرِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْعَدَدِ، وَالْأَحْجَارُ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا إِزَالَةُ الْأَثَرِ افْتَقَرَتْ إِلَى الْعَدَدِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْإِنْقَاءِ فَمَعَ الْإِنْقَاءِ تَعَبُّدٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ كَالْوُلُوغِ وَعَدَدِ الْإِقْرَاءِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ وَلَا عَظْمٌ، فَفِي الرَّجِيعِ لِأَصْحَابِنَا تَأْوِيلَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ النَّجْوُ الَّذِي قَدْ رَجَعَ عَنِ الطَّعَامِ فَصَارَ نَجِسًا فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ مُظْهَرٌ وَتَقْدِيرُهُ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَمَا قَامَ مَقَامَهَا لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ وَلَا عَظْمٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجِيعَ هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي قَدِ اسْتُعْمِلَ مَرَّةً فَصَارَ رَاجِعًا عَنِ الْمَوْضِعِ النَّجِسِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ يَسْتَنْجِي بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ ولا عظم. والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يمسح بحجرٍ قد مسح به مرة إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ طَهَّرَهُ بِالْمَاءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعْمَلَهُ فَقَدْ صَارَ نَجِسًا وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالشَّيْءِ النَّجِسِ لَا يَجُوزُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ لِنَجَاسَتِهِ وَلِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تُزِيلُ النَّجَاسَةَ عَنْ مَحَلٍّ طَاهِرٍ كَمَا لَا تَزُولُ نَجَاسَةُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ جَوَّزْتُمُ الدِّبَاغَةَ بِالشَّيْءِ النَّجِسِ فَلِمَ مَنَعْتُمْ مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالشَّيْءِ النَّجِسِ؟ قِيلَ: إِنَّمَا جَوَّزْنَا الدِّبَاغَةَ بِالشَّيْءِ النَّجِسِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، لأنها تخلف الزكاة والزكاة يَجُوزُ بِالسِّكِّينِ النَّجِسِ، فَكَذَلِكَ الدِّبَاغَةُ وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ يَخْلُفُ الْمَاءَ وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ النَّجِسِ فَكَذَلِكَ الْأَحْجَارُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ بَعْدَ نَجَاسَتِهِ فَإِنْ غَسَلَهُ بِالْمَاءِ حَتَّى طَهُرَ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ ثَانِيَةً، وَإِنْ غَسَلَهُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ ثَانِيَةً جَازَ اسْتِعْمَالُهُ ثَالِثَةً لِأَنَّهُ بِالْغَسْلِ قَدْ صَارَ طَاهِرًا، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ مَنَعْتُمْ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ثَانِيَةً فَلِمَ جَوَّزْتُمُ اسْتِعْمَالَ الْحَجَرِ الْمُسْتَعْمَلِ ثَانِيَةً؟ قُلْنَا هُمَا سَوَاءٌ وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا إِعَادَةَ الْحَجَرِ الْمُسْتَعْمَلِ ثَانِيَةً لِأَنَّ الْغَسْلَ قَدْ عَادَ إِلَى أَصْلِهِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَوْ عَادَ إِلَى أَصْلِهِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ الطَّاهِرِ جَوَّزْنَا اسْتِعْمَالَهُ ثَانِيَةً.
(فَصْلٌ)
: فَإِنْ ثَبَتَ جَوَازُ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ الْغَسْلِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْغَسْلِ يَابِسًا فَاسْتِعْمَالُهُ جَائِزٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَطْبًا وَالْمَاءُ عَلَيْهِ قَائِمًا فَاسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَزُولَ الْمَاءُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ يَزِيدُ الْمَحَلَّ تَنْجِيسًا وَلَا يُزِيلُ شَيْئًا.(1/162)
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَدِيًّا قَدْ زَالَتْ رُطُوبَةُ الْمَاءِ عَنْهُ، وَلَمْ يَجِفَّ بَعْدُ فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالرَّطْبِ لِبَقَاءِ النَّدَاوَةِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ كَالْجَافِّ لِذَهَابِ الرُّطُوبَةِ عَنْهُ.
فَأَمَّا وَرَقُ الشَّجَرِ فَإِنْ جَفَّ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ أَوْ جَفَّ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ إِذَا كَانَ مُزِيلًا، وَإِنْ كَانَ نَدِيَّ الظَّاهِرِ فَفِي جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ وَجْهَانِ كالحجر الندي.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالِاسْتِنْجَاءُ مِنَ الْبَوْلِ كَالِاسْتِنْجَاءِ مِنَ الْخَلَاءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فلا تستقبل الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرْهَا لِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَكَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَصَارَ حُكْمُهُمَا واحد، لأن الْبَوْلَ مُسَاوٍ لِلْخَلَاءِ فِي تَنْجِيسِ السَّبِيلِ فَوَجَبَ أَنْ يُسَاوِيَهُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُمَا فَالِاسْتِنْجَاءُ مِنَ الْخَلَاءِ يَجُوزُ بِالْأَحْجَارِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْجِي رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ خُنْثَى، وَأَمَّا الْمُسْتَنْجِي مِنَ الْبَوْلِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ رَجُلًا فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْأَحْجَارِ فِي ذَكَرِهِ فَيَمْسَحُهُ ثَلَاثًا وَلَا يَجْزِيهِ أَقَلُّ مِنْهَا فَإِنْ مَسَحَهُ بِحَجَرَيْنِ ثُمَّ خَرَجَتْ مِنْهُ دَمْعَةٌ مِنْ بَوْلٍ اسْتَأْنَفَ مَسْحَهُ ثَلَاثًا وَبَطَلَ حُكْمُ الْحَجَرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا جَازَ أَنْ تَسْتَنْجِيَ بِالْأَحْجَارِ لِفَرْجِهَا قِيَاسًا عَلَى ذَكَرِ الرَّجُلِ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَسْتَنْجِيَ فَرْجَهَا بِالْأَحْجَارِ لِمَا يَلْزَمُهَا مِنْ تَطْهِيرِ دَاخِلِ الْفَرْجِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِالْأَحْجَارِ فَلَزِمَهَا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَا غير.
والقسم الثالث: أن يكون خنثاً مُشْكِلًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْأَحْجَارِ مِنْ بَوْلِهِ لَا فِي فَرْجِهِ وَلَا فِي ذَكَرِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُضْوًا زَائِدًا فَلَا يُطَهَّرُ إِلَّا بِالْمَاءِ كَسَائِرِ الْجَسَدِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا مَنِ انْسَدَّ سَبِيلَاهُ وَانْفَتَحَ لَهُ سَبِيلُ حَدَثٍ غَيْرُهُمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ فِيهِ بِالْأَحْجَارِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ لِلْحَدَثِ فَصَارَ فِي اسْتِعْمَالِ الْأَحْجَارِ كَالسَّبِيلِ الْمُعْتَادِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فَلَحِقَ بِسَائِرِ الْأَنْجَاسِ وَفَارَقَ حُكْمَ السبيل المعتاد.(1/163)
القول في مسألة الاستنجاء باليمين
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَسْتَنْجِي بِشِمَالِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِشِمَالِهِ دُونَ يُمْنَاهُ لِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْيُمْنَى لِطَهُورِهِ وَطَعَامِهِ وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَمْسَحُ بِيَمِينِهِ وَإِذَا شَرِبَ فَلَا يَشْرَبْ نَفَسًا وَاحِدًا ".
وَإِذَا وَضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ الِاسْتِنْجَاءَ بِالشَّمَالِ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ صِفَةُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَالْأَحْجَارِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْمُسْتَنْجِي مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ إنجاء قبله أو إنجاء دبره فإن أراد إنجاء قبله فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ أَوِ اسْتِعْمَالَ الْأَحْجَارِ فَإِنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فَإِنْ كَانَ رَجُلًا غَسَلَ مِنْ ظَاهِرِ ذَكَرِهِ مَا أَصَابَهُ الْبَوْلُ وَيُسْتَحَبُّ لَوْ تَنَحْنَحَ وَقَامَ عَنْ مَكَانِ بَوْلِهِ وَسَلَتْ ذَكَرَهُ لِيَخْرُجَ بَقَايَا الْبَوْلِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً لَزِمَهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَلَمْ يَلْزَمْهَا ذَلِكَ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا، فَأَمَّا إِنْ أَرَادَ الْمُسْتَنْجِي استعمال الأحجار قبله فللا يخلو خاله مِنْ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ فِي الْقُبُلِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَجَازَ أَنْ تَسْتَعْمِلَهَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي نَذْكُرُهَا فِي إِنْجَاءِ الدُّبُرِ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ وَضْعُ الْحَجَرِ بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَأَخْذُ ذَكَرِهِ بِيُسْرَاهُ فَعَلَ وَمَسَحَ ذَكَرَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا عَلَى ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْهُ أَوْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَإِنْ صَغُرَ الْحَجَرُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَسْحِ ذَكَرِهِ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَنْ يَأْخُذَهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ يُسْرَاهُ لِأَخْذِ الْحَجَرِ أَوْ لِأَخْذِ الذَّكَرِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِيُسْرَاهُ الْحَجَرَ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِنْجَاءِ وَيَكُونُ ذَكَرُهُ بِيُمْنَاهُ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ يَمْسَحَ الْحَجَرَ عَلَى ذَكَرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَأْخُذَ بِيُسْرَاهُ الذَّكَرَ وَبِيُمْنَاهُ الْحَجَرَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ بِيَمِينِهِ فَعَلَى هَذَا يَمْسَحُ الذَّكَرُ عَلَى الْحَجَرِ لِيَكُونَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا ماسحاً باليسرى دون اليمنى.(1/164)
(فصل)
: وإن أَرَادَ اسْتِنْجَاءَ دُبُرِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يُرِيدَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ أَوِ اسْتِعْمَالَ الْأَحْجَارِ، فَإِنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ اعْتَمَدَ عَلَى الْوُسْطَى مِنْ أَصَابِعِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَاسْتَعْمَلَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ بِزَوَالِ النَّجَاسَةِ عَيْنَا وَأَثَرًا، فَإِنْ شَمَّ مِنْ أَصَابِعِهِ الْوُسْطَى الَّتِي بَاشَرَ بِهَا الِاسْتِنْجَاءَ رَائِحَةَ النَّجَاسَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ أَوْ لَا عَلَى وجهين:
أحدهما: أنه يكون ذلك دليلاً عَلَى نَجَاسَةِ الْمَحَلِّ، وَأَنَّ فَرْضَ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ يَسْقُطْ لِأَنَّ بَقَاءَ الرَّائِحَةِ فِي الْأُصْبُعِ لِتَعَدِّيهَا مِنْ مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْمُسْتَنْجِي مَنْدُوبًا إِلَى شَمِّ أُصْبُعِهِ وَهَذَا مِمَّا تَعَافُهُ النُّفُوسُ وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ بَقَاءَ الرَّائِحَةِ فِي أُصْبُعِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِي الْأُصْبُعِ لِأَنَّ بَقَاءَ النَّجَاسَةِ فِي عُضْوٍ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهَا فِي غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ الْمُسْتَنْجِي مَنْدُوبًا إِلَى شَمِّ أُصْبُعِهِ لِأَجْلِ الِاسْتِنْجَاءِ.
فَإِنْ أَرَادَ اسْتِعْمَالَ الْأَحْجَارِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الْأَوَّلِ الصَّفْحَةَ الْيُمْنَى مِنْ مُقَدَّمِهَا إِلَى مُؤَخَّرِهَا، وَيَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الثَّانِي الصَّفْحَةَ الْيُسْرَى مِنْ مُؤَخَّرِهَا إِلَى مُقَدَّمِهَا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الثَّالِثِ جَمِيعَ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَسْرُبَةُ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ يُقْبِلُ بحجرٍ وَيُدْبِرُ بِالثَّانِي وَيُحَلِّقُ بِالثَّالِثِ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الْأَوَّلِ مِنْ مُقَدَّمِ الصَّفْحَةِ الْيُمْنَى إِلَى مُؤَخَّرِهَا ثُمَّ يُدِيرُهُ إِلَى الصَّفْحَةِ الْيُسْرَى مِنْ مُؤَخَّرِهَا إِلَى مُقَدَّمِهَا ثُمَّ يَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الثَّانِي مِنْ مُقَدَّمِ الصَّفْحَةِ الْيُسْرَى إِلَى مُؤَخَّرِهَا ثُمَّ يُدِيرُهُ عَلَى الصَّفْحَةِ الْيُمْنَى مِنْ مُؤَخَّرِهَا إِلَى مُقَدَّمِهَا ثُمَّ يَمْسَحُ بِالْحَجَرِ الثَّالِثِ جَمِيعَ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمَسْرُبَةُ لِرِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَوَلَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ ثَلَاثَةَ أحجارٍ حَجَرَيْنِ لِلصَّفْحَتَيْنِ وحجرٍ لِلْمُسْرُبَةِ ". وَالْمَسْرُبَةُ: مَخْرَجُ الْغَائِطِ مَأْخُوذٌ مِنْ سَرَبَ الْمَاءُ.(1/165)
(مسألة: الاستطابة بغير الحجر)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَطَابَ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْحِجَارَةِ مِنَ الْخَزَفِ وَالْآجُرِّ وَقِطَعِ الْخَشَبِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَأَنْقَى مَا هُنَالِكَ أَجْزَأَهُ مَا لَمْ يَعْدُ الْمَخْرَجَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الِاسْتِنْجَاءُ يَجُوزُ بِالْأَحْجَارِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ طَاهِرٍ مُزِيلٍ غَيْرِ مَطْعُومٍ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْأَحْجَارِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ استدلالاً بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ "، فَنَصَّ عَلَى عَدَدٍ وَجِنْسٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَدَدُ شَرْطًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الجنس شرطاً، قال ولأن كلما نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّطْهِيرِ لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ كَالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ وَالْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ، قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ نَصَّ فِيهَا عَلَى الْأَحْجَارِ لَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهَا بِغَيْرِ الْأَحْجَارِ قِيَاسًا عَلَى رَمْيِ الْجِمَارِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ "، وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، فَلَمَّا اسْتَثْنَى الرَّوْثَ وَالرِّمَّةَ وَهِيَ الْعَظْمُ الْبَالِي وَلَيْسَا مِنْ جِنْسِ الْأَحْجَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَحْجَارَ يَلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا لِاسْتِثْنَاءِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ مِنْهَا فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِلَّا الرَّوْثَ وَالرِّمَّةَ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِتَخْصِيصِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ بِالذَّكَرِ مَعْنًى. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ لِحَاجَتِهِ وَقَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: " ائْتِنِي بِثَلَاثَةِ أحجارٍ فَأَتَاهُ بِحَجَرَيْنِ وروثةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ وَقَالَ: إِنَّهَا رجسٌ ". فَعَلَّلَ الْمَنْعَ مِنْهَا بالنجاسة بأنها ليس بِحَجَرٍ كَمَا قَالَ دَاوُدُ، رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَالَ وَامْتَسَحَ بِالْحَائِطِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِغَيْرِ الْحَجَرِ لِأَنَّ مَا كَانَ طَاهِرًا مُزِيلًا غَيْرَ مَطْعُومٍ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ قِيَاسًا عَلَى الْأَحْجَارِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَى عَدَدٍ وَجِنْسٍ فَكَفَى بِالْخَبَرِ دَلِيلًا لِأَنَّ الْعَدَدَ لَمَّا جَازَ الْمُجَاوَزَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِنْقَاءِ فَكَذَلِكَ جَازَ الْعُدُولُ عَنِ الْأَحْجَارِ إِلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ الْإِنْقَاءُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَجَرٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا إِذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ وَعِنْدَ دَاوُدَ إِذَا أَنْقَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ فَهُوَ أَنَّ مَعْنَى التُّرَابِ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ وَلِفَقْدِ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُقَسْ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَجَرُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِنْقَاءُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِهِ فَقِسْنَاهُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى رَمْيِ الْجِمَارِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْأَحْجَارِ فِي رَجْمِ الزَّانِي، هَذَا لَوْ كَانَ الْأَصْلُ صَحِيحًا عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمَذْهَبُ دَاوُدَ أَنَّ غَيْرَ الْأَحْجَارِ يَجُوزُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ فَلَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا (أَنَّ الأمر بالأحجار) فِي رَمْيِ الْجِمَارِ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَلَمْ يُقَسْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَالْأَحْجَارُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى وَهُوَ الْإِزَالَةُ وَالْإِنْقَاءُ فَقِسْنَا عَلَيْهِ غَيْرَهُ.(1/166)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غَيْرَ الْأَحْجَارِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَحْجَارِ فَكُلُّ شَيْءٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا مُزِيلًا غَيْرَ مَطْعُومٍ وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ الصُّعْلُوكِيُّ يَقُولُ فِي حَدِّهِ: إِنَّهُ كُلُّ نَقِيٍّ مُنَقَّى وَلَا يَتْبَعُهُ نَفْسُ الْمُلْقِي، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ أَنَّهُ تَكَلُّفٌ فِي الْعِبَارَةِ يَرْغَبُ عَنْهُ الْعُلَمَاءُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. فَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ تَجْتَمِعُ فِي الْآجُرِّ وَالْخَزَفِ وَالْخِرَقِ وَالْخَشَبِ وَمَا خَشُنَ مِنْ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ وَالْمَدَرِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجَامِدَاتِ الَّتِي لَا حُرْمَةَ لَهَا فَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَا حُرْمَةٍ كَالْمُصْحَفِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ الْمَطْبُوعِ وَحِجَارَةِ الْحَرَمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ لِحُرْمَتِهِ، فَإِنِ اسْتَنْجَى بِهِ كَانَ مُسِيئًا وَأَجْزَأَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ حُرْمَتُهُ تَمْنَعُ مِنَ الْإِجْزَاءِ بِهِ كَالْمَأْكُولِ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ لِمَاءِ زَمْزَمَ حُرْمَةً تَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ لِقَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هُوَ لشارب مخل وَبِلٌّ، فَأَمَّا الْمُغْتَسِلُ فَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُبِلُّهُ ثُمَّ وَلَوِ اسْتَنْجَى بِهِ مَعَ حُرْمَتِهِ أَجْزَأَهُ إِجْمَاعًا، فَأَمَّا مَا عُدِمَ فِيهِ أَحَدُ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ فَإِنْ عُدِمَ الْوَصْفُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الطَّهَارَةُ وَكَانَ نَجِسًا إِمَّا نَجَاسَةَ عَيْنٍ كَالرَّوْثِ أَوْ نَجَاسَةَ مُجَاوَرَةٍ كَالْمَمْسُوسِ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجْزِهِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ وَقَالَ أبو حنيفة: الِاسْتِنْجَاءُ بِالرَّوْثِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ نَجِسًا وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ أَعْطَاهُ الرَّوْثَةَ فَأَلْقَاهَا وَقَالَ إِنَّهَا رجسٌ وَكَذَا كُلُّ رِجْسٍ وَرَوَى خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ فَقَالَ: بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا، رجيعٌ، وَالرَّجِيعُ هُوَ الْغَائِطُ لِأَنَّهُ كَانَ طَعَامًا فَرْجَعَ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَزُلْ بِالْمَائِعِ النَّجِسِ لَمْ يَجُزْ بِالْجَامِدِ النَّجِسِ، وَإِنْ عُدِمَ الْوَصْفُ الثَّانِي فَكَانَ غَيْرَ مُزِيلٍ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالِاسْتِنْجَاءِ هُوَ الْإِزَالَةُ، وَمَا لَا يُزِيلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا لَا يُزِيلُ لِنُعُومَتِهِ كَالْخَزِّ وَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يُزِيلُ لِصَقَالَتِهِ كَالزُّجَاجِ وَمَا تَمَلَّسَ مِنَ الصُّفْرِ وَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ وَالْحَجَرِ.
وَالثَّالِثُ: مَا لَا يُزِيلُ لِلِينِهِ كَالطِّينِ وَالشَّمْعِ.
وَالرَّابِعُ: مَا لا يزيل لضعفه ورخاوته كالفحم والحمم فكلما يَزِلُّ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، فَأَمَّا الْكَاغِدُ فَإِنْ كَانَ عَلَى صَقَالَتِهِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَسَّرَ وَخَشُنَ جَازَ وَكَذَا أَوْرَاقُ الشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ مَا كَانَ مِنْهُمَا خَشِنًا مُزِيلًا جَازَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا أَمْلَسَ لَمْ يَجُزْ، فَأَمَّا التُّرَابُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ إِذَا كَانَ ثَخِينًا مُتَكَاثِفًا يُمْكِنُ الْإِزَالَةُ بِهِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَذْرُورًا لَا يُمْكِنُ الْإِزَالَةُ بِهِ فَلَا.(1/167)
(فَصْلٌ)
: وَإِنْ عُدِمَ الْوَصْفُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا مَطْعُومًا لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَأْكُولِ استدلالاً بأمرين:
أحدهما: أنه كما كَانَ طَاهِرًا مُزِيلًا كَانَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ كَغَيْرِ الْمَأْكُولِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَشْرُوبِ وَلَمْ تَكُنْ حُرْمَتُهُ مَانِعَةً مِنْهُ كَذَلِكَ بِالْمَأْكُولِ وَلَا تَكُونُ حُرْمَتُهُ مَانِعَةً مِنْهُ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَوَجَبَ أَلَّا يَسْقُطَ حُكْمُ نَجَاسَتِهِ بِالْمَأْكُولِ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ سَبَبُهَا الْمَأْكُولُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَزُولَ بِالْمَأْكُولِ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَ إِيجَابَ حُكْمٍ لَمْ يُوجِبْ رَفْعَهُ، وَلَيْسَ كَالْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ يَرْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ اسْتِدْلَالًا وَانْفِصَالًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَأْكُولَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا هُوَ مَأْكُولٌ فِي الْحَالِ كَالْخُبْزِ وَالْفَوَاكِهِ وَبَيْنَ مَا يُؤْكَلُ فِي ثَانِي حَالٍ بَعْدَ عَمَلٍ كَاللَّحْمِ الَّتِي فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِمَا، فَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجْرِيهِ مَجْرَى اللَّحْمِ فَمَنَعَ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤْكَلُ بَعْدَ ذَبْحِهِ فَصَارَ كَاللَّحْمِ الَّذِي يُؤْكَلُ بَعْدَ طَبْخِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الصَّحِيحُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْحَيَّ لَا يُقَالُ لَهُ مَأْكُولٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَيْسَ كَاللَّحْمِ النِّيءِ، لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ قبل الطبخ وإنما يطبخ ليستطاب ويستمرئ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَكْلَ اللَّحْمِ النِّيءِ حَلَالٌ وأكل الحيوان حَرَامٌ. وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْحَيَوَانَ الْحَيَّ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ النُّعُومَةِ وَاللِّينِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِزَالَةِ صَحَّ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لِنُعُومَتِهِ وَلِينِهِ يَمْنَعُ مِنَ الْإِزَالَةِ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، فَلَوِ اسْتَنْجَى بِكَفِّ آدَمِيٍّ جَازَ وَلَوِ اسْتَنْجَى بِكَفِّ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يُجِيزُهُ بِكَفِّ نَفْسِهِ كَمَا يَجُوزُ بِكَفِّ غَيْرِهِ وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْفَرْقَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِي السُّجُودِ فَجَازَ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى كَفِّ غَيْرِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى كَفِّ نَفْسِهِ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَجَازَ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِكَفِّ غَيْرِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِكَفِّ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْفَوَاكِهُ وَالثِّمَارُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَلَا يَكُونُ يَابِسًا كَالْيَقْطِينِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ رَطْبًا لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَيَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يَابِسًا إِذَا كَانَ مُزِيلًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ.(1/168)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَأْكُولًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَالتِّينِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالتُّفَّاحِ وَإِنْ كَانَ فيهما حب يرمى به فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ بِحَالٍ لَا بداخله ولا بخارجه ولا رَطْبًا وَلَا يَابِسًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ مَأْكُولُهُ ظَاهِرًا وَدَاخِلُهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ كَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ وَكُلِّ ذِي نَوَى مِنَ الْفَوَاكِهِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِخَارِجِهِ الْمَأْكُولِ وَيَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِنَوَاهُ إِذَا أَزَالَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا كَانَ ذَا قِشْرٍ مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِلُبِّهِ الْمَأْكُولِ، فَأَمَّا قِشْرُهُ فَلَهُ ثلاثة أحوال:
حال لا يؤكل لا رَطْبًا وَلَا يَابِسًا.
وَحَالٌ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا.
وَحَالٌ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَلَا يُؤْكَلُ يَابِسًا، فَإِنْ كَانَ قِشْرُهُ لَا يُؤْكَلُ بِحَالٍ لَا رَطْبًا وَلَا يَابِسًا كَالرُّمَّانِ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِقِشْرِهِ وَهَكَذَا لَوِ اسْتَنْجَى بِرُمَّانَةٍ حَبُّهَا فِيهَا جَازَ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ كَانَتْ بِقِشْرِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَإِنْ كَانَ قِشْرُهُ قَدْ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا كَالْبِطِّيخِ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ رَطْبًا وَلَا يَابِسًا لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ، وَإِنْ كَانَ قِشْرُهُ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَلَا يُؤْكَلُ يَابِسًا كَاللَّوْزِ وَالْبَاقِلِي لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِقِشْرِهِ رَطْبًا لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَجَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يَابِسًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ، فَأَمَّا مَا يَأْكُلُهُ الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ فَإِنْ كَانَ أَكْلُ الْآدَمِيِّينَ لَهُ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزِ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْلُ الْبَهَائِمِ لَهُ أَكْثَرَ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ وَإِنِ اسْتَوَيَا فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ: شُرُوطُ إِجْزَاءِ الْحَجَرِ فِي الاستنجاء) .
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ عَدَا الْمَخْرَجَ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا الْمَاءُ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ يَسْتَطِيبُ بِالْأَحْجَارِ إِذَا لم ينتشر منه مَا يَنْتَشِرُ مِنَ الْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَحَوْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ سَبِيلِ الدُّبُرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَلَّا يَتَعَدَّى الْمَخْرَجَ وَلَا يَتَجَاوَزَ الْحَلْقَةَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْأَحْجَارَ إِنْ شَاءَ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِيهِ أَتَتْ فَإِنْ عَدَلَ إِلَى الْمَاءِ جَازَ وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ أَوْلَى فَيَبْدَأُ بِالْأَحْجَارِ الثَّلَاثِ حَتَّى يَزُولَ بِهَا الْعَيْنُ ثُمَّ يُعْقِبُهَا بِالْمَاءِ حَتَّى يَزُولَ بِهَا الْأَثَرُ لِيَكُونَ جَامِعًا بَيْنَ الطَّهَارَتَيْنِ فَإِنْ قَدَّمَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ لَمْ يَسْتَعْمِلِ الْأَحْجَارَ بَعْدَهَا لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ أَزَالَ الْعَيْنَ وَالْأَثَرَ فَلَمْ يَبْقَ لِلْأَحْجَارِ أَثَرٌ فَلَوْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا كَانَ بِالْمَاءِ إِلَيْنَا أَحَبَّ مِنَ الْأَحْجَارِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ وَحْدَهُ لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِالْأَحْجَارِ وَهَذَا لَعَلَّهُ قَالَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَاءِ وَقِلَّتِهِ فِي السَّفَرِ وَإِلَّا فَالْمَاءُ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ مِنَ الْحَجَرِ.(1/169)
وَقَدْ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قباءٍ: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَهِّرِينَ) {التوبة: 108) قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَعَدَّى الْمَخْرَجَ إِلَى ظَاهِرِ الْأَلْيَةِ وَأُصُولِ الْفَخِذَيْنِ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا الْمَاءُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ فِيهِ لِأَنَّ الْأَحْجَارَ رُخْصَةٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَهَذِهِ نَجَاسَةٌ ظَاهِرَةٌ خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الِاسْتِنْجَاءِ فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْأَحْجَارَ فِيمَا بَطَنَ وَالْمَاءَ فِيمَا ظَهَرَ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُجَوِّزُ لَهُ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِمَحَلِّ كُلٍّ واحد منهما لَوِ انْفَصَلَ وَهَذَا خَطَأٌ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْمُتَّصِلَةَ حُكْمُهَا وَاحِدٌ فَلَمَّا لَمْ يُجْزِ الْأَحْجَارُ فِي بَعْضِهَا وَهُوَ الظَّاهِرُ لَمْ يُجْزِ فِي الْبَعْضِ وَهُوَ الْبَاطِنُ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْمَاءُ فِي الْجَمِيعِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَدَّى الْمَخْرَجَ وَيُفَارِقَ الْحَلْقَةَ يَسِيرًا إِلَى بَاطِنِ الْأَلْيَةِ دُونَ ظَاهِرِهَا فَفِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْأَحْجَارِ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَحْجَارُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّجَاسَاتِ أَنَّهَا لَا تُزَالُ إِلَّا بِالْمَاءِ وَإِنَّمَا جُوِّزَ فِي إِزَالَتِهَا بِالْأَحْجَارِ فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ مَا لَمْ يَعْدُ مَخْرَجَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَحَكَاهُ الرَّبِيعُ، أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ تَرْكٌ لِاسْتِعْمَالِهَا.
فَأَمَّا الْبَوْلُ إِذَا تَجَاوَزَ مَخْرَجَهُ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ إِلَّا الْمَاءُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ مَا تَجَاوَزَ الْمَخْرَجَ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ كَبَاطِنِ الإلية والنجاسة في ظاهر الجسد لا يجزأ فيه إلا الماء.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَطِيبَ بِيَمِينِهِ فَيُجْزِئُ وَبِالْعَظْمِ فَلَا يُجْزِئُ أَنَّ الْيَمِينَ أداةٌ وَالنَهْيُ عَنْهَا أدبٌ وَالِاسْتِطَابَةَ طهارةٌ وَالْعَظْمُ لَيْسَ بطاهرٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ وَبِالْعَظْمِ حَيْثُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُمَا ثُمَّ جَازَ بِالْيَمِينِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ وَلَمْ يَجُزْ بِالْعَظْمِ لِأَجْلِ النَّهْيِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ يَدْخُلُ فَرْقُ الشَّافِعِيِّ فِيهِمَا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْيَمِينِ لِمَعْنًى فِي الْفَاعِلِ فَلَمْ يَقْتَضِ النَّهْيُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ(1/170)
كَنَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَالنَّهْيُ عَنِ الْعَظْمِ لِمَعْنًى فِي الْفِعْلِ فَاقْتَضَى النَّهْيُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَنَهْيِهِ عَنِ الصَّلَاةِ بِالنَّجَاسَةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الْيَمِينَ وَإِنْ جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهَا فَإِنَّ الْإِزَالَةَ تَكُونُ بِغَيْرِهَا فَلَمْ تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ مُؤَثِّرَةً فِي الْحُكْمِ، وَالْعَظْمُ يَقَعُ بِهِ الْإِزَالَةُ فَاخْتَصَّ النَّهْيُ عَنْهُ بِإِبْطَالِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِهِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْلِيلِ الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْعَظْمِ وَ " الْعَظْمُ لَيْسَ بِطَاهِرٍ ".
وَلَيْسَتِ الْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ كَوْنُهُ غَيْرَ طَاهِرٍ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، قِيلَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ كَلِمَةً ذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ وَالَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " وَالْعَظْمُ لَيْسَ بِنَظِيفٍ " أَيْ فِيهِ سَهُوكَةٌ وَلُزُوجَةٌ تَمْنَعُ مِنَ التَّنْظِيفِ وَهَذَا جَوَابُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّقْلَ صَحِيحٌ وَأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِطَاهِرٍ أَيْ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ وَهُوَ جَوَابٌ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ ذَكَرَ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ فِي الْعَظْمِ النَّجِسِ وَهُوَ كَوْنُهُ نَجِسًا وَكَوْنُهُ مَطْعُومًا وَلِلْعَظْمِ الطَّاهِرِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ كَوْنُهُ مَطْعُومًا فَذَكَرَ إِحْدَى عِلَّتَيِ الْعَظْمِ النَّجِسِ دُونَ الطَّاهِرِ وَهَذَا جَوَابٌ ذَكَرُهُ أَبُو حَامِدٍ.
(مَسْأَلَةٌ: وُجُوبُ إِنْقَاءِ مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ) .
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ مَسَحَ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ فَلَمْ يَنْقَ أَعَادَ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَثَرٌ إِلَّا أَثَرًا لَاصِقًا لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الْمَاءُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْمُسْتَنْجِي بِالْمَاءِ إِزَالَةَ الْعَيْنِ وَالْأَثَرِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا عَدَدٍ فَأَمَّا الْمُسْتَنْجِي بِالْأَحْجَارِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِزَالَةُ الْأَثَرِ وَعَلَيْهِ عِبَادَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْإِنْقَاءُ بِإِزَالَةِ الْعَيْنِ.
وَالثَّانِيَةُ: اسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ بِاسْتِكْمَالِ الثَّلَاثِ كَالْمُعْتَدَّةِ يَلْزَمُهَا عِبَادَتَانِ الِاسْتِبْرَاءُ وَاسْتِيفَاءُ الْأَقْرَاءِ فَإِذَا أَنْقَى الْمُسْتَنْجِي بِدُونِ الثَّلَاثِ لَزِمَهُ اسْتِيفَاءُ الثَّلَاثِ لِاسْتِيفَاءِ الْعَدَدِ وَإِنِ اسْتَوْفَى ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْقِ اسْتَعْمَلَ رَابِعًا وَخَامِسًا حَتَّى يُنَقِّيَ فَلَا يُبْقِي إِلَّا أَثَرًا لَاصِقًا لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الْمَاءُ فَيُعْفَى عَنْهُ فَلَوْ بَقِيَ مَا لَا يَزُولُ بِالْحَجَرِ لَكِنْ يَزُولُ الخرق وَصِغَارِ الْخَزَفِ فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ إِزَالَتُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ لِإِمْكَانِ إِزَالَتِهِ بِغَيْرِ الْمَاءِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِزَالَتُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فَرْضُهُ يَسْقُطُ بِالْأَحْجَارِ لَزِمَهُ إِنْقَاءُ مَا يَزُولُ بالأحجار.(1/171)
(مسألة: جواز الاستنجاء بالجلد المدبوغ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا بَأْسَ بِالْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ أَنْ يُسْتَطَابَ بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجُلُودَ ضَرْبَانِ مَدْبُوغَةٌ وَغَيْرُ مَدْبُوغَةٍ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا مَدْبُوغًا فَضَرْبَانِ مُذَكَّى وَغَيْرُ مُذَكَّى، فَأَمَّا الْمَدْبُوغُ الْمُذَكَّى فَالِاسْتِنْجَاءُ بِهِ جَائِزٌ، لَا تَخْتَلِفُ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُزِيلٌ غَيْرُ مَطْعُومٍ، فَأَمَّا الْمَدْبُوغُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ وَهُوَ أَحَدُ جِلْدَيْنِ، أَمَّا جِلْدُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ أَوْ جِلْدُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِذَا مَاتَ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الجديد يجوز بيعه فعلى هذا جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ جَائِزٌ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُزِيلٌ غَيْرُ مَطْعُومٍ فَأَشْبَهَ الْمُذَكَّى الْمَدْبُوغَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْمَيْتَةِ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِهِ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهَا فِي تحريم الاستنجاء له.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْجِلْدُ الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ فَضَرْبَانِ مُذَكَّى وَغَيْرُ مُذَكَّى.
فَأَمَّا غَيْرُ الْمُذَكَّى إِمَّا لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ أَوْ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَلَا يَجُوزُ الاستنجاء له لِنَجَاسَتِهِ.
وَأَمَّا الْمُذَكَّى فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي نَقْلِ الرَّبِيعِ وَالْمُزَنِيِّ، وَمَا يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ، وَتَوْجِيهُ التَّعْلِيلِ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ كَالْعَظْمِ وَرَوَى الْبُوَيْطِيُّ جَوَازَ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو حَامِدٍ وَطَائِفَةٌ يُخَرِّجُونَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ بِفِرَاقِ اللَّحْمِ عَنْ حَدِّ الْمَأْكُولِ: فَصَارَ كَالْمَدْبُوغِ وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَيَحْمِلُ رِوَايَةَ الرَّبِيعِ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ طَرِيًّا لَيِّنًا، وَرِوَايَةَ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ يَجُوزُ إِذَا كَانَ قَدِيمًا يَابِسًا، وَوَجَدْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيَّةِ أَنَّهُ يَحْمِلُ رِوَايَةَ الرَّبِيعِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى بَاطِنِ الْجِلْدِ وَدَاخِلِهِ لِأَنَّهُ بِاللَّحْمِ أَشْبَهُ، وَيَحْمِلُ رِوَايَةَ الْبُوَيْطِيِّ فِي جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْجِلْدِ وَخَارِجِهِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ حَالِ اللَّحْمِ لِخُشُونَتِهِ وَغِلَظِهِ وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ وَتَبْعِيضٌ مُطَّرَحٌ وَإِنَّمَا حَكَيَاهُ تَعَجُّبًا.(1/172)
(مسألة: جواز الاستنجاء بحجر له ثلاثة أحرف)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اسْتَطَابَ بحجرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أحرفٍ كَانَ كَثَلَاثَةِ أحجارٍ إِذَا أَنْقَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْحَجَرُ الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ يَقُومُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا مَقَامَ حَجَرٍ فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَنْجِي بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَيُجْزِيهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ إِلَّا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ، (لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أحجارٍ ") وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَكْتَفِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثِ مسحاتٍ "، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ أَعْدَادَ الْمَسْحِ لَا أَعْدَادَ الْحَجَرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَالَ فَمَسَحَ ذَكَرَهُ عَلَى الْحَائِطِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَائِطَ كَالْحَجَرِ الْوَاحِدِ لِاتِّصَالِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَسَرَ الحجر ثلاث قطع واستعملها يجزيه فكذا يجزيه وإن كان مجتمعاً لأنه ليس لانفصالها معنى يؤثر يَزِيدُ فِي التَّطْهِيرِ.
(مَسْأَلَةٌ: عَدَمُ جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بالعظم والنجس)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَسْتَطِيبَ بعظمٍ وَلَا نَجِسٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْعَظْمِ لَا يَجُوزُ وَذَهَبَ أبو حنيفة إِلَى جَوَازِهِ لِكَوْنِهِ طَاهِرًا مُزِيلًا كَالْحَجَرِ، وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ شَيْبَانَ عَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا رُوَيْفِعُ لَعَلَّ الْحَيَاةَ سَتَطُولُ بِكَ بَعْدِي فَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنَّ مَنِ اسْتَنْجَى بِرَجِيعِ دابةٍ أَوْ عظمٍ فَإِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْهُ بريءٍ ". وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ الْجِنِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ انْهَ أُمَّتَكَ أَنْ يَسْتَنْجُوا بعظمٍ أَوْ روثةٍ أَوْ حممةٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَنَا فِيهَا رِزْقًا. قَالَ: فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك.
وروى صالح مولى التوأمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا يستطيبن(1/173)
أَحَدُكُمْ بِالْبَعْرِ وَلَا بِالْعَظْمِ ". وَلِأَنَّ الْعَظْمَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُذَكًّى أَوْ غَيْرَ مُذَكًّى.
فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُذَكًّى فَهُوَ نَجِسٌ وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالنَّجِسِ لَا يَجُوزُ.
وَإِنْ كَانَ مُذَكًّى فَهُوَ مَطْعُومٌ وَالِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَطْعُومِ لَا يَجُوزُ لِمَا دللنا عليه ولأن في العظم سهوكة لزوجته تَمْنَعُ مِنَ الْإِزَالَةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، سَوَاءً كَانَ الْعَظْمُ الَّذِي يَسْتَنْجِي بِهِ رَخْوًا رَطْبًا أَوْ كَانَ قَوِيًّا مُشْتَدًّا، قَدِيمًا كَانَ أَوْ حَدِيثًا، مَيِّتًا كَانَ أَوْ ذَكِيًّا، فَإِنْ أُحْرِقَ بِالنَّارِ حَتَّى ذَهَبَتْ سهوكته لزوجته وخرج عَنْ حَالِ الْعَظْمِ فَإِنْ كَانَ عَظْمَ مَيِّتٍ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ نَجِسٌ عِنْدَنَا وَالنَّارُ لَا تُطَهِّرُ النَّجَاسَةَ، وَإِنْ كَانَ مُذَكًّى فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ إِحْرَاقِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ لِأَنَّ النَّارَ قَدْ أَحَالَتْهُ عَنْ حَالِهِ فَصَارَتْ كَالدِّبَاغَةِ تُحِيلُ الْجِلْدَ الْمُذَكَّى عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ إِلَى حَالٍ يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّمَّةَ هِيَ الْعَظْمُ الْبَالِي فَلَا فَرْقَ أَنْ يَصِيرَ بَالِيًا بِمُرُورِ الزَّمَانِ، وَبَيْنَ أَنْ يَصِيرَ بَالِيًا بِالنَّارِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى أَنَّ الرِّمَّةَ هِيَ الْعَظْمُ الْبَالِي قَوْلُ جَرِيرٍ لِابْنِهِ فِي شِعْرِهِ.
(فَارَقْتَنِي حين عن الدَهْرُ مِنْ بَصَرِي ... وَحِينَ صِرْتُ كَعَظْمِ الرُّمَّةِ الْبَالِي)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّارِ فِي الْعَظْمِ وَبَيْنَ الدِّبَاغَةِ فِي الْجِلْدِ أَنَّ الدِّبَاغَةَ تَنْقُلُ الْجِلْدَ إِلَى حَالٍ زَائِدَةٍ فَأَفَادَتْهُ حُكْمًا زَائِدًا، وَالنَّارُ تَنْقُلُ الْعَظْمَ إِلَى حَالٍ نَاقِصَةٍ، فَكَانَ أَوْلَى أن يصير حكمه ناقصاً.
(فصل)
: فأما قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَطِيبَ بِعَظْمٍ وَلَا نَجِسٍ، فَقَدْ رُوِيَ نَجِسٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَرُوِيَ نجسٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ فَمَنْ رَوَى بِالْكَسْرِ جَعَلَهُ صِفَةً لِلْعَظْمِ فَصَارَ مَعْنَاهُ، وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَسْتَطِيبَ بِعَظْمٍ لَا طَاهِرٍ وَلَا نَجِسٍ، وَمَنْ رَوَى بِالْفَتْحِ جَعَلَهُ ابْتِدَاءً، وَنَهَى عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالنَّجَاسَاتِ كُلِّهَا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ بِالنَّجَاسَاتِ لَا يَجُوزُ فَإِنِ اسْتَنْجَى بِهَا لَمْ يَجْزِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِهَا هَلْ يَسْتَعْمِلُ الْأَحْجَارَ بَعْدَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ بِغَيْرِ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ مَا حَدَثَ مِنَ النَّجَاسَةِ يَصِيرُ تَبَعًا لِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ.
(فَصْلٌ: تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ وَأَحْكَامِهِ فَيَنْبَغِي لِلْمُحْدِثِ أَنْ يُقَدِّمَ الِاسْتِنْجَاءَ عَلَى(1/174)
طَهَارَتِهِ فَإِنْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ أَجْزَأَهُ وَلَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ: وَفِي التَّيَمُّمِ قَوْلٌ آخَرُ إِنَّهُ يُجْزِيهِ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ أَثْبَتَ رِوَايَةَ الرَّبِيعِ وَخَرَّجَ التَّيَمُّمَ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهَا وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى رِوَايَتِهِ وَمَذْهَبِهِ فَأَبْطَلَ التَّيَمُّمَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ صَحَّ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ أَنَّ الْوُضُوءَ مَوْضُوعٌ لِرَفْعِ الْحَدَثِ لَا لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ فَجَازَ أَنْ يَرْتَفِعَ حَدَثُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِحِ الصَّلَاةَ وَالتَّيَمُّمَ مَوْضُوعٌ لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ لَا لِرَفْعِ الْحَدَثِ فَلَمْ يَصِحَّ اسْتِبَاحَتُهَا مَعَ بَقَاءِ الِاسْتِنْجَاءِ الْمَانِعِ مَعَ اسْتِبَاحَتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الِاعْتِلَالِ إِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ أَلَّا يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ قَبْلَ إِزَالَتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ الصَّلَاةَ مَعَهَا. قِيلَ: قَدْ حَكَى شَيْخُنَا أَبُو حَامِدٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا الْقَاسِمِ الدَّارَكِيَّ عَنْ ذَلِكَ سُؤَالَ إِلْزَامٍ عَلَى هَذَا الِاعْتِلَالِ فَقَالَ فِيهِ وَجْهَانِ:
أحدها: لَا يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ قَبْلَ إِزَالَتِهَا، كَمَا لَا يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ، وَالْفَرْقُ مَعَ بَقَاءِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَبَقَاءِ غَيْرِهِ مِنْ نَجَاسَاتِ الْبَدَنِ أَنَّ نَجَاسَةَ الِاسْتِنْجَاءِ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتِ التَّيَمُّمَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهَا مَانِعًا مِنْ صِحَّتِهِ وَنَجَاسَةَ غَيْرِ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ تُوجِبِ التَّيَمُّمَ فَجَازَ أَلَّا يَكُونَ بَقَاؤُهَا مَانِعًا مِنْ صِحَّتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(1/175)
باب الحدث
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالَّذِي يُوجِبُ الْوُضُوءَ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي يُوجِبُ الْوُضُوءَ أَحَدُ خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: فَأَوَّلُهَا مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَهُمَا الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ، وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا ضَرْبَانِ: مُعْتَادٌ وَنَادِرٌ: فَالْمُعْتَادُ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ وَالصَّوْتُ وَالرِّيحُ وَدَمُ الْحَيْضِ. وَفِيهَا الْوُضُوءُ. وِفَاقًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) {المائدة: 6) . وَالنَّادِرُ الْمَذْيُ وَالْوَدْيُ، وَالدُّودُ وَالْحَصَى وَسَلَسُ الْبَوْلِ، وَدَمُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ منه فمذهبه الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْهُ كَالْمُعْتَادِ.
وَقَالَ مَالِكٌ لَا وُضُوءَ مِنْهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صوتٍ أَوْ ريحٍ " يَعْنِي الْمُعْتَادَ كَالصَّوْتِ وَالرِّيحِ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَائِهِ مِنَ النَّادِرِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْمُسْتَحَاضَةِ: " صَلِّي وَلَوْ قَطَرَ الدَمُ عَلَى الْحَصِيرِ قَطْرًا ". فَلَمْ يَنْقُضْ وُضُوءَهَا بِدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ لِكَوْنِهِ نَادِرًا، قَالَ وَلِأَنَّ الْخَارِجَ الْمُعْتَادَ إِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَجِبِ الْوُضُوءُ لِكَوْنِهِ نَادِرًا وَجَبَ إِذَا خَرَجَ غَيْرُ الْمُعْتَادِ مِنْ مَخْرَجٍ مُعْتَادٍ أَلَّا يُوجِبَ الْوُضُوءَ لِكَوْنِهِ نَادِرًا. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ، وَهُوَ مَقْصُودٌ لِلنَّادِرِ وَالْمُعْتَادِ، وَرَوَى عَابِسُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا بِالْكُوفَةِ يَقُولُ قُلْتُ لِعَمَّارٍ سَلْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمَذْيِ يُصِيبُ أَحَدَنَا إِذَا دَنَا مِنْ أَهْلِهِ فَإِنَّ ابْنَتَهُ تَحْتِي وَأَنَا أَسْتَحِي مِنْهُ فَسَأَلَهُ عَمَّارٌ. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: يَكْفِي مِنْهُ الْوُضُوءُ، فَإِنَّمَا أَوْجَبَ هَذَا الْحَدِيثُ الْوُضُوءَ مِنَ الْمَذْيِ وَهُوَ نَادِرٌ فَكَذَلِكَ مِنْ كُلِّ نَادِرٍ وَلِأَنَّهُ(1/176)
خَارِجٌ مِنْ مَخْرَجِ الْحَدَثِ الْمُعْتَادِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقُضَ الْوُضُوءَ كَالْخَارِجِ الْمُعْتَادِ فَأَمَّا قَوْلُهُ لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ فَهُوَ أَنَّهُ لَا ظَاهِرَ لَهُ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنَ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا كَمَا يُوجِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَادًا، وَأَمَّا خَبَرُ الْمُسْتَحَاضَةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ مُحْدِثَةٌ وَإِنَّمَا أَجْزَأَتْهَا الصَّلَاةُ لِلضَّرُورَةِ، وَأَمَّا الْمُعْتَادُ إِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ فَلَيْسَ الْمَعْنَى فِي سُقُوطِ الْوُضُوءِ مِنْهُ أَنَّهُ نَادِرٌ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أنه خارج من غير مخرج معتاد.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ سَبِيلَيِ الْمُحْدِثِ مُوجِبٌ لِلْوُضُوءِ مِنْ مُعْتَادٍ وَنَادِرٍ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدْخَلَ مِيلًا فِي ذَكَرِهِ وَأَخْرَجَهُ بَطَلَ وُضُوءُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَائِمًا بَطَلَ صَوْمُهُ بِالْوُلُوجِ وَيَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ بِالْخُرُوجِ، فَلَوْ أَطْلَعَتْ دُودَةٌ رَأْسَهَا مِنْ أَحَدِ سَبِيلَيْهِ وَلَمْ تتفصل حَتَّى رَجَعَتْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْهُ وَاجِبٌ لِأَنَّ مَا طَلَعَ مِنْهَا قَدْ صار خارجاً.
والثاني: لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ لِأَنَّ الْخَارِجَ مَا انْفَصَلَ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا انْفَتَحَ لَهُ سَبِيلَانِ غَيْرُ سَبِيلَيِ الْخِلْقَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُ سَبِيلَيِ الْخِلْقَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَسْدُودَيْنِ أَوْ جَارِيَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مَسْدُودَيْنِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خِلْقَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حَادِثًا مِنْ عِلَّةٍ بِهِ، فَإِنْ كَانَ انْسِدَادُهُمَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةَ فَسَبِيلُ الْحَدَثِ هُوَ الْمُنْفَتِحُ وَالْخَارِجُ مِنْهُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ سَوَاءٌ كَانَ دُونَ الْمَعِدَةِ أَوْ فَوْقَهَا، وَالْمَسْدُودُ كَالْعُضْوِ الزَّائِدِ مِنَ الْخُنْثَى لَا يَجِبُ مِنْ مَسِّهِ وُضُوءٌ وَلَا مِنْ إِيلَاجِهِ غُسْلٌ، وَإِنْ كَانَ انْسِدَادُهُمَا حَادِثًا مِنْ عِلَّةٍ فَحُكْمُ السَّبِيلَيْنِ جَارٍ عَلَيْهِمَا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّهِ، وَالْغُسْلِ مِنْ إِيلَاجِهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ السَّبِيلَانِ اللَّذَانِ قَدِ انْفَتَحَا دُونَ الْمَعِدَةِ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُمَا نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحَيِّ مِنْ سَبِيلٍ لِحَدَثِهِ فَأَشْبَهَ سَبِيلَ الْخِلْقَةِ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْمَعِدَةِ. فَفِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِمَا خَرَجَ مِنْهُمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِيهِ الْوُضُوءُ كَمَا لَوْ كَانَ تَحْتَ الْمَعِدَةِ اعْتِبَارًا بِالتَّعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا وُضُوءَ فِيهِ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْ فَوْقِ الْمَعِدَةِ مُلْحَقٌ بِالْقَيْءِ وَالْقَيْءُ لَا وُضُوءَ فِيهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ سَبِيلَا الْخِلْقَةِ جَارِيَيْنِ فَإِنْ كَانَ مَا انْفَتَحَ مِنَ السَّبِيلِ الْحَادِثِ فَوْقَ الْمَعِدَةِ لَمْ يَجِبْ فِي الْخَارِجِ مِنْهُ وُضُوءٌ وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمَعِدَةِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَانَ أَبُو علي بن(1/177)
أَبِي هُرَيْرَةَ يَنْقُلُ هَذَا الْجَوَابَ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي سَدِّ السَّبِيلَيْنِ فَيَقُولُ: إِنْ كَانَ فَوْقَ الْمَعِدَةِ لَمْ يَنْقُضْ، وَإِنْ كَانَ دُونَهَا فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَنْكَرَ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْغَفْلَةِ فِيهِ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا وَجَعَلْنَا مَا انْفَتَحَ مِنَ السَّبِيلِ الْحَادِثِ مَخْرَجًا لِلْحَدَثِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ السَّبِيلَيْنِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّهِ وَالْغُسْلِ مِنَ الْإِيلَاجِ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي اسْتِعْمَالِ الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ، وَهَكَذَا اخْتَلَفُوا إِذَا نَامَ عَلَيْهِ مُلْصِقًا لَهُ بِالْأَرْضِ هَلْ يَكُونُ كَالنَّائِمِ قَاعِدًا فِي سُقُوطِ الوضوء عنه على وجهين.
(مسألة) : قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالنَّوْمُ مُضْطَجِعًا وَقَائِمًا وَرَاكِعًا، وَسَاجِدًا، وَزَائِلًا عَنْ مُسْتَوَى الْجُلُوسِ قَلِيلًا كَانَ النَوْمُ أَوْ كَثِيرًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالنَّوْمُ هُوَ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ.
وَقِسْمٌ لَا يُوجِبُهُ.
وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ.
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُوجِبُ للوضوء فهو النوم زائلاً عن مستوء الْجُلُوسِ مُضْطَجِعًا أَوْ غَيْرَ مُضْطَجِعٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي مِجْلَزٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَحُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ أَنَّ النَّوْمَ لَا يُوجِبُ بِحَالٍ حَتَّى حُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ إِذَا نَامَ وَكَّلَ بِنَفْسِهِ رَجُلًا يُرَاعِيهِ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ لَهُ هَلْ سَمِعْتَ صَوْتًا أَوْ وَجَدْتَ رِيحًا، فَإِنْ قَالَ: لَا، قَامَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَفِيمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا يُوَضِّحُ فَسَادَ هَذَا الْمَذْهَبِ وَيُغْنِي عَنِ الْإِطَالَةِ بِإِفْرَادِهِ بِالدَّلَالَةِ، وَقَالَ أبو حنيفة: النَّوْمُ إِنَّمَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ إِذَا كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَّكِئًا وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِذَا نَامَ قَائِمًا أَوْ مَاشِيًا.
اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ الدَّالَانِيِّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ(1/178)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (كَانَ يَسْجُدُ وَيَنَامُ وَيَنْفُخُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَأُ. فَقُلْتُ لَهُ: صَلَّيْتَ وَلَمْ تَتَوَضَّأْ وَقَدْ نِمْتَ فَقَالَ: إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ، وَهَذَا نَصٌّ، وَرَوَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِي فَانْتَبَهْتُ فَقُلْتُ أَمِنْ هَذَا وضوءٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (لَا، أَوْ تَضَعُ جَنْبَكَ عَلَى الْأَرْضِ) فَنَفَى عَنْهُ وُجُوبَ الْوُضُوءِ إِلَّا أَنْ يَضَعَ جَنْبَهُ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ حَالَةٍ هِيَ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ في الاختبار لَمْ يَكُنِ النَّوْمُ عَلَيْهَا مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ كَالْجُلُوسِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (المائدة: 6) ، فَكَانَ الدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُمُومُهَا عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} مِنْ نومٍ، وَرَوَى مَحْفُوظُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِذٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وِكَاءُ السَّهِ الْعَيْنَانِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ "، وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَ الْعَيْنَيْنِ وِكَاءَ السَّهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ نَوْمُ الْعَيْنَيْنِ مُزِيلًا لِلْوِكَاءِ عَلَى الْعُمُومِ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلُ الْجُلُوسِ.
وَالثَّانِي: عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ ".
وَرَوَى زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ عن صفوان بن عسال المراوي قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفْرَى أَلَّا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ ولياليهن إلا من جَنَابَةٍ لَكِنْ مِنْ(1/179)
غَائِطٍ وبولٍ ونومٍ فَأَطْلَقَ النَّوْمَ وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ النَّوْمَ إِذَا صَادَفَ حَالًا مُؤَثِّرًا فِي خُرُوجِ الرِّيحِ كَانَ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ كَالِاضْطِجَاعِ طَرْدًا أَوِ الْقُعُودِ عَكْسًا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ المروي عن ابن عباس فهو أن مَعْلُولٌ أَنْكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي حَدِيثِهِ فَقَالَ أَحْمَدُ: أَبُو خَالِدٍ الدَّالَانِيُّ لَمْ يَلْقَ قَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَمْ يَرْوِ قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَانَ مُطَّرَحًا، وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فَهُوَ أَنْكَرُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ لَوْ سَلَّمْنَا لَكَانَ التَّعْلِيلُ فِيهِ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى مَا لَمْ يُرْخِهَا مِنَ النُّعَاسِ دُونَ النَّوْمِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْجُلُوسِ فَالْمَعْنَى فِي الْجُلُوسِ أَنَّهُ يخلف العينين فِي حِفْظِ السَّبِيلِ عَنْ خُرُوجِ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا سِوَاهُ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ أَقْسَامِ النَّوْمِ فَهُوَ النَّوْمُ قَاعِدًا لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ قَلِيلًا كَانَ النَّوْمُ أَوْ كَثِيرًا، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ نَوْمُ الْقَاعِدِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ كَنَوْمِ الْمُضْطَجِعِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِنْ كَانَ نَوْمُ الْقَاعِدِ كَثِيرًا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَمْ يُوجِبْهُ وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفْرَى أَلَّا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ ولياليهن إلا من جنابةٍ لَكِنْ مِنْ غائطٍ وبولٍ ونومٍ، فَكَانَ النَّوْمُ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ مُوجِبًا لِلطَّهَارَةِ كَمَا كَانَ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ مُوجِبًا عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ، قال ولأن مَا كَانَ حَدَثًا فِي غَيْرِ حَالِ الْقُعُودِ كَانَ حَدَثًا فِي حَالِ الْقُعُودِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ، وَأَمَّا مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ قَلِيلَ النَّوْمِ فِي الْقُعُودِ لَا يُرْخِي الْمَفَاصِلَ فَكَانَ السَّبِيلُ مَحْفُوظًا، وَإِذَا كَثُرَ وَطَالَ اسْتَرْخَتِ الْمَفَاصِلُ فَصَارَ السَّبِيلُ مُسْتَطْلَقًا، وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَامَ قَاعِدًا فَلَمَّا أنبهه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ هَذَا وضوءٌ فَقَالَ: لَا، وَرَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعَيْنَيْنِ وِكَاءَ السَّهِ فِي حِفْظِ السَّبِيلِ فَكَذَلِكَ الْأَرْضُ تَخْلُفُ الْعَيْنَيْنِ فِي حِفْظِ السَّبِيلِ.
ثُمَّ بَيَّنَ بِالتَّعْلِيلِ أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَإِنَّمَا هُوَ سَبِيلٌ إِلَى الْحَدَثِ فَإِذَا وُجِدَ عَلَى صفة(1/180)
لَا تَكُونُ سَبِيلًا إِلَيْهِ انْتَفَى الْحُكْمُ عَنْهُ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ وَمَنْ وَضَعَ جَنْبَهُ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ " وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤسهم ثم يصلون ولا يتوضؤن. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ قَلِيلُهُ حَدَثًا لَمْ يَكُنْ كَثِيرُهُ حَدَثًا كَالْكَلَامِ طَرْدًا وَالصَّوْتِ وَالرِّيحِ عَكْسًا، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْمُزَنِيِّ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ فَهُوَ أنه لَمَّا جَمَعَ فِي حَدِيثِهِ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالنَّوْمِ وَكَانَ الْبَوْلُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَهِيَ حَالُ السَّلَامَةِ دُونَ سَلَسِ الْبَوْلِ لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَكُونَ النَّوْمُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِسَائِرِ الْأَحْدَاثِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيقٌ إِلَيْهِ، وَمَا سِوَى النَّوْمِ حَدَثٌ فِي نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ حَدَثًا لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي مَا قَالَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ تَسْوِيَةِ النَّوْمِ فِي الْأَحْوَالِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ (وَلَوْ صِرْنَا إِلَى النَّظَرِ لَكَانَ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ تَوَضَّأَ بِأَيِّ حَالَاتِهِ كَانَ) يَعْنِي أَنَّ الْقِيَاسَ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِتَعَلُّقِ الْوُضُوءِ بِهِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ.
وَلَكِنِ انْصَرَفَ تَعْلِيلُ النَّصِّ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا لِتَعَلُّقِ الْوُضُوءِ إِلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْحَالِ الَّذِي يَكُونُ سَبِيلًا إِلَيْهِ دُونَ الْحَالِ الَّذِي لَا يَكُونُ سَبِيلًا إِلَيْهِ.
قَالَ الْمُزَنِيُّ: وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي النَّظَرِ فِي مَعْنَى مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ يَتَوَضَّأُ فَكَذَلِكَ النَّائِمُ عَلَى مَعْنَاهُ كَيْفَ كَانَ توضأ. الجواب عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْإِغْمَاءُ حَدَثًا بِعَيْنِهِ فَاسْتَوَى حُكْمُهُ فِي الْأَحْوَالِ وَالنَّوْمُ سَبَبٌ إِلَيْهِ فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّوْمَ أَخَفُّ حالاً من الإغماء لأنه قد يتنبه بِمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ فَاخْتَلَفَ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْإِغْمَاءُ أَغْلَظُ حَالًا لِأَنَّهُ لَا يَنْتَبِهُ بِمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ فَاسْتَوَى حُكْمُهُ فِي الْأَحْوَالِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّائِمِ قَاعِدًا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَرَبِّعًا أَوْ مُحْتَبِيًا فَإِنْ جَلَسَ مُتَرَبِّعًا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حِفْظِ الْأَرْضِ لِسَبِيلِهِ وَإِنْ جَلَسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ رَافِعًا لِرُكْبَتَيْهِ مُحْتَبِيًا عَلَيْهَا بِبَدَنِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْمُتَرَبِّعِ فِي سُقُوطِ الْوُضُوءِ عَنْهُ لِالْتِصَاقِ أَلْيَتِهِ بِالْأَرْضِ.(1/181)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَالْمُسْتَنِدِ وَالْمُضْطَجِعِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا جِلْسَةٌ لَا تَحْفَظُ الْأَرْضُ سَبِيلَهُ مِنْهَا، وَلَعَلَّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ هُوَ قَوْلٌ ثَانٍ فِي نَوْمِ الْقَاعِدِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ الْبَصْرِيُّ يُفَصِّلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ:
إِنْ كَانَ النَّائِمُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ نَحِيفَ الْبَدَنِ مَعْرُوقَ الْأَلْيَةِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّ السَّبِيلَ لَا يَكُونُ مَحْفُوظًا، وَإِنْ كَانَ لَحِيمَ الْبَدَنِ تَنْطَبِقُ أَلْيَتَاهُ عَلَى الْأَرْضِ فِي هَذَا الْحَالِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِأَنَّ السَّبِيلَ يَصِيرُ مَحْفُوظًا فَلَوْ نَامَ مُتَرَبِّعًا فَغَلَبَهُ النَّوْمُ حَتَّى مَالَ عَنْ جُلُوسِهِ فَإِنِ ارْتَفَعَتْ أَلْيَتَاهُ عَنِ الْأَرْضِ فِي مَيْلِهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ لَمْ تَرْتَفِعْ فَهُوَ عَلَى وُضُوئِهِ كَمَا لو لم يميل.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْهُ مِنْ أَقْسَامِ النَّوْمِ فَهُوَ النَّوْمُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنْ نَامَ فِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ كانت صلاته جائزة ووضوءه جائز.
وَإِنْ نَامَ فِي غَيْرِ الْجُلُوسِ إِمَّا فِي قِيَامِهِ أَوْ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ فَفِي بُطْلَانِ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ وُضُوءَهُ صَحِيحٌ وَبِهِ قَالَ ثَمَانِيَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) {الفرقان: 64) ، فَأَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْمَدْحِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَدْحُ انْتَفَى عَنْهُ إِبْطَالُ الْعِبَادَةِ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا نَامَ الْعَبْدُ فِي سُجُودِهِ بَاهَى اللَّهُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَبَدَنُهُ ساجدٌ بَيْنَ يَدَيَّ " فَأَوْجَبَ هَذَا نَفْيَ الْحَدَثِ عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ وُضُوءَهُ قَدِ انْتَقَضَ وَصَلَاتَهُ قَدْ بَطَلَتْ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّكَ تَنَامُ فِي صَلَاتِكَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نَوْمَ الْقَلْبِ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ حَدَثًا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ كَانَ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ، فَلَوْ تَيَقَّنَ الْمُتَوَضِّئُ النَّوْمَ ثُمَّ شَكَّ فِيهِ هَلْ كَانَ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لا يجب بالشك.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ بجنونٍ أَوْ مرضٍ مُضْطَجِعًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُضْطَجِعٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَإِنَّمَا وَجَبَ مِنْهُ الْوُضُوءُ لِأَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ النَّوْمِ فَلَمَّا كَانَ النَّوْمُ(1/182)
مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ زَوَالُ الْعَقْلِ مُوجِبًا لَهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ سَكَرٍ أَوْ فَزَعٍ أَوْ رَهْبَةٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ قِيلَ إِنْ كَانَ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ اغْتَسَلَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ كَانَ الْإِغْمَاءُ لَا يَنْفَكُّ من الْإِنْزَالِ فَعَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ الْغُسْلُ إِذَا أَفَاقَ لِأَجْلِ الْإِنْزَالِ لَا لِلْإِغْمَاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْفَكُّ مِنْهُ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَلَوْ فَعَلَهُ اسْتِحْبَابًا كَانَ أَفْضَلَ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: حِينَ اغْتَسَلَ لَمَّا أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي حَالِ إِغْمَائِهِ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا بِخِلَافِ النَّائِمِ لِأَنَّهُ لَا يُحِسُّ بِمَا يَكُونُ عِنْدَ الْإِغْمَاءِ لَا فِي حَالِ الْجُلُوسِ وَلَا فِي غَيْرِهِ فلو أن متوضئاً شرب نبيذ فَسَكِرَ لَزِمَهُ غَسْلُ النَّبِيذِ مِنْ فَمِهِ وَمَا أَصَابَ مِنْ جَسَدِهِ وَأَنْ يَتَوَضَّأَ لِزَوَالِ عَقْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَسْكَرْ غَسَلَ النَّبِيذَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِقَاءُ مَا شَرِبَ مِنَ النَّبِيذِ، ولو فعل كان أفضل.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمُلَامَسَةُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ، وَالْمُلَامَسَةُ أَنْ يُفْضِيَ بِشَيْءٍ منه إلى جسدها، أو تفضي إليه لا حَائِلَ بَيْنَهُمَا أَوْ يُقَبِّلَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْمُلَامَسَةُ هِيَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَإِذَا لَمَسَ الرَّجُلُ بَدَنَ الْمَرْأَةِ أَوِ الْمَرْأَةُ بَدَنَ الرَّجُلِ، فَالْوُضُوءُ عَلَى اللَّامِسِ مِنْهُمَا وَاجِبٌ سَوَاءٌ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ مَكْحُولٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ النَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ: إِنْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَنْتَقِضْ.
وَقَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف: وَإِنِ انْتَشَرَ ذَكَرُهُ بِالْمُلَامَسَةِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ لَمْ يَنْتَقِضْ وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ مَسَّ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ مَسَّ مَنْ تَحِلُّ لَهُ لَمْ يَنْتَقِضْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، ومحمد بن الحسن: لَا وُضُوءَ فِي الْمُلَامَسَةِ بِحَالٍ وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا عَلَى سُقُوطِ الْوُضُوءِ مِنْهَا عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهَا بِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ(1/183)
عَنْ عَائِشَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَّلَهَا وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ".
وَبِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنِ حَبِيبٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَّلَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، فَقَالَ عُرْوَةُ فَقُلْتُ لَهَا مَنْ هِيَ إِلَّا أَنْتِ فَضَحِكَتْ، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ افْتَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ ليلةٍ فَقُمْتُ أَلْتَمِسُهُ بِيَدِي فَوَقَعَتْ يَدِي على أخمس قَدَمَيْهِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعَفْوِكَ مِنْ عِقَابِكَ "، فَلَوْ كَانَ وُضُوءُهُ انْتَقَضَ لَمْ يَمْضِ فِي سُجُودِهِ قَالَ: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ فِي صَلَاتِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَمْسَ الْإِنَاثِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قَالَ: وَلِأَنَّهَا مُلَامَسَةٌ مِنْ جِسْمَيْنِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْتَقِضَ بِهَا الْوُضُوءُ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَمْسٌ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فَوَجَبَ أَلَّا يَنْتَقِضَ الْوُضُوءُ قِيَاسًا عَلَى لَمْسِ ذَوَاتِ الْمَحْرَمِ وَلِأَنَّهُ لَمْسُ جُزْءٍ مِنِ امْرَأَتِهِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْتَقِضَ الْوُضُوءُ كَلَمْسِ الشَّعْرِ.
وَدَلِيلُنَا: قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} .
فَكَانَ الدَّلِيلُ فِي الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُلَامَسَةِ اسْمٌ لِالْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ لُغَةً وَشَرْعًا.
أَمَّا اللُّغَةُ قَوْلُ الْأَعْمَشِ:
(وَلَا تَلْمِسِ الْأَفْعَى يَدُكَ تَضُرُّهَا ... وَدَعْهَا إِذَا مَا عَيَّنْتَهَا سبابها)(1/184)
وَأَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ:
(فَلَا أَنَا مِنْهُ مَا أَفَادَ ذَوُو الْغِنَى أَفَدْتُ ... وَأَغْنَانِي فَضَيَّعْتُ مَا عِنْدِي)
(وَأَلْمَسْتُ كَفِّي كَفَّهُ طَلَبَ الْغِنَى ... وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الْجُودَ مِنْ كَفِّهِ يُعْدِي)
وَأَمَّا الشَّرْعُ فقوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) {الأنعام: 7) ، وقوله: {إِنَا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) {الجن: 8) ، وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْمَ الْمُلَامَسَةِ اسْمٌ لَهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ وَالْمَسِيسِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا، وَلَا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْجِمَاعِ لِأَنَّهُ بِالْمَسِيسِ أَخَصُّ وَأَشْهَرُ فَصَارَ مَجَازًا فِي الْجِمَاعِ حَقِيقَةً فِي الْمَسِيسِ، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقِ بِالِاسْمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْجِمَاعِ لِأَمْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عباس حملاه على الجماع وهو بِالْمُرَادِ بِهِ أَعْرَفُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُفَاعَلَةٌ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ فَاعِلَيْنِ وَذَلِكَ هُوَ الْجِمَاعُ دون المسيس، قيل أما تأويلا عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ خَالَفَهُمَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَعَمَّارٌ، وَأَمَّا الْمُفَاعَلَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ فَاعِلَيْنِ فَكَذَلِكَ صُورَةُ المسيس باليد على أن حمزة الكسائي قَدْ قَرَآ: {أَوْ لَمَسْتُمْ} وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْمَسِيسَ بِالْيَدِ فَإِنْ حُمِلَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قرأ أو لامستم عَلَى الْجِمَاعِ كَانَتْ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ أَوْ لَمَسْتُمْ مَحْمُولَةً عَلَى الْمَسِيسِ بِالْيَدِ، فَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ حُكْمَيْنِ عَلَى أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ قَالَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَرَتَّبَ الْآيَةَ تَرْتِيبًا حَسَنًا يَسْقُطُ مَعَهُ هَذَا التَّأْوِيلُ فَقَالَ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} (النساء: 43) . فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ وَالْمَرَضُ حَدَثًا وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَا بِحَدَثٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَأَنَّ تَرْتِيبَ الْكَلَامِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ نَوْمٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِنْ وَجَدْتُمُ الْمَاءَ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ وَجَاءَكُمْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدَثِ أَوِ الْجَنَابَةِ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، وَهَذَا تَفْسِيرٌ يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَيَسْقُطُ مَعَهُ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْكِتَابِ وَاللُّغَةِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) {الكهف: 1) . تَقْدِيرُهُ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَقَالَ: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ) {هود: 71) . أَيْ بَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ فَضَحِكَتْ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(لَقَدْ كَانَ فِي حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتِهِ ... تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأَمُ سَائِمُ)
يَعْنِي لَقَدْ كَانَ فِي ثَوَاءٍ حول ثوأتيه، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا(1/185)
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَتَاهُ رجلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ رجلٍ يُصِيبُ من امرأته ما يَحِلُّ لَهُ مَا يُصِبْهُ مِنِ امْرَأَتِهِ إِلَّا الْجِمَاعَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَتَوَضَّأُ وُضُوءًا حَسَنًا " وَهَذَا أَمْرٌ لِسَائِلٍ مُسْتَرْشِدٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ مَا تَضَمَّنَهُ، ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا مُمَاسَّةٌ تُوجِبُ الْفِدْيَةَ عَلَى الْمُحْرِمِ فَوَجَبَ أَنْ تَنْقُضَ الْوُضُوءَ كَالْجِمَاعِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى مِنْ جِنْسِهِ لَمْ يُوجِبِ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَوْعِهِ، لَمْ يُوجِبِ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى كَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مُلَامَسَةٍ لَوْ قَارَنَهَا انْتِشَارٌ وَجَبَ فِيهَا الطَّهَارَةُ فَإِذَا خَلَتْ عَنِ الِانْتِشَارِ وَجَبَتْ فِيهَا تِلْكَ الطَّهَارَةُ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَجَازَ أَنْ يَنْقَسِمَ مُوجِبُهَا إِلَى خَارِجٍ وَمُلَاقَاةٍ كَالْغُسْلِ، لِأَنَّهُ مَعْنًى يَقْضِي إِلَى نَقْضِ الطُّهْرِ فِي الْغَالِبِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ نَقْضُ الطُّهْرِ بِعَيْنِهِ كَالنَّوْمِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرَيْ عَائِشَةَ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أوجه.
أحدها: ضعفها وَطَعْنُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِيهِمَا، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: أَمَّا حَدِيثُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَائِشَةَ فَمُرْسَلٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ. وَأَمَّا حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ عُرْوَةَ فَقَالَ الْأَعْمَشُ هُوَ عُرْوَةُ الْمُزَنِيُّ وَلَيْسَ بِعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَحُكِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ احْكِ عَنِّي أَنَّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ شِبْهُ لَا شَيْءَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: مَا قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ غَلِطَ فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ إِلَى الْوُضُوءِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَحَمْلُهُ عَلَى الْقُبْلَةِ مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ وَبِهَا يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِاللَّمْسِ مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْطَلِقَ اسْمُ الْقُبْلَةِ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
(وَكَمْ مِنْ دمعةٍ فِي الْخَدِّ تَجْرِي ... وَكَمْ مِنْ قبلةٍ فَوْقَ النِّقَابِ)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ يَدَهَا وَقَعَتْ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:(1/186)
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ مَلْمُوسًا وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ دَاعِيًا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الدُّعَاءِ أَلَّا يَكُونَ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَمْلِهِ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَمْلَهَا لَا يَقَتَضِي مُبَاشَرَةَ بَدَنِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لِأَنَّهَا بِنْتُ بِنْتِهِ زَيْنَبَ، وَلَا وُضُوءَ فِي لَمْسِ الْمَحَارِمِ عِنْدَنَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَلَا يَبْطُلُ وُضُوءُهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى لمس ذوات المحارم فهو أن لها فِيهَا قَوْلَيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُوجِبُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الأجانب وبينهن أنهن جنس لا يستباح للاستمتاع بِهِنَّ كَالذُّكُورِ بِخِلَافِ الْأَجَانِبِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى لَمْسِ الشَّعْرِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ لَمْسِهِ فَعَلَى هَذَا لَا نُسَلِّمُ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ مِنْ لَمْسِهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمْسٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ اللَّذَّةُ فِي الْغَالِبِ وَكَذَا الظُّفُرُ وَالسِّنُّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَمْسُ الْجِسْمِ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلَّذَّةٍ فِي الْغَالِبِ.
(فَصْلٌ: اللَّمْسُ فَوْقَ الْحَائِلِ لا ينقض الوضوء)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْمُلَامَسَةِ وَإِنَّمَا يَنْتَقِضُ بِهَا عِنْدَ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ، فَأَمَّا مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ أَوْ حَائِلٍ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهَا وَقَالَ رَبِيعَةُ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِلُ خَفِيفًا أَوْ صَفِيقًا، وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ كَانَ الْحَائِلُ خَفِيفًا نَقَضَ وَإِنْ كَانَ صَفِيقًا لَمْ يَنْقُضْ وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ) {المائدة: 6) . وَحَقِيقَةُ الْمُلَامَسَةِ مُلَاقَاةُ الْبَشَرَةِ وَإِلَّا كَانَ لَامِسًا ثَوْبًا وَلَمْ يَكُنْ لابساً جِسْمًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْمِسُ امْرَأَةً فَلَوْ لَمَسَ ثَوْبَهَا لَمْ يَحْنَثْ، فَإِذَا انْتَفَى اسْمُ الْمَسِّ عَنْهُ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْحُكْمُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَسَ دُونَ حَائِلٍ فَوَجَبَ ألا ينتقض الضوء كَلَمْسِ الْخُفِّ.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُلَامَسَةَ بِالْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَى بِهِ مِنْ جِسْمِهِ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ أَفْضَى بِهِ مِنْ جِسْمِهَا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْمُلَامَسَةُ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَهَذَا خَطَأٌ لِعُمُومِ قَوْله تعالى: أو لامستم النساء، وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلِأَنَّهَا مُلَامَسَةٌ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ بِهَا الْوُضُوءُ كَمَا لَوْ كانت بأحد الأعضاء الْوُضُوءِ.
(فَصْلٌ: حُكْمُ لَمْسِ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ وَالسِّنِّ)
فَأَمَّا لَمْسُ مَا اتَّصَلَ بِالْجِسْمِ مِنْ شَعْرٍ وَظُفُرٍ وَسِنٍّ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ(1/187)
الْوُضُوءَ وَهَكَذَا لَوْ لَمَسَ جِسْمًا بِشَعْرِهِ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ بِظُفُرِهِ أَوْ سِنٍّ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ لَمْسَ الشَّعْرِ وَالظُّفُرِ وَالسِّنِّ كَلَمْسِ الْجِسْمِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ اللَّمْسُ بِالشَّعْرِ وَالظُّفُرِ وَالسِّنِّ لِاتِّصَالِ ذَلِكَ بِالْجِسْمِ فَأُلْحِقَ بِحُكْمِهِ كَمَا أُلْحِقَ بِهِ فِي الطَّلَاقِ إِذَا قَالَ شَعْرُكِ طَالِقٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَحْسَنُ مِنَ الْمَرْأَةِ كَمَا يُسْتَحْسَنُ جِسْمُهَا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ فَهُوَ بِاللِّبَاسِ أَشْبَهُ، وَلِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا فَإِنَّمَا يُسْتَحْسَنُ نَظَرُهُ وَلَا يَلْتَذُّ بِمَسِّهِ، وَالْجِسْمُ مَعَ اسْتِحْسَانِ نَظَرِهِ مُلْتَذُّ اللَّمْسِ فَافْتَرَقَا.
(فَصْلٌ: لَمْسُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ)
فَأَمَّا لَمْسُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَالْأُمِّ وَالْبِنْتِ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ فَفِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْقُضُهُ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} (المائدة: 6) ، وَلِأَنَّ مَا نَقَضَ الطُّهْرَ مِنَ الْأَجَانِبِ نَقَضَهُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ كَلَمْسِ الْفَرْجِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ: أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ اعْتِبَارًا بِالْمَعْنَى (الْمَقْصُودِ فِي اللَّمْسِ) وَأَنَّهُ لِلشَّهْوَةِ غَالِبًا لِلْمَلْمُوسِ وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ كَانَ يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ فِي صَلَاتِهِ، وَلَا يَنْفَكُّ غَالِبًا مِنْ لَمْسِ بَدَنِهَا فِي حَمْلِهِ. وَيَخْرُجُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لمس مَا لَا يُشْتَهَى مِنَ الْعَجَائِزِ وَالْأَطْفَالِ فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ الْعَامِّ.
وَالثَّانِي: لَا يَنْقُضُهُ اعْتِبَارًا بِمَعْنَى الْحُكْمِ وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ شَيْخًا قَدْ عُدِمَ الشَّهْوَةَ وَفَقَدَ اللَّذَّةَ لَمَسَ بَدَنَ امْرَأَةٍ شَابَّةٍ كَانَ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ وَجْهَانِ:
فَأَمَّا لَمْسُ الْمَيِّتَةِ فَنَاقِضٌ لِوُضُوئِهِ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ وَلَا يَنْقُضُهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي كَالْعَجَائِزِ وَالْأَطْفَالِ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ لَا تُشْتَهَى غَالِبًا لِنُفُورِ النَّفْسِ مِنْهَا.
(فَصْلٌ: حكم الملامسة بين الذكرين، والخنثى المشكل)
فَأَمَّا الْمُلَامَسَةُ بَيْنَ ذَكَرَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْمَلْمُوسُ كَبِيرًا لَا يُشْتَهَى كَرَجُلٍ لَمَسَ رَجُلًا فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْوُضُوءُ لِفَقْدِ اللَّذَّةِ غَالِبًا فِي لَمْسِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا مُسْتَحْسَنًا كَرَجُلٍ لَمَسَ صَبِيًّا أَمْرَدَ فَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِهِ كَالْمَرْأَةِ لِمَا تَمِيلُ إِلَيْهِ شَهَوَاتُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِهِ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسٍ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِهِ فَكَانَ مَا شَذَّ مِنْهُ مُلْحَقًا بِعُمُومِ الْجِنْسِ وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَسَاغَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الْبَهِيمَةِ لِلشَّهْوَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ مُطَّرَحٌ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ ومقتضى الحجاج فعلى(1/188)
هذا (لو لمس رجل) بَدَنَ خُنْثَى مُشْكِلٍ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا وَالْوُضُوءُ لَا يَلْزَمُهُ بِالشَّكِّ وَهَكَذَا لَوْ لَمَسَ خُنْثَى مُشْكِلٌ بَدَنَ امْرَأَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَهَكَذَا لَوْ لَمَسَ خُنْثَى مُشْكِلٌ بَدَنَ خُنْثَى مُشْكِلٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ أَوْ رَجُلَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: حُكْمُ وُضُوءِ الملموس
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ النِّسَاءِ فَفِي انْتِقَاضِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ الْمَلْمُوسَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ أَنَّ الْمَلْمُوسَ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ لِأَنَّ عَائِشَةَ لَمَسَتْ قَدَمَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَمَا أَنْكَرَهُ، وَلِأَنَّ الْمَسَّ الْمُوجِبَ لِلْوُضُوءِ يَخْتَصُّ بِاللَّامِسِ دُونَ الْمَلْمُوسِ كَلَمْسِ الذَّكَرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمَلْمُوسَ قَدِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ كَاللَّامِسِ لِأَنَّهُمَا قَدِ اشْتَرَكَا فِي الِالْتِذَاذِ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِهِ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ فِي الْآيَةِ فَمَنْ قَرَأَ: {أَوْ لَمَسْتُمْ} أَوْجَبَهُ عَلَى اللَّامِسِ دُونَ الْمَلْمُوسِ، وَمَنْ قَرَأَ: {أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} أَوْجَبَهُ عَلَى اللَّامِسِ وَالْمَلْمُوسِ لِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ,
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا لَمَسَتْ بَدَنَ الرَّجُلِ فَعَلَيْهَا الْوُضُوءُ كَمَا قُلْنَا فِي لَمْسِ الرَّجُلِ بَدَنَ الْمَرْأَةِ قِيَاسًا عَلَى النَّصِّ، لأن كلما نَقَضَ طُهْرَ الرَّجُلِ نَقَضَ طُهْرَ الْمَرْأَةِ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ، وَفِي انْتِقَاضِ وُضُوءِ الرَّجُلِ الْمَلْمُوسِ أَيْضًا قولان:
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ومس الفرج بِبَطْنِ الْكَفِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَمَسُّ الْفَرْجِ هُوَ الْقِسْمُ الْخَامِسُ مِنْ أَقْسَامِ ما يوجب الوضوء وبه قال في الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عمر وابن عباس وأبو هريرة، وفي التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وسليمان بن يسار والزهري، وفي الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ بِهِ، قَالَ في الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٌ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو الدرداء وفي التابعين الحسن البصري وفي الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ إِلَّا أَنَّ أبا حنيفة قَالَ:(1/189)
" إِذَا انْتَشَرَ ذَكَرُهُ بِالْمَسِّ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِلِانْتِشَارِ ". وَقَالَ مَالِكٌ: " إِنْ مَسَّهُ نَاسِيًا أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ " وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " قَدِمْنَا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَجَاءَ رجلٌ كَأَنَّهُ بدويٌّ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا تَرَى فِي مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: وَهَلْ هُوَ إِلَّا بضعةٌ مِنْكَ أَوْ قَالَ بضعةٌ مِنْهُ. وَهَذَا نَصٌّ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ مَسَّ ذَكَرَهُ بِعُضْوٍ مِنْ جَسَدِهِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْتَقِضَ وُضُوءُهُ قِيَاسًا عَلَى مَسِّهِ بِرِجْلِهِ وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ بِضْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّهِ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ذلك عن خمسة منهم.
أحدهما: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فَتَذَاكَرْنَا مَا يَكُونُ مِنْهُ الْوُضُوءُ فَقَالَ مَرْوَانُ وَمِنْ مَسِّ الذَّكَرِ الْوُضُوءُ فَقَالَ عُرْوَةُ مَا عَلِمْتُ ذَلِكَ، فَقَالَ مَرْوَانُ أَخْبَرَتْنِي بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ".
وَالثَّانِي: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عُقْبَةَ عَنْ(1/190)
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ ".
وَالثَّالِثُ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ".
وَالرَّابِعُ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ ".
وَالْخَامِسُ: رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ".(1/191)
اعْتَرَضُوا عَلَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِثَلَاثَةِ أَسْئِلَةٍ أَحَدُهَا أَنْ قَالُوا: وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ مِمَّا يَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا عُمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ حَتَّى يَكُونَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا مُسْتَفِيضًا وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا أَصْلٌ بِخِلَافِكُمْ فِيهِ وَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ مَا (يَعُمُّ) بِهِ الْبَلْوَى عَامًّا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا وَآحَادًا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ وَإِنْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ عَامًّا فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا عَامًّا، ثُمَّ قَدْ خَالَفُوا هَذَا الْأَصْلَ فِي بَيَانِ الْوَتْرِ وَنَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْقَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: الْمُعَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى حَدِيثِ بُسْرَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: ثَلَاثَةُ أَخْبَارٍ لَا تَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
أَحَدُهَا: حَدِيثُ بُسْرَةَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ.
وَالثَّانِي: خَبَرُ الْحِجَامَةِ.
وَالثَّالِثُ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، قِيلَ الْمَحْكِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ فِي حَدِيثِ بسرة غير هذا، قال رجاء بن المرجا الْحَافِظُ: كُنْتُ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى ين معين فاجتمعوا على صحة حديث بسر. فَإِنْ قِيلَ فَلَمَّا رَوَاهُ مَرْوَانُ لِعُرْوَةَ قَالَ لَهُ عُرْوَةُ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهَا وَأَنَا شَاهِدٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا حَرَسِيًّا فَأَتَى مِنْ عِنْدِهَا فَقَالَ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ "، وَالْحَرَسِيُّ شُرْطِيٌّ لَا يُقْبَلُ لَهُ حَدِيثٌ وَلَا يُحْتَجُّ عَنْهُ بِرِوَايَةٍ لِشُهْرَةِ فِسْقِهِ، قِيلَ قَدْ كَانَ أَهْلُ الْحَرَسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَهْلَ عَدَالَةٍ وَأَمَانَةٍ. وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ بِهَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَقْنَعْ عُرْوَةَ بِخَبَرِهِ، وَيَسْتَظْهِرْ بِهِ عَلَى مَرْوَانَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ عُرْوَةَ لَقِيَ بُسْرَةَ وَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ وَلِمَ إِذَا وَرَدَتْ أَخْبَارٌ فِي حُكْمٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى أَحَدِهَا بِالْقَدْحِ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا سِوَاهُ لَأَقْنَعَ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنْ قَالُوا نَسْتَعْمِلُهَا لِأَجْلِ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ وَعَلَى غَسْلِ الْيَدَيْنِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَلَا عَلَى غَسْلِ الْيَدِ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ بِهِ ثُمَّ كَيْفَ يَجُوزُ مَعَ كَثْرَةِ أَخْبَارِنَا وَانْتِشَارِهَا وَصِحَّةِ طُرُقِهَا وَإِسْنَادِهَا يُعَارِضُونَهَا بِحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَأَلْنَا عَنْ قَيْسٍ فَلَمْ نَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهُ بِمَا يَجُوزُ لَهُ قبول خبره وقد عارضه من وصفناه ثقة، وَرَجَاحَتَهُ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ قَيْسٍ إِذَا سَلَّمْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَقَدُّمِهِ وَتَأْخِيرِ أَخْبَارِنَا لِأَنَّ قَيْسًا يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ مَسْجِدَ(1/192)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهم يرسمون مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، وَيَنْقُلُونَ إِلَيْهِ الْحِجَارَةَ فَقُلْتُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلَا نَنْقُلُ كَمَا يَنْقُلُونَ " قَالَ: " لَا وَلَكِنِ اخْلِطْ لَهُمُ الطِّينَ يَا أَخَا الْيَمَامَةِ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ "، فَجَعَلْتُ أَخْلِطُ الطِّينَ وَيَنْقُلُونَهُ، وَقَدْ رَوَى وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَزَوَّجَهَا فِي آخِرِ أَيَّامِهِ وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: " هل هو إلا بضعةً منك " لا بنفي وجوب الوضوء عنه، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى نَفْيِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ ثُمَّ الدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا مَعْنًى يَسْتَجْلِبُ بِهِ الْإِنْزَالَ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقُضَ الطُّهْرَ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلِأَنَّهَا مُلَاقَاةُ فَرْجٍ لَوْ قَارَنَهَا انْتِشَارٌ تَعَلَّقَتْ بِهَا طَهَارَةٌ فَوَجَبَ إِذَا فَقَدَتِ الِانْتِشَارَ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِهَا تِلْكَ الطَّهَارَةُ كَالْغُسْلِ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُضُوءُ إِذَا قَارَنَهُ انْتِشَارٌ تَعَلَّقَ بِهِ الوضوء وإن خلا عن انتشار البول، وَلِأَنَّهَا إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنَوْعٍ مِنَ الْمُلَاقَاةِ كَالْغُسْلِ، وَلِأَنَّهُ لَمْسٌ (يَتَعَلَّقُ بِهِ) فِي الْغَالِبِ خُرُوجُ خَارِجٍ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِضَ الْوُضُوءُ كَاللَّمْسِ مَعَ الِانْتِشَارِ، وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْفَرْجِ إِذَا أَوْجَبَ الطَّهَارَةَ الْكُبْرَى كَانَ مِنْ جِنْسِهِ مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى كَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ قَيْسٍ فَقَدْ مَضَى، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَسِّ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ جَسَدِهِ فَالْمَعْنَى فِيهِ، وَفِي قِيَاسِهِمْ عَلَى مَسِّ ذَكَرِهِ بِغَيْرِ كَفِّهِ أَنَّهُ لَمْسٌ لَا يَسْتَجْلِبُ بِهِ الْإِنْزَالَ، ولا يقضي فِي الْغَالِبِ إِلَى نَقْضِ الطُّهْرِ.
(مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ في مس الغير) .
قال الشافعي: " من نفسه ومن غَيْرِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا مَسَّ فَرْجَ غَيْرِهِ كَانَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ كَمَا لَوْ مَسَّ فَرْجَ نَفْسِهِ لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من مس الفرج الوضوء " فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَلِأَنَّ مَسَّ فَرْجِ الْغَيْرِ أَغْلَظُ مِنْ مَسِّ فَرْجِهِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْغَيْرِ فَكَانَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ أَحَقَّ، فَأَمَّا الْمَمْسُوسُ فَرْجُهُ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلْمُوسِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ اسْمَ الْمُلَامَسَةِ تَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فانتقض وضوءهما لإطلاق اسم الملامسة عليهما، ومس الْفَرْجِ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى الْمَاسِّ دُونَ الْمَمْسُوسِ، فَانْتَقَضَ وُضُوءُ الْمَاسِّ لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُ الْمَمْسُوسِ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ ينطلق عليه.(1/193)
(مسألة: حكم مس فرج الصغير)
قال الشافعي رضي الله عنه: " مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا فَرْقَ بين أن يمس الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ، قَالَ مَالِكٌ وَالزُّهْرِيُّ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجِ الصَّغِيرِ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَّ ذَبِيبَةَ الْحَسَنِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَنْتَقِضْ بِمَسِّهِ الْوُضُوءُ كَسَائِرِ الْبَدَنِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الصَّغِيرَةِ فَلَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجِ الصَّغِيرِ، وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " من مس الفرج الوضوء "، وَلَمْ يُفَرِّقْ وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ الْخَارِجُ مِنْهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ وَكَانَ مَسُّهُ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ قِيَاسًا عَلَى فَرْجِ الْكَبِيرِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَسٍّ لَوْ كَانَ مَعَ الْكَبِيرِ نَقَضَ الْوُضُوءَ، وَجَبَ إِذَا كَانَ مَعَ الصَّغِيرِ أَنْ يَنْتَقِضَ الْوُضُوءَ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرِهِمْ فَهُوَ أَنْ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ مَسَّهُ وَصَلَّى قَبْلَ وُضُوئِهِ فَيُحْمَلْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي الْحَالِ حَتَّى قَامَ عَنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ غَيْرَ مُحَرَّمٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ نَقْضُ الْوُضُوءِ اسْتَوَى فِيهِ ما يحل ويحرم، ألا ترى الملامسة، فلا فَرْقَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهَا بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ لَمْسَ الصَّغِيرِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قُلْنَا فِيهِ مَذْهَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْقُضُ.
وَالثَّانِي: لَا يَنْقَضُ.
فَعَلَى هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنَ الْمُلَامَسَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فَيَكُونُ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَلَا يَكُونُ مِنَ الذكرين ولا بين الأنثين فَجَازَ أَنْ يُخْتَصَّ بِالْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَسُّ الْفَرْجِ لِاسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ بَيْنَ الذَّكَرَيْنِ وَالْأُنْثَيَيْنِ، فَاسْتَوَى بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَسَّ مِنْ ذَكَرِ الصَّغِيرِ الْأَغْلَفِ مَا يُقْطَعُ فِي الْخِتَانِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الذَّكَرِ مَا لَمْ يُقْطَعْ، وَلَوْ مَسَّهُ بَعْدَ قَطْعِهِ لَمْ ينتقض وضوءه لأنه باين من الذَّكَرِ فَلَمْ يَنْطَلِقِ اسْمُ الذَّكَرِ عَلَيْهِ.
(مَسْأَلَةٌ: حكم مس فرج الميت)
قال الشافعي رضي الله عَنْهُ: " الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْوُضُوءُ ينقض بِمَسِّ فَرْجِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى عَوْرَتِهِ(1/194)
وَمُبَاشَرَةِ مَسِّ فَرْجِهِ كَتَحْرِيمِ ذَلِكَ مِنَ الْحَيِّ فِي حُرْمَتِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " كسر عظم الميت ككسر الْحَيِّ " وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ مَيِّتَةٍ لَزِمَهُ الْغُسْلُ لِانْتِهَاكِ حُرْمَتِهَا وَإِنَّ حُكْمَ الْحَيَاةِ فِي ذَلِكَ جَارٍ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَسِّ فَرْجِهَا، فَأَمَّا إِذَا مَسَّ ذَكَرًا مَقْطُوعًا فَفِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْتَقِضُ اعْتِبَارًا بِالِاسْمِ.
وَالثَّانِي: لَا يَنْتَقِضُ لِفَقْدِ الْمَعْنَى وَهُوَ وُجُودُ اللَّذَّةِ غَالِبًا، وَخَالَفَ ذَكَرَ الْمَيِّتِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُرْمَةِ.
وَهَكَذَا لَوْ لَمَسَ ذَكَرَ حَيٍّ بِيَدٍ شَلَّاءَ كَانَ نَقْضُ الْوُضُوءِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَيَجْرِي عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ حُكْمُ مَنْ مَسَّ ذَكَرًا أَشَلَّ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَكَرُ الْحَيِّ الْأَشَلُّ بِأَخَفَّ مِنْ ذَكَرِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ مِنْ مُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ فِي ذَكَرِ الْمَيِّتِ وجهاً آخر أنه لا ينقض الوضوء.
(مسألة: حكم مس المرأة لفرجها)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَسُّ فَرْجِ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَمَسِّ ذَكَرِ الرَّجُلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " ويلٌ لِلَّذِينَ يَمَسُّونَ ذُكُورَهُمْ وَيُصَلُّونَ وَلَا يتوضؤون، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَهَذَا لِلرِّجَالِ، فَمَا بَالُ النِّسَاءِ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا مَسَّتْ إِحْدَاكُنَّ فَرْجَهَا تَوَضَّأَتْ ".
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ وَأَيُّمَا امرأةٍ مَسَّتْ فرجها فلتتوضأ ".(1/195)
(فصل: أحكام الخنثى في النقض بالمس)
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْجَ الْمَرْأَةِ كَذَكَرِ الرَّجُلِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْخُنْثَى وَمَسَائِلُهُ تُبْنَى عَلَى تَنْزِيلَيْنِ يَنْزِلُ فِي أَحَدِهِمَا رجلاً، وينزل في الآخر امرأة، فإذا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ فِي التَّنْزِيلَيْنِ مَعًا لَزِمَ، وَإِنِ انْتَقَضَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَلْزَمْ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَنْتَقِضُ إِلَّا بِالْيَقِينِ دُونَ الشَّكِّ، فَعَلَى هَذَا إِذَا مَسَّ رَجُلٌ ذَكَرَ خُنْثَى انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخُنْثَى رَجُلًا فَقَدْ مَسَّ ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ لَمَسَ بَدَنَهَا، وَلَوْ مَسَّ رَجُلٌ فَرْجَ خُنْثَى لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا فَيَكُونُ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا فِيهِ فَلَوْ مَسَّتِ امْرَأَةٌ فَرْجَ خُنْثَى انْتَقَضَ وُضُوءُهَا لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَقَدْ مَسَّتْ فَرْجَهَا، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ لَمَسَتْ بَدَنَهُ، وَلَوْ مَسَّتِ امْرَأَةٌ ذَكَرَ خُنْثَى لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَيَكُونُ الذَّكَرُ عُضْوًا زَائِدًا، وَلَوْ أَنَّ خُنْثَى مَسَّ ذَكَرَ نَفْسِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا، وَلَوْ مَسَّهُمَا مَعًا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ مَسَّ ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَقَدْ مَسَّتْ فَرْجَهَا، وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ خُنْثَى مَسَّ ذَكَرَ خُنْثَى لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ، وَلَوْ مَسَّ فَرْجَهُ لَمْ يَنْتَقِضْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ، وَلَوْ مَسَّ ذَكَرَهَ وَفَرْجَهُ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ.
وَلَوْ لَمَسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرَ صَاحِبِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ مَسَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرْجَ صَاحِبِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ، وَلَوْ مَسَّ أَحَدُهُمَا ذَكَرَ صَاحِبِهِ وَمَسَّ الْآخَرُ فَرْجَ صَاحِبِهِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ طُهْرَ أَحَدِهِمَا قَدِ انْتَقَضَ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُتَيَقَّنْ مَنِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ مِنْهُمَا لَمْ يَلْزَمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا وُضُوءٌ لِأَنَّهُ كَمَا لَوْ سُمِعَ صَوْتٌ مِنْ أَحَدِ رَجُلَيْنِ كَانَ مُوجِبًا لنقض الوضوء أَحَدِهِمَا وَلَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا وُضُوءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنَ الصَّوْتِ مِنْهُ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ حَالَ الْخُنْثَيَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فنزلهما (ها هنا) أَرْبَعَ تَنْزِيلَاتٍ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ التَّنْزِيلَاتِ الْأَرْبَعَةِ أَنْ يَكُونَ وُضُوءُ أَحَدِهِمَا مُنْتَقَضًا فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ ذَكَرَانِ يَبُولُ مِنْهُمَا فَمَسَّ أَحَدَ ذَكَرَيْهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ لِأَنَّهُ ذَكَرُ رَجُلٍ بِخِلَافِ الْخُنْثَى، وَهَكَذَا لَوْ أَوْلَجَهُ فِي فَرْجٍ لَزِمَ الْغُسْلُ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا بَلَلٌ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ لِلْحَدَثِ، وَلَوْ كَانَ يَبُولُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَحُكْمُ الذَّكَرِ جَارٍ عَلَى الَّذِي يَبُولُ مِنْهُ، وَالْآخَرُ زَائِدٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي نَقْضِ الطُّهْرِ حُكْمًا، فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ إِحْدَى فَرْجَيْهِ بَلَلٌ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الزَّائِدَ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْهُمَا تَوَضَّأَ.
(مَسْأَلَةٌ: حُكْمُ مَسِّ الدُّبُرِ وَآرَاءُ الفقهاء فيه) .
قال الشافعي رضي الله عنه: " وسواء كان الْفَرْجَ قُبُلًا أَوْ دُبُرًا، أَوْ مَسَّ الْحَلْقَةَ نَفْسَهَا مِنَ الدُّبُرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَسُّ الدُّبُرِ كَمَسِّ الْقُبُلِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ. وَقَالَ مَالِكٌ(1/196)
وَدَاوُدُ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الدُّبُرِ اسْتِدْلَالًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ، فَخَصَّ الذَّكَرَ بِالْحُكْمِ.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ الْوُضُوءُ "، وَاسْمُ الْفَرْجِ يُطْلَقُ عَلَى الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ جَمِيعًا، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ سَبِيلَيِ الْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسُّهُ حَدَثًا كَالْقُبُلِ، فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الدُّبُرِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسِّ الْحَلْقَةِ دُونَ مَا قَارَبَهَا وَاتَّصَلَ بِهَا، وَهَكَذَا الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ يَتَعَلَّقُ بِهِ دُونَ مَا قَارَبَهُ مِنَ الْعَانَةِ أَوِ الْأُنْثَيَيْنِ أَوْ مَا بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَسُّ الْخُصْيَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَالذَّكَرِ تَعَلُّقًا بِمَا رَوَاهُ عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ أَوْ أُنْثَيَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ ". هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَرْفُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفَتْ فِي مَسِّ الْفَرْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعَ عَدَمِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا سِوَاهُ، وَالْخَبَرُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُرْوَةَ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ مَسَّ الْفَرْجَيْنِ قُبُلًا وَدُبُرًا نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ نَقْضُ الْوُضُوءِ بِمَسِّهِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ دُونَ ظَاهِرِهَا، وَقَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِذَا مَسَّهُ بِظَاهِرِ كَفِّهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ كَمَا لَوْ مَسَّهُ بِبَاطِنِ كَفِّهِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: " إِذَا مَسَّهُ بِأَحَدِ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ " وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وأحمد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ " وَظَاهِرُ الْيَدِ مِنَ الْيَدِ، وَلِأَنَّهُ مَسَّ فَرْجَهُ بِيَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقُضَ وُضُوءَهُ كَمَا لَوْ مَسَّ رَاحَتَهُ، وَجَعَلَ الْأَوْزَاعِيُّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ قِيَاسًا عَلَى الْيَدِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ ".
قال الشافعي رضي الله عنه: وَالْإِفْضَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِبَاطِنِ الْكَفِّ.
وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَصَّتْ بِهِ الْيَدُ فِي مَسِّهِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ دُونَ سَائِرِ الْجَسَدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِحُصُولِ اللَّذَّةِ الْمُقْتَضِي إِلَى نَقْضِ الطُّهْرِ وإما لأن الْيَدُ آلَةُ الطَّعَامِ فَخِيفَ تَنَجُّسُهَا بِآثَارِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُخْتَصٌّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ دُونَ ظَاهِرِهَا كَمَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْيَدِ دُونَ غَيْرِهَا، وَفِيهِ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ انْفِصَالٌ، فَإِذَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُ نَقْضِ الْوُضُوءِ فِي مَسِّ الْفَرْجِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ دُونَ ظَاهِرِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بُطُونِ الرَّاحَةِ أَوْ بُطُونِ الْأَصَابِعِ لِاسْتِوَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الِالْتِذَاذِ بِمَسِّهِ، فَأَمَّا مَسُّهُ بِمَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى ظَاهِرِ الْكَفِّ أَوْ بَاطِنِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى بَاطِنِ الْكَفِّ وَأَنَّ الْوُضُوءَ يَنْتَقِضُ بِمَسِّ الْفَرْجِ بِهَا لِأَنَّهَا بِبَاطِنِ الْكَفِّ أَشْبَهُ مِنْهَا بِظَاهِرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَصًّا أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى ظَاهِرِ الْكَفِّ وَأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْمَسِّ بِهَا لِفَقْدِهَا اللَّذَّةِ مِنْهَا، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يَقُولُ إِنْ مَسَّ ذَكَرَهُ بِمَا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ مُسْتَقْبِلًا لِعَانَتِهِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَإِنْ كَانَ(1/197)
مُسْتَقْبِلًا بِظَاهِرِ كَفِّهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ مُرَاعَاةً لِلْأَغْلَبِ فِي مُقَارَنَةِ الْبَاطِنِ وَهَذَا لَا وَجْهَ له لاستواء المعنى في الحالتين.
فَأَمَّا إِنْ مَسَّهُ بِبَاطِنِ أُصْبُعٍ زَائِدَةٍ فِي كَفِّهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِأَنَّ الزَّائِدَ نَادِرٌ فَلَمْ يُسَاوِ حُكْمَ الْمُعْتَادِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْيَدِ فَأُلْحِقَ حُكْمُهُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ: مَسُّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ لا ينقض الوضوء)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ مَسَّ ذَلِكَ مِنْ بهيمةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهَا وَلَا تَعَبُّدَ، وكل ما خرج من دبرٍ أو قبلٍ من دودٍ أو دمٍ أو مذيٍ أو وديٍ أو بللٍ أو غيره فذلك كله يوجب الوضوء كما وصفت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ كُلِّهَا أَنَّ مَسَّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: مَسُّ فَرْجِ الْبَهِيمَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَمَسِّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَهَذَا صَحِيحٌ فِي تَرْجَمَتِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ هَذَا الْمَذْهَبُ لَهُ، وَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَلَعَلَّهُ قَالَهُ حِكَايَةً عَنْ مَذْهَبِ اللَّيْثِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ مَسَّ فَرْجَ بَهِيمَةٍ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ، وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ التَّعْلِيلِ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: لَا حُرْمَةَ لَهَا وَلَا تَعَبُّدَ عَلَيْهَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ لَا حُرْمَةَ لَهَا فِي وُجُوبِ سَتْرِهِ، وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَقَوْلِهِ لَا تَعَبُّدَ عَلَيْهَا أَنَّ الْخَارِجَ مِنْهُ لَا يَنْقُضُ طُهْرًا وَلَا يُوجِبُ وُضُوءًا.
عَدَمُ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي أحوال
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا اسْتِنْجَاءَ عَلَى مَنْ نَامَ أَوْ خَرَجَ منه ريحٌ. (قال) ونحب للنائم قاعداً أن يتوضأ ولا يبين أن أوجبه عليه لما روى أنس بن مالك أن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانوا ينتظرون العشاء فينامون أحسبه قال قعوداً وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان ينام قاعداً ويصلي فلا يتوضأ (قال المزني) قد قال الشافعي لو صرنا إلى النظر كان إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ تَوَضَّأَ بِأَيِّ حَالَاتِهِ كان (قال المزني) قلت أنا وروي عن(1/198)
صفوان بن عسال أنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَّا من جنابةٍ لكن من بولٍ وغائطٍ ونومٍ (قال المزني) فلما جعلهن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، بأمي هو وأمي، في معنى الحدث واحداً استوى الحدث في جميعهن مضطجعاً كان أو قاعداً ولو اختلف حدث النوم لاختلاف حال النائم لاختلف كذلك حدث الغائط والبول ولأبانه عليه السلام كما أبان أن الأكل في الصوم عامداً مفطراً أو ناسياً غير مفطرٍ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ " الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ استطلق الوكاء " مع ما روي عن عائشة من استجمع نوماً مضطجعاً أو قاعداً وعن أبي هريرة من استجمع نوماً فعليه الوضوء وعن الحسن إذا نام قاعداً أو قائماً توضأ (قال المزني) فهذا اختلاف يوجب النظر وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي النَّظَرِ فِي مَعْنَى من أغمي عليه كيف كان توضأ فكذلك النائم في معناه كيف كان توضأ واحتج في الملامسة بقول الله جل وعز {أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} وبقول ابن عمر قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة وعن ابن مسعود قريبٌ من معنى قول ابن عمر واحتج في مس الذكر بحديث بسرة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ " وقاس الدبر بالفرج مع ما روي عن عائشة أنها قالت إذا مست المرأة فرجها توضأت وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قومٍ عليه " لكانت الأمة في معنى العبد فكذلك الدبر في معنى الذكر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ وَدَلِيلُهُ الْإِجْمَاعُ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَمِعَ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَلْفِهِ صَوْتًا فَلَمَّا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ عَزَمْتُ عَلَى مَنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا قَامَ فَتَوَضَّأَ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَقُمْ أحدٌ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ عَزَمْتَ عَلَى جَمَاعَتِنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنَا مَعَكُمْ ثُمَّ قام فتوضأ وتوضؤوا وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ جَمِيعًا وَلَمْ يَسْتَنْجُوا فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى سُقُوطِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ فَبَطَلَ بِهِ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ مِنْهُ.
(مَسْأَلَةٌ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ مخرج الحدث لا ينقض الوضوء)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَمَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ مِنْ قيءٍ أَوْ رعافٍ أَوْ دمٍ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ فَلَا وُضُوءَ فِيِ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِي الْجَشَأِ الْمُتَغَيِّرِ وَلَا الْبُصَاقِ لِخُرُوجِهِمَا مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ فَاهُ وَمَا أَصَابَ الْقَيْءُ مِنْ جَسَدِهِ بوجهه فخرج منها دم فدلكه بين إصبعيه ثم قام إلى الصلاة ولم يغسل يده وعن ابن عباس اغسل أثر المحاجم عنك وحسبك وعن ابن المسيب أنه رعف فمسح أنفه بصوفةٍ ثم صلى وعن القاسم ليس على المحتجم وضوء ".(1/199)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَا خَرَجَ مِنَ الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ كَانَ طَاهِرًا كَالدُّمُوعِ وَالْبُصَاقِ أَوْ كَانَ نَجِسًا كَالْقَيْءِ وَدَمِ الْحِجَامَةِ وَالْفِصَادِ وَالرُّعَافِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ عَلَى بَدَنِهِ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: النَّجَاسَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ بَاطِنِ الْبَدَنِ إِلَى ظَاهِرِهِ انْتَقَضَ بِهَا الْوُضُوءُ إِلَّا الْقَيْءُ حَتَّى يَمْلَأَ الْفَمَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ ابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ زفر بن الهذيل، واستدلوا بما روى ابن جريح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ قَاءَ أَوْ قَلَسَ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ " وَبِمَا رَوَى يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوُضُوءُ مِنْ كُلِ دمٍ سائلٍ ثَلَاثًا وَبِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ رَبَاحٍ عَنْ عَبْدِ الله بن طاووس عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ تَوَضَّأَ ثُمَّ بَنَى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ.
وَبِمَا رَوَى مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَاءَ فَأَفْطَرَ قَالَ فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ ثَوْبَانُ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ(1/200)
سَلْمَانَ رَعَفَ فِي حَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ يَا سَلْمَانُ أَحْدِثْ وُضُوءًا وَهَذَا أَمْرٌ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ خَرَجَتْ إِلَى مَحَلٍّ يَلْزَمُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ فَوَجَبَ أَنْ تَنْقُضَ الْوُضُوءَ كَالْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِنَّمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْبَدَنِ كَمَا أَنَّ مَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ يَكُونُ بِدَاخِلٍ إِلَى الْبَدَنِ فَلَمَّا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْفِطْرُ بَيْنَ وُصُولِهِ مِنْ سَبِيلٍ مُعْتَادٍ وَغَيْرِ مُعْتَادٍ وَجَبَ أَلَّا يَقَعَ الْفَرْقُ فِيمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْ سَبِيلٍ مُعْتَادٍ وَغَيْرِ مُعْتَادٍ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا وُضُوءَ إِلَّا مِنْ حدثٍ، وَالْحَدَثُ أن يفسوا أَوْ يَضْرِطَ " فَاقْتَضَى ظَاهِرُهُ انْتِفَاءَ الْوُضُوءِ عَمَّا سِوَاهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَرَوَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ وَهَذَا نَصٌّ.
وَرَوَى ثَوْبَانُ قَالَ قَاءَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَكَبْتُ عَلَيْهِ وَضُوءًا وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ هَذَا وضوءٌ، قَالَ: " لَوْ كَانَ مِنْهُ وضوءٌ لَوَجَدْتَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ". وَرَوَى عقيل بن جابر عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَنِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِكَلَانِيَةٍ فِي اللَّيْلِ فَقَامَ رجلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِفَمِ الشِّعْبِ فَصَلَّى فَرُمِيَ بسهمٍ فَنَزَعَهُ، وَرُمِيَ بسهمٍ آخَرَ حَتَّى رُمِيَ بِثَلَاثَةِ أسهمٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ بِالْوُضُوءِ وَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ فَإِنْ قِيلَ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْهُ بِغَسْلِ الدَّمِ وَهُوَ عِنْدَكُمْ وَاجِبٌ وَالصَّلَاةُ مَعَهُ فَاسِدَةٌ وَكَذَلِكَ حَالُ الْوُضُوءِ قِيلَ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ الدَّمَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ دَمِهِ وَيَسِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْكَثْرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِيرُ كَدَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْهَا، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ الْمُعْتَادِ فَوَجَبَ أَلَّا يَنْقُضَ الْوُضُوءَ قِيَاسًا عَلَى الدُّودِ الْخَارِجِ مِنَ الْمَخْرَجِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَنْقُضِ الْوُضُوءَ بِقَلِيلِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ بِكَثِيرِهِ كَالدُّمُوعِ وَالْعَرَقِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَلِيلِ الْقَيْءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِكَثِيرِهِ(1/201)
كَإِفْسَادِ الصَّوْمِ بِالْقَيْءِ إِذَا ذَرَعَهُ طَرْدًا، وَإِذَا اسْتَدْعَاهُ عَكْسًا، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ من مخرج الحديث فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِ الْحَدَثِ كَالْغُسْلِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنْ قَاءَ أَوْ قَلَسَ فَلْيَتَوَضَّأْ، فَهُوَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: هُوَ مُرْسَلٌ لِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يَرْوِيهِ عَنِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا لَا حُجَّةَ فِيهِ، عَلَى أَنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا عَلَى الْوُضُوءِ اسْتِحْبَابًا.
وَإِمَّا عَلَى غَسْلِ مَا أَصَابَ الْفَمَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلَسَ وَهُوَ الرِّيقُ الْحَامِضُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَلْقِ وَلَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وِفَاقًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ، فَالرَّاوِي يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَلْقَ تَمِيمًا الدَّارِيَّ فَصَارَ مُنْقَطِعًا يَحْمِلُ عَلَى غَسْلِ الْمَوْضِعِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَاوِيهِ عُمَرُ بْنُ رَبَاحٍ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَالثَّابِتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلْ أَثَرَ الْمَحَاجِمِ عَنْكَ وَحَسْبُكَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَهُوَ أَنَّ وَجْهَ الدَّلِيلِ فِيهِ سَاقِطٌ لِأَنَّ ثَوْبَانِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَبَّ عَلَيْهِ وَضُوءًا لِغَسْلِ فَمِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحَدَثٍ كَانَ بِهِ أَوْ لِاسْتِحْبَابِهِ، عَلَى أَنَّنَا قَدْ رَوَيْنَا عَنْ ثَوْبَانَ نَصًّا خِلَافَهُ، وحديث سَلْمَانَ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَحَّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ مُنْتَقِضٌ بِالْقَيْءِ إِذَا لَمْ يَمْلَأِ الْفَمَ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي السَّبِيلَيْنِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الصَّوْتُ وَالرِّيحُ الْخَارِجُ مِنْهُمَا نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ كَانَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ الصَّوْتُ وَالرِّيحُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضَانِ الْوُضُوءَ كَانَ غَيْرُهُمَا كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ بِالدَّاخِلِ مِنْ مُعْتَادٍ وَغَيْرِ مُعْتَادٍ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالْعَكْسِ وَلَا نَقُولُ بِهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا أَفْطَرَ بِقَلِيلِهِ أَفْطَرَ بِكَثِيرِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ بِقَلِيلِهِ لَمْ ينتقض بكثيره.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَيْسَ فِي قَهْقَهَةِ مُصَلٍّ وَلَا فِيمَا مَسَّتِ النار وضوءٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه أكل كتف شاةٍ فصلى ولم يتوضأ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُمَا مَسْأَلَتَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِي الْقَهْقَهَةِ.(1/202)
وَالثَّانِيَةُ: فِي أَكْلِ مَا مَسَّتِ النَّارُ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَعَطَفَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهِمَا وَنَحْنُ نُفْرِدُهُمَا لِاخْتِلَافِ الْكَلَامِ فِيهِمَا:
أَمَّا الْقَهْقَهَةُ وَالضَّحِكُ فَقَدْ يَتَنَوَّعُ الضَّحِكُ نَوْعَيْنِ: تَبَسُّمٌ وَقَهْقَهَةٌ، فَأَمَّا التَّبَسُّمُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا فِي الْوُضُوءِ إِجْمَاعًا، وَأَمَّا الْقَهْقَهَةُ فَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ إِجْمَاعًا وَإِنْ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتِ الصَّلَاةُ وَاخْتَلَفُوا فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِهَا. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أبو حنيفة: الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذْ أَقْبَلَ رجلٌ ضريرٌ فَوَقَعَ فِي حُفْرَةٍ فَضَحِكْنَا مِنْهُ فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْوُضُوءِ وَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ مِنْ أَوَّلِهَا. وَرَوَاهُ أبو حنيفة عن منصور بن زاذان عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ، وَبِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ وَرَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَنَسٍ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ يَقَعُ تَارَةً بِاخْتِيَارِهِ وَتَارَةً بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَانَ حَدَثًا كَالْبَوْلِ وَالرِّيحِ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ عِبَادَةٌ وَرَدَتْ مِنَ الْأَكْثَرِ إِلَى الْأَقَلِّ فِي حَالِ الْعُذْرِ فَجَازَ أَنْ تُبْطِلَهَا الْقَهْقَهَةُ كَالصَّلَاةِ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى(1/203)
الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ يُعِيدُ الصَّلَاةَ وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ. وَرَوَى سَهْلُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الضَّاحِكُ فِي صَلَاتِهِ وَالْمُتَكَلِّمُ سَوَاءٌ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَكَذَلِكَ الضَّحِكُ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ طَرْدًا وَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ عَكْسًا وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِقَلِيلِهِ لَمْ يَنْتَقِضِ الْوُضُوءُ بِكَثِيرِهِ كَالْمَشْيِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ دِينَارٍ ضَعِيفًا، وَمَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ الَّذِي أَسْنَدَهُ أبو حنيفة عَنْهُ تَابِعِيٌّ وَلَا صُحْبَةَ لَهُ، وَكَانَ حَدِيثُهُ مُرْسَلًا، ثُمَّ يُحْمَلُ إِمَّا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ زَجْرًا وَتَغْلِيظًا وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُمْ صَوْتًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ وَأَنَسٍ فَهُوَ أَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ ضَعِيفًا مَتْرُوكَ الْحَدِيثِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَلَمْ يَرِدْ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيِّ وَكَانَ ضَعِيفًا مُنْكَرَ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَحَادِيثَ الْحَسَنِ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ بِمَكَانَةٍ مِنَ الثِّقَةِ وَالدِّينِ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْوِي بِالْبَلَاغَاتِ وَالْمُرَاسَلَاتِ، وَيَرَى ذَلِكَ مَذْهَبًا وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَخْبَرَنِي بِهِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا، وَلَمْ يَلْقَ بَدْرِيًّا غَيْرَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَمِعَ مِنْهُ حديثاً واحداً في الوضوء وهو صغير، وكان تأويل ذلك منه أنه بَلَغَنِي عَنْ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا وَقَدْ قِيلَ إِنَّ رِوَايَتَهُ خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ فقد قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ: أَخْبَارُ الرِّيَاحِيِّ رِيَاحٌ كُلُّهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: حَدِّثُونِي عَمَّنْ شِئْتُمْ إِلَّا عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ(1/204)
فَإِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ عَمَّنْ أَخَذَا، ثُمَّ وَلَوْ سَلِمَ الْحَدِيثُ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْإِرْشَادِ وَالنَّدْبِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " من غضب فليتوضأ " وروى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ " وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ أَنَّهُ يَقَعُ تَارَةً بِاخْتِيَارٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ فَمُنْتَقَضٌ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، أَوْ أَنَّ قَلِيلَهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْكَلَامِ، فَبَطَلَتْ بِالْقَهْقَهَةِ وَلَيْسَ كذلك الوضوء.
(فصل)
: فأما الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي أَكْلِ مَا مَسَّتِ النَّارُ فلا ينقض الوضوء بحال، وبه قال في الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَكَافَّةُ التَّابِعِينَ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ بِهِ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ دُونَ غَيْرِهِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ من أكل كل ما سمته النار، وبه قال الجماعة مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَأَبُو طَلْحَةَ وَعَائِشَةُ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " توضؤوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَلَوْ عَلَى ثورٍ مِنْ أقطٍ " وَالثَّوْرُ هُوَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْأَقِطِ هَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَكَلَ كَتِفَ شاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَرَوَى عُبَيْدُ بْنُ ثُمَامَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن الحرث بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سبعةٍ أَوْ سَادِسَ ستةٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -(1/205)
في دار رجلٍ فناداه بالصلاة، فخرجنا فمرننا برجلٍ وَبُرْمَتُهُ عَلَى النَّارِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَطَابَتْ بُرْمَتُكَ فَقَالَ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَتَنَاوَلَ مِنْهَا بَضْعَةً، فَلَمْ يَزَلْ يَعْلُكُهَا حَتَّى أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ. وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْهَاشِمِيِّ عَنْ أُمِّ حَكِيمِ بِنْتِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بكتفٍ، فجعلت أسحلها له فأكلها ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَمَعْنَى أَسْحَلُهَا أَيْ أَكْشِطُ مَا عَلَيْهَا، وَمِنْ هَذَا سَاحِلُ الْبَحْرِ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ سَحَلَهُ، وَرَوَى شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كان آخر الأمرين من رسول الله (ترك الوضوء وما غَيَّرَتِ النَّارُ) فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَمَنْسُوخٌ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَإِنَّا نَتَوَضَّأُ بِالْحَمِيمِ وَقَدْ أُغْلِيَ بِالنَّارِ وَإِنَّا لَنَدَّهِنُ بِالدُّهْنِ وَقَدْ طُبِخَ عَلَى النَّارِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَا ابْنَ أَخِي إِذَا سَمِعْتَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الْأَمْثَالَ، فَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي تَخْصِيصِهِ لَحْمَ الْجَزُورِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ أَكَلَهُ فَمُسْتَدِلٌّ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الوضوء من لحم الإبل فقال: توضؤوا منها، وسئل عن لحم الغنم فقال: تتوضؤوا مِنْهَا، وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَقَالَ: لَا تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَسُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَقَالَ: صَلُّوا فِيهَا فِإِنَّهَا بركةٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْإِرْشَادِ وَفَرْقٌ بَيْنَ لُحُومِ الْغَنَمِ وَلُحُومِ الْإِبِلِ لِمَا فِي لُحُومِ الْإِبِلِ مِنْ شِدَّةِ السَّهُوكَةِ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَبَارِكِ الْإِبِلِ وَمَرَابِضِ الْغَنَمِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا فِي الإبل من النفور، والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: فكلما أوجب الوضوء فهو بالعهد والسهو سواءٌ ".(1/206)
وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا فَرْقَ فِي الْأَحْدَاثِ الْمُوجِبَةِ لِلْوُضُوءِ بَيْنَ عَمْدِهَا وَسَهْوِهَا وَالْقَصْدِ وَالْخَطَأِ فِيهَا لِأَنَّ النَّوْمَ مُوجِبُ الْوُضُوءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا وَالِاحْتِلَامُ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَامِدًا وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْوُضُوءِ مِنَ الْمَذْيِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَبِالِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ عِنْدَ سَمَاعِ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ وَهُوَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمِ فِي الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ.
(مَسْأَلَةٌ: الْيَقِينُ يَزُولُ بِالشَّكِّ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنِ اسْتَيْقَنَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ أَوِ اسْتَيْقَنَ الْحَدَثَ ثُمَّ شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَلَا يَزُولُ الْيَقِينُ بِالشَكِّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صحيح، أما إِذَا تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ بَعْدَهُ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَأْخُذُ بِالشَّكِّ إِجْمَاعًا، فَأَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ شَكَّ هَلْ أَحْدَثَ بَعْدَهُ أَمْ لَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وأبي حنيفة وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ، وَقَالَ مَالِكٌ يَبْنِي عَلَى الشَّكِّ وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ مَا لَمْ يكثر ذلك عليه. وقال الحسن البصري: وإذا طَرَأَ الشَّكُّ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ بَنَى عَلَى الشَّكِّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِطُهْرٍ لَا شَكَّ فِيهِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ زَمَانِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الشَّكِّ لِتَكُونَ الطَّهَارَةُ مُؤَدَّاةً بِيَقِينٍ كَذَلِكَ إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: شُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ الشَّيْءُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: لَا يَنْتَقِلُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ جَاءَ الشيطان فأنشر كما ينشر الرجال بِدَابَّتِهِ فَإِذَا سَكَنَ لَهُ جَاءَ الشَّيْطَانُ فَأَضْرَطَ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ يِفْتِنُهُ عَنْ صَلَاتِهِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدَكُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صوتاً أو يجد ريحاً ولأن طرؤ الشك على اليقين يوجب البقاء عَلَى الْيَقِينِ كَمَا لَوْ طَرَأَ شَكُّ الطُّهْرِ عَلَى الْحَدَثِ بِيَقِينٍ.
فَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي تَغْلِيبِ الشَّكِّ لِيَقْضِيَ زَمَانَ الْمَسْحِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُغَلَّبِ الشَّكُّ فِيهِ وَإِنَّمَا غُلِّبَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْمَسْحِ إِلَّا عَلَى صِفَةٍ فَمَا لَمْ يَنْقُضِ الصِّفَةَ وَهُوَ بَقَاءُ الزَّمَانِ كَانَ الظَّاهِرُ مَانِعًا مِنْ زَوَالِ الْمَسْحِ، وَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ نُغَلِّبَ حُكْمَ الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنَعُ أَنْ نُغَلِّبَ حُكْمَ الشَّكِّ، وَكَذَلِكَ كَانَ الشَّكُّ فِي الصلاة وفي الطلاق ملغى وفي اليقين معتبر - والله أعلم -.(1/207)
باب ما يوجب الغسل
قال الشافعي: " أخبرنا الثقة هو الوليد بن مسلم عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ " فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاغْتَسَلْنَا. وَرَوَاهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إذا التقى الختانان وجب الغسل ". (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا موسى بن عامرٍ الدمشقي وغيره قالوا حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي في هذا الحديث مثله.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَمَّا فَرَغَ الشَّافِعِيُّ مِنْ ذِكْرِ مَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَالَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ:
شَيْئَانِ مِنْهُمَا يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَشَيْئَانِ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِهِمَا النِّسَاءُ، دُونَ الرِّجَالِ، فَأَمَّا الشَّيْئَانِ اللَّذَانِ يَشْتَرِكُ فِيهِمَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ:
فَأَحَدُهُمَا: الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ.
وَالثَّانِي: إِنْزَالُ الْمَنِيِّ، فَأَمَّا الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ فَمُوجِبٌ لِلْغُسْلِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ إِنْزَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ قَوْلُ الأكثر من الصحابة والجمهور والتابعين وَالْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَا غُسْلَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " يَعْنِي الِاغْتِسَالَ مِنَ الْإِنْزَالِ فَدَلَّ عَلَى انْتِفَائِهِ مِنْ غَيْرِ الْإِنْزَالِ.(1/208)
وَبِمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَأَلْتُ الْنَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ، فَقَالَ: يَتَوَضَّأُ وَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى يُكْسِلُ: يَقْطَعُ جِمَاعَهُ.
وَبِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كَسِلَ أَحَدُكُمْ أَوْ أَقْحَطَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ " قَوْلُهُ أَقْحَطَ أَيْ لَمْ يُنْزِلْ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ ". وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا قَعَدَ بَيْنَ الْشُعَبِ الْأَرْبَعِ ثُمَّ أَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ".
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ مُيَسَّرٍ الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي غَسَّانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يُفْتُونَ أَنَّ الْمَاءَ مِنَ الْمَاءِ كَانَتْ رُخْصَةً، رَخَّصَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في بدو الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ مِنْ بَعْدُ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي رافع عن(1/209)
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَأَلْزَقَ الْخِتَانَ بِالْخِتَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ ".
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ فَهُوَ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِمَا رُوِّينَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.
وَرُوِيَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَمَّنْ أَوْلَجَ وَلَمْ يُنْزِلْ فَقَالَ:(1/210)
يَغْتَسِلُ فَقُلْتُ: إِنَّ أُبَيًّا كَانَ يَقُولُ لَا يَغْتَسِلُ فَقَالَ: إِنَّ أُبَيًّا كَانَ نَزَعَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ مَاتَ أَيْ: رَجَعَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الصَّحَابِيُّ عَنْ نَصٍّ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّسْخِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى النَّسْخِ، وَيَتَأَوَّلُهَا فِيمَنْ هَمَّ بِالْجِمَاعِ فَأَكْسَلَ عَنِ الْإِيلَاجِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ دُونَ الْغُسْلِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَعَ انْتِشَارِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ رُجُوعِ مَنْ خَالَفَ مَعَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ فَاسِدٌ، وَإِنْ كان لولا ذلك محتملاً.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وإذا التقى الختانان وَالْتِقَاؤُهُمَا أَنْ تَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ فَيَكُونُ خِتَانُهُ حِذَاءَ خِتَانِهَا فَذَاكَ الْتِقَاؤُهُمَا كَمَا يُقَالُ الْتَقَى الْفَارِسَانِ إِذَا تَحَاذَيَا وَإِنْ لَمْ يَتَضَامَّا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) : الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ أَنْ يُحَاذِيَ خِتَانُ الرَّجُلِ خِتَانَ الْمَرْأَةِ لَا أَنْ يُصِيبَ خِتَانُهُ خِتَانَهَا وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الْمَرْأَةِ مستعلٍ وَيَدْخُلُ الذَّكَرُ أَسْفَلَ مِنْ ختان المرأة. (قال المزني) : وسمعت الشافعي يقول: العرب تقول إذا حاذى الفارس الفارس التقى الفارسان ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الَّذِي وَصَفَهُ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الرَّجُلِ هُوَ مَا بَعْدَ بَشَرَةِ الذَّكَرِ مِنَ الْمَوْضِعِ الْمَقْطُوعِ في الختانة، وَالْحَشَفَةُ، هِيَ الْجِلْدَةُ الْمَقْطُوعَةُ فِي الْخِتَانِ، وَأَصْلُهَا عِنْدَ مَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنْ خِتَانِ الرَّجُلِ، وَأَمَّا خِتَانُ الْمَرْأَةِ فَهُوَ جِلْدَةٌ مُسْتَعْلِيَةٌ فَوْقَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ تُقْطَعُ فِي الْخِتَانَةِ، لِأَنَّ مَدْخَلَ الذَّكَرِ مِنْهَا أَسْفَلَ الْفَرْجِ وَهُوَ مَخْرَجُ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ وَفَوْقَهُ ثُقْبَةٌ هِيَ مَخْرَجُ الْبَوْلِ وَعَلَيْهِ جِلْدَةٌ تنطبق عليها، وهي خِتَانِ الْمَرْأَةِ وَتِلْكَ الْجِلْدَةُ تَقْطَعُهَا الْخَافِضَةُ فِي الْخِتَانَةِ وَقَدْ شَبَّهَ الْعُلَمَاءُ، الْفَرْجَ بِعَقْدِ الْأَصَابِعِ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ فَعَقْدُ الثَّلَاثِينَ هِيَ صُورَةُ الْفَرْجِ وَعَقْدُ الْخَمْسَةِ بَعْدَهَا فِي أَسْفَلِهَا هِيَ مَدْخَلُ الذَّكَرِ، وَمَخْرَجُ الْحَيْضِ وَالْخِتَانُ خَارِجٌ مِنْهُ فِي أَعْلَى الْفَرْجِ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ هُوَ أَنْ تَغِيبَ بَشَرَةُ الذَّكَرِ فِي مَدْخَلِهِ مِنَ الْفَرْجِ حَتَّى يَصِيرَ خِتَانُ الرَّجُلِ مُحَاذِيًا لِخِتَانِ الْمَرْأَةِ، فَذَلِكَ الْتِقَاؤُهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَضَامَّا فَإِذَا انْتَهَى وُلُوجُ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يُنْزِلَا، فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الذَّكَرِ مِنْ حَدِّ الْخِتَانِ فَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْإِمْلَاءِ إنه لا غسل عليها إِلَّا بِإِيلَاجِ مَا بَقِيَ مِنَ الذَّكَرِ كُلِّهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ مَتَى أَوْلَجَ مِنْ بَقِيَّتِهِ بِقَدْرِ الْحَشَفَةِ الَّتِي كَانَ يَلْتَقِي مَعَ سَلَامَتِهَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا، وَصَارَ فِي حُكْمِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَلِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ وَالْمَحْكِيُّ مِنَ الْمَنْصُوصِ مَا وَصَفْنَا فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ حَشَفَةُ الرَّجُلِ بَاقِيَةً لَمْ تُقْطَعْ فِي الْخِتَانِ فَأَوْلَجَهَا إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَصِيرُ خِتَانُهُ حِذَاءَ خِتَانِهَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَكُونُ بَقَاءُ الْحَشَفَةِ مَانِعًا من(1/211)
وُجُوبُ الْغُسْلِ وَلَكِنْ لَوْ لَفَّ عَلَى ذَكَرِهِ خِرْقَةً وَأَوْلَجَهُ إِلَى حَدِّ الْخِتَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَتَعَقَّبْهُ إِنْزَالٌ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ كَانَ الذَّكَرُ مَسْتُورًا بِالْحَشَفَةِ وَأَنَّهُ يُولِجُ الذَّكَرَ وَالْخِرْقَةَ مَعَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُولِجًا فِي خِرْقَةٍ وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُصُولِ اللَّذَّةِ وَخَالَفَ الْحَشَفَةَ لِأَنَّهَا مِنَ الذَّكَرِ، وَلَا يَمْنَعُ اللَّذَّةَ وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يُفَصِّلُ حَالَ الْخِرْقَةِ فَيَقُولُ: " إِنْ كَانَتِ الْخِرْقَةُ كَثِيفَةً تَمْنَعُ مِنَ اللَّذَّةِ فَلَا غُسْلَ وَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً لَا تَمْنَعُ مِنَ اللَّذَّةِ وَجَبَ الْغُسْلُ ".
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُولِجَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ أو يتلوط في وجوب الغسل عليهما الولوج الذَّكَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِنْزَالٌ وَهَكَذَا لَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ بَهِيمَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا مُولِجٌ فِي فَرْجِ مَاشِيَةٍ فَأَشْبَهَ قُبُلَ الْمَرْأَةِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أبو حنيفة مِنِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِقُبُلِ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ خُنْثَى مُشْكِلٍ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى رَجُلًا فَيَكُونُ الْفَرْجُ عُضْوًا زَائِدًا فَلَمْ يَلْزَمْ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ الْغُسْلُ كَمَا لَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجٍ مُنْدَمِلٍ وَهَكَذَا لَوْ أَنَّ خُنْثَى مُشْكِلٍ أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى امْرَأَةً فَيَكُونُ الذَّكَرُ عُضْوًا زَائِدًا، وَلَوْ أَنَّ خُنْثَى أَوْلَجَ ذَكَرَهُ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ وَأَوْلَجَ فِي فَرْجِهِ ذَكَرَ رَجُلٍ وَجَبَ الْغُسْلُ يَقِينًا، فَلَوْ أَوْلَجَ فِي فَرْجِ مَيِّتَةٍ وَجَبَ الْغُسْلُ وَلَمْ يَجِبِ الْمَهْرُ، وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ وَجْهَانِ، وَإِذَا أَوْلَجَ مِنْ ذَكَرِهِ مَا لَا يَلْتَقِي مَعَهُ الْخِتَانَانِ فَعَلَيْهِمَا الْوُضُوءُ دُونَ الْغُسْلِ لِحُصُولِ الْمُلَامَسَةِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا حَصَلَ عَلَى الذَّكَرِ مِنْ بَلَلِ الْفَرْجِ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ هَلْ هُوَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْبَوْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ حُكِيَ نَصًّا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْمَنِيِّ. قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ مُتَعَمِّدًا أَوْ نَائِمًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَقَدْ وَجَبَ الغسل عليهما، وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ هُوَ الثَّانِي مِمَّا يُوجِبُ الْغُسْلَ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَأَيُّهُمَا أَنْزَلَهُ مِنْ جِمَاعٍ أَوِ احْتِلَامٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِ شَهْوَةٍ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ فَالْغُسْلُ مِنْهُ وَاجِبٌ لِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ " يَعْنِي: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَنِيِّ يُوجِبُ الْغُسْلَ بِالْمَاءِ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سلمة(1/212)
أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لَا مِنِ احْتِلَامٍ، وَمِنِ احْتِلَامٍ لَا مِنْ جماعٍ، فَيَغْتَسِلُ وَيُتَمِّمُ صَوْمَهُ. وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنَ الْمَنِيِّ حَتَّى يَخْرُجَ دَافِقًا لِلشَّهْوَةِ وَلَا يَجِبُ إِنْ كَانَ يَسِيرًا أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ إِلْحَاقًا بِالْمَذْيِ، وَهَذَا خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْخَبَرَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا أَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ إِذَا كَانَ لِشَهْوَةٍ، أَوْجَبَهُ إِذَا كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلِأَنَّهُ إِنْزَالُ مَنِيٍّ فَأَوْجَبَ الِاغْتِسَالَ كَالِاحْتِلَامِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنَ الْحَقِّ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ غسلٌ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ "؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نعم إذا رأت الماء ".
(فصل: إيجاب الغسل بظهور المني)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَنِيِّ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ إِذَا أَنْزَلَهُ الرَّجُلُ مِنْ ذَكَرِهِ وَظَهَرَ، أَوْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فإذا انْحَدَرَ مِنَ الصُّلْبِ إِلَى إِحْلِيلِ الذَّكَرِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فَلَا غُسْلَ، وَلَوْ أَنْزَلَتِ الْمَرْأَةُ المني إلى فرجها ولم يخرج منه نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا لَا يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُ داخل فرجها لَمْ يَلْزَمْهَا الْغُسْلُ حَتَّى يَنْزِلَ الْمَنِيُّ مِنْ فَرْجِهَا، لِأَنَّ دَاخِلَ فَرْجِهَا فِي حُكْمِ الْبَاطِنِ فجرى مجرى داخل الذكر، فإن كَانَتْ ثَيِّبًا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهَا تَطْهِيرُ دَاخِلِهِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَجَرَى مَجْرَى الْعُضْوِ الظَّاهِرِ.
(فَصْلٌ)
: فَلَوِ انْكَسَرَ صُلْبُ رَجُلٍ فَخَرَجَ منه المني، فلم يَنْزِلْ مِنَ الذَّكَرِ، فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْهُ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ " فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ " فِيمَا خَرَجَ مِنْ سَبِيلٍ مُسْتَحْدَثٍ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَكِنْ لَوْ كَانَ الْخَارِجُ لَمْ يَصِرْ مَنِيًّا مُسْتَحْكِمًا فَلَا غُسْلَ، فِيهِ وَجْهًا وَاحِدًا، فَأَمَّا إِذَا اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ فَرَأَى إِنْزَالَ الْمَنِيِّ عَنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ بِهِ فِي نَوْمِهِ، فَالْغُسْلُ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَلَوْ أَحَسَّ فِي النَّوْمِ بِالْإِنْزَالِ وَلَمْ يَرَ بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِ شَيْئًا، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَذَاكَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، فَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلَا يَذْكُرُ الِاحْتِلَامَ فَقَالَ: " يَغْتَسِلُ ". وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنْ قَدِ احْتَلَمَ وَلَا يَجِدُ الْبَلَلَ قَالَ: " لَا غُسْلَ عَلَيْهِ ". فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ الْمَرْأَةُ تَرَى ذَلِكَ قَالَ: " نَعَمِ النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ " ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ.
فَلَوْ رَأَى الرَّجُلُ الْمَنِيَّ فِي ثَوْبٍ هُوَ لَابِسُهُ وَلَمْ يُحِسَّ مِنْ نَفْسِهِ الْإِنْزَالَ فِيهِ، فَلَا يَخْلُو(1/213)
حَالُ ذَلِكَ الثَّوْبِ مِنْ أَنْ يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ أَمْ لَا، فَإِنْ لَبِسَهُ غَيْرُهُ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ، وَلَا عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ غُسْلٌ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ لَا يَلْبَسُهُ غَيْرُهُ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ غَيْرُهُ مُنْذُ غَسَلَهُ، وَقَدْ كَانَ يَلْبَسُهُ غَيْرُهُ قَبْلَ الْغَسْلِ، نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ مِنْ ظَاهِرِهِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَاقَى مَنِيًّا عَلَى ثَوْبِ غَيْرِهِ فَتَعَدَّى عَلَيْهِ، أَوْ قَدْ حَاكَّهُ رَجُلٌ أَنْزَلَ فَوَقَعَ مَنِيُّهُ عَلَى ثَوْبِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَنِيُّ مِنْ دَاخِلِ الثَّوْبِ فَالْغُسْلُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مِنْهُ، وَامْتِنَاعِ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَعَادَ كُلَّ صَلَاةٍ صَلَّاهَا مِنْ أَقْرَبِ نَوْمَةٍ نَامَهَا فِيهِ، لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ إِنْزَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَامَ فِيهِ لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ شَيْءٍ مِمَّا صَلَّى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بَعْدَ آخِرِ صَلَاةٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ ظَاهِرٌ يُغَلَّبُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْيَقِينِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا بُوشِرَتِ الْمَرْأَةُ دُونَ الْفَرْجِ فَاسْتَدْخَلَتْ مَنِيَّ الرَّجُلِ إِلَى فَرْجِهَا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ لَوْ أَلْقَتْهُ مِنْ فَرْجِهَا بَعْدَ اسْتِدْخَالِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِذَا أَلْقَتْهُ بَعْدَ اسْتِدْخَالِهِ لَزِمَهَا الْغُسْلُ قِيَاسًا عَلَى إِنْزَالِ مَاءِ نَفْسِهَا وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مَائِهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِلْقَائِهِ وُجُوبُ الْغُسْلِ كَمَا لَوِ اسْتَدْخَلَتْ دَوَاءً، فَأَلْقَتْهُ أَوْ لَمْ تُلْقِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " أَنْزَلَ الْمَاءَ الدَّافِقَ مُتَعَمِّدًا أَوْ نَائِمًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ عليهما وماء الرجل الذي يوجب الغسل هو المني الأبيض الثخين الذي يشبه رائحة الطلع فمتى خرج المني من ذكر الرجل أو رأت المرأة الماء الدافق فقد وجب الغسل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ مَنِيَّ الرَّجُلِ مُخَالِفٌ لِمَنِيِّ الْمَرْأَةِ فِي صِفَتِهِ، فَمَنِيُّ الرَّجُلِ هُوَ ثَخِينٌ أَبْيَضُ تُشْبِهُ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ، وَهَذِهِ صِفَةٌ فِي حَالِ السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ، وَقَدْ يَتَغَيَّرُ بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَغْذِيَةِ وَكَثْرَةِ الْجِمَاعِ، وَمَنِيُّ الْمَرْأَةِ هُوَ أَصْفَرُ رَقِيقٌ لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الرَّائِحَةُ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمَا الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِتَجْرِبَتِهِمَا عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ.
وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَا يُؤَيِّدُ هَذَا.(1/214)
رُوِيَ عَنْ أَبِي عُرْوَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَتْ فَعَلَيْهَا الْغُسْلُ "، فَقَالَتْ أَمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وماء المرأة أصفر رقيق فَأَيُّهُمَا سَبَقَ أَوْ عَلَا أَشْبَهَهُ الْوَلَدُ، وَأَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ الْمَنِيُّ بِحُدُوثِ مَرَضٍ أَوِ اخْتِلَافِ غِذَاءٍ أَوْ كَثْرَةِ جِمَاعٍ فَصَارَ رَقِيقَ الْقَوَامِ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ إِلَى صُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَتِهِ وَقَلَّ مَا يَخْفَى عَلَى مُنْزِلِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَنْزَلَ الْمَنِيَّ لَزِمَهُ الْغُسْلُ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ، وَإِنْ شَكَّ فِيهِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَلَوِ احْتَاطَ كَانَ أَوْلَى.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمَذْيُ فَهُوَ أَبْيَضُ رَقِيقٌ لَا يَنْدَفِقُ جَارِيًا كَالْمَنِيِّ، وَلَكِنْ يَخْرُجُ قَطْرَةً بَعْدَ قَطْرَةٍ عِنْدَ حُدُوثِ الشَّهْوَةِ، وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ.
رَوَى حُصَيْنُ بْنُ قَبِيصَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَجَعَلْتُ أَغْتَسِلُ حَتَّى تَشَقَّقَ ظَهْرِي قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تَفْعَلْ إِذَا رَأَيْتَ الْمَذْيَ فَاغْسِلْ ذَكَرَكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا نَضَحْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ.
وروى الحارث بن العلاء بن الحارث عن حرام بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَمَّا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَعَنِ الْمَاءِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَاءِ. فَقَالَ: ذَاكَ الْمَذْيُ وَكُلُّ فحلٍ يُمْذِي فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَكَ وَأُنْثَيَيْكَ وَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ذَكَرَهُمَا أَبُو دَاوُدَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي السُّوَعَاءِ الْوُضُوءُ يَعْنِي: الْمَذْيَ ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ ". فأما الْوَدْيُ فَهُوَ كَدِرٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ قَطْرَةً أَوْ قَطْرَتَيْنِ وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الْغُسْلِ كَالْمَذْيِ فَصَارَتِ الْمَائِعَاتُ الْخَارِجَةُ مِنَ الذَّكَرِ غَيْرُ الْبَوْلِ الْمُعْتَادِ ثَلَاثَةً، الْمَنِيُّ وَهُوَ طَاهِرٌ يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَالْمَذْيُ وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ، وَالْوَدْيُ وَهُوَ نَجِسٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ، فَلَوْ شَكَّ فِيمَا أَنْزَلَهُ هَلْ هُوَ مَنِيٌّ أَوْ(1/215)
وَدْيٌ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِلشَّكِّ فِيهِ، وَيَتَوَضَّأُ وَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَنِيًّا طَاهِرًا وَإِنِ احْتَاطَ فِي الْأَمْرَيْنِ فَغَسَلَهُ وَاغْتَسَلَ كان أولى وأفضل.
(مسألة)
: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وقبل البول وبعده سوادٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَنْزَلَ فاغتسل ثم أنزل ثانية اغتسل غسلاً ثانياً، سَوَاءٌ كَانَ الْإِنْزَالُ الثَّانِي قَبْلَ الْبَوْلِ أَوْ بعده وقال مالك: الغسل الأول يجزيه وَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الْغُسْلِ بَعْدَ الْإِنْزَالِ الثَّانِي سواء كان الإنزال قَبْلَ الْبَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ الْأَوَّلِ الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَهُ إِذَا كَانَ سببهما واحداً وقال الأوزاعي: إن أَنْزَلَ ثَانِيَةً قَبْلَ الْبَوْلِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ وإن أَنْزَلَ بَعْدَ الْبَوْلِ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْبَوْلِ هُوَ مِنَ الْمَنِيِّ الْأَوَّلِ وَكَفَاهُ الْغُسْلُ الْأَوَّلُ، وَمَا بَعْدَ الْبَوْلِ هُوَ مَنِيٌّ ثَانٍ فَلَزِمَهُ غُسْلٌ ثَانٍ، وَقَالَ أبو حنيفة إن أنزل ثَانِيَةً قَبْلَ الْبَوْلِ اغْتَسَلَ لَهُ غُسْلًا ثَانِيًا لِأَنَّهُ مِنْ إِنْزَالٍ عَنْ شَهْوَةٍ وَإِنْ أَنْزَلَ بَعْدَ الْبَوْلِ لَمْ يَغْتَسِلْ لِأَنَّهُ إِنْزَالٌ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ فَاسِدَةٌ لِعُمُومِ قوله " الماء من الماء " ولأنه إنزال فاقتضى أن يجب به الاغتسال كالإنزال الأول، ولأن ما أوجب الغسل في الأولة أَوْجَبَهُ فِي الثَّانِيَةِ كَالْجِمَاعِ، وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ الوضوء مُوجِبُهُ كَذَلِكَ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَتَغْتَسِلُ الْحَائِضُ إِذَا طَهُرَتْ وَالنَّفْسَاءُ إِذَا ارْتَفَعَ دَمُهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَأَمَّا الْآخَرَانِ اللَّذَانِ يُوجِبَانِ الْغُسْلَ عَلَى النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ.
فَأَحَدُهُمَا: انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ.
وَالثَّانِي: انْقِطَاعُ دَمِ النِّفَاسِ.
فَأَمَّا وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنِ انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَآتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهَ) {البقرة: 222) . يَعْنِي بقوله: " فإذا تطهرن ": يَعْنِي: " اغْتَسَلْنَ " وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي، فَأَمَّا دم النفاس فلما كان حُكْمِ دَمِ الْحَيْضِ فِي(1/216)
الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ كَانَ كَدَمِ الْحَيْضِ، فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ مِنْهُ إِجْمَاعٌ فَلَوْ وَلَدَتِ الْحَامِلُ وَلَدًا لَمْ تَرَ مَعَهُ دَمًا فَفِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا غُسْلَ عَلَيْهَا لِعَدَمِ مُوجِبِهِ مِنَ الدَّمِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: عَلَيْهَا الْغُسْلُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) {الطارق: 5، 6، 7) . يَعْنِي: أصلاب الرجال وترائب النِّسَاءِ، وَقَالَ: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} (الإنسان: 2) . يَعْنِي: اخْتِلَاطًا، فَإِذَا وَلَدَتْ وَالْوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهَا فَقَدْ أَنْزَلَتْ وَالْإِنْزَالُ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، فَكَذَلِكَ وِلَادَتُهَا مُوجِبَةٌ لِلْغُسْلِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِسْلَامُ الْمُشْرِكِ فَلَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: إِسْلَامُ الْمُشْرِكِ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ بِالْغُسْلِ حِينَ أَسْلَمَ " وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالْغُسْلِ غَيْرَ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ، وَلِأَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الطَّهَارَةِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ جُنُبًا قَبْلَ إِسْلَامِهِ.
فَقَدْ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يقول: لا حكم لجنابة، وما مضى عليه من الشرك مغفور عَنْهُ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ وجمهور أصحابنا جَنَابَتِهِ ثَابِتَةٌ وَالْغُسْلُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ، فَلَوْ كَانَ قَدِ اغْتَسَلَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَفِي صِحَّةِ غُسْلِهِ وَجْهَانِ مَضَيَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقِ.(1/217)
باب غسل الجنابة
(قال الشافعي) : يَبْدَأُ الْجُنُبُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ ثُمَّ يَغْسِلُ مَا بِهِ مِنَ الْأَذَى ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ العشر في الإناء يُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعْرِهِ ثُمَّ يَحْثِي عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حثياتٍ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ حَتَى يَعُمَّ جَمِيعَ جَسَدِهِ وَشَعْرِهِ وَيُمِرُّ يَدَيْهِ عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهِ. وروي نحو هذا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال) : فإن ترك إمرار يديه على جسده فلا يضره وفي إفاضة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الماء على جلده دليلٌ أنه إن لم يدلكه أجزأه وبقوله: " إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك " (قال) : وفي أمره الجنب المتيمم إذا وجد الماء اغتسل ولم يأمره بوضوءٍ دليلٌ على أن الوضوء ليس بفرضٍ. (قال) : وإن ترك الوضوء للجنابة والمضمضة والاستنشاق فقد أساء ويجزئه ويستأنف المضمضة والاستنشاق وقد فرض الله تبارك وتعالى غسل الوجه من الحدث كما فرض غسله مع سائر البدن من الجنابة فكيف يجزئه ترك المضمضة والاستنشاق من أحدهما ولا يجزئه من الآخر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غُسْلُ الْجَنَابَةِ فَيَنْطَلِقُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ شَيْئَيْنِ: إِنْزَالُ الْمَنِيِّ وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ، وَسُمِّيَ جُنُبًا لِأَنَّهُ يَتَجَنَّبُ الصَّلَاةَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَالْمَسْجِدَ، أَيْ: لِيَبْعُدَ مِنْهُ وَيَعْتَزِلَهُ حَتَّى يَغْتَسِلَ، وَالْجُنُبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبَعِيدُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ) {النِّسَاءِ: 36) . أَيِ: الْجَارُ الْبَعِيدُ، وَقَالَ غَيْرُهُمَا، هُوَ الْجَارُ الْمُشْرِكُ: سُمِّيَ جُنُبًا لِبُعْدِ دِينِهِ مِنْ دِينِكَ وَقَالَ أَعْشَى قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ:
(أَتَيْتُ حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جنابةٍ ... فَكَانَ حُرَيْثٌ فِي عَطَائِيَ جَامِدَا)
يَعْنِي بِقَوْلِهِ عَنْ جَنَابَةٍ عَنْ بُعْدٍ وَغُرْبَةٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ؛
(وَلَمْ أَرَ مِثْلَيْنَا خَلِيلَيْ جنابةٍ ... إِسْدًا عَلَى رَغْمِ الْعَدُوِّ وَتَصَافَيَا)
وَقَدْ تَقَدَمَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فِي تَفْصِيلِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَالدَّلِيلُ(1/218)
عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِري سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) {النِّسَاءِ: 43) . وَرَوَى خُلَيْدٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) {الطَّارِقِ: 9) . قَالَ: الِاغْتِسَالُ مِنَ الْجَنَابَةِ.
وَرَوَى طَلْحَةُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَأَدَاءُ الأمانة كفارةٌ ما بينها " فَقُلْتُ: وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ " فَقَالَ: " غُسْلُ الْجَنَابَةِ فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شعرةٍ جَنَابَةٌ ".
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَكَمَالُ الْغُسْلِ مِنْهَا فَرْضًا وَسُنَّةً أَنْ يَفْعَلَ عَشَرَةَ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: التَّسْمِيَةُ لِرِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَغْسِلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ لِرِوَايَةِ النَّخَعِيِّ عَنِ الْأُسُودِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ بِكَفَّيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ مَرَافِقَهُ فَأَفَاضَ الْمَاءَ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَغْسِلَ مَا بِهِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَأَذَى يَعْنِي بِالنَّجَاسَةِ الْمَذْيَ وَبِالْأَذَى الْمَنِيَّ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَتْ لَهُ غُسْلًا يَغْتَسِلُ بِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأَكْفَأَ الْإِنَاءَ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى فَغَسَلَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ صَبَّ عَلَى فَرْجِهِ بِشِمَالِهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَغَسَلَهَا.
الرَّابِعُ: أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ كَامِلًا لِرِوَايَةِ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رأسه ثلاث مراتٍ ونحن نفيض على رؤوسنا خَمْسًا مِنْ أَجْلِ الضُّفُرِ.(1/219)
وَالْخَامِسُ: أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي الْإِنَاءِ فَيُخَلِّلُ بِبَلَلِ أَصَابِعِهِ أُصُولَ شَعْرِهِ وَلِحْيَتِهِ لِرِوَايَةِ هِشَامِ بن عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَيُخَلِّلُ شَعَرَهُ حَتَى إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ الْبَشَرَةَ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا.
وَالسَّادِسُ: أَنْ يَحْثِيَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْمُقَدَّمِ.
وَالسَّابِعُ: أَنْ يَبْدَأَ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، لِرِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ أَخَذَ بِكَفِّهِ فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ.
وَالثَّامِنُ: أَنْ يمر بيديه عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهِ لِرِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شعرةٍ جنابةٍ فَاغْسِلُوا الشَّعَرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِنْقَاءَ الْبَشَرَةِ إِنَّمَا يكون بالدلك والإمراد.
والتاسع: إيصال الماء إلى جميع شعره وبشره لقوله عليه السلام: بلوا الشعر وانقوا البشرة.
وَالْعَاشِرُ: نِيَّةُ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ وَالْأَخْبَارِ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالنِّيَّةِ مَعَ التَّسْمِيَةِ وَيَسْتَدِيمَهَا إِلَى إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَسَدِهِ، وَالْأُخْرَى أَنْ يَنْوِيَ مَعَ ابْتِدَاءِ إِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَسَدِهِ، وَلَكِنْ هَلْ يُعِيدُ بِهَا فِعْلَهُ قَبْلَ نِيَّتِهِ مِنْ سُنَّةِ غُسْلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا فِي الْوُضُوءِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمَفْرُوضُ فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ، فَقَدْ تَنْقَسِمُ هَذِهِ الْعَشْرَةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَكُونُ فَرْضًا، وَقِسْمٌ يَكُونُ سُنَّةً، وَقِسْمٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ، فَأَمَّا الْفَرْضُ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ الْغُسْلُ مِنْهُ بِحَالٍ فَشَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: النِّيَّةُ.
وَالثَّانِي: إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرَةِ وَالشَّعَرِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ الَّتِي لَا تَجِبُ فِي الْغُسْلِ(1/220)
بِحَالٍ فَسِتَّةُ أَشْيَاءَ وَهِيَ التَّسْمِيَةُ وَغَسْلُ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثًا وَتَخْلِيلُ الشَّعْرِ وَالْإِفَاضَةُ عَلَى الرَّأْسِ ثَلَاثًا وَالْبِدَايَةُ بِالْمَيَامِنِ وَإِمْرَارُ الْيَدَيْنِ عَلَى الْجَسَدِ، وَقَالَ مَالِكٌ: إِمْرَارُ الْيَدَيْنِ عَلَى مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَسَدِ فَرْضٌ، كَمَا أَنَّ إِمْرَارَ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ فَرْضٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأبي ذر: " إذا وجدت الماء فأمسه جِلْدَكَ " وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ فِي الْحَدَثِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْجَسَدِ كَالْوُضُوءِ، لِأَنَّ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمَاءُ سَقَطَ فَرْضُ الْجَنَابَةِ عَنْهُ قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ تَصِلْ إليه اليد، وليس يسقط عنه ذاك لعجزه لأن مالكاً يوجب على الأقطع استئجار مَنْ يُمِرُّ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا، وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ مَذْرُورٌ لَا يَصِلُ إِلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ إِلَّا بِإِمْرَارٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاءُ لِوُصُولِهِ إِلَيْهِ بِجَرَيَانِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فَشَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: غَسْلُ النَّجَاسَةِ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى جَسَدِهِ كَانَ غَسْلُهَا فَرْضًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى جَسَدِهِ سَقَطَ فَرْضُهَا.
وَالثَّانِي: وضوءه لِلصَّلَاةِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْدَثَ مَعَ الْجَنَابَةِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْدَثَ لَزِمَهُ الْغُسْلُ، وَسَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْوُضُوءِ وَكَانَ مَسْنُونًا فِي غُسْلِهِ لَا فَرْضًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ فَلَا يَخْلُو حَالُ حَدَثِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ جَنَابَةٍ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ حَدَثُهُ بَعْدَ جَنَابَةٍ سَقَطَ حُكْمُهُ لِدُخُولِهِ فِيمَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْجُنُبُ فِي الْحَدَثِ كَانَ دُخُولُ الْحَدَثِ فِي الْجَنَابَةِ أَوْلَى، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْوُضُوءُ فِي غُسْلِهِ مَسْنُونًا لَا فَرْضًا، وَإِنْ كَانَ الْحَدَثُ قَبْلَ الْجَنَابَةِ وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْجُنُبِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ بِحَدَثِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْغُسْلُ لِجَنَابَتِهِ الْحَادِثَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ حَكَاهَا ابْنُ سُرَيْجٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَلَا يُجْزِئُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْوُضُوءَ عَلَى الْغُسْلِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ أَجْزَأَهُ فَيَصِيرُ غَاسِلًا لِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عَنْ حَدَثِهِ فَيُرَتِّبُهَا، وَمَرَّةً عَنْ جَنَابَتِهِ فَلَا يُرَتِّبُهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَّبَا سَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَوَجَبَا أَنْ لَا يَتَدَاخَلَا، وَإِنْ كَانَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا أَعْظَمَ كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُ التَّكْرَارِ وَيَبْقَى حُكْمُ التَّرْتِيبِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْوُضُوءِ فَيَغْتَسِلُ غُسْلًا وَاحِدًا يُرَتِّبُ فِيهِ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ إِذَا اتَّفَقَتْ تَدَاخَلَتْ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ لَمْ تَتَدَاخَلْ فَلَمَّا كَانَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ فِي الْحَدَثِ مُوَافِقًا لِغَسْلِهَا فِي الْجَنَابَةِ دخل(1/221)
أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَسَقَطَ التَّكْرَارُ، وَلَمَّا كَانَ تَرْتِيبُ الْحَدَثِ مُخَالِفًا لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ ثَبَتَ التَّرْتِيبُ زَائِدًا عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُ التَّكْرَارِ وَالتَّرْتِيبِ، وَيَدْخُلُ الْحَدَثُ فِي الْجَنَابَةِ وَيَلْزَمُهُ الْغُسْلُ وَحْدَهُ دُونَ الْوُضُوءِ بِأَيِّ مَوْضِعٍ بَدَأَ مِنْ بَدَنِهِ أَجْزَأَهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَثَ مَعَ الْجَنَابَةِ هُوَ أَصْغَرُ نَوْعَيِ الْجِنْسِ. فَإِذَا اجْتَمَعَا دَخَلَ الْأَصْغَرُ فِي الْأَكْبَرِ كَمَا تَدْخُلُ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِذَا قَرَنَ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجْعَلُ الْحَدَثَ الطَّارِئَ عَلَى الْجَنَابَةِ كَالْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْجَنَابَةِ فِي تَخْرِيجِ الْوُضُوءِ عَلَى الأوجه الثلاثة، وأنكر سائراً أَصْحَابِنَا ذَلِكَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَدَثِ الْمُتَقَدِّمِ وَبَيْنَ الْحَدَثِ الْمُتَأَخِّرِ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ لَمَّا طَرَأَ عَلَى أَعْضَاءٍ ظَاهِرَةٍ ثَبَتَ حُكْمُهُ وَالْمُتَأَخِّرُ لَمَّا طَرَأَ عَلَى أَعْضَاءٍ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ سَقَطَ حُكْمُهُ.
(فَصْلٌ)
: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَاخْتِلَافِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ فُرُوعٌ خَمْسَةٌ:
فَالْفَرْعُ الْأَوَّلُ مِنْهَا: صُورَتُهُ فِي جُنُبٍ غَسَلَ بَعْضَ بَدَنِهِ لِلْجَنَابَةِ ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ تَمَامِ الْغُسْلِ فَلَا يَخْلُو أَعْضَاءُ الْوُضُوءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ أَعْضَاءُ وُضُوئِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْبَاقِي مِنْ بَدَنِهِ الَّذِي لَمْ يَغْسِلْهُ مِنْ جَنَابَتِهِ، فَهَذَا يُتَمِّمُ غسل الباقي من بدنه، ويجريه عَنْ جَنَابَتِهِ وَحَدَثِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي بَاقِي غَسْلِهِ، لِأَنَّ الْحَدَثَ طَرَأَ عَلَيْهَا، وَحُكْمُ الْجَنَابَةِ لَمْ يَزَلْ عَنْهَا فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَدَثِ تَأْثِيرٌ، وَلَمْ يُسْتَحَقَّ لِأَجْلِهِ تَرْتِيبٌ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ أَعْضَاءُ وُضُوئِهِ قَدْ غَسَلَهَا قَبْلَ حَدَثِهِ فَهَذَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتَمِّمَ بَاقِيَ غُسْلِهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مُرَتَّبًا مِنْ بَعْدِهِ، فَيَكُونُ غَسْلُ بَاقِي الْبَدَنِ لِتَمَامِ الْغُسْلِ مِنْ جَنَابَتِهِ، وَاسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ لِمَا طَرَأَ مِنْ حَدَثِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ غَسْلَ جَمِيعِ جَسَدِهِ فَيُجْزِئَهُ عَنْ جَنَابَتِهِ وَعَنْ حَدَثِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ غَسْلُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَجْزَأَ فَإِذَا فَعَلَهُ بَعْدَ غَسْلِ بَعْضِهَا أَوْلَى، لَكِنْ هَلْ يَلْزَمُهُ إِذَا اسْتَأْنَفَ غَسْلَ جَمِيعِ جَسَدِهِ أَنْ يُرَتِّبَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ فِي غُسْلِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ الْمُحْدِثِ إِذَا اغْتَسَلَ بَدَلًا مِنْ وُضُوئِهِ هَلْ يَسْقُطُ حُكْمُ التَّرْتِيبِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مَضَيَا.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ غَسَلَ بَعْضَ أعضاء وضوئه وبقي بعضها كأن أَحْدَثَ بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَبَقِيَ رَأْسُهُ وَرِجْلَاهُ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُتَمِّمَ غَسْلَهُ ثُمَّ يَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ مُرَتَّبًا دُونَ رَأْسِهِ ورجليه، لأن طرؤ الْحَدَثِ كَانَ بَعْدَ بَقَاءِ حُكْمِ الْجَنَابَةِ فِي رأسه(1/222)
وَرِجْلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَدَثِ تَأْثِيرٌ فِيهِمَا، وَأَثَّرَ فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ لِزَوَالِ حُكْمِ الْجَنَابَةِ عَنْهُمَا قبل طرؤ الْحَدَثِ عَلَيْهِمَا، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْغُسْلَ مِنْ أَوَّلِهِ لَا يَلْزَمُهُ فِيهِ تَرْتِيبُ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، لِبَقَاءِ حُكْمِ الْجَنَابَةِ فِيهِمَا، وَهَلْ يَلْزُمُهُ تَرْتِيبُ الوجه والذارعين أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فَمَنِ اغْتَسَلَ بَدَلًا مِنَ الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْوَجْهَ وَالذِّرَاعَيْنِ قَدْ نَزَلَ عَنْهُمَا حُكْمُ الْجَنَابَةِ فَلَحِقَهُمَا حُكْمُ الْحَدَثِ.
(فَصْلٌ)
: وَالْفَرْعُ الثَّانِي: صُورَتُهُ فِي مُحْدِثٍ عَدِمَ الْمَاءَ في سفره، فتيمم وصلى ثم اجتنب وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ باقٍ لَا يَدْخُلُ فِي الْجَنَابَةِ الطَّارِئَةِ عَلَيْهَا لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ فِي أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ بَدَلًا مِنْ حَدَثِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنْ جَنَابَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءُ بَدَلٌ مِنَ الْحَدَثِ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ قد سقط بطرؤ الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا فَهَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ وَحْدَهُ، وَيُجْزِئُهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ بَعْدَهُ لِبَاقِي بَدَنِهِ، وَلَا يَجُوزُ أن يقدم التيمم ها هنا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ.
(فَصْلٌ)
: وَالْفَرْعُ الثَّالِثُ: صُورَتُهُ فِي مُسَافِرٍ جُنُبٍ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا غَسَلَ بِهِ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ لَا غَيْرَ، وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِي بَدَنِهِ ثُمَّ أَحْدَثَ وَوَجَدَ الْمَاءَ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ كَانَ أَوْلَى، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْغُسْلِ بِهِ فَبَدَأَ بِرِجْلَيْهِ ثُمَّ بِوَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسِهِ مَاسِحًا بِرَأْسِهِ لَا غَاسِلًا أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ هُمَا فِي حَدَثِ الْجَنَابَةِ فَلَمْ يَلْحَقْهُمَا حُكْمُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَجَازَ تَقْدِيمُ غَسْلِهِمَا، وَزَالَ حَدَثُ الْجَنَابَةِ عَنِ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالرَّأْسِ فَلَحِقَهُمَا حُكْمُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ فَاسْتَحَقَّ فِيهَا التَّرْتِيبَ وَمَسْحَ الرَّأْسِ دُونَ الْغَسْلِ وَلَكِنْ لَوْ بَدَأَ بذراعيه قبل وجهه لم يجزه، لِارْتِفَاعِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ وَلُحُوقِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ الْمُوجِبِ لِلتَّرْتِيبِ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ مِمَّا غَسَلَهُ قَبْلَ حَدَثِهِ، فَإِنْ خَالَفَ التَّرْتِيبَ فِيهِ لَمْ يجزه لطرؤ الْحَدَثِ عَلَيْهِ بِارْتِفَاعِ الْجَنَابَةِ عَنْهُ وَالتَّرْتِيبُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فِيمَا غَسَلَهُ بَعْدَ حَدَثِهِ لِبَقَاءِ الْجَنَابَةِ وَامْتِنَاعِ لُحُوقِ الْحَدَثِ بِهِ، وَلَكِنْ لَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ بَدَلًا مِنْ مَسْحِهِ صَارَ مُغْتَسِلًا بَدَلًا مِنْ وُضُوءٍ أَلْحَقَهُ حُكْمُ الْحَدَثِ، فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ التَّرْتِيبِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.(1/223)
(فَصْلٌ)
: وَالْفَرْعُ الرَّابِعُ: صُورَتُهُ فِي جُنُبٍ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ فِي سَفَرِهِ مَا يَكْفِيهِ إِلَّا مَوْضِعًا يَسِيرًا مِنْ بَدَنِهِ فَاغْتَسَلَ بِهِ إِلَّا كَقَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ طُهْرِهِ، فَتَيَمَّمَ لَهُ وَصَلَّى فَرْضًا كَانَ أَوْ نَفْلًا، ثُمَّ أَحْدَثَ وَوَجَدَ من الماء ما يكفيه ما تَرَكَهُ مِنْ بَدَنِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ طُهْرِهِ فِي جَنَابَتِهِ وَلَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي أَعْضَاءِ حَدَثِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكْفِيهِ لِمَا بَقِيَ مِنْ جَنَابَتِهِ وَلَا يَكْفِيهِ لِحَدَثِهِ فَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ طُهْرِهِ فَقَدْ أَكْمَلَ غُسْلَ جَنَابَتِهِ وَصَارَ مُحْدِثًا عَادِمًا لِلْمَاءِ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي مَا أَرَادَ مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ. فَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْمَاءِ فِيمَا بَقِيَ عَلَى طُهْرِهِ فِي الْجَنَابَةِ جَازَ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لِلْحَدَثِ الطَّارِئِ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِلْجَنَابَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَوْ أَرَاقَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْمَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ الَّذِي قَدَّمَهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَيَمُّمًا ثَانِيًا بَعْدَ إِرَاقَةِ الْمَاءِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ الْأَوَّلَ كَانَ مرة، وفرض ما بقي من الجناية اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهِ فَلَمَّا أَرَاقَهُ انْتَقَلَ فَرْضُهُ عَنِ الْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ، فَلَزِمَهُ فِعْلُهُ بَعْدَ فرضه.
(فصل)
: الفرع الخامس: صورته في جُنُبٌ عَدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ، فَتَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَّى، ثُمَّ أَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِأَعْضَاءِ حَدَثِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْجُنُبَ إِذَا وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ لِغُسْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ، فَطُهْرُهُ مِنْ جَنَابَتِهِ تَامٌّ لِلنَّوَافِلِ بِالتَّيَمُّمِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ أَحْدَثَ بَعْدَهُ وَهُوَ وَاجِدٌ لِمَاءِ حَدَثِهِ فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ هَذَا الْمَاءَ فِي أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ وَقَدِ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ فَيُصَلِّي مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْجُنُبَ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ فِيمَا شَاءَ مِنْ بَدَنِهِ وَتَيَمَّمَ لِمَا بَقِيَ مِنْهُ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْحَدَثِ الطَّارِئِ سَاقِطًا لِعَوْدِ الْجَنَابَةِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ بِمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ، فَأَمَّا إِذَا أَرَادُوا الْمَسْأَلَةَ عَلَى حَالِهَا أَنْ يُصَلِّيَ فَرِيضَةً ثَانِيَةً بَعْدَ الظُّهْرِ فَحَدَثُ جَنَابَتِهِ باقٍ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَيَمُّمِهِ كَانَ طُهْرًا لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ النَّوَافِلِ وَلَا يَكُونُ لِفَرِيضَةٍ ثَانِيَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِحَدَثِهِ تَأْثِيرٌ لطرؤه عَلَى جَنَابَةٍ بَاقِيَةِ الْحُكْمِ، وَيَصِيرُ جُنُبًا وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ قِيلَ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى الْفَرِيضَةَ، وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ بِهِ.
وَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ بَدَنِهِ وَتَيَمَّمَ بَعْدَهُ لِمَا بَقِيَ مِنْهُ وَصَلَّى الْفَرِيضَةَ وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ فَصَارَ تَحْرِيرُ مَا ذَكَرْنَا شَرْحَهُ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الظُّهْرِ نَفْلًا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ التَّيَمُّمُ؟ وهل يلزمه استعمال الماء؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَاعْتَبِرْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرْحِ تَجِدْهُ صَرِيحًا وَعَلَى الْأُصُولِ مُطَّرِدًا ".
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وكذلك غسل المرأة إلا أنها تحتاج في غَمْرِ ضَفَائِرِهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ أُصُولَ الشَّعْرِ إلى أكثر مما يحتاج إليه الرجل. وروي أن أم سلمة سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: إني امرأةٌ أشد ضفر رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِلْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: " لَا(1/224)
إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَيْهِ ثَلَاثَ حثياتٍ من ماءٍ ثم تفيضي عليك الماء (قال) وأحب أن يغلغل الماء في أصول الشعر وكما وصل الماء إلى شعرها وبشرها أجزأها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: غُسْلُ الْمَرْأَةِ مِنْ جَنَابَتِهَا كَغُسْلِ الرَّجُلِ سَوَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَرْضٌ وَسُنَّةٌ إِلَّا أَنَّهَا تَزِيدُ فِي تَفَقُّدِ بَدَنِهَا وَتَعَاهُدِ جَسَدِهَا لِمَا تَخْتَصُّ بِهِ غَالِبًا مِنَ الْعُكَنِ وَالْمَغَابِنِ الَّتِي يَعْدِلُ الْمَاءُ عَنْهَا فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَعَلَيْهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى فَرْجِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِزَوَالِ الْبَكَارَةِ فِي حُكْمِ الْبَشَرَةِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدْ شَبَّهَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَلَيْسَ عَلَيْهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى فَرْجِهَا؛ لِأَنَّهُ بَشَرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَيْهَا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى تَكَاسِيرِ عُكَنِهَا وَغُضُونِ وَجْهِهَا وَدَاخِلِ سُرَّتِهَا، وَكَذَا الرَّجُلُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَمَّا شَعَرُ رَأْسِهَا، فَإِنْ كَانَ مَحْلُولًا أَوَصَلَتِ الْمَاءَ إِلَى جَمِيعِهِ مِنْ أُصُولِ مَنَابِتِهِ إِلَى مَا اسْتَرْسَلَ عنه لا يجزأه الِاقْتِصَارُ عَلَى أُصُولٍ ثَابِتَةٍ دُونَ الْمُسْتَرْسِلِ وَلَا عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ دُونَ أُصُولِ الْمَنَابِتِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بُلُّوا الشَعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ " وَإِنْ كَانَ شَعْرُهَا مضفوراً لمة أو عقصة فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا حَلٌّ بَلْ تُغَلْغِلُ الْمَاءَ فِي أُصُولِهِ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى مَنَابِتِهِ وَتَفِيضُ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مُسْتَرْسِلِهِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَافِعٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امرأةٌ أَشُدُّ ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ "، فقال: " ألا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَيْهِ ثَلَاثَ حثياتٍ مِنْ ماءٍ، ثُمَّ تُفِيضِي عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِي ". أَوْ قَالَ: " فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ فَإِذَا اسْتَظْهَرَتْ لِنَفْسِهَا فِي حَلِّهِ كَانَ أَوْلَى وَأَحَقَّ قَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ بِنَقْضِ شُعُورِهِنَّ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: " هَلَّا أَمَرَهُنَّ بِحَلْقِهِ " فَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ وُجُوبَ حَلِّهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ أَمَرَ بِذَلِكَ احْتِيَاطًا لَا وَاجِبًا وَهَكَذَا الرَّجُلُ إِذَا كَانَ ذَا جُمَّةٍ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ إِيصَالِ الْمَاءِ فِي الْجَنَابَةِ إِلَى جَمِيعِ الشَّعَرِ فَتَرَكَ الْجُنُبُ شَعَرَةً لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ لَمِ يُجْزِهِ وَحُكِيَ عن أبي حنيفة يجزئه غسله وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " تَحْتَ كُلِّ شعرةٍ جنابةٍ " وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ زَاذَانَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شعرةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهَا كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ ". قَالَ عَلِيٌّ فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ فَلَوْ نَتَفَ الشَّعْرَ الَّتِي لم يغسلها(1/225)
فَإِنْ كَانَ قَدْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى أَصْلِهَا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى أَصْلِهَا لَزِمَهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ وَهَكَذَا لَوْ أَوْصَلَ الْمَاءَ إِلَى أُصُولِ شَعَرِهِ دُونَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْهُ ثُمَّ جَزَّهُ أَوْ حَلَقَهُ أَجْزَأَهُ وَلَوْ صَلَّى قَبْلَ جَزِّهِ أَوْ حَلْقِهِ أَعَادَ لِبَقَاءِ الْجَنَابَةِ فِي الْمُسْتَرْسِلِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَكَذَلِكَ غُسْلُهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَلَمَّا أَمَرَهَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالغسل من الحيض قال: " خذي فرصةً - والفرصة القطعة مِنْ مِسْكٍ - فَتَطَهَّرِي بِهَا " فَقَالَتْ عَائِشَةُ تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) فَإِنْ لَمْ تجد فطيباً فإن لم تفعل فالماء كافٍ ".
قال المارودي: وَهَذَا كَمَا قَالَ: غُسْلُ الْمَرْأَةِ مِنْ حَيْضِهَا ونفاسها كغسلها من جنابتها فيما تؤمن بِهِ مِنْ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ وَتُؤْمَرُ زِيَادَةً عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ بِاسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنَ الْمِسْكِ فِي فَرْجِهَا لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " جَاءَتِ امرأةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَسْأَلُهُ عَنِ الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ فَقَالَ: " خُذِي فِرْصَةً مِنْ مسكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا، فَقَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَاسْتَتَرَ بِثَوْبِهِ تَطَهَّرِي بِهَا، قَالَتْ فَاجْتَذَبْتُهَا وَعَرَفْتُ الَّذِي أَرَادَ فَقُلْتُ لَهَا تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ " يَعْنِي الْفَرْجَ.
وَالْفِرْصَةُ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَهِيَ مِنَ الْمِسْكِ الْمَعْجُونِ بِالْمِسْكِ يكون عِنْدَ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا مِسْكٌ سُمِّيَتْ فِرْصَةً بِالْفَاءِ مَكْسُورَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِسْكٌ سُمِّيَتْ سَكْتَكَةَ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا هِيَ قُرْضَةٌ مِنْ مِسْكٍ بِالْقَافِ مَضْمُومَةٍ وَفَتْحِ الضَّادِ أَيْ قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدٍ لِتَتَّقِيَ آثَارَ الدَّمِ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمِسْكِ الَّذِي هُوَ الطِّيبُ فَإِنْ كَانَ رِوَايَةُ أَبِي عُبَيْدٍ مَحْفُوظَةً لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَيَكُونُ الْجِلْدُ لِتَتَبُّعِ الدَّمِ وَإِنْقَاءِ آثَارِهِ، وَأَمَّا الْمِسْكُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَقْصُودِ بِاسْتِعْمَالِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ تزول رائحة الدم فيكون اسْتِمْتَاعُ الزَّوْجِ بِإِثَارَةِ الشَّهْوَةِ وَكَمَالِ اللَّذَّةِ، وَقَالَ آخَرُونَ لِأَنَّهُ يُسْرِعُ إِلَى عُلُوقِ الْوَلَدِ فَإِنْ أَعْوَزَهَا الْمِسْكُ فَمَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ كَمَالُ الِاسْتِمْتَاعِ بِطِيبِ الرَّائِحَةِ، قَالَ: تَسْتَعْمِلُ عِنْدَ إِعْوَازِهِ مَا كَانَ خَلَفًا مِنْهُ فِي طِيبِ الرَّائِحَةِ، وَمَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ إِسْرَاعُ الْعُلُوقِ قَالَ تَسْتَعْمِلُ عِنْدَ إِعْوَازِهِ مَا قَامَ مَقَامَهُ فِي إِسْرَاعِ الْعُلُوقِ مِنَ الْقِسْطِ وَالْأَظْفَارِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ اسْتِعْمَالِهِ، هَلْ هُوَ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْ بَعْدَهُ؟ فَمَنْ قَالَ: الْمَقْصُودُ بِهِ كَمَالُ الِاسْتِمْتَاعِ نَدَبَ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ بَعْدَ الْغُسْلِ وَمَنْ قَالَ الْمَقْصُودُ بِهِ إِسْرَاعُ الْعُلُوقِ أَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ قَبْلَ الْغُسْلِ، فَإِنْ(1/226)
تَرَكَتِ اسْتِعْمَالَ الْمِسْكِ وَمَا قَامَ مَقَامَهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فَالْمَاءُ كافٍ، لِأَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ مَقْصُودٌ على الماء دون غيره.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا بَدَأَ بِهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْغُسْلِ أَجْزَأَهُمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَيْسَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ تَرْتِيبٌ مُسْتَحَقٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الِاخْتِيَارِ مَنْدُوبٌ فِيهِ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، فَكَيْفَ مَا اغْتَسَلَ حَتَّى وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ الشَّعَرِ وَالْبَشَرَةِ أَجْزَأَهُ وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْبِدَايَةِ بِأَعْلَى الْجَسَدِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي ذَرٍّ: " فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ ".
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَإِنْ أَدْخَلَ الْجُنُبُ أَوِ الْحَائِضُ أَيْدِيَهُمَا فِي الِإِنَاءِ وَلَا نَجَاسَةَ فِيهِمَا لَمْ يَضُرُّهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: بَدَنُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ طَاهِرٌ فَإِنْ أَدْخَلَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ وَشَيْئًا مِنْ بَدَنِهِ فِي الْمَاءِ قَبْلَ الْغُسْلِ لَمْ يَضُرَّهُ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ، وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ نُجِّسَ، وَكَذَا لَوْ أَدْخَلَهَا فِي مَاءٍ ثانٍ، وَإِنْ أَدْخَلَهَا فِي ثَالِثٍ لَمْ يُنَجَّسْ، وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ لَمْ يُنَجِّسِ الْمَاءَ وَفَرَّقَ بَيْنَ يَدِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ جَسَدِهِ بِأَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى إِدْخَالِ يَدِهِ فِي الْمَاءِ لِاسْتِعْمَالِهِ وَغَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى إِدْخَالِ مَا سِوَاهَا مِنْ جَسَدِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُعْتَكِفًا فِي الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَ إليَّ رَأْسَهُ فَغَسَلْتُهُ وَأَنَا حائضٌ ".
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: " صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مرطٍ كَانَ بَعْضُهُ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُ عَلَيَّ وَأَنَا حائضٌ ".
وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ يَعْنِي: الْبِسَاطَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي حائضٌ فَقَالَ هَاتِيهِ فَلَيْسَتِ الْحَيْضَةُ فِي يَدِكِ، وَلَا الْمُؤْمِنُ يَنْجُسُ ".
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَمَدَّ يَدَهُ لِيُصَافِحَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جنبٌ فَقَالَ: الْمُؤْمِنُ لَا يَجْنُبُ يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ؛ وَلِأَنَّ غَسْلَ الْبَدَنِ قَدْ يَجِبُ مِنَ الْحَدَثِ كَوُجُوبِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ لَوْ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ مُحْدِثًا(1/227)
لَمْ يَنْجُسْ فَكَذَا الْمَاءُ أَدْخَلَهُ جُنُبًا لَمْ يَنْجُسْ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا غَاصَ فِي الْمَاءِ نَاوِيًا وَالْمَاءُ كَثِيرٌ طَهُرَ مِنْ جَنَابَتِهِ، وَمِنْ نَجَاسَتِهِ إِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَالْمَاءُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِلنَّجَاسَةِ فِيهِ أَثَرٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ طَهُرَ مِنْ جَنَابَتِهِ وَصَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا، فَإِنْ كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَطْهُرْ مِنْ جنابته ولا من نجاسته لأن الماء نجساً بورود النجاسة وصار نجساً، فَلَوِ اغْتَسَلَ هَذَا الْجُنُبُ بَعْدَ نَجَاسَةِ بَدَنِهِ غُسْلًا وَاحِدًا طَهُرَ مِنْ نَجَاسَتِهِ وَهَلْ يَطْهُرُ مِنْ جَنَابَتِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ مِنَ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَغْتَسِلَ غُسْلًا ثَانِيًا، لِأَنَّ مَاءَ الْغُسْلِ الْأَوَّلِ صَارَ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ مُسْتَعْمَلًا فِيهَا، وَمَا اسْتُعْمِلَ فِي النَّجَاسَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ بِهِ حَدَثُ الْجَنَابَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ جَنَابَتِهِ بِالْغُسْلِ الْأَوَّلِ كَمَا طَهُرَ مِنْ نَجَاسَتِهِ لِمُلَاقَاةِ الْمَاءِ لَهُمَا فِي حَالِهِ وَلَيْسَ ارْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ دَافِعًا لَهُمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(1/228)
باب فضل الجنب وغيره
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أنسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بوضوءٍ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَأَمَرَ الناس أن
يتوضؤوا مِنْهُ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حتى توضأ الناس من عند آخرهم.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ والنساء يتوضؤون فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في إناءٍ واحدٍ جميعاً وروي عن عائشة أنها قَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من إناءٍ واحدٍ تعني من الجنابة وأنها كانت تغسل رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي حائضٌ. (قال الشافعي) : ولا بأس أن يتوضأ ويغتسل بفضل الجنب والحائض لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا اغتسل وعائشة من إناءٍ واحدٍ فقد اغتسل كل واحدٍ منهما بفضل صاحبه (قال) وليست الحيضة في اليد ولا المؤمن بنجسٍ إنما تعبدٍ أن يماس الماء في بعض حالاته وكذلك ما روى ابن عمر أن كل واحدٍ منهما توضأ بفضل صاحبه.
(فصل)
: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ فَضْلَ الطَّهُورِ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ فَضُلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ فِيهَا فَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَضَرْبٌ فَضُلَ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْجَمَاعَةُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، وَاشْتِرَاكُ الْجَمَاعَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا جِنْسًا وَاحِدًا كَاشْتِرَاكِ الرِّجَالِ أو كاشتراك النساء، فهذا جائز باتفاق، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بوضوءٍ فَوَضَعَ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ الناس أن يتوضؤوا فرأيت الماء نبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضؤوا(1/229)
مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ ". فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِعْجَازِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاكِ الْجَمَاعَةِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْمَاءِ الْوَاحِدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ جَاءَ بِهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَلَمْ تُنْقَلْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ مُعْجِزَةِ(1/230)
مُوسَى فِي خُرُوجِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنَ الْحَجَرِ مُعْتَادٌ، وَمِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ غَيْرُ مُعْتَادٍ؟ قِيلَ: هَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهُ غَيْرُ أَنَسٍ فَهُوَ جارٍ مَجْرَى التَّوَاتُرِ، لِأَنَّ أَنَسًا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى غَزَاةٍ كَانَتِ الصَّحَابَةُ فِيهَا وَرَوَاهُ وَعَصْرُ الصَّحَابَةِ باقٍ وَأَكْثَرُهُمْ حَيٌّ فَنَقَلُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ اعْتِرَافًا بِصِحَّتِهِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى نَقْلِهِ، وَلَوْلَا ذَاكَ لَرَدُّوهُ عَلَى أَنَسٍ وَأَنْكَرُوهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ إِمَّا مِنْ حَدَثٍ وَإِمَّا مِنْ جَنَابَةٍ، أَوْ مِنْ حَدَثٍ وَحَيْضٍ وَجَنَابَةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمَنَعَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيُّ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعَ سِنِينَ كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ ".
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يتوضؤون فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ أناءٍ واحدٍ جَمِيعًا " وَرَوَتْ مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَتْ: فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: أَبْقِ لِي أَبْقِ لِي ".
وَرَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ إناءٍ وَاحِدٍ.
وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ أُسَامَةَ بن زيد عن خربوذ عن أم حبية الْجُهَنِيَّةِ قَالَتْ: " اخْتَلَفَتْ يَدِي وَيَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْوُضُوءِ مِنْ إناءٍ واحدٍ " وَلِأَنَّ مَا فضل عن الاستعمال فقد يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ كَالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ:(1/231)
231
- أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ محمول على الفضل المستعمل.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " كل ذلك دلالة أنه لا توقيت فيما يتطهر به المغتسل والمتوضئ إلا على ما أمره الله بِهِ وَقَدْ يُخْرَقُ بِالْكَثِيرِ فَلَا يَكْفِي وَيُرْفَقُ بالقليل فيكفي (قال) وَأُحِبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِالْمُدِّ وَاغْتَسَلَ بِالصَّاعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا حَدَّ لِلْمَاءِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ الْمُحْدِثُ وَيَغْتَسِلُ بِهِ الْجُنُبُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَاءِ الْوَاحِدِ يَمْنَعُ مِنْ تَحْدِيدِ مَا يَسْتَعْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ الْمَاءُ لِمُغْتَسِلٍ فِي غُسْلِهِ مِنَ الصاع، والمتوضي فِي وُضُوئِهِ مِنَ الْمُدِّ، لِرِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَسَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَغْتَسِلُ بَالصَّاعِ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه هل هو صاع الزكاة ومدها، فقال بعضهم: هي صاع الزكاة خمسة أرطال وثلث، وقال آخرون: صاع الماء، غير الزكاة قدر ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَالْمُدُّ مِنْهُ رِطْلَانِ رَوَاهُ أَنَسٌ، فَإِنْ نَقَصَ الْمُغْتَسِلُ مِنَ الصَّاعِ وَعَمَّ جَمِيعَ شعره وبشره، ونقص المتوضي مِنَ الْمُدِّ وَأَسْبَغَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَأَجْزَأَهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُمْكِنُ الْمُغْتَسِلَ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ بِدُونِ الصاع، ولا المتوضي أَنْ يُسْبِغَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ بِأَقَلَّ مِنْ مُدٍّ، وَهَذَا دَفْعُ الْعَيَانِ وَإِنْكَارُ السُّنَّةِ رَوَى عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: " تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثُلُثَيْ مُدٍّ وَجَعَلَ يُدَلِّكُ ذِرَاعَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ عَيَانًا إِسْبَاغُ الْبَدَنِ بِدُونِ الصَّاعِ لِمَنْ رَفِقَ وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّاعِ لِمَنْ خَرِقَ لِاخْتِلَافِ الْخَلْقِ وَالْعَادَاتِ وَظُهُورِ ذَلِكَ فِي الْمُشَاهَدَاتِ - وَاللَّهُ أعلم بالصواب -.(1/232)
(باب التيمم)
(قال الشافعي) قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) {النساء: 43) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ (قَالَ) ومعقولٌ إِذَا كَانَ بَدَلًا مِنَ الْوُضُوءِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ أَنْ يُؤْتَى بِالتَّيَمُّمِ عَلَى مَا يُؤْتَى بالوضوء عليه وعن ابن عمر أنه قال: " ضربةٌ للوجه وضربةٌ لليدين إلى المرفقين ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي التَّيَمُّمِ وَبَيَانِ حُكْمِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَقَطَتْ قِلَادَتُهَا لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ فَأَرْسَلَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَلَبِهَا فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا ماءٌ وَلَمْ يَدْرِيَا كَيْفَ يَصْنَعَانِ فنزلت آية التيمم؛ فقال أسيد بن حصين: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا فَمَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ مِنْهُ مَخْرَجًا وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا؛ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي نُزُولِ فَرْضِ التَّيَمُّمِ، فَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ، فَقَالَ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ}
وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَصْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (البقرة: 267) أَيْ: وَلَا تَقْصِدُوا وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ ... مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مهمةٍ ذِي شَزَنِ)
وَقَالَ آخَرُ:
(وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي)
(أَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ ... أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي)(1/233)
فصار معنى قوله: " فتيمموا " أَيِ اقْصُدُوا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ فَأَتُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَأَمَّا الصَّعِيدُ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا تَصَاعَدَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ لِلتُّرَابِ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ " طَيِّبًا " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَعْنِي حَلَالًا، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ.
وَالثَّانِي: يَعْنِي طَاهِرًا، وَهُوَ أَشْبَهُ، ثُمَّ قَالَ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأيْدِيكُمْ مِنْهُ} فَاقْتَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّيَمُّمِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، دُونَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، لِأَنَّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ بالتراب مضاهاة لأرباب المصائب والرحلان لَا يَخْلُو التُّرَابُ مِنْهُمَا فِي السَّفَرِ غَالِبًا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ أَعْضَاءَ التَّيَمُّمِ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِوَجْهِهِ فَيَسْتَوْعِبَ مَسْحَ جَمِيعِهِ، فَإِنْ تَرَكَ مَوْضِعًا مِنْهُ كَانَ يَغْسِلُهُ بالماء في الوضوء ليمسحه بِالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ قَلَّ.
(فَصْلٌ)
: ثُمَّ يَمْسَحُ يَدَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْحِ الْيَدَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: مَا حُكِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنْ يَمْسَحَهُمَا إِلَى الْمَنْكِبَيْنِ.
وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَمَنْصُوصَاتُ الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَمْسَحُ الذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ.
وَالثَّالِثُ: مَا قَالَهُ مَالِكٌ: أَنَّهُ يَمْسَحُ الْكَفَّيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ عِكْرِمَةُ وَمَكْحُولٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَرَوَاهُ أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَحَكَى الزَّعْفَرَانِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ فِي الْقَدِيمِ كَانَ يَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ عَمَّارٍ وَمَنْصُوصُهُ فِي الْقَدِيمِ كُلِّهِ خِلَافُ هَذَا وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ(1/234)
الْوَاجِبَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيُكمْ مِنْهُ) {المائدة: 6) وَمُطْلَقُ اسْمِ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ الْكَفَّ، بِدَلِيلِ الِاقْتِصَارِ فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ عَلَيْهَا، وَبِرِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنْ ذَرٍّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي الْإِبِلِ فَأَصَابَتْنِي جنابةٌ فَتَمَعَّكْتُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أن تضرب بيديك الأرض فتسمح بها وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ " وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِهِمَا إِلَى المرفق قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ} وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْيَدِ يَتَنَاوَلُ الْمَنْكِبَ فَدَخَلَ الذِّرَاعُ فِي عُمُومِ الِاسْمِ، ثُمَّ اقْتَصَرَ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى تَقْيِيدِهِ فِي الْوُضُوءِ بِهِ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنْ أَبِي الْأَعْرَجِ عَنِ ابْنِ الصِّمَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَيَمَّمَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الْعَبْدِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ.
وَرَوَى عُرْوَةُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " التيمم ضربةٌ للوجه وضربةٌ للذراعين إلى الْمِرْفَقَيْنِ " وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَسْلَعَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في غزاة المريسيع فَأَصَابَتْنِي جنابةٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قم فارحل(1/235)
بِي " فَقُلْتُ: " إِنِّي جنبٌ فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِآيَةِ التَّيَمُّمِ فَأَرَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَيْفَ أَتَيَمَّمُ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَضَرَبَ أُخْرَى فَمَسَحَ ذِرَاعَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ فِي التَّيَمُّمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ كَغَسْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الْوَجْهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَقَدْ روى عمار مقدوري عَنْهُ خِلَافَهُ وَطَرِيقُهُ مُضْطَرِبٌ وَالِاخْتِلَافُ فِي نَقْلِهِ كثير فلم(1/236)
يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِمَا رُوِّينَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ مِنَ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ مَعَ زِيَادَتِهَا، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَالتَّيَمُّمُ أَنْ يَضْرِبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ وَهُوَ التُّرَابُ مِنْ كُلِّ أرضٍ سَبْخِهَا وَمَدَرِهَا وَبَطْحَائِهَا وغيره مما يعلق باليد منه غبارٌ مَا لَمْ تُخَالِطْهُ نجاسةٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ التَّيَمُّمُ مُخْتَصٌّ بِالتُّرَابِ ذِي الْغُبَارِ، وَلَا يَجُوزُ بِمَا سِوَاهُ مِنْ نُورَةٍ أَوْ كُحْلٍ وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا يَصْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ زِرْنِيخٍ أَوْ نُورَةٍ أَوْ كُحْلٍ إِذَا لَمْ تَدْخُلْهُ صَنْعَةُ آدَمِيٍّ مِثْلِ مَسْحُوقِ الْآجُرِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا كَالْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ اسْتِدْلَالًا بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} وَالصَّعِيدُ هُوَ مَا تَصَاعَدَ مِنَ الْأَرْضِ، وَبِرِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا " فَلَمَّا كَانَ غَيْرُ التُّرَابِ مِنَ الْأَرْضِ مُسَاوِيًا لِلتُّرَابِ فِي كَوْنِهِ مَسْجِدًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُ التُّرَابِ مُسَاوِيًا لِلتُّرَابِ فِي كَوْنِهِ طَهُورًا، قَالُوا وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ مِنَ الْأَرْضِ فَجَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ قِيَاسًا عَلَى التُّرَابِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ إِذَا وَقَعَتْ بِالْجَامِدِ مَسْحًا لَمْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ الْجِنْسِ نَوْعًا كَالِاسْتِنْجَاءِ وَالدِّبَاغِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) {المائدة: 6) .
وَالصَّعِيدُ اسْمٌ لِلتُّرَابِ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ حَكَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُمْ، وَهُوَ قُدْوَةٌ فِيهِمْ، وَقَدْ سُئِلَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ الصَّعِيدِ فَقَالَا: هُوَ التُّرَابُ الَّذِي يُغَبِّرُ يَدَيْكَ، وَيَشْهَدُ لِمَا فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) {الكهف: 8) يَعْنِي أَرْضًا لَا نَبَاتَ عَلَيْهَا وَلَا زَرْعَ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَصْعَدُ مِنَ الْأَرْضِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالصَّعِيدُ مُشْتَقٌّ مِمَّا تَصَعَّدَ مِنَ الْأَرْضِ فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى اشْتِقَاقِهِ أولى.(1/237)
قِيلَ: وَإِنْ كَانَ اشْتِقَاقُهُ مِنْ هَذَا فَإِطْلَاقُهُ يَتَنَاوَلُ التُّرَابَ لِأَنَّ الْكُحْلَ وَالزِّرْنِيخَ لَا يُسَمَّى صَعِيدًا، وَإِذَا كَانَ لِلِاسْمِ إِطْلَاقٌ وَاشْتِقَاقٌ كَانَ حَمْلُهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى اشْتِقَاقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً، حَنِثَ بِرُكُوبِ الْخَيْلِ، وَلَمْ يَحْنَثْ بِرُكُوبِ النَّعَمِ، وَإِنْ كَانَ اسْمُ الدَّابَّةِ مُشْتَقًّا مِمَّا يَدِبُّ.
ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: " سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُعْطِيتُ مَا لَا يُعْطَى نبيٌ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ لِيَ التُّرَابُ طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ ". فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُ التُّرَابِ طَهُورًا لَهُ لَذَكَرَهُ فِيمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُصِيبُ أَهْلِي وَإِنْ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ قَالَ: " أَصِبْ أَهْلَكَ وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ عَشْرَ سِنِينَ فَإِنَّ التُّرَابَ كَافِيكَ " فَلَمَّا جَعَلَ اكْتِفَاءَ أَبِي ذَرٍّ فِي التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِغَيْرِ التُّرَابِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقَعَ التَّخْيِيرُ فِيمَا يَتَطَهَّرُ بِهِ كَالْوُضُوءِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: لِأَنَّهَا إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فَلَمْ يَتَخَيَّرْ فِيهَا بَيْنَ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّهُ جَوْهَرٌ مُسْتَوْدَعٌ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يُجْزِ التَّيَمُّمُ بِهِ كَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ جَامِدًا وَمَائِعًا، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهَا فِي الْمَائِعِ تَخْتَصُّ بِأَعَمِّ الْمَائِعَاتِ وُجُودًا وَهُوَ الْمَاءُ، فَكَذَلِكَ فِي الْجَامِدِ يَجِبُ أَنْ تَخْتَصَّ بِأَعَمِّ الْجَامِدَاتِ وُجُودًا وَهُوَ التُّرَابُ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَقَلَنَا مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَتَعَذُّرِهِ إِلَى مَا هُوَ أَيْسَرُ وُجُودًا وَأَهْوَنُ فَقْدًا، وَالْكُحْلُ وَالزِّرْنِيخُ أَعَزُّ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ وُجُودًا مِنَ الْمَاءِ، فَلَمْ يُجِزْ أَنْ نَنْتَقِلَ عَنِ الأهون إلى(1/238)
الْأَعَزِّ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ إِلَيْهَا، فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ: " وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَطَهُورًا " فَالْأَرْضُ اسْمٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الطِّينِ دُونَ الزِّرْنِيخِ وَالْكُحْلِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الِاسْمِ عُمُومٌ، وَلَا فِي الظَّاهِرِ دَلِيلٌ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التُّرَابِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي التُّرَابِ أَنَّهُ أَعَمُّ الْجَامِدَاتِ وُجُودًا كَمَا أَنَّ الْمَاءَ أَعَمُّ الْمَائِعَاتِ وُجُودًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ وَالدِّبَاغِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِنْجَاءُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِوَاجِبٍ، وَعِنْدَنَا إِنَّهُ وَاجِبٌ وَلَيْسَتِ الْأَحْجَارُ مُزِيلَةً لِنَجَاسَتِهِ فَاسْتَوَى فِي تَحْقِيقِهَا سَائِرُ الْجَامِدَاتِ، وَأَمَّا الدِّبَاغُ فَلَيْسَتْ عِبَادَةً فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا لِعِبَادَةٍ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الدِّبَاغِ تَنْشِيفُ الْفُضُولِ وَتَطْيِيبُ الرَّائِحَةِ فَاسْتَوَى حُكْمُ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِيهَا، وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَأُلْحِقَتْ بِجِنْسِهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّيَمُّمَ مُخْتَصٌّ بِالتُّرَابِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَذْرُورَاتِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مِنْ كُلِّ أَرْضٍ سَبْخِهَا وَمَدَرِهَا وَبَطْحَائِهَا، فَالسَّبَخَةُ: هِيَ الْأَرْضُ الْمَالِحَةُ الَّتِي لَا تُنْبِتُ، وَالْمَدَرُ: هِيَ الْأَرْضُ ذَاتُ التِّلَالِ وَالْجِبَالِ، وَالْبَطْحَاءُ: فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الْأَرْضُ الْقَاعُ الْفَسِيحَةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْأَرْضُ الصُّلْبَةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ فِي التُّرَابِ بَيْنَ عَذْبِهِ وَمَالِحِهِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا بِالتُّرَابِ الْعَذْبِ تراب الحرث، وبه قال إسحاق بن رَاهْوَيْهِ تَعَلُّقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} وَالطَّيِّبُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّعْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَيَمَّمَ مِنْ أَرْضِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ أرضٌ سبخةٌ وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أريتُ أَرْضًا سَبْخَةً " يَعْنِي: الْمَدِينَةَ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ أَغْلَظُ حُكْمًا فِيهَا بِالتُّرَابِ فَلَمَّا لَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ فِي الْمَاءِ بَيْنَ عَذْبِهِ وَمَالِحِهِ وَجَبَ أَلَّا يَقَعَ الْفَرْقُ فِي التراب بين عذبه ومالح، فَأَمَّا تَأْوِيلُهُ لِلْآيَةِ فَقَدْ ذَهَبَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِلَى خِلَافِهِ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ: " طَيِّبًا " أَيْ حَلَالًا، وَبَعْضُهُمْ تَأَوَّلَهُ: طَاهِرًا وَهُوَ الْأَشْبَهُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التُّرَابِ بَيْنَ عَذْبِهِ وَمَالِحِهِ، فَكَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَبْيَضِهِ وَأَحْمَرِهِ وَسَائِرِ أَلْوَانِهِ كَالْمَاءِ لَا يَكُونُ اخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهِ مُغَيِّرًا لِحُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالطِّينِ الْمَأْكُولِ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّ وَالْبَحْرِيِّ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَإِنِ(1/239)
اخْتَلَفَ طَعْمُهُ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالطِّينِ الْمَخْتُومِ وَبِالطِّينِ الْأَرْمَنِيِّ، وَلَا يَكُونُ تَغَيُّرُ لَوْنِهِ بِمَا يَقَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْدِنًا فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ كَالْكُحْلِ فَأَمَّا الْحَمْأَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ الرَّائِحَةِ إِذَا جَفَّتْ وَسُحِقَتْ جَازَ التَّيَمُّمُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا طِينٌ خُلِقَتْ فَصَارَ كَالْمَاءِ إِذَا خُلِقَ مُنْتِنًا، فَأَمَّا الطِّينُ الرَّطْبُ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ لِعَدَمِ غُبَارِهِ، وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ جَوَازَ التَّيَمُّمِ بِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا فِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ التُّرَابِ فِي الْأَعْضَاءِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الرَّمْلُ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ وَنَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا الرَّمْلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
ضَرْبٌ مِنْهُ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ يَعْلِقُ بِالْيَدِ، فَالتَّيَمُّمُ بِهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَطَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَضَرْبٌ مِنْهُ لَا غُبَارَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لِعَدَمِ غُبَارِهِ الَّذِي يَقَعُ التَّيَمُّمُ بِهِ، لَا لِخُرُوجِهِ مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْجِصُّ فَإِنْ كان محرقاً لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ، لِأَنَّ النَّارَ قَدْ غَيَّرَتْهُ، وَكَذَا مَسْحُوقُ الْآجُرِّ وَالْخَزَفِ، وَإِنْ كَانَ الْجِصُّ غَيْرَ مُحَرَّقٍ جَازَ التَّيَمُّمُ، وَكَذَلِكَ الْإِسْفِيدَاجُ إِذَا كَانَ لَهُ غُبَارٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْدِنًا فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرُّخَامِ وَالْبِرَامِ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْدِنٌ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِمَسْحُوقِ الْحِجَارَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ أيضاً بالمسلح؛ لأنه إن كان ملح جَمُدَ فَلَيْسَ بِتُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ مِلْحَ مَعْدِنٍ فَهُوَ كَالْكُحْلِ.
فَأَمَّا التُّرَابُ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ، أَوْ جَامِدَةٌ نُجِّسَ بِهَا، وَلَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ سَوَاءٌ تَغَيَّرَ، أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، بِخِلَافِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُزِيلُ نَجَاسَةَ غَيْرِهِ فَجَازَ إِذَا كَثُرَ أَنْ يَرْفَعَ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَمَّا التُّرَابُ فَلَا يُزِيلُ نَجَاسَةَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَدْفَعِ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا التُّرَابُ إِذَا خَالَطَهُ طِيبٌ، أَوْ زَعْفَرَانُ فَإِنْ تَغَيَّرَ بِمَا خَالَطَهُ مِنَ الطِّيبِ لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَخْلُو حَالُ مَا أُخْلِطَ بِهِ فِي الطِّيبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَائِعًا كَمَاءِ الْوَرْدِ أَوْ مَذْرُورًا كَالزَّعْفَرَانِ، فَإِنْ كَانَ مَائِعًا جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ وَجَفَّ صَارَ مُسْتَهْلَكًا، وَكَذَا سَائِرُ الْمَائِعَاتِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ إِذَا خَالَطَتِ التُّرَابَ، وَإِذَا كَانَ مَذْرُورًا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِذَلِكَ التُّرَابِ وَجْهَانِ: وَكَذَا مَا خَالَطَهُ مِنْ سَائِرِ الْمَذْرُورَاتِ الطَّاهِرَاتِ إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهَا كَالدَّقِيقِ وَالرَّمَادِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِذَلِكَ التُّرَابِ، وَلَا يمنع من استعماله مخالطة لما لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ وَيُؤَثِّرْ فِيهِ كَالْمَاءِ، وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ بِخِلَافِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مَائِعٌ فَلَمْ يَمْنَعْ مُخَالَطَةُ(1/240)
الْمَذْرُورِ بِهِ مِنْ وُصُولِ بَلَلِهِ إِلَى أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ، وَالتُّرَابُ جَامِدٌ وَرُبَّمَا سَبَقَ حُصُولُ الْمَذْرُورِ عَلَى الْعُضْوِ فَمَنَعَ مِنْ وُصُولِ التُّرَابِ إِلَيْهِ وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا التُّرَابُ الْمُسْتَعْمَلُ فَهُوَ أَنْ يَنْقُلَ مِنْ وَجْهِهِ مَا تَيَمَّمَ بِهِ مِنَ التُّرَابِ فَيَسْتَعْمِلَهُ فِي ذِرَاعَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ، كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، قَالَ: بَلْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّ اسْتِعْمَالَهُ جَائِزٌ بِخِلَافِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَصَارَ مُسْتَعْمَلًا بِرَفْعِهِ، وَالتَّيَمُّمُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَمْ يَصِرِ التُّرَابُ مستعملاًَ به، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ الْجَمَاعَةُ مِنْ مَكَانٍ واحد كما يتوضؤون مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْقُلَ مَا حَصَلَ عَلَى قَدَمِهِ وَيَدَيْهِ مِنْ غُبَارِ التُّرَابِ فَيَتَيَمَّمُ بِهِ وَجْهًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي عِبَادَةٍ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا اسْتَقْبَلَ الْمُتَيَمِّمُ الرِّيحَ حَتَّى سَفَّتِ التُّرَابَ عَلَى وَجْهِهِ فتيمم به الشَّافِعِيُّ لَمْ يُجِزْهُ، وَقَالَ: فِي الْجُنُبِ إِذَا وَقَفَ تَحْتَ مِيزَابٍ حَتَّى عَمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ أَجْزَأَهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِاخْتِلَافِ نَصِّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِذَا لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ عَلَى الْعُضْوِ فَيُجْزِئُهُ فِي الْغُسْلِ وَلَا يُجْزِئُهُ فِي التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي بِطَبْعِهِ فَيَصِلُ إِلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التُّرَابُ، وَلِأَنَّهُ مَذْرُورٌ لَا يَصِلُ إِلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ إِلَّا بِالْإِمْرَارِ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَّهُ لَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ كَمَا يُجْزِئُهُ الْغُسْلُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ آخَرِينَ إِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَقَوْلُهُ فِي التَّيَمُّمِ: إِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ: يُرِيدُ بِهِ إِذَا حَصَلَ التُّرَابُ عَلَى وَجْهِهِ قَبْلَ تَقَدُّمِ النِّيَّةِ، وَإِنْ أَحْضَرَ النِّيَّةَ عِنْدَ حُصُولِ التُّرَابِ أَجْزَأَهُ، وَقَوْلُهُ في الغسل: إنه يجزئه، ويريد بِهِ إِذَا أَحْضَرَ النِّيَّةَ عِنْدَ إِصَابَةِ الْمَاءِ لِجَسَدِهِ، وَلَوْ تَأَخَّرَتِ النِّيَّةُ لَمْ يُجْزِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ التُّرَابَ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمِلًا لِلتُّرَابِ فِي أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ يعلق بيده من غباره فَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ غُبَارٌ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ يُجْزِئُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَقْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ حَتَّى لَوْ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَى طِينٍ يَابِسٍ، أَوْ صَخْرَةٍ مَلْسَاءَ ومسح به وَجْهَهُ أَجْزَأَهُ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنِ ابْنِ الصِّمَّةِ قَالَ: مَرَرْتُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَبُولُ فَتَمَسَّحَ بِجِدَارٍ ثُمَّ تَيَمَّمَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ.
قَالُوا: " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجِدَارَ أَمْلَسُ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى عن(1/241)
عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ نَفَخَ وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ " قَالُوا: وَبِالنَّفْخِ يَزُولُ مَا عَلَقَ بِالْيَدِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ غُبَارٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَدْ بَاشَرَ بِيَدِهِ مَا يَتَيَمَّمُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا عَلِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ أُقِيمَ مَقَامَ الْغَسْلِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْطِهِ إِيصَالُ الطَّهُورِ إِلَى الْعُضْوِ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ) {المائدة: 5) فَأَوْجَبَ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الصَّعِيدِ مَمْسُوحًا بِهِ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَقْ بِالْيَدِ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مَمْسُوحًا بِهِ فَلَمْ يَجُزْ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَجُعِلَ لِي التُّرَابُ طَهُورًا " وَمَا لَا يُلَاقِي مَحَلَّ الطَّهَارَةِ لَا يَكُونُ طَهُورًا، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا يَكُونُ طَهُورًا فِيهَا كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ أُبْدِلَ مِنْ غَسْلٍ فَوَجَبَ إِيصَالُ الْمَمْسُوحِ بِهِ إِلَى مَحَلِّهِ، قِيَاسًا عَلَى مَسْحِ الْجَبَائِرِ وَالْخُفَّيْنِ فِي الطَّهَارَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى مَمْسُوحٍ بِهِ قِيَاسًا عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِالْجِدَارِ، فَهُوَ أَنَّ الْجِدَارَ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْغُبَارِ، وَأَنَّ الْمَاسِحَ بِيَدِهِ لَا يَخْلُو مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ فِيهَا، وَذَلِكَ مُدْرَكٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفَخَ فِي يَدِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَفَخَ مَا يَعْلَقُ بِهَا مِنْ كَثِيرِ التُّرَابِ؛ لِأَنَّ النَّفْخَ لَا يُذْهِبُ جَمِيعَ مَا عَلِقَ بها من الغبار.
والثاني: أنه إنما ينفخ فِكْرَةَ حُصُولِ الْغُبَارِ عَلَى وَجْهِهِ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِالتَّيَمُّمِ التَّعْلِيمَ لِعَمَّارٍ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِنَفْسِهِ، وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي فَعَلَهُ كِفَايَةٌ فِي التَّعْلِيمِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا عَلِقَ بِيَدِهِ غُبَارٌ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ جُعِلَ مُسْتَعْمَلًا لِمَا يَتَطَهَّرُ بِهِ فِي أَعْضَائِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَيُقْلَبُ عَلَيْهِمْ، فيقال: فوجب أن يكون من شَرْطُهُ إِيصَالَ الطَّهُورِ إِلَى مَحَلِّ التَّطْهِيرِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ قَدْ أُقِيمَ مَقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَلَمْ يَلْزَمْ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الرِّجْلَيْنِ، وَلَيْسَ كذلك أعضاء التيمم؛ لأنه لم يستدل بها غيرها فيجزي تطهيرها والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وينوي بالتيمم الفريضة، وَهَذَا صَحِيحٌ النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ وَافَقَ عَلَى وُجُوبِهَا مَالِكٌ وأبو حنيفة، وَإِنْ خَالَفَا فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالتَّيَمُّمُ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ فِيهِ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا يُبِيحُ فِعْلَ(1/242)
الصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلْوُضُوءِ فِي اسْتِبَاحَتِهِ الصَّلَاةَ، وَمُخَالِفًا لَهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، وَقَالَ أبو حنيفة: التَّيَمُّمُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَالْوُضُوءِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بَنِي عَامِرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طهورٌ " فَجَعَلَهُ مُطَهِّرًا، قَالَ: وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ إِذَا اسْتَبَاحَ بِهَا فِعْلَ الصَّلَاةِ أَنْ يُسْتَفَادَ بِهَا رَفْعُ الْحَدَثِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَرْفَعَ الْحَدَثَ كَالْمَاءِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّيَمُّمُ رَافِعًا لِلْحَدَثِ لَمَا أَثَّرَ فِي إبطاله طرؤ الْحَدَثِ، فَلَمَّا بَطَلَ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ الْأَوَّلِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ يَرْفَعِ الْحَدَثَ، كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا كَالْمُصَلِّي مَعَ فَقْدِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ مَعًا، وَلِأَنَّهُ أَحْدَثَ طَهَارَةً لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ كَالْمُتَوَضِّئِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِذَا ارْتَفَعَ حَدَثُهُ كَالْمُتَوَضِّئِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ كَالْمُتَوَضِّئِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَرْفَعِ الْحَدَثَ فِي الْحَضَرِ لَا يَرْفَعُهُ فِي السَّفَرِ قِيَاسًا عَلَى الْمَاءِ إِذَا لَمْ يَكْفِ جَمِيعَ الْبَدَنِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ إِنَّهُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رجلاً من بني عامر مجهول فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَوْلُهُ " طَهُورٌ " مَحْمُولًا عَلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوُضُوءِ فَمُنْتَقَضٌ بِطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ لَمَّا يَلْزَمْ مَعَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ بِهِ، وَلَمَّا لَزِمَ الْمُتَيَمِّمَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَرْتَفِعْ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَاءِ فَالْمَعْنَى في(1/243)
الْمَاءِ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ، فَكَانَتِ الطَّهَارَةُ بِهِ عَامَّةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ دُونَ رَفْعِ الْحَدَثِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَمَّا بَطَلَ التَّيَمُّمُ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِهِ مُحْدِثًا، فَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ: لَوْ أَنَّ جُنُبًا تَيَمَّمَ لِجَنَابَتِهِ ثُمَّ أَحْدَثَ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ وَوَجَدَ الْمَاءَ لَزِمَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ بِهِ، فَلَوْ كَانَ التَّيَمُّمُ رَافِعًا لِحَدَثِهِ لَكَانَ حُكْمُ الْجَنَابَةِ سَاقِطًا وَلَزِمَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ؛ لِمَا طَرَأَ مِنْ حَدَثِهِ، وَفِي ذَلِكَ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى بَقَاءِ الْحَدَثِ الْأَوَّلِ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ، ثُمَّ يُقَالُ إِنَّمَا بَطَلَ تَيَمُّمُهُ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ تُبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ بِالْحَدَثِ الْأَوَّلِ لَا بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَأَنَّ النِّيَّةَ فِيهِ وَاجِبَةٌ فَلَهُ فِي نِيَّتِهِ سِتَّةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ فَتَيَمُّمُهُ بَاطِلٌ به؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِذَا كَانَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَهَذِهِ النِّيَّةُ مُخَالِفَةٌ لِحُكْمِهِ فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهَا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ يُجْزِئُهُ تَيَمُّمُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ.
وَالتَّيَمُّمُ مُبِيحٌ لِلصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِعِ الْحَدَثُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةَ.
فَيَصِحُّ التَّيَمُّمُ لِلنَّوَافِلِ وَلَا يَصِحُّ لِلْفَرَائِضِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ تُسْتَبَاحُ بِهِ النَّوَافِلُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَلَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْفَرْضُ إِلَّا بِتَعْيِينٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطُوفَ بِهِ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَا نَوَى مِنِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخَرَّجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ " فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ " فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِهَذَا التَّيَمُّمِ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا سُنَّةٌ، جَازَ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ بِهِ الْمُصْحَفَ، وَيَقْرَأَ بِهِ الْقَرْآنَ إِنْ كَانَ جُنُبًا، بِخِلَافِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَنْوِيَ صَلَاةَ النَّافِلَةِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ مِنَ النَّوَافِلِ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّي بِهِ الْفَرِيضَةَ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا تَيَمَّمَ لِلنَّافِلَةِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الْفَرِيضَةَ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ طَهَارَةٍ صَحَّ اسْتِبَاحَةُ النَّفْلِ بِهَا صَحَّ اسْتِبَاحَةُ الْفَرْضِ بِهَا كَالْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ صَحَّ فِعْلُهَا مِنَ الْمُتَوَضِّئِ صَحَّ فِعْلُهَا مِنَ الْمُتَيَمِّمِ كَالنَّفْلِ.(1/244)
وَدَلِيلُنَا هُوَ تَيَمُّمٌ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْفَرْضَ لم يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ الْفَرْضَ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا تَيَمَّمَ وَلَمْ يَنْوِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَرْفَعْهُ تَعَيَّنَتِ النِّيَّةُ لِمَا يُسْتَبَاحُ بِهِ لِتَكَونَ النِّيَّةُ مُخْتَصَّةً بِعِبَادَةٍ، وَإِذَا لَزِمَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ بِالْعِبَادَةِ الْمُسْتَبَاحَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لِأَنَّ الْفَرْضَ مُتَنَوِّعٌ، وَهَذَا أَغْلَظُ حُكْمًا، وَالنَّفْلُ تَبَعٌ، وَهُوَ أَخَفُّ حُكْمًا.
وَالْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّيَمُّمَ الْوَاحِدَ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ أَدَاءُ فَرْضَيْنِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ يَأْتِي وَمَعْنَاهُ الْمَانِعُ مِنْهُ أَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ تَبَعًا لِلْأُولَى وَكَذَا الْفَرِيضَةَ لَيْسَتْ تَبَعًا لِلنَّافِلَةِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ على الوضوء فالمعنى يفيه: أَنَّهَا طَهَارَةُ رَفَاهَةٍ فَكَانَ حُكْمُهَا أَقْوَى فِي أداء الفرض بتيمم النفل، والتيمم طهارة ضرورة فَضَعُفَ حُكْمُهَا عَنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ بِتَيَمُّمِ النَّفْلِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى النَّفْلِ فَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ إِذَا نَوَى بِهِ الْفَرْضَ فَصِرْنَا قَائِلِينَ بِمُوجِبِهِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي النَّفْلِ أَنَّهُ كَانَ أَخَفَّ حُكْمًا جَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِتَيَمُّمٍ لَمْ يُقْصَدْ لَهُ وَالْفَرْضُ أَغْلَظُ حُكْمًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِتَيَمُّمٍ لَمْ يُقْصَدْ لَهُ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ ينوي تيمم صَلَاةَ الْفَرْضِ فَيُجْزِئُهُ لِلْفَرِيضَةِ وَالنَّوَافِلِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَلْزَمُهُ تَعْيِينُ الْفَرْضِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ فَإِذَا نَوَى تَيَمُّمَ صَلَاةِ الْفَرْضِ جَازَ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ أَيَّ فَرْضٍ شَاءَ مِنْ ظُهْرٍ أَوْ عَصْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَدَّى بِهِ فَرْضًا وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ فَرْضًا فَائِتًا، وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَمْ يُصَلِّهَا وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا غَيْرَهَا مِنْ فائتة أو غير فائتة جاز؛ لأن تَيَمُّمٌ كَامِلٌ لِفَرْضٍ لَمْ يُؤَدِّهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَعْيِينَ نِيَّةِ الْفَرْضِ فِي تَيَمُّمِهِ وَاجِبَةٌ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا، وَجَازَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّوَافِلَ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ أَضْعَفُ مِنَ الْوُضُوءِ فَلَزِمَهُ تَعْيِينُ الصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي نِيَّتِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ تَيَمَّمَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِتَيَمُّمِهِ عِنْدَ الظُّهْرِ فَرْضًا فَائِتًا لَمْ يَجُزْ.
وَالْحَالُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَنْوِيَ بِتَيَمُّمِهِ مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ الْمُحْدِثُ بِتَيَمُّمِهِ حَمْلَ الْمُصْحَفِ أَوْ يَنْوِيَ الْجُنُبُ بِتَيَمُّمِهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَوْ تَنْوِيَ الْحَائِضُ بتيممها وطأ الزَّوْجِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا نَوَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ النَّفْلَ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:(1/245)
أَحَدُهُمَا: يُجْزِئُهُ لِأَنَّ النَّفْلَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ بِخِلَافِ الْفَرْضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ نَفْلَ الصَّلَاةِ أَوْكَدُ مِمَّا يَتَيَمَّمُ لَهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَبِيحَهُ بِتَيَمُّمِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ كَمَا أَنَّ الْفَرْضَ لَمَّا كَانَ أَوْكَدَ مِنَ النَّفْلِ لَمْ يُسْتَبَحْ بِتَيَمُّمِ النَّفْلِ.
الْحَالُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَنْوِيَ التَّيَمُّمَ وَحْدَهُ أَوْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ وَحْدَهَا فَيَكُونُ تَيَمُّمًا بَاطِلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَبِيحَ بِهِ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا وَلَا مَا كَانَ عَلَى الْمُحْدِثِ مَحْظُورًا؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ عِنْدَ حُضُورِ فِعْلٍ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِهِ، فَضَعُفَ حُكْمُهُ عَنْ أَنْ يَصِحَّ إِلَّا بِمُجَرَّدِ نِيَّتِهِ والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فيضرب عَلَى التُّرَابِ ضَرْبَةً وَيُفَرِّقُ أَصَابِعَهُ حَتَّى يُثِيرَ التُّرَابَ ثُمَّ يَمْسَحُ بِيَدِهِ وَجْهَهُ كَمَا وَصَفْتُ فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ يَضْرِبُ ضَرْبَةً أُخْرَى كَذَلِكَ ثم يمسح ذراعه اليمنى فيضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى وأصابعها ثم يمرها على ظهر الذراع إلى مرفقه ثم يدير كفه إلى بطن الذراع ثم يقبل بها إلى كوعه ثم يمرها على ظهر إبهامه ويكون بطن كفه اليمنى لم يمسها شيءٌ من يده فيمسح بها اليسرى كما وصفت في اليمنى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ هُوَ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ دُونَ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَهَذَا صَرِيحُ الْكِتَابِ وَنَصُّ السُّنَّةِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَقَلِّ مَا يُمْكِنُ مَسْحُ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ ضَرَبَاتٍ ضَرْبَةٍ لِوَجْهِهِ وَضَرْبَةٍ لِكَفَّيْهِ وَضَرْبَةٍ لِذِرَاعَيْهِ، وَحُكِيَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِوَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إِنْ تَيَمَّمَ بِأَقَلَّ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَةٍ لِوَجْهِهِ وَضَرْبَةٍ لِذِرَاعَيْهِ لِرِوَايَةِ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " في التيمم ضربتين ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين " وروى عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: التَيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِضَرْبَتَيْنِ لَا يُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْهُمَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ وَفَرَّقَ أَصَابِعَهُ حَتَّى يُثِيرَ التُّرَابَ، وَلَيْسَ ضَرْبُ يَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ شَرْطًا بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَعْلَقَ الْغُبَارُ بِيَدِهِ، فَإِنْ كَانَ الْغُبَارُ يَعْلَقُ بِيَدَيْهِ إِذَا أَبْسَطَهُمَا عَلَى التُّرَابِ جَازَ أَنْ يَبْسُطَهُمَا عَلَى التُّرَابِ، وَإِنْ كَانَ الْغُبَارُ لَا يَعْلَقُ بِيَدَيْهِ لَزِمَهُ أَنْ يَضْرِبَ بِهِمَا عَلَى التُّرَابِ حَتَّى يَعْلَقَ الْغُبَارُ بِهِمَا، فَأَمَّا تَفْرِيقُ أَصَابِعِهِ فَلِيَصِلَ غُبَارُ التُّرَابِ إِلَى مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَإِيصَالُ الْغُبَارِ إِلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ فَإِذَا ضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ، وَعَلِقَ بِهِمَا الغبار فقد(1/246)
حَكَى الزَّعْفَرَانِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ قَالَ: أَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَنْفُخَ فِي يَدَيْهِ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ فِي الْجَدِيدِ، فَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخَرِّجُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ نَصِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ نَفْخَ الْيَدَيْنِ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَرَوَاهُ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ فَنَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ عَلَى اسْتِحْبَابِ نَفْخِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَا عَلِقَ بِيَدِهِ مِنَ التُّرَابِ كَثِيرٌ، فَكَانَتِ السُّنَّةُ فِي نَفْخِهِمَا لِيَقِلَّ مَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي وَجْهِهِ مِنَ الْغُبَارِ فَلَا يَصِحُّ وَنَصُّهُ فِي الجديد على استحباب عَلَى تَرْكِ الِاسْتِحْبَابِ لِنَفْخِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَا عَلِقَ بِيَدِهِ مِنَ التُّرَابِ غُبَارٌ قَلِيلٌ إِنْ نَفَخَهُمَا لَمْ يُبْقِ فِيهِمَا شَيْئًا يَسْتَعْمِلُهُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ عَدَدِ ضَرَبَاتِ التُّرَابِ وَصِفَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ بِالضَّرْبَةِ الْأُولَى وَجْهَهُ بِكَفَّيْهِ مَعًا، ثُمَّ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَبْدَأَ بِأَعْلَى وَجْهِهِ كَالْوُضُوءِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَبْدَأُ بِأَسْفَلِ وَجْهِهِ، ثُمَّ يَسْتَعْلِي لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْعُضْوِ إِذَا اسْتَعْلَى بِهِ انْحَدَرَ بِطَبْعِهِ فَعَمَّ جَمِيعَ وَجْهِهِ، وَالتُّرَابُ لَا يَجْرِي عَلَى الْوَجْهِ إِلَّا بِإِمْرَارِهِ بِالْيَدِ فَيَبْدَأُ بِأَسْفَلِ وَجْهِهِ لِيَقِلَّ مَا يَحْصُلُ فِي أَعْلَاهُ مِنَ الْغُبَارِ لِيَكُونَ أَجْمَلَ وَأَسْلَمَ لِعَيْنِهِ، ثُمَّ يَضْرِبُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ لِذِرَاعَيْهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فَيَمْسَحُ ذِرَاعَهُ الْيُمْنَى بِكَفِّهِ الْيُسْرَى فَيَبْدَأُ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ لَا يَخْتَلِفُ جَمِيعُ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَيَضَعُ ظَاهِرَ كَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى بُطُونِ أَصَابِعِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُمِرُّ بُطُونَ أَصَابِعِ كَفِّهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَاهِرِ كَفِّهِ الْيُمْنَى وَظَاهِرِ ذِرَاعِهِ إِلَى مِرْفَقِهِ ثُمَّ يُدِيرُ بَاطِنَ رَاحَتِهِ عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعَيْهِ، وَيُمِرُّهَا إِلَى كُوعِهِ ثُمَّ بَاطِنِ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَاهِرِ إِبْهَامِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَمْسَحُ ذِرَاعَهُ الْيُسْرَى بِكَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى مَا وَصَفْنَا فَهَذِهِ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ وَرَوَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ظَاهِرَ ذِرَاعِهِ بِجَمِيعِ كَفِّهِ إِلَّا بَاطِنَ إِبْهَامِهِ ثُمَّ يُدِيرُ بَاطِنَ إِبْهَامِهِ عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعِهِ، وَرِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ أَشْهَرُ وَأَصَحُّ تَعْدِيلًا بَيْنَ ظَاهِرِ الذراع وباطنها.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَيَمْسَحُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَيُخَلِّلُ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَسْحُ إِحْدَى الرَّاحَتَيْنِ بِالْأُخْرَى فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ الْغُبَارَ قَدْ وَصَلَ إِلَى جَمِيعِهَا، فَلَمْ يَلْزَمْ مَسْحُهَا كَالْمَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ جارٍ بِطَبْعِهِ فَيَصِلُ إِذَا جرى(1/247)
إِلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التُّرَابُ؛ لِأَنَّهُ جَامِدٌ لَا يَكَادُ يَصِلُ إِلَى تَكَاسِيرِ الْعُضْوِ إِلَّا بِإِمْرَارِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ، فَأَمَّا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَصَلَ غُبَارُ التُّرَابِ إِلَى مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ كَانَ تَخْلِيلُهَا وَاجِبًا، وَإِنْ كان قد وصل إليها ففي وجوب تحليلها وَجْهَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ ضَيَّقَ الشَّافِعِيُّ صِفَةَ التَّيَمُّمِ بِهَاتَيْنِ الضَّرْبَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ؟ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ الرِّوَايَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
والثاني: أنه خرج عن سُؤَالِ سَائِلٍ زَعَمَ أَنَّ مَسْحَ الذِّرَاعَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْتَحِيلٌ فَبَيَّنَ وَجْهَ صِحَّتِهِ، وَبُطَلَانَ اسْتِحَالَتِهِ، فَلَوْ لَمْ يَكْتَفِ بِضَرْبَتَيْنِ اسْتَعْمَلَ ضَرْبَةً ثَالِثَةً وَرَابِعَةً حَتَّى يَعُمَّ جَمِيعَ وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ أَبْقَى شَيْئًا مِمَّا كَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ حَتَّى صَلَّى أَعَادَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّيَمُّمِ ثُمَّ يُصَلِّي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ فِي التيمم واجب كالوضوء، فكل مَوْضِعٍ مِنْهُمَا لَزِمَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ لَزِمَ إِيصَالُ الْغُبَارِ إِلَيْهِ فِي التَّيَمُّمِ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْ وَجْهِهِ أَوْ مِنْ ذِرَاعَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَصِلِ الْغُبَارُ إِلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجْزِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ تَرَكَ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ أَجْزَأَهُ وَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ وَإِنْ تَرَكَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ فَصَاعِدًا لَمْ يُجْزِهِ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ حَدٌّ لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي النَّجَاسَةِ، فَصَارَ أَصْلًا لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي التَّيَمُّمِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْغَسْلَ إِذَا تَبَدَّلَ بِالْمَسْحِ جَازَ أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ} (المائدة: 6) . وَقَدْ ثَبَتَ اتِّفَاقُنَا وَإِيَّاهُ أَنَّ الْبَاءَ لَمْ تَدْخُلْ هَا هُنَا لِلتَّبْعِيضِ فَصَارَتِ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِلتَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ لَمْ يُسَامَحْ فِيهَا بِالدِّرْهَمِ فَلَمْ يُسَامَحْ فِيهَا بِأَقَلَّ مِنَ الدِّرْهَمِ كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ مِنْ مَحَلِّ وُضُوئِهِ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ مِنْ مَحَلِّ تَيَمُّمِهِ كَالدِّرْهَمِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ بِنَائِهِ عَلَى أَصْلِهِ فِي النَّجَاسَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَنَى خِلَافًا يُنَازَعُ فِيهِ عَلَى أَصْلٍ لَا يُسَلَّمُ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدِّرْهَمَ فِي النَّجَاسَةِ مُلْحَقًا بِمَا دُونَهُ فِي الْقِلَّةِ فَكَانَ الدِّرْهَمُ فِي النَّجَاسَةِ قَلِيلًا، وَجَعَلَ الدِّرْهَمَ فِي التَّيَمُّمِ مُلْحَقًا بِمَا فَوْقَهُ فِي الْكَثْرَةِ فَكَانَ الدِّرْهَمُ فِي التَّيَمُّمِ كَثِيرًا فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْمَسْحِ عَلَى اللُّصُوقِ وَالْجَبَائِرِ هُوَ بَدَلٌ مِنَ الْغَسْلِ، وَيَلْزَمُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخُفَّيْنِ أَنَّهُ بَدَلُ رُخْصَةٍ يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْغَسْلِ، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ على البعض ترفهاً، وَالتَّيَمُّمُ بَدَلُ ضَرُورَةٍ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ فَلَزِمَ الِاسْتِيعَابُ فِيهِ تَغْلِيظًا.(1/248)
(فصل)
: فإذا أثبت أنه تَرَكَ فِي تَيَمُّمِهِ شَيْئًا مِنْ وَجْهِهِ أَوْ مِنْ ذِرَاعَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتَمِّمَ مَسْحَ مَا تَرَكَ، فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ قَرِيبًا بُنِيَ عَلَى الْمَسْحِ الْأَوَّلِ وَأَجْزَأَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى قَبْلَ إِتْمَامِ الْمَسْحِ أَعَادَهَا بَعْدَ إِتْمَامِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ بَعِيدًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخَرِّجُ جَوَازَ الْبِنَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ.
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَفْرِيقَ الْوُضُوءِ يَجُوزُ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ تَفْرِيقَ الْوُضُوءِ لَا يَجُوزُ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ هَا هُنَا وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالصَّلَاةِ الَّتِي تَيَمَّمَ لَهَا، فَإِذَا تَطَاوَلَ الزمان والوضوء بخلافه والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ بَدَأَ بِيَدَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ وَيَمْسَحَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا بَعْدَ وجهه مثل الوضوء سواءً وإن قدم يسرى يديه على اليمنى أجزأه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: التَّرْتِيبُ فِي التَّيَمُّمِ وَاجِبٌ كَوُجُوبِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَخَالَفَنَا فِيهِ أبو حنيفة كَمَا خَالَفَ فِي الْوُضُوءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ، وَقَدْ مَضَى، فَإِذَا تَقَرَّرَ وُجُوبُ ذَلِكَ فِي التَّيَمُّمِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ فِي الْوُضُوءِ فَالتَّيَمُّمُ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ فَرْضٍ وَسُنَّةٍ وَهَيْئَةٍ، فَأَمَّا الْفَرْضُ فَخَمْسَةٌ وَهِيَ التُّرَابُ الطَّاهِرُ وَالنِّيَّةُ وَمَسْحُ جَمِيعِ الْوَجْهِ وَمَسْحُ الذِّرَاعَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَتَرْتِيبُ الْوَجْهِ عَلَى الذِّرَاعَيْنِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَشَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: التَّسْمِيَةُ حِينَ يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ.
وَالثَّانِي: تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، فَأَمَّا تَكْرَارُ الْمَسْحِ فَلَا يُسَنُّ فِي التَّيَمُّمِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْبِيحِ الْوَجْهِ بِالْغُبَارِ، فَلَوْ أَنَّ مُتَيَمِّمًا نَوَى وَأَمَرَ غَيْرَهُ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ جَازَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ فَوَضَّأَهُ أَوْ غَسَّلَهُ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ لَا يُجْزِيهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً) {المائدة: 6) ، أَيْ فَاقْصِدُوا، وَهَذَا الْآمِرُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَقْصِدْ صعيداً، وإنما غيره القاصد له.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ نَسِيَ الْجَنَابَةَ فَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الْجَنَابَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنَ الْتَيَمُّمِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجُنُبُ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ لَا غَيْرَ كَالْوُضُوءِ سَوَاءٍ، وَيُصَلِّي الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وكافة الفقهاء،(1/249)
وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْجُنُبَ لَا يَتَيَمَّمُ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ فَيَغْتَسِلَ وَيَقْضِي مَا تَرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عِبَادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعَطَارِدِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ جُنُبًا أَنْ يَتَيَمَّمَ ثُمَّ يُصَلِّي فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ اغْتَسَلَ، وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: " كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَجَاءَهُ رجلٌ فَقَالَ: إِنَّا نَكُونُ بِالْمَكَانِ الشَهْرَ أَوِ الشَّهْرَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَكُنْ أُصَلِّي حَتَّى أَجِدَ الْمَاءَ؛ قَالَ: فَقَالَ عَمَّارُ أَمَا تَذْكُرُ إِذْ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ فِي الْإِبِلِ فَأَصَابَتْنَا جنابةٌ، فَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ هَكَذَا وَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ نَفَخَهُمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَمَّارُ اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شِئْتَ وَاللَّهِ لَمْ أَذْكُرْهُ أَبَدًا فَقَالَ عُمَرُ: كَلَّا، وَاللَّهِ لَنُوَلِّيَنَّكَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَوَلَّيْتَ ".
وَرَوَى حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عن أبي قلابة عن رجل من بني عَامِرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: " كُنْتُ أَعْزَبُ عَنِ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقُلْتُ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ قُلْتُ: كُنْتُ أَعْزَبُ عَنِ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ، فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ فَأَمَرَنِي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بماءٍ فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ الصَّعِيدَ طهورٌ وَإِنْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ إِلَى عَشْرِ سنينٍ فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ مَعَ اخْتِلَافِ طُرُقِهَا عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي رَجُلٍ تَيَمَّمَ يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُحْدِثٌ وَصَلَّى بَعْدَ تَيَمُّمِهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَتَيَمُّمُهُ جَائِزٌ وَصَلَاتُهُ مَاضِيَةٌ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَالصَّلَاةُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اتِّفَاقَ مُوجِبِهَا مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهَا لَا يُوجِبُ نِيَابَةَ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ عَصْرًا(1/250)
فَصَلَّاهَا ثُمَّ بَانَتْ ظُهْرًا، وَلِأَنَّهُ تَطَهَّرَ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ عَنْ طَهَارَةِ الْجَنَابَةِ كَالْوَاجِدِ لِلْمَاءِ، وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ مُتَّفِقَتَانِ فِي الصُّورَةِ وَالنِّيَّةِ، فَلَمْ يَكُنِ الْخَطَأُ فِيهِمَا مَانِعًا مِنْ إِجْزَائِهِمَا قِيَاسًا عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ جَنَابَةٍ فَكَانَ حَيْضًا، أَوِ الْمُحْدِثِ يَتَوَضَّأُ عَنْ صَوْتٍ وَكَانَ نُوَّمًا، وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ عَنْ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِيهِ غَيْرَ مَانِعٍ مِنَ الْإِجْزَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا تَيَمَّمَ عَنْ جَنَابَةٍ فَكَانَ مُحْدِثًا، فَكَذَا إِذَا تَيَمَّمَ عَنْ حَدَثٍ فَكَانَ جُنُبًا، فَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِالصَّلَاةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ، وَتَعْيِينُهَا فِي الْحَدَثِ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَحْدَاثَ إِذَا اجْتَمَعَتْ تداخلت، والصلاوات إِذَا تَرَادَفَتْ لَمْ تَتَدَاخَلْ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْمَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّ طَهَارَةَ الْجُنُبِ بِالْمَاءِ أَعَمُّ مِنْ طَهَارَةِ الْمُحْدِثِ فَلَمْ يُجْزِهِ وَطَهَارَةُ الْجُنُبِ بِالتُّرَابِ كَطَهَارَةِ الْمُحْدِثِ فَأَجْزَأَهُ.
(فَصْلٌ)
: (قَالَ الْمُزَنِيُّ) : لَيْسَ عَلَى الْمُحْدِثِ عِنْدِي مَعْرِفَةُ أَيِّ الْأَحْدَاثِ كَانَ مِنْهُ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ للحدث ولو كان عليه معرفة أي الأحداث كان منه كما عليه معرفة أي الصلوات عليه لوجب لو توضأ من ريحٍ ثم علم أن حدثه بولٌ أو اغتسلت امرأةٌ تنوي الحيض وإنما كانت جنباً أو من حيضٍ وإنما كانت نفساء لم يجزئ أحداً منهم حتى يعلم الحدث الذي تطهر منه ولا يقول بهذا أحدٌ نعلمه ولو كان الوضوء يحتاج إلى النية لما يتوضأ له لما جاز لمن يتوضأ لقراءة مصحف أو لصلاةٍ على جنازةٍ أو تطوع أن يصلي به الفرض فلما صلى به الفرض ولم يتوضأ للفرض أجزأه أن لا ينوي لأي الفروض ولا لأي الأحداث توضأ ولا لأي الأحداث اغتسل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَوَّلُ كَلَامِهِ فَصَحِيحٌ، وَهُوَ أَوَّلُ قَوْلِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ عِنْدِي مَعْرِفَةُ أَيِّ الْأَحْدَاثِ كَانَ مِنْهُ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ لَيْسَ لَهُ بِلَازِمٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْحَدَثِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرَادَ التَّيَمُّمَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ كَالْوُضُوءِ، فَإِنْ أَرَادَ هَذَا وَذَهَبَ إِلَيْهِ وَقَدْ حَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ خَالَفْنَاهُ، فِيهِ وَقُلْنَا إِنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ أَرَادَ بِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ بِالتَّيَمُّمِ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا، وَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْحَدَثِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا فِي الوضوء أو في التيمم، فإن ط أَرَادَ بِهِ فِي الْوُضُوءِ فَهُوَ مُصِيبٌ فِي الْجَوَابِ مُخْطِئٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ فِي التَّيَمُّمِ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي الْجَوَابِ وَالِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّيَمُّمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ رفع الحدث والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَإِذَا وَجَدَ الْجُنُبُ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ اغْتَسَلَ وإذا وجده الذي ليس بجنبٍ توضأ ".(1/251)
قال الماوردي: المحدث لعدم الماء، ثم وجده قبل دخوله فِي الصَّلَاةِ، بَطَلَ تَيَمُّمُهُ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ مُغْتَسِلًا بِهِ إِنْ كَانَ جُنُبًا، وَمُتَوَضِّئًا بِهِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وحكي عن أبي سلمة ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّ تَيَمُّمَهُ صَحِيحٌ، لَا يَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وُجُودَ الْمُبْدَلِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَلِ لَا يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ كَالْمُكَفِّرِ إِذَا وَجَدَ الرَّقَبَةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَدَلِيلُنَا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي ذَرٍّ: " الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طهورٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ وَهَذَا وَاجِدٌ لَهُ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُهُ وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ بِهِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْمَقْصُودِ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، كَالْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ بَانَ لَهُ النص قبل تنفيذ الحكم، وهذا الْمَعْنَى فَارَقَ مَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الصِّيَامِ فِي الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ لَهَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالتَّيَمُّمُ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى أداء المقصود.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ دُخُولِهِ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَأَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْمُتَيَمِّمُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِهَا، وَقَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ بِرُؤْيَتِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِرُؤْيَتِهِ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ، قال العباس ابن سُرَيْجٍ، وَمَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَالْمُزَنِيُّ سَوَّى بَيْنَ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْعِيدَيْنِ فِي بُطْلَانِهَا بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، وأبو حنيفة فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَأَبْطَلَ بِرُؤْيَةٍ صَلَاةَ الْفَرْضِ دُونَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالنَّفْلِ، وَفَرَّقَ أبو حنيفة أَيْضًا بَيْنَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَبَيْنَ سُؤْرِ الْحِمَارِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، وَأَنَّهُ كَالْحَدَثِ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) {المائدة: 6) . فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى لِلتَّيَمُّمِ حُكْمًا مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ وبقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي ذَرٍّ فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، قَالُوا: ولأن كلما أَبْطَلَ التَّيَمُّمَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَبْطَلَهُ فِي الصَّلَاةِ كَالْحَدَثِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ ضَرُورَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ حُكْمُهَا بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا ارْتَفَعَتِ اسْتِحَاضَتُهَا، وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِظُهُورِ أَصْلِهِ، كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَبْطُلُ بِظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا جَازَ أَدَاؤُهَا بالعذر على(1/252)
صِفَةٍ كَانَ زَوَالُ ذَلِكَ الْعُذْرِ مَانِعًا مِنْ إِجْزِائِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، كَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ، وَالْأُمِّيِّ إِذَا تَعَلَّمَ الْفَاتِحَةَ، وَالْعُرْيَانِ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا، وَاسْتَدَلَّ الْمُزَنِيُّ بِدَلِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الطَّهَارَةِ بَدَلٌ مِنَ الْمَاءِ عِنْدَ فَقْدِهِ كَمَا أَنَّ الشُّهُورَ فِي الْعِدَّةِ بَدَلٌ مِنَ الْأَقْرَاءِ عِنْدَ فَقْدِ الْحَيْضِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِالْأَشْهُرِ إِذَا رَأَتِ الْحَيْضَ لَزِمَهَا الِانْتِقَالُ إِلَى الْأَقْرَاءِ، وَجَبَ إِذَا رَأَى الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ حَدَثٌ اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَيَمَّمَ أَحَدُهُمَا، وَتَوَضَّأَ الْآخَرُ ثُمَّ أَحْدَثَ المتوضي وَوَجَدَ الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ كَانَ طُهْرُهُمَا مُنْتَقَضًا، وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لَهُمَا لَازِمًا، وَإِذَا كَانَ بِمَا دَلَّ الشَّاهِدُ عَلَيْهِ حَدَثًا، كَانَ حُكْمُهُ فِي الصَّلَاةِ وَقَبْلَهَا سَوَاءً.
(فَصْلٌ)
: وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) . إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} . فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهَا هُوَ أَنَّهُ أَمَرَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَوْ لَمْ يَجِدْ فِيهَا الْمَاءَ لَتَيَمَّمَ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْأَمْرِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَوْ رَأَى فِيهَا سُؤْرَ الْحِمَارِ لَمْ تَبْطُلْ وَجَبَ إِذَا رَأَى فِيهَا الْمَاءَ الْمُطْلَقَ أَنْ لَا تَبْطُلَ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ طَرْدًا وَمَنْ عَلَى بَدَنِهِ النَّجَاسَةُ عَكْسًا، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ لَوْ وَجَدَهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ فَإِذَا وَجَدَهَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ لَمْ تَبْطُلْ، كَسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَلِأَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِطُهُورٍ فَوَجَبَ أن لا يبطل برؤية الطهور، كالمتوضي إِذَا رَأَى الْمَاءَ أَوِ التُّرَابَ، وَالْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى التُّرَابَ، وَلِأَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ تَيَمُّمُهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ، كَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ لَوِ اتَّصَلَ عَدَمُهُ إِلَى الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ لَخَلَتِ الذِّمَّةُ عَنْ وُجُوبِهَا بِأَدَائِهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فِي تَضَاعِيفِهَا كَالْعُرْيَانِ إِذَا وَجَدَ ثُوبًا، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ وُصِفَا فِي الشَّرْعِ لِاسْتِبَاحَةِ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ بَعْدَ اسْتِبَاحَةِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ سَقَطَ حُكْمُهُ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالشُّهُورِ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ وَقَدْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَكَذَا الْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَصَّلُ إِلَى الْوُضُوءِ بِثَمَنِ الْمَاءِ، كَمَا يَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالْمَاءِ، فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الثَّمَنِ بَعْدَ عَدَمِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِوُجُودِ الْمَاءِ بَعْدَ عَدَمِهِ وَتَحْرِيرُهُ، قِيَاسًا عَلَى أَنَّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْوُضُوءِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَمْ يُؤَثِّرْ وُجُودُهُ فِي الصَّلَاةِ، كَالثَّمَنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالَةٍ لَا يَلْزَمُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى الْأَصْلِ لِوُجُودِ ثَمَنِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَصْلِ بِوُجُودِ عَيْنِهِ، كَالْمُكَفِّرِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ صَوْمِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حَالٍ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا طَلَبُ الْمَاءِ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ(1/253)
الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَصِحُّ بِشَرْطَيْنِ: السَّفَرُ وَعَدَمُ الْمَاءِ، ثُمَّ لَوْ نَقَضَ السَّفَرَ بِالْإِقَامَةِ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ يَبْطُلُ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ.
فَكَذَا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ يَبْطُلُ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَكَذَا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ يَبْطُلُ بِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيِ التَّيَمُّمِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُؤَثِّرَ فِي التَّيَمُّمِ بَعْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ مَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِيهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَالْإِقَامَةِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طريق الاستدلال بها وهو أنها تقتضي قبل التَّيَمُّمِ وَصِحَّتِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَقَدْ تَيَمَّمَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ تَيَمُّمًا صَحِيحًا، وَهُمْ يَمْنَعُونَهُ مِنِ اسْتِصْحَابِ حُكْمِهِ بَعْدَ تَقَدُّمِ صِحَّتِهِ فَكَانَ ظَاهِرُهَا دَالًّا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ " فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ جِلْدَكَ " مَحْمُولٌ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ بِالْمَاءِ يستقبل من الصلاة.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِاسْتِعْمَالِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى حَالَةِ الطَّلَبِ لِلْمَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَكَذَا وُجُوبُ الِاسْتِعْمَالِ قَبْلَ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحَدَثِ فَمُنْتَقِضٌ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَلَائِلِنَا يَبْطُلُ بِهَا التَّيَمُّمُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلَا يَبْطُلُ بِهَا التَّيَمُّمُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَنْتَقِضُ بِوُجُودِ الثَّمَنِ أَيْضًا، وَقَدْ جَعَلْنَاهُ دَلِيلًا ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَدَثِ أَنَّهُ يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، فَأَبْطَلَهُ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَرُؤْيَةُ الْمَاءِ لَا تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فَلَمْ تُبْطِلْهُ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ فَلِأَصْحَابِنَا فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهَا بِارْتِفَاعِ الِاسْتِحَاضَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ، أَنَّ صَلَاتَهَا لَا تَبْطُلُ كَالْمُتَيَمِّمِ فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ حَامِلَةٌ لِلنَّجَاسَةِ فَلَزِمَهَا اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِإِزَالَتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُتَيَمِّمُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ لَيْسَتْ فِي طَهَارَةٍ مِنْ وُضُوءٍ وَلَا فِي بَدَلٍ من التيمم، وهذا(1/254)
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُضُوءٍ فَهُوَ فِي تَيَمُّمٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ أَنْ يُبْطِلَ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ رُؤْيَةُ الْمَاءِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعُرْيَانِ إِذَا وَجَدَ ثَوْبًا وَالْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ فَهُوَ أَنَّنَا قَدْ جَعَلْنَا الْعُرْيَانَ أَصْلًا وَاسْتَخْرَجْنَا مِنْهُ دَلِيلًا، ثُمَّ هَذِهِ الْأَحْوَالُ لَا تُبْطِلُ الصلاة وإنما تغير صفة إتمامها ثم منتقض عَلَيْهِ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ، وَوُجُودِ الثَّمَنِ وَحُدُوثِ الْإِقَامَةِ ثُمَّ تُغَلَّبُ عَلَيْهِمْ. فَيُقَالُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ كَالصِّحَّةِ وَوُجُودِ الثَّوْبِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُزَنِيُّ مِنَ الْعِدَّةِ فَهُوَ أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنَ الشُّهُورِ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَاضِي مِنْ شُهُورِهَا قَبْلَ رُؤْيَةِ الدَّمِ هَلْ يَكُونُ قُرْءًا يُعْتَدُّ بِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قرءٌ مُعْتَدٌّ بِهِ
وَالثَّانِي: لَيْسَ بِقُرْءٍ، وَلَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فَإِنْ جَعَلْنَا مَا مَضَى قُرْءًا لَمْ تَبْطُلِ الشُّهُورُ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا تَبْطُلَ الصَّلَاةُ وَالتَّيَمُّمُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ، وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ مُنْعَكِسًا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلِ الْمَاضِي قُرْءًا وَأَبْطَلْنَا الشُّهُورَ بِرُؤْيَةِ الدَّمِ، كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَيَمِّمِ وَبَيْنَ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَعْتَدَّ بِزَمَنٍ لَا تُحْتَسَبُ بِهِ وَهُوَ الْحَيْضُ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي قَبْلَ دَمِهَا عَفْوًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ بِالشُّهُورِ دَخَلَتْ فِيهَا بِالشَّكِّ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي تَأْخِيرِ الْحَيْضِ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ كَالْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ ثُمَّ عَلِمَ مُخَالَفَةَ النَّصِّ وَالْمُتَيَمِّمُ مُتَيَقِّنٌ لِعَدَمِ الْمَاءِ فَصَارَ كَالْحَاكِمِ إِذَا حَدَثَ بَعْدَ حُكْمِهِ بِالِاجْتِهَادِ نَصٌّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعِدَّةِ بِانْتِهَائِهَا، وَكَذَلِكَ إِنْ جَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ مِنَ الْحَيْضِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ الْحَمْلُ اعْتِبَارًا بِالِانْتِهَاءِ، وَالصَّلَاةُ فِي الطَّهَارَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِابْتِدَائِهَا وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْتَقَلْ عَنِ الْمَاءِ إِلَى التُّرَابِ عَلَى أَنَّنَا قَدْ جَعَلْنَا الْعِدَّةَ لَنَا دَلِيلًا فَكَانَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا فِي الْجَوَابِ كَافِيًا، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ رُؤْيَةَ الْمَاءِ حَدَثٌ فَهُوَ أَنَّهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ مُحْدِثٌ وَالْحَدَثُ لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ إِذَا طَرَأَ عَلَى الْحَدَثِ، وَالْمَانِعُ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَاءِ أَنْ يَكُونَ حَدَثًا إِنَّ مُتَيَمِّمَيْنِ لَوْ تَيَمَّمَ أَحَدُهُمَا عَنْ حَدَثٍ، وَالْآخَرُ عَنْ جَنَابَةٍ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَزِمَ الْجُنُبَ أَنْ يَغْتَسِلَ، وَالْمُحْدِثَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَلَوْ كَانَ رُؤْيَتُهُ حَدَثًا لَاسْتَوَى حُكْمُهُمَا، فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مِنْ وُضُوءٍ وَغَسْلٍ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.(1/255)
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ بِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ بِرُؤْيَتِهِ فِي الصَّلَاةِ؟
قِيلَ: لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ فِي عِبَادَةٍ مَنَعَتْ حُرْمَتُهَا مِنَ الِانْتِقَالِ عَنْهَا وَهُوَ قَبْلَ الصَّلَاةِ بِخِلَافِهَا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَقْطَعَ صَلَاتَهُ وَيَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ وَيَسْتَأْنِفَ الصَّلَاةَ، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ لِيَكُونَ خَارِجًا مِنَ الْخِلَافِ، وَبَيْنَ أَنْ يَمْضِيَ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى يُكْمِلَهَا، وَهُوَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ لِئَلَّا تَبْطُلَ عِبَادَةٌ هُوَ فِيهَا فَإِذَا أَتَمَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ كَانَ قَدْ أُبْطِلَ لِغَيْرِ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَعَلَى هَذَا لَوْ سَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي رَأَى الْمَاءَ فِيهَا فَقَدَّمَ الْمَاءَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُ التَّيَمُّمِ لِمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ بَعْدَ إِحْدَاثِ الطَّلَبِ، فَلَوْ كَانَ قَدْ رَأَى الْمَاءَ وَهُوَ فِي صَلَاةِ نَافِلَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُتَمِّمَ مَا نَوَى مِنْ عَدَدِهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى أَرْبَعًا بِسَلَامٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُكْمِلَهَا أَرْبَعًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَوَى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَ الْإِحْرَامِ نِيَّةٌ مِنَ الْعَدَدِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَرَّرَ لَهُ اخْتِلَافَ النَّوَافِلِ أَنْ تَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى، فَلَوْ أَنَّ مُتَيَمِّمًا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ يَنْوِي الْقَصْرَ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ، ثُمَّ نَوَى بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ إِتْمَامَ الصَّلَاةِ أَوِ الْمُقَامَ بِمَكَانِهِ أَرْبَعًا. قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: قَدْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ تَيَمُّمَهُ صَحَّ لِرَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَقَدْ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ أَرْبَعًا؛ فَكَانَتْ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مُبْطِلَةً لِصَلَاتِهِ، وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا يُتَمِّمُ صَلَاتَهُ، وَلَا تبطل؛ لأن تيممه صح لأدائها تامة ومقصورة والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا تَيَمَّمَ فَفَرَغَ مِنْ تَيَمُّمِهِ بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلى الماء، وإن دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ دخوله بنى على صلاته وأجزأته الصلاة (وقال المزني) وجود الماء عندي ينقض طهر التيمم في الصلاة وغيرها سواء كما أن ما نقض الطهر في الصلاة وغيرها سواء ولو كان الذي منع نقض طهره الصلاة لما ضره الحدث في الصلاة وقد أجمعوا والشافعي معهم أن رجلين لو توضأ أحدهما وتيمم الآخر في سفر لعدم الماء أنهما طاهران وأنهما قد أديا فرض الطهر فإن أحدث المتوضئ ووجد المتيمم الماء أنهما في نقض الطهر قبل الصلاة سواءٌ فلم لا كانا في نقض الطهر بعد الدخول فيها سواء؟ وما الفرق وقد قال في جماعة العلماء أن عدة من لم تحض الشهور فإن اعتدت بها إلا يوماً ثم حاضت أن الشهور تنتقض لوجود الحيض في بعض الطهر فكذلك(1/256)
التيمم ينتقض وإن كان في الصلاة وجود الماء كما ينتقض طهر المتوضئ وإن كان في الصلاة إذا كان الحدث وهذا عندي بقوله أولى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فَمَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ بِالتَّيَمُّمِ مُجْزِئٌ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِيهِ وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وابن سيرين وعطاء وطاووس وَمَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ بَاقِيًا اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ كَالنَّصِّ الَّذِي يَبْطُلُ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ مَعَهُ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سفرٍ وَحَضَرَتْهُمَا الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا ماءٌ فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ بَعْدُ فِي الْوَقْتِ فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ بوضوءٍ، وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ أَصَبْتَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ، وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ. وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي السَّفَرِ بِعَدَمِ الْمَاءِ عُذْرٌ مُعْتَادٌ فَإِذَا صَلَّى مَعَ وُجُودِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ بَعْدَ زَوَالِهِ لَهُ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ وُجُودِ النَّصِّ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ أَنَّنَا نَلْتَزِمُ مِنَ الْقَوْلِ بِمُوجِبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ النَّصُّ الْمُخَالِفُ مَوْجُودًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ كَانَ الِاجْتِهَادُ بَاطِلًا، وَالْحُكْمُ بِهِ مَنْقُوضًا، وَمِثَالُهُ فِي التَّيَمُّمِ: أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فِي رَحْلِهِ وَقْتَ التَّيَمُّمِ مَوْجُودًا، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَإِنْ كَانَ النَّصُّ حَادِثًا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، فَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَالْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ نَافِذٌ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِفَسْخٍ، وَهُوَ مِثَالُ مَسْأَلَتِنَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ نَافِذَةً.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجمع بالتيمم صلاتي فرضٍ بل يجدد لِكُلِّ فريضةٍ طَلَبًا لِلْمَاءِ وَتَيَمُّمًا بَعْدَ الطَّلَبِ الأول لقوله جل وعز: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} وقول ابن عباسٍ: " لا تصلى المكتوبة إلا بتيممٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ مَا شَاءَ مِنْ فَرْضٍ وَنَفْلٍ مَا لَمْ يُحْدِثْ كالوضوء، وقال(1/257)
أَبُو ثَوْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بِهِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُؤَقَّتَاتِ واستدلوا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي ذَرٍّ: " الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ إِلَى عَشْرِ سنينٍ " فَجَعَلَهُ طَهُورًا مُسْتَدَامًا، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا النَّفْلُ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدَّى بِهَا الْفَرْضُ كَالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُؤَدَّى بِالْوُضُوءِ جَازَ أَنْ يُؤَدَّى بِالتَّيَمُّمِ كَالنَّوَافِلِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ تَخْتَصَّ بِفَرْضٍ وَاحِدٍ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَعَادَ التَّيَمُّمَ لِكُلِّ فَرْضٍ لَلَزِمَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْحَدَثِ الْوَاحِدِ مِرَارًا، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأُصُولِ فِي الطَّهَارَاتِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إَلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) ، إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيَّباً) {المائدة: 6) فَكَانَ الظَّاهِرُ مُوجِبًا أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ تَيَمَّمَ لَهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّصُّ بِالْوُضُوءِ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ نَفَى حُكْمَ التَّيَمُّمِ عَلَى مُوجِبِ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ تَتَّسِعْ لِأَدَاءِ فَرْضَيْنِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ فِي وَقْتَيْنِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّهَا طَهَارَةُ رُخْصَةٍ وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ فَرِيضَةٍ لَمْ يُحْدِثْ لَهَا وُضُوءًا، فَوَجَبَ أَنْ يُحْدِثَ لَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ تَيَمُّمًا كَالْفَرْضِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ إِعَادَتُهُ فِي كُلِّ فَرِيضَةٍ كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ بَدَلٍ قَصُرَتْ عَنْ أَصْلِهَا فِعْلًا، فَوَجَبَ أَنْ يُقْصَرَ عَنْهُ وَقْتًا، كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: طَهَارَةٌ تَرْفَعُ الْحَدَثَ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ الْكَامِلُ، فَيُؤَدِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ.
وَطَهَارَةٌ تَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَهُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَيَقْصُرُ بِتَجْدِيدِ الْوَقْتِ عَنِ الْوُضُوءِ الْكَامِلِ.
وَطَهَارَةٌ لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْهَا حُكْمًا، وَأَنْ لَا يُؤَدَّى بِهَا إِلَّا فَرْضًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْأَخْذِ بِظَاهِرِهِ يُوجِبُ حَمْلَهُ عَلَى ابْتِدَاءِ التَّيَمُّمِ دُونَ اسْتِدَامَتِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوُضُوءِ فَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ لَمَّا كَانَ طَهَارَةَ رَفَاهِيَةٍ تَرْفَعُ الْحَدَثَ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا، والتيمم لما كان طهارة ضرورية لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ كَانَ حُكْمُهَا خَاصًّا، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى النَّوَافِلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:(1/258)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّوَافِلَ لَمَّا كَانَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ جَازَ أَنْ تُؤَدَّى بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ، وَلَمَّا لَمْ يكن الفرض تبعاً لفرض غيره لم يجزه أَنْ يُؤَدَّى فَرْضٌ بِتَيَمُّمِ فَرْضٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّوَافِلَ لَمَّا كَثُرَتْ وَتَرَادَفَتْ، وَكَانَتِ الْمَشَقَّةُ لَاحِقَةً فِي إِعَادَةِ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا سَقَطَ اعتباره سقوط إِعَادَةَ قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ عَنِ الْحَائِضِ، وَالْمَفْرُوضَاتُ لَمَّا انْحَصَرَتْ وَلَمْ تَشُقَّ إِعَادَةُ التَّيَمُّمِ لِكُلِّ فَرْضٍ مِنْهَا وَجَبَ اعْتِبَارُهُ، كَوُجُوبِ قَضَاءِ الصِّيَامِ عَلَى الْحَائِضِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ لَا يُتَطَهَّرُ لَهُ مِرَارًا فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ كَالْحَدَثِ فِي آخِرِ زَمَانِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَلْزَمُ إِعَادَةُ الطَّهَارَةِ لَهُ بَعْدَ تَقَضِّي زَمَانِ الْمَسْحِ وَوَاجِدُ الْمَاءِ فِي تَضَاعِيفِ الصَّلَاةِ إِذَا عَدِمَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا أَعَادَ التَّيَمُّمَ ثَانِيَةً لِحَدَثِهِ الْأَوَّلِ، عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمْ يَكُنْ طُهْرًا لِلْحَدَثِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ إِحْدَاثِ طُهْرٍ ثانٍ، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِفَرْضٍ ثانٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَدْ جَعَلْنَا الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَنَا دَلِيلًا ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْسِيمِ الطهارات لنا كافٍ.
(فصل)
: فإذا ثبت أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بِالتَّيَمُّمِ بَيْنَ فَرْضَيْنِ فَسَوَاءٌ كَانَ الْفَرْضَانِ فِي وَقْتٍ، أَوْ وَقْتَيْنِ وَهَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ طَوَافَيْنِ وَاجِبَيْنِ، وَلَا بَيْنَ طَوَافٍ وَصَلَاةِ فَرْضٍ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لَا يَعْرِفُهَا لَزِمَهُ فِعْلُ الْخَمْسِ كُلِّهِنَّ يَنْوِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ الْفَائِتَةَ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيهِنَّ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ، لِأَنَّ الْفَرْضَ مِنْ جُمْلَتِهِنَّ وَاحِدٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لَا يَجُوزُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَمْسِ صَلَاتَانِ لَا يَعْرِفُهُمَا صَلَّى الْخَمْسَ كُلَّهُنَّ يَنْوِي الْفَائِتَةَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَيَتَيَمَّمُ لِلْخَمْسِ كُلِّهِنَّ وَجْهًا وَاحِدًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَيَمُّمٍ وَاحِدٍ لِبَقَاءِ الْفَرْضِ الثَّانِي مَعَ جَهَالَةِ عَيْنِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَوَّلِ الْمَجْهُولِ قُرْبًا وَبُعْدًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ ثَانِيَةً لِلْفَرِيضَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الطَّلَبِ ثَانِيَةً، وَهَكَذَا فِي كُلِّ تَيَمُّمٍ يَلْزَمُهُ فَإِذَا أَعَادَ الطَّلَبَ لَزِمَهُ إِعَادَتُهُ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ فَأَمَّا الطَّلَبُ فِي رَحْلِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ ثَانِيَةً؛ لِأَنَّهُ عَلَى إِحَاطَةٍ مِنْ رَحْلِهِ، وَلَيْسَ عَلَى إِحَاطَتِهِ من في رحل غيره.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلِّي بَعْدَ الْفَرِيضَةِ النَّوَافِلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُهَا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، فَجَازَ أَدَاءُ جَمِيعِهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ،(1/259)
وَالْفَرَائِضُ لَا يَجُوزُ جَمْعُهَا بِسَلَامٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّ النَّوَافِلَ وَإِنْ كَثُرَتْ جَازَ أَنْ تُؤَدَّى بِتَيَمُّمِ الفرض جاز لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ فَأُخِّرَتْ فَأَمَّا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَلَى جَوَازِهِ كَمَا يَجُوزُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ أَدَاؤُهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ بِالطَّهَارَةِ الْوَاحِدَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَرْتِيبُهُ، لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَفَّلَ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ مِنْ شَرْطِ التَّيَمُّمِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِالْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ مَفْصَلٍ، وَتَقْدِيمُ النَّافِلَةِ فَصْلٌ قَاطِعٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النَّافِلَةَ تَبَعٌ لِلْفَرِيضَةِ، وَمِنْ حُكْمِ التَّبَعِ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنِ اعْتِلَالِهِ مَدْخُولٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فِي كَوْنِهِ فَصْلًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ مَسْنُونُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فَكَانَ فِعْلُهُ بَعْدَ التَّيَمُّمِ جَائِزًا كَالْأَذَانِ وَإِنَّمَا يَكُونُ قَطْعًا إِذَا طَالَ التَّنَفُّلُ بَعْدَ مَسْنُونَاتِهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِيهِ، وَأَمَّا الثَّانِي: بِأَنَّهَا تَبَعٌ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ بِأَنْ يَكُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّوَافِلِ تَبَعًا لِلْفَرْضِ الْمُتَأَخِّرِ كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي تَقْدِيمِهِمَا عَلَى الصُّبْحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وعلى الجنائز وَيَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ وَيَسْجُدُ سُجُودَ الْقُرْآنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أنه يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُهَا أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَرْضُهَا لِوُجُودِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُصَلِّي عَلَيْهَا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ لَهَا كَالنَّوَافِلِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضُهَا لِعَدَمِ غَيْرِهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ لَهَا تَيَمُّمًا لِكَوْنِهَا فَرْضًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهَا أَنَّ فَرْضَهَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَكَانَ حُكْمُ النَّادِرِ مُلْحَقًا بِالْأَغْلَبِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتَيْنِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يُصَلِّي عَلَيْهِمَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا سُجُودُ الشُّكْرِ وَالسَّهْوِ وَالْقُرْآنِ وَحَمْلُ الْمُصْحَفِ فَكُلُّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ إِذْ ليس بشيء مِنْهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُهُ فَإِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ نَذْرٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ لَهَا تَيَمُّمًا، لأنها فرض(1/260)
عَلَيْهِ مُعَيَّنٌ فِي الِابْتِدَاءِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ فَرْضَهَا الْخَتْمُ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَأَنَّهَا قَدْ تَكْثُرُ وَلَيْسَتْ كَالْفَرَائِضِ الْمَحْصُورَةِ، وَأَمَّا رَكْعَتَا الطَّوَافِ فَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا بِتَيَمُّمِ الطَّوَافِ سَوَاءٌ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلطَّوَافِ وَجَبَتْ أَوِ اسْتُحِبَّتْ وَلَكِنْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمِ فريضة صلاتها، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا سُنَّةٌ جَازَ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ النذر؛ لأن وجوبها راتب بأصل الشرع.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن تيمم بزرنيخٍ أو نورةٍ أو ذراوةٍ ونحوه لم يجزه ".
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ التُّرَابِ وَذَكَرْنَا خِلَافَ أبي حنيفة وَاسْتَوْفَيْنَا الْحِجَاجَ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَإِنْ تَيَمَّمَ بِمَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ التُّرَابِ مِنْ نُورَةٍ أَوْ كُحْلٍ أَوْ زِرْنِيخٍ أَوْ مِلْحٍ أَوْ رَمَادٍ أَوْ دَقِيقٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَكَانَ تَيَمُّمُهُ بَاطِلًا، فَإِنْ صَلَّى أَعَادَ التَّيَمُّمَ وَالصَّلَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/261)
(باب جامع التيمم والعذر فيه)
(قال الشافعي) : " وَلَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وقت الصلاة وإعواز الماء بعد طلبه وللمسافر أن يتيمم ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْبَابِ بَيَانُ شُرُوطِ التَّيَمُّمِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِلَّا مَعَهَا فَالْبَابُ الْأَوَّلُ بَيَانُ فَرْضِ التَّيَمُّمِ الَّتِي لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهَا. فَأَمَّا شُرُوطُ التَّيَمُّمِ فَقَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَالَيْنِ هُمَا: السَّفَرُ وَالْمَرَضُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فَأَمَّا السَّفَرُ فَلِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ فِيهِ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا.
وَالثَّانِي: عَدَمُ الْمَاءِ بَعْدَ طَلَبِهِ.
فَأَمَّا دُخُولُ الْوَقْتِ فَهُوَ شَرْطٌ فِي التَّيَمُّمِ لِصَلَاةِ الْوَقْتِ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ الْفَائِتَةُ وَالنَّافِلَةُ فَلَيْسَ الْوَقْتُ شَرْطًا فِي التَّيَمُّمِ لَهَا، وَإِنَّمَا إِرَادَةُ فِعْلِهَا شَرْطٌ فِي التَّيَمُّمِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لفرض مؤقت يؤديه لم يجز أن يتيمم في وقته قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَإِنْ تَيَمَّمَ أَعَادَ، وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (المائدة: 6) فَأَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ الذي هو مأمور باستعمال الماء فيه، فما كَانَ مُسْتَعْمَلًا قَبْلَ الْوَقْتِ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ وَرُبَّمَا حَرَّرُوا هَذَا الِاسْتِدْلَالَ مِنَ الْآيَةِ قِيَاسًا فَقَالُوا: كُلُّ وَقْتٍ جَازَ فِيهِ الْوُضُوءُ جَازَ فِيهِ التَّيَمُّمَ قِيَاسًا عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ يَجُوزُ فِعْلُهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَجَازَ فِعْلُهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَالْوُضُوءِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا صَحَّ مِنَ التَّيَمُّمِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ صَحَّ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ كالمتيمم لفائتة وَالنَّفْلِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ الْمَنْعَ مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ إِلَّا عند القيام(1/262)
إِلَى الصَّلَاةِ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَمَّا خَرَجَ بِالدَّلِيلِ جَوَازُ الْوُضُوءِ، قَبْلَ الْوَقْتِ بَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا لِلْفَرِيضَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ قِيَاسًا عَلَى طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ فِي حَالِ اسْتِغْنَائِهِ عَنِ التَّيَمُّمِ، فَلَمْ يَجُزْ كالتيمم مع وجود الماء ثم انقلب، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ لَمْ يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ لَمْ يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِهِ قَبْلَ لُزُومِ الْأَصْلِ قِيَاسًا عَلَى التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ قَبْلَ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ فِي حَالَيْنِ فِي الْمَرَضِ وَالْعُذْرِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ التَّيَمُّمِ قَبْلَ زَمَانِ الْمَرَضِ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ قَبْلَ زَمَانِ الْعُذْرِ، وَتَحْرِيرُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا مَضَى مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا بَعْدَ الوقت فالمعنى فيه أنه تيمم عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوُضُوءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى النَّوَافِلِ فَالْمَعْنَى فِيهِ جَوَازُ فِعْلِهَا عَقِيبَ التَّيَمُّمِ لَهَا.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ طَلَبُ الْمَاءِ فَهُوَ لَازِمٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: الطَّلَبُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِذَا فَقَدَ الْمَاءَ جَازَ التَّيَمُّمُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَعَلَّقَ وُجُوبُهَا بِوُجُودِ شَرْطٍ لَمْ يَلْزَمْ طَلَبُ ذَلِكَ الشَّرْطِ كَالْمَالِ لَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ الْمَاءُ لَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهُ لِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ عَنْ عَدَمٍ فَصَحَّ تَيَمُّمُهُ كَالْعَادِمِ بَعْدَ الطَّلَبِ. وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) {المائدة: 6) فَأَبَاحَ التَّيَمُّمَ بَعْدَ الْوُجُودِ، وَالْوُجُودُ هُوَ الطَّلَبُ؛ لِأَنَّ اللِّسَانَ يَقْتَضِيهِ وَعُرْفُ الْخِطَابِ يُوجِبُهُ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِهِ اشْتَرِ لَحْمًا فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَشَحْمًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّحْمَ قَبْلَ طَلَبِ اللَّحْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ الْوُجُودُ بِطَلَبٍ، وَغَيْرِ طَلَبٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً) {الكهف: 49) . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ قَبْلَ الْوُجُودِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَلَبٍ، وَمَسْأَلَةُ التَّيَمُّمِ إِنَّمَا هِيَ فِي عَدَمِ الْوُجُودِ، لَا فِي الْوُجُودِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " أَنْفَذَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي طَلَبِ الْمَاءِ ثُمَّ تَيَمَّمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَبَ شَرْطٌ(1/263)
فِي التَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَوْ تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ فِيهِ، مَنْعُ التَّيَمُّمِ وَجَبَ إِذَا جَوَّزَ وُجُودَ الْمَاءِ فِيهِ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ التَّيَمُّمُ قِيَاسًا عَلَى رَحْلِهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَلٍ لَا يَصِحُّ الْإِتْيَانُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ الْعَجْزِ عَنْ مُبْدَلِهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِتْيَانُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ مُبْدَلِهِ كَالصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِ الرَّقَبَةِ، وَلِأَنَّهُ تَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ فوجب أن لا يصح تيممه.
أصله: إِذَا عَلِمَ أَنَّ بِئْرًا بِقَرْيَةٍ وَشَكَّ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى مَائِهَا بِرِشَائِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا بَعْدَ إِرْسَالِ رِشَائِهِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ من شرائط الصلاة فلم تجز مُفَارَقَتُهُ إِلَّا بَعْدَ طَلَبِهِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ فِي مِثْلِهِ، أَصْلُهُ جِهَةُ الْقِبْلَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبُ العادات لَا يَلْزَمُ طَلَبُهَا فَهُوَ إِنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الْعِبَادَةِ لَمْ يَلْزَمْ طَلَبُهُ كَالْمَالِ فِي الْحَجِّ، وَمَا كَانَ شَرْطًا فِي(1/264)
الِانْتِقَالِ عَنِ الْعِبَادَةِ لَزِمَ طَلَبُهُ كَالرَّقَبَةِ وَعَدَمُ الْمَاءِ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ، فَلَزِمَ فِيهِ الطَّلَبُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْعِبَادَةِ بَعْدَ الطَّلَبِ، فَمَمْنُوعٌ مِنْهُ لِافْتِرَاقِ حَالِ مَنْ تَيَقَّنَ الْعَجْزَ وَمَنْ لَمْ يَتَيَقَّنْهُ كَمَا لَا يَسْتَوِي حَالُ مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَبَيْنَ مَنْ عَجَزَ عَنْهَا بَعْدَ الطَّلَبِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الطَّلَبِ، فَالطَّلَبُ طَلَبَانِ: طَلَبُ إِحَاطَةٍ، وَطَلَبُ اسْتِخْبَارٍ، فَأَمَّا طَلَبُ الْإِحَاطَةِ فَمُسْتَحَقٌّ فِي رَحْلِهِ وَمِمَّا تَحْتَ يَدِهِ فَيَلْتَمِسُ فِيهِ الْمَاءَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، إِمَّا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ، وَأَمَّا طَلَبُ الِاسْتِخْبَارِ فَمُعْتَبَرٌ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ مِنْ مَنَازِلِ سَفَرِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ فِي غَيْرِ الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى نُزُولِهِ فَيَسْتَخْبِرُ مَنْ فِيهِ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِ أَهْلِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ عَنِ الْمَاءِ مَعَهُمْ، أَوْ فِي مَنْزِلِهِمْ فَمَنِ اسْتَخْبَرَ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْمَنْزِلِ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى خَبَرِهِ إِلَّا أَنْ يَثِقَ بِصِدْقِهِ، وَمَنِ اسْتَخْبَرَهُ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي بِيَدِهِ عَمِلَ عَلَى خَبَرِهِ صَادِقًا كَانَ أَوْ كَاذِبًا، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَالْمَانِعِ مِنْهُ، فَإِنْ وَهَبَ لَهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْمَاءَ لَزِمَهُ قَبُولُهُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الطَّلَبِ لِاسْتِحْقَاقِ الْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَالِ لزمه فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، فَإِنْ بَقِيَ فِي الْمَنْزِلِ نَاحِيَةٌ يَرْجُو الْمَاءَ فِيهَا بِنَفْسِهِ رَاعَاهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا بِخِلَافِ رَحْلِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى النُّزُولِ فِيهِ فَإِذَا تَحَقَّقَ عَدَمَ الْمَاءِ إِحَاطَةً وَاسْتِخْبَارًا تَيَمَّمَ، فَلَوْ رَأَى بَعْدَ طَلَبِهِ وَتَيَمُّمِهِ سَوَادًا أَوْ رَاكِبًا لَزِمَهُ طَلَبُ الْمَاءِ مِنْهُ، فَإِنْ وَجَدَهُ اسْتَعْمَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ أَعَادَ التَّيَمُّمَ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الرَّاكِبِ صَارَ مُتَيَمِّمًا قَبْلَ كَمَالِ الطَّلَبِ، ثُمَّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ تَيَمُّمٍ أَنْ يُعِيدَ طَلَبَ الْمَاءِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ طَلَبِهِ فِي رَحْلِهِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ يَقِينٌ وَوُجُودُهُ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ مُجَوَّزٌ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ الطَّلَبِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ التَّيَمُّمِ، فَإِنْ طَلَبَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَتَيَمَّمَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ، وَهَكَذَا لَوْ تَيَمَّمَ أَوْ طَلَبَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ تَيَقَّنَ بَعْدَ شَكِّهِ أَنَّ طَلَبَهُ وَتَيَمُّمَهُ صَادَفَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَيَمَّمَ كَانَ شَاكًّا فِي جَوَازِ تَيَمُّمِهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ فَطَلَبَ وَتَيَمَّمَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ عَقِيبَ تَيَمُّمِهِ أَوْ يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهَا مَا لَمْ يَفُتِ الْوَقْتُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ يلزمه تعجيل(1/265)
الصَّلَاةِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ إِلَّا بِقَدْرِ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ وَالتَّنَفُّلِ بِمَا هُوَ مِنْ مَسْنُونَاتِ فَرِيضَتِهِ، فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ ذَلِكَ مَتَى تَرَاخَى بِهِ الزَّمَانُ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ تَيَمُّمِهِ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَكَانَتْ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ يَلْزَمُهَا تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ عَقِيبَ طَهَارَتِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا وَلَا يَلْزَمُ تَعْجِيلُهَا بِخِلَافِ طهارته الْمُسْتَحَاضَةِ؛ لِأَنَّ حَدَثَ الْمُسْتَحَاضَةِ يَتَوَالَى عَقِيبَ الطَّهَارَةِ فَبَطَلَتْ طَهَارَتُهَا بِالتَّأْخِيرِ، وَلَيْسَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ حَدَثٌ فَمُنِعَ مِنَ التَّأْخِيرِ.
(فَصْلٌ)
: وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى تَيَمُّمٍ ثانٍ، وَالتَّيَمُّمُ الثَّانِي يَفْتَقِرُ إِلَى طلبٍ ثانٍ، وَالطَّلَبُ يَقْطَعُ الْجَمْعَ؛ لِأَنَّ من شرطه الموالاة والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ سفرٍ طَالَ أو قصر واحتج في ذلك بظاهر القرآن وبأثر ابن عمر ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ مِنْ حَالَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ، فَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ، وَصَلَاتُهُ بِهِ مُجْزِئَةٌ وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ، وَقَدْ حَكَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ بَلْ هُوَ مَنْصُوصٌ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَلَعَلَّ حِكَايَةَ الْبُوَيْطِيِّ إِنْ صَحَّتْ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ فِي كُلِّ سَفَرٍ طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَتَيَمَّمُ بموضعٍ يُقَالُ لَهُ مَرْبِضُ النَّعَمِ، وَهُوَ يَرَى بُيُوتَ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ قَدْ يُوجَدُ فِي قَصِيرِ السَّفَرِ كَمَا يُوجَدُ فِي طَوِيلِهِ، فَاقْتَضَى جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِأَجْلِهِ فِي الْحَالَيْنِ.
وَجُمْلَةُ الرُّخَصِ الْمُخْتَصَّةِ بِالسَّفَرِ سِتَّةٌ تَنْقَسِمُ على ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ مِنْهَا لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي سَفَرٍ مَحْدُودٍ قَدْرَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْقَصْرُ، وَالْفِطْرُ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثًا.
وَقِسْمٌ يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ وَهُوَ شَيْئَانِ التَّيَمُّمُ وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ.(1/266)
وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا في سفر كَالْفِطْرِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ فِي طَوِيلِ السَّفَرِ وقصيره كالنافلة على الراحلة.
(فصل)
: فإذا ثبت أَنْ لَا فَرْقَ فِي التَّيَمُّمِ بَيْنَ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، فَالسَّفَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: وَاجِبٌ، وَمُبَاحٌ، وَمَعْصِيَةٌ؛ فَأَمَّا الْوَاجِبُ فَكَسَفَرِ الْحَجِّ، وَأَمَّا المباح فكسفر التجارة، التيمم فهو جَائِزٌ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي الْحَالَيْنِ صَحِيحٌ، وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَكَسَفَرِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَإِذَا عُدِمَ فِيهِ الْمَاءُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى، وَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الْعَاصِيَ لَا يُتَرَخَّصُ كَمَا لَا يَقْصُرُ، وَلَا يُفْطِرُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي السَّفَرِ فَرْضٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَلَيْسَ كَالرُّخْصَةِ بِالْقَصْرِ وَالْفِطْرِ الَّذِي هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ.
وَالْعَاصِي يَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ مَعَ مَعْصِيَتِهِ، وَأَمَّا الْعَادِمُ لِلْمَاءِ فِي الْحَضَرِ كَالْقَرْيَةِ التي ماؤها من بئر تغور أو عين تغيض أَوْ نَهْرٍ يَنْقَطِعُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي الْحَضَرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ ثُمَّ يُعِيدُ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ وَلَا يُصَلِّي فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ اسْتَعْمَلَهُ وَصَلَّى، وَهَذِهِ رِوَايَةُ زُفَرَ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ مِثْلَ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا بِالتَّيَمُّمِ كَالْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ إِذَا لَزِمَتْ فِي السَّفَرِ سَقَطَ بِهَا الْفَرْضُ فَوَجَبَ إِذَا لَزِمَتْ فِي الْحَضَرِ أَنْ يَسْقُطَ بِهَا الْفَرْضُ كَالْوُضُوءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فَجَعَلَ لِلتَّيَمُّمِ شَرْطَيْنِ: هُمَا السَّفَرُ وَالْمَرَضُ، فَلَمْ يُسْقِطِ الْفَرْضَ إِلَّا بِهِمَا لِيَكُونَ لِلشَّرْطِ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ شَرْطٌ أُبِيحَ التَّيَمُّمُ لِأَجْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْفَرْضُ بِعَقْدِهِ كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ صَحِيحٌ، فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُهُ بِالتَّيَمُّمِ كَالْوَاجِدِ لِلْمَاءِ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ عُذْرٌ نَادِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَوْطَانَ لَا تُبْنَى عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، وَعَدَمُهُ فِي السَّفَرِ عُذْرٌ عَامٌّ وَالْأَعْذَارُ الْعَامَّةُ إِذَا سَقَطَ الْفَرْضُ بِهَا لَمْ تُوجِبْ سُقُوطَ الْفَرْضِ بِالنَّادِرِ مِنْهَا كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْمُسَافِرِ فَالْمَعْنَى فِي السَّفَرِ أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي عُذْرٍ عَامٌّ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوُضُوءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ ارْتِفَاعُ الضَّرُورَةِ عَنْهُ.(1/267)
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُم مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) . وَهَذَا لَيْسَ بِمَرِيضٍ وَلَا مُسَافِرٍ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ تَيَمُّمٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ كَالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ النَّجَسِ، وَلِأَنَّهُ مُقِيمٌ سَلِيمٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ التَّيَمُّمُ كَالْوَاجِدِ لِلْمَاءِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا تُؤَدَّى فَرْضًا، فَلَمْ يَلْزَمْ فِعْلُهَا كَصَلَاةِ الْحَائِضِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) {المائدة: 6) وَهَذَا غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ، وَلِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَبَا ذَرٍّ أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالرَّبَذَةِ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ وَكَانَتْ وَطَنًا، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ إِدْرَاكَ الْوَقْتِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَالْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَوْ حَدَثَ فِي السَّفَرِ أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ فَإِذَا حَدَثَ فِي الْحَضَرِ أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ كَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَجْزٍ لَوْ حَصَلَ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ لَمْ يَسْقُطْ فِعْلُهَا فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ فِعْلُهَا فِي الْحَضَرِ، كَالْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ وَالثَّوْبِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ عَجَزَ عَنْ فِعْلِهَا بِالْمَاءِ فَجَازَ لَهُ فِعْلُهَا بِالتُّرَابِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدَيْنِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سفر " فَإِنَّمَا جُعِلَ السَّفَرُ شَرْطًا فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ لَا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التُّرَابِ النَّجَسِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي التُّرَابِ النَّجَسِ أَنَّهُ لَمَّا يَلْزَمِ اسْتِعْمَالُهُ فِي السَّفَرِ لَهُ يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَضَرِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ أَعْلَى الطَّهَارَتَيْنِ سَقَطَ عَنْهُ أدناهما، وليس كذلك العادم.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْحَائِضِ فَهُوَ أَنَّ الْحَائِضَ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهَا فَرْضٌ لَمْ يَلْزَمْهَا النَّفْلُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَادِمُ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ جَمِيعُ التَّكْلِيفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَصْبَحَ لَا يَرَى أَنَّ يَوْمَهُ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَصُومُ وَيَقْضِي وَلَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ مَضَى فِيهِ وَقَضَاهُ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْعَادِمُ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ مَعًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَيُعِيدَ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا، فَيَكُونُ فِعْلُهَا فِي الْحَالِ وَاجِبًا وَإِعَادَتُهَا وَاجِبَةً، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ: يُصَلِّي فِي الْحَالِ اسْتِحْبَابًا وَيُعِيدُهَا وَاجِبًا، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يلزمه أن يصلي ولا يُسْتَحَبَّ لَهُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الطَّهَارَةِ فَيَتَطَهَّرَ وَيُصَلِّيَ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ " فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ افْتِتَاحُهَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ قَالَ: وَلِأَنَّ عَدَمَ الطَّهَارَةِ أَصْلًا وَبَدَلًا يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الصَّلَاةِ كَالْحَائِضِ: قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ بِفِعْلِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِتْيَانُ بِهَا كَالْمُحْدِثِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةِ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) {الإسراء: 78) وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالصَّلَاةِ عَدِمَ شَرْطًا مِنْ شَرَائِطِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ فِعْلُهَا كَالْعُرْيَانِ،(1/268)
وَلِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ لَزِمَهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ عَجَزَ عَنْ إِزَالَتِهَا بِالْمَاءِ، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ لِفَقْدِ الْمَاءِ، وَبَيْنَ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ تَطْهِيرِ الْحَدَثِ بِالتُّرَابِ وَالْمَاءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَتَيْنِ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا شَرْطًا فِي أَدَاءِ الْأُخْرَى عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهَا لَمْ يَكُنِ الْعَجْزُ عَنِ الشَّرْطِ مُسْقِطًا فَرْضَ الْمَشْرُوطِ لَهَا كَالتَّوَجُّهِ وَالْقِرَاءَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الْوُضُوءُ " فَهُوَ أَنَّ لَفْظَهُ وَإِنْ جَرَى مَجْرَى الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ مَضَى الْأَمْرُ وَالْأَوَامِرُ تَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُطِيقِ لَهَا، فَصَارَ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْمُرَادِ بِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْحَائِضِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا: أَنَّهَا لَمَّا لَمْ يَلْزَمْهَا فَرْضٌ لَمْ يَلْزَمْهَا فِعْلُهَا، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ الْمُحْدِثُ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْوَاجِدِ لِلْمَاءِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهَا بِالطَّهَارَةِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنْهَا.
(فَصْلٌ)
: إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ مُقَامَ أَرْبَعٍ ثُمَّ عَدِمَ الْمَاءَ فِي مَقَامِهِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ وَقْتُ عَدَمِهِ فِي وطنٍ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ كَمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ فِي مِصْرٍ؛ لِأَنَّ الْأَوْطَانَ لَا تُبْنَى إِلَّا عَلَى مَاءٍ وَإِنْ كَانَ وَقْتُ عَدَمِهِ فِي غَيْرِ وطن، فلا إعادة عليه والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَلَا يَتَيَمَّمُ مريضٌ فِي شِتَاءٍ وَلَا صيفٍ إلا من به قرحٌ له غوراً وبه ضنىً من مرض يخاف أن يمسه الْمَاءُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ التَّلَفُ، أَوْ يَكُونَ مِنْهُ الْمَرَضُ الْمُخَوِّفُ لَا لِشَيْنٍ وَلَا لِإِبْطَاءِ برءٍ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: يَتَيَمَّمُ إِذَا خَافَ إِنْ مَسَّهُ الْمَاءُ شِدَّةَ الضَّنَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْمَرَضُ هُوَ الْحَالُ الثَّانِيَةُ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى التَّيَمُّمَ فِيهَا، وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْمَرَضِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْمَرَضِ إِلَّا مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) إِلَى قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ شَرْطًا فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ كَذَلِكَ فِي الْمَرَضِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - وَاسْمُهُ أَسْعَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ رَجُلًا فِي سريةٍ فَأَصَابَهُ(1/269)
كلمٌ وَأَصَابَتْهُ جنابةٌ فَصَلَّى وَلَمْ يَغْتَسِلْ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَعَابَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذُكِرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَجَاءَ فَأَخْبَرَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَرْضُ يَتَغَيَّرُ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ التَّلَفِ كَالْمُسَافِرِ، وَيُفْطِرُ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ، وَالْمَرِيضِ يُفْطِرُ، وَتَرْكِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فَلَأَنْ يَتَغَيَّرَ الْفَرْضُ لِخَوْفِ التَّلَفِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوْلَى.
(فَصْلٌ: أَقْسَامُ الْمَرَضِ)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ التَّيَمُّمِ فِي الْمَرَضِ مَعَ وجود الماء فالمرض على أربعة أقسام:
- القسم الأول - أن لا يكون يُسْتَضَرُّ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ كَالْيَسِيرِ مِنَ الْحُمَّى. ووجع الضرس أو نفور الطِّحَالِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ التَّيَمُّمَ فِي حَالَتَيْنِ مِنْ مَرَضٍ وَسَفَرٍ، فَلَمَّا جَازَ فِي قَلِيلِ السَّفَرِ وَكَثِيرِهِ، جَازَ فِي قَلِيلِ الْمَرَضِ وَكَثِيرِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ وَالْأَذَى وَخَوْفِ التَّلَفِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِذَا أَمِنَ مِنَ الْخَوْفِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ارْتَفَعَتِ الْإِبَاحَةُ، وَعَادَ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ لَا يَسْتَضِرُّ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالصَّحِيحِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِطْلَاقِ الْآيَةِ فَهُوَ إِضْمَارُ الْفُرُوقِ فِيهَا، وَإِضْمَارُ الضَّرُورَةِ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ الِاسْتِضْرَارِ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السَّفَرِ فَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَّا أَنَّ الضَّرُورَةَ فِي السَّفَرِ عَدَمُ الْمَاءِ، فَاسْتَوَى حُكْمُ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ فِي الْمَرَضِ حُدُوثُ الْأَذَى وَالِاسْتِضْرَارِ بِالْمَاءِ فَافْتَرَقَ حُكْمُ قليله وكثيرة.
(فصل)
: [القسم الثاني] : وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ التَّلَفَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ سَوَاءً كَانَ قُرُوحًا أَوْ جِرَاحًا أَوْ كَانَ غَيْرَ قُرُوحٍ وَلَا جِرَاحٍ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِلَّا مِنَ الْقُرُوحِ وَالْجِرَاحِ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنْ شِدَّةِ الضَّنَا فَلَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى) {المائدة: 6) وَلِأَنَّهُ مَرِيضٌ يَخَافُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ التَّلَفَ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالْمَجْرُوحِ وَالْمَقْرُوحِ، فَإِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إذا صح وبرأ كالعادم سواء.(1/270)
(فصل)
: [القسم الثالث] وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ شِدَّةَ الْأَلَمِ وَتَطَاوُلَ الْبُرْءِ وَيَأْمَنَ التَّلَفَ، فَفِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْبُوَيْطِيُّ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) {المائدة 6) وَلِأَنَّهُ مَرِيضٌ يَسْتَضِرُّ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالَّذِي يَخَافُ التَّلَفَ، وَلِأَنَّ رُخَصَ الْمَرَضِ تُسْتَبَاحُ بِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ لَا لُحُوقِ التَّلَفِ، كَالْمَرِيضِ يُفْطِرُ وَيَتْرُكُ الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ، فَكَذَلِكَ التيمم، ولأنه لما جاز للمسافر أَنْ يَتَيَمَّمَ إِذَا بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لِمَا يُقَابِلُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي مَالِهِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي نَفْسِهِ أَوْلَى.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: نَصَّ عَلَيْهِ هَا هُنَا وَفِي الْأُمِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمَاءِ لَا يَخَافُ التَّلَفَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَالَّذِي بِهِ صُدَاعٌ أَوْ حُمَّى، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنَى أَنْ يُسْتَبَاحَ بِهِ التَّيَمُّمُ، فَهُوَ مَشْرُوطٌ لِخَوْفِ التَّلَفِ كَالْعَطَشِ وَالْمَرَضِ، سَوَاءً فَكَانَ أَصَحَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا خَافَ الْعَطْشَانُ مِنِ اسْتِعْمَالِ مَا مَعَهُ مِنَ الْمَاءِ شِدَّةَ الضَّرَرِ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَمَا لَوْ خَافَ التَّلَفَ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَصَحُّ.
(فصل)
: [القسم الرابع] وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ مِنَ الْمَرَضِ أَنْ يَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَيَنْدُرُ الشَّيْنُ وَالشَّلَلُ وَيَأْمَنُ التَّلَفَ وَشِدَّةَ الْأَلَمِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخَرِّجُ جَوَازَ التَّيَمُّمِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَالْقِسْمِ الثَّالِثِ سَوَاءً، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَبُو سَعِيدٍ يَقُولَانِ يَتَيَمَّمُ قَوْلًا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَا مَضَى، لِأَنَّ ضَرَرَ هَذَا مُتَأَبِّدٌ وَضَرَرَ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَأَبِّدٍ، وَكَانَ أَبُو الْفَيَّاضِ يَقُولُ يَتَيَمَّمُ فِي الشَّلَلِ وَلَا يَتَيَمَّمُ فِي الشَّيْنِ؛ لأن في الشلل إبطال للعضو، وفي الشين قبحه، فكان الشين ضرراً ولم يكن الشلل ضرراً.
(فصل: التيمم في شدة البرد)
فَأَمَّا إِذَا خَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ التَّلَفَ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ لَا لِلْمَرَضِ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِسْخَانِ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ بَعْدَ إِسْخَانِ الْمَاءِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) {الحج: 78) . وَلِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي ليلةٍ باردةٍ وأنا في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إذ(1/271)
اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جنبٌ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) {النساء: 29) فَضَحِكَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَمْ يَقُلْ فِيَّ شَيْئًا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّيَمُّمِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي حَضَرٍ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ إِسْخَانِ الْمَاءِ فِي الْحَضَرِ نَادِرٌ، وَإِنْ كَانَ فِي سَفَرٍ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ، وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا، وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: إِنْ كَانَ مُقِيمًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَإِذَا قِيلَ: بِسُقُوطِ الْإِعَادَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُسَافِرِ وَمَذْهَبُ أبي حنيفة فِي الْمُسَافِرِ وَالْحَاضِرِ فَوَجْهُ مَا حَكَيْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَوْ وَجَبَتْ لَأَبَانَهَا مَعَ حَاجَةِ عَمْرٍو إِلَى مَعْرِفَتِهَا، وَلِأَنَّ مَنْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْمَاءِ بِالتَّيَمُّمِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ بِالتَّيَمُّمِ كَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ، وَالْعَادِمِ الْمُسَافِرِ.
فَإِذَا قِيلَ: بِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ فِي الْحَاضِرِ، وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُسَافِرِ فَوَجْهُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) {المائدة: 6) وَهَذَا لَيْسَ بِمَرِيضٍ وَلَا مُسَافِرٍ عَادِمٍ، وَلِأَنَّ الْأَعْذَارَ النَّادِرَةَ لَا تَسْقُطُ مَعَهَا الْإِعَادَةُ كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالْأَعْذَارُ الْعَامَّةُ يَسْقُطُ مَعَهَا الْإِعَادَةُ كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ فِي السَّفَرِ وَكَالْمَرِيضِ فِي الْحَضَرِ، وَتَعَذُّرُ إِسْخَانِ الْمَاءِ فِي الْبَرْدِ وَالْخَوْفِ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ عن الْأَعْذَارِ النَّادِرَةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَعَهُ الْإِعَادَةُ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرٍو فَإِنْكَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ ثُمَّ وَكَّلَهُ فِي تَصْرِيحِ الْأَمْرِ بِهِ عَلَى مَا عَلِمَ من علمه، إذ قد استدل على مااستباحه مِنَ التَّيَمُّمِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ وَالْمَرَضُ وَالسَّفَرُ مِنَ الْأَعْذَارِ الْعَامَّةِ.
(مَسْأَلَةٌ: حُكْمُ تَيَمُّمِ من ببعض جسده قرح أو جرح)
قال الشافعي: " وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ دُونَ بَعْضٍ غسل ما لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ وَتَيَمَّمَ لَا يُجْزِئُهُ أَحَدُهُمَا دون الآخر ".(1/272)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي رَجُلٍ بَعْضُ جَسَدِهِ جَرِيحٌ أَوْ قَرِيحٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا صَحَّ مِنْ جَسَدِهِ وَيَتَيَمَّمُ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنَ الْجَرِيحِ وَالْقَرِيحِ، هَذَا مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَالَ فِيمَنْ وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ جَسَدِهِ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ.
وَالثَّانِي: يَقْتَصِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ وَحْدَهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صَاحِبِ الْقُرُوحِ فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة يخرجانها على قولين مضيا، كَالْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْعَاجِزِ عَنْ بَعْضِ طَهَارَتِهِ لِعَدَمٍ وَبَيْنَ الْعَاجِزِ عَنْ طَهَارَتِهِ لِمَرَضٍ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ صَاحِبَ الْقُرُوحِ يَلْزَمُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ قَوْلَانِ:
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَجْزَ إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْمُسْتَعْمَلِ سَقَطَ حُكْمُ الْمَوْجُودِ مِنْهُ كَالْوَاجِدِ بَعْضَ الرَّقَبَةِ لَا يَلْزَمُهُ عِتْقُهَا، وَكَذَلِكَ الْوَاجِدُ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ، وَالْعَجْزُ إِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْفَاعِلِ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْمَعْذُورِ مِنْهُ كَالْمُكَفِّرِ بِنِصْفِ الْحُرِّ إِذَا كَانَ مُوسِرًا بِالرَّقَبَةِ لَزِمَهُ عِتْقُهَا وَلَا يَكُونُ عَجْزُهُ بِنِصْفِهِ الْمَرْقُوقِ مُسْقِطًا لِحُكْمِ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ بِنِصْفِهِ الْحُرِّ، كَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي بَعْضِ جَسَدِهِ لَا يَسْقُطُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ جَسَدِهِ وَكَذَا الْمُحْدِثُ فِي أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ قَرِيحًا تَيَمَّمَ وَلَمْ يَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ صَحِيحًا غَسَلَ الصَّحِيحَ، وَلَمْ يَتَيَمَّمْ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَغْلَبَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ في الحكم وما ليس بغالب تبع، قَالَ: وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ لَا يَجِبُ كَالصَّوْمِ وَالرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " خَرَجْنَا فِي سفرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا فِإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ". وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي(1/273)
الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَى مَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ، قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا كَانَ عَادِمًا لِبَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَلِأَنَّ تَطْهِيرَ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِالْمَاءِ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الطُّهْرِ عَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَمْ يُعْفَ فِيهَا إِلَّا عَنْ قَدْرِ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلٌ، والكلام فيه مع أبو حنيفة أَوْضَحُ وَهُوَ الْوَاجِدُ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ مَعَهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالْأَغْلَبِ، فَهُوَ أَنَّهُ أَصْلٌ لا يعتبر في الطهارت، أَلَا تَرَى لَوْ غَسَلَ أَكْثَرَ جَسَدِهِ مِنْ جنابة أو أكثر أعضاء وضوءه مِنْ حَدَثِهِ لَمْ يُجْزِهِ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ، فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، فَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلُ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ فَلَمْ يَجُزْ جَمْعًا فِي مَحَلٍّ بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
(فَصْلٌ: كَيْفِيَّةُ تَيَمُّمِ مَنْ بِبَعْضِ جَسَدِهِ قُرْحٌ)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَوَّلًا فِيمَا صَحَّ مِنْ بَدَنِهِ إِنْ كَانَ جُنُبًا أَوْ فِيمَا صَحَّ مِنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا ثُمَّ يَتَيَمَّمُ فِي وَجْهِهِ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنَ الْقَرِيحِ فِي أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ، فَلَوْ كَانَ الْقَرِيحُ مِنْ أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ وَكَانَ يَخَافُ أَنْ يُوصِلَ التُّرَابَ إِلَى أَفْوَاهِ قُرُوحِهِ أَمَرَّ التُّرَابَ عَلَى مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ، فَلَوْ كَانَ مُحْدِثًا وَوَجْهُهُ وَذِرَاعَاهُ صَحِيحَانِ وَرَأْسُهُ وَرِجْلَاهُ قَرِيحَيْنِ غَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ بَدَلًا مِنْ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ فَلَوْ قَدَّمَ هَذَا الْقَرِيحُ التَّيَمُّمَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ جَازَ، وَكَانَ عَادِلًا عَنِ الْأَوْلَى بِخِلَافِ الْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَيَمُّمَ الْقَرِيحِ لِعَجْزِ الْمَرَضِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَتَيَمُّمَ الْوَاجِدِ لِبَعْضِ مَا يَكْفِيهِ، إِنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الْمَاءِ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَإِذَا فَرَغَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَالتَّيَمُّمِ بَدَلًا مِنْ قَرِيحِ أَعْضَائِهِ صَلَّى بِهَذِهِ الطَّهَارَةِ الْفَرِيضَةَ، وَمَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِلِ ولا يصلي فرضة ثَانِيَةً؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الضَّرُورَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بِهَا بَيْنَ فَرْضَيْنِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَطَهَّرَ لِلْفَرِيضَةِ الثَّانِيَةِ أَعَادَ التَّيَمُّمَ وَحْدَهُ وَلَمْ يُعِدِ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ مَا لَمْ يُحْدِثْ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَعْمَلَهُ مِنَ الْمَاءِ تَطْهِيرٌ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعِيدَهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ وَالتَّيَمُّمُ تَطْهِيرٌ لِفَرْضٍ وَاحِدٍ فَلَزِمَهُ إِعَادَتُهُ عِنْدَ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ أَحْدَثَ أَعَادَ الطَّهَارَتَيْنِ مَعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا وَالْمَاءُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ حَدَثِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ غَسْلِهِ بِالْحَدَثِ الطَّارِئِ؛ لِأَنَّ طُهْرَ الْجَنَابَةِ لَا يَنْتَقِضُ بالحدث الأصغر.(1/274)
(مَسْأَلَةٌ: حُكْمُ مَنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دمٌ يَخَافُ إِنْ غَسَلَهُ، تَيَمَّمَ وَأَعَادَ إِذَا قَدَرَ عَلَى غَسْلِ الدم ".
وَهَذَا صَحِيحٌ، وَصُورَتُهَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ صَاحِبِ الْقُرُوحِ إِذَا كَانَ بَعْضُ بَدَنِهِ قَرِيحًا، وَبَعْضُهُ صَحِيحًا فَاسْتَعْمَلَ الْمَاءَ فِي الصَّحِيحِ وَتَيَمَّمَ فِي الْقَرِيحِ، ثُمَّ صَلَّى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جُرْحِهِ دَمٌ، وَلَا نَجَسٌ فَصَلَاتُهُ مُجْزِئَةٌ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ أَوْ نَجَاسَةٌ مِنْ قَيْحٍ، وَمِدَّةٍ، فَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً يُعْفَى عَنْ مِثْلِهَا فِي الصِّحَّةِ كَانَتْ صَلَاتُهُ مُجْزِئَةً، وَالَّذِي يُعْفَى عَنْهُ هُوَ يَسِيرُ مَاءِ الْقُرُوحِ، وَفِي يَسِيرِ الدَّمِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ النَّجِسُ كَثِيرًا لَا يُعْفَى عَنْ مِثْلِهِ فِي الصِّحَّةِ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ مَا صَلَّى إِذَا صَحَّ، وَبَرَأَ وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ يُخَرِّجُ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَحْبُوسِ فِي حُشٍّ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَا إِعَادَةَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ، وَأَمَّا ابْنُ خَيْرَانِ فِي تَخْرِيجِهِ الْإِعَادَةَ فَمُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَغَافِلٌ عَنْ وَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ نَجَاسَةَ صَاحِبِ الْحُشِّ مُفَارِقَةٌ وَنَجَاسَةُ صَاحِبِ الْقُرُوحِ مُتَّصِلَةٌ، وَالنَّجَاسَةُ لَا تَسْتَغْنِي عَنْ طَهَارَةٍ، وَلَيْسَ مَا اسْتَعْمَلَهُ مِنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ تَطْهِيرًا لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ تَطْهِيرٌ لِلصَّحِيحِ مِنْ بَدَنِهِ، وَالتُّرَابُ تَطْهِيرٌ لِقَرِيحِ بَدَنِهِ فَعَرِيَتِ النَّجَاسَةُ عَنْ طَهَارَةٍ، فَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ، وَفَارَقَ بِهِ حَالَ الْمُسْتَحَاضَةِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ مَعَ الْمُزَنِيِّ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
(مَسْأَلَةٌ: صَلَاةُ مَنْ كَانَ فِي حش)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان في المصر في حشٍّ أو موضعٍ نجسٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا رَجُلٌ فِي حُشٍّ وَالْحُشُّ الْمَكَانُ النَّجِسُ فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَوَجَدَ فِي الْحُشِّ مَوْضِعًا طَاهِرًا أَوْ بِسَاطًا لَزِمَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَلَا إِعَادَةَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا طَاهِرًا وَلَا بِسَاطًا طَاهِرًا صَلَّى لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَهَلْ يُصَلِّي وَاجِبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ يُصَلِّي اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا، وَوَجْهُهُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة عَلَيْنَا فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي الْأُمِّ أَنَّهُ يُصَلِّي وَاجِبًا وَوَجْهُهُ مَا استدللنا به على أبي حنيفة فيمن من لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا، فَإِذَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُومِئُ وَلَا يُبَاشِرُ النجاسة أن لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ السُّجُودَ مُبَاشِرًا بِأَعْضَاءِ سُجُودِهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَحَلِّ فرض.(1/275)
وَاسْتِيفَاءُ السُّجُودِ فَرْضٌ، فَلَمْ يَكُنِ الْعَجْزُ عَنِ الطَّهَارَةِ مُسْقِطًا لِفَرْضِ السُّجُودِ كَالْعُرْيَانِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَائِمًا وَإِنْ كَانَ تَظْهَرُ عَوْرَتُهُ، وَلَا يَكُونُ الْعَجْزُ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ مُسْقِطًا لِفَرْضِ الْقِيَامِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُومِئُ مُنْتَهِيًا فِي سُجُودِهِ أَقْصَى حَالٍ إِنْ زَادَ عَلَيْهَا أَصَابَ النَّجَاسَةَ لِأَنَّ الْإِيمَاءَ بَدَلٌ مِنَ السُّجُودِ، وَلَيْسَ لِلطَّهَارَةِ فِي النَّجَاسَةِ بَدَلٌ، فَكَانَ اجْتِنَابُ الْأَنْجَاسِ أَوْكَدُ مِنِ اسْتِيفَاءِ السُّجُودِ، وَخَالَفَ الْعُرْيَانَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَكُونُ خَلَفًا مِنَ الثَّوْبِ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ أَلَا تَرَى لَوْ أَفْضَى بِعَوْرَتِهِ إِلَى الْأَرْضِ سَاتِرًا لَهَا عَنْ أَبْصَارِ الْخَلْقِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الثَّوْبِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ أَجْزَأَهُ هَذَا، وَكَانَ سَاتِرًا لِأَنَّهُ لَا يُرَى أَجْزَأَهُ إِذَا كَانَ يُصَلِّي عُرْيَانًا فِي بَيْتٍ مُسْتَتِرًا بِحِيطَانِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْإِيمَاءُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ السُّجُودِ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَعَ الِاخْتِيَارِ.
(فَصْلٌ: حُكْمُ إِعَادَةِ مَنْ صَلَّى فِي حُشٍّ)
فَإِذَا صَلَّى عَلَى مَا وَصَفْنَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَا صَلَّاهُ كَانَ اسْتِحْبَابًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَا صَلَّاهُ فِي الْوَقْتِ كَانَ فَرْضًا وَاجِبًا، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ بِأَدَاءِ حَقٍّ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْمُحْدِثِ لَا تَجُوزُ، وَالرُّخَصُ مِنَ الْعَاصِي لَا تَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا وَبِالْحَبْسِ فِي الْحُشِّ مَظْلُومًا فَفِي وجوب الإعادة قولان نذكر موجبهما بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَسَائِلِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ: صلاة من ربط على خشبة)
قال الشافعي رضي الله عنه: " أو مربوطاً على خشبةٍ صلى يومئ وَيُعِيدُ إِذَا قَدَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ رُبِطَ عَلَى خَشَبَةٍ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَلَا يَقْدِرُ مَعَ كَوْنِهِ مَرْبُوطًا عَلَى اسْتِيفَاءِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ حَسَبَ إِمْكَانِهِ مُومِيًا فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ بَدَنِهِ وَهَلْ تَكُونُ صَلَاتُهُ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا أَوْ وَاجِبًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا صَلَّى ثُمَّ أَطْلَقَ مِنْ بَعْدُ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ صَلَاتَهُ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ صَلَاتَهُ فِي الْوَقْتِ وَاجِبَةٌ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا، أَوْ عَاصِيًا لِامْتِنَاعِهِ مِنْ حَقٍّ مَعَ الْمُكْنَةِ أَوْ كَانَ مَرْبُوطًا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ كان متوضئاً ومظلوماً مستقبلاً للقبلة في وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ عَلَى مَا مَضَى.
(مَسْأَلَةٌ: حُكْمُ تَيَمُّمِ مَنْ أَلْصَقَ عَلَى مَوْضِعِ التيمم لصوقا)
ً
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ أَلْصَقَ عَلَى مَوْضِعِ التَيَمُّمِ لُصُوقًا، نَزَعَ اللصوق وأعاد ".(1/276)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صُورَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: صُورَتُهَا فِي رَجُلٍ كَانَ عَلَى أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ قُرُوحٌ فَأَلْصَقَ عَلَيْهَا لُصُوقًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِهَا وَالتَّيَمُّمِ عَلَيْهَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ فِيهَا بَدَلًا مِنْ غَسْلِهَا، وَيَغْسِلُ مَا لَا قُرُوحَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا فَعَلَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ السَّلِيمَ قَدْ غَسَلَهُ بِالْمَاءِ، وَمَوْضِعُ اللُّصُوقِ تَيَمَّمَ مِنْهُ بِالتُّرَابِ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَأَعَادَ يَعْنِي اللُّصُوقَ أَعَادَهَا بَعْدَ تَيَمُّمِهِ لَا أَنَّهُ عَنَى إِعَادَةَ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ صُورَتُهَا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى نَزْعِ اللُّصُوقِ مِنْهَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ فِيهَا فَيُصَلِّيَ مُقْتَصِدًا عَلَى غَسْلِ السَّلِيمِ مِنْ أَعْضَائِهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ اللُّصُوقِ لَمْ يُطَهِّرْهُ بِالْمَاءِ وَلَا بِالتُّرَابِ، كَالْعَادِمِ لِلْمَاءِ وَالتُّرَابِ مَعًا، فَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ إِذَا صَلَّى لِإِخْلَالِهِ بِالطَّهَارَةِ مُبْدِلًا، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَأَعَادَ يَعْنِي الصَّلَاةَ، دُونَ اللُّصُوقِ، وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ يَبْعُدُ مِنْ تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ نَزَعَ اللُّصُوقَ، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي فَرْضِهِ مَاءً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَزْعُ اللُّصُوقِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ نَزْعُ اللُّصُوقِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ فِي مَحَلِّهِ وَلَا عَلَى أَيِّ الصُّورَتَيْنِ كَانَتِ الْمَسْأَلَةٌ فَالْجَوَابُ فِيهَا عَلَى مَا وَصَفْتُ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَزْعِ اللُّصُوقِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي حُكْمِ صَاحِبِ الْجَبَائِرِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَصَارَ لِصَاحِبِ اللُّصُوقِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ذَكَرْنَاهَا وَحَالٌ رَابِعَةٌ لَا تَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ أَقْسَامِهِ فَأَحَدُ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِهَا وَالتَّيَمُّمِ فِيهَا دُونَ الْغَسْلِ، فَيَتَيَمَّمُ فِيهَا وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ، وَحَالٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّيَمُّمِ فِيهَا وَلَا الْغَسْلِ فَيُصَلِّي وَيُعِيدُ، وَحَالٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَزْعِهَا وَإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهَا فَيُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ.
(مَسْأَلَةٌ: كَيْفِيَّةُ تيمم أصحاب الجبائر)
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يعد وبالجبائر مَوْضِعَ الْكَسْرِ، وَلَا يَضَعُهَا إِلَّا عَلَى وضوءٍ كَالْخُفَّيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْجَبَائِرُ مَا كَانَتْ عَلَى كَسْرٍ، وَاللُّصُوقُ مَا كَانَتْ عَلَى قُرْحٍ، فَإِذَا انْكَسَرَ عُضْوٌ مِنْ بَدَنِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى سَتْرِهِ بِالْجَبَائِرِ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عِنْدَ الطَّهَارَةِ عَلَى حَلِّهَا، وَإِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهَا شَدَّهَا كَيْفَ شَاءَ عَلَى طُهْرٍ أَوْ غَيْرِ طُهْرٍ، فَجَاوَزَ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَغَيْرَ مُجَاوِزٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عِنْدَ الطَّهَارَةِ عَلَى حَلِّهَا خَوْفَ التَّلَفِ وَزِيَادَةِ الْمَرَضِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَيَحْتَاجُ عِنْدَ شَدِّ الْجَبَائِرِ إِلَى شَرْطَيْنِ لِيَصِحَّ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهَا.
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَضَعَهَا إِلَّا عَلَى طُهْرٍ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا كَالْخُفَّيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا إِلَّا أَنْ يَلْبَسَهُمَا عَلَى طُهْرٍ.(1/277)
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ شَدُّ الْجَبَائِرِ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْكَسْرِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنَ الصَّحِيحِ لِأَنَّ شَدَّ الْكَسْرِ وَحْدَهُ لَا يُغْنِي إِلَّا أَنْ يَشُدَّ مَعَهُ بَعْضَ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الصَّحِيحِ، وَقَوْلُ الشافعي، ولا يعد وبالشد مَوْضِعَ الْكَسْرِ، إِنَّمَا أَرَادَ وَمَا قَارَبَهُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَإِنْ تَجَاوَزَ بِالشَّدِّ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ عَلَيْهَا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا أَتَى بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ ثُمَّ أَحْدَثَ، أَوْ أَجْنَبَ، غَسَلَ مَا لَا جَبِيرَةَ عَلَيْهِ مِنْ بَدَنِهِ ثُمَّ مَسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ بِالْمَاءِ بَدَلًا مِنْ غَسْلِهَا تَحْتَهَا، كَمَا يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، بَدَلًا مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَفِي قَدْرِ الْمَسْحِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا.
أَحَدُهُمَا: يَمْسَحُ جَمِيعَ الْجَبَائِرِ لِيَكُونَ خَلَفًا مِنْ عَمَلِ الْعُضْوِ الْكَسِيرِ وَنَائِبًا عَنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمْسَحُ بَعْضَهَا وَإِنْ قَلَّ فِيمَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ كَالرَّأْسِ وَالْخُفَّيْنِ ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْجَبَائِرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَحْتَجْ مَعَ مَسْحِ الْجَبَائِرِ بِالْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ فَهَلْ يَلْزَمُ مَعَ مَسْحِ الْجَبَائِرِ بِالْمَاءِ التَّيَمُّمُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَتَيَمَّمُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَاءِ وَحْدَهُ غَسْلًا لِمَا ظَهَرَ وَمَسْحًا عَلَى مَا اسْتَتَرَ؛ لِأَنَّ مَسْحَ الْجَبَائِرِ مُعْتَبَرٌ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلَيْسَ مَعَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَيَمُّمٌ فَكَذَا الْمَسْحُ عَلَى الْجَبَائِرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ عَلِيًّا بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ لَمْ يَأْمُرْهُ بَالتَّيَمُّمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ بَدَلًا مِنْ تَطْهِيرِ مَا تَحْتَ الْجَبَائِرِ لِرِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي صَاحِبِ الْجُرُوحِ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّيَمُّمِ صَلَّى بِغَسْلِهِ وَتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ مَا لَمْ يُحْدِثْ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّيَمُّمِ أَعَادَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ، وَلَمْ يُعِدِ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ فَإِذَا أَحْدَثَ اسْتَأْنَفَ ثَانِيَةً عَلَى مَا وَصَفْنَا كَذَلِكَ مَا كَانَ مُضْطَرًّا إِلَى الْجَبَائِرِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمُقَدَّرِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ الَّتِي أَبَاحَتِ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبَائِرِ قَدْ تَسْتَدِيمُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ: حُكْمُ إِعَادَةِ الصَّلَاةِ لأصحاب الجبائر)
قال الشافعي: " فإن خاف الكسير غير متوضئ الْتَلَفَ إِذَا أُلْقِيَتِ الْجَبَائِرُ فَفِيهَا(1/278)
قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيُعِيدُ مَا صَلَّى إِذَا قَدَرَ عَلَى الْوُضُوءِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يُعِيدُ وَإِنْ صَحَّ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ انْكَسَرَ إِحْدَى زَنْدَيْهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ قُلْتُ بِهِ وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أولى قوليه بالحق عندي أن يجزئه ولا يعيد وكذلك كل ما عجز عنه المصلي وفيما رخص له في تركه من طهرٍ وغيره وقد أجمعت العلماء والشافعي معهم أن لَا تُعِيدُ الْمُسْتَحَاضَةُ وَالْحَدَثُ فِي صَلَاتِهَا دائمٌ وَالنَّجَسُ قائمٌ وَلَا الْمَرِيضُ الْوَاجِدُ لِلْمَاءِ وَلَا الذي معه الماء يخاف العطش إذا صليا بالتيمم وَلَا الْعُرْيَانُ وَلَا الْمُسَايِفُ يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ القبلة يومئ إيماء فقضى ذلك من إجماعهم على طرح ما عجز عنه المصلي ورفع الإعادة وقد قال الشافعي من كان معه ماءٌ يوضئه في سفره وخاف العطش فهو كمن لم يجد (قال المزني) وكذلك من على قروحه دم يخاف إن غسلها كمن ليس به نجسٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ جُمْلَةٌ حَكَاهَا الْمُزَنِيُّ فَقَالَ: وَإِنْ خَافَ الْكَسِيرُ غَيْرُ الْمُتَوَضِّئِ التَّلَفَ وَحَكَاهُ الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ وَإِنْ خَافَ الْكَسِيرُ الْمُتَوَضِّئُ التَّلَفَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا كَمَا وَهَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُزَنِيُّ غَيْرَ الْمُتَوَضِّئِ فِي حَالِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ وَمُرَادُ الرَّبِيعِ الْمُتَوَضِّئُ فِي حَالِ وَضْعِ الْجَبَائِرِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَاسِحَ عَلَى الْجَبَائِرِ إِذَا صَحَّ وَبَرَأَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ عِنْدَ وَضْعِ الْجَبَائِرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَضَعَهَا عَلَى وُضُوءٍ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ وَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ مَا صَلَّى قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْ وَهِمَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ اعْتِبَارًا بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ وَضْعِ الْجَبَائِرِ مُتَوَضِّئًا فَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ آبَائِهِ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: " أُصِيبَ إِحْدَى زَنْدَيَّ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَرَ بِهِ فَجُبِرَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْوُضُوءِ، فَقَالَ: امْسَحْ عَلَى الْجَبَائِرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحًا فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ مَسْحٌ جَاءَ الشَّرْعُ بِالْأَمْرِ بِهِ فَصَارَ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْحَدِيثُ لِضَعْفِ الرِّوَايَةِ وَوَهْيِ الْإِسْنَادِ فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا، وَحَكَاهُمَا الرَّبِيعُ فِي الْأُمِّ.
أَحَدُهُمَا: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا أَعْذَارٌ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِعَادَةَ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَعْذَارٌ نَادِرَةٌ، وَإِذَا حَدَثَتْ لَمْ تَدُمْ فَجَرَى مَجْرَى عَادِمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ نَادِرٌ، وَإِذَا حَدَثَ لَمْ يَدُمْ فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ اخْتَارَ سُقُوطَ الْإِعَادَةِ فِي الْمَحْبُوسِ فِي حُشٍّ، وَالْمَرْبُوطِ(1/279)
عَلَى خَشَبَةٍ، وَصَاحِبِ الْجَبَائِرِ، وَمَنْ عَلَى قُرْحِهِ دَمٌ، اسْتِشْهَادًا بِأَنَّهُمْ قَدْ أَدَّوْا مَا كُلِّفُوا كما لا تعيد الاستحاضة وَالْحَدَثُ فِي صَلَاتِهَا دَائِمٌ وَالنَّجَسُ قَائِمٌ، وَلَا الْمَرِيضُ الْوَاجِدُ لِلْمَاءِ وَلَا الَّذِي مَعَهُ الْمَاءُ يَخَافُ الْعَطَشَ، وَلَا الْعُرْيَانُ، وَلَا الْمُسَايِفُ يُصَلِّي إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَاسْتَشْهَدَ بِمَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُمْ فِيمَا عَجَزُوا عَنْهُ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنْ يُقَالَ لَهُ اعْتِلَالُكَ بِالْعَجْزِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ فاسدٌ؛ لِأَنَّ عَادِمَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ عَاجِزٌ، وَفَرْضُ الْإِعَادَةِ عَنْهُ غَيْرُ سَاقِطٍ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى الْكَلَامِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ هُوَ مَعْذُورٌ، وَفَرْضُ الْإِعَادَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَبَطَلَ الِاعْتِلَالُ بِالْعَجْزِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا سُقُوطُ الْإِعَادَةِ عَمَّنْ ذَكَرَهُ لِوُجُودِ الْعُذْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: الْمَعْذُورُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَسْقُطُ عَنْهُمُ الْإِعَادَةُ بِأَعْذَارِهِمْ وَهُمْ مَنْ ذَكَرَهُمْ، وَضَرْبٌ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمُ الْإِعَادَةُ وَهُمْ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ بِأَوْلَى مِنْ رَدِّنَا إِلَى مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ فِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْفَرْقُ بَيْنَ أَصْحَابِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبَيْنَ مَنْ ذَكَرْتَهُمْ مِنَ الْمَعْذُورِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مُمْكِنَةٌ وَإِنْ شَقَّتْ، وَإِزَالَةُ تِلْكَ الْأَعْذَارِ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ الْفَرْقَيْنِ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَعْذَارُهُمْ نَادِرَةٌ، وَإِذَا حَدَثَتْ لَمْ تَدُمْ، وَأَصْحَابُ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْمُزَنِيُّ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَعْذَارُهُمْ عَامَّةً كالمتيمم من مرض أو سفر، أو نادر لَكِنْ قَدْ يَدُومُ كَالِاسْتِحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ.
فَإِنْ قِيلَ وَالْخَائِفُ مِنْ سَبُعٍ إِذَا صَلَّى مُومِيًا نَادِرُ الْعُذْرِ وَلَا يَدُومُ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، قِيلَ: لِأَنَّهُ خَائِفٌ وَجِنْسُ الْخَوْفِ عَامٌّ.
(فَصْلٌ: الْخِلَافُ فِي أَيِّ الصَّلَاتَيْنِ تَكُونُ هِيَ الفرض)
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الْمَاضِيَةِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمْ، فَأَعَادُوا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَيِّ الصَّلَاتَيْنِ تَكُونُ هِيَ الْفَرْضَ الْمُحْتَسَبَ بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ حَكَاهَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَهَا الْمُزَنِيُّ:
أحدها: أن الصلاة الأولى فرض، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالثَّانِيَةِ تَنَافِيًا لِمَا أَخَلَّ بِهِ من شروط الأولة.
والمذهب الثاني: أن الثانية فرض، وإنما أمر بالأولة لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ كِلَا الصَّلَاتَيْنِ فَرْضٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ.(1/280)
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّ إِحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَرْضٌ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: لا طهران فِي يَوْمٍ لَكِنَّ الْفَرْضَ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لَنَا، وَإِنَّمَا يَحْتَسِبُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ فَرْضًا، وَبِالْأُخْرَى نَفْلًا لِتَكَافُئِهِمَا، وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ الدَّالِّ عَلَى الْفَرْضِ مِنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي: " وَلَا يَتَيَمَّمُ صحيحٌ فِي مصرٍ لمكتوبةٍ وَلَا لجنازةٍ وَلَوْ جَازَ مَا قَالَ غَيْرِي يَتَيَمَّمُ لِلْجَنَازَةِ لِخَوْفِ الْفَوْتِ لَزِمَهُ ذَلِكَ لِفَوْتِ الْجُمُعَةِ وَالْمَكْتُوبَةِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُ لِفَوْتِ الْأَوْكَدِ كان من أن يجوز فيما دونه أبعد. وروي عن ابن عمر أنه كان لا يصلي على جنازةٍ إلا متوضئاً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَازَةِ مُسْتَحَقَّةٌ كَمَا تُسْتَحَقُّ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَحُكِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ الشعبي عن دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ الطَّبَرِيِّ: أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةٍ. وَقَالَ أبو حنيفة: الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَاجِبَةٌ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ إِذَا خَافَ فَوَاتَهَا، وَكَذَلِكَ قَالَهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا إِذَا خَافَ فَوَاتَهَا مَعَ الْإِمَامِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بِهِ رجلٌ فِي سكةٍ مِنَ السِّكَكِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَوَارَى فِي السِّكَّةِ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُلِ السَّلَامَ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ إِلَّا أَنِّي لَمْ أَكُنْ عَلَى طُهْرٍ فَمِنْهُ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا تَيَمَّمَ بِالْمَدِينَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ السَّلَامِ كَانَ تَيَمُّمُهُ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ الْجِنَازَةِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَ التَّيَمُّمَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ طَهُورًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الصَّلَاةِ بِهِ جَائِزًا، قَالُوا: وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهَا إِلَّا بِالتَّيَمُّمِ، فَاقْتَضَى بِأَنْ يُجْزِئَهُ، كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ تَجِبُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ بِالْمَاءِ إِلَى تِلْكَ الصَّلَاةِ سَقَطَ عَنْهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ كَالْحَائِضِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ صَلَاةٌ شرعية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا " وإذا ثبت صَلَاةٌ لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ، بِخِلَافِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بَغَيْرِ طهورٍ "، وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ لَهَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) . فَاقْتَضَى اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (المائدة: 6) ، إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَهَذَا غَيْرُ مَرِيضٍ وَلَا مُسَافِرٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَلِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا يَسْتَبِيحُ فِيهَا الْفَرَائِضَ بِالتَّيَمُّمِ، فَلَمْ يَسْتَبِحْ غَيْرَ الْفَرَائِضِ بِالتَّيَمُّمِ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ اسْتِبَاحَةُ الْجَنَائِزِ كَالْمُحْدِثِ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ(1/281)
لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعَجْزُ عَنْهُ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ، لَمْ يَتَحَقَّقِ الْعَجْزُ عَنْهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، أَصْلُهُ إِذَا كَانَ عُرْيَانًا، وَفِي بَيْتِهِ ثَوْبٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِصَلَاةِ الْفَرَائِضِ، كَانَ شَرْطًا لِصَلَاةِ الْجَنَائِزِ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ احْتِيجَ فِيهَا إِلَى الطَّهُورِ لَمْ يَجُزِ افْتِتَاحُهَا بِالتَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِفَوَاتِ الْجُمُعَةِ الَّتِي أَوْكَدُ فَلِأَنْ لَا يُجْزِئَهُ لِمَا دُونَهَا مِنَ الْجِنَازَةِ بَعْدُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلالهم بالخبر أنه تَيَمَّمَ لِرَدِّ السَّلَامِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَيَمَّمَ لِعَدَمِ الْمَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَرُدَّ السَّلَامَ بِغَيْرِ طَهُورٍ جَازَ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَيَمُّمِهِ قِيلَ تَعْلِيمُهُ التَّيَمُّمَ، لِأَنَّ الشَّرْعَ مَأْخُوذٌ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّيَمُّمُ لِلْفَرِيضَةِ جَازَ لِلْجِنَازَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذَا وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ فِي الطَّهَارَةِ لَهَا فَوَاتًا لِفِعْلِهَا فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْجُمُعَةِ، يَفُوتُ فِعْلُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْجُمُعَةُ تَنْتَقِلُ عِنْدَ فَوَاتِهَا إِلَى الظُّهْرِ وَلَا تَنْتَقِلُ فِي الْجِنَازَةِ إِلَى بَدَلٍ.
قِيلَ: لَيْسَ الظُّهْرُ جُمْعَةً لَا سِيَّمَا قَوْلُهُمْ مَنْ خَرَجَ عَنْهُ وَقْتُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ فِيهَا بَطَلَتْ وَلَمْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا تَفُوتُ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، فَإِنْ مَنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ فَهُوَ بِنَاءُ خِلَافٍ عَلَى خِلَافٍ ثُمَّ نَدُلُّ عَلَيْهِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النبِيِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِ مسكينةٍ، وَصَلَّى عَلَى قبرٍ بَعْدَ شهرٍ فَجَعَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الشَّهْرَ حَدًّا فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ؛ لِأَجْلِ هَذَا الْخَبَرِ، وَلَيْسَ الشَّهْرُ عِنْدَنَا حَدًّا.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ لَجَازَتِ الْآنَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
قِيلَ: عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّنَا نُجَوِّزُهَا عَلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ تَجُوزُ قَبْلُ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسُ أَفْوَاجًا وَيَنْصَرِفُونَ.
وَالثَّانِي: إنما يمنع من الصلاة على قبره، لأن لا يُتَّخَذَ مَسْجِدًا؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ".(1/282)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ، لِمَنْ دَخَلَ فِي فَرْضِ تِلْكَ الصَّلَاةِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ أَهْلَ ذَلِكَ الْعَصْرِ، فَجَازَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدُ، ثُمَّ يُقَالُ لأبي حنيفة: قَدْ جَوَّزْتَ الصَّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ لِلْإِمَامِ وَالْوَلِيِّ، فَلَوْ جَازَ التَّيَمُّمُ لَهَا خَوْفًا مِنْ فَوَاتِهَا لَاقْتَضَى أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْإِمَامِ وَالْوَلِيِّ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُهُمَا، وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ لَهُمَا كَمَا أَجَازَهُ لِغَيْرِهِمَا، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا اعْتَلَّ بِهِ مِنَ الْفَوَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ: غُسْلُ وَوُضُوءُ مَنْ لَدَيْهِ بَعْضُ مَاءٍ لا يكفيه) .
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفَرِ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَغْسِلُهُ لِلْجَنَابَةِ غَسَلَ أَيَّ بَدَنِهِ شاء وتيمم وصلى وَقَالَ فِي موضعٍ آخَرَ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَغْسِلُ مِنْ أَعْضَائِهِ شَيْئَا وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ لِأَنَّ الماء لا يطهر بدنه (قال المزني) قلت أنا هذا أشبه بالحق عندي لأن كل بدلٍ لعدمٍ فحكم ما وجد من بعض المعدوم حكم العدم كالقاتل خطأً يجد بعض رقبةٍ فحكم البعض كحكم العدم وليس عليه إلا البدل ولو لزمه غسل بعضه لوجود بعض الماء وكمال البدل لزمه عتق بعض رقبةٍ لوجود البعض وكمال البدل ولا يقول بهذا أحدٌ نعلمه وفي ذلك دليلٌ وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا لَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، أَوْ وَجَدَ الْمُحْدِثُ مَا لَا يَكْفِيهِ لِأَعْضَاءِ وُضُوئِهِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ فَرْضَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَالْمُزَنِيُّ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ وَيَتَيَمَّمَ، لَا يُجْزِئُهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ، فَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ عَنْهُ اقْتِصَارًا عَلَى التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) ثُمَّ قَالَ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} إِشَارَةً إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَشْرُوعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ؛ وَلِأَنَّ في استعمال الماء والتيمم جميعاً بَيْنَ بَدَلٍ وَمُبْدَلٍ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْأُصُولِ لَا يَلْزَمُ كَالْعِتْقِ وَالصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ عدم بعض الكل كَعَدَمِ جَمِيعِهِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إِلَى الْبَدَلِ قِيَاسًا عَلَى الْوَاجِدِ لِبَعْضِ الرَّقَبَةِ يَكُونُ كَالْعَادِمِ لِجَمِيعِهَا فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إِلَى الصَّوْمِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالُ الْمُزَنِيِّ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) {المائدة: 6) ، فَجَعَلَ التَّيَمُّمَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ النَّكِرَةِ بِحَرْفِ النَّفْيِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِمَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَبِي ذَرٍّ: " الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَهُورًا لِمَنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ، وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَى بَعْضِ أَعْضَائِهِ(1/283)
لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْ إِيصَالِهِ إِلَى مَا لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ، قِيَاسًا عَلَى الْعَادِمِ لِبَعْضِ أَعْضَائِهِ، وَلِأَنَّ أَعْضَاءَ الطَّهَارَةِ بِحَالٍ لَزِمَهُ تَطْهِيرُهَا فَلَمْ يَكُنْ فَقْدُ الطُّهُورِ فِي بَعْضِهَا مُوجِبًا لِسُقُوطِ تَطْهِيرِ بَاقِيهَا، قِيَاسًا عَلَى النَّجَاسَةِ إِذَا قَدَرَ عَلَى غَسْلِ بَعْضِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنِ الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِهِ عَجْزًا عَنْ جَمِيعِهِ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالْقِرَاءَةِ، فَإِنَّهُ يَسْتُرُ مِنْ عَوْرَتِهِ مَا قَدَرَ وَيَقْرَأُ مَا أَحْسَنَ؛ وَلِأَنَّ سُقُوطَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِذَا اخْتَصَّ بِبَعْضِ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَسْقُطِ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَاقِي الْأَعْضَاءِ، قِيَاسًا عَلَى صَاحِبِ الْقُرُوحِ، وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ أَصْلًا يَنْتَقِلُ عَنْهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَلَمَّا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ يَقَعُ مُبَعَّضًا كَانَ وُجُودُ بَعْضِهِ مُوجِبًا لِلْمَصِيرِ إِلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى الْمُضْطَرِّ إِذَا وَجَدَ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ مِنَ الطَّعَامِ يَلْزَمُهُ أَكْلُ ذَلِكَ الْبَعْضِ، قَبْلَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا مَضَى مِنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ مُبْدَلٍ وَبَدَلٍ فَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْمَاءُ فَلَمْ يَكُنْ جَمْعًا بَيْنَ مُبْدَلٍ وَبَدَلٍ أَلَا تَرَاهُ لَوِ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ ثُمَّ أَرَاقَهُ قَبْلَ إِتْمَامِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِمَا بَقِيَ إِجْمَاعًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ مُبْدَلٍ وَبَدَلٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ وُجُودَ بَعْضِ الْمُبْدَلِ كَعَدَمِهِ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى بَدَلِهِ فَمُنْتَقَضٌ بِالْقَادِرِ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِقَدْرِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ وَسَبَّحَ بَدَلًا عَنِ الْبَاقِي، وَمُنْتَقَضٌ بالواجد لما يستر به بعض عورته لا يَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الِاسْتِتَارِ بِهِ ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ بَعْضِ الرَّقَبَةِ وَبَعْضِ الْمَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّ الصَّوْمَ يَجِبُ عَنْ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ وَلَا يَجِبُ عَنْ بَعْضِهَا، وَالتَّيَمُّمُ يَجِبُ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ كَمَا يَجِبُ عَنْ جَمِيعِهَا.
وَالثَّانِي: قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ التَّكْفِيرَ يَكُونُ لِيَمِينٍ مُتَقَدِّمَةٍ وَالطَّهَارَةَ تَكُونُ لِصَلَاةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، وَهُوَ لَا يَسْتَفِيدُ بِعِتْقِ بَعْضِ الرَّقَبَةِ إِذَا صَامَ شَهْرَيْنِ فَائِدَةً، فَسَقَطَ عِنْدَ عِتْقِ بَعْضِهَا لدعم الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَيَسْتَفِيدُ بِاسْتِعْمَالِ بَعْضِ الْمَاءِ إِذَا تَيَمَّمَ فَائِدَةً، وَهُوَ أَنْ يُتِمَّ بَاقِيَ أَعْضَائِهِ، وَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَيَرْتَفِعُ حَدَثُهُ بِهِ، فَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ بَعْضِهِ لِوُجُودِ الْفَائِدَةِ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوُضُوءِ عَلَى التَّبْعِيضِ وَالتَّجْزِئَةِ، لأنه يستعمله فِي عُضْوٍ دُونَ عُضْوٍ، فَجَازَ أَنْ يَتَبَعَّضَ فِي الْوُجُوبِ وَالْعِتْقُ لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّبْعِيضِ وَالتَّجْزِئَةِ فَلَمْ يَتَبَعَّضْ فِي الْوُجُوبِ.
(فَصْلٌ: تَقْدِيمُ اسْتِعْمَالِ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَصَحَّ الْقَوْلَيْنِ وُجُوبُ اسْتِعْمَالِ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمُ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ فَإِنْ قَدَّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَمْ يَتَعَدَّ بِهِ،(1/284)
بِخِلَافِ الْقَرِيحِ الْجَرِيحِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ قَبْلُ، فَإِنْ كَانَ جُنُبًا اسْتَعْمَلَ مَا وَجَدَ مِنَ الْمَاءِ فِي أَيِّ بَدَنِهِ شاء وتيمم لِبَاقِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا اسْتَعْمَلَهُ فِي وَجْهِهِ مُقَدِّمًا مَا يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُهُ فِي وُضُوئِهِ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِبَاقِي أَعْضَائِهِ، فَلَوْ كَانَ مُحْدِثًا، وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ، وَوَجَدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ قَبْلَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ لِلْحَدَثِ بَدَلًا، وَلَيْسَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بَدَلٌ، وَهُوَ يَجُوزُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِحَدَثِهِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي نَجَاسَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا طَهَارَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، فَلَمْ يَكُنْ تَقْدِيمُ هَذِهِ بِأَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ هَذِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِذَا لَمْ يُسْتَبَحْ مَعَهُ الصَّلَاةُ كَانَ بَاطِلًا، وَإِذَا تَقَدَّمَ مَعَ بَقَاءِ النَّجَاسَةِ لَمْ يُبِحِ الصَّلَاةَ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْرُوحَ يَجُوزُ أَنْ يُقَدِّمَ التَّيَمُّمَ عَلَى الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَبِيحُ بِهِ الصَّلَاةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ: هَلْ تعجيل التيمم أفضل أم تأخيره؟)
(قال الشافعي) : " وَأُحِبُّ تَعْجِيلَ التَّيَمُّمِ لِاسْتِحْبَابِي تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ لَوْ أَخَّرَهُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ رَجَاءَ أَنْ يَجِدَ الْمَاءَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ (قال المزني) قلت أنا كأن التعجيل بقوله أولى لأن السنة أن يصلي ما بين أول الوقت وآخره فلما كان أعظم لأجره في أداء الصلاة بالوضوء فالتيمم مثله وبالله التوفيق ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِي مُسَافِرٍ دَخَلَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَهُوَ عَادِمٌ لِلْمَاءِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَيَقَّنَ عَدَمَ الْمَاءِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتَيَقَّنَ وَاحِدًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ تَيَقَّنَ عَدَمَ الْمَاءِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ بِمَا قَدْ عَرَفَهُ مِنْ حَالِ طَرِيقِهِ وَإِعْوَازِ الْمَاءِ فِيهِ، فَالْأَفْضَلُ بِهِ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حَالُ الطَّهَارَةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ صَارَ إِدْرَاكُ الْوَقْتِ فَضِيلَةً مُجَرَّدَةً وَإِنْ تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِمَا قَدْ عَرَفَهُ مِنْ حَالِ طَرِيقِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ نهرٍ أَوْ وادٍ أَوْ بِئْرٍ كَانَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ لِتُؤَدَّى بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ أَحَقَّ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ بِالْمَاءِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَأَوَّلُ الْوَقْتِ يَجُوزُ تَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَصَارَ كَمَالُ الطَّهَارَةِ أَفْضَلَ مِنْ تَعْجِيلِ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ تَيَقُّنُهُ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي مَنْزِلِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَانَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ كُلَّهُ مَحَلٌّ لِلطَّلَبِ، وَإِنْ كَانَ تَيَقُّنُهُ لِلْمَاءِ فِي غَيْرِ(1/285)
مَنْزِلِهِ، ذَلِكَ كَانَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ، مُسْتَحَبًّا، وَتَعْلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَا فَلَا وَجْهَ لِمَنْ أَطْلَقَ اسْتِحْبَابَ التَّأْخِيرِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْضِيلِ الْحَالِ فِيهِ هُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنِ اسْتِدَامَةَ عَدَمِهِ، وَلَا حُدُوثَ وَجُودِهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ غَالِبًا، فَالتَّعْجِيلُ جَائِزٌ، وَالتَّأْخِيرُ جَائِزٌ، وَفِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ تَأْخِيرَهَا إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ رَجَاءَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وأبي حنيفة وَوَجْهُهُ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ "، وقال: " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤا بِالْعَشَاءِ " فَجَعَلَ تَأْخِيرَهَا بِعَدَمِ الْحَرِّ وَالشَّهْوَةِ أَفْضَلَ. وَلَيْسَ هَذَا الْعُذْرُ قُرْبَةً كَانَ تَأْخِيرُهَا لِطَلَبِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْلَى لِكَوْنِ الطَّلَبِ قُرْبَةً، وَلِأَنَّ كَمَالَ الطَّهَارَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَمَّا كَانَ تَأْخِيرُهَا عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ لِطَلَبِ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلَ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ تَأْخِيرُهَا لِكَمَالِ الطَّهَارَةِ أَفْضَلَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ تَعْجِيلَهَا بِالتَّيَمُّمِ أَوْلَى فِي الْوَقْتِ، وَأَفْضَلُ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَوَجْهُهُ حَدِيثُ أَمِّ فَرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا " وَلِأَنَّ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ مُتَيَقَّنَةٌ وَالْقُدْرَةُ عَلَى كَمَالِ الطَّهَارَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَضِيلَةٌ مُجَوَّزَةٌ، وَالْعَمَلُ بِمَا يَتَيَقَّنُهُ مِنَ الْفَضِيلَتَيْنِ أَوْلَى مِنَ الِاتِّكَالِ عَلَى مَا شَكَّ فِي وُجُودِهِ.
(مسألة)
: قال الشافعي: " فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ فِي رَحْلِهِ أَعَادَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِيمَنْ تَيَمَّمَ بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، فَرَوَى الْمُزَنِيُّ هَا هنا، وفي جامعه الكبير أنه عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ وَرَوَى الرَّبِيعُ مِثَلَهُ فِي الْأُمِّ، وَحَكَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجُ الْإِعَادَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ فِيمَنْ نَسِيَ الْفَاتِحَةَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَلَّمَ مِنْهَا قَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يُعِيدُ، فَكَذَا مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يُعِيدُ، فَكَذَا مَنْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو الْفَيَّاضِ لَيْسَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ، فَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ فِي وُجُوبِ الإعادة محمولة(1/286)
عَلَى أَنَّ رَحْلَهُ صَغِيرٌ يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ فِي سُقُوطِ الْإِعَادَةِ عَلَى أَنَّ رَحْلَهُ كَبِيرٌ لَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ، وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ بَلْ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ كَانَ مَوْجُودًا فِي رَحْلِهِ قَبْلَ الطَّلَبِ، وَرِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ وُضِعَ فِي رَحْلِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ، فَهَذَا يَشْرَحُ الْمَذْهَبَ وَاخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ ومحمد: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالْقُدْرَةُ مَعَ النِّسْيَانِ مُمْتَنَعَةٌ، وَالتَّيَمُّمُ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ جَائِزٌ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُمَا طَالِبَانِ فِي رَحْلِهِ وَغَيْرِ رَحْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ نِسْيَانُ الْمَاءِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ الْإِعَادَةَ كَانَ نِسْيَانُهُ فِي رَحْلِهِ لَا يُوجِبُ الْإِعَادَةَ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَالنِّسْيَانُ لَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْوُجُودِ، وَأَنَّ نِسْيَانَ الطَّهُورِ، لَا يَمْنَعُ مِنْ لُزُومِ الْقَضَاءِ كَنِسْيَانِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ طَهُورًا فِي حَالِ الذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ طَهُورًا فِي حَالِ النِّسْيَانِ، كَالْمَاءِ النَّجِسِ، وَلِأَنَّ شُرُوطَ الطَّهَارَةِ بِالذِّكْرِ لَا يَسْقُطُ فِعْلُهَا بِالنِّسْيَانِ، كَنَاسِي الثَّوْبِ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ أَصْلٍ لَزِمَ الْمَسِيرُ إِلَيْهِ فِي حَالِ الذِّكْرِ لَمْ يَسْقُطْ بِالنِّسْيَانِ حُكْمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ، كَالْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ نَاسِيًا لِمَا لَهُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ فَهُوَ أَنَّ النَّاسِيَ لَيْسَ بعاجزٍ، بَلْ حُكْمُ الْقُدْرَةِ أُجْرِيَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَالْعَادِمِ الْمَوْصُوفِ بِالْعَجْزِ، ألا ترى أن ناسي عضواً مِنْ أَعْضَاءِ بَدَنِهِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِيهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَلَيْسَ كَالَّذِي قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ فِي الصِّفَةِ بِالْعَجْزِ حَيْثُ سَقَطَتِ الْإِعَادَةُ عَنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِنَاسِي الْمَاءِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ، فَهُوَ مَا نَذْكُرُهُ فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَسِيَهُ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِهِ فَهَذَا حُكْمُهُ كَحُكْمِ نَاسِي الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ وَالْإِعَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، وَيَكُونُ حُكْمُ النِّسْيَانِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَلِمَ بِهِ، بَلْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ بِئْرُ مَاءٍ خَفِيَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا حَتَّى تَيَمَّمَ وَصَلَّى، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ وَسَوَاءٌ بَيْنَ ظُهُورِ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ وَبَيْنَ ظُهُورِهِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَفَرَّقَ بَيْنَ رَحْلِهِ وَغَيْرِ رَحْلِهِ، أَنَّ عَلَيْهِ الْإِحَاطَةَ فِي رَحْلِهِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الْفَيَّاضِ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: إِنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُ الْبِئْرِ، فَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةَ الْأَعْلَامِ، بَيِّنَةَ الْآثَارِ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً غَيْرَ ظَاهِرَةٍ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَلَى الطَّلَبِ فِي غَيْرِ رَحْلِهِ عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، بِخِلَافِ رحله فإذا(1/287)
كَانَتْ ظَاهِرَةً كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَقْصِيرًا فِي الطَّلَبِ فَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ، وَإِذَا كَانَتْ بَاطِنَةً لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِي الطَّلَبِ فَسَقَطَتْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا ضَلَّ الرَّجُلُ عَنْ رَحْلِهِ وَطَلَبِهِ فَلَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهِ وَكَانَ فِيهِ مَاءٌ، فَخَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ وَجَدَ رَحْلَهُ وَعَرَفَهُ، فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ وَهُوَ مَعَ الذِّكْرِ لِلْمَاءِ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، فَصَارَ عَاجِزًا عَنْهُ، وَهَكَذَا لَوْ مُنِعَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى رَحْلِهِ بِالْإِحْصَارِ أَوْ غُصِبَ منه الرجل فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
(مسألة: شراء الماء للوضوء)
قال الشافعي: " وَإِنْ وَجَدَهُ بِثَمَنٍ فِي مَوْضَعِهِ وَهُوَ واجدٌ لِلْثَمَنِ غَيْرُ خائفٍ إِنِ اشْتَرَاهُ الْجُوعَ فِي سَفَرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَإِنْ أُعْطِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَيَتَيَمَّمُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي سَفَرِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ يُبَاعُ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لِثَمَنِهِ أَوْ غَيْرَ وَاجِدٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ وَاجِدٍ لِثَمَنِهِ صَارَ عَاجِزًا عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ، فَلَوْ بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ يُؤَدِّيهِ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا لِقَدْرِ الثَّمَنِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَهْلِكَ الْمَالُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، فَيَصِيرُ الدَّيْنُ مُتَعَلِّقًا بِذِمَّتِهِ فَعَلَى هَذَا يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَيُجْزِئُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ عَدِمَ ثَمَنَ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَالِكًا لِثَمَنِهِ بِمَكَانٍ آخَرَ أَجْزَأَهُ أَنْ يَصُومَ.
قُلْنَا: لَا يُجْزِئُهُ الصِّيَامُ، وَلَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الرَّقَبَةِ فِي مَكَانِهِ بِالدَّيْنِ، وَيُؤَخِّرُهَا إِلَى أَنْ يَصِلَ إلى الماء، فَيَشْتَرِي وَيُعْتِقُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّلَاةَ مُوَقَّتَةٌ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ عَدَلَ إِلَى الطَّهَارَةِ بِالتُّرَابِ، وَلَيْسَ وَقْتُ الْكَفَّارَةِ مُضَيَّقًا، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَإِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فِي نَفَقَتِهِ وَزَادِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَادِمِ لَهُ، فَيَتَيَمَّمُ وَيُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مَبْذُولًا بِثَمَنِ مِثْلِهِ، أَوْ بِأَكْثَرَ، فَإِنْ بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ بِمَكَانِهِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ، لَا فِي وَقْتِ الِانْقِطَاعِ وَالْقِلَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ لِلْمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ فِي حُكْمِ الْمَانِعِ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ الْمَطْلُوبَةُ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ بَذْلُ الْيَسِيرِ لَلَزِمَهُ بَذْلُ الْكَثِيرِ، وَلَأَفْضَى الْأَمْرُ بِهِ إِلَى خُرُوجِهِ مِنْ جَمِيعِ مِلْكِهِ، وَهَذَا عُدُولٌ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ، وَرَفْعُ الْخُرُوجِ فِي الْمُعْتَدِلِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ بُذِلَتْ لَهُ الرَّقَبَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا.(1/288)
قلنا: لا يلزمه أن يشريثها وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ وَيَتَوَقَّفَ حَتَّى يَجِدَهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَهَا، وَإِنْ بُذِلَ لَهُ الْمَاءُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ لَزِمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْبَدَلِ فِي حُكْمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى ثَمَنِ الرَّقَبَةِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَالْقَادِرُ عَلَى ثَمَنِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فِي الْحَجِّ، وَالْقَادِرُ عَلَى صَدَاقِ الْحُرَّةِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْقَادِرُ عَلَى ثَمَنِ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الْقَادِرِ عَلَى الْمَاءِ فَلَزِمَهُ شِرَاؤُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ.
(فَصْلٌ: هل يلزمه قبوله إذا وهب له؟)
وَأَمَّا إِذَا وُهِبَ لَهُ الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الطَّهَارَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إِذَا كَانَ عَادِمًا؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَلَيْسَ كَقَبُولِ الْمَالِ فِي الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ مُبَاحٌ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي قَبُولِهِ مُكَافَأَةٌ وَالْمَالُ بِخِلَافِهِ لِمُشَاحَّةِ النَّاسِ فِيهِ، وَلُزُومِ الْمُكَافَأَةِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يستطعم الطعام.
فإن قيل: وَاسْتَعْمَلَهُ وَصَلَّى فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ، وَإِنْ لَمْ يقبله تيمم وَصَلَّى، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَوْجُودًا فِي يَدِ وَاهِبِه حِينَ وَهَبَهُ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَالْإِعَادَةُ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْمَاءِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ لَا يَمْلِكُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَعْدُومًا حِينَ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَفِي وُجُوبِ الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْمَاءِ فِي حَالِ تَيَمُّمِهِ.
(فَصْلٌ: حُكْمُ إِعَادَةِ مَنْ كان معه ماء فوهبه وتيمم وصلى)
فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ فَوَهَبَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ وَهَبَ الْمَاءَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ وَهَبَهُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ فَرْضَ الطَّهَارَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَهَبَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَفِي الْإِعَادَةِ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا إعادة عليه.(1/289)
(فَصْلٌ: مَنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ يَخَافُ الْعَطَشَ لو استعمله تيمم)
إِذَا كَانَ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ أَنْ يَشْرَبَهُ وَيَخَافُ الْعَطَشَ إِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي طَهَارَتِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِعْمَالُهُ لِحِرَاسَةِ نَفْسِهِ، وَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِدَابَّتِهِ، وَخَافَ الْعَطَشَ عَلَيْهَا، لَا عَلَى نَفْسِهِ، أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ أَيْضًا لِمَا فِي استعماله من تعذيب ذات كبد حرا، وَمَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ تَلَفٍ وَذَهَابِ مَرْكُوبِهِ، فلو كان معه إنا آن مِنْ مَاءٍ أَحَدُهُمَا: طَاهِرٌ، وَالْآخَرُ: نَجِسُّ، وَهُوَ خَائِفُ الْعَطَشِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الطَّاهِرِ، فَإِنِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ جَازَ أَنْ يَشْرَبَ النَّجِسَ، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَإِنِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ شَرِبَ الطَّاهِرَ وَحُرِّمَ عَلَيْهِ شُرْبُ النَّجِسِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ جَازَ شُرْبُ النَّجِسِ؛ لِأَنَّ الطَّاهِرَ قَدْ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلطَّهَارَةِ فَمُنِعَ مِنْ شُرْبِهِ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الطَّهَارَةِ.
(فَصْلٌ إِذَا حَالَ بَيْنَهُ وبين الماء شيء)
إِذَا عَلِمَ بِمَاءٍ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبُعٌ أَوْ خَافَ مِنَ الذَّهَابِ إِلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ خَافَ عَلَى مَا يَخْلُفُهُ مِنْ رَحْلِهِ، أَوْ خَافَ فَوَاتَ وَقْتِهِ أَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَكَانَ فِي حُكْمِ الْعَاجِزِ عَنِ الْمَاءِ، فَلَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي بِئْرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى نُزُولِهَا إِلَّا بِمَشَقَّةٍ عَلَيْهِ، أَوْ تَغْرِيرٍ بِالنَّفْسِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَنْزِلَهَا، وَأَجْزَأَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى نُزُولِهَا، بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ لَزِمَهُ ذَاكَ، وَلَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ فَلَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَائِهَا إِلَّا بِشِرَاءِ دَلْوٍ، أَوْ حَبْلٍ لَزِمَهُ ذَاكَ إِذَا وَجَدَهُ، وَقَدَرَ عَلَى ثَمَنِهِ، وَكَانَ بِقَدْرِ ثَمَنِ الْمَاءِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَلَوْ وَجَدَ مَنْ يُعِيرُهُ دَلْوًا وَحَبْلًا لَزِمَهُ اسْتِعَارَتُهُ مِنْهُ إِنْ كَانَ ثمن بقدر الْمَاءِ، وَهَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِعَارَتُهُ إِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَةَ مَضْمُونَةٌ.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْحَالِ سَلَامَةُ الْعَارِيَةِ، وَإِمْكَانُ رَدِّهَا، فَلَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَاءِ الْبِئْرِ إِلَّا بِبَلِّ ثَوْبٍ يُوكِسُ قِيمَتَهُ إِنْ بَلَّهُ فِيهِ، جَازَ، وَإِنْ نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ بَعْدَ بَلِّهِ بِقَدْرِ ثَمَنِ الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَبُلَّهُ فِيهِ، وَإِنْ نَقَصَ أَكْثَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَلَوْ عَلِمَ وَهُوَ عَادِمٌ لِلْمَاءِ أَنَّهُ إِنْ حَفَرَ مَوْضِعَهُ وَصَلَ إِلَى الْمَاءِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ يَصِلُ إِلَى الْمَاءِ بِحَفْرٍ قَرِيبٍ لَا يَلْحَقُ فِيهِ مَشَقَّةٌ لَزِمَهُ ذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ كَمَا يَلْزَمُهُ تَنْقِيَةُ بِئْرٍ وَإِصْلَاحُ سَيْلٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إِلَّا بِحَفْرٍ بَعِيدٍ يَلْحَقُهُ فِيهِ مَشَقَّةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ، وَأَجْزَأَهُ التيمم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَلَوْ كَانَ مَعَ رجلٍ ماءٌ فَأَجْنَبَ رجلٌ وَطَهُرَتِ امرأةٌ مِنْ(1/290)
حيضٍ، وَمَاتَ رجلٌ وَلَمْ يَسَعْهُمُ الْمَاءُ كَانَ الْمَيِّتُ أَحَبَّهُمْ إِلَى أَنْ يَجُودُوا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ ويتيمم الحيان؛ لأنهما قد يقدرا عَلَى الْمَاءِ، وَالْمَيِّتُ إِذَا دُفِنَ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى غُسْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْمَيِّتِ ماءٌ فَهُوَ أَحَقُّهُمْ بِهِ، فَإِنْ خَافُوا الْعَطَشَ شَرِبُوهُ وَيَمَّمُوهُ وَأَدَّوْا ثَمَنَهُ فِي مِيرَاثِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: فِي ثَلَاثَةٍ جَمَعَهُمُ السَّفَرُ، وَلَزِمَهُمُ الْغُسْلُ وَهُمْ جُنُبٌ وَحَائِضٌ وَمَيِّتٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَجِدُوا مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِمْ جَمِيعَهُمْ فَعَلَى الْحَيَّيْنِ أَنْ يُغَسِّلَا الْمَيِّتَ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا كَانَ فَرْضُ غُسْلِهِ عَلَى الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً كَانَ فَرْضُ غُسْلِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ الْحَيَّانِ بَعْدَ غُسْلِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ قَدَّمَا غُسْلَ أَنْفُسِهِمَا جَازَ ثُمَّ يُصَلِّيَانِ عَلَى الميت ويدفناه.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَجِدُوا مِنَ الْمَاءِ شيئاً فعليهما أن يومما الْمَيِّتَ، وَيَتَيَمَّمَا لِأَنْفُسِهِمَا وَيُصَلِّيَا عَلَى الْمَيِّتِ، وَيَدْفِنَاهُ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَجِدُوا مِنَ الْمَاءِ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمْ لَا غَيْرَ، فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ عَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ بَلْ وَجَدُوهُ مُبَاحًا أَوْ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ إِنْسَانٌ وَقَالَ يَسْتَعْمِلُ هَذَا الْمَاءَ أَحَدُكُمْ، فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَيِّتُ أَوْلَاهُمْ بِهِ، وَأَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجُودُوا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ لِمَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ هِيَ خَاتِمَةُ أَمْرِهِ، وَلَيْسَ يُقْدَرُ عَلَى غُسْلِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ، وَلَيْسَ طَهَارَةُ الْحَيَّيْنِ خَاتِمَةَ أَمْرِهِمَا، وَهُمَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ تَيَمُّمِهِمَا.
وَالثَّانِي: بِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَيِّتِ تطيباً لَا مَحَالَةَ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَطَهَارَةُ الْحَيِّ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى بِالتَّيَمُّمِ كَأَدَائِهَا بِالْمَاءِ.
فَلَوْ كَانَ بِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ نَجَاسَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْمَيِّتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ صَاحِبِ النَّجَاسَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فِي أَنَّهَا خَاتِمَةُ أَمْرِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ صَاحِبَ النَّجَاسَةِ أَوْلَى بِهِ عَلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ مَعَ النَّجَاسَةِ لَا يُسْقِطُ تَيَمُّمَهُ، فَلَوْ أَنَّ الْوَاجِدَ لِلْمَاءِ جُنُبٌ وَحَائِضٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَيِّهِمَا أَوْلَى بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ طهارته بالنص.(1/291)
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَائِضَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ حَدَثَهَا أَغْلَظُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ. فَلَوْ أَنَّ الْوَاجِدَ لِلْمَاءِ جُنُبٌ وَمُحْدِثٌ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَكْفِي الْمُحْدِثَ، وَلَا يَكْفِي الْجُنُبَ فَالْمُحْدِثُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ فِيهِ تَكْمِيلَ طَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ يَكْفِي الْجُنُبَ وَلَا يَفْضُلُ مِنَ الْحَدَثِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ أَغْلَظُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ يَكْفِي الْجُنُبَ وَيَفْضُلُ مِنَ الْمُحْدِثِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى لِغِلَظِ حَدَثِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُحْدِثَ أَوْلَى لِبَقَاءِ بَعْضِ الْمَاءِ بَعْدَ طَهَارَتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ وَهَذَا الَّذِي وَصَفْنَا طَرِيقُهُ الْأَوْلَى، فَلَوْ تَغَلَّبَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ عَلَى الْمَاءِ فَاسْتَعْمَلَهُ دُونَ الْمَيِّتِ، أَوْ غَلَبَ مَنْ لَيْسَ بِأَوْلَى عَلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى كَانَ مُسِيئًا وَطَهَارَتُهُ مُجْزِئَةٌ.
(فَصْلٌ: لَوْ كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فمن أحق به؟)
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ، كَانَ مَالِكُ الْمَاءِ أَحَقَّهُمْ بِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجُودُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتُصَّ بِوُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ عَلَى مَا مَضَى فِيمَنْ وَهَبَ مَا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ وَجَبَ عَلَى أَحَدِ الْحَيَّيْنِ أَنْ يَغْسِلَهُ بِهِ، فَإِنِ احْتَاجَ الْحَيَّانِ إِلَى شُرْبِهِ وَخَافَا الْعَطَشَ كَانَ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا مَاءَ الْمَيِّتِ فَيَشْرَبَاهُ وَيُؤَدِّيَا ثَمَنَهُ فِي مِيرَاثِهِ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَ لَهُمَا مُغَالَبَةُ الْحَيِّ عَلَى مَائِهِ، عِنْدَ خَوْفِ الْعَطَشِ كَانَ لَهُمَا ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ لِحِرَاسَةِ أَنْفُسِهِمَا، وَعَلَيْهِمَا ثَمَنُ ذَلِكَ وَقْتَ أَخْذِهِ مِنَ الْمَيِّتِ، لَا فِي غَالِبِ أَحْوَالِ السَّلَامَةِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ فِي شِرَاءِ الْمَاءِ، لِأَنَّ الَّذِي يَلْزَمُهُمَا فِيهِ قِيمَتُهُ مُتْلَفٌ، فَاعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ بِوَقْتِ الْإِتْلَافِ فَلَوْ لَمْ يَحْتَاجَا إِلَى شُرْبِهِ وَغَسَّلَا بِهِ الْمَيِّتَ وَبَقِيَ مِنْهُ بَعْدَ غُسْلِهِ بَقِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْحَيَّيْنِ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ مُغَالَبَةُ الْحَيِّ عَلَى فَضْلِ مَائِهِ؛ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ مَا بَقِيَ مِنْ مَاءِ الْمَيِّتِ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ، فَلَوْ كَانَ مَاءُ الْمَيِّتِ لَا يَكْفِيهِ لِغَسْلِ جَمِيعِ بَدَنِهِ فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ يَغْتَسِلُ بِهِ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ ثُمَّ يُوَمَّمُ لِمَا بَقِيَ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: يَقْتَصِرُ بِهِ عَلَى التَّيَمُّمِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ أَحَدَ الْحَيَّيْنِ غَسَّلَ بِهِ الْمَيِّتَ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ، فِي تَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِهِ مَا لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أعلم.(1/292)
(باب ما يفسد الماء)
قال الشافعي رضي الله عنه: " إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ نُقْطَةُ خمرٍ أَوْ بولٍ أَوْ دمٍ أَوْ أَيِّ نجاسةٍ كَانَتْ مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ فَسَدَ الْمَاءُ، وَلَا تُجْزِئُ بِهِ الطَّهَارَةُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ النَّجَاسَةَ ضَرْبَانِ ضَرْبٌ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ، وَضَرْبٌ لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ، فَأَمَّا مَا لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فَمِثْلُ الْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَالْغَائِطِ، فَتَوَقِّي يَسِيرِهِ وَكَثِيرِهِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ يدركه الطرف فإن كان مما يدركها الطَّرْفُ، فَقَدْ نَجُسَ مِمَّا حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ النَّجَاسَةُ الْمُرِيبَةُ قَلَّتِ النَّجَاسَةُ أَوْ كَثُرَتْ وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ بَدَنٍ أَوْ حَصَلَتْ فِي مَاءٍ قَدْرُهُ أَقَلُّ مِنْ قُلَّتَيْنِ.
وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ كَذُبَابٍ سَقَطَ عَلَى نَجَاسَةٍ فَاحْتَمَلَ بِأَرْجُلِهِ وَأَجْنِحَتِهِ فِيهَا مَا لَا يُرَى وَلَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لِقِلَّتِهِ، ثُمَّ سَقَطَ فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى ثَوْبٍ فَدَلِيلُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ هَا هُنَا أَنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَوْ أَيِّ نَجَاسَةٍ كَانَتْ مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ فَقَدْ فَسَدَ الْمَاءُ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ مَفْهُومًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ: وَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ غائطٌ أَوْ بولٌ أَوْ خمرٌ وَاسْتَيْقَنَهُ أَدْرَكَهُ الطَّرْفُ أَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ فَعَلَيْهِ غَسْلُهُ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَوْضِعُ ذَلِكَ غَسَلَهُ كُلَّهُ، وَقَالَ في موضع آخر، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْأُمِّ: وَإِذَا وَقَعَ الذباب على بول أو خلا رَقِيقٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى ثَوْبٍ غُسِلَ مَوْضِعُهُ وَسَوَّى فِي تَنْجِيسِ الثَّوْبِ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ بَيْنَ مَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ أَوْ لَا يُدْرِكُهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، لِأَجْلِ اخْتِلَافِ هَذَا النَّقْلِ عَلَى أَرْبَعِ طُرُقٍ.
إِحْدَاهُنَّ: وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْهُمْ إِنْ حَمَلُوا كَلَامَ الشَّافِعِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَقَالُوا إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجَّسُ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَهُوَ دَلِيلُهُ مَا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ فِي الْمَاءِ هَا هُنَا، وَأَنَّ الثَّوْبَ ينجس بما لا يدركه الطرف، كما ينص بما لا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي الثَّوْبِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْإِمْلَاءِ وَكِتَابِ الْأُمِّ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنْ قَالُوا: إِنَّ الْمَاءَ أَقْوَى حُكْمًا فِي رَفْعِ النَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الثَّوْبِ لِأَمْرَيْنِ:(1/293)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّوْبُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدْفَعُ كَثِيرَ النَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا كَثُرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّوْبُ.
فَكَذَلِكَ نَجُسَ الثَّوْبُ بِمَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، أَوْ لَا يُدْرِكُهُ، وَلَمْ يُنَجَّسِ الْمَاءُ إِلَّا بِمَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ دُونَ مَا لَا يُدْرِكُهُ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ جَمِيعًا يُنَجَّسَانِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ وَيَكُونُ دَلِيلُ خِطَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَاءِ مَتْرُوكًا بِصَرِيحِ نَفْسِهِ فِي الثوِبِ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ قَوْلِهِ فَكَانَتْ مِمَّا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ - يَعْنِي - إِذَا كَانَتْ مُتَيَقَّنَةً، وَلَمْ يَكُنْ مَشْكُوكًا فِيهِ فَعَبَّرَ بِإِدْرَاكِ الطَّرْفِ عَنِ الْيَقِينِ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ فِي تَنْجِيسِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ قَوْلَيْنِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ كَلَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ مَعًا يُنَجَّسَانِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنَ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يُمْكِنُ التحرز عنها فَاقْتَضَى أَنْ يُنَجَّسَ بِهَا مَا لَاقَاهَا قِيَاسًا عَلَى مَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَهَذَا صَرِيحُ نَصِّهِ في الثوب أَنَّ الْمَاءَ وَالثَّوْبَ طَاهِرَانِ مَعًا لَا يُنَجَّسَانِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَشْعُرُ التَّحَرُّزَ مِنْهَا وَإِنْ أَمْكَنَ فَشَابَهَتْ دَمَ الْبَرَاغِيثِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، وَهَذَا دَلِيلُ نَصِّهِ فِي الْمَاءِ.
وَالطَّرِيقَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمَاءَ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنَ الثَّوْبِ فَيَكُونُ الْمَاءُ نَجِسًا، وَهَلْ يُنَجَّسُ الثَّوْبُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الثَّوْبَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْ حُلُولِ هَذِهِ النَّجَاسَةِ فِيهِ لِبُرُوزِهِ، وَالْمَاءُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْ حُلُولِهَا فِيهِ بِتَخْمِيرِ إِنَائِهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ رَأَى إِنَاءً مُخَمَّرًا: مَنْ خَمَّرَهُ؟ فَقِيلَ ابْنُ عباسٍ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ ".
وَالثَّانِي: أَنَّ يَسِيرَ دَمِ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْهُ فِي الثَّوْبِ وَلَا يُعْفِي عَنْهُ فِي الْمَاءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الثَّوْبِ أَخَفَّ مِنْ حُكْمِ الْمَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الذُّبَابَ إِذَا طَارَ عَنِ النَّجَاسَةِ جَفَّتْ قَبْلَ سُقُوطِهِ عَلَى الثَّوْبِ فَصَارَ تَنْجِيسُهُ(1/294)
بِهَا شَكًّا، وَإِذَا سَقَطَ فِي الْمَاءِ انْحَلَّتْ فَصَارَ تَنْجِيسُهُ بِهَا يَقِينًا، وَأَصَحُّ هَذِهِ الطُّرُقِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ النَّصَّ مِنَ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِيهَا وَالْحِجَاجُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ يُوجِبُهَا.
(فَصْلٌ: يَسِيرُ الدَّمِ وَكَثِيرُهُ المعفو عنه وضابطه)
وَأَمَّا الْمَعْفُوُّ عَنْ يَسِيرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ فَدَمُ الْبَرَاغِيثِ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَيْهِ، وَتَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ الدِّمَاءِ فَفِي الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ قَوْلَانِ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْجَدِيدِ.
أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا قِيَاسًا عَلَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَإِنَّ تَمْيِيزَ الدِّمَاءِ شَاقٌّ فَعَلَى هَذَا مَاءُ الْقُرُوحِ أَوْلَى بِالْعَفْوِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى الْبَوْلِ، وَخَالَفَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ عَامٌّ وَغَيْرُهُ مِنَ الدِّمَاءِ خَاصٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ مُتَعَذِّرٌ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الدِّمَاءِ مُمْكِنٌ فَعَلَى هَذَا فِي الْعَفْوِ عَنْ مَاءِ الْقُرُوحِ وَجْهَانِ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ دَمِ الْبَرَاغِيثِ وَغَيْرِهِ.
أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ.
وَالثَّانِي: لَا يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ، وقال أبو العباس ابن سُرَيْجٍ فِيمَا سِوَى دَمِ الْبَرَاغِيثِ مَذْهَبًا ثَالِثًا: وَهُوَ أَنَّ دَمَ نَفْسِهِ مَعْفُوٌّ عَنْ يَسِيرِهِ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ مُتَعَذَّرٌ، وَدَمُ غَيْرِهِ غَيْرُ معفو عن يسيره؛ لأن التحرز منه متعذر فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حَالِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حَدِّ الْيَسِيرِ فِيهَا، أَمَّا دَمُ الْبَرَاغِيثِ فَيَسِيرُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ حدٍّ، وَلَا تَقْدِيرٍ فَمَا كَانَ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ يَسِيرًا كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَمَا كَانَ فِي الْعُرْفِ يَسِيرًا فَاحِشًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، أَمَّا غَيْرُهُ فِي الدِّمَاءِ وَمَاءِ الْقُرُوحِ فَفِي الْيَسِيرِ مِنْهَا قَوْلَانِ حُكِيَا عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِعُرْفِ النَّاسِ أَيْضًا كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْدُودٌ بِقَدْرِ الْكَفِّ. فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ يَسِيرِ مَا يُعْفَى عَنْهُ وَبَيْنَ كَثِيرِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ، فَأَمَّا إِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَغَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ فِي الْمَاءِ مُمْكِنٌ، وَإِنَّمَا التَّحَرُّزُ مِنْهُ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مُتَعَذَّرٌ.(1/295)
(مسألة)
: قال الشافعي: " وإن توضأ رجلٌ ثم جمع وضوءه فِي إناءٍ نظيفٍ ثُمَّ تَوَضَّأَ بِهِ أَوْ غيره لم يجزه لأنه أدى به الوضوء الفرض مرةً وليس بنجسٍ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توضأ ولا شك أن من بلل الوضوء ما يصيب ثيابه ولا نعلمه غسله ولا أحداً من المسلمين فعله ولا يتوضأ به لأن على الناس تعبداً في أنفسهم بالطهارة من غير نجاسةٍ وليس على ثوبٍ ولا أرضٍ تعبد ولا أن يماسه ماءٌ من غير نجاسةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الطَّهَارَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: ضَرْبٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي رَفْعِ حَدَثٍ وَضَرْبٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ، وَضَرْبٍ مُسْتَعْمَلٍ فِي أَمْرِ ندبٍ، فَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ فَهُوَ مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ فِي وُضُوئِهِ، أَوْ مِنْ بَدَنِ الْجُنُبِ فِي غُسْلِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ جميع أصحابه سماعاً، وروايةً أنه طاهر مُطَهِّرٍ، وَحَكَى عِيسَى بْنُ أَبَانٍ فِيمَا جَمَعَ مِنَ الْخِلَافِ عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَ الطَّهَارَةِ بِهِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنْهُ فَتَوَقَّفَ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ يُخَرِّجَانِ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَنَقَلَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي ثَوْرٍ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْنَعَانِ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ وَيَعْدِلَانِ عَنْ رِوَايَةِ عِيسَى، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَهُوَ مُخَالِفٌ يَحْكِي مَا يَحْكِيهِ أَصْحَابُ الْخِلَافِ وَلَمْ يَلْقَ الشَّافِعِيَّ فَيَحْكِيَهُ سَمَاعًا مِنْ لَفْظِهِ وَلَا هُوَ مَنْصُوصُهُ فَيَأْخُذَ مِنْ كُتُبِهِ وَلَعَلَّهُ تَأَوَّلَ كَلَامَهُ فِي نُصْرَةِ طَهَارَتِهِ رَدًّا عَلَى أبي يوسف، فَحَمَلَهُ عَلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ، وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ دليلاً لِأَنَّ التَّوَقُّفَ لَا يَكُونُ مَذْهَبًا وَلَعَلَّ تَوَقُّفَهُ عَنِ الْجَوَازِ إِنَّمَا كَانَ اعَتِمَادًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي كُتُبِهِ وَلَعَمْرِي إِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ أَصَحُّ الطَّرِيقَتَيْنِ مِنْ تَخْرِيجِ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَصَارَ الْمَذْهَبُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ ومحمد بن الحسن، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، وَقَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف هُوَ نَجِسٌ،(1/296)
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءُ طَهُوراً} (الفرقان: 48) وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةَ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ التَّطْهِيرُ كَمَا ثَبَتَ لِلْقَاتِلِ اسْمُ الْمَقْتُولِ إِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْقَتْلُ، وَبِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اغْتَسَلَ فَبَقِيَ عَلَى مَنْكِبِهِ لمعةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَعَصَرَ شَعْرَهُ وَأَمَرَّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَرَوَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ رَأْسَهُ بِفَضْلِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ بَلَلَ لِحْيَتِهِ فَمَسَحَ بِهَا رَأْسَهُ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا نُصُوصٌ فِي جَوَازِ الطَّهَارَةِ بِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهُورَ إِذَا لَاقَى طَاهِرًا لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُطَهِّرًا قِيَاسًا عَلَى الْجَارِي عَلَى أَعْضَائِهِ تَبَرُّدًا، أَوْ تَنَظُّفًا، قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ صِفَتَيْنِ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ، فَلَمَّا لَمْ يَسْلُبْهُ الِاسْتِعْمَالُ الطَّهَارَةَ لَمْ يَسْلُبْهُ التَّطْهِيرَ، وَتَحْرِيرُهُ إِنَّ كُلَّ صِفَةٍ كَانَتْ لِلْمَاءِ قَبْلَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ الطَّاهِرَةِ كَانَتْ لَهُ بَعْدَ مُلَاقَاةِ الْأَعْضَاءِ الطَّاهِرَةِ، قِيَاسًا عَلَى الطَّهَارَةِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الشُّرُوطَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي أداء الطهارة لا يمنع استعمالها كرة مِنْ تَكْرَارِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ كَالْأَرْضِ وَالثَّوْبِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ رَفْعَ الْحَدَثِ بِالْمَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِهِ ثَانِيًا بِذَلِكَ الْمَاءِ، أَصْلُهُ: إِذَا جَرَى عَلَى الْبَدَنِ مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) {المائدة: 6) فَأَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ بِمَا أَمَرَ بِهِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فَلَمَّا كَانَ غَسْلُ الْوَجْهِ بِمَاءٍ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِمَاءٍ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى أَنْ نَتَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الَّذِي يَسْبِقُ إِلَيْهِ الْجُنُبُ، وَكَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى مَا سَبَقَ الْجُنُبُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَلِأَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.
وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِجْمَاعُهُمْ عَلَى مَنْ قَلَّ مَعَهُ الْمَاءُ فِي سَفَرِهِ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالَ إِرَاقَةٍ وَإِتْلَافٍ وَلَوْ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ ثَانِيَةً لَمَنَعُوهُ من إراقته في الاستعمال ولا لزموه جمع ذلك لطهارة ثَانِيَةً.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَجَدَ بَعْضَ مَا يَكْفِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَصِرُ على التيمم ولا يستعمله.
والثاني: أن يَسْتَعْمِلُهُ وَيَتَيَمَّمُ لِبَاقِي بَدَنِهِ، وَلَوْ جَازَ اسْتِعْمَالُ الْمُسْتَعْمَلِ لَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي بَعْضِ بَدَنِهِ ثُمَّ أَعَادَ اسْتِعْمَالَهُ فِي بَاقِي بَدَنِهِ فَيَكْمُلُ لَهُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ فَظَهَرَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَأَمَّا(1/297)
الدَّلَالَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ غَيْرُ مُطَهِّرَةٍ، وَالْمَاءُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي تَطْهِيرِ الْأَعْضَاءِ انْتَقَلَتْ صِفَةُ الْمَنْعِ إِلَى الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّى عَنْهُ التَّطْهِيرُ زَالَ عَنْهُ التَّطْهِيرُ، كَمَا لَوْ تَعَدَّتْ عَنْهُ الطَّهَارَةُ جَازَ أَنْ تَزُولَ عَنْهُ الطَّهَارَةُ، وَلِأَنَّهُ مَاءٌ أَدَّى بِهِ فَرْضَ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ، وَلِأَنَّهُ إِتْلَافُ مَالٍ فِي إِسْقَاطِ فَرْضٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ فِي إِسْقَاطِ مِثْلِ ذَلِكَ الْفَرْضِ، قِيَاسًا عَلَى الْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادَ ثَانِيَةً فِي كَفَّارَةٍ.
فأما الجواب عن قوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) {المائدة: 6) فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِيهِ قَبْلَ وُجُودِ التَّطْهِيرِ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَكْرَارِ التَّطْهِيرِ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَسَلَ لُمْعَةً فِي مَنْكِبِهِ بِمَا عَصَرَهُ مِنْ شَعْرِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ مَا انْفَصَلَ عَنِ الْعُضْوِ، وَمَا عَلَيْهِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَرَى إِلَى عُضْوٍ آخَرَ طَهَّرَهُ فَكَذَا إِذَا جَرَى مِنْ شَعْرِهِ عَلَى مَنْكِبِهِ طَهَّرَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَسْلِهِ ثَانِيَةً وَمَاؤُهُمَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ مَسْحِ رَأْسِهِ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَزِيَادَةُ جَوَابٍ ثَالِثٍ وَهُوَ أَنَّ مَا اسْتَرْسَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ لَا يَلْزَمُ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَكَانَ مَا حَصَلَ فِي غَسْلِهَا غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فَجَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَبَرُّدٍ أَوْ تَنَظُّفٍ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ عَنِ التَّطْهِيرِ فَلَمْ يَسْلُبْهُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَنِ الطَّهَارَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ تَأْثِيرًا فِي الطَّهَارَةِ جَازَ أَنْ لَا يَزُولَ عَنْهُ صِفَةُ الطَّهَارَةِ وَلَمَّا كَانَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي التَّطْهِيرِ زَالَتْ عَنْهُ صِفَةُ التَّطْهِيرِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى التُّرَابِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ، فَجَازَ أَنْ يُعَادَ كَالطَّعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ وَالْمَاءُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِتْلَافِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَادَ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَا انْحَدَرَ مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَلَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا.(1/298)
(فَصْلٌ: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى نجاسة المستعمل)
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى نَجَاسَتِهِ فَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَلَا يَغْتَسِلْ مِنْهُ مِنْ جَنَابَتِهِ " فَجَمَعَ بَيْنَ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ وَالِاغْتِسَالِ فِيهِ، ثُمَّ كَانَ الْبَوْلُ سَبَبًا لِتَنَجُّسِهِ فَكَذَا الِاغْتِسَالُ بِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْمَاءِ صِفَتَيْنِ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ، فَلَمَّا زَالَ بِالِاسْتِعْمَالِ لَهُ فِي التَّطْهِيرِ، وَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِهِ الطَّهَارَةُ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ صِفَتَيِ الْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ بِالِاسْتِعْمَالِ كَالتَّطْهِيرِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي فَرْضِ طَهَارَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا كَالْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى طَهَارَتِهِ رِوَايَةُ شُعْبَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْهَاجِرَةِ فَدَعَا بماءٍ فَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ " وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَنَهَاهُمْ عَنْهُ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: اشْتَكَيْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَعُودُنِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ وَجَاءَا وَقَدْ أُغمي عَلَيَّ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أُوصِي فِي مَالِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي فَلَمْ يُجِبْنِي رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَوَارِيثِ ".
فَلَوْ كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الطَّهَارَةِ نَجِسًا لَمَا نَجَّسَ بِهِ جَابِرًا، وَمَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توضأ وأصحابه ولا شك إلا أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ ثَوْبَهُ وَثِيَابَهُمْ مِنْ بَلَلِهِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ، وَلَا عَنْ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ غَسَلَهُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَجِسًا لَغَسَلَهُ وَأَمَرَهُ بِغَسْلِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ اغْتَسَلَ حِينَ ذَكَرَ الْجَنَابَةَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَاءُ يَقْطُرُ مِنْ جُمَّتِهِ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَصَانَ الْمَسْجِدَ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ طَاهِرٌ لَاقَاهُ طَاهِرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، كَمَا لَوْ جَرَى عَلَى أَعْضَائِهِ تَبَرُّدًا أَوْ تَنَظُّفًا، وَلِأَنَّ الطَّاهِرَ لَا يَصِيرُ نَجِسًا إِلَّا أَنْ يُلَاقِيَ نَجِسًا أَوْ يَنْتَقِلَ عَنْ صِفَةٍ فَيَصِيرُ نَجِسًا كَالْعَصِيرِ الَّذِي يَصِيرُ خَمْرًا، وَالْبَيْضِ الَّذِي يَصِيرُ مَذِرَةً، وَالْحَيَوَانُ يَمُوتُ(1/299)
فَيَصِيرُ نَجِسًا، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَمْ يُلَاقِ نَجِسًا ولا يَتَغَيَّرْ عَنْ صِفَتِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ نَجِسًا، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا جَازَ عِنْدَكُمْ أَنْ يَلْتَقِيَ النَّجِسَانِ فَيَطْهُرَا جَازَ أَنْ يَلْتَقِيَ الطَّاهِرَانِ فَيَنْجُسَا، قِيلَ: وَلِمَ صَارَا كَذَلِكَ؟ وَمَا الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْتِقَاءُ النَّجِسَيْنِ مُوجِبًا لِلطَّهَارَةِ، كَانَ الْتِقَاءُ الطَّاهِرَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُوجِبَ الطَّهَارَةَ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: " وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ " زِيَادَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنْ طَرِيقٍ، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ مَحْمُولَةً عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، وَلَا يَغْتَسِلُ مِنْهُ بَعْدَ التَّبَوُّلِ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِعْمَالِ قَدْ صَارَ مَسْلُوبَ التَّطْهِيرِ دُونَ الطَّهَارَةِ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَمَّا سَلَبَهُ الِاسْتِعْمَالُ إِحْدَى صِفَتَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَسْلُبَهُ الصِّفَةَ الْأُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْمَاءِ إِذَا خَالَطَهُ مَائِعٌ، فَإِنَّهُ يَسْلُبُهُ التَّطْهِيرَ، وَلَا يَسْلُبُهُ الطَّهَارَةَ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي التَّطْهِيرِ أَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ جاز أن تزول عنه الطهارة، لما لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمُزَالِ بِهِ النَّجَاسَةُ قُلْنَا فِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ وَعِنْدَنَا عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ طَاهِرٌ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ لَوْ كَانَ نَجِسًا أَنَّهُ لَاقَى نَجِسًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ: ضَابِطُ الْمَاءِ المستعمل)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَهُوَ مَا انْفَصَلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ حَتَّى سَقَطَ فِي الْإِنَاءِ فَأَمَّا إِذَا جَرَى مِنْ عُضْوٍ إِلَى عُضْوٍ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ بِانْتِقَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَعْضَاءِ حَدَثِهِ مُسْتَعْمَلًا فَإِذَا انْتَقَلَ إِلَى عُضْوٍ آخَرَ لَمْ يُطَهِّرْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَدَثِ قَدْ يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَهَلْ يَصِيرُ بِانْتِقَالِهِ عَنِ الْعُضْوِ إِلَى غَيْرِهِ مُسْتَعْمَلًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أحدهما: أنه صَارَ مُسْتَعْمَلًا فَلَا يَرْفَعُ جَنَابَةَ الْعُضْوِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ كَالْمُحْدِثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِانْتِقَالِهِ إِلَى الْعُضْوِ الثَّانِي حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْ جَمِيعِ الْجَسَدِ؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْجُنُبِ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ مِنْ أَعْضَاءِ الْمُحْدِثِ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِيهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْعُضْوَ الْوَاحِدَ إِذَا انْتَقَلَ الْمَاءُ مِنْ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى عَمَّ جَمِيعَهُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْهُ كَذَلِكَ فِي بَدَنِ الْجُنُبِ، فَلَوْ غَسَلَ الْمُحْدِثُ رَأْسَهُ كَانَ فِيمَا سَقَطَ عَنْ رَأْسِهِ مِنَ الْمَاءِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي الرَّأْسِ مَسْحُهُ بِالْبَلَلِ الْبَاقِي عليه فلم يصير الْفَاضِلُ مِنْ غَسْلِهِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِبَعْضِ الْمَاءِ إِذَا حَصَلَ مُتَعَدِّيًا بِالِاسْتِعْمَالِ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ يَكْفِيهِ مُدٌّ(1/300)
لِوُضُوئِهِ لَوِ اسْتَعْمَلَ صَاعًا فَصَارَ الصَّاعُ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ كَانَ بِبَعْضِهِ مُكْتَفِيًا كَذَلِكَ فِي غَسْلِ الرَّأْسِ بَدَلًا مِنْ مَسْحِهِ.
(فَصْلٌ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ إذا بلغ قلتين)
فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قُلَّتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ وَقْتَ اسْتِعْمَالِهِ كَجُنُبٍ اغْتَسَلَ فِي قُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ، وَخَارِجٌ عَنْ حُكْمِ الْمُسْتَعْمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَفْعُ الْحَدَثِ بِهِ بِأَغْلَظَ مِنْ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إِذَا كَانَ قُلَّتَيْنِ لا يغير حكمه ما لم يَتَغَيَّرُ فَكَذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ وَقْتَ الِاسْتِعْمَالِ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ ثُمَّ جُمِعَ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ قُلَّتَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ يصير مطهر أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ لِقِلَّتِهِ مَعَ طَهَارَتِهِ، فَلَمْ يَنْتَفِ عَنْ كَثِيرِهِ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ يَصِيرُ مُطَهِّرًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ أَغْلَظُ فِي الِاسْتِعْمَالِ مِنَ الْحَدَثِ فَلَمَّا كَانَ جَمْعُ الْقَلِيلِ حَتَّى يَصِيرَ كَثِيرًا يَنْفِي عَنْهُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ.
(فَصْلٌ)
: ثُمَّ إِذَا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ بِهِ الْإِنْجَاسُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ؛ لِأَنَّ لِلْمَاءِ حُكْمَيْنِ فِي التَّطْهِيرِ.
أَحَدُهُمَا: فِي رَفْعِ الْحَدَثِ.
وَالثَّانِي: فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ، فَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ رَفْعُ الْحَدَثِ لَمْ يَسْقُطِ الْحُكْمُ الْآخَرُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ، قِيلَ لَهُمْ: فَعَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ يَلْزَمُكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا اسْتُعْمِلَ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَقُولُ بِذَلِكَ، وَالْتَزَمَ هَذَا السُّؤَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَقُولُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إِزَالَةَ النَّجَسِ أَغْلَظُ مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْأَغْلَظُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَخَفِّ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْأَخَفُّ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَغْلَظِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِالِاسْتِعْمَالِ مَانِعًا مِنْ رَفْعِ الْحَدَثِ صَارَ كَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ الَّتِي لَا تُزِيلُ النَّجَسَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ التَّطْهِيرِ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بَاقِيًا أَوْ مُرْتَفِعًا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا صَحَّ فِي الطَّهَارَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُرْتَفِعًا زَالَ عَنِ الطهارتين.(1/301)
(فصل: الماء المستعمل في إزالة النجس)
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضُرُوبِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَهُوَ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ، أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ، فَهُوَ نجس لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ " وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّجَاسَةِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ بَاقِيَةً فِي مَحَلِّهَا أَوَ زَائِلَةً، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَالْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهَا نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ مَحَلٍّ نَجِسٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ زَالَتْ عَنْ مَحَلِّهَا بِالْمَاءِ حتى صار المحل طاهراً فذهب الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَاءَ الْمُنْفَصِلَ عَنْهَا طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي الْحَدَثِ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ نَجِسٌ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ مَاءٌ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا، كَمَا لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ قَالُوا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ يَسْلُبُهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ مِنَ التَّطْهِيرِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ يَسْلُبُهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالتَّطْهِيرِ وَدَلِيلُنَا عَلَى طَهَارَتِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في بول الأعرابي: " صبوا عليه ذنوبا من ماءٍ ". فَلَوْ لَمْ يَصِرِ الْمَاءُ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ طَاهِرًا لَكَانَ أَمْرُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ عَبَثًا، وَلِأَنَّ الْمَاءَ إِذَا وَرَدَ عَلَى التُّرَابِ النَّجِسِ كَانَ طَاهِرًا قَبْلَ انْفِصَالِهِ، وِفَاقًا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا بَعْدَ انْفِصَالِهِ حِجَاجًا إِذْ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ حَالٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ الِانْفِصَالِ، وَقَدْ يَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الاعتدال قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ لَاقَى مَحَلًّا نَجِسًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ لَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بِمُلَاقَاتِهَا لَمْ يَنْجَسْ بِمُفَارَقَتِهَا، كَالْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَا انْفَصَلَ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلَى مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا كَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ مَا انْفَصَلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ إِلَى مَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا وَكَانَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي رَفْعِ الْحَدَثِ هُوَ الْفَرْقُ الْمَانِعُ بَيْنَهُمَا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَكُونُ بِالْفِعْلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، فَوَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَالتَّنْجِيسُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَبِالْمُلَاقَاةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِي الْحَالَيْنِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ وَبَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ فِي تَنْجِيسِهِ فِي الْحَالَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ وَارِدٌ بَيْنَهُمَا من وجهين:(1/302)
أَحَدُهُمَا: السُّنَّةُ الْوَارِدَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا حَيْثُ أَمَرَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ وَلَوْ صَارَ نَجِسًا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَحَيْثُ نَهَى مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ النَّوْمِ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجَسُ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ، فَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّ وُرُودَ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ، لِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَنَّ وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ يُوجِبُ تَنْجِيسَهُ لِحَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنَ النَّوْمِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: مِنِ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى تَطْهِيرِ الْمَاءِ لِوُرُودِهِ عَلَى الْمَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ نَجِسًا لَمَا أَمْكَنَ تَطْهِيرُ نَجَاسَتِهِ عَنِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْمَاءَ نَجُسَ بِوُرُودِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَحُكِمَ بِطَهَارَتِهِ، وَلَيْسَتِ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إِلَى تَطْهِيرِ الْمَاءِ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ فَحُكِمَ بِتَنْجِيسِهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْلُبُ الْمَاءَ بِمَا خَالَفَهَا مِنَ الطَّهَارَةِ، وَالتَّطْهِيرِ فَهُوَ أَنَّ التَّطْهِيرَ صفة متعدية فجاز أن تَزُولَ عَنِ الْمَاءِ، وَالطَّهَارَةُ صِفَةٌ لَازِمَةٌ فَجَازَ أَنْ لَا تَزُولَ عَنِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَدِّيَ مُفَارِقٌ وَاللَّازِمَ مُقِيمٌ.
(فَصْلٌ)
: فَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ ثَوْبًا نَجِسًا طُرِحَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ مَا أَزَالَ أَثَرَ النَّجَاسَةِ عَنْهُ كَانَ الثَّوْبُ وَمَا احْتَمَلَهُ مِنَ الْمَاءِ، وَمَا فَضَلَ فِي الْإِنَاءِ طَاهِرًا كُلَّهُ، فَلَوْ عَصَرَ الثَّوْبَ فِي الْإِنَاءِ كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ قَبْلَ الْعَصْرِ طَاهِرًا مُسْتَعْمَلًا، وَلَوِ ابْتَدَأَ بِصَبِّ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ، ثُمَّ أَلْقَى الثَّوْبَ النَّجِسَ فِيهِ صَارَ الثَّوْبُ وَالْمَاءُ وَالْإِنَاءُ نَجِسًا كُلُّهُ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ وَفِي الْأَوَّلِ مَاءٌ وَرَدَ عَلَى نَجَاسَةٍ، فَلَوْ بَسَطَ الثَّوْبَ عَلَى رَأْسِ الْإِنَاءِ ثُمَّ أَرَاقَ الْمَاءَ عَلَيْهِ فَوَقَعَ عَلَى الثَّوْبِ، ثُمَّ نَزَلَ فِي الْإِنَاءِ طَهُرَ الْمَاءُ وَالثَّوْبُ إِذَا لَمْ يَبْقَ لِلنَّجَاسَةِ أَثَرٌ
(فَصْلٌ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرٍ مستحب)
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنْ ضُرُوبِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَهُوَ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي أَمْرِ نَدِبٍ، كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي تَجْدِيدِ الطَّهَارَةِ، وَغُسْلِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ فِي هَذَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَصِيرُ الْمَاءُ فِيهِ مُسْتَعْمَلًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا؛ لِأَنَّهُ تَطْهِيرٌ شَرْعِيٌّ فَشَابَهَ رَفْعَ الْحَدَثِ وُضُوءًا وَغُسْلًا، وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، وَأَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ(1/303)
يُسْتَعْمَلْ فِي تَطْهِيرٍ فَيَسْلُبُهُ الِاسْتِعْمَالُ حُكْمَ التَّطْهِيرِ فتشابه مَا اسْتُعْمِلَ فِي غَسْلِ ثَوْبٍ أَوْ إِنَاءٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ تَوَضَّأَ الْمُحْدِثُ مَرَّةً ثُمَّ جَمَعَ مَاءَ الْمَرَّةِ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَانِيَةً وَجَمَعَ مَاءَ الثَّانِيَةِ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ تَوَضَّأْ ثَالِثَةً وَجَمَعَ مَاءَ الثَّالِثَةِ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَابِعَةً وَجَمَعَ مَاءَ الرَّابِعَةِ فِي الإناء، كان ماء الأولة مستعملاً؛ لأن ماء الأولة مستعملاً لارتفاع الحدث بها، وماء الرابعة مطهراً؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَارِدٌ بِكَرَاهَتِهَا، وَفِي مَاءِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْوُضُوءِ ثَلَاثًا ندبٌ فلو أراق ماء الأولة على ماء الرابعة، فإن كان ماء الأولة أَكْثَرَ صَارَ الْكُلُّ مُسْتَعْمَلًا، فَإِنْ كَانَ مَاءُ الرَّابِعَةِ أَكْثَرَ صَارَ الْكُلُّ مُطَهِّرًا، فَأَمَّا النَّجَاسَةُ إِذَا غَسَلَهَا مِرَارًا فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
أحدها: أن تزول النجاسة بالمرة الأولة فَيَكُونُ مَاءُ الْأُولَى مُسْتَعْمَلًا.
وَفِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَجْهَانِ: لِأَنَّهَا نَدْبٌ وَمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ مُطَهِّرٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَزُولَ النَّجَاسَةُ بِمَاءِ المرة الثانية فيكون ماء الأولة نَجِسًا، وَمَاءُ الثَّانِيَةِ مُسْتَعْمَلًا، وَفِي مَاءِ الثَّالِثَةِ وَجْهَانِ، وَمَا بَعْدَهَا مُطَهِّرٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَزُولَ النَّجَاسَةُ إِلَّا بِمَاءِ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فيكون ماء الأولة وَالثَّانِيَةِ نَجِسًا، وَمَاءُ الثَّالِثَةِ مُسْتَعْمَلًا، وَمَا بَعْدَهَا مُطَهِّرٌ فَأَمَّا الْجُنُبُ إِذَا اغْتَسَلَ مَرَّةً فِي مَاءٍ قَلِيلٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ ثَانِيَةً فِي مَاءٍ قَلِيلٍ كَانَ الْمَاءُ الْأَوَّلُ مُسْتَعْمَلًا، وَالثَّانِي مُطَهِّرًا؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الثَّلَاثِ مَأْثُورٌ فِي الْوُضُوءِ وَالنَّجَاسَةِ، وَغَيْرُ مَأْثُورٍ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مسألة: الكلب إذا ولغ في إناء)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَقَدْ نَجِسَ الْمَاءُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُهْرِقَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، الْكَلْبُ نَجِسٌ، فَإِذَا وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ صَارَ وَمَا فِيهِ نَجِسًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ: الْكَلْبُ طَاهِرٌ فَإِذَا وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ كَانَ وَمَا فِيهِ طَاهِرًا، وَوَجَبَ غَسْلُهُ تَعَبُّدًا، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ والْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الِاصْطِيَادَ بِهِ فَقَالَ: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) {المائدة: 4) وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَأَفْسَدَ مَا صَادَهُ بِفَمِهِ، وَلَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ، وَبِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنِ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ إِنَّ الْكِلَابَ وَالسِّبَاعَ تَلِغُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَهَا مَا فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شرابٌ وطهورٌ " فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّبَاعِ فَلَمَّا كَانَ السَّبُعُ طَاهِرًا كَانَ مَا جُمِعَ إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ طَاهِرًا.(1/304)
وَالثَّانِي: إِنَّهُ جَعَلَ مَا بَقِيَ مِنْ شُرْبِهِ طَهُورًا، وَقَدْ يَكُونُ الْبَاقِي قَلِيلًا، وَيَكُونُ الْبَاقِي كثيراً، قالوا: ولأنه حيوان يجوز الاصطياد به فوجب أن يكون طاهراً كالفهد، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَوْتُ عَلَمًا عَلَى النَّجَاسَةِ كَانَتِ الْحَيَاةُ عَلَمًا عَلَى الطَّهَارَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَتِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهَا " فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ فِي جَمِيعِهِ عَامًّا، وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنِ ابْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ قَالَ مَا لَهُمْ وَلَهَا فَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ فَلَمَّا أَمَرَ بِقَتْلِهَا وَاجْتِنَابِهَا، وَرَخَّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِبَعْضِهَا كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى نَجَاسَتِهَا، وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يُغْسَلَ سَبْعَ مراتٍ الْأُولَى بِالْتُرَابِ " وَحُدُوثُ الطَّهَارَةِ فِي الشَّيْءِ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ تَقْدِيمِ نَجَاسَةٍ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَدْخُلُ عَلَى قومٍ فَامْتَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ: لِأَنَّ عِنْدَهُمْ كَلْبًا قِيلَ: فَإِنَّكَ تَدْخُلُ عَلَى فلانٍ وَعِنْدَهُمْ هِرٌّ فَقَالَ: إِنَهَا لَيْسَتْ بنجسةٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافَيْنِ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ " فَكَانَ تَعْلِيلُهُ لِلْهِرِّ أنها ليست بنجس دليل عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسٌ، وَيَدُلُّ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى مَعَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُ مَائِعٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِرَاقَتِهِ فوجب أن يكون نجساً كالخمر، لأنه غَسَلَ بِالْمَائِعَاتِ مَوْضِعَ الْإِصَابَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَسْلُ نَجَاسَتِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ؛ لِأَنَّ غُسْلَ التَّعَبُّدِ مُخْتَصٌّ بِالْأَبْدَانِ وَغَسْلَ الْأَوَانِي مُخْتَصٌّ بِالنَّجَاسَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلتَّعَبُّدِ لَمَا أُمِرَ بِإِرَاقَةِ الْمَائِعِ مَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَدْ يَكُونُ مَكَانَ الْمَاءِ مَا هُوَ أَكْثَرُ ثَمَنًا مِنَ الْمَاءِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِإِبَاحَةِ الِاصْطِيَادِ بِهِ فَهُوَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّجَسَ قَدْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالٍ كَالْمَيْتَةِ، وَأَمَّا مَوْضِعُ فَمِهِ مِنَ الصَّيْدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى نَجَاسَتِهِ وَتَفَرَّدَ بَعْضُهُمْ بِطَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ بِالْإِبَاحَةِ، فَلَوْ حُكِمَ بِتَنْجِيسِ مَا أَصَابَهُ بِفَمِهِ لَخَرَجَتْ عَنِ الْإِبَاحَةِ إِلَى الْحَظْرِ؛ لِأَنَّ لُعَابَهُ يَسْرِي فِيمَا عَضَّهُ مِنَ الصَّيْدِ، فَلَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ فَصَارَ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَلَيْسَ يَنْكَرُ أَنْ يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَةِ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي إِزَالَتِهِ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَأَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ الْحِيَاضَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ فِي الْغَالِبِ وَتَنْجِيسُهَا بِالْوُلُوغِ لَا يَحْصُلُ ثُمَّ الْوُلُوغُ فِيهَا، وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمِيَاهِ شَكٌّ، وَالشَّكُّ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْحَيَاةَ عِلَّةُ الطَّهَارَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَمْوَاتِ طَاهِرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَاءِ نَجِسًا.
(فَصْلٌ: هَلْ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ نَجَاسَةُ عَيْنٍ أم حكم؟)
فَإِذَا ثَبَتَ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ، وَوُلُوغُهُ فَنَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ عَيْنٍ لَا نَجَاسَةُ حُكْمٍ، وَقَالَ أبو حنيفة نَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ حُكْمٍ، وَلَيْسَتْ عَيْنُهُ نَجِسَةٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْحُكْمِ هِيَ الَّتِي تُحَالُ(1/305)
بِتَنْجِيسِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ نَجَسٍ، وَقَدْ تَزُولُ عَنِ الْمَحَلِّ بَعْدَ أَنْ نَجُسَ وَنَجَاسَةُ الْكَلْبِ لَيْسَتْ لِطُرُوِّ نَجَاسَةٍ وَلَا تَزُولُ عَنْهُ بِغَسْلِ النَّجَاسَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَيْنَهُ نَجِسَةٌ، فَإِذَا تَقَرَّرَ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ وَنَجَاسَةُ وُلُوغِهِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُهْرِيقَهُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ إِرَاقَتُهُ وَاجِبَةٌ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مُحَرَّمٌ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّمَسُّكِ بِظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ وَأَوْجَبَ إِرَاقَتَهُ وَحَرَّمَ الِانْتِفَاعَ بِهِ اسْتِدْلَالًا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَأَرِيقُوهُ " وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِأَجْزَاءِ الْكَلْبِ كُلِّهَا مُحَرَّمًا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِمَا تَعَدَّتْ إِلَيْهِ نَجَاسَةٌ مُحَرَّمًا، وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ إِنَّ إِرَاقَتَهُ لَا تَجِبُ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ وَجْهٍ مَخْصُوصٍ لَا يَحْرُمُ، لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ طَرَأَتْ عَلَى عَيْنٍ طَاهِرَةٍ، فَلَمْ تَكُنِ الْمَنْفَعَةُ بِهَا مُحَرَّمَةٌ كَالْمَيْتَةِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَرِيقُوهُ لِيُتَوَصَّلَ بِالْإِرَاقَةِ إِلَى غَسْلِهِ لَا لِوُجُوبِ اسْتِهْلَاكِهِ وَهَذَا أَصَحُّ.
(مَسْأَلَةٌ: كَيْفِيَّةُ غَسْلِ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويغسل منه الإناء سبع مراتٍ أولاهن بترابٍ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا نُجِّسَ الْإِنَاءُ بِوُلُوغِ الْكَلْبِ وَجَبَ غَسْلُهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِيهِنَّ مَرَّةٌ بِالتُّرَابِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ. وَقَالَ أبو حنيفة يَغْسِلُ ثَلَاثًا بِغَيْرِ تُرَابٍ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي الْكَلْبِ يَلِغُ فِي الْإِنَاءِ يُغْسَلُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا. قَالَ: فَلَوْ كَانَ السَّبْعُ وَاجِبًا لَمْ يُخَيَّرْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّلَاثِ، وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إناءٍ فَأَهْرِقْهُ ثُمَّ اغْسِلْهُ ثَلَاثَ مراتٍ، قَالَ: وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يَجِبُ إِزَالَتُهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فِيهَا كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ، قَالَ: وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مُدْخَلًا فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ قِيَاسًا عَلَى مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ غَسْلُهُ سَبْعًا وَاجِبًا لَمَا صَارَ الْإِنَاءُ بِإِلْقَائِهِ فِي النَّهْرِ طَاهِرًا، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُطَهِّرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّبْعَ لَا تَجِبُ.(1/306)
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي تَمِيمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مراتٍ أُولَاهُنَّ أَوْ آخِرُهُنَّ بِالْتُرَابِ ". وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلْهُ سَبْعَ مراتٍ وَعَفِّرُوا الثِّامِنَةَ بِالْتُرَابِ ".
وَرَوَى هُبَيْرَةُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مراتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالْبَطْحَاءِ ".
وَكُلُّ هَذِهِ نُصُوصٌ فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنْ قَالُوا يُحْمَلُ أَمْرُهُ بِالسَّبْعِ عَلَى مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، أَنَّ نَجَاسَةَ الْوُلُوغِ لَا تَزُولُ بِأَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ فَعَنْهُ جَوَابَانِ.
أَحَدُهُمَا: إِنَّ نَجَاسَةَ الْوُلُوغِ لَيْسَتْ عَيْنًا مُؤَثِّرَةً فَيُرْجَعُ فِي زَوَالِهَا إِلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ فِيهَا.
وَالثَّانِي: إِنَّ مَا كَانَ مُعْتَبَرًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا بِالشَّرْعِ فَالشَّرْعُ كَالتَّقْوِيمِ فِي الْمُتْلَفَاتِ فَإِنْ قَالُوا: فَيُحْمَلُ السَّبْعُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَالثَّلَاثُ عَلَى الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ قَدْ أَفْتَى بِالثَّلَاثِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ بِخِلَافِ مَا رَوَى إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ وَصَرَفَهَا عَنِ الْإِيجَابِ إِلَى الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا حَمَلْتُمْ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى تَفْرِيقِ الْأَبْدَانِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ. قُلْنَا: تَفْسِيرُ الرَّاوِي مَقْبُولٌ فِي أَحَدِ مُحْتَمِلَيِ الْخَبَرِ كَمَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُ الرَّاوِي مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَمَّا أَنْ يُقْبَلَ فِي نَسْخٍ أَوْ تَخْصِيصٍ فَلَا كما لم(1/307)
يُقْبَلْ تَخْصِيصُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ: " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " فِي إِخْرَاجِ النِّسَاءِ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَحَدِيثُ الْوُلُوغِ مُفَسَّرٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْسِيرِ رَاوٍ وَلَا غَيْرِهِ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقِيَاسُ فِيهَا قَوِيًّا فَهُوَ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ شَرْعِيٌّ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مَرْئِيٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ فِيهِ مُعْتَبَرًا كَالْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي الطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الطَّهَارَةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فيه الحدث، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْوُلُوغِ كَانَ مُسْتَحِقًّا كَالثَّلَاثِ، وَلَا مَا اخْتَصَّ بِالْفَمِ مِنَ الْأَنْجَاسِ كَانَ مُغَلَّظًا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ كَالْخَمْرِ فِي اخْتِصَاصِ شُرْبِهِ يُوجِبُ الْحَدَّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " يَغْسِلُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَهُوَ أَنَّهُ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ الضَّحَّاكِ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَإِسْمَاعِيلَ بْنَ عَيَّاشٍ فَقَدْ رَوَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّهُ قَالَ: فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ بِالسَّبْعِ كَالْأَمْرِ بِالثَّلَاثِ فَلَمْ يَكُنْ حَمْلُ الثَّلَاثِ عَلَى الْإِيجَابِ دُونَ السَّبْعِ بِأُولَى مِنْ حَمْلِ السَّبْعِ عَلَى الْإِيجَابِ دُونَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ دِرْهَمٌ بَلْ ثَلَاثَةٌ، وَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مَائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} مَعْنَاهُ وَيَزِيدُونَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ فُتْيَا أَبِي هُرَيْرَةَ بِالثَّلَاثِ فَهُوَ أَنَّهَا مَتْرُوكَةٌ بِرِوَايَتِهِ؛ لِأَنَّ فُتْيَاهُ إِذَا تَعَذَّرَتْ فَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَرِوَايَتُهُ إِذَا تفردت حُجَّةٌ، أَوْ تَكُونُ مَحْمُولَةً عَلَى إِنَاءٍ غُسِلَ أَرْبَعًا، وَبَقِيَ مِنَ السَّبْعِ ثَلَاثٌ، فَأَفْتَى بِالثَّلَاثِ اسْتِكْمَالًا لِلسَّبْعِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى سَائِرِ الْأَنْجَاسِ فَهُوَ قِيَاسٌ يَرْفَعُ النَّصَّ، فَكَانَ مَرْدُودًا، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْوُلُوغِ أَنَّهُ غِلَظٌ مِنْ بَيْنِ جِنْسِهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِ، فَهُوَ قِيَاسٌ يَدْفَعُهُ النَّصُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ثُمَّ الْأَنْجَاسُ أَغْلَظُ مِنَ الْأَحْدَاثِ لِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِيهَا، ثُمَّ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْعَدَدِ الَّذِي اعْتَبَرُوهُ مِنَ الثَّلَاثِ، فَبَعْضُ أَصْحَابِهِمْ يَجْعَلُ الثَّلَاثَ اسْتِحْبَابًا، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا وَاجِبًا، فَكَذَلِكَ جَعَلْنَا الْعَدَدَ تَارَةً أَصْلًا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَتَارَةً فَرْعاً عَلَى قَوْلِ مَنِ اسْتَحَبَّهُ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِإِلْقَاءِ الْإِنَاءِ فِي نَهْرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ إِذَا أُلْقِيَ فِي نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ لَا يُطَهِّرُ، وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ غَسْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَلَزِمَ غَسْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ سِتَّ مَرَّاتٍ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ بِالتُّرَابِ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيَّ أَنَّهُ يُطَهِّرُ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْكَلْبَ وَلَغَ فِيهِ وَهُوَ كَثِيرُ الْمَاءِ لَا يَنْجَسُ بِالْوُلُوغِ، لِأَنَّ الْعَدَدَ وَالتُّرَابَ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَاءِ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ، فَإِذَا عَدَلَ إِلَى غَيْرِهِ صَارَ بِمَثَابَةِ الْعَادِلِ عَنِ الْوُضُوءِ إِلَى الْغُسْلِ فِي سُقُوطِ الترتيب عنه.(1/308)
(فَصْلٌ: مَوْضِعُ اسْتِحْقَاقِ التُّرَابِ مِنْ غَسَلَاتِ الْإِنَاءِ)
فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ غَسْلِهِ سَبْعًا فَالتُّرَابُ لَهَا مُسْتَحَقٌّ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ جُمْلَتِهَا وَلَا يَلْزَمُ إِفْرَادُهُ عَنْهَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَجِبُ إِفْرَادُ التُّرَابِ عَنِ السَّبْعِ بِثَامِنَةٍ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " وَعَفِّرُوا الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ ".
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالْبَطْحَاءِ "، وَرِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: " فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا أُولَاهُنَّ أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ ".
فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ حَدِيثٌ لَمْ يُقَفْ عَلَى صِحَّتِهِ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَهَا ثَامِنَةً؛ لِأَنَّ التُّرَابَ جِنْسٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ فَجُعِلَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مَعْدُودَةً بِاثْنَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى مَنْ نَسِيَ اسْتِعْمَالَ التُّرَابِ فِي السَّبْعِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُعَفِّرَهُ فِي ثَامِنِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التُّرَابَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ جُمْلَةِ السَّبْعِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، أَوْ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَعْدَادِ، لِأَنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الطَّرَفَيْنِ كَانَ حُكْمُ الْوَسَطِ مُلْحَقًا بِأَحَدِهِمَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يَلْزَمُهُ اسْتِعْمَالُهُ مِنَ التُّرَابِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ مَا يَنْطَلِقُ اسْمُ التُّرَابِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لِوُرُودِ الْخَبَرِ بِإِطْلَاقِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ مَا يَسْتَوْعِبُ لِمَحَلِّ الْوُلُوغِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْضِعٌ مِنْهُ بِاسْتِعْمَالِ التُّرَابِ فِيهِ بِأَخَصَّ مِنْ مَوْضِعٍ فَلَزِمَ اسْتِيعَابُ جَمِيعِهِ.
(فَصْلٌ: الْمَاءُ الْمُتَبَقِّي مِنْ غَسَلَاتِ إِنَاءِ وُلُوغِ الكلب)
فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْمَاءِ فِي الْغَسَلَاتِ السَّبْعِ إِذَا أُفْرِدَتْ كُلُّ غَسْلَةٍ مِنْهُنَّ وَمُيِّزَتْ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ أَنَّ جَمِيعَهُ نَجِسٌ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مَا أَزَالَ النَّجَاسَةَ نَجِسٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ جَمِيعَهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ، وَلِكُلِّ غَسْلٍ حَظٌّ مِنْ تَطْهِيرِ الْإِنَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّ مَاءَ الْغَسْلَةِ السَّابِعَةِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ بِهَا طُهْرَ الْإِنَاءِ، وَمَا قَبْلَ السَّابِعَةِ، مِنَ الْأُولَى إِلَى السَّادِسَةِ نَجِسٌ لانفصاله(1/309)
عَنِ الْمَحَلِّ مَعَ بَقَاءِ نَجَاسَتِهِ، فَإِذَا قِيلَ بِنَجَاسَةِ ذَلِكَ وَجَبَ غَسْلُ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ الْمَاءُ مِنْ بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ وَفِي قَدْرِ غَسْلِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَغْسِلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ نَجِسٌ، وَلِأَنَّهُ أَيْسَرُ مِنْ سَائِرِ الْأَنْجَاسِ لِتَأْثِيرِهِ فِي تَطْهِيرِ غَيْرِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَغْسِلَ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ إِلَى السَّبْعِ مِنَ الْغَسْلَةِ الَّتِي أَصَابَتْهُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْغَسْلَةِ الْأُولَى وَجَبَ أَنْ يَغْسِلَهُ سِتًّا؛ لِأَنَّ سُبْعَ الْوُلُوغِ قَدْ يُسْقَطُ بِالْغَسْلَةِ الْأُولَى وَهِيَ سِتَّةُ أَسْبَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَجَبَ أَنْ يَغْسِلَهُ خَمْسًا وَإِنْ كَانَ مِنَ الثَّالِثَةِ غَسَلَهُ أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ مِنَ الرَّابِعَةِ غَسَلَهُ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَامِسَةِ غَسَلَهُ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّادِسَةِ غَسَلَهُ مَرَّةً، وَلِأَنَّ الْبَاقِيَ سُبْعُ الْوُلُوغِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّابِعَةِ غَسَلَهُ مَرَّةً وَيَكُونُ حُكْمُ الْوُلُوغِ سَاقِطًا، وَحُكْمُ النَّجَاسَةِ بَاقِيًا، هَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُنْفَصِلَ نَجِسٌ، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّ الْمُنْفَصِلَ عَنِ الْإِنَاءِ طَاهِرٌ، فَفِي وُجُوبِ غَسْلِ مَا أَصَابَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الظَّاهِرِ لَا يَلْزَمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ غَسْلُهُ لِمَا تَعَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ غَسْلِ الْوُلُوغِ الْمُسْتَحَقِّ الْغَسْلَ فَعَلَى هَذَا فِي قَدْرِ غَسْلِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا والثاني: بِعَدَدِ مَا بَقِيَ إِلَى السَّبْعِ مِنَ الْغَسْلَةِ الَّتِي أَصَابَتْ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ.
(فَصْلٌ: إِذَا وَلَغَ كَلْبٌ عِدَّةَ مَرَّاتٍ فَكَمْ يَغْسِلُ الْإِنَاءُ ")
فَأَمَّا الْإِنَاءُ الْمَوْلُوغُ فِيهِ مِرَارًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ أَنْ يَغْسِلَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّهُ يَغْسِلُ لِكُلِّ وُلُوغٍ سَبْعًا سَوَاءٌ كَانَ كَلْبًا أَوْ كِلَابًا وَتَنْفَرِدُ كُلُّ مَرَّةٍ بِحُكْمِهَا لِاسْتِحْقَاقِ السَّبْعِ بِهَا، فَإِنْ وَلَغَ مَرَّتَيْنِ غُسِلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَإِنْ وَلَغَ عَشْرًا غُسِلَ سَبْعِينَ مَرَّةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَغْسِلُ مِنْ جَمِيعِ وُلُوغِهِ سَبْعًا، سَوَاءٌ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ كِلَابٌ حَتَّى لَوْ وَلَغَ فِيهِ مِائَةُ كَلْبٍ لَاكْتَفَى فِيهِ بِسَبْعٍ؛ لِأَنَّ الْأَحْدَاثَ لَمَّا تَدَاخَلَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ كَانَ تَدَاخُلُ الْوُلُوغِ اعْتِبَارًا بِهِ، وَسَائِرُ الْأَنْجَاسِ أَوْلَى بِالتَّدَاخُلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إِنَّهُ إِنْ كَانَ تَكْرَارُ الْوُلُوغِ مِنْ كَلْبٍ وَاحِدٍ(1/310)
اكْتَفَى فِيهِ بِسَبْعٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ كِلَابٍ وَجَبَ أَنْ يُفْرِدَ وُلُوغَ كُلِّ كَلْبٍ بِسَبْعٍ وَلَا أَعْرِفُ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْوَجْهُ الثاني، والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي: " فَإِنْ كَانَ فِي بحرٍ لَا يَجِدُ فِيهِ تَرَابًا فَغَسَلَهُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْتُرَابِ فِي الْتَنْظِيفِ مِنْ أشنانٍ أَوْ نخالةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَطْهُرَ إِلَّا بِأَنْ يَمَاسَّهُ التُّرَابُ وَالْآخَرُ يَطْهُرُ بِمَا يَكُونُ خَلْفًا مِنْ ترابٍ أَوْ أَنْظَفَ مِنْهُ كما وصفت كما نقول في الاستنجاء (قال المزني) قلت أنا هذا أشبه بقوله لأنه جعل الخزف في الاستنجاء كالحجارة لأنها تنقي إنقاءها فكذلك يلزمه أن يجعل الأشنان كالتراب لأنه ينقي إنقاءه أو أكثر وكما جعل ما عمل عَمَلَ القرظ والشث في الإهاب في معنى القرظ والشث فكذلك الأشنان في تطهير الإناء في معنى التراب (قال المزني) الشث شجرةٌ تكون بالحجاز ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ مُسْتَحَقٌّ، فَأَمَّا غَيْرُ التُّرَابِ مِنَ الْمَذْرُورَاتِ إِذَا اسْتُعْمِلَ بَدَلَ التُّرَابِ فَضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ لِنُعُومَتِهِ وَلُزُوجَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ بَدَلًا مِنَ التُّرَابِ، وَضَرْبٌ: يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ لِخُشُونَتِهِ وَإِزَالَتِهِ كَالْأُشْنَانِ وَمَسْحُوقِ الْآجُرِّ وَالْخَزَفِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ هَا هُنَا: إنه في استعماله عند عدم التراب قولين، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاث طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَيْرَانَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ مَعَ عَدَمِ التُّرَابِ قَوْلَانِ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ.
وَالثَّانِي: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ التُّرَابِ وَعَدَمِهِ فِي أَنَّ غَيْرَهُ هَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عِنْدَ عَدَمِ التُّرَابِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَذْكُرَ الْقَوْلَيْنِ مَعَ وُجُودِهِ فَيَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ لَا يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَالثَّالِثُ: وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: إِنَّ غَيْرَ التُّرَابِ لَا يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ لَا مَعَ وُجُودِهِ وَلَا مع عدمه ووجهه شيئان:
أحدهما: أنه قد نَصَّ فِي الْوُلُوغِ عَلَى الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ غَيْرُ الْمَاءِ مَقَامَ الْمَاءِ لَمْ يُقَمْ غَيْرُ التُّرَابِ مَقَامَ التُّرَابِ. وَالثَّانِي: إِنَّ النَّصَّ عَلَى التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ كَالنَّصِّ عَلَى التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ غَيْرُ التُّرَابِ مَقَامَ التُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ لَمْ يَقُمْ غَيْرُ التُّرَابِ مَقَامَ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ غَيْرَ التُّرَابِ يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ مَعَ وُجُودِهِ وَعَدِمِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ، وَوَجْهُهُ شيئان:(1/311)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَامِدَاتِ فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، فَغَيْرُهُ مِنَ الْجَامِدَاتِ إِذَا سَاوَاهُ فِي عَمَلِهِ سَاوَاهُ فِي حُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا قَامَ مَقَامَ الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَمَا قَامَ مَقَامَ الشَّثِّ وَالْقَرَظِ فِي الدِّبَاغِ.
وَالثَّانِي: إِنَّ التُّرَابَ فِي الْوُلُوغِ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَاوَنَةِ فِي الْإِنْقَاءِ وَإِنَّمَا الْمَنْصُوصُ وَهُوَ الْمَاءُ فَمَا كَانَ أَبْلَغَ مِنَ التُّرَابِ فِي الْإِنْقَاءِ كَانَ أَحَقَّ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ غَيْرَ التُّرَابِ يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ عِنْدَ الْعَدَمِ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ وُجُودِهِ مُرْتَفِعَةٌ عَنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ: هَلْ تقوم المذرورات مقام التراب؟)
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ الْمَذْرُورَاتِ فِي الْوُلُوغِ بَدَلًا مِنَ التُّرَابِ.
فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ سَائِرَ الْمَذْرُورَاتِ لَا تَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ فَالْمَاءُ أَوْلَى أَنْ لَا يَقُومَ مَقَامَهُ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْمَذْرُورَاتِ تَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ فِي الْوُلُوغِ فَاسْتَبْدَلَ مِنَ الْمَذْرُورِ فِي غَسْلِهِ ثَامِنَةً لِيَقُومَ مَقَامَ التُّرَابِ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: إِنَّ الْمَاءَ يَقُومُ فِي الثَّالِثَةِ مَقَامَ التُّرَابِ الْمَذْرُورِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ.
وَالثَّانِي: لَا يَقُومُ مَقَامَهُ بِحَالٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْمَائِعِ غَيْرُهُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْجَامِدِ غَيْرُهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِنَّهُ إِنْ كَانَ التُّرَابُ مَوْجُودًا لَمْ يَقُمِ الْمَاءُ مَقَامَهُ، وَإِنْ كَانَ التُّرَابُ مَعْدُومًا قَامَ الْمَاءُ مَقَامَهُ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ، وَلَا يُقَامُ غَيْرُهُ مِنَ الْمَذْرُورَاتِ مَقَامَهُ.
(مَسْأَلَةٌ: غَسْلُ الْإِنَاءِ مِنْ نجاسة ما سوى الكلب)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَغْسِلُ الْإِنَاءَ مِنَ الْنَجَاسَةِ سِوَى ذَلِكَ ثَلَاثًا أَحَبُّ إِلَيَّ فَإِنْ غَسَلَهُ وَاحِدَةً تَأَتَّى عَلَيْهِ طهراً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَا سِوَى وُلُوغِ الْكَلْبِ مِنْ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا أَثَرٍ فَيَغْسِلُ حَتَّى يَزُولَ الْأَثَرُ وَقَالَ أبو حنيفة: سَائِرُ النَّجَاسَاتِ فِي حُكْمِ الْوُلُوغِ يَغْسِلُ ثَلَاثًا إِمَّا اسْتِحْبَابًا، وَإِمَّا وَاجِبًا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَصْحَابِهِ فِي الثَّلَاثِ هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْوُلُوغِ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: سائر النجاسات كالولوغ في وجوب غسلها ثمان مراتٍ. وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ فِي غَسْلِهَا عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بكرٍ(1/312)
وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ " حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ " وَلَمْ يُوَقِّتْ لَهَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثًا وَلَا سَبْعًا، وَقَالَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: " صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ ماءٍ "، وَلِأَنَّ التَّكْرَارَ لَمَّا لَمْ يَزَلْ فِي الْحَدَثِ مُسْتَحِقًّا فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي النَّجَاسَةِ مُسْتَحِقًّا، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ لَمْ يُرِدِ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ يَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الطُّهُورَيْنِ، فَلَمْ تَسْتَحِقَّ الْعَدَدَ، وَتَطْهِيرُهَا كَالْأَعْيَانِ، لِأَنَّ أبا حنيفة يَعْتَبِرُ الْعَدَدَ فِي النَّجَاسَةِ الَّتِي هِيَ أَثَرٌ، وَلَا يَعْتَبِرُهُ فِي النَّجَاسَةِ الَّتِي هِيَ عَيْنٌ، وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ أَصْلٍ طَاهِرٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِيهَا الْعَدَدُ كَدَمِ الشَّاةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَرَّةٌ، فَالْمُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يده في الإناء حتى يغسلهما ثَلَاثًا " فَلَمَّا أَمَرَ بِالثَّلَاثِ مَعَ الشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ، كَانَ الْأَمْرُ بِهَا مَعَ نَفْسِ النَّجَاسَةِ أولى.
(فصل: أقسام النجاسات)
فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فِي النَّجَاسَةِ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِهَا مَرَّةً وَاسْتِحْبَابِ غَسْلِهَا ثَلَاثًا، فَلَا يَخْلُو حَالُ النَّجَاسَاتِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ كَالْمَاءِ الْقَلِيلِ إِذَا حَصَلَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ أَصَابَ الْمَاءُ ثَوْبًا، فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ مَرَّةً يَغْمُرُهُ الْمَاءُ فِيهَا فَيَطْهُرَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهَا لَوْنٌ وَرَائِحَةٌ كَالْخَمْرِ وَالْغَائِطِ فَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ حَتَّى يَزُولَ لَوْنُهُ وَرَائِحَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَزُولَا بِالْمَرَّةِ غَسَلَهُ ثَانِيَةً، فَإِنْ لَمْ يَزُولَا غَسَلَهُ ثَالِثَةً وَرَابِعَةً، فَإِنْ زَالَ اللَّوْنُ دُونَ الرَّائِحَةِ أو زالت الرائحة اللَّوْنِ فَهُوَ عَلَى نَجَاسَتِهِ، حَتَّى تَزُولَ الصِّفَتَانِ اللَّوْنُ وَالرَّائِحَةُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لَهَا رَائِحَةٌ وَلَيْسَ لَهَا لَوْنٌ كَالْبَوْلِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَغْسِلَ حَتَّى تَزُولَ رَائِحَتُهُ إِمَّا بِمَرَّةٍ أَوْ بِأَكْثَرَ اعْتِبَارًا بِحَالِ زَوَالِهَا، فَإِذَا زَالَتْ رَائِحَتُهُ طَهُرَتْ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ لَهَا لَوْنٌ وَلَيْسَ لَهَا رَائِحَةٌ كَالدَّمِ فَالْوَاجِبُ أَنْ تُغْسَلَ حَتَّى يَزُولَ لَوْنُهَا بِمَرَّةٍ أَوْ مِرَارٍ فَإِنْ زَالَ اللَّوْنُ، وَبَقِيَ الْأَثَرُ فَإِنْ تَيَسَّرَ زَوَالُهُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَالنَّجَاسَةُ بَاقِيَةٌ حَتَّى يَزُولَ الْأَثَرُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ زَوَالُهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ خَالِيَةٍ مِنْ عِلَاجٍ أَوْ صَنْعَةٍ كَالْأَثَرِ كَانَ الْأَثَرُ مَعْفُوًّا عَنْهُ، وَحُكِمَ بِطَهَارَةِ الْمَحَلِّ، بِخِلَافِ مَا وَهِمَ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا حَيْثُ حَكَمَ بِبَقَاءِ نَجَاسَتِهِ لِبَقَاءِ أَثَرِهِ لِرِوَايَةِ يَزِيدَ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ(1/313)
يَسَارٍ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَخْرُجِ الْدَّمُ مِنَ الثَّوْبِ قَالَ: " يَكْفِيكِ الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ ".
(فَصْلٌ: إذا أصابت نجاسة شعره أو بدنه)
فَأَمَّا إِذَا بَلَّ خِضَابًا بِنَجَاسَةٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ وَخَضَّبَ بِهِ شَعْرَهُ أَوْ بَدَنَهُ ثُمَّ غَسَلَهُ وَبَقِيَ لَوْنُهُ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَوْنُ النَّجَاسَةِ بَاقِيًا، فَالْمَحَلُّ الْمَخْضُوبُ نَجِسٌ، لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ حَتَّى يَزُولَ اللَّوْنُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَوْنُ الْخِضَابِ بَاقِيًا دُونَ النَّجَاسَةِ فَفِي نَجَاسَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَجِسٌ، لِأَنَّ الْخِضَابَ قَدْ صَارَ نَجِسًا فَدَلَّ بَقَاءُ لَوْنِهِ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْخِضَابِ نَجَاسَةٌ مُجَاوِرَةٌ لَا نَجَاسَةُ عَيْنٍ، وَهَذَا لَوْنُ الْخِضَابِ لَا لَوْنُ النَّجَاسَةِ، وَاللَّوْنُ عَرَضٌ لَا تَحُلُّهُ نَجَاسَةٌ، فَإِنْ قُلْنَا: بِطَهَارَتِهِ صَلَّى، وَلَمْ يُعِدْ وَإِنْ قُلْنَا: بِنَجَاسَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْخِضَابُ عَلَى شَعْرٍ كَشَعْرِ اللِّحْيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَلْقُهُ، وَمَكَثَ حَتَّى يُنْصَلَ لَوْنُهُ؛ لِأَنَّ لَوْنَ الشَّعْرِ الْمَخْضُوبِ يُنْصَلُ لَا مَحَالَةَ، وَالْمُسْتَحَقُّ فِي النَّجَاسَةِ تَطْهِيرُ الْمَحَلِّ مِنْهَا لِإِزَالَةِ الْمَحَلِّ بِهَا، فَإِذَا نُصِلَ الشَّعْرُ أَعَادَ مَا صَلَّاهُ، وَإِنْ كَانَ الْخِضَابُ عَلَى بَدَنٍ فإن كان ما يزول كالحناء إذا اختضت بِهِ مَكَثَ حَتَّى يَزُولَ فَيَطْهُرَ، ثُمَّ يُعِيدُ مَا صَلَّى، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَزُولُ، وَلَا يُنْصَلُ كَالْوَشْمِ بِالنِّيلِ فَيَصِيرُ خُضْرَةً مُؤَبَّدَةً، نُظِرَ فَإِذَا أَمِنَ التَّلَفَ فِي إِزَالَتِهِ وَكَشْطِهِ لَزِمَهُ أَنْ يُزِيلَهُ وَيَكْشِطَهُ، بِخِلَافِ الشَّعْرِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الشَّعْرِ مُفْضٍ إِلَى زَوَالِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مفضٍ إِلَى زَوَالِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ التَّلَفَ مِنْ كَشْطِهِ، وَإِزَالَتِهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ عَلَى الْخِضَابِ بِهِ، أَقَرَّ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ المختصب بِهِ فَفِي وُجُوبِ إِزَالَتِهِ وَجْهَانِ مِنَ الْوَاصِلِ بعظم نجس، والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا مَسَّ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ بِهِ الْمَاءَ مِنْ أَبْدَانِهِمَا نَجَّسَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا قذرٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا وُلُوغُ الْكَلْبِ فَيَكُونُ بِإِدْخَالِ فَمِهِ فِي الْمَاءِ شَرِبَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَشْرَبْ، وَحُكْمُهُ مَا مَضَى فَأَمَّا إِنْ أَدْخَلَ الْكَلْبُ غَيْرَ فَمِهِ مِنْ أَعْضَائِهِ كَيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ أَوْ ذَنَبِهِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ وُلُوغِهِ فِي نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ بِهِ، وَوُجُوبِ غَسْلِهِ سَبْعًا. وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: غَسْلُ الْإِنَاءِ(1/314)
مُخْتَصٌّ بِوُقُوعِهِ، فَإِنْ أَدْخَلَ غَيْرَهُ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي الْمَاءِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَأَرِيقُوهُ وَاغْسِلُوهُ سَبْعًا " فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْوُلُوغِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَمَّا نَصَّ عَلَى الْوُلُوغِ وَهُوَ أَصْوَنُ أَعْضَاءِ الْكَلْبِ كَانَ وُجُوبُ الْغَسْلِ بِمَا لَيْسَ بِمَصُونٍ مِنْهَا أَوْلَى.
وَالثَّانِي: إِنَّ وُلُوغَهُ يَكْثُرُ وَإِدْخَالَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْضَائِهِ يَقِلُّ فَلَمَّا عَلَّقَ وُجُوبَ الْغَسْلِ بِمَا يَكْثُرُ كَانَ وُجُوبُهُ مِمَّا يَقِلُّ أَوْلَى، لِأَنَّ النَّجَاسَةَ إِذَا عَمَّ وُجُودُهَا خَفَّ حُكْمُهَا، وَإِذَا قَلَّ وُجُودُهَا، يَتَغَلَّظُ حُكْمُهَا، فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوُلُوغِ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَعْضَاءِ الْكَلْبِ، فَهَكَذَا لَوْ مَاسَّ الْكَلْبُ ثَوْبًا رَطْبًا أَوْ مَاسَّ بِبَدَنِهِ الرَّطْبِ ثَوْبًا يَابِسًا أَوْ وَطِئَ بِرُطُوبَةِ رِجْلِهِ عَلَى أَرْضٍ أَوْ بِسَاطٍ كَانَ كَالْوُلُوغِ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ سَبْعًا فِيهِنَّ مَرَّةٌ بِالتُّرَابِ.
(فَصْلٌ: إِذَا أَدْخَلَ الْكَلْبُ رَأْسَهُ في الإناء)
فَلَوْ أَدْخَلَ الْكَلْبُ رَأْسَهُ فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَلَغَ فِيهِ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْلُو حَالُ فَمِهِ عِنْدَ إِخْرَاجِ رَأْسِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا، فَإِنْ كَانَ فَمُهُ يَابِسًا فَالْمَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَفِي نَجَاسَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ يُنَجِّسُ، لِأَنَّ رُطُوبَةَ فَمِهِ شَاهِدٌ عَلَى وُلُوغِهِ فَصَارَ كَنَجَاسَةٍ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ ثُمَّ وَجَدَتْ تَغَيُّرًا وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا حُكِمَ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ تَغْلِيبًا لِتَغْيِيرِهِ بِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِنَّ الْمَاءَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ يَقِينٌ، وَنَجَاسَتُهُ شَكٌّ، وَالْمَاءُ لَا يُنَجَّسُ بِالشَّكِّ، وَلَيْسَتْ رُطُوبَةُ فَمِهِ شَاهِدًا قَاطِعًا لِاحْتِمَالِهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ لُعَابِهِ أَوْ مِنْ وُلُوغِهِ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَتْ كَالنَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الماء؛ لأنه لوقوع النجاسة تأثيراً في الماء.
(مسألة)
: قال المزني: " وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ فقاسه عليه. وقاس ما سوى ذلك من النجاسات على أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أسماء بنت أبي بكر في دم الحيضة يصيب الثوب أن تحته ثم تقرصه بالماء وتصلي فيه ولم يوقت في ذلك سبعاً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَالْخِنْزِيرُ نَجِسٌ، وقال مالك، وداود: هو ظاهر خلافهما فِي الْكَلْبِ تَعَلُّقًا بِالظَّوَاهِرِ الْمَاضِيَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَجَاسَتِهِ قَوْله تَعَالَى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) {الأنعام: 145) .(1/315)
وَالْمُرَادُ بِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ هُوَ: جُمْلَةُ الْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُ قَدْ دَخَلَ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَائِدَةِ أَوْلَى عَلَى التَّكْرَارِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْكَلْبَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهُ وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَحَرَّمَ ثَمَنَهَا ".
وَلِأَنَّ الْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ لِتَحْرِيمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي الْأَحْوَالِ وَجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالْكَلْبِ فِي حَالٍ، ثُمَّ ثَبَتَ بِمَا دَلَّلْنَا نَجَاسَةُ الْكَلْبِ فَكَانَتْ نَجَاسَةُ الْخِنْزِيرِ أَوْلَى.
(فصل: ولوغ الخنزير في الإناء)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخِنْزِيرَ نَجِسٌ فَوُلُوغُهُ كَوُلُوغِ الْكَلْبِ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِتُرَابٍ، وَرَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ قَالَ يَغْسِلُ الْإِنَاءَ مِنْ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ فَوَهِمَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ فِي إِطْلَاقِ الشَّافِعِيِّ ذِكْرَ الْعَدَدِ فِي الْقَدِيمِ، فَخَرَّجَ لَهُ فِي الْقَدِيمِ قَوْلًا ثَانِيًا أَنَّ وُلُوغَ الْخِنْزِيرِ يُغْسَلُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ وَأَطْلَقَ ذِكْرَ الْعَدَدِ عَلَى مَا قَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ فَيُغْسَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِتُرَابٍ كَوُلُوغِ الْكَلْبِ سَوَاءً فَأَمَّا احْتِجَاجُ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ الْخِنْزِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْكَلْبِ فَلِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَجَاسَتَهُ بِالنَّصِّ وَنَجَاسَةَ الْكَلْبِ بِالِاسْتِدْلَالِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِالْخِنْزِيرِ عَامٌّ وَبِالْكَلْبِ خَاصٌّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: " فَقَاسَهُ عَلَيْهِ " فَيَقْضِي فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْهُ سَبْعًا لَا فِي نَجَاسَتِهِ، ثُمَّ هَكَذَا فِي الْحُكْمِ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ نَجِسٍ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْمُتَوَلَّدِ بَيْنَ كَلْبٍ وَخِنْزِيرٍ أَوْ بَيْنَ أَحَدِهِمَا فَلَوْ رَأَى حَيَوَانًا قَدْ وَلَغَ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَيَوَانِ هَلْ هُوَ كَلْبٌ أَوْ غَيْرُهُ فَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّ الْوَالِغَ فيه كلب فلو كان له إناآن فَأَخْبَرَهُ مَنْ يَسْكُنُ إِلَى خَبَرِهِ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي الْأَكْبَرِ مِنْهُ دُونَ الْأَصْغَرِ، وَأَخْبَرَهُ آخَرُ ثِقَةٌ أَنَّ كَلْبًا وَلَغَ فِي الْأَصْغَرِ دُونَ الْأَكْبَرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ وَالِغًا فِيهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا غَفَلَ عَنْهُ الْآخَرُ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ مَنْ يثق بخبره أن هَذَا الْكَلْبَ بِعَيْنِهِ وَلَغَ فِي إِنَائِهِ هَذَا فِي وَقْتِ كَذَا مِنْ يَوْمِ كَذَا وَشَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّ ذَاكَ الْكَلْبَ بِعَيْنِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِعَيْنِهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ الْإِنَاءِ عَلَى وجهين:(1/316)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ، لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ قَدْ تَعَارَضَا فَسَقَطَا وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ موجب لتنجيسه وَالشَّهَادَةَ الْمُعَارِضَةَ لَهُ مُحْتَمَلَةٌ، لِأَنَّ الْكِلَابَ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الْكِلَابِ فِي الْوُلُوغِ لَا يلزم.
(مسألة)
: قال المزني: " وَاحْتَجَّ فِي جَوَازِ الْوُضُوءِ بِفَضْلِ مَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ: " نعم وبما أفضلت السباع كلها " وبحديث أبي قتادة في الهرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إنها ليست بنجسٍ " وبقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا سقط الذباب في الإناء فامقلوه " فدل على أنه ليس في الأحياء نجاسةٌ إلا ما ذكرت من الكلب والخنزير ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا سُؤْرُ الْحَيَوَانِ فَهُوَ مَا فَضَلَ فِي الْإِنَاءِ مِنْ شربةٍ وَالْبَاقِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى سُؤْرًا.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا أَكَلْتُمْ فَأَسْئِرُوا " أَيْ: فَأَبْقُوا.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(بَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حاجتها ... بتلاقٍ وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا نَفَعَا)
يَعْنِي قَدْ أَبْقَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتَهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحَيَوَانُ ضَرْبَانِ: طَاهِرٌ وَنَجِسٌ، فَأَمَّا النَّجِسُ فَقَدْ مَضَى الكلام في ولوغه ونجاسته سُؤْرِهِ، وَأَمَّا الطَّاهِرُ فَهُوَ مَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُتَوَلَّدُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَسُؤْرُ جَمِيعِهِ طَاهِرٌ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَسُؤْرُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ، وَكَذَا لُعَابُهُ.
وقال أبو حنيفة: سؤر السباع نجس لا يعفى عنه، وسؤر حيوان الطين نَجِسٌ، لَكِنْ يُعْفَى عَنْهُ وَسُؤْرُ الْهِرِّ وَحَشَرَاتِ الْأَرْضِ كُلِّهَا طَاهِرٌ، وَسُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ مَشْكُوكٌ فِيهِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: " سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ وَمَا يَنُوبُهُ من(1/317)
السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ فَقَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شيءٌ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِوُرُودِ السِّبَاعِ تَأْثِيرًا فِي تَنْجِيسِ الْمَاءِ.
وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَسَارَ لَيْلًا فَمَرُّوا عَلَى رجلٍ جالسٍ عِنْدَ مقراةٍ لَهُ فَقَالَ عُمَرُ يَا صَاحِبَ الْمِقْرَاةِ أَوَقَعَتِ السِّبَاعُ اللَّيْلَةَ فِي مِقْرَاتِكَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبَيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا صَاحِبَ الْمِقْرَاةِ لَا تُخْبِرْهُ هَذَا تكلفٌ لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابًا وَطَهُورًا ".
قَالُوا: فَلَوْلَا أَنَّ لِلْأَخْبَارِ بِوُرُودِهَا تَأْثِيرًا فِي الْمَنْعِ مِنْهُ لَمَا نَهَاهُ عَنْ إِخْبَارِهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ كَانَ لَبَنُهُ نَجِسًا، كَانَ سُؤْرُهُ نَجِسًا، كَالْكَلْبِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ لِلْكَلْبِ حُكْمَيْنِ نَجَاسَةِ الْعَيْنِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السِّبَاعُ مُسَاوِيَةً لِلْكَلْبِ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي نَجَاسَةِ الْعَيْنِ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ تَحْرِيمٌ تَعَلَّقَ بِالْكَلْبِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالسِّبَاعِ كَالْأَكْلِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ أَيُتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتِ الْحُمُرُ؟ قَالَ نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتِ السِّبَاعُ كُلُّهَا، وَهَذَا نَصٌّ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدَةَ بِنْتِ عُبَيْدَةَ عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ فَسَكَبَتْ لَهُ وَضَوْءًا فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءُ حَتَّى شَرِبَتْ فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ أَتَعْجَبِينَ يَا بِنْتَ أَخِي إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بنجسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ والطوافات ".(1/318)
وروى داود بن صَالِحٌ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا جَاءَتْ عَائِشَةَ بِصَحِيفَةِ هَرِيسٍ، وَهِيَ قائمةٌ تُصَلِّي، فَإِذَا سُؤْرٌ أَخَذَ مِنْهَا لُقْمَةً فَدَوَّرَتْهَا عَائِشَةُ ثُمَ أَكَلَتْ مِنْهَا مِنْ حَيْثُ أَكَلَتْ ثَمَّ قَالَتْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال إِنَّهَا لَيْسَتْ بنجسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا.
فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ سُؤْرَ الْهِرِّ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَا مَكْرُوهٍ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَسْتَعْمِلُ نَجِسًا وَلَا مَكْرُوهًا، وَلِأَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ لَوْ أَصَابَ ثَوْبًا رَطْبًا لَمْ يُنَجِّسْهُ فَإِذَا أَصَابَ الْمَاءَ لَمْ يُنَجَّسْ كَالْهِرِّ طَرْدًا، وَالْكَلْبِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَنْجَسْ بِمُلَاقَاةِ الْهِرِّ لَمْ يَنْجَسْ بِمُلَاقَاةِ السَّبْعِ كَالثَّوْبِ الرَّطْبِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ فَمِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نُطْقَهُ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ الْقُلَّتَيْنِ، وَهُوَ عِنْدُهُمْ نَجِسٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى وُرُودِ الْكِلَابِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلْبَ يُسَمَّى سَبْعًا، وَالثَّانِي أَنَّ مَا وَرَدَتْهُ السِّبَاعُ مَعَ تَوَحُّشِهَا، وَقِلَّتِهَا كَانَ وُرُودُ الْكِلَابِ لَهَا مَعَ أُنْسِهَا وَكَثْرَتِهَا أَكْثَرَ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ الثَّانِي فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ وَتَوَقِّي الْأَنْجَاسِ فِي الطَّهَارَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سَأَلَ عَنْهُ لَا يَقْتَضِي التَّنْجِيسَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَرَدَا عَلَى مَاءٍ فَسَأَلَ عَمْرُو صَاحِبَ الْمَاءِ هَلْ تَرِدُهُ السِّبَاعُ فَقَالَ عُمَرُ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ السِّبَاعُ عَلَيْنَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ أَنَّ لَبَنَهُ نَجِسٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي لَبَنِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ هَلْ هُوَ نَجِسٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ شُرْبِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمَ الشُّرْبِ كَاللُّعَابِ فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ التَّعْلِيلُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ كَاللَّحْمِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقِيَاسُ مُنْتَقِضًا بِالْهِرِّ لَبَنُهَا نَجِسٌ، وَسُؤْرُهَا طَاهِرٌ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْكَلْبِ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ، وَتَحْرِيمُ ثَمَنِهِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ الدَّالِّ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِهِ فَمُنْتَقِضٌ بِبَنِي آدَمَ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْأَكْلِ أَنَّهُ قَدْ يَحْرُمُ فِيمَا لَا يَكُونُ نَجِسًا مِنْ سُمُومِ النَّبَاتِ.(1/319)
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَغَمْسُ الذُّبَابِ فِي الْإِنَاءِ لَيْسَ يَقْتُلُهُ وَالذُّبَابُ لَا يُؤْكَلُ فِإِنْ مَاتَ ذبابٌ أَوْ خنفساءٌ أو نحوهما فِي إناءٍ نَجَّسَهُ (وَقَالَ فِي موضعٍ آخَرَ) إن وقع في الماء الذي ينجسه مثله إِذَا كَانَ مِمَا لَهُ نفسٌ سائلةٌ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ وَقَوْلِهِ مَعَهُمْ أَوْلَى بِهِ مِنِ انْفِرَادِهِ عَنْهُمْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيَوَانَ كُلَّهُ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ: لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ وَالْعَصَافِيرِ وَسَائِرِ الطَّيْرِ وَسَيَلَانُ نَفْسِهِ هُوَ جَرَيَانُ دَمِهِ، فَإِذَا مَاتَ كَانَ نَجِسًا إِلَّا ابْنَ آدَمَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، فَإِذَا مَاتَ فِي مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ قَلِيلٍ صَارَ نَجِسًا.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَهُوَ ضَرْبَانِ مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ، فَأَمَّا الْمَأْكُولُ كَالْحُوتِ وَالْجَرَادِ فَسَنَذْكُرُهُمَا وَنَذْكُرُ مَا مَاتَا فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْكُولِ فَكَالذُّبَابِ وَالْخَنَافِسِ وَالزَّنَابِيرِ وَالدِّيدَانِ وَالْعَقَارِبِ وَالْحَيَّاتِ وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا لَا تَسِيلُ نَفْسُهُ، وَلَا يَجْرِي دَمُهُ فَكُلُّهُ إِذَا مَاتَ نَجُسَ، وَأَكْلُهُ حَرَامٌ سَوَاءٌ تَوَلَّدَ فِي طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ كَدُودِ النَّحْلِ وَالْفَاكِهَةِ أَمْ لَا، كَالزَّنَابِيرِ وَالْعَقَارِبِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُدُ كُلُّ ذَلِكَ طَاهِرٌ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ، وَقَالَ أبو حنيفة: كُلُّهُ طَاهِرٌ وَأَكْلُهُ حَرَامٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ فُقَهَاءِ خُرَاسَانَ مَا تَوَلَّدَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَأَكْلُهُ حَلَالٌ، وَمَا لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ وَأَكْلُهُ حَرَامٌ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِطِهَارَتِهِ بِأَنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ يَسْتَوِي حُكْمُ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ كَالْحُوتِ وَالْجَرَادِ، قِيَاسًا مُطَّرِدًا، وَالدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ.
قُلْنَا: مُنْعَكِسًا، وَلِأَنَّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ أَحَدُ نَوْعَيِ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ مَأْكُولِهِ وَغَيْرُ مَأْكُولِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ.
ودليلنا قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِيماَ أُوْحِيَ إِلَيَّ) {الأنعام: 145) ، إِلَى قَوْلِهِ: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} فكان قوله: إلا أن يكون ميتةً دليل على تحريمه، وقوله: فإنه رجسٌ دليل عَلَى تَنْجِيسِهِ، وَلِأَنَّ تَفْوِيتَ الرُّوحِ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ جَوَازُ الْبَيْعِ مَعَ عَدَمِ الْحُرْمَةِ أَوْجَبَ التَّنْجِيسَ، وَتَحْرِيمَ الْأَكْلِ قِيَاسًا عَلَى مَوْتِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَحْرِيمٍ تَعَلَّقَ بِمَوْتِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ تَعَلَّقَ بِمَوْتِ نوِعِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْحَيَوَانِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ مَأْكُولًا وَغَيْرَ مَأْكُولٍ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَسْوِيَتِهِمْ بَيْنَ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ كَالْجَرَادِ وَالْحُوتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ مَانِعٌ مِنَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ مَوْتِ الْحَيَوَانِ وَحَيَاتِهِ كَالَّذِي لَا نفس له سائلة.(1/320)
والثاني: أن الشرع بتخصيص الْحُوتِ وَالْجَرَادِ بَعْدَ الْحَظْرِ مَانِعٌ مِنْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كما صح أَنْ تُقَاسَ عَلَيْهِ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَسْوِيَتِهِمْ بَيْنَ مَوْتِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، فَهُوَ أَنَّ مَوْتَ مَا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ جَمِيعِهِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ اسْتَوَى، حُكْمُ جَمِيعِهِ فِي التَّنْجِيسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُهُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ، اخْتَلَفَ حَالُهُ فِي التَّنْجِيسِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ.
(فَصْلٌ: حُكْمُ الْمَائِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سائلة)
فإذا تقرر ما وصفنا من حال نجاسته بِالْمَوْتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى نَجَاسَةِ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ قَلِيلٍ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
ضَرْبٌ: تَوَلَّدَ مِنْ نَفْسِ مَا مَاتَ فِيهِ كَدُودِ الْخَلِّ وَاللَّبَنِ إِذَا مَاتَ فِي الْخَلِّ، وَاللَّبَنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَجِّسُ، لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْ مَوْتِ مَا تَوَلَّدَ فِيهِ مِنْ دُودٍ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ، فَلَوْ نُقِلَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأُلْقِيَ فِي غَيْرِهِ مِنْ مَائِعٍ أَوْ مَاءٍ صَارَ مَا أُلْقِيَ فِيهِ نَجِسًا، لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَنْ مُتَوَلِّدٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ كَالذُّبَابِ وَالْخَنَافِسِ وَالْجِعْلَانِ، فَإِذَا مَاتَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ فَفِي تَنْجِيسِهِ بِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ؛ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ عَلَى طَهَارَتِهِ لَا يُنَجِّسُ لِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَقَطَ الذُّبَابُ فِي الطَّعَامِ فَامْقُلُوهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ سُمًّا وَفِي الْآخَرِ شفاءٌ وَإِنَهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ وَيُؤَخِّرُ الْشِّفَاءَ " فَلَوْ كَانَ يُنَجِّسُ بِمَوْتِهِ لَمَا أَمَرَ بِمَقْلِهِ وَمَقْلُهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ، وَرَوَى نَبِيهٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ بِشْرِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا سَلْمَانُ كُلُّ طعامٍ وشرابٍ وَقَعَتْ فِيهِ ذبابةٌ لَيْسَ لَهَا دمٌ فَمَاتَتْ فِيهِ فَهُوَ حلالٌ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَوُضُوءُهُ " وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ خِلَافَهُ، وَلِأَنَّ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهُ مَشَقَّةً فَعُفِيَ عَنْهُ.(1/321)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ إِنَّهُ قَدْ يَنْجَسُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ حَلَّتْ مَاءً قَلِيلًا قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَنْجَاسِ، وَلِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ مُمْكِنٌ بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ وَلِذَلِكَ جَاءَ الْخَبَرُ بِمَا رَوَاهُ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِتَغْطِيَةِ الْوَضُوءِ وَإِيكَاءِ السِّقَاءِ وَإِكْفَاءِ الْإِنَاءِ " فَكَانَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ حِفْظًا لِلْمَاءِ مِنْ وُقُوعِ مَا يُنَجِّسُ بِهِ، وَغَالِبُ مَا يَقَعُ فِيهَا هُوَ الذُّبَابُ وَالْحَشَرَاتُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُوجِبٌ لِتَنْجِيسٍ مَا مَاتَ فِيهِ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَصَحُّ، فَإِذَا قِيلَ بِتَنْجِيسِ مَا مَاتَ فِيهِ فَسَوَاءٌ غير الماء أو يفضل فيه أم لَا؟ قَدْ نُجِّسَ بِمَوْتِهِ فِي الْحَالِ، وَإِذَا قِيلَ بِطَهَارَةِ مَا مَاتَ فِيهِ فَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ وَيَفْضُلْ فِيهِ، فإن تغير به الماء ويفضل فِيهِ لِطُولِ الْمُكْثِ فَفِي نَجَاسَتِهِ حِينَئِذٍ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ مَا قَلَّ مَنَ الْمَاءِ إِذَا لَمْ يَنْجَسْ بِمُلَاقَاةِ الْعَيْنِ لَمْ يَنْجَسْ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّقْطِيعِ وَطُولِ الْمُكْثِ، كَالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ نَجِسًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ مِنْهُ وَقْتَ حُلُولِهِ مُتَعَذِّرٌ وَالِاحْتِرَازَ مِنْ طُولِ مُكْثِهِ مُمْكِنٌ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْضُلْ يَعْنِي يَنْقَطِعْ، فَأَمَّا الْحَيَّاتُ وَالْوَزَغُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هِيَ ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّرَاكِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِنِيُّ: هِيَ ذَاتُ نَفْسٍ سَائِلَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَنْجَسُ مَا مَاتَا فِيهِ، وَقَالَ أَبُو الْفَيَّاضِ وَأَبُو القاسم الصميري لَيْسَتْ ذَاتَ نَفْسٍ سَائِلَةٍ، فَعَلَى هَذَا فِي تَنْجِيسِ مَا مَاتَا فِيهِ قَوْلَانِ.
(مَسْأَلَةٌ: إِذَا وقعت في الماء جرادة أو حوت)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ وَقَعَتْ فِيهِ جرادةٌ ميتةٌ أَوْ حوتٌ لم تنجسه؛ لأنهما مأكولان ميتين ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أحِلَّتْ لَنَا ميْتَتَانِ وَدَمَانِ ". فَذَكَرَ فِي الْمَيِّتَيْنَ الْحُوتَ وَالْجَرَادَ، وَفِي الدَّمَيْنِ الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ، فَأَمَّا الْجَرَادُ فَمِنْ صَيْدِ الْبَرِّ، فَهُوَ مَأْكُولٌ، وَمَوْتُهُ ذَكَاتُهُ، فَإِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ أو وقع فيه ميتاً فالماء طهار؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُحَلَّلٌ أَكْلُهُ كَاللَّحْمِ الذَّكِيِّ لا ينجس الماء بوقوعه فيه وأما الجواب عن صَيْدِ الْبَحْرِ وَصَيْدُ الْبَحْرِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ مُتَّفَقٌ عَلَى أَكْلِهِ، وَهُوَ الْحُوتُ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ فَهُوَ
طَاهِرٌ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْتُهُ بِسَبَبٍ، أَوْ غَيْرِ سَبَبٍ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ مَوْتُهُ بسبب(1/322)
أَكْلٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يُؤْكَلْ، وَلِلْكَلَامِ مَعَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، فَأَمَّا دَمُ الْحُوتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَجِسٌ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ، وَيُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ طَاهِرٌ، لَا يُنَجِّسُ مَا أَصَابَهُ؛ لِأَنَّ الْحُوتَ لَمَّا بَايَنَ سَائِرَ الْأَمْوَاتِ بَايَنَ دَمُهُ سَائِرَ الدِّمَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ مَا اتُّفِقَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ الضُّفْدَعُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ ذَوَاتِ السُّمُومِ كَحَيَّاتِ الْمَاءِ وَعَقَارِبِهِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مُحَرَّمَةُ الْأَكْلِ، وَهِيَ إِذَا مَاتَتْ نَجِسَةٌ، وَهَلْ يَنْجَسُ الْمَاءُ بِمَوْتِهِ فِيهِ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا مَضَى فِي الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ أبو حنيفة: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً، وَلَا يَنْجَسُ الْمَاءُ بِمَوْتِهَا عَلَى أَصْلِهِ فِيمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي إِبَاحَتِهِ، وَهُوَ مَا سِوَى الْحُوتِ الْمُبَاحِ، وَذَوَاتِ السُّمُومِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ دَوَابِّ الْمَاءِ وَكِلَابِهِ وَخَنَازِيرِهِ وَسِبَاعِهِ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ مَا سَنَشْرَحُهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ جَمِيعَهُ حَرَامٌ مَا لَمْ يَكُنْ حُوتًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ " فَذَكَرَ الْحُوتَ وَالْجَرَادَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْحُوتِ لَيْسَ بِحَلَالٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَهُ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْبَحْرِ: " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي جَمِيعِ مَيْتَتِهِ.
وَالثَّالِثُ: أم ما أشبه محرمات البر كالكلاب والخنازير والحمر وَالسِّبَاعِ كَانَ حَرَامًا، وَمَا أَشْبَهَ الْمَأْكُولَ مِنْهُ مِثْلُ دَوَابِّ الْمَاءِ وَبَقَرِهِ كَانَ حَلَالًا، فَعَلَى هَذَا إِذَا قُلْنَا: بِإِحْلَالِ ذَلِكَ، فَهُوَ طَاهِرٌ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْمَاءُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ طَاهِرٌ، وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ حَرَامٌ، كَانَ نَجِسًا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَلْ يُنَجِّسُ مَا مَاتَ فِيهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا يُنَجِّسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(مَسْأَلَةٌ: لُعَابُ الْحَيَوَانِ وعرقه)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلُعَابُ الدَوَابِّ وَعَرَقُهَا قِيَاسًا عَلَى بَنِي آدَمَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: كُلُّ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فَلُعَابُهُ وَعَرَقُهُ طَاهِرٌ، سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ.
وَقَدْ قَالَ أبو حنيفة: مَا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ فَلُعَابُهُ وَعَرَقُهُ نَجِسٌ، عَلَى تَرْتِيبِ مَا قَالَهُ فِي نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ بناء عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ، ثُمَّ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ بَلَلٌ مُنْفَصِلٌ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى لَبَنِهِ.(1/323)
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه أعر فرساً لأبي طلحة الأنصاري وأجرأه ثُمَّ قَالَ إِنَّنَا وَجَدْنَاهُ بَحْرًا " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَرَسَ إِذَا جَرَى عَرِقَ لَا سِيَّمَا فِي حَرِّ تِهَامَةَ، وَابْتَلَّتْ ثِيَابُهُ بِهِ إِذْ لَيْسَ دُونَهَا حَائِلٌ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَكِبَ حِمَارًا بِلَا إكافٍ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ عَيْنُهُ طَاهِرَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لُعَابُهُ وَعَرَقُهُ طَاهِرًا قِيَاسًا عَلَى بَنِي آدَمَ فَأَمَا قِيَاسُهُ عَلَى لَبَنِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَصْحَابِنَا فِيهِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ كَلُعَابِهِ وَعَرَقِهِ، فَعَلَى هَذَا يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إِذَا سَلِمَ الْقِيَاسُ مِنَ النَّقْضِ بِرِيقِ الْهِرَّةِ إِمْكَانَ التَّحَرُّزِ مِنْ لَبَنِهِ وتعذر الحرز مِنْ عَرَقِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ: دَبْغُ الْإِهَابِ)
قال الشافعي رضي الله عنه: (قَالَ) وَأَيُّمَا إِهَابِ ميتةٍ دُبِغَ بِمَا يَدْبُغُ بِهِ الْعَرَبُ أَوْ نَحْوِهِ فَقَدْ طَهُرَ وَحَلَّ بَيْعُهُ وَتُوُضِئَ فِيهِ إِلَّا جِلْدَ كلبٍ أَوْ خنزيرٍ لِأَنَّهُمَا نَجِسَانِ وَهُمَا حَيَّانِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً في باب الآنية.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَطْهُرُ بِالْدِّبَاغِ عظمٌ وَلَا صوفٌ وَلَا شعرٌ لِأَنَّهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ وَبَعْدَهُ سواءٌ ".
قَالَ الماوردي: وقد مضت هذه المسالة أيضاً بما يغني عن الإعادة.(1/324)
(بَابُ الْمَاءِ الَّذِي يَنْجَسُ وَالَّذِي لَا يَنْجَسُ)
قال الشافعي: " أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كثيرٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ محمدٍ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنَهُ قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يحمل نجساً أو قال خبثاً " عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نجساً " أو قال خبثاً وهو صَحِيحٌ، وَلِلنَّجَاسَةِ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْمَاءِ حَالَانِ.
حَالٌ تُغَيِّرُ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ، فَيَصِيرُ الْمَاءُ بِهَا نَجِسًا، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَهُوَ إِجْمَاعٌ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا تُغَيِّرَ النَّجَاسَةُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِ الْمَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي نَجَاسَتِهِ بِالتَّغْيِيرِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنْ قَلَّ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ اعْتِبَارَ نَجَاسَتِهِ بِالِاخْتِلَاطِ، وَاخْتِلَاطَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ مُعْتَبَرٌ بِأَنَّهُ مَتَى حُرِّكَ أَدْنَاهُ تَحَرَّكَ أَقْصَاهُ وَقِيلَ: مَا الْتَقَى طَرَفَاهُ فَيَصِيرُ الماء به نجساً وإن لم يتلق طَرَفَاهُ، وَلَا تَحَرَّكَ أَقْصَاهُ بِتَحْرِيكِ أَدْنَاهُ كَانَ مَا لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنَ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَةِ طَاهِرًا، وَاخْتَلَفَتْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ فِيمَا تَحَرَّكَ فَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ طَاهِرٌ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ اعْتِبَارَ نَجَاسَتِهِ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَإِنْ قَلَّ الْمَاءُ كَانَ نَجِسًا وَإِنْ كَثُرَ كَانَ طَاهِرًا، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَحْدُودٌ بَقُلَّتَيْنِ، فَإِنْ بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ كَثِيرٌ، لَا يَنْجَسُ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، فَهُوَ نَجِسٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ(1/325)
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَمِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ ابْنُ جَرِيحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَحْدُودٌ بِأَرْبَعِينَ قُلَّةً، وَالْقُلَّةُ مِنْهَا كَالْجَرَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَحْدُودُ بِكَرٍّ، وَالْكَرُّ عِنْدَهُمْ أَرْبَعُونَ قَفِيزًا، وَالْقَفِيزُ عِنْدَهُمُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا، وَكَانَ مِقْدَارُ ذَلِكَ أَلْفَ رِطْلٍ، وَمِائَتَيْ رِطْلٍ، وَثَمَانِينَ رِطْلًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ وَوَكِيعِ بْنِ الْجِرَّاحِ فَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْمَشْهُورَةُ فِيمَا يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ وَلَا يُنَجَّسُ.
(فَصْلٌ: اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الماء بالتغيير) .
وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ مُعْتَبَرَةٌ بِالتَّغْيِيرِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رَائِحَتَهُ " قَالُوا: وَلِأَنَّ مَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالْقُلَّتَيْنِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ حُصُولَ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ قَدْ تَكُونُ تارة بورودها على الماء، وتارة بورد الْمَاءِ عَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ إِذَا وَرَدَ عَلَى النَّجَاسَةِ لَمْ يُنَجَّسْ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ وَجَبَ إِذَا وَرَدَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى الْمَاءِ لَا يُنَجَّسُ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ.
(فَصْلٌ: اسْتِدْلَالُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أن نجاسة الماء معتبرة بالاختلاط)
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى أَنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ مُعْتَبَرَةً بِالِاخْتِلَاطِ بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ " فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ التَّنْجِيسِ بِالِاخْتِلَاطِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَذَرٍ فِيهِ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَحَ بِئْرَ زَمْزَمَ مِنْ زنجيٍّ مَاتَ فِيهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَاءَهَا كَثِيرٌ، وَلَمْ يُنْقَلِ التَّغْيِيرُ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ مَعَ ضَنِّهِمْ بِمَاءِ زَمْزَمَ أَنْ يُرَاقَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ إِلَّا فِي قُرْبَةٍ، فَصَارَ إِجْمَاعُ الْعَصْرِ، قَالَ: وَلِأَنَّ مَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَائِعٌ تَنَجَّسَ قَلِيلُهُ بِمُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ قِيَاسًاِ عَلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهَا حَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ فَغَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ عَلَى الْمُتَوَلِّدِ مِنْ بَيْنِ(1/326)
مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، وَكَالْوَلَدِ إِذَا كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وَثَنِيًّا، وَالْآخَرُ كِتَابِيًّا فَاقْتَضَى شَاهِدُ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي تَغْلِيبِ الْحَظْرِ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ النَّجَاسَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ.
(فَصْلٌ: دَفْعُ مَا اعْتَرَضَ به الخصم عن حديث " القلتان ")
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا " فَدَلَّ تَحْدِيدُ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْقَدْرَ مُعْتَبَرٌ، وَأَنْ لَا اعْتِبَارَ بِالِاخْتِلَاطِ فِيمَا زَادَ، ولا اعتبار بعدم المعتبر فيما نقص، اعترضوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِسَبْعَةِ أَسْئِلَةٍ ثَلَاثَةٍ فِي إسناده وأربعة في متنه:
أحدهما: أَنْ قَالُوا إِنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَاهُ عَنْ مَجْهُولٍ، لِأَنَّهُ قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ، وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً عِنْدَهُ وَمَجْرُوحًا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَجَهَالَةُ الرَّاوِي تَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ، وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَعْرُوفٌ وَإِنْ كُنِّيَ عَنِ اسْمِهِ فَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ الْكُوفِيُّ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ، وَحُكِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنْ مَعْمَرٍ فَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، وَإِذَا قَالَ أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ فَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَضَعَ هَذَا التَّصْنِيفَ بِمِصْرَ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ بِمَكَّةَ، فَكَانَ يُورِدُ الْحَدِيثَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَهُ بِهِ أَحَدُ الثِّقَاتِ عَنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِثْلَ أَنْ يُحَدِّثَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَالِكٌ تَارَةً، وَسُفْيَانُ تَارَةً، فَإِذَا تَيَقَّنَ رِوَايَةَ الزُّهْرِيِّ، وَشَكَّ فِي الَّذِي حَدَّثَهُ عَنْهُ هَلْ هُوَ مَالِكٌ أَوْ سُفْيَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهَذَا جائز.(1/327)
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا فِي إِسْنَادِهِ قَدْحٌ مِنْ وَجْهٍ ثانٍ وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ، رَوَاهُ تَارَةً عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ وَتَارَةً عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهَذَا اضْطِرَابٌ يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ كَثِيرٍ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ جَمِيعًا، فَجَازَ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ شَكًّا فِي أَحَدِهِمَا، وَهُمَا ثِقَتَانِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ عَنْ أَيِّهِمَا أَسْنَدَهُ لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِهِ.
وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِنْ قَالُوا إن في إسناده قدح مِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ، وَهُوَ أَنَّهُ رَوَى تَارَةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَتَارَةً عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْوَاقِدِيَّ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ أَخَوَانِ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهُمَا ثِقَتَانِ، وَقَدْ رَوَيَا جَمِيعًا هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَقِيَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَيْضًا.
وَالسُّؤَالُ الرَّابِعُ: فِي مَتْنِهِ: إِنْ قَالُوا وَالْقُلَّةُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَتَنَاوَلُ أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةً فَمِنْهَا الجرة التي تلقها الْيَدُ، وَمِنْهَا قُلَّةُ الْجَبَلِ، وَمِنْهَا قَامَةُ الرَّجُلِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِ، وَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْعُ اشْتِرَاكِهِ فِي الْمُسَمَّيَاتِ يُفِيدُ تَحْدِيدَ الْمَاءِ فِي النَّجَاسَاتِ وَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ إِلَّا الْأَوَانِيَ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا أَوْعِيَةُ الْمَاءِ الَّتِي يَقْدِرُ بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَشْهَرُ فِي الْحِكَايَاتِ وَأَكْثَرُ عُرْفًا في الاستعمال قال حميد بْنُ مَعْمَرٍ:
(فَظَلَلْنَا بنعمةٍ وَاتَّكَأْنَا ... وَشَرِبْنَا الْحَلَالَ مِنْ قُلَلِهِ)
وَقَالَ الْأَخْطَلُ:(1/328)
(يَمْشُونَ حَوْلَ مكدمٍ قَدْ كَدَّحَتْ ... مَتْنَيْهِ حَمْلُ حناتمٍ وقلالٍ)
يعني: ملخ الْجِلْدَ مِنَ الْكَدِّ.
وَالسُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ اسْمَ الْقُلَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْأَوَانِي، فَقَدْ يَتَنَاوَلُ صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا فَيَتَنَاوَلُ الْكُوزَ؛ لِأَنَّهُ يُقَلُّ بِالْأَصَابِعِ، وَيَتَنَاوَلُ الْجَرَّةَ؛ لِأَنَّهَا تُقَلُّ بِالْيَدِ، وَيَتَنَاوَلُ الْحَبَّ؛ لِأَنَّهُ يُقَلُّ بِالْكَتِفِ، وَمَا كَانَ مُخْتَلِفَ الْقَدْرِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا وَعَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مِقْدَارًا بَعْدُ وَمِنْهَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَكْثَرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْدِيرِهِ بِقُلَّتَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ عَلَى تَقْدِيرِهِ بِوَاحِدَةٍ كَبِيرَةٍ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِقِلَالِ هَجَرَ " وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سِقْلَابٍ.
وَالسُّؤَالُ السَّادِسُ: قَالُوا: فَهُوَ وَإِنْ يَتَنَاوَلْ قِلَالًا مُتَمَيِّزَةً مِنْ قِلَالِ هَجَرَ، فَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ مُخْتَلِفًا فِي الْعَدَدِ فَرُوِيَ " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ " وَرُوِيَ " إِذَا كَانَ ثَلَاثًا " وَرُوِيَ " إِذَا كَانَ أَرْبَعِينَ قُلَّةً " فَكَيْفَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْمِلُوا حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ وَتُسْقِطُوا مَا سِوَاهُ مِنَ الْعَدَدِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَدِيثَ الْأَرْبَعِينَ قُلَّةً رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِهِ، وحديث الثلاثة القلال تَفَرَّدَ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَشَكَّ فِي قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَسَائِرُ أَصْحَابِ حَمَّادٍ رَوَوْا قُلَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي ثَلَاثٍ وَهَكَذَا مَنْ رَوَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، والنقلة الثِّقَاتُ لَمْ يَشُكُّوا فِيهَا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَكٌّ لِوَاحِدٍ مُعَارِضًا لِيَقِينِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا وَيُسْتَعْمَلَ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَارُضٌ فَيَكُونَ الْقُلَّتَانِ مَحْمُولًا عَلَى قِلَالِ هَجَرَ، كَمَا جَاءَ فِيهِ النَّصُّ، وَالثَّلَاثُ عَلَى قِلَالٍ أَصْغَرَ مِنْهَا فَتَسَعُ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ، وَالْأَرْبَعُونَ قُلَّةً عَلَى صِغَارِهَا الَّتِي تُقَلُّ بِالْيَدِ تَكُونُ بِقَدْرِ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ.(1/329)
وَالسُّؤَالُ السَّابِعُ: إِنْ قَالُوا: تَسْلِيمُ الْحَدِيثِ عَلَى لَفْظِهِ فِي الْقُلَّتَيْنِ يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ، وَالتَّعَلُّقِ بِظَاهِرِ لَفْظِهِ لِقَوْلِهِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا يَعْنِي أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنِ احْتِمَالِ الْخَبَثِ، كَمَا يُقَالُ هَذَا الْخَلُّ لَا يَحْمِلُ الْمَاءَ لِضَعْفِهِ عَنْهُ، وَهَذَا الطَّعَامُ، لَا يَحْمِلُ الْغِشَّ يَعْنِي أَنَّهُ يَضْعُفُ عَنْهُ، وَيَفْسُدُ بِهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ لَا يَحْمِلُ هَذَا الْمَتَاعَ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ، وَعَنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ مِنَ الْجَوَابِ:
أَحَدُهَا: إِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِتَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ فَائِدَةٌ، وَهَذَا فَاسِدٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي أَكْثَرِ الْأَخْبَارِ لَمْ يُنَجَّسْ، وَهَذَا صَرِيحٌ لَا تَأْوِيلَ عَلَيْهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا أَيْ لَمْ يَقْبَلْ خَبَثًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أسْفَاراً) {الجمعة: 5) أَيْ لَمْ يَقْبَلُوهَا وَلَمْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَهَا، فَسَلِمَ الحديث من الِاعْتِرَاضِ بِهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَصَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى كُلِّ مُخَالِفٍ.
(فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ)
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَالِكٍ خَاصَّةً بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا " فَمَنَعَ مِنْ غَمْسِهَا خَوْفًا مِنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ بِهَا فَدَلَّ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي مُخَالَطَةِ الْحَظْرِ لَهُ، فَإِنِ اخْتَلَطَ بِالْقَلِيلِ كَانَ حُكْمُ الْحَظْرِ أَغْلَبَ، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِالْكَثِيرِ كَانَ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ أَغْلَبَ، أَلَا تَرَى لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُ رَجُلٍ بِعَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ حُرِّمْنَ كُلُّهُنَّ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لَحُكْمِ الْحَظْرِ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ حَلَلْنَ لَهُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ، كَذَلِكَ النَّجَاسَةُ، وَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِمَاءٍ قَلِيلٍ وَجَبَ تَغْلِيظُ الْحَظْرِ فِي النَّجَاسَةِ وَإِنِ اخْتَلَطَتْ بِمَاءٍ كَثِيرٍ وَجَبَ تَغْلِيبُ الْإِبَاحَةِ فِي الطَّهَارَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ اسْتِدْلَالٍ بَعْدَ النَّصِّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أبي حنيفة أَيْضًا، ثُمَّ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ مَاءٌ قَلِيلٌ خَالَطَهُ نَجَاسَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى الْمُتَغَيِّرِ.
(فَصْلٌ: الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أبي حنيفة مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَلِيطِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قِيلَ لَهُ إِنَّكَ(1/330)
تَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بضاعةٍ، وَهِيَ يُطْرَحُ فِيهَا الْمَحَائِضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ، وَمَا يُنْجِي النَّاسُ. فَقَالَ: " الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شيءٌ " فَلَمْ يَجْعَلْ لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ تَأْثِيرًا فِي نَجَاسَتِهِ وَهَذَا نَصٌّ يدفع قول أبي حنيفة.
اعترضوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِسُؤَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ عَيْنٌ جَارِيَةٌ إِلَى بَسَاتِينَ تَشْرَبُ مِنْهَا وَالْمَاءُ الْجَارِي لَا يَثْبُتُ فِيهِ نَجَاسَةٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ بِئْرَ بُضَاعَةَ أَشْهَرُ حَالًا مِنْ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهَا لِهَذَا السُّؤَالِ، وَهِيَ بِئْرٌ فِي بَنِي سَاعِدَةَ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سننه: قدرت أنا بئر بضاعة بردائي أي: مدرته عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ، فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ. وَسَأَلْتُ الَّذِي فَتَحَ لِيَ الْبُسْتَانَ فَأَدْخَلَنِي إِلَيْهِ: هل غير بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَا، وَرَأَيْتُ فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ، لَا يَبْقَى فِيهِ التَّغْيِيرُ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَسَمِعْتُ قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا، قَالَ: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ قَالَ إِلَى الْعَانَةِ قُلْتُ: وَإِذَا نَقَصَ، قَالَ: دُونَ الْعَوْرَةِ.
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: إِنْ قَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى الصَّحَابَةِ أَنْ يُلْقُوا فِي بِئْرٍ يَتَوَضَّأُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَحَائِضَ وَلُحُومَ الْكِلَابِ بَلْ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ، وَهُوَ بِصِيَانَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، أَوْلَى فَدَلَّ عَلَى وَهَاءِ الْحَدِيثِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَصِحُّ إِضَافَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ وَلَا رَوَيْنَا أَنَّهُمْ فَعَلُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِئْرُ بُضَاعَةَ بِقُرْبٍ مِنْ مَكَانِ الجيف والمحائض، وملقى الأنجاس، وكانت تهب الرِّيحِ، فَكَانَتِ الرِّيحُ تُلْقِي الْمَحَائِضَ وَالْأَنْجَاسَ فِيهَا، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَاءٌ كَثِيرٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُنَجَّسَ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ لَمْ تُغَيِّرْهُ قِيَاسًا عَلَى وُقُوعِ الْبَعْرَةِ الْيَابِسَةِ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ الْبَعْرَةُ الْيَابِسَةُ لَمْ تُخَالِطْهُ قِيلَ الِاعْتِبَارُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ لَا بِمُخَالَطَتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ شَعْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهُ يُنَجِّسُ الماء إذا وقع فيه، وَإِنْ لَمْ يُخَالِطْهُ، وَلِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُنَجَّسَ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ قِيَاسًا عَلَى مَا لَا يَلْتَقِي طَرَفَاهُ مِنْ بِئْرٍ أَوْ غَدِيرٍ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِالْأَوْعِيَةِ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى صَوْنِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَصَارَ التَّحَرُّزُ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ شَاقًّا فَعُفِيَ عَنْهُ كَدَمِ الْبَرَاغِيثِ، وَالْمَاءُ الْقَلِيلُ يُمْكِنُ حِفْظُهُ، بِالْأَوْعِيَةِ، وَيُقْدَرُ عَلَى صَوْنِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ فَصَارَ التَّحَرُّزُ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ مُمْكِنًا فَلَمْ يعف(1/331)
عَنْهُ كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ، وَلِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ يُفْضِي إِلَى مَا يَدْفَعُهُ الْمَعْقُولُ مِنْ تَنْجِيسِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ، إِذَا ضَاقَ مَكَانُهُ وَتَطْهِيرِ الْقَلِيلِ إِذَا اتَّسَعَ مَكَانُهُ وَكَثِيرُ الْمَاءِ أَدْفَعُ لِلنَّجَاسَةِ مِنْ قَلِيلِهِ.
(فصل: الجواب عن استدلال المالكية)
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ: " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ بِئْرُ بُضَاعَةَ وَلَوْ كَانَ عَامًّا لَخَصَّصْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْكَثِيرِ تَعَذَّرَ صَوْنُهُ عَنِ النَّجَاسَةِ، وَقِلَّةِ التَّحَرُّزِ مِنْ حُلُولِهَا فِيهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ فَفَرْقٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: شَرْعٌ وَمَعْنًى.
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِرَاقَةِ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَقَدْ يُطَهَّرُ بِدُونِ مَا فِيهِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ تَنْجِيسَ الْمَاءِ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ مؤدٍ إِلَى أَنْ لَا تَزُولَ نَجَاسَتُهُ عَنْ مَحَلٍّ إِلَّا بِقُلَّتَيْنِ، وَهَذَا شَاقٌّ فَسَقَطَ، وَتَخْمِيرُ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ مِنَ الْمَاءِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ غَيْرُ شَاقٍّ فَلَزِمَ، وَصَارَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يُنَجَّسُ بِورُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ حِفْظَهُ مِنْهَا بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ مُمْكِنٌ، وَصَارَ وُرُودُهُ عَلَى الْمَاءِ اضْطِرَارًا فَلَمْ ينجس.
(فصل: الجواب عن استدلال الأحناف)
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة مِنَ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّهُ نَصٌ فِي النَّهْيِ عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُفْضِيًا إِلَى تَنْجِيسِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ فَائِدَةٌ.
قُلْنَا: الْتِمَاسُ فَائِدَةِ النَّهْيِ اعْتِرَافٌ بِأَنْ لَا دَلِيلَ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى فَائِدَةِ النَّهْيِ الْخَوْفُ مِنْ تَغْيِيرِ الْمَاءِ بِكَثْرَةِ الْبَوْلِ فَيَصِيرُ بِالتَّغْيِيرِ نَجِسًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَزْحِ ابْنِ عَبَّاسٍ زَمْزَمَ مِنْ زِنْجِيٍّ مَاتَ فِيهَا فَمِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَهَا الشَّافِعِيُّ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ إِنَّ زَمْزَمَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ وَنَحْنُ أُعْرَفُ بِأَحْوَالِهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ مَكَّةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ نَزَحَهَا، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ نَزَحَهَا فَغَلَبَهُ الْمَاءُ لِكَثْرَتِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ، لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَنْ يَكُونَ نَزْحَهَا لِظُهُورِ دَمِ الزِّنْجِيِّ فِيهَا.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ نَزَحَهَا تَنْظِيفًا لَا وَاجِبًا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةٌ لَا تُنَجَّسُ، الْمَاءُ وَالثَّوْبُ وَالْأَرْضُ وَابْنُ آدَمَ.(1/332)
فإن قيل: فما معنى قوله: " لا ينجس "، قِيلَ: يَعْنِي أَنَّ أَعْيَانَهَا لَا تَنْقَلِبُ فَتَصِيرُ نَجِسَةً.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ خَصَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ بِهَذَا الْحُكْمِ، قِيلَ: إِنَّمَا خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا فِي حُكْمِهَا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ مُعْتَبَرَةٌ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَالْأَرْضِ وَالْبَدَنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَائِعَاتِ لَا تَبْلُغُ حَدًّا لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ بِالْأَوْعِيَةِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ صَوْنُهُ عَنِ النَّجَاسَةِ، فَنُجِّسَ بِحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ؛ لِإِمْكَانِ صَوْنِهَا مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمَاءُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ إِمْكَانُ حِفْظِهِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا زَادَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمُ على الطَّهَارَةِ وَالتَّنْظِيفِ مَا لَا يَدْعُو إِلَى اسْتِعْمَالِ الْمَائِعَاتِ فَيُخَفِّفُ حُكْمَ الْمَاءِ؛ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ وَتَغَلَّظَ حُكْمُ غَيْرِهِ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِهِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا لَمْ يَلْتَقِ طَرَفَاهُ مِنَ الْمَاءِ وَبِالثَّوْبِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ مِنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ ثُمَّ الْمَعْنَى فِيمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الْأُصُولِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَأْتِ بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِهِ وَقَدْ جَاءَ بِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ والله أعلم.
(مسألة: مقدار القلتين)
وروى الشافعي رضي الله عنه عَنِ ابْنِ جريجٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِإِسْنَادٍ لَا يَحْضُرُ الشَّافِعِيَّ ذِكْرُهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نجساً وقال في الحديث أو قربتين بِقِلَالِ هجرٍ " وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَدْ رَأَيْتُ قِلَالَ هجرٍ، فَالْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا، قَالَ الشافعي: والاحتياط أَنْ تَكُونَ الْقُلَّتَانِ خَمْسَ قربٍ، قَالَ وَقِرَبُ الْحِجَازِ كِبَارٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ حَدٌّ لِمَا يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ، وَلَا يُنَجَّسْ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ، وَمَعْرِفَةِ قَدْرِهِمَا لِيَصِيرَ الْحَدُّ بِهَا مَعْلُومًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُلَّتَانِ: هُمَا مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَوَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِإِسْنَادٍ لَمْ يَحْضُرِ الشَّافِعِيَّ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " بِقِلَالِ هَجَرَ " فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا مُرْسَلٌ، وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، قِيلَ: هُوَ مُسْنَدٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَإِنْ نَسِيَ إِسْنَادَهُ وَمُرْسَلٌ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَيُلْزَمُ الشَّافِعِيُّ الْعَمَلَ بِهِ لِإِسْنَادِهِ، وَإِنْ لَمْ يُلْزَمْ بِهِ لِإِرْسَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ هِيَ أَكْبَرُ قِلَالٍ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا جُعِلَ مَعْدُودَ الْمَقَادِيرِ حَدًّا لَمْ(1/333)
يَتَنَاوَلْ إِلَّا أَكْثَرَهَا؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ فِي الْعَدَدِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْعِلْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدَّرَ نصاب الزكاة خمسة أَوْسُقٍ؛ لِأَنَّ الْوَسْقَ أَكْبَرُ مِقْدَارٍ لَهُمْ، وَلَمْ يُقَدِّرْهُ بِالْمُدِّ، وَلَا بِالصَّاعِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ مُتَمَاثِلَةٌ لَا تَخْتَلِفُ، وَغَيْرُهَا مِنَ الْقِلَالِ قَدْ تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَمَا يَخْتَلِفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَحْدُودِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قِلَالَ هَجَرَ مُتَمَاثِلَةٌ مَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي وَصْفِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى " رَأَيْتُ أَوْرَاقَهَا كَأَذَانِ الْفِيَلَةِ وَنَبْقَهَا كَقِلَالِ هَجَرَ " فَلَوْ كَانَتْ قِلَالُ هَجَرَ مُخْتَلِفَةَ الْمِقْدَارِ لَمَا عَلِمُوا بِهَذَا التَّشْبِيهِ قَدْرَ نَبْقِهَا، وَلَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَغْوًا فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ أَنَّهَا بِقِلَالِ هَجَرَ فَلَيْسَتْ مَجْلُوبَةً مِنْ هَجَرِ الْبَحْرَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ مَعْمُولَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نِسْبَتِهَا إِلَى هَجَرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهَا تُعْمَلُ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْمَدِينَةِ، تُسَمَّى هَجَرَ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا عُمِلَتْ عَلَى مِثَالِ قِلَالِ هَجَرَ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ مَرْوِيٌّ وَإِنْ عُمِلَ بِالْعِرَاقِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِثَالِ ما يعلم بِمُرْوٍ.
(فَصْلٌ: احْتِيَاطُ الشَّافِعِيِّ فِي تَقْدِيرِهِ لِلْقُلَّتَيْنِ)
ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَرَ قِلَالَ هَجَرَ، وَلَا أَهْلَ عَصْرِهِ؛ لِأَنَّهَا تُرِكَتْ وَنَفِدَتْ فَاحْتَاجَ إِلَى تَقْدِيرِهَا بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ وَمُشَاهَدٌ مِنْهُمْ فَقَدَّرَهَا بِقِرَبِ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ مَشْهُورَةٌ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ قِلَالَ هَجَرَ، والَقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ، أَوْ قَالَ: قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ تَكُونَ الْقُلَّتَانِ خَمْسُ قِرَبٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُ لِابْنِ جُرَيْجٍ، وَالتَّقْلِيدُ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ، قِيلَ: لَيْسَ هَذَا تَقْلِيدًا فِي حُكْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ قَبُولُ خَبَرٍ فِي مَغِيبٍ، وَذَلِكَ جائز.
فإن قيل: لما جُعِلَ الشَّيْءُ الزَّائِدُ عَلَى الْقِرْبَتَيْنِ نِصْفًا وَزَعَمَ أَنَّهُ احْتِيَاطٌ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُنْطَلِقًا عَلَى أَكْثَرِ مِنَ النِّصْفِ، قِيلَ: الشَّيْءُ ها هنا نِصْفٌ فِي الِاحْتِيَاطِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ شَكَّ فِي الْقَدْرِ هَلْ هُوَ قِرْبَتَانِ أَوْ قِرْبَتَانِ وَشَيْءٌ؟ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ إِلَّا يَسِيرًا هُوَ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ لِيَخْفَى وَلَا يَكْثُرَ فَيَزُولُ الشَّكُّ فِيهِ فَلَمَّا جَعَلَهُ نِصْفًا، وَمُقْتَضَى الْحَالِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ كَانَ احْتِيَاطًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّبْعِيضِ كَانَ مُشَارًا بِهِ فِي الْعُرْفِ إِلَى أَقَلِّ الْبَعْضَيْنِ فَإِذَا كَانَ الْبَعْضُ الزَّائِدُ عَلَى الشَّيْئَيْنِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ قَالُوا اثْنَيْنِ وَشَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ، قَالُوا ثَلَاثَةً إِلَّا شَيْئًا، فَلَمَّا جُعِلَ الشَّيْءُ الزَّائِدُ نِصْفًا كَامِلًا كان احتياطاً.(1/334)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْقِرْبَةُ الثَّالِثَةُ مُتَبَعِّضَةٌ فَبَعْضُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْقُلَّةِ، وَبَعْضُهَا لَيْسَ مِنْهَا، ولم يكن تكثيراً أَحَدِ الْبَعْضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، بِأَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ، وَجَبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْبَعْضَيْنِ، فَجَعَلَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْهُمَا نِصْفًا مُسَاوِيًا لِصَاحِبِهِ، وَهُوَ الْقَلِيلُ لَا يَكُونُ لِلِاحْتِيَاطِ فِيهِ تَأْثِيرٌ فَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ خَمْسَ قِرَبٍ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمَقَادِيرِ لِلِاسْتِيفَاءِ احْتِيَاطٌ لَهَا أَوْلَى كَمَا يَتَجَاوَزُ حَدَّ الْوَجْهِ فِي غَسْلِهِ وَحَدَّ الْعَوْرَةِ وَإِمْسَاكَ شَيْءٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي طَرَفِ الصَّوْمِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّافِعِيُّ لِتَحْدِيدِ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ؛ لِأَنَّهُ اكْتَفَى أَهْلُ عَصْرِهِ فِي بَلَدِهِ بِالْقِرَبِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ، عَنْ أَنْ يُقَدِّرَ كُلَّ قِرْبَةٍ لَهُمْ كَمَا اكْتَفَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالْقِلَالِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَنْ أَنْ يُقَدِّرَ كُلَّ قُلَّةٍ لَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ: هَلْ تحديد القلتين تقريب أم تحقيق؟)
ثُمَّ إِنَّ أَصْحَابَنَا مِنْ بَعْدِ الشَّافِعِيِّ لَمَّا نَأَوْا عَنِ الْحِجَازِ وَبَعُدُوا فِي الْبِلَادِ، وَغَابَتْ عَنْهُمْ قِرَبُ الْحِجَازِ، وَجَهَلَ الْعَوَامُّ تَقَادِيرَ الْقِرَبِ التي أخبرهم بها حد الماء يُنَجَّسُ مِنَ الْمَاءِ، وَلَا يُنَجَّسُ اضْطُرُّوا إِلَى تَقْدِيرِ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ، لِيَصِيرَ ذَلِكَ مُقَدَّرًا مَعْلُومًا عِنْدَ كَافَّتِهِمْ كَمَا اضْطُرَّ الشَّافِعِيُّ، وَمَنْ عَاصَرَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقِلَالِ، فِي تَقْدِيرِهَا بِالْقِرَبِ فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ بَعْدَ أَنِ اخْتَبَرُوا قِرَبَ الْحِجَازِ عَلَى أَنْ قَدَّرُوا كُلَّ قِرْبَةٍ مِنْهَا بِمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِالْأَرْطَالِ مِنْ أَصْحَابِنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَأَبُو عَبِيدِ بْنُ جَرَبْوَيْهِ ثُمَّ سَاعَدَهُمْ سَائِرُ أَصْحَابِنَا مُوَافَقَةً لِاخْتِيَارِهِمْ فَصَارَتِ الْقُلَّتَانِ الْمُقَدَّرَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِخَمْسِ قِرَبٍ خَمْسَمِائَةِ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ عِنْدَ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ ذَلِكَ تَقْدِيرُ تَقْرِيبٍ أَوْ تَقْدِيرُ تَحْقِيقٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ حَدُّ تَقْرِيبٍ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِيهِ بِزِيَادَةِ رِطْلٍ أَوْ رِطْلَيْنِ وَلَا بِنُقْصَانِهِ؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ الْقَلِيلِ بِالْقِرَبِ احْتِيَاطٌ وَتَحْدِيدَ الْقِرَبِ بِالْأَرْطَالِ اسْتِظْهَارٌ فَصَارَ التَّحْقِيقُ فِيهِ مِعْوَزًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنَّهُ حَدُّ تَحْقِيقٍ يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِزِيَادَةِ الْيَسِيرِ وَنُقْصَانِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَحْدُودُ فِي حُكْمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُبْهَمًا فَيُجْهَلُ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ فِي اعْتِبَارِهَا عَهْدَنَا مِنَ الْأُصُولِ قَدْ جَعَلَهُ مَحْدُودًا عَلَى التَّحْقِيقِ.
(مَسْأَلَةٌ: الْفَارِقُ بَيْنَ الْمَاءِ الكثير والقليل)
قال الشافعي: " احتج بأنه قيل يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة وهي تطرح فيها المحايض وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَمَا يُنْجِي النَّاسُ فَقَالَ: " الْمَاءُ لا ينجسه شيءٌ " قال ومعنى لا ينجسه شيءٌ إذا كان كثيراً لم يغيره النجس. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شيءٌ إلا ما غير ريحه أو طعمه " وقال فيما روي عن ابن عباس أنه نزح زمزم من زنجي مات فيها إما لا نعرفه وزمزم عندنا وروي عن ابن عباسٍ أنه قال: " أربع لا يخبثن "(1/335)
فذكر الماء وهو لا يخالف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقد يكون الدم ظهر فيها فنزحها إن كان فعل أو تنظيفاً لا واجباً. وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قربٍ كبارٌ مِنْ قِرَبِ الْحِجَازِ، فَوَقَعَ فِيهِ دمٌ أَوْ أَيُّ نجاسةٍ كَانَتْ، فَلَمْ يُغَيَّرْ طَعْمُهُ وَلَا لَوْنُهُ ولَا رِيحُهُ وَلَمْ يَنْجُسْ، وَهُوَ بِحَالِهِ طاهرٌ، لأن في خمس قربٍ فصاعداً وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْكَثِيرِ الَذِي لَا ينجسه إلا ما غيره، ومن الْقَلِيلِ الَّذِي يُنَجِّسُهُ مَا لَمْ يُغَيِّرُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ فَرْقٌ بَيْنَ قَلِيلِ الْمَاءِ وَكَثِيرِهِ، وَأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ خَمْسُ قِرَبٍ بِمَا وَصَفْنَا، وَأَنَّ الْخَمْسَ قِرَبٍ خمسمائة رطل بما بينا صار كثير الماء خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ] وَقَلِيلُهُ مَا دُونَهَا ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمَ كَثِيرِ الْمَاءِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ قَلِيلِ الْمَاءِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ مَائِعَةٌ أَوْ مُتَجَسِّدَةٌ فلا يخلو أن يتغير بها الماء أو لا يَتَغَيَّرُ فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا الْمَاءُ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، ثُمَّ لَا تَخْلُو النَّجَاسَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً كَبَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ أُهْرِيقَ فِيهِ فَاسْتِعْمَالُ جميع الماء شيئاً بعد شيء حتى يستنفد جميعه جائز ولا يلزم استبقاء شَيْءٍ مِنْهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَهُ حَتَّى يَسْتَبْقِيَ مِنْهُ قَدْرَ النَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ مُسْتَعْمِلُ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَمَّا لَمْ يَظْهَرْ لَهَا أَثَرٌ صَارَتْ مُسْتَهْلَكَةٌ، فَعُفِيَ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا اسْتَبْقَى مِنْ جُمْلَةِ الْمَاءِ قَدْرَ النَّجَاسَةِ فَنَحْنُ نُحِيطُ عِلْمًا بِأَنَّ مَا اسْتَبْقَاهُ لَيْسَ بِنَجَاسَةٍ مَحْضَةٍ تَمَيَّزَتْ عَنِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَانْحَازَتْ إِلَى الْمُسْتَبْقَى، وَإِنَّمَا الْبَاقِي مَاءٌ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَكَذَلِكَ الْمُسْتَعْمَلُ فَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ.
(فَصْلٌ: إِذَا كَانَ فِي الماء عين نجسة)
وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً كَالْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ مِنْ مَيْتَةٍ أَوْ عَظْمِ خِنْزِيرٍ فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِ الميتة منه، وإزالة العين النجسة عنه، فَإِنْ فَعَلَ جَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ كُلَّهُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، حَتَّى يَسْتَنْفِدَ جَمِيعَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ تَزُلِ النَّجَاسَةُ وَكَانَتْ عَلَى حَالِهَا فِي الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى حَدِّ نَقْصٍ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ صَارَ نَجِسًا وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْهُ مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْقُلَّتَيْنِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِفَةِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ:(1/336)
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ إِلَّا مِنْ مَكَانٍ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ فِيهِ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا وَإِنِ اسْتَعْمَلَ مِنْ مَكَانٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارًا بأن ما قارب النجاسة كان أحص بِحُكْمِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْمَاءَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ وَلَوْ مِنْ أَقْرَبِهِ إِلَى النَّجَاسَةِ، وَأَلْصَقِهِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَتَبَعَّضُ حُكْمُهُ، وَإِنَّمَا يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمٌ وَاحِدٌ فِي النَّجَاسَةِ، أَوِ الطَّهَارَةِ فَعَلَى هَذَا يَسْتَعْمِلُ مِنْهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْبَاقِي إِلَى حَدِّ الْقُلَّتَيْنِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنَ الْبَاقِي بِيَدِهِ لم يجزه، لِأَنَّ مَا يَغْتَرِفُهُ بِيَدِهِ مِنْهُ لَا يُوجِبُ تَنْجِيسَ بَاقِيهِ فَيُنَجَّسُ مِنْ يَدِهِ مَا لَاقَى الْبَاقِيَ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ اغْتِرَافِهِ فَأَمَّا إِذَا اغْتَرَفَ مِنْهُ بِدَلْوٍ وَإِنَاءٍ فَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّ كِلَا الْمَاءَيْنِ نَجِسٌ، مَا اغْتَرَفَهُ وَمَا أَبْقَاهُ، لِأَنَّهُ اغْتَرَفَ مِنْ مَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ أَقَلُّ مِنْ قُلَّتَيْنِ، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يُعْتَبَرُ حَالُ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ بَقِيَتْ فِي الْمَاءِ، وَلَمْ تَخْرُجْ فِي الدَّلْوِ الَّذِي اغْتَرَفَهُ فَمَا اغْتَرَفَهُ مِنْ مَاءِ الدَّلْوِ طَاهِرٌ، وَظَاهِرُ الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ الْبَاقِي نَجِسٌ، فَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ فِي الدَّلْوِ الَّذِي اغْتَرَفَهُ فَمَا فِي الدَّلْوِ نَجِسٌ، وَظَاهِرُ الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ الْبَاقِي طَاهِرٌ، فَإِنْ نَقَطَتْ مِنَ الدَّلْوِ نُقْطَةَ مَاءٍ فَوَقَعَتْ فِي الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ نَقَطَتْ مِنْ ظَاهِرِهِ كَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ عَلَى طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الدَّلْوِ طَاهِرٌ وَإِنْ نَقَطَتْ مِنْ بَاطِنِهِ صَارَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ نَجِسًا؛ لِأَنَّ مَا فِي دَاخِلِ الدَّلْوِ مِنَ الْمَاءِ نَجِسٌ فَلَوْ شَكَّ هَلْ كَانَتِ النُّقْطَةُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ فَالْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ طَهَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ شُكَّ فِي وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَاءِ الْكَثِيرِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ.
(فَصْلٌ: وَإِنْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ بِلَوْنٍ أَوْ طَعْمٍ أَوْ رَائِحَةٍ فَهُوَ نَجِسٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ مِنْهُ مَا كَانَ التَّغَيُّرُ عَلَى حَالِهِ سَوَاءٌ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ عَادَ إِلَى الطَّهَارَةِ، لِأَنَّهُ نَجِسٌ لِأَجْلِ التَّغْيِيرِ ثُمَّ يَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا حُكْمُهُ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرُ عَلَى اسْتِعْمَالٍ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ متجسدة فإن عاد إلى التَّغْيِيرُ بَعْدَ زَوَالِهِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً فِيهِ فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُتَغَيِّرٌ بِنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَدْ أُخْرِجَتْ مِنْهُ فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ قَدْ تَغَيَّرَ مِنْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ قَائِمَةٍ فِيهِ وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن وقعت ميتةٌ في بئرٍ فتغير مِنْ طَعْمِهَا أَوْ لَوْنِهَا أَوْ رَائِحَتِهَا أُخْرِجَتِ الْمَيْتَةُ وَنُزِحَتِ الْبِئْرُ حَتَّى يَذْهَبَ تَغَيُّرُهَا فَتَطْهُرُ بِذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَحُكْمُ مَاءِ الْبِئْرِ فِيمَا يُنَجَّسُ بِهِ، وَلَا يُنَجَّسُ كَحُكْمِ غيره من مياه المصانع، والأواني.(1/337)
وقال أبو حنيفة ماء البئر مخالف لغيره من مياه المصانع والأواني وإن ماتت في البئر عصفوراً وفأرة نُزِحَ مِنَ الْبِئْرِ عِشْرُونَ دَلْوًا وَكَانَ بَاقِي مَائِهَا طَاهِرًا، وَإِنْ وَقَعَ ذَنَبُهَا نُزِحَتِ الْبِئْرُ كلها، وإن مات فيها سنوراً ودجاجة نُزِحَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا، وَكَانَ بَاقِي مَائِهَا طَاهِرًا، وَإِنْ مَاتَتْ فِيهَا شَاةٌ نُزِحَ جَمِيعُ مَائِهَا، وَكَذَا إِنْ وَقَعَ فِيهَا بَوْلٌ أَوْ عَذِرَةٌ، وَكَانَ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ مَاءِ الْبِئْرِ وَغَيْرِهَا أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِهَا فَهُوَ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى عُلُوِّهَا، وَكَأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ الْفَأْرَةِ وَالسِّنَّوْرِ، أَنَّ السِّنَّوْرَ يَغُوصُ فِي الْمَاءِ أَكْثَرَ مِنَ الْفَأْرَةِ فَكَانَ مَا يُنْزَحُ بِمَوْتِهَا أَكْثَرَ، وَالشَّاةُ تَغُوصُ إِلَى قَعْرِ الْبِئْرِ، فَيُنْزَحُ جَمِيعُ مَا فِي الْبِئْرِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ إِنْ لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصٌّ، وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ فهو أظهر فساد مِنْ أَنْ يُقَامَ عَلَى فَسَادِهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الماء النجس لا يطهر بِأَخْذِ بَعْضِهِ فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ نَجِسًا، وَالْمَتْرُوكُ طَاهِرًا وَكَيْفَ تَمَيَّزَتِ النَّجَاسَةُ حَتَّى صَارَ جَمِيعُهَا فِي الْمَأْخُوذِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَتْرُوكِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَتَمَيَّزَتِ الطَّهَارَةُ فِي الْمَتْرُوكِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَأْخُوذِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَمَا انْفَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ قَلَبَ مَا قَالَهُ فَجَعَلَ الْمَأْخُوذَ طَاهِرًا، وَالْمَتْرُوكَ نَجِسًا.
فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ أَعْلَاهُ وَمَا يَنْبُعُ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى أَعْلَى.
قِيلَ: الدَّلْوُ إِذَا نَزَلَ فِي الْبِئْرِ نُزِحَ جَمِيعُ مَائِهَا، وَلَمْ يَتْرُكْ طَبَقَاتِ الْمَاءِ فِي الْبِئْرِ عَلَى حَالِهَا، ثُمَّ كَيْفَ انْتَهَى رَفْعُ النَّجَاسَةِ بِمَا يَقَعُ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى عِشْرِينَ دَلْوًا فِي أَعْلَاهَا، وَلَمْ يَرْتَفِعْ عَنْهُ وَلَمْ يَنْخَفِضْ مِنْهُ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا نَبَعَ مِنْ أَسْفَلِ الْمَاءِ يَرْفَعُ النَّجَاسَةَ إِلَى أَعْلَاهُ، أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا يَصُبُّ عَلَيْهِ من أعلاه يحيط النَّجَاسَةَ إِلَى أَسْفَلِهِ عَلَى قِيَاسِ هَذَا الْقَلِيلِ، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّ الْفَأْرَةَ لَا تَغُوصُ فِي الْمَاءِ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ دَلْوًا مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا، وَلِمَ لَا قُلْتَ مِثْلَهُ فِي مَاءِ الْغَدِيرِ، وَمَا تَقُولُ إِنْ شُدَّتِ الْفَأْرَةُ بِحَجَرٍ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى قَعْرِ الْبِئْرِ يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِكَ أَنْ يُنْزَحَ جَمِيعُ مَائِهَا وَلَوْ شُدَّتْ بِخَشَبَةٍ حَتَّى مُنِعَتْ مِنْ غَوْصِهَا أَنْ لَا يُنْزَحَ شَيْءٌ مِنْهَا، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ بِهَذَيْنِ وَتُوجِبُ نَزْحَ عِشْرِينَ دَلْوًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: ذَنَبُ الْفَأْرَةِ أَقَلُّ غَوْصًا فِي الْمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْفَأْرَةِ وَأَنْتَ تَقُولُ فِي ذَنَبِهَا وَهُوَ أَحَدُ أَعْضَائِهَا أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ، وَيُنْزَحُ مِنَ الْفَأْرَةِ مَعَ ذَنَبِهَا عِشْرُونَ دَلْوًا مِنْ جُمْلَتِهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّهُ لَوْ سَقَطَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ مِنَ الْعِشْرِينَ إِلَى مَاءِ الْبِئْرِ صَارَ نَجِسًا، فَإِنْ عَادَ فَنَزَحَ مِنْهَا دَلْوًا وَاحِدًا صَارَ طَاهِرًا فَهَلْ يُتَصَوَّرُ فِي الْمَعْقُولِ أَنَّ الدَّلْوَ النَّجِسَ الَّذِي سَقَطَ فِي الْمَاءِ خَرَجَ جَمِيعُهُ فِي الدَّلْوِ الْمُسْتَقَى مِنْهُ حَتَّى تَمَيَّزَ بَعْدَ امْتِزَاجِهِ بِهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ الْجَاحِظُ: لَمْ أَرَ دَلْوًا أَعْقَلَ مِنْ دَلْوِ أبي حنيفة يَعْنِي أَنَّهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ، وَالْجَاحِظُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَلَاعَةِ فِي أبي حنيفة مَعَ فَضْلِهِ وَتَقَدُّمِهِ فِي عِلْمِهِ لَكِنْ تَطَرَّقَ بِاضْطِرَابِ الْمَذْهَبِ وَذَهَابِهِ إِلَى الِاسْتِرْسَالِ بِهَذَا الْقَوْلِ الْمُسْتَهْجَنِ فَإِنْ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّمَا قَلْتُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قِيلَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أنَهُ أَمَرَ بِنَزْحِ سبعٍ أَوْ ثمانٍ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَصِيرِ إِلَيْهَا بِأَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى قَالَ: إِنَّهُ يَجُوزُ(1/338)
عَلَى أَنْ يَكُونَ أُمِرَ بِنَزْحِهَا لِيَزُولَ تَغَيُّرُهَا أَوْ تَنْظِيفًا لَا وَاجِبًا فَلِمَ تُرِكَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ وَالْأُصُولُ الْمُشْتَهِرَةُ، لِهَذَا الْأَثَرِ الْمُحْتَمَلِ وَالرِّوَايَةِ الْمُخْتَلِفَةِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ مَاءِ الْبِئْرِ فِيمَا يُنَجَّسُ بِهِ وَلَا يُنَجَّسُ كَحُكْمِ غيره من المياه الراكدة، فلا يخلو حال الْبِئْرِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَوْ قَائِمَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ مَاؤُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ مَاؤُهَا قَلِيلًا فَهُوَ نَجِسٌ سَوَاءٌ تَغَيَّرْ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَكِنَّهُ إِذَا كَانَ مُتَغَيِّرًا فَطَهَارَتُهُ بِالِاجْتِمَاعِ، وَمُغَيِّرُ أَحَدِهِمَا الْمُكَاثَرَةُ بِالْمَاءِ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ، وَالثَّانِي زَوَالُ التَّغْيِيرِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَطَهَارَتُهُ بِوَصْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُكَاثَرَةُ حَتَّى يَبْلُغَ قُلَّتَيْنِ فَإِنْ صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَاءِ الْوَارِدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ أَوْ أَقَلَّ فَإِذَا كَانَ أَقَلَّ فَالْكُلُّ نَجِسٌ؛ لِأَنَّ الْوَارِدَ لِقِلَّتِهِ صَارَ مُسْتَهْلِكًا فِي الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ لِكَثْرَتِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهِّرٍ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَنْمَاطِيِّ يَكُونُ نَجِسًا وَإِنْ كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَالْكَلَامُ فِي اسْتِعْمَالِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ كَوْنِ النَّجَاسَةِ قَائِمَةً أَوْ مَائِعَةً، وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا فَهُوَ نَجِسٌ، وَطَهَارَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ بِزَوَالِ تَغْيِيرِهِ وَلِزَوَالِ تَغْيِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَزُولَ بِنَفْسِهِ لِطُولِ الْمُكْثِ وَتَقَادُمِ الْعَهْدِ فَيَعُودُ إِلَى حَالِ الطَّهَارَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَزُولَ تَغْيِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِالْمَاءِ فَيَكُونُ طَاهِرًا سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِدُ عَلَيْهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَزُولَ تَغْيِيرُهُ بِإِلْقَاءِ شيء فيه لا يَخْلُو حَالُ الشَّيْءِ الْمُلْقَى مِنْ أَنْ يَكُونَ تُرَابًا أَوْ غَيْرَ تُرَابٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ تُرَابٍ، كَالطِّيبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ ذِي رائحته غالبة فالماء على نجاسة لِأَنَّنَا لَمْ نَتَيَقَّنْ زَوَالَ التَّغَيُّرِ، وَإِنَّمَا غَلَبَ عَلَيْهَا مَا هُوَ أَقْوَى رَائِحَةً مِنْهَا فَخَفِيَتْ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ تُرَابًا فَفِي طَهَارَتِهِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُطَهَّرُ قِيَاسًا عَلَى زَوَالِ التَّغَيُّرِ بِالطِّيبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُطَهَّرُ؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْمَاءِ غَالِبًا، وَهُوَ قَرَارٌ لَهُ، فَقَدْ يَتَغَيَّرُ الْمَاءُ مَعَ كَوْنِهِ فِيهِ فَإِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ لِحُصُولِ التُّرَابِ فِيهِ دَلَّ عَلَى اسْتِهْلَاكِ النَّجَاسَةِ بِزَوَالِ تَغْيِيرِهَا، وَأَنَّ التُّرَابَ قَدْ جَذَبَهَا إِلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي الْمَاءِ شَيْءٌ مِنْهَا.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا نَزْحُ مَاءِ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ نَجِسًا فَلَا يُطَهَّرُ بِالنَّزْحِ، وَهُوَ بَعْدَ نَزْحِهِ نَجِسٌ كَحُكْمِهِ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ نَزْحِهِ فَأَمَّا الْبِئْرُ بَعْدَ نَزْحِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَنْبُعَ فِيهَا مَاءٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَنْبُعْ فِيهَا مَاءٌ فَهِيَ نَجِسَةٌ، لَا تُطَهَّرُ إِلَّا بِمَا تُطَهَّرُ بِهِ النَّجَاسَاتُ مِنَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ وَإِنْ نَبَعَ فِيهَا مَاءٌ لَمْ يَخْلُ حَالُ النَّابِعِ فِيهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَغَيِّرًا أَوْ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، نَظَرَ(1/339)
فَإِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَهُوَ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، وَالْبِئْرُ طَاهِرَةٌ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَقَدْ طَهُرَتِ الْبِئْرُ، وَهُوَ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِزَالَةِ نَجَاسَتِهِ، فيكون على مذهب الشافعي طاهر غَيْرَ مُطَهِّرٍ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَنْمَاطِيِّ نَجِسًا. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ النَّابِعُ مُتَغَيِّرًا فَلَا يَخْلُو تَغْيِيرُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَيَكُونُ الْمَاءُ نَجِسًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ النَّجَاسَةِ إِمَّا لِحَمْأَةٍ أو لفساد التربة فَلَا حُكْمَ لِتَغْيِيرِهِ وَلَا يُؤَثِّرُ هَذَا التَّغْيِيرُ فِي تَنْجِيسِهِ، وَيَكُونُ كَحُكْمِهِ لَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ عَلَى مَا مَضَى.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشُكَّ فِي سَبَبِ تَغْيِيرِهِ هَلْ هُوَ لِأَجْلِ النَّجَاسَةِ أَوْ لِفَسَادِ التُّرْبَةِ؟ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّغْيِيرِ بِالنَّجَاسَةِ فَيَكُونُ نَجِسًا؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ تَغْيِيرِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ أَنَّ غَدِيرًا بَالَ فيه ظبي فوجده مَاؤُهُ مُتَغَيِّرًا فَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ تَغَيَّرَ لِبَوْلِ الظَّبْيِ، أَوْ لِطُولِ الْمُكْثِ كَانَ الْمَاءُ نَجِسًا؛ لأن ظاهر تغييره أَنَّهُ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، فَغَلَبَ حُكْمُهُ، فَهَذَا حُكْمُ الْمَاءِ الرَّاكِدِ فِي بِئْرٍ أَوْ غَيْرِهَا مَاءِ إِنَاءٍ أَوْ غَدِيرٍ.
(فَصْلٌ: إِذَا وَقَعَتْ في الماء الجاري نجاسة)
فَأَمَّا الْمَاءُ الْجَارِي إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَائِعَةً أَوْ مُتَجَسِّدَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَغَيَّرَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي أَمْ لَا؟ فَإِنْ تَغَيَّرَ بِهَا شَيْءٌ مِنْهُ كَانَتِ الْجَرْيَةُ الَّتِي تَغَيَّرَتْ بها نجسة، وَكَانَ مَا فَوْقَهَا مِنَ الْمَاءِ الْأَعْلَى وَمَا تَحْتَهَا مِنَ الْمَاءِ الْأَسْفَلِ طَاهِرَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهَا فَالْجَرْيَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ نَجِسَةٌ، وَمَا تَحْتَهَا وَفَوْقَهَا طَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ الْجَارِي يَنْتَهِي إِلَى فَضَاءٍ يَقِفُ فِيهِ فَمَاءُ الْفَضَاءِ مَا لَمْ تَنْتَهِ إِلَيْهِ الْجَرْيَةُ، التي وقعت فيها النجاسة طاهر فإذا انْتَهَتِ الْجَرْيَةُ النَّجِسَةُ إِلَيْهِ صَارَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِذَا قَلَتْهُ نَجَاسَةٌ فِي اعْتِبَارِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ كَانَ طَاهِرًا، فَلَوْ تَوَضَّأَ رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ الْجَرْيَةِ قَبْلَ اتِّصَالِهَا بِمَاءِ الْفَضَاءِ كَانَ وُضُوءُهُ بَاطِلًا لِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ، وَلَوْ تَوَضَّأَ مِنْ تِلْكَ الْجَرْيَةِ بَعْدَ اتِّصَالِهَا بِمَاءِ الْفَضَاءِ جَازَ وَإِنْ لَمْ تَغِبْ فِيهِ، وَتُخْلَطْ بِهِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي طَهَارَتِهِ بِالِاتِّصَالِ لَا بِالِاخْتِلَاطِ؛ أَلَا ترى لو أن قلتين مَاءٍ غَيْرَ رِطْلٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَهُوَ نَجِسٌ، وَلَوْ صُبَّ عَلَيْهِ رِطْلٌ مِنْ مَاءٍ صَارَ طَاهِرًا وَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنِ اسْتَحَالَ أَنْ يَغِيبَ الْمَاءُ كُلُّهُ فِي الرِّطْلِ الَّذِي صُبَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مُتَجَسِّدَةً كَمَيْتَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ جَارِيَةً مَعَهُ أَوْ وَاقِفَةً فِيهِ فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً مَعَهُ فَحُكْمُهَا عَلَى مَا مَضَى مِنْ نَجَاسَةِ الْجَرْيَةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَطَهَارَةِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَإِذَا انْتَهَتِ النَّجَاسَةُ إِلَى مَاءِ الْفَضَاءِ صَارَتْ نَجِسَةً فِي مَاءٍ رَاكِدٍ، فَيَكُونُ(1/340)
عَلَى مَا مَضَى مِنِ اعْتِبَارِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا كَانَ مَدُّ الْفَضَاءِ طَاهِرًا، وَكَذَلِكَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرٌ أَيْضًا قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِهِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مَاءُ الْفَضَاءِ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَالْمَاءُ الْجَارِي قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِمَاءِ الْفَضَاءِ طَاهِرٌ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ صَارَ نَجِسًا وَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، وَلَوْ لَمْ يَغِبْ فِيهِ وَيَخْتَلِطْ بِهِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ بِالِاتِّصَالِ دُونَ الِاخْتِلَاطِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً فِي الْمَاءِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْسَكِنَ بِهَا الْمَاءُ وَيَقِفَ عِنْدَهَا.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنْسَكِنَ بِهَا وَيَكُونَ عَلَى جَرْيَتِهِ فَإِنَّ انْسَكَنَ الْمَاءُ بِهَا وَوَقَفَ عِنْدَهَا كَانَ مَا فَوْقَهَا مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرًا مَا كَانَ عَلَى جَرْيَتِهِ، وَكَانَ مَا وَقَفَ عِنْدَهَا مِنَ الْمَاءِ، وَانْقَطَعَتْ جَرْيَتُهُ فِي حُكْمِ الْمَاءِ الرِاكدِ، فَإِنْ كَانَ قُلَّتَيْنِ كَانَ طَاهِرًا وَإِنْ كَانَ دُونَهُ كَانَ نَجِسًا، وَكَانَ مَا انْحَدَرَ عَنْهَا مِنَ الْمَاءِ نَجِسًا، وَفِي حُكْمِ الرَّاكِدِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا وَقَفَ عِنْدَهَا مِنَ الْمَاءِ مَحْكُومًا بِطِهَارَتِهِ لِكَثْرَتِهِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ يَمُرُّ بِالْمَيْتَةِ عَلَى جَرْيَتِهِ لَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَلَا يَنْقَطِعُ مِنْ جَرْيَتِهِ بِهَا فَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي غُزْرِ الْمَاءِ كُلِّهِ مِنْ عُلْوِهِ إِلَى قَرَارِهِ فَلَيْسَ يُجَوِّزُهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ لَمْ يَمَسَّهَا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ فَوْقَهَا مِنَ الْمَاءِ مَا لَمْ تَنْتَهِ جَرْيَتُهُ إِلَيْهَا طَاهِرٌ مَا تَحْتَهَا نَجِسٌ، وَفِي حُكْمِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَإِنَّمَا كَانَ مَا فَوْقَ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي طَاهِرًا مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا اسْتِشْهَادًا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ إِبْرِيقًا لَوْ صُبَّ مِنْ بِزَالِهِ مَاءٌ عَلَى نَجَاسَةٍ كَانَ الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنَ الْبِزَالِ طَاهِرًا مَا لَمْ يُلَاقِ النَّجَاسَةَ، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا إِلَيْهَا كَذَلِكَ كَمَا جَرَى إِلَى نَجَاسَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ النجاسة راسبة في أسفل الماء وغزاره فَلَيْسَ تَمُرُّ بِهَا الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِنَ الْمَاءِ وَإِنَّمَا تَمُرُّ بِهَا أَسْفَلُ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا كَانَتِ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنَ الْمَاءِ نَجِسَةً لِمُرُورِهَا عَلَى النَّجَاسَةِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَجَاسَةِ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا طَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْرِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَلَا لَاقَتْهَا فَصَارَ كَالْمَاءِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا نَجِسَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ جَرْيَةَ الْمَاءِ إِنَّمَا تَمْنَعُ مِنَ اخْتِلَاطِهِ بِمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ، فَأَمَّا مَا عَلَا مِنْهُ وَسَفُلَ مِنْ طَبَقَاتِهِ فَهُوَ بِالرَّاكِدِ أَشْبَهُ، وَالرَّاكِدُ يَتَمَيَّزُ حُكْمُ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ طَافِيَةً عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ وَلَا تَنْتَهِي إِلَى قَرَارِهِ، فَلَيْسَ يَمُرُّ بِهَا إِلَّا أَعْلَى الْمَاءِ دُونَ أَسْفَلِهِ، فَالْمَاءُ طَاهِرٌ مَا لَمْ يَنْتَهِ إِلَيْهَا فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا كَانَتِ الطَّبَقَةُ(1/341)
العليا نجسة لمرورها بالنجاسة، وفي نجاسته الطَّبَقَةِ السُّفْلَى وَجْهَانِ عَلَى مَا مَضَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قربٍ كبارٍ مِنْ قِرَبِ الْحِجَازِ فَوَقَعَ فِيهِ دمٌ أَوْ أَيُّ نجاسةٍ كانت فلم تغير طعمه ولا لونه ولا ريحه لم يَنْجُسْ وَهُوَ بِحَالِهِ طاهرٌ لِأَنَّ فِيهِ خَمْسَ قربٍ فصاعداً وَهَذَا فرقٌ مَا بَيْنَ الْكَثِيرِ الَذِي لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَهُ وَبَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي ينجسه ما لم يغيره فإن وقعت ميتةٌ في بئر فغيرت طعمها أو ريحها أو لونها أُخْرِجَتِ الْمَيْتَةُ وَنُزِحَتِ الْبِئْرُ حَتَّى يَذْهَبَ تَغَيُّرُهَا فتطهر بذلك (قَالَ) وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ قربٍ فَخَالَطَتْهُ نجاسةٌ لَيْسَتْ بقائمةٍ نَجَّسَتْهُ فِإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ ماءٌ أَوْ صُبَّ عَلَى ماءٍ آخَرَ حَتَى يَكُونَ الْمَاءَانِ جَمِيعًا خَمْسَ قربٍ فَصَاعِدًا فَطَهُرَا لَمْ يُنَجِّسْ واحدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ (قَالَ) فَإِنْ فُرِّقَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْجَسَا بَعْدَ مَا طَهُرَا إِلَّا بنجاسةٍ تَحْدُثُ فِيهِمَا ".
قال الماوردي: وهذا صحيح لما ذكره الشَّافِعِيُّ حُكْمَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَقَدْ نَجِسَ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ الْمَاءُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَائِعَةً أَمْ لَا، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ ذَلِكَ فِيمَا سَنَذْكُرُهُ سِوَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ تَغَيَّرَ فَطَهَارَتُهُ بِاجْتِمَاعِ وَصْفَيْنِ بِالْمُكَاثَرَةِ، وَزَوَالِ التَّغَيُّرِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَطَهَارَتُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ وَحْدَهَا، فَلَوْ كَانَتْ قُلَّةٌ نَجِسَةً، وَقُلَّةٌ أُخْرَى طَاهِرَةً فَصُبَّتْ إِحْدَى الْقُلَّتَيْنِ فِي الْأُخْرَى صَارَا مَعًا طَاهِرَيْنِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرٌ سَوَاءٌ صُبَّتِ الطَّاهِرَةُ عَلَى النَّجِسَةِ أَوِ النَّجِسَةُ عَلَى الطَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَةَ الْمُكَاثَرَةِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ، فَاسْتَوَى الْحُكْمُ فِي وُرُودِ الطَّاهِرِ عَلَى النَّجَسِ وَوُرُودِ النَّجَسِ عَلَى الطَّاهِرِ، فَإِنْ فُرِّقَا بَعْدَ ذَلِكَ، نُظِرَ فِي حَالِ النَّجَاسَةِ فَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً صَارَتْ مستهلكة، وكان الماآن طَاهِرَيْنِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَائِمَةً، فَإِنْ أُخَرِجَتْ مِنْهُ قَبْلَ تَفْرِيقِهِ فَهُمَا طَاهِرَانِ وَإِنَّ فُرِّقَا قبل إخراجها مِنْهُ، نُظِرَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّقَهُ بِالِاغْتِرَافِ مِنْهُ دُفْعَةً كَانَ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِنَاضِحٍ احْتَمَلَ بِهِ إِحْدَى الْقُلَّتَيْنِ، فَالْقُلَّةُ الَّتِي حُمِلَتِ النَّجَاسَةُ فِيهَا نَجِسَةٌ، وَالْقُلَّةُ الْأُخْرَى طَاهِرَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْعَبَّاسِ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي إِسْحَاقَ نَجِسٌ، وَإِنْ فَرَّقَ بِأَنْ أَمَالَ الْإِنَاءَ الَّذِي فِيهِ الْقُلَّتَانِ حَتَّى انْصَبَّ مِنْهُ فِي إِنَاءٍ آخَرَ قُلَّةٌ، وَبَقِيَ فِي الْأَوَّلِ قُلَّةٌ، نُظِرَ، فَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ حِينَ أَمَالَ الْإِنَاءَ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاءِ كَانَ الْإِنَاءُ الثَّانِي الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ نَجِسًا وَكَانَ مَا بَقِيَ فِي الْأَوَّلِ طَاهِرًا وَإِنْ خَرَجَتِ النَّجَاسَةُ إِلَى الْإِنَاءِ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَهُ مَا أَصَارَ بِهِ الثَّانِيَ فِي الْأَوَّلِ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ كَانَا جَمِيعًا نَجِسَيْنِ، وَهَكَذَا لَوْ بَقِيَتِ النَّجَاسَةُ فِي الْقُلَّةِ الْبَاقِيَةِ فِي الْإِنَاءِ الْأَوَّلِ كَانَا جَمِيعًا نَجِسَيْنِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ وَجَدْتَهُ مُسْتَمِرًّا فَلَوْ كَانَ مَعَهُ قُلَّةُ مَاءٍ نَجِسَةٌ، وَقُلَّةٌ أُخْرَى نَجِسَةٌ، فَأَرَاقَ إحديهما في الأخرى، وليس فهما تَغْيِيرٌ فَهُمَا طَاهِرَتَانِ.(1/342)
فَإِنْ قِيلَ: فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ نَجِسَةٌ وَالنَّجَاسَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ النَّجَاسَةِ كَانَ أَغْلَظَ لِحُكْمِهَا لِكَثْرَتِهَا، فَكَيْفَ صَارَتْ إِحْدَى النَّجَاسَتَيْنِ مُطَهِّرَةً لِلْأُخْرَى، وَالنَّجَاسَةُ بِاجْتِمَاعِهَا أَكْثَرَ.
قِيلَ: إِنَّمَا كَانَا نَجِسَيْنِ مَعَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّ قِلَّةَ الْمَاءِ تَضْعُفُ عن احتمال النجاسة، وإذا أجمعا كَثُرَ فَقَوِيَ عَلَى احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ وَصَارَتْ لِكَثْرَةِ الْمَاءِ مُسْتَهْلَكَةً عُفِيَ عَنْهَا فَلَوْ فُرِّقَا بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَالنَّجَاسَةُ مَائِعَةٌ كَانَا طَاهِرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ فَلَمْ يَنْجَسْ بِالتَّفْرِيقِ.
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ كَانَ معه قلتان من ماء إِلَّا رِطْلًا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَهُوَ نَجِسٌ، فَلَوْ تَمَّمَهُ بِرِطْلٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ خَمْرٍ حَتَّى صَارَ قُلَّتَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِمَا تَغْيِيرٌ، فَهُوَ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَقُلَّتَيْنِ مِنْ مَاءٍ فَيُحْتَمَلُ دَفْعُ النَّجَاسَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قُلَّتَانِ مَاءً وَنَجَاسَةً، وَهَكَذَا لَوْ تَمَّمَ بِرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ أَوْ لَبَنٍ لَمْ يَطْهُرْ، وَكَانَ نَجِسًا لِتَقْصِيرِ الْمَاءِ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ، وَلَكِنْ لَوْ تَمَّمَ بِرِطْلٍ مِنْ مَاءٍ نَجِسٍ كَانَ طَاهِرًا لِتَمَامِ الْمَاءِ قُلَّتَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ شُكَّ فِي قَدْرِهِ هَلْ هُوَ قُلَّتَانِ أَوْ أَقَلُّ؟ فَهُوَ عَلَى الْقِلَّةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَثْرَتَهُ وَيَكُونُ نَجِسًا، فَلَوْ عَلِمَهُ قُلَّتَيْنِ، ثُمَّ رَأَى كَلْبًا قَدْ وَلَغَ فِيهِ، وَشَكَّ هَلْ شَرِبَ مِنْهُ حَتَّى نَقَصَ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ أَمْ لَا؟ فَهُوَ عَلَى الْكَثْرَةِ مَا لَمْ يَعْلَمْ نَقْصَهُ وَيَكُونُ طَاهِرًا.
(فَصْلٌ)
: وَإِنْ كَانَ مَعَهُ قُلَّتَانِ مِنْ مَاءٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَتَغَيَّرَ بِهَا ثُمَّ فَرَّقَ فَزَالَ التَّغْيِيرُ بَعْدَ التَّفْرِيقِ فَكِلَا الْمَاءَيْنِ نَجِسٌ، وَلَوْ زَالَ التَّغْيِيرُ قَبْلَ التَّفْرِيقِ فَكِلَا الْمَاءَيْنِ طَاهِرٌ.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ نَجِسٌ لَمْ يُحْكَمْ بِتَنْجِيسِهِ دُونَ أَنْ يُخْبِرَا عَنِ السَّبَبِ الَّذِي صَارَ به نجساً؛ لاختلاف الناس فيما ينجس به الْمَاءَ وَلَا يُنَجِّسُ أَلَا تَرَى أَنَّ أبا حنيفة يَجْعَلُ سُؤْرَ الْحِمَارِ نَجِسًا مِثَالُهُ الشَّهَادَةُ بِالْجَرْحِ وَالتَّفْسِيقِ لَا تَسْمَعُ إِلَّا بِذِكْرِ مَا صَارَ بِهِ مَجْرُوحًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ مَا لَا يَخْتَلِطُ بِهِ مِثْلُ الْعَنْبَرِ أَوِ الْعُودِ أَوِ الدُّهْنِ الْطَيِّبِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَخُوضًا بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، لَمَّا ذكر الشافعي حكم النجاسة إذا وقعت في الْمَاءِ ذَكَرَ بَعْدَهُ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ إِذَا وَقَعَتْ وَجُمْلَةُ مَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْأَشْيَاءُ الطَّاهِرَةُ ضَرْبَانِ: مَائِعٌ وَجَامِدٌ، فَالْمَائِعُ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمَاءِ كَالدُّهْنِ فَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ سَوَاءٌ تَغَيَّرَ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ؛ لِأَنَّ الدُّهْنَ لَا يختلط بالماء وإنما يجاوره وتغيير المجاورة لا يغير حُكْمًا أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ مَاءً فِي إِنَاءٍ جَاوَرَتْهُ مَيْتَةٌ فَتَغَيَّرَ بِرَائِحَتِهَا لَمْ يُنَجَّسْ.(1/343)
والضرب الثاني: أَنْ لَا يَتَمَيَّزَ عَنِ الْمَاءِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ فَيُنْظَرُ حَالُ الْمَاءِ فَإِنْ غَيَّرَ الْمَائِعُ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رَائِحَتَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ؛ لِغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ، نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ أَقَلَّ مِنَ الْمَاءِ كَانَ الْمَاءُ مُطَهِّرًا؛ لِغَلَبَتِهِ بِالْكَثْرَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَائِعُ أَكْثَرَ مِنَ الْمَاءِ فَالْمَاءُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لِغَلَبَةِ الْمَائِعِ عَلَيْهِ بِكَثْرَتِهِ، وَأَمَّا الْجَامِدُ فَضَرْبَانِ: مَذْرُورٌ، وَغَيْرُ مَذْرُورٍ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْرُورٍ كَالْعُودِ وَالصَّنْدَلِ وَغَيْرِهِ مِنْ ذِي رِيحٍ ذَكِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَكِيٍّ فَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِهِ، لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَنْ مُجَاوَرَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَذْرُورًا كَالزَّعْفَرَانِ والعصفر والحنا فَإِنْ تَغَيَّرَ بِهِ لَوْنُ الْمَاءِ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ، لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ لِاخْتِلَاطِ مُمَازَجَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُ الْمَاءِ وَلَا طَعْمُهُ وَلَا رَائِحَتُهُ فَهُوَ مُطَهِّرٌ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مَا لَمْ يُنَجَّسْ بِهِ الْمَاءُ، وَيَخْرُجْ عَنْ طَعْمِهِ فِي الرقة، والصفا، وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ مُخَالَطَةِ الطَّاهِرَاتِ بِالْمَاءِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قُلَّتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ اعْتِبَارِ الْقُلَّتَيْنِ فِي النَّجَاسَةِ، وَتَرْكِ اعْتِبَارِهِمَا فِي مُخَالَطَةِ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّجَاسَاتِ لَمَّا سلبت الماء صفتيه في الطهارة والتطهير ضعف قليل الماء عن دَفْعِهَا حَتَّى يَكْثُرَ، وَلَمَّا كَانَتِ الْمَائِعَاتُ تَسْلُبُ الْمَاءَ التَّطْهِيرَ دُونَ الطَّهَارَةِ قَوِيَ قَلِيلُ الْمَاءِ عَلَى دَفْعِهَا وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَاتِ لَمَّا تَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الْمَاءِ تَغَلَّظَ حُكْمُهَا فِي الْمَاءِ وَلَمْ يَتَعَدَّ حُكْمَ الْمَائِعَاتِ إِلَى غَيْرِ الْمَاءِ ضَعُفَ حُكْمُهَا فِي الْمَاءِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّحَرُّزَ مِنَ الْمَائِعَاتِ مُتَعَذِّرٌ، فخف حكمها فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ وَالتَّحَرُّزُ مِنَ النَّجَاسَةِ أَمْكَنُ فَغَلِظَ حُكْمُهَا فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وإذا كان معه في السفر إناآن يَسْتَيْقِنُ أَنَّ أَحَدَهُمَا نجسٌ، وَالْآخَرُ لَمْ يَنْجَسْ تَأَخَّى وَأَرَاقَ النَّجِسَ عَلَى الْأَغْلَبِ عِنْدَهُ وَتَوَضَّأَ بِالطَّهَارَةِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ تُمَكَّنُ، وَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِهِ طاهرٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَإِذَا كَانَ معه إناآن أَوْ أَكْثَرُ، وَبَعْضُهَا طَاهِرٌ، وَبَعْضُهَا نَجِسٌ، وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ مِنَ النَّجِسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا وَيَجْتَهِدَ، وَيَسْتَعْمِلَ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى طَهَارَتِهِ، وَقَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ بَلْ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي، وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْمَاجِشُونُ: يَتَوَضَّأُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُصَلِّي بَعْدَ التوضي صَلَاةً لَا يُعِيدُهَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ صَاحِبُ مَالِكٍ: يَتَوَضَّأُ بِأَحَدِهِمَا وَيُصَلِّي ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِالْآخَرِ وَيُعِيدُ تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ اشْتِبَاهَ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ كَاشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي اشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ، فَكَذَلِكَ لَا يَجْتَهِدُ فِي اشتباه الطاهر بالنجس، واستدل ابن الْمَاجِشُونُ وَابْنُ مَسْلَمَةَ بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعْمَلَهَا كَانَ على يقين(1/344)
مِنِ ارْتِفَاعِ حَدَثِهِ وَاسْتِعْمَالُ مَا أَدَّى إِلَى رَفْعِ حَدَثِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى مَاءٍ طَاهِرٍ وَوَجَدَ سَبِيلًا إِلَى اسْتِعْمَالِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَلَزِمَهُ التَّوَصُّلُ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا وَاجِدٌ لِمَاءٍ طَاهِرٍ، وَقَادِرٌ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ بِالِاجْتِهَادِ، فَصَارَ الِاجْتِهَادُ وَاجِبًا عَلَيْهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَجْلِ التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَاءِ بِارْتِيَادِ دَلْوٍ وَحَبْلٍ وَإِصْلَاحِ مَسِيلٍ وَتَنْقِيَةِ بِئْرٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تُؤَدَّى بِالْيَقِينِ تَارَةً، وَبِالظَّاهِرِ أُخْرَى جَازَ التَّحَرِّي فِيهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ كَالْقِبْلَةِ، فَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُ بِاشْتِبَاهِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اشْتِبَاهَ الْمَاءِ بالبول نادر فسقط الاجتهاد فيه كاشتباه القبلة في الحضر، واشتباه الطاهر بالنجس عام فجاز الاجتهاد فيه كاشتباه القبلة في السفر.
والثاني: أن البول لم يكن له مدخل في الإباحة بحال فسقط الاجتهاد فيه إِذَا اشْتَبَهَ بِالْمُبَاحِ كَالْمُذَكَّاةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمَيْتَةِ، وَالْأُخْتُ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَالنَّجِسُ قَدْ كَانَ لَهُ مُدْخَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ، فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ إِذَا اشْتَبَهَ بِالْمُبَاحِ كَاشْتِبَاهِ الثَّوْبَيْنِ وَالْقِبْلَتَيْنِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَاجِشُونُ وَابْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّ اجْتِنَابَ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا كَرَفْعِ الْحَدَثِ وَفِي اسْتِعْمَالِهَا حَمْلُ نَجَاسَةٍ بِيَقِينٍ كَمَا أَنَّ فِيهَا رَفْعَ حَدَثٍ بِيَقِينٍ، فَلَأَنْ كَانَ الْيَقِينُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ مُوجِبًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ كَانَ الْيَقِينُ فِي حَمْلِ النَّجَاسَةِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَانْفِصَالٌ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ نَجَاسَةٍ طَرَأَتْ عَلَى طاهرٍ، وَاشْتَبَهَ بِمَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ مِنْ جِنْسِهِ كَأَوَانِي الْمَاءِ إِذَا نُجِّسَ بَعْضُهَا وَاشْتَبَهَ بِالطَّاهِرِ أَوْ كَالثِّيَابِ إِذَا نُجِّسَ بَعْضُهَا، وَاشْتَبَهَ بِمَا لَمْ يُنَجَّسْ وَجَبَ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِ وَيَجْتَهِدَ سَوَاءٌ اسْتَوَى عَدَدُ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ أَوْ كَانَ عَدَدُ النَّجِسِ أَكْثَرَ مِنَ الطَّاهِرِ أَوْ عَدَدُ الطَّاهِرِ أَكْثَرَ مِنَ النَّجِسِ، وَقَالَ أبو حنيفة: فِي الثِّيَابِ بِمِثْلِ هَذَا، وَمَنَعَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَوَانِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الطَّاهِرِ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيًا أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجْتَهِدْ فَيَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْإِنَاءَيْنِ وَفِي الثَّلَاثَةِ إِذَا كَانَ النَّجِسُ اثْنَيْنِ، وَيَجُوزُ إِذَا كَانَ النَّجِسُ وَاحِدًا اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " وَكَثْرَةُ النَّجِسِ مُرِيبٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَدَعَ الِاجْتِهَادَ فِيهِ، وَالتُّرَابُ غَيْرُ مُرِيبٍ فَوَجَبَ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى التَّيَمُّمِ بِهِ، قَالَ: وَلِأَنَّ اسْتِوَاءَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا لَمْ يَسْمَحْ بِهِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ يَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ كَالْإِنَاءَيْنِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَاءً وَالْآخَرُ بَوْلًا، وَلِأَنَّ الأصول مقررة عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَظْرِ(1/345)
يُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهِ فِي الْمَنْعِ، كَالْأُخْتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَكَثْرَةُ الْإِبَاحَةِ تُوجِبُ تَغْلِيبَ حُكْمِهَا فِي الْإِقْدَامِ كَالْأُخْتِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ، فَكَذَا الْأَوَانِي إِنْ كَانَ الطَّاهِرُ أَكْثَرَ غَلَبَ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ كَانَ النَّجِسُ أَكْثَرَ غَلَبَ حُكْمُ الْحَظْرِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) {الحشر: 2) وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ جَازَ التَّحَرِّي فِيهِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُبَاحِ أَكْثَرَ جَازَ التَّحَرِّي فِيهِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُبَاحِ أَقَلَّ كَالثِّيَابِ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ جَازَ فِيهِ طَلَبُ الطَّاهِرِ مِنَ الثِّيَابِ، جَازَ فِيهِ طَلَبُ الطَّاهِرِ مِنَ الْمَاءِ كَالثَّلَاثِ إِذَا كَانَ أَحَدُهَا نَجِسًا وَكَالْمَيْتَةِ إِذَا اخْتَلَطَتْ بِالْمُذَكَّى عَكْسًا، وَلِأَنَّ جِهَةَ الْحَظْرِ إِذَا الْتَبَسَتْ بِالْجِهَةِ الْمَطْلُوبَةِ جَازَ التَّحَرِّي فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ غَلَبَةُ جِهَاتِ الْحَظْرِ كَطَلَبِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ الْجِهَاتِ الأربع، وَالْقِبْلَةَ فِي أَحَدِهَا؛ وَلِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّهُورِ فَجَازَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فِي الْأَوَانِي كَالْيَقِينِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " فَهُوَ أَنَّ مَا أَدَّى الِاجْتِهَادُ إِلَى طَهَارَتِهِ قَدْ زَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْهُ، وَالتُّرَابُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ قَدِ انْتَقَلَتِ الرِّيبَةُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى إِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ وَالْآخَرُ بَوْلٌ، فَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مَعَ الْمُزَنِيِّ مِنَ الْفَرْقَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ، وَالْمَعْنَى فِي الْمَاءِ وَالْبَوْلِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزِ التَّحَرِّي فِيهِ مَعَ غَلَبَةِ الْمُبَاحِ لَمْ يَجُزْ مَعَ غَلَبَةِ الْمَحْظُورِ، وَلَمَّا جَازَ التَّحَرِّي فِي الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ إِذَا غَلَبَ الْمُبَاحُ جَازَ، وَأَمَّا اسْتِشْهَادُهُمْ بِأَنَّ الْحَظْرَ إِذَا غَلَبَ كَانَ حُكْمُهُ أَغْلَبَ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، فَخَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَدْخُلُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ أَغْلَبَ أَلَا تَرَى لَوِ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ حَرُمْنَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهِنَّ، وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ بَلَدٍ حَلَّ لَهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِنَّ، ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّمَا يَتَغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ بِغَلَبَةِ أَمَارَاتِهِ، وَكَذَا يَتَغَلَّبُ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ بِغَلَبَةِ أَمَارَاتِهَا، وَلَيْسَ لِلْعَدَدِ تَأْثِيرٌ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اجْتِهَادِهِ فِي قَلِيلِ الْأَوَانِي وَكَثِيرِهَا سَوَاءٌ كَانَ الطَّاهِرُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَمَتَى لَمْ يَجِدْ مِنَ الطَّاهِرِ إِلَّا مَا اشْتَبَهَ بِالنَّجِسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وإن وجد ماء طاهراً بيقين ومعه إناآن قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الطَّاهِرُ مِنْهُمَا مِنَ النَّجِسِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ إِلَى الْعُدُولِ عَنْهُمَا بِاسْتِعْمَالِ مَا يَتَيَقَّنُ طَهَارَتَهُ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي شَرْحِهِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ إِنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِي الْقِبْلَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى عَيْنِهَا وَلَا فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فِيهَا، قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ: وَدَلِيلُ ذَلِكَ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: " وَلَوْ كان في السفر وكان معه(1/346)
إنا آن فَيَسْتَيْقِنُ أَنَّ أَحَدَهُمَا نَجِسٌ وَالْآخَرَ لَمْ يُنَجَّسْ تَأَخَّى " فَجَعَلَ السَّفَرَ شَرْطًا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَكُونُ السَّفَرُ شَرْطًا إِلَّا لِعَدَمِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِ فِي الِاجْتِهَادِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا بِمَاءٍ طَاهِرٍ فِي الظَّاهِرِ مَعَ وُجُودِ مَاءٍ طَاهِرٍ بِيَقِينٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ أَلَا تَرَى لَوِ اسْتَعْمَلَ مِنْ إِنَاءٍ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ أَوْ بَحْرٍ، جَازَ، وَإِنْ كَانَتْ طَهَارَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الطَّاهِرِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا بِوُلُوغِ كَلْبٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَاءَ الْبَحْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينِ الطَّهَارَةِ، قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ وَاشْتِرَاطُ الشَّافِعِيِّ السَّفَرَ إِنَّمَا هُوَ لِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ لَا لِجَوَازِهِ.
(فَصْلٌ)
: وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، وَالْآخَرُ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَجْتَهِدَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعْمَلَهُمَا أَدَّى فَرْضُ طَهَارَتِهِ بِيَقِينٍ فَإِذَا أَرَادَ الِاجْتِهَادَ فِيهِمَا، نظر، فإن كان مضطر إلى شرب أحدهما جاز الاجتهاد فيهما؛ لأن لا يقدر علم عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا، فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ فِيهِمَا وَجْهَانِ كَمَا مَضَى:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا قِيلَ إِنَّ مَنْ تَيَقَّنَ مَاءً طَاهِرًا لَمْ يَجْتَهِدْ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا قِيلَ إِنَّ مَنْ تَيَقَّنَ مَاءً طَاهِرًا جَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ أَحَدُهُمَا مَاءٌ وَالْآخَرُ مَاءُ وَرْدٍ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُمَا وَجْهًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْوَرْدِ لَا مُدْخَلَ لَهُ فِي التَّطْهِيرِ فَلَمْ يَجُزِ الِاجْتِهَادُ فِيهِ كَالْمَاءِ وَالْخَمْرِ، وَلَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا طَاهِرَانِ بِخِلَافِ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى شُرْبِ أَحَدِهِمَا جَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِمَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ، لَا لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ يَخْتَصُّ بِالطَّهَارَةِ وَحْدَهَا، وَهُمَا طَاهِرَانِ فَجَازَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا؛ لِأَجْلِ الشُّرْبِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا؛ لِأَجْلِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي التَّطْهِيرِ، وَاجْتِهَادُهُ لِأَجْلِ الشُّرْبِ وَأَنْ يَتَأَخَّى فِيهِمَا أَيُّهُمَا مَاءُ الْوَرْدِ لِيَشْرَبَهُ، فَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا ماء الورد أعده لشربه، بقي الْآخَرُ وَقَدْ خَرَجَ بِالِاجْتِهَادِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَاءَ وَرْدٍ فَحُكِمَ بِأَنَّهُ مَاءٌ فَجَازَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فَهَذَا فَرْقٌ بَيْنَ الِاجْتِهَادَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ إِنَاءَانِ يَتَيَقَّنُ طَهَارَةَ أَحَدِهِمَا، وَنَجَاسَةَ الْآخَرِ، وَقَدِ اشْتَبَهَا فَانْقَلَبَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَرَاقَهُ فَفِي الْبَاقِي وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ هُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ مَشْكُوكٌ فِي نَجَاسَتِهِ فَرُدَّ إِلَى أَصْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ، فَيَسْتَعْمِلُهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ حَتَّى يَجْتَهِدَ فِيهِ،(1/347)
وَلَا يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّنَا قَدْ تَيَقَّنَّا حُصُولَ النَّجَاسَةِ فِيهِمَا وَشَكَكْنَا فِي زَوَالِهَا بِإِرَاقَةِ أَحَدِهِمَا، وَالشَّكُّ لَا يَرْفَعُ حُكْمًا ثَبَتَ بِيَقِينٍ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا دَلَائِلُ الِاجْتِهَادِ فَهِيَ الْأَمَارَاتُ الَّتِي يُسْتَدْرَكُ بِهَا حَالُ النَّجَاسَةِ، وَقَدْ تَكُونُ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ وَجِهَاتٍ شَتَّى، فَمِنْهَا تَغَيُّرُ أَوْصَافِهِ، وَمِنْهَا حَرَكَةُ الْمَاءِ وَاضْطِرَابُهُ، وَمِنْهَا آثَارُ نَجَاسَتِهِ لِقُرْبِهِ، وَمِنْهَا انْكِشَافُ أَحَدِهِمَا، وَتَغْطِيَةُ غَيْرِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ مَعَهَا فِي النَّفْسِ طَهَارَةُ الطَّاهِرِ وَنَجَاسَةُ النَّجِسِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ اجْتِهَادُ الْأَعْمَى فِيهَا بِمَا عَدَا حَاسَّةَ الْبَصَرِ مِنَ الرَّوَائِحِ، وَالطُّعُومِ وَسَمَاعِ الحركة، والاضطراب لاشتراك الأعمى والبصير في إدراكها بِالْحِسِّ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا وَصَفْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُهُ إِذَا اجْتَهَدَ فِيهِمَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَتَوَصَّلَ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى مَعْرِفَةِ الطَّاهِرِ مِنَ النَّجِسِ أَمْ لَا، فَإِنْ تَوَصَّلَ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى طَهَارَةِ أَحَدِهِمَا اسْتَعْمَلَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ أَرَاقَ النَّجِسَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الطَّاهِرِ لِئَلَّا يُعَارِضَهُ الشَّكُّ مِنْ بَعْدِهِ أَوْ خَوْفًا مِنَ الْخَطَأِ فِي اسْتِعْمَالِهِ فَإِنْ لَمْ يُرِقْهُ وَاسْتَعْمَلَ الطَّاهِرَ جَازَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى بِخِلَافِ الْقِبْلَةِ لِمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْفَرْقِ هُنَاكَ، وَإِنِ اجْتَهَدَ فَلَمْ يُؤَدِّهِ الِاجْتِهَادُ إِلَى شَيْءٍ، وَكَانَ الِاشْتِبَاهُ بَاقِيًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُرِيقَ أَحَدَ الْإِنَاءَيْنِ فِي الْآخَرِ، فَإِنْ بَلَغَا قُلَّتَيْنِ كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا فَيَسْتَعْمِلُهُ وَيُصَلِّي وَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَهُوَ نَجِسٌ، فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ إِرَاقَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَلَغَ قُلَّتَيْنِ اسْتَعْمَلَهُ، وَإِنْ عَجَزَ تَيَمَّمَ وَلَمْ يُعِدْ، وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: لَا يَلْزَمُهُ إِرَاقَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ إِلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ يَسْتَكْمِلُ قُلَّتَيْنِ فَيَلْزَمُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَيْقِنِ اسْتِكْمَالَ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ مَاءٍ طَاهِرٍ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِوُجُودِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَإِنْ أُشْكِلَ.
(فَصْلٌ)
: فَلَوِ اجْتَهَدَ رَجُلَانِ فِي إِنَاءَيْنِ فَأَدَّى اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى طَهَارَةِ مَا نَجَّسَهُ صَاحِبُهُ اسْتَعْمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَاءَهُ الَّذِي بَانَ فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ كَاجْتِهَادِ رَجُلَيْنِ فِي الْقِبْلَةِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِ أَنَّهُ يُصَلِّي بِنَجَاسَةٍ، فَإِنْ جَمَعَا بَطُلَتْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ دُونَ الْإِمَامِ وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فَرْعًا يُغْنِي شَرْحُهُ عَنِ التَّفْرِيعِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ فِي خمسة توضؤوا وَسَمِعُوا مِنْ أَحَدِهِمْ صَوْتًا فَنَفَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَمْسَةِ أَمَّ جَمِيعَ أَصْحَابِهِ فِي صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَتَّى أَمَّ الْخَمْسَةُ فِي خمس صلوات.
فالجواب أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فِي أَوَّلِ الْجَمَاعَاتِ وَهِيَ الصُّبْحُ وَلَا فِي الثَّانِيَةِ وَهِيَ الظُّهْرُ وَلَا فِي الثَّالِثَةِ وَهِيَ الْعَصْرُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ مِنَ الْإِمَامَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ الْمَغْرِبُ فَلَا إِعَادَةَ فِيهَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَتِهِمْ(1/348)
إِلَّا عَلَى الَّذِي أَمَّ فِي الْخَامِسَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى الصَّوْتَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ائْتَمَّ بِهِمْ مِنْ قَبْلُ فَقَدْ أَضَافَ الصَّوْتَ إِلَى الرَّابِعِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْحَدَثِ وَمَنِ ائْتَمَّ بِمَنِ اعْتَقَدَ حَدَثَهُ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ، فَأَمَّا الصَّلَاةُ الْخَامِسَةُ وَهِيَ الْعِشَاءُ فَالْإِعَادَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِينَ الْأَرْبَعَةِ لِإِضَافَتِهِمُ الْحَدَثَ إِلَى الْخَامِسِ وَهُوَ الْإِمَامُ، وَلَا إِعَادَةَ عَلَى الْإِمَامِ فِيهَا، وَإِنَّمَا لَزِمَتْهُ إِعَادَةُ الرَّابِعَةِ الَّتِي كَانَ مَأْمُومًا فِيهَا.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا اسْتَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ فِي الْإِنَاءَيْنِ مِنْ مَاءِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ بَانَ لَهُ نَجَاسَةُ مَا اسْتَعْمَلَهُ، وَطَهَارَةُ مَا تَرَكَهُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ، أَوْ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنْ بَانَ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الْيَقِينِ اجْتَنَبَ بَاقِيَ مَا اسْتَعْمَلَهُ، وَكَانَ نَجِسًا، وَاسْتَعْمَلَ الْإِنَاءَ الْآخَرَ، وَكَانَ طَاهِرًا وَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ لِمَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ، وَغَسْلُ مَا أَصَابَهُ الْأَوَّلُ مِنْ بَدَنِهِ وَثِيَابِهِ وَإِنْ بَانَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: يَجْتَنِبُ بَقِيَّةَ الْأَوَّلِ، وَيَسْتَعْمِلُ الثَّانِيَ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ اجْتِهَادُهُ الثَّانِي وَلَا يُعِيدُ مَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ قُضِيَتْ بِالِاجْتِهَادِ فَلَا تُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ بَقِيَّةَ الْأَوَّلِ، لِاعْتِقَادِهِ فِي الْحَالِ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَمَنِ اعْتَقَدَ نَجَاسَةَ مَاءٍ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ شَيْئًا مِنَ الثَّانِي، بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ لِمَا نَفَذَ مِنَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ، وَالْحُكْمُ إِذَا نَفَذَ بِاجْتِهَادٍ لَمْ يُنْقَضْ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الِاجْتِهَادُ الثَّانِي قَدْ نَقَضَ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لَلَزِمَهُ إِعَادَةُ مَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ وَغَسْلُ مَا أَصَابَ مِنْ ثِيَابِهِ وَبَدَنِهِ، وَهُوَ لَا يَقُولُ هَذَا فَعَلِمَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الثَّانِي وَتَرْكُ غَسْلِ مَا أَصَابَ الْأَوَّلُ مِنْ بَدَنِهِ لَكَانَ حَامِلًا لِنَجَاسَةِ يَقِينٍ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.(1/349)
(باب المسح على الخفين)
قال الشافعي: " أخبرنا الثقفي يعني عبد الوهاب عَنِ الْمُهَاجِرِ أَبِي مخلدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْخَصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً إِذَا تَطَهَّرَ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْوُضُوءِ جَائِزٌ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ النَّاسِ وَحُكِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْإِمَامِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) {المائدة: 6) فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِتَطْهِيرِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى حَالٍ دُونَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْأَمْرِ بِهَا، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ ".
فَكَانَ هَذَا الْخَبَرُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الصَّلَاةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِ وُضُوئِهِ، وَقَالُوا وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ كَانَ ذَلِكَ قبل سورة المائدة لا بَعْدَهَا، فَسَكَتَ أَبُو مَسْعُودٍ قَالُوا: فَكَانَ عَلِيٌّ يَرَى ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِسُورَةِ الْمَائِدَةِ.
قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: لَأَنْ يُقْطَعَ رِجْلَايَ بِالْمُوسَى أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.(1/350)
قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَأَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَقُولُوا فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَّا خَيْرًا.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَمْسَحُوا عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يجهروا ببسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالُوا: وَلِأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمُ الْمَسْحَ عَلَى الرِّجْلَيْنِ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى تَطْهِيرِهِمَا مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَكَيْفَ وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَ مَا هو أيسر وأقرب، ويجيزون مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَبْعَدُ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ امْتَنَعَ مِثْلُهُ فِي الرِّجْلَيْنِ، قَالُوا: وَلِأَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ قَدْ يَجِبُ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ كَوُجُوبِهِ فِي الْوُضُوءِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ فِي الْجَنَابَةِ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى مَسْحِ الْخُفَّيْنِ بَدَلًا مِنْ غَسْلِهِمَا كَذَلِكَ الْوُضُوءُ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِهِ السُّنَّةُ الْمَرْوِيَّةُ مِنَ الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى دَلْهَمُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ حُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ فَلَبِسَهُمَا ثُمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا ذكره أبو داود.
وروى بكير بن عامر الْبَجَلِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبيِ نُعَيْمٍ عن المغيرة بن شعبة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نسيت، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي جَلَّ وَعَزَّ " ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى بُكَيْرُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جرير الحلى أَنَّ جَرِيرًا بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَمْسَحَ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ قَالُوا: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، قَالَ مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ(1/351)
يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى سُبَاطَةَ قومٍ فَبَالَ قَائِمًا، فَذَهَبْتُ أَتَنَحَّى عَنْهُ، فَجَذَبَنِي حَتَى كُنْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ فَلَمَّا فَرَغَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ الْمَغِيرَةُ فَذَهَبْتُ مَعَهُ بماءٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَكَبْتُ عَلَيْهِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ مِنْ ضيقٍ كُمِّ جُبَّتِهِ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ جُبَّتِهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عوفٍ قَدْ صَلَّى بِهِمْ ركعةٍ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَعَهُمُ الرَّكْعَةَ الَتِي بَقِيَتْ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ فَفَرَغَ النَّاسُ فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ قَدْ أَحْسَنْتُمْ.
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَأَنَّهُ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ؛ لِأَنَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ وَكَذَلِكَ إِسْلَامُ جَرِيرٍ، وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنِي بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا يَعْنِي: أَنَّ بَعْضَهُمْ شَافَهَهُ وَبَعْضَهُمْ رَوَى لَهُ عَنْهُمْ: لِأَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَلْقَ سَبْعِينَ بَدْرِيًّا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا وَإِنْ أَوْجَبَتْ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ فَالسُّنَّةُ جَاءَتْ بِالرُّخْصَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَكَانَتِ الْآيَةُ دالة على غسل الرجلين إذا ظهرتا، وَالسُّنَّةُ وَارِدَةٌ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا لُبِسَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْآيَةِ قِرَاءَتَيْنِ بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ فَيُحْمَلُ النَّصْبُ عَلَى غَسْلِهِمَا إِذَا كَانَتَا ظاهرتين، ويحمل الجر على مسحهما إن كانتا في الخفين، فتكون الآية باختلاف قراءتيها دَالَّةً عَلَى الْأَمْرَيْنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا بِهِ " فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الرُّخْصَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، عَلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْقَدَمَيْنِ، وَمَنْ كَانَ ظَاهِرُ الْقَدَمَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَوْهُ مِنْ سُؤَالِ عَلِيٍّ أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ فَمِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّابِتَةَ عَنْ عَلِيٍّ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ سَأَلَهُ اسْتِخْبَارًا عَنْ زَمَانِ الْمَسْحِ لَا إِنْكَارًا لَهُ.(1/352)
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهُ لِيَظْهَرَ فِي النَّاسِ قِلَّةُ ضَبْطِ أَبِي مَسْعُودٍ، وَضَعْفُ حَزْمِهِ، وَسُوءُ فَهْمِهِ؛ لِأَنَّ أَبَا مَسْعُودٍ كَانَ مِمَّنْ تَوَقَّفَ عَنْ بَيْعَتِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِنْكَارِ عَائِشَةَ، وَقَوْلِهَا مَا قَالَتْ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا لَمْ تُنْكِرِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَإِنَّمَا كَرِهَتْ بِذَلِكَ السَّفَرِ الْمُحْوِجِ إِلَى الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، وَقَالَتْ: لَأَنْ تُقْطَعَ رِجْلَايَ فَلَا أُسَافِرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ السَّفَرِ الَّذِي يُمْسَحُ فِيهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِنْكَارَهَا مَعَ ثُبُوتِ السُّنَّةِ وَاشْتِهَارِهَا وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ بِهَا مَدْفُوعٌ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ إِنْكَارِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَدْ قَالَ سَعْدٌ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ سَلْ أَبَاكَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ أَصَابَ السُّنَّةَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثلاثةٍ فَهُوَ أَنَّ جَابِرًا ضَعِيفٌ وَمَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ مَسَحَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَأَنْ تَمْسَحُوا عَلَى الْخُفَّيْنِ فَرَوَى عَنْهُمْ جَوَازَهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنْ كَانَ الْمَسْحُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ أَوْجَبَ الْمَنْعَ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَهُوَ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ مُنْتَقِضٌ بِالْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الْعُضْوِ يُوجِبُ غَسْلَهُ وَيَمْنَعُ مِنْ مَسْحِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِسَائِرِ الْأَعْضَاءِ فَهُوَ أَنَّ السُّنَّةَ اسْتَثْنَتِ الرِّجْلَيْنِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ مِنْ غَسْلِهِمَا إِلَى الْخُفَّيْنِ دُونَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ فَلَا يُقَاسُ عَلَى مَخْصُوصٍ وَمَنْصُوصٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَقَدْ فَرَّقَتِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ أَنَّ غَسْلَ مَا جَاوَزَ الْقَدَمَيْنِ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْجَنَابَةِ، وَلَمْ يُمْكِنْ غَسْلُهُ فِي الْخُفَّيْنِ وَجَبَ خَلْعُهُمَا وَإِذَا خَلَعَهُمَا ظَهَرَتِ الرِّجْلَانِ فَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَعَ ظُهُورِهِمَا وَوَجَبَ غَسْلُهُمَا مَعَ جَمِيعِ الْبَدَنِ.
(فَصْلٌ: الْخِلَافُ فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ المسح)
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْوُضُوءِ بَدَلًا مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ هُوَ مَحْدُودٌ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ(1/353)
الْحَسَنِ وَعُرْوَةَ وَالزُّهْرِيِّ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إِلَى تَحْدِيدِهِ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وأبي حنيفة وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ بِرِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ قطن عن أبي بن عمارة قال يحيى بن أيوب وَقَدْ كَانَ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقِبْلَتَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَهِ أَنَمْسَحُ على الخفين، قال نعم، قال يومٌ قَالَ وَيَوْمَيْنِ، قَالَ: وثلاثةٌ، قَالَ: نَعَمْ، وَمَا شَئْتَ وَبِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ، وَلَوِ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا ".
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ فِيهِ غَيْرُ مَحْتُومٍ مُقَدَّرٍ وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عُمَارَةَ أَنَّهُ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: كَمْ عَهْدُكَ بِالْمَسْحِ، فَقُلْتُ مِنَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ أَصَبْتَ السُّنَّةَ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ فِي الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْدُودٍ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالْجَبِيرَةِ.
(فَصْلٌ: دَلِيلُ مَنْ حَدَّدَهُ بِوَقْتٍ)
وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْدِيدِهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ رَزِينِ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: " أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عسالٍ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ قُلْتُ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ، قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ، قُلْتُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِي الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ بَعْدَ(1/354)
الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، وَكُنْتَ امْرَءًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَيْتُكَ أَسْأَلُكَ هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَيْئًا فَقَالَ: نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرَى أَنْ لَا نَنْزِعَ خفافنا ثلاثة أيامٍ ولياليهن إلا من جنابةٍ لَكِنْ مِنْ غائطٍ وبولٍ ونومٍ.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يُحَدِّثُ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِي قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَتْ: سَلْ عَلِيًّا، فَإِنَّهُ كَانَ يَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: " كَانَ الْنَبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِلْمُقِيمِ وَثَلَاثَةُ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ ".
وَبِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى تَحْدِيدِ الْمَسْحِ وَالْحَدِّ بِمَنْعِ الْمَحْدُودِ مِنْ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِي حُكْمِهِ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ إِذَا كَانَ عَلَى حَائِلٍ يُقَدَّرُ بِالْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ مُجَاوِزَةٍ كَالْجَبِيرَةِ وَحَاجَةِ الْمُقِيمِ إِلَى لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لَا يَسْتَدِيمُ فِي الْغَالِبِ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَالْمُسَافِرُ لَا تَسْتَدِيمُ حَاجَتُهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ.
فأما حديث أبي بن عِمَارَةَ فَدَالٌّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ مَا شَاءَ، وهذا صحيح، إذا نزع خفيه كل ثلاث ولم يأمره باستدامته مَا شَاءَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ خُزَيْمَةَ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مَا اسْتَزَادَهُ، وَلَوِ اسْتَزَادَهُ لَجَازَ أَنْ لَا يَزِيدَهُ بَلْ هُوَ ظَنٌّ يُقَابَلُ بِمِثْلِهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عُمَارَةَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بِخِلَافِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بن عُمَارَةَ وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْجَبِيرَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَبِيرَةُ أَصْلًا فَقَدْ جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ مَسْحُ الرَّأْسِ امْتَنَعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ أَصْلٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَاجَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَيْهِ بِخِلَافِ الْخُفَّيْنِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ بَدَلًا مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْكَافَّةِ إِلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فَجَوَّزَا ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَى رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمُ الْبَرْدُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرهم أن(1/355)
يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ، وَالتَّسَاخِينُ: الْخِفَافُ، وَالْعَصَائِبُ الْعَمَائِمُ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
(وركبٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تَطْلُبُ منهم ... لهاترةٍ مِنْ جَذْبِهَا لِلْعَصَائِبِ)
يَعْنِي: الْعَمَائِمَ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ جَيْشًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْمَشَاوِذِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْمَشَاوِذُ: الْعَمَائِمُ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ:
(إِذَا مَا شَدَدْتُ الْرأْسَ مِنِّي بِمِشْوَذٍ ... فَقَصْدُكَ مِنِّي تَغْلِبُ ابْنَةُ وائلٍ)
ودليلنا قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} فَأَوْجَبَ مَسْحَ الرَّأْسِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ ". وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَعْقِلٍ عن أنس ابن مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَتَوَضَّأُ وَعَلَيْهِ عمامةٌ فَصَلَّى بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ فَلَوْ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَسْحِ الْعِمَامَةِ لَمَا تَكَلَّفَ هَذَا، وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَسْحِ الْعِمَامَةِ لَا يُجْزِئُ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الرَّأْسِ مُمْكِنٌ، مَعَ بَقَاءِ الْعِمَامَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمَسْحِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ بَقَاءِ الْخُفَّيْنِ، فَجَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْعُدُولَ عَنِ الْغَسْلِ إِلَى الْمَسْحِ رُخْصَةٌ، وَالْعُضْوُ الْوَاحِدُ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ رُخْصَتَانِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ عَصَائِبَ الْجِرَاحِ، وَلِذَلِكَ خَاطَبَ أَهْلَ السَّرَايَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَنَى صِغَارَ الْعَمَائِمِ الَّتِي يَصِلُ بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا إِلَى مَسْحِ الرَّأْسِ كَمَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِنَّ مَا ذَكَرَ الْفَرَزْدَقُ مِنَ الْعَصَائِبِ فِي شِعْرِهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْأَلْوِيَةَ والْمَشَاوِذَ: هِيَ عَصَائِبُ تُلَفُّ عَلَى الرَّأْسِ فِي الحروب علامة والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا تَطَهَّرَ الرَّجُلُ الْمُقِيمُ بغسلٍ أَوْ وضوءٍ ثُمَّ أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهَرَتَانِ ثُمَّ أحدث فإنه يسمح عَلَيْهِمَا مِنْ وَقْتِ مَا أَحْدَثَ يَوْمًا(1/356)
وَلَيْلَةً وَذَلِكَ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا مَسَحَ ثَلَاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَى الْوَقْتِ الَذِي أَحْدَثَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا ثَبَتَ تَحْدِيدُ الْمَسْحِ لِلْمُقِيمِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَوَّلِ زَمَانِهِ فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ أَوَّلُ زَمَانِهِ مِنْ وَقْتِ لِبَاسِهِ الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ أَوَّلُ زَمَانِهِ مِنْ وَقْتِ مَسْحِهِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة أَوَّلُ زَمَانِهِ مَنْ وَقْتِ حَدَثِهِ بَعْدَ لِبَاسِ الْخُفَّيْنِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنِ اعْتَبَرَ أَوَّلَ زَمَانِ حَدَثِهِ مِنْ وَقْتِ اللِّبَاسِ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ أَوْ سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، فَجَعَلَ الثَّلَاثَةَ مُدَّةَ اللِّبَاسِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنِ اعْتَبَرَ أَوَّلَ زَمَانِهِ مِنْ وَقْتِ الْمَسْحِ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أيامٍ وَلَيَالِيهِنَّ فَجَعَلَ ذَلِكَ مُدَّةَ الْمَسْحِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ زَمَانِهِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ إِنَّكَ تَجْعَلُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ تَسْتَدِلُّ بِالْمَعْنَى الدَّالِّ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ اعْتُبِرَ فِيهَا الْوَقْتُ فَإِنَّ ابْتِدَاءَ وَقْتِهَا مَحْسُوبٌ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ فِعْلُهَا وَصِفَتُهَا مُعْتَبَرَةً بِوَقْتِ أَدَائِهَا كَالصَّلَاةِ إِنْ كَانَتْ ظُهْرًا فَأَوَّلُ وَقْتِهَا زَوَالُ الشَّمْسِ، وَصِفَتُهَا فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ وَالْفِعْلِ، فَإِنْ كَانَ وَقْتَ فِعْلِهَا وَأَدَائِهَا مُسَافِرًا قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا أَتَمَّ كَذَلِكَ الْمَسْحُ أَوَّلَ زَمَانِهِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْفِعْلِ وَصِفَتَهُ فِي مَسْحِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ مُعْتَبَرٌ بِوَقْتِ الْمَسْحِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ زَمَانَ الْمَسْحِ مِنْ وَقْتِ الْحَدَثِ، فَإِذَا أَحْدَثَ بَعْدَ لِبَاسِ خُفَّيْهِ عَلَى طَهَارَةٍ مَسَحَ مِنْ وَقْتِ حَدَثِهِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْغَدِ إِنْ كَانَ مُقِيمًا، وَإِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَأَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ الْمُقِيمَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَسْحِ سِتُّ صَلَوَاتٍ مُؤَقَّتَاتٍ إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ فَيُصَلِّيَ سَبْعًا مِثَالُهُ: أَنْ يُحْدِثَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَدْ مَضَى بَعْضُ الْوَقْتِ فَيَمْسَحُ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ، ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ ثُمَّ الْعِشَاءَ ثُمَّ الصُّبْحَ ثُمَّ الظُّهْرَ، فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ثُمَّ الْعَصْرَ يَجْمَعُهَا إِلَيْهَا، وَأَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ الْمُسَافِرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَسْحِ سِتَّ عَشْرَةَ صَلَاةً، إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ فَيُصَلِّيَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْهُنَّ عَشْرٌ فِي يَوْمَيْنِ، وَسَبْعٌ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ جَمْعِهِ، وَيَجُوزُ فِي زَمَانِ الْمَسْحِ أَنْ يُصَلِّيَ مَا شَاءَ مِنَ الْفَوَائِتِ وَالنَّوَافِلِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْمَسْحِ مُقَدَّرٌ بِالزَّمَانِ لَا بِالصَّلَوَاتِ، فَلَوْ شَكَّ فِي وَقْتِ حَدَثِهِ هَلْ كَانَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ أَوْ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ؟ حَسِبَهُ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ احْتِيَاطًا، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ يَحْتَسِبُ من وقت العصر، لأنه متيقن حدوث حدثه،(1/357)
وَشَاكٌّ فِي تَقَدُّمِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْمَسْحِ رُخْصَةٌ، وَالرُّخَصُ تُبْنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَأُحْوَطُ حَالَتِهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَوَّلِ زَمَانَيْ شَكِّهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى بِالْمَسْحِ خَمْسًا أَوْ سِتًّا حَسِبَهَا فِي الْمَسْحِ سِتًّا احْتِيَاطًا لِلْمَسْحِ، وَفِي الْأَدَاءِ خَمْسًا احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا جاوز الوقت فقد القطع الْمَسْحُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ وَصَلَّى بَعْدَ ذَهَابِ وقت المس أعاد غسل رجليه والصلاة ".
إذا أنقض الْمَسْحِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ بِمَا تَقَدَّمُ مِنَ الْمَسْحِ شَيْئًا، وَلَا أَنْ يَسْتَأْنِفَ بَعْدَهُ مَسْحًا، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ تَقَضِّي زَمَانِ الْمَسْحِ فِي صَلَاةٍ، بَطُلَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَأْنِفَهَا، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ تَقَضِّي زَمَانِ الْمَسْحِ مَا شَاءَ مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِعَ خُفَّيْهِ، وَأَنْ يُصَلِّيَ مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَلَا يَجُوزُ إِنْ كَانَ لَابِسَهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ شَيْئًا، وَاسْتَدَلَّا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرُورُ الزَّمَانِ حَدَثًا اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الطَّهَارَاتِ.
والثاني: أن مسح الخفين بدل مِنْ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ مُبْدَلِهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُرُورُ الزَّمَانِ مُؤَثِّرًا فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّرَ زَمَانَ الْمَسْحِ، وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مِنَ الزَّمَانِ حَدًّا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إما أن يكون حداً لفعل المسح أو حداً لاستدامة حكمه فلما لم يكن حداً لأمرين بِأَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَوْلَى مِنْ صَاحِبِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا وَجَعَلَ مَأْخَذَهُ مِنَ الزَّمَانِ وَقْتًا لِفِعْلِ الْمَسْحِ، وَحُكْمِهِ جَمِيعًا، وَلَا يَصِحُّ جَمْعُهُمْ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَبَيْنَ سَائِرِ الطَّهَارَاتِ، وَكَذَلِكَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ مَحْدُودُ الزَّمَانِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِمُرُورِ الزَّمَانِ تَأْثِيرٌ فِي نَقْضِهِ، وَلَيْسَ لِسَائِرِ الطَّهَارَاتِ زَمَانٌ مَحْدُودٌ فَلَمْ يُؤَثِّرْ مُرُورُ الزَّمَانِ فِي نَقْضِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَقَضِّيَ زَمَانِ الْمَسْحِ بِتَقَضِّي ظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ عِنْدَ تَقَضِّيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى طُهْرٍ أَوْ حَدَثٍ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا تَوَضَّأَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لُبْسَ خُفَّيْهِ وَالْمَسْحَ عَلَيْهِمَا إِنْ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَتَوَضَّأُ.
وَالثَّانِي: يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِيمَنْ نَزَعَ خُفَّيْهِ فِي زَمَانِ الْمَسْحِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ مَسَحَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ أَتَمَّ مَسْحَ مقيمٍ وَلَوْ مَسَحَ مُسَافِرًا ثُمَّ أَقَامَ مَسَحَ مَسْحَ مُقِيمٍ ".(1/358)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِالْمَسْحِ مُسَافِرًا ثُمَّ أَقَامَ مَسَحَ مَسْحَ مُقِيمٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً باتفاقٍ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْعِلَّةِ، فَالشَّافِعِيُّ يَجْعَلُ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْإِقَامَةَ أَغْلَظُ حَالَيْهِ وأبو حنيفة يَجْعَلُ الْعِلَّةَ فِيهِ أَنَّ الْإِقَامَةَ نِهَايَةُ حَالَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ بِالْمَسْحِ مُقِيمًا ثُمَّ سَافَرَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَمَالَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ مَسْحَ مُقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ حَالَيْهِ، وَقَالَ أبو حنيفة يَمْسَحُ مَسْحَ مُسَافِرٍ؛ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ حَالَيْهِ، وَتَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " يمسح المسافر ثلاثة أيامٍ ولياليهن " وَهَذَا مُسَافِرٌ، وَلِأَنَّهُ مَاسِحٌ جَمَعَ بَيْنَ حَضَرٍ وَسَفَرٍ، فَوَجَبَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَالَهُ بِانْتِهَائِهَا كَالْمُسَافِرِ، إِذَا أَقَامَ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً " وَهَذَا قَدْ كَانَ مُقِيمًا فَلَزِمَهُ حُكْمُ الْإِقَامَةِ، وَلِأَنَّهُ مَاسِحٌ جَمَعَ بَيْنَ حَضَرٍ وَسَفَرٍ فَوَجَبَ أَنْ يُغَلِّبَ حُكْمَ الْحَضَرِ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ، كَالْمُسَافِرِ إِذَا أَقَامَ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَجَبَ إِذَا أَنْشَأَهَا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ أَنْ يُغَلِّبَ حُكْمَ الْحَضَرِ كَالصَّلَاةِ إِذَا افْتَتَحَهَا مُقِيمًا ثُمَّ سَافَرَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ انْفِصَالٌ عَنْ دَلَائِلِهِمْ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَخْلُو حَالُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا فَيُسَافِرَ أَوْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَيُقِيمَ فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا ثُمَّ يُسَافِرُ فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ لُبْسِ خُفَّيْهِ، وَقَبْلَ حَدَثِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ لَا يَخْتَلِفُ الْمَسْحُ فِيهِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللُّبْسِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ لُبْسِ خُفَّيْهِ، وَبَعْدَ حَدَثِهِ، وَقَبْلَ مَسْحِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَمْسَحُ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ، وَأَوَّلُ زَمَانِ مَسْحِهِ مِنْ وَقْتِ حَدَثِهِ فِي الْحَضَرِ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مَسْحَ مُقِيمٍ، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ مَسْحِهِ، مَوْجُودَةٌ فِي الْحَضَرِ وَالْحَدَثُ كَالْمَسْحِ فِي اعْتِبَارِهِ مِنْ زَمَانِ الْمَسْحِ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ حَدَثِهِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَلَمْ يَمْسَحْ، فَقَدِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ كَمَا لَوْ مَسَحَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ خَطَأٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ صِفَةَ الْعِبَادَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِزَمَانِ الْفِعْلِ، لَا بِوَقْتِ الْعِبَادَةِ كَالصَّلَاةِ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ مُعْتَبَرَةٌ بِوَقْتِ فِعْلِهِ لَا وَقْتِ وُجُوبِهَا، وَكَذَا الْمَسْحُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو سَفَرُهُ بَعْدَ الْحَدَثِ، وَقَبْلَ الْمَسْحِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ مُضِيِّ وَقْتِ صَلَاةٍ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ صَلَاةٍ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مُضِيِّ وقت صلاة(1/359)
مَسَحَ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ صَلَاةٍ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يَمْسَحُ يوماً وليلة مسح مقيم؛ لأن يَقْضِيَ وَقْتَ الصَّلَاةِ فِي الْحَضَرِ فِي حُكْمِ فِعْلِهَا فِي الْحَضَرِ، فِي وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، كَذَلِكَ فِي الْمَسْحِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِئْ بِالْمَسْحِ إِلَّا وَهُوَ مُسَافِرٌ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ أَنْ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَيَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مَسْحَ مُقِيمٍ وَقَدْ مَضَى خِلَافُ أبي حنيفة فِيهَا، فَلَوْ كَانَ قَدْ أَكْمَلَ مَسْحَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي الْحَضَرِ، قَبْلَ سَفَرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْدُ فِي سَفَرِهِ شَيْئًا لِاسْتِيفَاءِ مَسْحِ الْإِقَامَةِ إِلَّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ مسحاً مبتدئاً.
والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يُسَافِرَ وَيَشُكَّ هَلْ مَسَحَ قَبْلَ سَفَرِهِ أَمْ لَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ عَلَى أَغْلَظِ حَالَيْهِ، وَإِنِ ابْتَدَأَ بِالْمَسْحِ مُسَافِرًا، ثُمَّ أَقَامَ بِالْمَسْحِ قَبْلَ سَفَرِهِ فَيَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، مسح مقيم؛ فإن خالفه وَمَسَحَ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ أَعَادَ مَا صَلَّى بِالْمَسْحِ فِي الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ، لِأَنَّهُ صَلَّى وَهُوَ شَاكٌّ فِي صِحَّةِ طَهَارَتِهِ، فَلَوْ صَلَّى بِالْمَسْحِ يَوْمَيْنِ، وَهُوَ عَلَى شَكِّهِ ثُمَّ تَيَقَّنَ فِي الثالثة أنه مسافر قَبْلَ مَسْحِهِ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَيَسْتَوْفِي مُدَّةَ الْمَسْحِ فِي السَّفَرِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ مَا صَلَّى بِالْمَسْحِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ حِينَ صَلَّى كَانَ شَاكًّا فِي طَهَارَتِهِ، فَصَلَّى كَمَنْ صَلَّى عَلَى شَكٍّ مِنْ وُضُوئِهِ ثُمَّ تَيَقَّنَ بَعْدَ فَرَاغِهِ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَضِّئًا أَعَادَ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا ثُمَّ يُقِيمُ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ مَسَحَ فِي سَفَرِهِ شَيْئًا أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَمْسَحْ فِي سَفَرِهِ حَتَّى أَقَامَ مَسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مَسْحَ مُقِيمٍ، وَإِنْ مَسَحَ فِي سَفَرِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَوْفَى مَسْحَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ مَسْحَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَتَمَّ بَعْدَ إِقَامَةٍ مَسْحَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنِ اسْتَوْفَى فِي السَّفَرِ مَسْحَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لَمْ يَجُزْ إِذَا أَقَامَ أَنْ يَمْسَحَ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ قَدْ نَوَى الْمُقَامَ وَهُوَ فِي تَضَاعِيفِ صَلَاةٍ بَطُلَتْ لِتَقَضِّي مَسْحِهِ بِالْإِقَامَةِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ مُقَامَ ثَلَاثَةٍ أَتَمَّ مَسْحَ خُفَّيْهِ ثَلَاثًا مَسْحَ مُسَافِرٍ لِبَقَائِهِ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ وَلَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَرْبَعٍ اخْتَصَرَ عَلَى يَوْمٍ وليلة مسح مقيم؛ لأنه صار مقيماً والله أعلم.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا سَافَرَ فِي مَعْصِيَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْسَحَ ثَلَاثًا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً؟ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى مَعْصِيَةٍ فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَا يُجَوِّزُ أَنْ يَمْسَحَ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْمَسْحَ رُخْصَةٌ وَالْعَاصِي لَا يَتَرَخَّصُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمْسَحُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُسَافِرًا كَانَ أَوْ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا؛ لِأَنَّ مَسْحَ(1/360)
الْخُفَّيْنِ مُلْحَقٌ بِطَهَارَةِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي هِيَ عِبَادَاتٌ مفعولة فاستوى فيها المطيع والعاصي بالصلاة، وأن يُتْرَكَ فَتَمْنَعُ مِنْهُ الْمَعْصِيَةَ كَالْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي: " وإذا توضأ فغسل إِحْدَى رِجْلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَهَا الْخُفَّ ثُمَّ غَسَلَ الأخرى ثم أدخلها الخف لم يجزئه إذا أحدث أن يمسح حتى يكون طاهراً بكامله قبل لباسه أحد خفيه فإن نزع الخف الأول الملبوس قبل تمام طهارته ثم لبسه جاز له أن يمسح لأن لباسه مع الذي قبله بعد كمال الطهارة (قال المزني) كَيْفَمَا صَحَّ لُبْسُ خُفَّيْهِ عَلَى طهرٍ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عِنْدِي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ خُفَّيْهِ لِلْمَسْحِ عَلَيْهِمَا إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ فَإِنْ لَبِسَهُمَا مُحَدِثًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا فَإِنْ غَسَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ فَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ، ثُمَّ غَسَلَ الْأُخْرَى وَأَدْخَلَهَا الْخُفَّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا، حَتَّى يَنْزِعَ الْخُفَّ الَّذِي لَبِسَهُ أَوَّلًا قَبْلَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، وَيُعِيدُ لُبْسَهُ قَبْلَ حَدَثِهِ فَيَصِيرُ لَابِسًا لَهُمَا بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَنْزِعَهُمَا مَعًا، ثُمَّ يَلْبَسُهُمَا قَبْلَ حَدَثِهِ وَقَالَ أبو حنيفة وَالْمُزَنِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا وَإِنْ لَمْ يَنْزِعْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَلَا فَائِدَةَ فِي نَزْعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لُبْسِهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ " وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ طَرَأَ عَلَى طَهَارَةٍ وَلُبْسٍ فَجَازَ لَهُ الْمَسْحُ قِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا لَبِسَهُمَا بَعْدَ كَمَالِ الْغَسْلِ، قَالُوا وَلِأَنَّ نَزْعَ الْخُفَّيْنِ مُؤَثِّرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْمَسْحِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي جَوَازِ الْمَسْحِ قَالُوا: وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ اللُّبْسِ تَجْرِي مَجْرَى ابْتِدَائِهِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ خُفًّا هُوَ لَابِسُهُ حَنِثَ كَمَا لَوِ ابْتَدَأَ لُبْسَهُ فَصَارَ اسْتِدَامَةُ لُبْسِهِ فِي حُكْمِ مَنِ ابْتَدَأَ لُبْسَهُ فِي جَوَازِ مَسْحِهِ.
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يُونُسَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ ابن الْمُغِيرَةِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قُلْتُ يا رسول الله أنمسح على الخفين قال: " نَعَمْ إِنْ أَدْخَلْتَهُمَا، وَهُمَا طَاهِرَتَانِ " فَجَعَلَ اللُّبْسِ بَعْدَ طُهْرِهِمَا شَرْطًا فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، ولأنه ليس قَبْلَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ قِيَاسًا عَلَى لُبْسِهِ قَبْلَ غَسْلِ قَدَمَيْهِ، وَلِأَنَّ لُبْسَ الْخُفَّيْنِ يَفْتَقِرُ إِلَى الطَّهَارَةِ، وَمَا كَانَ إِلَى الطَّهَارَةِ مُفْتَقِرًا كَانَ تَقْدِيمُهَا عَلَى جَمِيعِهِ، لَازِمًا كَالصَّلَاةِ يَلْزَمُ تَقْدِيمُ الطَّهَارَةِ عَلَى جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَبَاحَ بِسَبَبٍ لَا يجوز تقديمه على سببه، كالإفطار لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى السَّفَرِ وَالْمَرَضِ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ مُسْتَبَاحٌ لِشَرْطَيْنِ: اللُّبْسُ وَالْحَدَثُ، فَمَا لَزِمَ تَقْدِيمُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْحَدَثِ لَزِمَ تَقْدِيمُهَا عَلَى اللُّبْسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ أَحَدِ الْخُفَّيْنِ مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ، أَلَا تَرَى(1/361)
أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ انْتَقَضَ مَسْحُهُ، كَمَا لَوْ نَزَعَ جَمِيعَ الْخُفَّيْنِ فَوَجَبَ إِذَا لَبِسَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَبِسَ جَمِيعَ الْخُفَّيْنِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِعُمُومِ الْخَبَرِ فَمَحْمُولٌ عَلَى نَصِّ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى مَا بَعْدَ الْغَسْلِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ لُبْسُهُ بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ نَزْعَ الْخُفَّيْنِ مُؤَثِّرٌ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْمَسْحِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي جَوَازِ الْمَسْحِ أَيْضًا، وَهُوَ عِنْدَ تَقَضِّي زَمَانِ الْمَسْحِ، فَكَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ اسْتِدَامَةَ اللُّبْسِ تَجْرِي مَجْرَى ابْتِدَائِهِ فَصَحِيحٌ فِي الْإِتْمَامِ، وَبَاطِلٌ فِي الْمَسْحِ، أَلَا تَرَى لَوْ أَحْدَثَ، وَكَانَ لَابِسًا جَازَ أَنْ يَمْسَحَ، وَلَوِ ابْتَدَأَ اللُّبْسَ بَعْدَ حَدَثِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْسَحَ فَبَانَ أَنَّ ابْتِدَاءَ اللُّبْسِ فِي الْمَسْحِ مُخَالِفٌ لِاسْتِدَامَتِهِ.
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ لَبِسَ خُفَّيْهِ قَبْلَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ، وَأَدْخَلَهُمَا الْخُفَّ ثُمَّ أَحْدَثَ وَقَدَمُهُ فِي سَاقِ الْخُفِّ لَمْ تَسْتَقِرَّ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمِ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ حَدَثِهِ لَابِسًا لِخُفِّهِ لُبْسًا كَامِلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن تَخَرَّقَ مِنْ مُقَدَّمِ الْخُفِّ شيءٌ بَانَ مِنْهُ بَعْضُ الرِّجْلِ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفٍّ غَيْرِ ساترٍ لِجَمِيعِ الْقَدَمِ وَإِنْ كَانَ خَرْقُهُ مِنْ فَوْقِ الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ خَرْقَ الْخُفِّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمِ، أَوْ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقَدَمِ وَهُوَ أَنْ يكون من فوق الكعبين في ساق الخف، فَجَائِزٌ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ مَعَ هَذَا الْخَرْقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَبِسَ خُفًّا لَا سَاقَ لَهُ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ سَاتِرًا لِجَمِيعِ الْقَدَمِ، رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ شَهِدَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَسْأَلُ بِلَالًا عَنْ وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَقَالَ كَانَ يَخْرُجُ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَآتِيهِ بِالْمَاءِ، فَيَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ، وَالْمُوقَانِ: خُفَّانِ قَصِيرَانِ لَيْسَ لَهُمَا سَاقٌ، فَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ لَمْ يَتَفَاحَشِ الْخَرْقُ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَفَاحَشَ لَمْ يَجُزْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ يَمْسَحُ مَا أَمْكَنَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لَمْ يَجُزْ، وَقَالَ أبو حنيفة يَمْسَحُ إِنْ كَانَ الْخَرْقُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ، فَإِنْ كَانَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ فَأَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ وَقَالَ أبو يوسف: سَأَلْتُ أبا حنيفة عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: لِأَنَّ الثَّلَاثَ أَكْثَرُ الْأَصَابِعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: لَا(1/362)
يَمْسَحُ عَلَيْهِ إِذَا ظَهَرَ مِنَ الْخَرْقِ شَيْءٌ مِنَ الْقَدَمِ، وَإِنْ قَلَّ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَجَازَ الْمَسْحَ عَلَيْهِ مَعَ خَرْقِهِ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا "، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا أَطْلَقَ اسْمَ الْخُفِّ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ خَرْقٌ لَا يُبِيحُ لُبْسَهُ فِي الْإِحْرَامِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ، قِيَاسًا عَلَى خُرُوقِ الْخَرَزِ، وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، رِفْقٌ وَتَرْفِيهٌ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى لُبْسِهِ وَالْمَشَقَّةَ لَاحِقَةٌ فِي نَزْعِهِ، فَلَوْ كَانَتْ خُرُوقُ الْخُفِّ تَمْنَعُ مِنْ لُبْسِهِ وَتَدْعُو إِلَى نَزْعِهِ وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِفَافِ لَزَالَ مَعْنَى الرِّفْقِ، بِالتَّغْلِيظِ وَالتَّرْفِيهِ بِالْمَشَقَّةِ.
وَدَلِيلُنَا عُمُومُ قَوْلِهِ عَزَّ وجل: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنَ) {المائدة: 6) فَكَانَ عُمُومُهَا يُوجِبُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ إِلَّا مَا قَامَ دليله من المسح على خفين صَحِيحَيْنِ، وَلِأَنَّ ظُهُورَ الْأَصَابِعِ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ كَمَا لَوْ نَزَعَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِجَمِيعِ الْقَدَمِ تَعَلَّقَ بِبَعْضِ الْقَدَمِ قِيَاسًا عَلَى غَسْلِهِمَا عِنْدَ ظُهُورِهِمَا، وَلِأَنَّ مَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْمَسْحِ يَسْتَوِي حُكْمُ وُجُودِهِ فِي بَعْضِ الْقَدَمَيْنِ وَفِي جَمِيعِ الْقَدَمَيْنِ أَصْلُهُ: انْقِضَاءُ مُدَّةِ الْمَسْحِ عِنْدَ غَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ يَتَعَلَّقُ بِالطَّهَارَةِ وَبِاسْتِتَارِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْخُفَّيْنِ، فَلَمَّا كَانَ تَرْكُ بَعْضِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ كَانَ تَرْكُ بَعْضِ الْمُسْتَرِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ شَرْطَيِ الْمَسْحِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ بَعْضِهِ كَتَرْكِ جَمِيعِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْمَسْحِ كَالطَّهَارَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظُهُورُ أَحَدِ الرِّجْلَيْنِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الأخرى تغليباً لحكم الغسل كان طهور بَعْضِ الرِّجْلِ بِالْمَنْعِ مِنْ مَسْحِ الْبَاقِي مِنْهُمَا أَوْلَى، فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى خُرُوقِ الْخَرَزِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ خُرُوقَ الْخَرَزِ لَا يُرَى مِنْهَا خف، وليس كذلك ما سواه.
والثاني: أنه خرق الخرز يسند بِمَا يَدْخُلُهَا مِثْلَ الْخُيُوطِ فَلَا يَظْهَرُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقَدَمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا سِوَاهُ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى لُبْسِهَا وَالْمَشَقَّةِ فِي نَزْعِهَا فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْخُفَّ إِذَا تَخَرَقَ امْتُنِعَ فِي الْغَالِبِ مِنْ لِبَاسِهِ، وَإِنَّمَا يُلْبَسُ مِنَ الْخِفَافِ غَالِبًا مَا كَانَ صَحِيحًا مِنْهَا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَرْقَ الْخُفِّ يَمْنَعُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَيْهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَدَّمِهِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَرْقَ الْمُقَدَّمِ، لِأَنَّهُ الْغَالِبُ مِنْ خَرْقِ الْخُفِّ، لَا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَنْعِ مِنَ الْمَسْحِ هَذَا إِذَا كَانَ فِي ظِهَارَةِ الْخُفِّ وَبِطَانَتِهِ.(1/363)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْبِطَانَةِ دُونَ الظِّهَارَةِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَبِسَ خُفًّا بِلَا بِطَانَةٍ جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْخَرْقُ فِي ظِهَارَةِ الْخُفِّ دُونَ بِطَانَتِهِ، فَإِنْ كَانَتِ الْبِطَانَةُ جلوداً جاز مسحه عليه، وإن كانت خَرْقًا لَمْ يَجُزْ فَلَوْ لَبِسَ الْخُفَّ مُخَرَّقًا ثُمَّ لَبِسَ فَوْقَهُ خُفًّا صَحِيحًا جَازَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَى وَحْدَهُ، وَكَانَ الْأَسْفَلُ كَاللِّفَافَةِ وَلَوْ لَبِسَ خُفًّا صَحِيحًا ثُمَّ لَبِسَ فَوْقَهُ مُخَرَّقًا مَسْحَ عَلَى الْأَسْفَلِ وَحْدَهُ دُونَ الْأَعْلَى.
(فَصْلٌ)
: وَلَوْ لَبِسَ خُفًّا بِشَرَجٍ فَإِنْ كَانَ الشَرَجُ فَوْقَ الْقَدَمِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كانت فوقه تُشَدُّ بِالتَّشْرِيجِ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ الشَّرَجُ فِي الْقَدَمِ، فَإِنْ كَانَتْ فُتُوقُهُ إِذَا شَرَجَ لَمْ تُسَدَّ وَلَمْ يَتَغَطَّ الْقَدَمَانِ لَمْ يَجُزِ المسح عليه، وإن كانت فتوحه تُسَدُّ، وَيَتَغَطَّى الْقَدَمَانِ أَجَزَأَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ فِي الشَّرْحِ نَصًّا عَنِ الشافعي.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَوْرَبَانِ مُجَلَّدِي الْقَدَمَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ حَتَى يَقُومَا مَقَامَ الْخُفَّيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَوْرَبَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُجَلَّدَ الْقَدَمِ فَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الْخُفِّ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالنَّعْلِ.
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ عَنْ هُذَيلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ وَلِأَنَّ مَا أَمْكَنَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَتَرَ بِهِ مَحَلُّ الْفَرْضِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالْخُفِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِلِبَاسِ الْخُفِّ تَعَلَّقَ بِلِبَاسِ الْجَوْرَبِ المجلد كالفدية على الحرم فَأَمَّا النَّعْلُ فَلَا يَسْتُرُ الْقَدَمَ فَلَمْ يَجُزِ المسح عليها.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْجَوْرَبُ غَيْرَ مُجَلَّدٍ الْقَدَمَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْجَوْرَبُ غَيْرَ مُنَعَّلٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، اسْتِدْلَالًا بِالْخَبَرِ أَنَّهُ مَسْحٌ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمُجَلَّدَيْنِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ وَارَى قَدَمَيْهِ بِمَا لَا يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ(1/364)
كَاللَّفَائِفِ وَالْخِرَقِ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُجَلَّدَيْنِ وَالْمَعْنَى فِي الْمُجَلَّدَيْنِ أَنَّ مُتَابَعَةَ المشي عليهما ممكن.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُنَعَّلَ الْأَسْفَلِ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَشِفُّ وَيَصِلُ بَلَلُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ إِلَى الْقَدَمِ، فَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَشِفُّ وَيَمْنَعُ صِفَاقُهُ مِنْ وُصُولِ بَلَلِ الْمَسْحِ إِلَى قَدَمَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ، وَهِيَ رواية الربيع.
(مسألة: شرائط المسح)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَا لَبِسَ مِنْ خُفٍّ خَشَبٍ أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ أَجْزَأَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ خُفٍّ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ثَلَاثُ شَرَائِطَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَرَابِعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، مِنْ جُلُودٍ أَوْ لُبُودٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ جَوْرَبٍ.
أَحَدُ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَكُونَ سَاتِرًا لِجَمِيعِ الْقَدَمِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ شَيْءٌ لَا مِنْ أَعْلَى الْخُفِّ وَسَاقِهِ، وَلَا مِنْ خَرْقٍ فِي وَسَطِهِ أَوْ أَسْفَلِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ شَيْءٌ مِنَ الْقَدَمِ مِنْ أَيِّ جِهَةِ ظَهَرَ، لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَصِلَ بَلَلُ الْمَسْحِ إِلَى الْقَدَمِ، فَإِنْ وَصَلَ إِمَّا لِخِفَّةِ نَسْجٍ أَوْ رِقَّةِ حَجْمٍ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يُمْكِنَ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ عَلَيْهِ لِقُوَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ لِضِعْفِهِ، أَوْ ثِقَلِهِ لَمْ يجز المسح عليه.
والشرط الرابع: مختلف فِيهِ: أَنْ يَكْونَ مُبَاحَ اللُّبْسِ، فَلَا يَكُونُ مسروقاً، ولا مغصوباً لأنه لا يُتَرَخَّصُ فِي مَعْصِيَةٍ فَإِنْ كَانَ مَسْرُوقًا أَوْ مَغْصُوبًا فَفِي جَوَازِ مَسْحِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ، وَكَذَا لَوْ لَبِسَ خُفًّا مِنْ ذَهَبٍ، كَانَ حَرَامَ اللُّبْسِ كَالْمَغْصُوبِ، فَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَمْنَعُ مِنَ الرُّخْصَةِ.(1/365)
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا مُقَارَنَةُ الْغَصْبِ كَالصَّلَاةِ فِي الدار المغصوبة، والثوب المغصوب.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَمْسَحُ عَلَى جُرْمُوقَيْنِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا (قَالَ الْمُزَنِيُّ) قُلْتُ أَنَا وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَقَوْلُهُ مَعَهُمْ أَوْلَى بِهِ مِنِ انْفِرَادِهِ عَنْهُمْ وَزَعَمَ إِنَّمَا أُرِيدُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الْمِرْفَقُ فَكَذَلِكَ الْجُرْمُوقَانِ مِرْفَقٌ وَهُوَ بِالْخُفِّ شَبِيهٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْجُرْمُوقُ فَهُوَ خُفٌّ يُلْبَسُ عَلَى خُفٍّ، فَإِنْ لَبِسَهُ دُونَ الْخُفِّ الَّذِي تَحْتَهُ، جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَبِسَهُمَا، فَإِنْ كَانَا مَخِيطَيْنِ قد حرز أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالْخُفِّ الْمُبَطَّنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مَخِيطَيْنِ جَازَ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْأَسْفَلِ مِنْهُمَا، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْأَعْلَى أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِ جَائِزٌ، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً " وَلِأَنَّ مَا جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ مَلْبُوسٌ - جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ مَلْبُوسٌ كَالْخُفِّ إِذَا لُبِسَ عَلَى جَوْرَبٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَى إِذَا كَانَ مَخِيطًا بِالْأَسْفَلِ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنِ الْأَسْفَلِ كَالْمَلْبُوسِ عَلَى خُفٍّ مُخَرَّقٍ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُرْفَقٌ لِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي نَزْعِهِ، فَكَذَا الْجُرْمُوقُ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ لَاحِقَةٌ فِي نَزْعِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْجُرْمُوقِ الْأَعْلَى لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا جُعِلَ بَدَلًا فِي الطَّهَارَةِ لَمْ يَجْعَلْهُ لَهُ بَدَلًا آخَرَ كَالتَّيَمُّمِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُعْلَمُ لُبْسُهُ فَلَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، كَالْقُفَّازَيْنِ، وَلِأَنَّهُ سَاتِرٌ لِمَمْسُوحٍ فَلَمْ يَقُمْ فِي إِسْقَاطِ الْفَرْضِ مَقَامَ الْمَمْسُوحِ كَالْعِمَامَةِ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يُؤَثِّرْ نَزْعُهُ فِي نَقْضِ طَهَارَتِهِ، لَمْ يُؤَثِّرْ لُبْسُهُ فِي جَوَازِ مَسْحِهِ كَاللَّفَائِفِ فَوْقَ الْخُفِّ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا: بِقَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَرَادَ الْمَسْحَ انْتَزَعَ الْأَعْلَى، وَمَسَحَ عَلَى الْأَسْفَلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَسْفَلُ مِنْهُمَا هُوَ الْخُفُّ، أَوِ الْجُرْمُوقُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَسْفَلُ قَدْ تَخَرَّقَ أَوِ انْفَتَقَ فَيَجُوزُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْأَعْلَى فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى مُخَرَّقًا فَلَا يَمْسَحُ عَلَيْهِ، وَيَمْسَحُ عَلَى الْأَسْفَلِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا، فَإِنْ أَرَادَ الْمَسْحَ عَلَى الْأَسْفَلِ نَزَعَ الْأَعْلَى أَوَّلًا ثُمَّ مَسَحَ عَلَى الْأَسْفَلِ، فَإِنْ مَسَحَ(1/366)
عَلَى الْأَسْفَلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْزِعَ الْأَعْلَى، فقد كان أبو حامد الاسفرايني يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ فَإِنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ أَصْلٌ بِذَاتِهِ، فَكَيْفَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَسْحُهُ أَجْزَأَهُ، وَمَسْحُ الْخُفِّ بَدَلٌ فَاخْتَصَّ بِأَكْمَلِ صِفَاتِ الْمَسْحِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا جَوَازُ هَذَا الْمَسْحِ كَجَوَازِ مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ تَحْتِ الْعِمَامَةِ، وَلَيْسَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ فِي مَعْنَى الْمَسْحِ تَأْثِيرٌ.
(فَصْلٌ)
: وَإِنْ قُلْنَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَى فَلَيْسَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَلْبَسَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ عَلَى طَهَارَةٍ، فَإِنْ لَبِسَ الْأَسْفَلَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَالْأَعْلَى عَلَى حَدَثٍ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، حَتَّى يَلْبَسَهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ، فَيَمْسَحُ حِينَئِذٍ عَلَى الْأَعْلَى، فَلَوْ مَسَحَ عَلَى الْأَعْلَى عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ، ثُمَّ نَزَعَهُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ طَهَارَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ طَهَارَتَهُ صَحِيحَةٌ كَمَنْ مَسَحَ عَلَى خُفٍّ مُبَطَّنٍ، ثُمَّ كَشَطَ أَعْلَاهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ طَهَارَتَهُ قَدْ فَسَدَتْ بِنَزْعِهِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمِهِ، وَصَارَ كَمَنْ نَزَعَ خُفَّهُ مِنْ رِجْلِهِ فَيَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَسْتَأْنِفُ الْوُضُوءَ وَالْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ الْأَسْفَلِ.
وَالثَّانِي: يَقْتَصِرُ عَلَى مَسْحِ الْخُفِّ الْأَسْفَلِ وَحْدَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ نَزَعَ خُفَّيْهِ بَعْدَ مَسْحِهِمَا غَسَلَ قَدَمَيْهِ وَفِي الْقَدِيمِ وَكِتَابُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَتَوَضَّأُ (قال المزني) قلت أنا وَالَّذِي قَبْلَ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ لَا يَنْتَقِضُ فِي السُّنَّةِ إِلَّا بِالْحَدَثِ وَإِنَّمَا انْتَقَضَ طُهْرُ الْقَدَمَيْنِ لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهِمَا كَانَ لِعَدَمِ ظُهُورِهِمَا كَمَسْحِ الْتَيَمُّمِ لِعَدَمِ الْمَاءِ فَلَمَّا كَانَ وُجُودُ الْمَعْدُومِ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ الْمَسْحِ يُبْطِلُ الْمَسْحَ وَيُوجِبُ الْغَسْلَ كَانَ كَذَلِكَ ظُهُورُ الْقَدَمَيْنِ بَعْدَ الْمَسْحِ يُبْطِلُ الْمَسْحَ وَيُوجِبُ الْغَسْلَ وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ سِوَى الْقَدَمَيْنِ مغسولٌ وَلَا غَسْلَ عليهما ثانيةً إلا بحدثٍ ثانٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ نَزَعَ خُفَّهُ فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ أَوْ بَعْدَ تقضيها لم يحل حَالُهُ عِنْدَ نَزْعِهِ أَنْ يَكُونَ مُحْدِثًا أَوْ مُتَوَضِّئًا، فَإِنْ كَانَ مُحَدِثًا تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا مَنَعَ مِنَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِحُكْمِ الْحَدَثِ أَوْجَبَ اسْتِئْنَافَ الطَّهَارَةِ كَالْحَدَثِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَلَيْهِ غَسْلُ رِجْلَيْهِ لَا غَيْرُ، وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْأَسْوَدُ وَعَلْقَمَةُ وَعَطَاءٌ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الليث وأبو حنيفة، ووجهه أنه بُدِّلَ زَالَ حُكْمِهِ بِظُهُورِ مُبْدَلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لا يلزمه(1/367)
إِلَّا غَسْلُ مَا كَانَ بَدَلًا عَنْهُ، كَالتَّيَمُّمِ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنْ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ كَانَ انْتِقَاضُهُ يُوجِبُ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَمَسْحِ الْخُفَّيْنِ لَمَّا كَانَ بَدَلًا مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ كَانَ انْتِقَاضُهُ يُوجِبُ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا يُوجِبُهُ الْقَوْلَانِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْأَصْلِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ: هُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ: فِي تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ: بَلْ هُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي طَهَارَةِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ إِذَا انْتَقَضَتْ هَلْ يَنْتَقِضُ بِهَا طَهَارَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ طُهْرَ الْقَدَمَيْنِ انْتَقَضَ بِظُهُورِهِمَا.
(فَصْلٌ)
: إِذَا أَخْرَجَ رِجْلَهُ مِنْ قَدَمِ الْخُفِّ إِلَى سَاقِهِ، فَقَدْ رَوَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ صِحَّةَ طَهَارَتِهِ، وَبِهِ قَالَ أبو حامد الاسفرايني، اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ قَدَمَيْهِ لَمْ تَظْهَرْ فَلَمْ يَنْتَقِضْ طُهْرُهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَ مُسْتَقَرُّهُ فِي مَوْضِعِ الْقَدَمِ مِنَ الْخُفِّ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْبَصْرِيُّونَ: قَدِ انْتَقَضَ طُهْرُ قَدَمِهِ؛ لِزَوَالِهَا عَنْ مَحَلِّ الْمَسْحِ كَمَا لَوْ ظَهَرَتْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدَثُهُ بَعْدَ إِدْخَالِ قَدَمِهِ فِي سَاقِ الْخُفِّ، وَقَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ فِي مَحَلِّ الْقَدَمِ كَمَنْ أَحْدَثَ وَهُوَ طَاهِرُ الرِّجْلَيْنِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُمَا إِلَى ساق الخف كظهور الرجلين.
(فصل)
: إذا لبس المتيمم ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ لِبُطْلَانِ تَيَمُّمِهِ بِوُجُودِ الْمَاءِ، فَصَارَ كَمَنْ لَبِسَ خُفًّا عَلَى حَدَثٍ.
(فَصْلٌ)
: إِذَا لَبِسَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ بَعْدَ وُضُوئِهَا خُفًّا ثُمَّ أَحْدَثَتْ قَبْلَ أَنْ صَلَّتْ بِوُضُوئِهَا شَيْئًا جَازَ، إِذَا تَوَضَّأَتْ أَنْ تَمْسَحَ عَلَى خُفِّهَا لِفَرْضٍ وَاحِدٍ وَمَا شَاءَتْ مِنَ النَّوَافِلِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ صَلَّتْ قُبَلَ حَدَثِهَا فَرْضًا وَاحِدًا لَمْ يَجُزْ إِذَا أَحْدَثَتْ أَنْ تَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ، وَجَازَ أَنْ تَمْسَحَ لِصَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَجَمَعَ أبو حنيفة بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَجَازَ الْمَسْحَ فِيهِمَا عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وُضُوءَ الْمُسْتَحَاضَةِ يَرْفَعُ حَدَثَهَا لِفَرْضٍ وَاحِدٍ، وَلِسَائِرِ التَّطَوُّعِ، فَإِذَا أَحْدَثَتْ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ صَارَتْ كَلَابِسِ خُفٍّ عَلَى طَهَارَةٍ فَجَازَ لَهَا الْمَسْحُ وَإِذَا أَحْدَثَتْ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَرْضِ كَانَتْ كَلَابِسِ خُفٍّ عَلَى حَدَثٍ فَلَمْ يَجُزْ لَهَا الْمَسْحُ.
(فَصْلٌ)
: إِذَا ارْتَفَعَ دَمُ الْمُسْتَحَاضَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَرْضِ لَمْ يَجُزْ لَهَا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ دَمِهَا يَرُدُّهَا إِلَى الْحَدَثِ الْأَوَّلِ فَصَارَتْ كَلَابِسِ خُفٍّ عَلَى حَدَثٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/368)
(باب كيف المسح على الخفين)
قال الشافعي: " أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي يَحْيَى عَنْ ثورٍ بْنِ يزيدٍ عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة عن المغيرة بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح أعلى الخف وأسفله واحتج بأثر ابن عمر أنه كان يمسح أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: السُّنَّةُ أَنْ يَمْسَحَ أَعْلَاهُ دُونَ أَسْفَلِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ أَعْلَى خُفَّيْهِ؛ قَالَ: وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَسْحِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ غَيْرَ مَسْنُونٍ كَالسَّاقِ.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَمْسَحُ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يَلْزَمُ سَتْرُهُ بِالْخُفِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ مَسْنُونًا عَلَى الْقَدَمِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ مَمْسُوحٌ، فَكَانَ مِنَ السُّنَّةِ اسْتِيعَابُ مَسْحِهِ كَالرَّأْسِ فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْلَى الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ أَسْفَلِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْخِلَافُ هَلْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَضُمَّ مَسْحَ أَعْلَاهُ إِلَى مَسْحِ أَسْفَلِهِ أَمْ لَا؟ وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى السَّاقِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ إِنْ سَلِمَ الْوَصْفُ لَهُ أَنَّ السَّاقَ لَا يَلْزَمُ سَتْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يَغْمِسَ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ ثُمَّ يَضَعُ كَفَّهُ الْيُسْرَى تَحْتَ عَقِبِ الْخُفِّ وَكَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ ثُمَّ يُمِرُّ الْيُمْنَى إِلَى سَاقِهِ وَالْيُسْرَى إِلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ ".(1/369)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا خَصَّ الْيُمْنَى بِالْأَعْلَى وَالْيُسْرَى بِالْأَسْفَلِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ، وَقَالَتْ كَانَتْ يُمْنَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِمَا عَلَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ يُسْرَاهُ لِمَا سَفُلَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ هَكَذَا كَانَ يَمْسَحُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ مِنَ السُّنَّةِ مَعَ مَسْحِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ أَنْ يَمْسَحَ حَوْلَ الْعَقِبِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ هَاهُنَا أَنَّ مَسْحَهُ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى أَنَّ مَسْحَهُ مَسْنُونٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لِأَنَّهُ مِنْ بَقَايَا مَحَلِّ الْفَرْضِ، فَلَوْ مَسَحَ الْأَعْلَى بِالْيُسْرَى وَالْأَسْفَلَ بِالْيُمْنَى لَكَانَ مُخَالِفًا لِلْأَدَبِ فِي الْفِعْلِ وَمُؤَدِّيًا لسنة المسح.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ مَسَحَ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ وَتَرَكَ الظَّاهِرَ أَعَادَ وَإِنْ مَسَحَ عَلَى الظَّاهِرِ وَتَرَكَ الْبَاطِنَ أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَرْبَعَةَ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: حَالُ كَمَالٍ وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ عَلَى مَا مَضَى.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: حَالُ إِجْزَاءٍ، وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ دُونَ أَسْفَلِهِ.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: حَالٌ لَا كَمَالَ فِيهَا وَلَا إِجْزَاءَ وَهُوَ أَنْ يُمْسَحَ مَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مِنْ سَاقِ الْخُفِّ.
وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَهُوَ أَنْ يَمْسَحَ أَسْفَلَ الْخُفِّ دُونَ أَعْلَاهُ فَالَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ الْمَذْهَبُ، وَأَنَّ مَسْحَهُ لَا يُجْزِئُ وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يَذْهَبُ إِلَى جَوَازِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّ الْمُزَنِيَّ لَمْ يَحْكِهِ نَصًّا، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ دَلِيلِ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ مَسَحَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَتَرَكَ الْبَاطِنَ، أَجْزَأَهُ، فَظَنَّ بِدَلِيلِ كَلَامِهِ أَنَّ مَسْحَ بَاطِنِهِ دُونَ ظَاهِرِهِ لَا يُجْزِئُ فَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَاخْتِيَارُ أَبِي الْعَبَّاسِ بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ. وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يمسح على ظاهر خفه، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ " لِأَنَّهُ يُلَاقِي الْأَنْجَاسَ، فَكَانَ مَسْحُهُ لِإِزَالَةِ مَا لَاقَى مِنَ النَّجَاسَةِ أَوْلَى، لَكِنَّ الرَّأْيَ مَتْرُوكٌ بِالنَّصِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْزِئُ مَسْحُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُ مَسْحَ الفرض(1/370)
كَالْأَعْلَى، وَأَمَّا مَسْحُ الْعَقِبِ وَحْدَهُ فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ بِسُنَّةٍ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُجْزِئُ قِيَاسًا عَلَى السَّاقِ.
وَالثَّانِي: يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُ مَحَلَّ الْفَرْضِ كَالْقَدَمِ الْأَعْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وكيفما أتى بالمسح على طهر الْقَدَمِ بِكُلِّ الْيَدِ أَوْ بَعْضِهِ أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الْوَاجِبُ مِنْ مَسْحِ الْخُفِّ مَسْحُ بَعْضِهِ، وَإِنْ قَلَّ بِكُلِّ الْيَدِ أو بعضها، وقال أبو حنيفة: الواجب مسح ثلاثة أَصَابِعَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ الْخُفَّيْنِ خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ، قَالَ: وَأَقَلُّ الْأَصَابِعِ ثَلَاثٌ، قَالَ: وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْمَسْحُ، دُونَ الْمَسِّ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ يَكُونُ مَسًّا وَلَا يَكُونُ مَسْحًا؛ لِأَنَّ الْمَسَّ الْمُلَاقَاةُ، وَالْمَسْحُ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَى الْمُلَاقَاةِ إِمْرَارٌ.
ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً " فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِيمَا انْطَلَقَ اسْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَلِأَنَّهُ أَتَى فِي مَحَلِّ الْمَسْحِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ، كَمَا لَوْ مَسَحَ ثَلَاثَ أَصَابِعَ، وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ ثَلَاثٌ إِمَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِيرِهِ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَصِحَّ التَّقْدِيرُ، وَلِأَنَّ الْأَصَابِعَ مُخْتَلِفَةٌ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ فَصَارَتْ مَجْهُولَةً، وَالْمَقَادِيرُ لَا تَثْبُتُ بِمَجْهُولٍ فَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَجْهُولٌ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَلَوْ صَحَّ مُسْنَدًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا دَونَهُ لَا يُجْزِئُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وأسفله، ولم يدل على أنه مَسْحَ الْأَسْفَلِ وَحْدَهُ لَا يُجْزِئُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ هَذَا مَسٌّ لَا مَسْحٌ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَيْهِ إِمْرَارٌ فَهُوَ أَنَّهَا دَعْوَى قَدِ اجْتَمَعْنَا عَلَى إِبْطَالِهَا؛ لِاتِّفَاقِنَا أَنَّ الْإِمْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ أَصَابِعَ مِنْ غَيْرِ إِمْرَارٍ أَجْزَأَ، ونحن نقول: مثله فِيمَا قَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/371)
(باب الغسل للجمعة والأعياد)
قال الشافعي: " وَالِاخْتِيَارُ فِي السُّنَّةِ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ صَلَاةَ الجمعة الاغتسال لها لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " الغسل واجبٌ على كل محتلمٍ " يريد وجوب الاختيار لأنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أفضل " وقال عمر لعثمان رضي الله عنهما حين راح والوضوء أيضاً؟ وقد عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يأمر بالغسل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: غُسْلُ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَرَوَى قَوْلَهُ عَنْ مَالِكٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بن سليم عن عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غُسْلُ الْجُمُعَةِ واجبٌ عَلَى كُلِّ محتلمٍ " وَبِرِوَايَةِ بُكَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عَلَى كُلِّ محتلمٍ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ، ومن رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ الْغُسْلُ، وَبِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ ".
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من توضأ فيها ونعمت ومن اغتسل فهو فضلٌ ".
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ النَّاسُ مُهَّانُ أَنْفُسِهِمْ فَيَرُوحُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ بِهَيْئَتِهِمْ وَقِيلَ لَهُمْ لَوِ اغْتَسَلْتُمْ ".
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْعِرَاقِ جَاءُوا فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؛ أَتَرَى الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبًا فَقَالَ: لَا؛ وَلَكِنَّهُ طهرٌ وخيرٌ لِمَنِ اغْتَسَلَ، وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ بواجبٍ، وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ بدأ الْغُسْلِ كَانَ النَّاسُ مَجْهُودِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَحْمِلُونَ(1/372)
عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ إِنَمَا هُوَ عريشٌ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي يومٍ حارٍ، وَعَرِقَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الصُّوفِ حَتَى ثَارَتْ مِنْهُمْ رِيَاحٌ آذَى بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تِلْكَ الرِّيحَ، فَقَالَ أَيُّهَا الْنَاسُ إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ فَاغْتَسِلُوا، وَلِيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَفْضَلَ مَا يَجِدُ مِنْ دُهْنِهِ وَطِيبِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ثم جاء الله بالخبر وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ وَكُفُوا الْعَمَلَ وَوَسِعَ مَسْجِدُهُمْ وَذَهَبَ بَعْضُ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْعَرَقِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ انْقَلَبْتُ مِنَ السُّوقِ فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ فَمَا زِدْتُ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ وَأَقْبَلْتُ فَقَالَ عُمَرُ: الْوُضُوءَ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يأمر بالغسل.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو علمنا وُجُوبَهُ لَرَجَعَ عُثْمَانُ وَمَا تَرَكَهُ عُمَرُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ لِسَبَبٍ مُسْتَقْبَلٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سُنَّةً كَالْغُسْلِ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَعَكْسُهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ فَهُوَ: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ مَسْنُونٌ فَهُوَ سُنَّةٌ لِمَنْ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ فَلَيْسَ الْغُسْلُ سُنَّةً لَهُ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَنْ أَهِلِهَا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِعُذْرٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْغُسْلُ مسنوناً له ومأموراً بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لَيْسَ بِسُنَّةٍ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْذُورًا بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ كَانَ مَعْذُورًا بِتَرْكِ الْغُسْلِ لَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْغُسْلَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ زَوَالَ عُذْرِهِ يَجُوزُ وَلُزُومَ الْجُمُعَةِ لَهُ مُمْكِنٌ.
فَأَمَّا غُسْلُ الْعِيدِ فَسُنَّةٌ لِمَنْ أَرَادَ حُضُورَ الْعِيدِ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ أَنَّ غُسْلَ الْعِيدِ مَأْمُورٌ بِهِ لِأَخْذِ الزِّينَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ مَنْ حَضَرَ الْعِيدَ، وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ كَاللِّبَاسِ، وَغُسْلُ الْجُمُعَةَ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَطْعِ الرَّائِحَةِ، لأن لا يُؤْذِيَ بِهَا مَنْ جَاوَرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْضُرُ زال معناه. والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجْزِيهِ غُسْلُهُ لَهَا إِذَا كَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ ".(1/373)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ لِلْمُغْتَسِلِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ غُسْلَهُ لَهَا مُجْزِئٌ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَ الْفَجْرِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة أَنْ غُسْلَهُ مُجْزِئٌ لَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ " وَاسْمُ الرَّوَاحِ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ قَالَ: وَلِأَنَّ مَشْرُوعَاتِ الْجُمُعَةِ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا قَبْلَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ، كَالْأَذَانِ وَكَالْغُسْلِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
ودليلنا رواية أبي الأشعث عن أواس بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ غَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الْإِمَامَ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِ خطوةٍ عَمَلُ سنةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا " فَجَعَلَ الْغُسْلَ فِي الْبُكُورِ أَفْضَلَ، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً " وَلِأَنَّ هَيْئَاتِ الْجُمُعَةِ يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَلِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْغُسْلِ لَهَا إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا مَشَقَّةً لَاحِقَةً وَذَرِيعَةً إِلَى الْفَوَاتِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ تُعَجَّلُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَلَا تَنْفَكُّ مِنْ فَوَاتِ الْغُسْلِ أَوِ الصَّلَاةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " مَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ " فَهُوَ أَنَّ الرَّوَاحَ الِانْصِرَافُ إِلَى الشَّيْءِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ وَمَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
(أَمِنْ آلِ نعمٍ أَنْتَ غادٍ مُبَكِّرُ ... غَدَاةَ غدٍ أَمْ رائحٌ فَمُهَجِّرُ)
وَالتَّهْجِيرُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَجَعَلَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَجَعَلَهُ بَعْدَ الرَّوَاحِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْأَذَانِ فَفَاسِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ مَشْرُوعَاتِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مِنْ مَسْنُونَاتِ الْيَوْمِ فَجَازَ قبل دخول وقت الصلاة.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا يُجْزِئُهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَبَعٌ لِيَوْمِهَا، وَقِيَاسًا عَلَى غُسْلَ الْعِيدِ لَمَّا جَازَ قَبْلَ الْفَجْرِ جَازَ بَعْدَ الْفَجْرِ.
ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ واجبٌ عَلَى كُلِّ محتلمٍ " فَأَضَافَهُ إِلَى الْيَوْمِ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ، ولأنه إِيقَاعَ الْغُسْلِ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَمْنَعُهُ لِإِجْزَائِهِ لِلْجُمُعَةِ كَالْغُسْلِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَبَعٌ لِيَوْمِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى غُسْلِ يَوْمِ الْعِيدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ:(1/374)
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ فَسَقَطَ السُّؤَالُ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ ضِيقُ وَقْتِ الْغُسْلِ فِي الْعِيدِ بَعْدَ الْفَجْرِ لِتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ لَهَا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى التَّوْسِعَةِ فِي تَقْدِيمِ الْغُسْلِ وَالطِّيبِ قَبْلَ الفجر وها هنا بخلافه والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَاغْتَسَلَ لَهُمَا جَمِيعًا أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَصْبَحَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ غُسْلَانِ: وَاجِبٌ: وَهُوَ الْجَنَابَةُ وَمَسْنُونٌ: وَهُوَ الْجُمُعَةُ، فَإِنِ اغْتَسَلَ لَهُمَا غُسْلَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ وَيُقَدِّمُ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، وَإِنِ اغْتَسَلَ لَهُمَا غُسْلًا وَاحِدًا يَنْوِيهِمَا مَعًا أَجْزَأَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُ لِاخْتِلَافِ مُوجِبَيْهِمَا، وَسَائِرِ أَحْكَامِهِمَا وَهَذَا أَغْلَظُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إِذَا تَرَادَفَ تَدَاخَلَ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَابَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ عَنِ الْغُسْلِ الْمَفْرُوضِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَنُوبَ عَنِ الْمَسْنُونِ وَلَيْسَ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا وَجْهٌ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا كَالْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن نوى بالغسل الجمعة والعيد لَمْ يُجْزِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَنْوِيَ مِنَ الْجَنَابَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِيمَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ، فَاغْتَسَلَ أَحَدُ الْغُسْلَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَنْوِيَ الْجَنَابَةَ وَحْدَهَا، دُونَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَنْوِيَ الْجُمُعَةَ وَحْدَهَا، دُونَ الْجَنَابَةِ، وَإِنْ نَوَى بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ دُونَ الْجُمُعَةِ أَجْزَأَهُ غُسْلُ الْجُمُعَةِ، وَفِي إِجْزَائِهِ غُسْلَ الْجُمُعَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنِ الْجُمُعَةِ بِنِيَةِ الْجَنَابَةِ كَمَا يُجْزِئُ إذا نوى في أحد الأحداث لجمعها.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الرَّبِيعُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا لِاخْتِلَافِ سَبَبَيْهِمَا فِي كَوْنِ أَحَدِهِمَا لماضٍ، وَالْآخَرِ لِمُسْتَقْبَلٍ، فَمَنَعَ مِنْ أَنْ يُجْزِئَ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا عن الآخر.
(فصل)
: وإن نوى غسل الْجُمُعَةِ دُونَ الْجَنَابَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا، وَأَمَّا الْجُمُعَةِ فَلِوُجُوبِ مَا هُوَ أَمْكَنُ مِنْهَا.(1/375)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَجْعَلُ الطَّهَارَةَ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهَا قَائِمَةً مَقَامَ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُجْزِئَهُ عَنِ الْجُمُعَةِ الَّتِي نَوَاهَا دُونَ الْجَنَابَةِ الَّتِي لَمْ يَنْوِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَإِنَّمَا لِكُلِ امرئٍ مَا نَوَى ".
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا اغْتَسَلَ الرَّجُلُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ اجْتَنَبَ بَعْدَهُ عَمْدًا أَوْ غَيْرَ عَمْدٍ اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ، وَلَمْ يُعِدْ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ، وَخَالَفَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَقَالَ: يُعِيدُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ تَنْظِيفٌ فَإِذَا تَعَقَّبَهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ زَادَهُ تَنْظِيفًا وَلَمْ يُعِدْهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وأحب الغسل من غسل الميت، وكذلك الغسل للأعياد سنةٌ اختياراً وإن ترك الغسل للجمعة والعيد أجزأته الصلاة وإن نوى الغسل للجمعة والعيد لم يجزه من الجنابة حتى ينوى الجنابة وَأَوْلَى الْغُسْلِ أَنْ يَجِبَ عِنْدِي بَعْدَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ مُفْضِيًا إِلَيْهِ وَلَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قلت به ثم غسل الجمعة ولا نرخص في تركه ولا نوجبه إِيجَابًا لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) إِذَا لم يثبت فَقَدْ ثَبَتَ تَأْكِيدُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَجْمَعُوا أَنَّ مَسَّ خِنْزِيرًا أَوْ مَسَّ مَيْتَةً أَنَّهُ لَا غُسْلَ وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلَّا غُسْلَ مَا أَصَابَهُ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ؟ ! ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غُسْلُ الْمَيِّتِ فَوَاجِبٌ، وَأَمَّا الْغُسْلُ مَنْ غُسْلِهِ وَالْوُضُوءُ من مسه فقد روى صالح مولى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ غَسَّلَ مَيْتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ مَسَّهُ مفضياً إليه فليتوضأ ".
قال الشافعي رضي الله عنه: إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفًا، فَالْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا كَانَ سُنَّةً مَعَ ضَعْفِ الْحَدِيثِ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ، وَكَذَلِكَ صَحَابَتُهُ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ أربعٍ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمِنَ الْحِجَامَةِ وَمِنْ(1/376)
غُسْلِ الْمَيِّتِ وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ وَثَبَتَ فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ أَخْرَجَ لِصِحَّتِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ طَرِيقًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ وَاجِبًا؛ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ مَعَ ثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهِ اسْتِحْبَابًا لِاحْتِمَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ اسْتِحْبَابًا وَإِمَّا وَاجِبًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ هُوَ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا فَعَلَ اسْتِسْلَامًا لِلشَّرْعِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ أن المعنى فيه نَجَاسَةِ الْمَيِّتِ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْأَنْجَاسِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا وَوَاجِبٌ إِنْ كَانَ رَطْبًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ حُرْمَةُ الْمَيِّتِ كما تلزم الطهارة لملامسة النساء الأحياء لحرمتين لِيُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى أَكْمَلِ طَهَارَةٍ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ، فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمٌ عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ قِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ فَفِي تَأْكِيدِهِ عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ أَوْكَدُ سُنَّةً؛ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ فِيهِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي وُجُوبِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ أَوْكَدُ مِنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، لِوُقُوفِ الْخَبَرِ عَلَى الصِّحَّةِ وَتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الواجب والسنة.
(فصل)
: فأما المزني فإنه أنكره وَمَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ حَتْمًا أَوْ نَدْبًا تَعَلُّقًا بِأَنَّ مَنْ مَسَّ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يَتَوَضَّأْ فَكَيْفَ يَتَوَضَّأُ مِنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمَعَ مَا فَرَّقَتِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَرْفُضُ الْأُصُولَ، لِأَنَّ مَنْ مَسَّ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً تَوَضَّأَ، وَمَنْ مَسَّ مَيْتَةً أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يَتَوَضَّأْ، وَمَنْ مَسَّ ذَكَرَ مُؤْمِنٍ تَوَضَّأَ وَلَوْ مَسَّ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً لَمْ يَتَوَضَّأْ فَكَيْفَ يمنع من تسليم أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ وَارِدًا بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْمَيْتَةِ دُونَ الْخِنْزِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.(1/377)
(بَابُ حَيْضِ الْمَرْأَةِ وَطُهْرِهَا وَاسْتِحَاضَتِهَا)
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: " قَالَ اللَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) {قَالَ الشَّافِعِيُّ) " مِنَ الْمَحِيضِ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ " (قَالَ الشَّافِعِيُّ) تَطَهَّرْنَ بِالْمَاءِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَيْضَ هُوَ مَا يُرْخِيهِ الرَّحِمُ مِنَ الدَّمِ إِذَا كَانَ عَلَى وَصْفٍ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ لَهُ بِسِتَّةِ أَسْمَاءٍ بَعْضُهَا فِي اللِّسَانِ مَذْكُورٌ وَبَعْضُهَا فِي اللُّغَةِ مَشْهُورٌ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ أَشْهَرُهَا عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ الْحَيْضُ، وَفِي تَكَلُّفِ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ فِي شَرْعٍ أَوْ لُغَةٍ عَنَاءٌ مُسْتَهْجَنٌ وَسُمِّيَ حَيْضًا لِسَيَلَانِهِ مِنْ رَحِمِ الْمَرْأَةِ، مأخوذ من قوله: حاض السبيل، وَفَاضَ إِذَا سَالَ وَمِنْهُ قَوْلُ عِمَارَةَ بْنِ عقيل:
(أجالت حصاهن الدواري وحيضت ... عليهن حيضات السيول الطواحم)
السيول الجواري الَّتِي تُدِيرُ التُّرَابَ، وَكَذَلِكَ الذَّارِيَاتُ والْهَوَاجِمُ السُّيُولُ الْعَالِيَةُ وَحَيَّضَتْ أَيْ سَيَّلَتْ، وَحَيْضَاتُ السُّيُولِ مَا سَالَ مِنْهَا فَسُمِّيَ بِهِ دَمُ الْحَيْضِ حَيْضًا لِسَيَلَانِهِ.
وَالثَّانِي: الطَّمْثُ وَالْمَرْأَةُ طَامِثٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الطَّمْثُ الدَّمُ، وَكَذَلِكَ قِيلَ إِذَا افْتَضَّ الرَّجُلُ الْبِكْرَ قَدْ طَمَثَهَا أَيْ أَدْمَاهَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَم يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ) {الرحمن: 56) .
وَقَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ الْفَرَزْدَقُ:
(دُفِعْنَ إِلَيَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي ... وَهُنَّ أصَحُّ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ)
وَالثَّالِثُ: الْعَرْكُ، وَالْمَرْأَةُ عَارِكٌ وَالنِّسَاءُ عَوَارِكُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِذَا عَرَكَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا يَحِلُّ أَنْ يُنْظُرَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَيُرْوَى إِذَا عَارَكَتْ يَعْنِي: إِذَا حَاضَتْ مَأْخُوذٌ مِنْ عَرَاكِ الرِّجَالِ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(أَفِي السِّلْمِ أَعْيَارُ أجفاءٍ وغلظةٍ ... وَفِي الْحَرْبِ أَشْبَاهُ النساء العوارك)(1/378)
وَالرَّابِعُ: الضَّحِكُ وَالْمَرْأَةُ ضَاحِكٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} وَقَالَ مُجَاهِدٌ حَاضَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(وَضَحِكُ الْأَرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا ... كَمِثْلِ دَمِ الْحَرْقِ يَوْمَ اللِّقَا)
وَالْخَامِسُ: الْإِكْبَارُ، وَالْمَرْأَةُ مُكْبَرٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) {يوسف: 31) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ حِضْنَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ قَالَ الشَّاعِرُ:
(نَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أطهَارِهِنَّ وَلَا ... نَأتِي النِّسَاءَ إِذَا أُكْبِرْنَ إِكْبَارًا)
وَالسَّادِسُ: الْإِعْصَارُ، وَالْمَرْأَةُ مُعْصِرٌ وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(جاريةٌُ قَدْ أَعْصَرَتْ ... أَوْ قَدْ دَنَا إِعْصَارُهَا)
وَمِنْهُ اشْتُقَّ لِلسَّحَابِ اسْمُ الْإِعْصَارِ لِخُرُوجِ الْمَطَرِ مِنْهُ كَخُرُوجِ الدَّمِ مِنَ الرَّحِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتٍ مَاءً ثَجَّاجاً) {النبأ: 14) .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
(فَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أَتَّقِي ... ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمَعْصَرُ)
أَيْ: حَائِضٌ، فَالْحَيْضُ فِي النساء خلقة فطهرهن اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا وَقَدْ ذَكَرَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ أَنَّ الَّذِي يَحِيضُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَرْبَعَةٌ، الْمَرْأَةُ، وَالضَّبْعُ وَالْأَرْنَبُ وَالْخُفَّاشُ وَحَيْضُ الضَّبْعِ وَالْأَرْنَبِ مَشْهُورٌ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ قَالَ الشَّاعِرُ فِي حَيْضِ الضَّبْعِ:
(تَضْحَكُ الضَّبْعُ لِقَتْلَى هذيلٍ ... وترى الذئب بها يستهل)
يعني تحيض.
(فصل)
: وَرَوَى يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا أَكَلَ آدَمُ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ: زَيَّنَتْهُ لِي حَوَّاءُ قَالَ: إِنِّي عَاقَبْتُهَا أَلَّا تَحْمِلَ إِلَّا كُرْهًا وَلَا تَضَعَ إِلَّا كُرْهًا وَدَمَيْتُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ حَوَّاءَ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: عَلَيْكِ الرِّثَّةُ وَعَلَى بَنَاتِكِ.
(فَصْلٌ)
: وَكَانَ السَّبَبُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْحَيْضِ وَمَا يَلْزَمُ اجْتِنَابُهُ مِنَ الْحَائِضِ مَا رُوِيَ أَنَّ(1/379)
أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ وَعَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ وَثَابِتَ بْنَ الدَّحْدَاحِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن حكم الحيض والحائض، واختلف في سبب سُؤَالِهِمْ، فَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ سَبَبُ سُؤَالِهِمْ أَنَّ الْعَرَبَ، وَمَنْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَجْتَنِبُونَ مُسَاكَنَةَ الْحَائِضِ وَمُوَاكَلَتَهَا وَمُشَارَبَتَهَا فَسَأَلُوا عَنْهُ لِيَعْلَمُوا حُكْمَ الشَّرْعِ فِيهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَلْ كَانُوا يَعْتَزِلُونَ وَطْأَهُنَّ فِي الْفَرْجِ وَيَأْتُوهُنَّ فِي أَدْبَارِهِنَّ مُدَّةَ حَيْضِهِنَّ فَسَأَلُوا لِيَعْلَمُوا حُكْمَهُ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) {البقرة: 222) .
فَبَدَأَ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) {البقرة: 222) فَالْمَحِيضُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عِبَارَةً عَنْ دَمِ الْحَيْضِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ العلم، وقوله هو أذىً فَالْأَذَى هُوَ مَا يُؤْذِي فَسَمَّى دَمَ الْحَيْضِ أذى؛ لأنه له لوناً ورائحة منتة وَنَجَاسَةٌ مُؤْذِيَةٌ مَعَ مَنْعِهِ مِنْ عِبَادَاتٍ وَتَغَيُّرِ أَحْكَامٍ، وَقَوْلُهُ {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ) {البقرة: 222) فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: اعْتِزَالُ جَمِيعِ بَدَنِهَا أَنْ يُبَاشِرَهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ وَهَذَا قَوْلُ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ اسْتِعْمَالًا لِعُمُومِ اللَّفْظِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ اعْتِزَالُ وَطْئِهَا دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِرِوَايَةِ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ إِذَا حَاضَتْ مِنْهُنَّ المرأة أخرجوها من البيت ولم يواكلوها، وَلَمْ يُشَارِبُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبَيْتِ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) {البقرة: 222) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَاصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِنَا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ وَرَوَتْ صَفِيَّةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِي فَيَقْرَأُ وَأَنَا حائضٌ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ إِنِّي لَأَدْنُو إِلَى الْحَائِضِ، وَمَالِي إليها ضرورة أي: ميل إِلَيْهَا لِحَاجَةٍ وَقَوْلُهُ فِي الْمَحِيضِ فِي هَذَا الْمَحِيضِ الثَّانِي ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ دَمُ الْحَيْضِ كَالْحَيْضِ الْأَوَّلِ.
وَالثَّانِي: زَمَانُ الْحَيْضِ لِيَعُمَّ زَمَانَ جَرَيَانِ الدَّمِ وَمَا يَتَخَلَّلُهُ مِنْ أَوْقَاتِ انقطاعه.(1/380)
وَالثَّالِثُ: مَكَانُ الْحَيْضِ وَهُوَ الْفَرْجُ كَمَا يُقَالُ: مبيت ومقيل لمكان البيتوتة، ومكان القيولة، وَهُوَ قَوْلُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَوْلُهُ {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ) {البقرة: 222) فِيهِ قراءتان:
إحداهما: أنه تأكيد لقوله " فاعتزلوا " بِالتَّخْفِيفِ وَضَمِّ الْهَاءِ، وَمَعْنَاهُ: انْقِطَاعُ الدَّمِ وَهُوَ قول مجاهد وعكرمة.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَحْدِيدٌ لِآخِرِ زَمَانِ التَّحْرِيمِ وَقَوْلُهُ " حتى يطهرن " فيه قراءتان.
وَالثَّانِيَةُ: بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ الْهَاءِ.
وَمَعْنَاهُ: حَتَّى يَغْتَسِلْنَ.
وقوله {فَإِذَا تَطَهرْنَّ) {البقرة: 222) فيه قولان:
أَحَدُهُمَا: تَطَهَّرْنَ مِنَ الدَّمِ بِانْقِطَاعِهِ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة.
وَالثَّانِي: يَطْهُرْنَ بِالْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّهَارَةَ إِلَى فِعْلِهِنَّ وَلَيْسَ انْقِطَاعُ الدَّمِ مِنْ فِعْلِهِنَّ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا وَفِي صِفَةِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: غَسْلُ الْفَرْجِ وَهَذَا قَوْلُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ.
وَالثَّانِي: الوضوء وهو قول طاووس وَمُجَاهِدٍ.
وَالثَّالِثُ: الْغُسْلُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) {البقرة: 222) فِيهِ تأويلان:
أَحَدُهَا: الْقُبُلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ دُونَ الدُّبُرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ.
وَالثَّانِي: مِنْ قِبَلِ طُهْرِهِنَّ لَا مِنْ قِبَلِ حَيْضِهِنَّ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وقَتَادَةَ.
وَالثَّالِثُ: فَأْتُوهُنَّ مِنْ قِبَلِ النِّكَاحِ لَا مِنْ قِبَلِ الْفُجُورِ وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ {إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ) {البقرة: 222) ويحب المتطهرين فيه ثلاث تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: الْمُتَطَهِّرِينَ بِالْمَاءِ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ.
وَالثَّانِي: الْمُتَطَهِّرِينَ مِنْ أَدْبَارِ النِّسَاءِ أَنْ يَأْتُوهَا، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَالثَّالِثُ: الْمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الذُّنُوبِ أن يعودوا فيها بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْهَا وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ أيضاً.(1/381)
فَهَذَا مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُكْمِ الْحَيْضِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَدَارُ الْحَيْضِ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ:
أَحَدُهَا: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الْمُعْتَادَةِ.
وَالثَّانِي: حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ فِي الْمُمَيِّزَةِ.
وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ.
فَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَهْرَاقُ الدَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالأيَامِ الَّتِي كَانَتْ تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ فَإِذَا خَلَفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتَسْتَنْقِ بثوبٍ ثَمَّ لِتُصَلِّيَ.
وَأَمَا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حبيش فرواه ابن شهاب عن عروة ابن الزُّبَيْرِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضَةِ فَإِنَهُ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي، فَإِنَّمَا هُوَ عرقٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَمْنَةُ بِنْتِ جَحْشٍ فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَمِّهِ عِمْرَانَ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أُمِّهِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَجِئْتُ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً وَإِنَّهُ لحديثٌ مَا بُدٌّ مِنْهُ وإني لأستحي منه فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَمَا هُوَ يَا هَنْتَاهُ فَقَالَتْ إِنِي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَمَا(1/382)
تَرَى قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ وَالصَوْمَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأنا منها فَإِنِي أَبْعَثُ لَكِ الْكُرْسُفَ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ قَالَتْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَالتَجِمِي قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَاتَّخِذِي ثَوْبًا قَالَتْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا فَقَالَ النَّبِيُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ أَيَّهُمَا فَعَلْتِ أَجَزَاكِ عَنِ الْآخَرِ فَإِنْ قَوِيتِ عَلَيْهِمَا فَأَنْتِ أَعْلَمُ قَالَ إِنَّمَا هِيَ ركضةٌ مِنْ رَكْضَاتِ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَةَ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمٍ اللَهِ ثُمَّ اغْتَسِلِي حَتَى إِذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلةً وأيامها أو ثلاثة وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإنه يجزيك وَكَذَا افْعَلِي فِي كُلِّ شهرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ مِيقَاتَ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ فَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ فتغتسلين ثُمَ تُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ ثمَ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَافْعَلِي وَتَغْتَسِلِينَ عِنْدَ الْفَجْرِ ثُمَّ تُصَلِّينَ الصُّبْحَ وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي وَصُومِي إِنْ قَوِيتِ عَلَى ذَلِكَ قال وهذا أحب لاأمرين إليّ.
(فصل)
: فإذا أوضح حُكْمُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَحَيْضُ الْمَرْأَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَبْعَةُ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَيُسْقِطُ الْقَضَاءَ أَمَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ؛ فَلِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِيرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَسَأَلَتِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَدَعَ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا وَأَمَّا سُقُوطُ الْقَضَاءِ فَلِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ أَتَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ فَقَالَتْ أحروريةٌ أَنْتِ قَدْ كُنَّا نَحِيضُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ وَلَا نُؤمَرُ بِقَضَائِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الصِّيَامِ وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ لِرِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: " إِنْ كَانَ لَيَكونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ فِي رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ " يَعْنِي: صَوْمَ مَا أَفْطَرَتْ بِالْحَيْضِ، ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَضَاءِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ فِي الْقَضَاءِ وَالصَّوْمِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ لُحَوْقُ الْمَشَقَّةِ فِي قضائها للصلاة دون الصيام فزادت المشقة فِي قَضَائِهَا وَقَلِيلَةُ الصِّيَامِ وَعَدَمُ الْمَشَقَّةِ فِي قَضَائِهِ.
وَالثَّالِثُ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ لِرِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ(1/383)
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حائضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي.
وَالرَّابِعُ: دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَمَّا الْمَسْجِدُ فَلَا أُحِلُّهُ لجنبٍ وَلَا لحائضٍ " وَلِأَنَّ حَدَثَ الْحَيْضِ أَغْلَظُ مِنْ حَدَثِ الْجَنَابَةِ، ثُمَّ كَانَ نَصُّ الْكِتَابِ يَمْنَعُ الْجُنُبَ مِنَ الَمَقَامِ فِيهِ فَكَانَتِ الْحَائِضُ مَعَ مَا يُخَافُ تَنْجِيسُ الْمَسْجِدِ بِدَمِهَا أَحَقَّ بِالْمَنْعِ وَإِذَا مُنِعَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الِاعْتِكَافِ لَا مَحَالَةَ.
وَالْخَامِسُ: مَسُّ الْمُصْحَفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَمَسّهُ إِلاَّ المُطَهِّرُونَ) {الواقعة: 79) .
والسادسة: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ وَلِمَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ مِنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ أَنْ يَقْرَءَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ.
وَالسَّابِعُ: الْوَطْءُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) {البقرة: 222) فَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَهُوَ مَا عَلَا عَنِ السُّرَّةِ وَانْحَدَرَ عَنِ الرُّكْبَةِ فَمُبَاحٌ لِرِوَايَةِ حَبِيبٍ عَنْ مَيْمُونَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُبَاشِرُ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ وَهِيَ حائضٌ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا إزارٌ إِلَى أَنْصَافِ الْفَخِذَيْنِ أَوِ الرُّكْبَتَيْنِ تَحْتَجِرُ بِهِ وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنِ الأسود عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا أَنْ تَتَّزِرَ ثُمَّ يُضَاجِعَهَا.
فَأَمَّا الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا دُونَ الْإِزَارِ وَهُوَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ إِذَا عَدَلَ عَنِ الْفَرْجِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ مَحْظُورٌ وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو الْعَبَّاسِ وعلي بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أبو حنيفة وأبو يوسف لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَمَّا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَهِيَ حائضٌ قَالَ: مَا تَحْتَ الْإِزَارِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُبَاحٌ وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ وَأَبُو إِسْحَاقَ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ ومحمد بن الحسن لِمَا رُوِيَ أَنَّ ثَلَاثَةَ رَهْطٍ سَأَلُوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا يَحِلُّ مِنَ الْحَائِضِ فقال: ما أحسم الحجرين، ولأن الْفَرْجَ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالتَّحْرِيمِ دُونَ مَا حَوْلَهُ كَالدُّبُرِ، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْفَرْجِ وَهُوَ مَشْهُورٌ أَنَّهُمْ يُكَنُّونَ عَنِ الْفَرْجِ بِالْإِزَارِ قَالَ الْأَخْطَلُ:(1/384)
(قومٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النِّسَاءِ ولو باتت بِأَطْهَارِ)
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْفَيَّاضِ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ يَضْبُطُ نَفْسَهُ عَنْ إِصَابَةِ الْفَرْجِ إِمَّا لِضَعْفِ شَهْوَتِهِ أَوْ لِقُوَّةٍ تُخْرِجُهُ جَازَ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَضْبُطْ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِ وَقِلَّةٍ تُخْرِجُهُ لَمْ يَجُزْ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يأمرنا في فَوْرَ حَيْضَتِنَا أَنْ نَتَّزِرَ ثُمَّ يُبَاشِرُنَا وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْلِكُ إِرْبَهُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ السَّبْعَةِ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ حَيْضٍ وُجِدَ فِي كُلِّ امْرَأَةٍ وَقَدْ يَتَعَلَّقُ به حكمان يختصان ببعض النِّسَاءِ وَهُمَا: الْبُلُوغُ وَالْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ فَصَارَتْ مَعَ هَذَيْنِ تِسْعَةَ أَحْكَامٍ فَإِنْ خَالَفَتِ الْمَرْأَةُ فِي حَالِ حَيْضِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَهِيَ عَاصِيَةٌ بِارْتِكَابِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا فِيمَا سِوَى الْوَطْءِ، وَأَمَّا الْوَطْءُ فَإِنْ كَانَ فِيمَا سِوَى الْفَرْجِ مِمَّا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي تَحْرِيمِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا فِيهِ وَلَا عَلَى الْوَاطِئِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفَرْجِ فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سفيان بن أبي أمية عن مقسم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ قَالَ: مَنْ أَتَى امْرَأَةً وَهِيَ حائضٌ إِنْ كَانَ الدَّمُ غَبِيطًا تَصَدَّقَ بدينارٍ وَإِنْ كَانَ أَحْمَرَ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ دينارٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْتُ به لأنه كان واقعاً فِيهِ فَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَجُمْهُورُ الْبَغْدَادِيِّينَ يجعلونه قولاً في القديم ومذهبنا وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَكَانَ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَجُمْهُورُ الْبَصْرِيِّينَ لَا يُخْرِجُونَهُ فِي الْقَدِيمِ قَوْلًا وَلَا يَجْعَلُونَهُ مَذْهَبًا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحُكْمَ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَقُولُ: لَوْ صح الحديث لكان حَمْلُهُ عَلَى الْقَدِيمِ اسْتِحْبَابًا لَا وَاجِبًا؛ لِاحْتِمَالِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَمَا صَحَّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْوَاطِئِ فِي الْحَيْضِ وَلَا الْمَوْطُوءَةِ الْحَائِضِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ إِذَا حُرِّمَ لِأَجْلِ الْأَذَى لَمْ يُوجِبِ الْكَفَّارَةَ كَالْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنِّي أَبُولُ دَمًا قَالَ: يُوشِكُ أَنْ تَطَأَ امْرَأَتَكَ وَهِيَ حائضٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً.(1/385)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ التِّسْعَةِ فِي تَعَلُّقِهَا بِالْحَيْضِ كَانَ دَمُ حَيْضِهَا بَاقِيًا فَالْأَحْكَامُ بِحَالِهَا وَالتَّحْرِيمُ ثَابِتٌ. وَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا وَاغْتَسَلَتْ حَلَّ جَمِيعُ ذَلِكَ لَهَا لِارْتِفَاعِ حَيْضِهَا، وَعَوْدِهَا إِلَى حَالِ الطُّهْرِ. فَأَمَّا بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا وَقَبْلَ الْغُسْلِ فَتُقَسَّمُ هَذِهِ التِّسْعَةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يَجُوزُ لَهَا فِعْلُهُ قَبْلَ الْغُسْلِ: وَهُوَ الصَّوْمُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى طَهَارَةٍ فَجَازَ لَهَا الدُّخُولُ فِيهِ قَبْلَهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ لَهَا فِعْلُهُ قَبْلَ الْغُسْلِ وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَالطَّوَافُ، وَمَسُّ الْمُصْحَفِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَفِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَجْهَانِ؛ إِلَّا أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا بِانْقِطَاعِ الدَّمِ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصَلِّيَ إِلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ. فَإِذَا اغْتَسَلَتْ قَضَتْ مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَاةِ بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا وَقَبْلَ الْغُسْلِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فَاغْتَسِلِي وَصَلَّي ".
(فَصْلٌ)
: وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَهُوَ الْوَطْءُ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى بَقَائِهِ عَلَى التَّحْرِيمِ حَتَّى تَغْتَسِلَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنِ انْقَطَعَ انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ وَهُوَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ جَازَ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْغُسْلِ، وَإِنِ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنَ الْعَشَرَةِ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا إِلَّا أَنْ تَغْتَسِلَ أَوْ يَمُرَّ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ولاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) {البقرة: 222) فَجَعَلَ انْقِطَاعَ الدَّمِ غَايَةً. وَالْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا قَالَ: وَلِأَنَّهَا أَمِنَتْ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ فَجَازَ وَطْؤُهَا كَالْمُغْتَسِلَةِ. قَالَ: وَلِأَنَّهَا اسْتَبَاحَتْ فِعْلَ الصَّوْمِ فَجَازَ وَطْؤُهَا كَالْمُتَيَمِّمِ. قَالَ: ولأن حُكْمٌ وَجَبَ بِعِلَّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا، وَعِلَّةُ التَّحْرِيمِ: حُدُوثُ الدَّمِ. فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ إِلَّا وُجُوبُ الْغُسْلِ وَبَقَاءُ الْغُسْلِ لَا يَمْنَعُ من استباحة وطئها كالجنب.
ودليلنا قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) {البقرة: 222) وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي الْآيَةِ قِرَاءَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: بِالتَّخْفِيفِ وَضَمِّ الْهَاءِ. وَمَعْنَاهَا: انْقِطَاعُ الدَّمِ. وَالْأُخْرَى بِالتَّشْدِيدِ وَفَتْحِ الْهَاءِ مَعْنَاهَا الْغُسْلُ. وَاخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فَيُسْتَعْمَلَانِ مَعًا. وَيَكُونُ تَقْدِيرُ ذَلِكَ: فَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهُنَّ وَيَغْتَسِلْنَ.(1/386)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِذاَ تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فَجَعَلَ بَعْدَ الْغَايَةِ شَرْطًا هُوَ الْغُسْلُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَيْهِنَّ وَلَيْسَ انْقِطَاعُ الدَّمِ مِنْ فِعْلِهِنَّ وَإِنَّمَا يَفْعَلْنَ الطَّهَارَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَثْنَى عَلَيْهِنَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) {البقرة: 222) وَالثَّنَاءُ يُسْتَحِقُّ بِالْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ مِنْ جِهَةِ مَنْ تَوَجَّهَ الثَّنَاءُ إِلَيْهِ. فَأَمَّا فِعْلُ غَيْرِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَدْحًا وَلَا ذَمًّا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِغَايَةٍ وَشَرْطٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِوُجُودِ الْغَايَةِ مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا الْنِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) {النساء: 6) فَجَعَلَ بَعْدَ الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ الْبُلُوغُ لِلنِّكَاحِ شَرْطًا هُوَ إِينَاسُ الشَّرْطِ. فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَبْلَ الرُّشْدِ. وَالْمَعْنَى هُوَ أَنَّ كُلَّ مَمْنُوعَةٍ مِنَ الصَّلَاةِ بِحَدَثِ الْحَيْضِ فَوَطْؤُهَا حَرَامٌ. قِيَاسًا عَلَى زَمَانِ الْحَيْضِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا حَرَّمَ الْوَطْءَ وَغَيْرَهُ لَمْ يَحِلَّ الْوَطْءُ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ حَرَّمَهُ مَعَهُ كَالْحَجِّ، وَلِأَنَّ مَحْظُورَاتِ الْحَيْضِ يَسْتَوِي حَالُهَا عِنْدَ ارْتِفَاعِ الْحَيْضِ بَيْنَ انْقِطَاعِهِ لِأَكْثَرِهِ وَأَقَلِّهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى شُرِطَ فِي إِبَاحَتِهِ الطَّهَارَةُ لَمْ يُسْتَبَحْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ كَالصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُغْتَسِلَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا أَمِنَتْ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ فَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْوَصْفِ. لِأَنَّهَا لَوِ اغْتَسَلَتْ قَبْلَ أَنْ أَمِنَتْ مُعَاوَدَةَ الدَّمِ فَلَهُ وَطْؤُهَا. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْمُغْتَسِلَةِ اسْتِبَاحَتُهَا لِلصَّلَاةِ، وَكَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْمُتَيَمِّمَةِ عَلَى أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالَّتِي انْقَطَعَ دَمُهَا لِدُونِ الْعَشَرَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَاسْتَبَاحَتِ الدُّخُولَ فِي الصَّوْمِ وَلَمْ تَسْتَبِحِ الْوَطْءَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْعِلَّةِ وَقْتٌ لِارْتِفَاعِ حُكْمِهَا: فَهُوَ أَنَّ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ خِلَافًا. وَلَوْ سَلِمَ لَهُ ذَلِكَ لَكَانَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يُخْلِفْ تِلْكَ الْعِلَّةَ عِلَّةً أُخْرَى وَقَدْ خَلَفَتْهَا عِلَّةٌ وَهِيَ الْمَنْعُ مِنَ الصَّلَاةِ لَحَدَثِ الْحَيْضِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى بَقَاءِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَالْفَرْقُ فِي الْمَعْنَى يَمْنَعُ صِحَّةَ الْجَمْعِ وَهُوَ أَنَّ الْجَنَابَةَ لَمَّا لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الْوَطْءِ لَمْ يَكُنْ بَقَاءُ الْغُسْلِ عَلَيْهَا مَانِعًا. وَلَمَّا مَنَعَ الْحَيْضُ مِنَ الْوَطْءِ كَانَ بَقَاءُ الْغُسْلِ فِيهِ مَانِعًا.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وَطْأَهَا قَبْلَ الْغُسْلِ حَرَامٌ فَمَتَى كَانْتْ قَادِرَةً عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَعَلَيْهَا اسْتِعْمَالُهُ وَالِاغْتِسَالُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ عَادِمَةً لِلْمَاءِ قَامَ التَّيَمُّمُ فِي اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ مَقَامَ الْغُسْلِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِهِ. فَلَوْ أَحْدَثَتْ بَعْدَ التَّيَمُّمِ مُنِعَتْ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى تَتَيَمَّمَ لِأَنَّ حَدَثَ الْحَيْضِ قَدِ ارْتَفَعَ وَطَرَأَ حَدَثُ غَيْرِهِ فَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْوَطْءِ. وَلَكِنْ لَوْ رَأَتِ الْمَاءَ بَعْدَ التَّيَمُّمِ حَرُمَ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ، لِأَنَّهَا بِوُجُودِ الْمَاءِ قَدْ عَادَتْ إِلَى حَدَثِ الْحَيْضِ الْمَانِعِ مِنْ(1/387)
الْوَطْءِ. فَلَوْ عَدِمَتِ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ حَلَّتْ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ. فَإِذَا تَيَمَّمَتْ فَوَطَأَهَا ثُمَّ أَرَادَ وَطْأَهَا ثَانِيَةً فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ بِالتَّيَمُّمِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَهَا ثَانِيَةً حَتَّى تُعِيدَ التَّيَمُّمَ ثَانِيَةً. كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُصَلِّيَ فَرِيضَةً ثَانِيَةً إِلَّا بِتَيَمُّمٍ ثَانٍ. وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِارْتِفَاعِ حَدَثِ الْحَيْضِ بِالتَّيَمُّمِ الْمُتَقَدِّمِ. فَأَمَّا إِذَا تَيَمَّمَتِ الْحَائِضُ وَدَخَلَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِالتَّيَمُّمِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْوَقْتِ الْمَاضِي أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ: قَدْ بَطُلَ تَيَمُّمُهَا بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي إِلَّا بِاسْتِئْنَافِ تَيَمُّمٍ ثَانٍ. لِأَنَّ التَّيَمُّمَ أَضْعَفُ حَالًا مِنَ الْغُسْلِ فَقَصُرَ حُكْمُهُ عَنْ حُكْمِ الْغُسْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي يَجُوزُ وَطْؤُهَا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ الثَّانِي مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِ تَيَمُّمٍ ثَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ خُرُوجُ الْوَقْتِ بِأَغْلَظَ مِنَ الْحَدَثِ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ طُرُوءُ الْحَدَثِ عَلَى التَّيَمُّمِ فَخُرُوجُ الْوَقْتِ وَدُخُولُ غَيْرِهِ أَوْلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَإِذَا اتَّصَلَ بِالْمَرْأَةِ الدَمُ نَظَرَتْ فَإِنْ كَانَ دَمُهَا ثَخِينًا مُحْتَدِمًا يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ لَهُ رَائِحَةٌ فَتِلْكَ الْحَيْضَةُ نَفْسُهَا فَلْتَدَعِ الصَّلَاةَ فَإِذَا ذهب ذلك الدم وجاءها الدم الأحمر الرقيق الْمُشْرِقُ فَهُوَ عرقٌ وَلَيْسَتِ الْحَيْضَةُ وَهُوَ الطُّهْرُ وعليها أن تغتسل كما وصفت وتصلي ويأتيها زوجها ".
قال الماوردي: اعلم أن للحيض مقدمات ثلاث لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا لِتَكُونَ الْمَسَائِلُ مَبْنِيَّةً عَلَيْهَا.
فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي زَمَانِ الْحَيْضِ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي قَدْرِ الْحَيْضِ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ فِي صِفَةِ الْحَيْضِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا زَمَانُ الْحَيْضِ فَأَقَلُّ زَمَانٍ تَحِيضُ فِيهِ النِّسَاءُ تِسْعُ سِنِينَ وَأَكْثَرُهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ الْحَدُّ فِيهِ مُعْتَبَرًا وَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرْعِ مَحْدُودًا كَانَ الرُّجُوعُ فِي حَدِّهِ إِلَى مَا وُجِدَ مِنَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي جَارِي الْعَادَةِ حُدُوثُ الْحَيْضِ لِأَقَلِّ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ. قَالَ(1/388)
الشَّافِعِيُّ: وَأَعْجَلُ مَنْ سَمِعْتُ مِنَ النِّسَاءِ تَحِيضُ نِسَاءُ تِهَامَةَ يَحِضْنَ لِتِسْعِ سِنِينَ وَقَدْ رَأَيْتُ جدة لها إحدى وعشرين سَنَةً. وَقَدْ يُمْكِنُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ يَكُونَ لها تسعة عَشْرَةَ سَنَةً وَشَيْءٌ غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَخْبَرَنَا بِمَا وَجَدَ لَا بِمَا يُمْكِنُ فَكَانَ أَوَّلُ زَمَانِ الْحَيْضِ بَعْدَ اعْتِبَارِ أَقَلِّ الْعَادَاتِ تِسْعَ سِنِينَ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ التِّسْعُ حَدُّ تَحْقِيقٍ أَوْ حَدُّ تَقْرِيبٍ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَدُّ تَحْقِيقٍ مُتَغَيِّرُ الْحُكْمِ فِيهِ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ وَنُقْصَانِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَدُّ تَقْرِيبٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ نُقْصَانُ الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ. وَهَذَا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْدِيدِ الْقُلَّتَيْنِ.
فَأَمَّا أَكْثَرُ زَمَانِ حَيْضِهِنَّ فَلَمْ يَنْحَصِرْ بِحَدٍّ لِاخْتِلَافِهِ وَتَبَايُنِهِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ لِحَرِّهَا وَبَرْدِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ تِسْعِ سِنِينَ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ لَا يُقَالُ لَهُ حَيْضٌ وَلَا اسْتِحَاضَةٌ لِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى أَثَرِ حَيْضٍ.
وَأَمَّا قَدْرُ الْحَيْضِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ وَمِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ مِنَ الطُّهْرِ خَمْسَةُ فُصُولٍ:
(فَصْلٌ)
: فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ وَالْحِجَاجُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَالثَّالِثُ: فِي أَوْسَطِهِ وَهُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فَهُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ.
وَالرَّابِعُ: فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضَتَيْنِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْوِفَاقُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
وَالْخَامِسُ: فِي أَكْثَرِ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ. فَلَوْ رَأَتِ الدَّمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَانَ دَمَ فَسَادٍ وَلَمْ يَكُنْ حَيْضًا وَلَا اسْتِحَاضَةً. وَلَوْ تَجَاوَزَ خمسة عشر يوماً ففيه حيض واستحاضة.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا صِفَةُ الْحَيْضِ فَدَمُ الْحَيْضِ فِي الغالب أسود ثخين محتدم مريج وَالْمُحْتَدِمُ: هُوَ الْحَارُّ الْمُحْتَرِقُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ يَوْمٌ مُحْتَدِمٌ إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْحَرِّ سَاكِنَ الرِّيحِ. وَأَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فِي الْغَالِبِ فَهُوَ أَحْمَرُ رَقِيقٌ مُشْرِقٌ وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ دَمُ الْحَيْضِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ إِلَى السَّوَادِ. وَإِمَّا لِمَرَضٍ طَرَأَ أَوْ غِذَاءٍ اخْتَلَفَ أَوْ زَمَانٍ تَقَلَّبَ أَوْ بُلْدَانٍ اخْتَلَفَتْ فَيُعْرَفُ إِذَا تَغَيَّرَ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَعَ السَّلَامَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ دَمِ الْحَيْضِ وَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِي الصِّفَةِ: أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ يَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ الرَّحِمِ وَدَمَ الِاسْتِحَاضَةِ يَسِيلُ مِنَ الْعَادِلِ: وَهُوَ عِرْقٌ يَسِيلُ دَمُهُ فِي أَدْنَى الرَّحِمِ دُونَ قَعْرِهِ حَكَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إِنَّمَا هُوَ عرقٌ.(1/389)
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَمَهَّدَ مَا وَصَفْنَا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْحَيْضِ فَالنِّسَاءُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرَبٍ: طَاهِرٌ، وَحَائِضٌ، وَمُسْتَحَاضَةٌ، وَذَاتُ فَسَادٍ.
فَأَمَّا الطَّاهِرُ فَهِيَ الَّتِي تَرَى النَّقَاءَ وَمَعْنَاهُ أَنْ تَسْتَدْخِلَ الْقُطْنَ فَيَخْرُجُ نَقِيًّا. وَأَمَّا الْحَائِضُ: فَهِيَ الَّتِي تَرَى الدَّمَ فِي زَمَانٍ يَكُونُ حَيْضًا وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ: فَهِيَ الَّتِي تَرَى الدَّمَ فِي أَثَرِ الْحَيْضِ عَلَى صِفَةٍ لَا تَكُونُ حَيْضًا. وَأَمَّا ذَاتُ الْفَسَادِ: فَهِيَ الَّتِي تَبْتَدِئُ بِدَمٍ لَا يَكُونُ حَيْضًا. وَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ فَالطَّاهِرُ مِنْهُنَّ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا حُكْمُ الطُّهْرِ، وَالْحَائِضُ يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْحَيْضِ. وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَيَنْقَسِمُ حَالُهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُمَيِّزَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُعْتَادَةً.
وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ صَاحِبَةَ تَمْيِيزٍ وَعَادَةٍ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا تَمْيِيزٌ وَلَا عَادَةٌ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمُمَيِّزَةُ فَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ وَصُورَتُهَا فِي امْرَأَةٍ تَصِلُ بِهَا الدَّمَ حَتَّى تُجَاوِزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَبَعْضُهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ، وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ رَقِيقٌ، فَهَذِهِ هِيَ الْمُمَيِّزَةُ. فتميز من دمها كَانَ أَسْوَدَ ثَخِينًا فَيَكُونُ حَيْضُهَا وَمَا كَانَ مِنْهُ أَحْمَرَ رَقِيقًا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا اعْتِبَارَ بِالتَّمْيِيزِ وَتُرَدُّ إِلَى عَادَتِهَا اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ الشَّهْرِ " قَالَ: وَلِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يُوجَدُ فَيَكُونُ حَيْضًا وَقَدْ يُوجَدُ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا مَعَ كَوْنِهِ مُتَمَيِّزًا أَوْ أَيَّامَ الْعَادَةِ إِذَا قَارَبَهَا الدَّمُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَيْضًا، وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ " فَرَدَّهَا إِلَى تَمْيِيزِهَا وَاعْتِبَارِ لَوْنِهِ وَرَوَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ لِلْحَائِضِ دَفْعَاتٍ وَلِدَمِ الْحَيْضِ ريحٌ لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُ الْحَيْضِ فَلْتَغْتَسِلْ وَلِأَنَّ الْحَيْضَ مُتَعَلِّقٌ بِدَمٍ وَأَيَّامٍ فَوَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ الدَّمُ عَلَى الْأَيَّامِ كَالْعِدَّةِ تُقَدَّمُ الْأَقْرَاءُ عَلَى الشُّهُورِ. وَلِأَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ إِذَا الْتَبَسَ وَأَمْكَنَ تَمْيِيزُهُ بِصِفَاتِهِ كَانَ التَّمْيِيزُ بِصِفَاتِهِ أَوْلَى كَالْمَنِيِّ وَالْمِذِيِّ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فَهُوَ أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُعْتَادَةِ دُونَ الْمُمَيِّزَةِ. وَحَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ وَارِدٌ فِي الْمُمَيِّزَةِ دُونَ الْمُعْتَادَةِ فَتَسْتَعْمِلُ الْخَبَرَيْنِ فِيمَا وَرَدَا فِيهِ وَلَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَيَّامِ الْعَادَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا حَيْضًا فَكَانَ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ الدَّمِ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ أَيَّامَ الْعَادَةِ قَدْ تُوجَدُ خَالِيَةً مِنَ الدَّمِ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ(1/390)
يَجْعَلَ حُكْمَ الْأَيَّامِ أَقْوَى مِنْ حُكْمِ الدَّمِ وَالدَّمُ قَدْ يَكُونُ حَيْضًا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّمْيِيزَ مُعْتَبَرٌ فَاعْتِبَارُهُ يَكُونُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الدَّمُ مُخْتَلِفًا بَعْضُهُ أَسْوَدُ ثَخِينٌ وَبَعْضُهُ أَحْمَرُ رَقِيقٌ. فَإِنْ كَانَ لَوْنًا وَاحِدًا فَلَا تَمْيِيزَ وَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ فَكُلُّهُ حَيْضٌ إِنْ بَلَغَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلَمْ يَزِدْ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مُبْتَدَأَةً كَانَتْ أَوْ ذَاتَ حَيْضٍ. وَإِنْ نَقَصَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ. وَإِنْ زَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فَتُرَدُّ إِلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَإِنْ كَانَ الدَّمُ أَحْمَرَ رَقِيقًا فَلَهَا حَالَتَانِ: مُبْتَدَأَةٌ، وَذَاتُ حَيْضٍ فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ حَيْضٍ فَهُوَ كَالسَّوَادِ إِذَا انْفَرَدَ يَكُونُ حَيْضًا إِنْ بَلَغَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلَمْ يَتَجَاوَزْ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَاسْتِحَاضَةً إِنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهَا كَذَاتِ الْحَيْضِ فِي أَنَّهُ حَيْضٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مَشْرُوحًا فِي مَوْضِعِهِ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَوَادُ الدَّمِ قَدْرًا يَكُونُ حَيْضًا وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلَا يَتَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ. فَإِنْ قَصُرَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ تَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ فَلَا تَمْيِيزَ وَكَانَ حُكْمُ الْكُلِّ وَاحِدًا فِي كَوْنِهِ دَمَ فَسَادٍ إِنْ نَقُصَ عَنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوِ اسْتِحَاضَةً دَخَلَتْ فِي حَيْضٍ إِنْ تَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَجَاوَزَ الدَّمُ الْأَحْمَرُ خَمْسَةَ عَشَرَ لِيَدْخُلَ الِاسْتِحَاضَةُ فِي الْحَيْضِ فَإِنِ انْقَطَعَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَكِلَا الدَّمَيْنِ سَوَادُهُ وَحُمْرَتُهُ حَيْضٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطَ الثَّلَاثَةَ حُكِمَ لَهَا بِالتَّمْيِيزِ وَلَزِمَهَا اعْتِبَارُهُ فِي حَيْضِهَا فَحِينَئِذٍ لَا يَخْلُو دَمُهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ السَّوَادُ وَتَتَأَخَّرَ الْحُمْرَةُ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَتَقَدَّمَ الْحُمْرَةُ وَيَتَعَقَّبَهَا السَّوَادُ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالْحُمْرَةُ فِي الْوَسَطِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْحُمْرَةُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالسَّوَادُ فِي الْوَسَطِ. فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ السَّوَادُ وَتَتَعَقَّبَهُ الْحُمْرَةُ وَصُورَتُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِيَ الشَّهْرِ دَمًا أَحْمَرَ فَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ السَّوَادُ تَدَعُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ. وَأَيَّامُ الدَّمِ الْأَحْمَرِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ اسْتِحَاضَةٌ يَلْزَمُهَا فِيهِ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ فَاصِلٌ بَيْنَ دَمِ الْحَيْضِ وَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ لَكِنْ إِنْ كَانَ هَذَا الشَّهْرُ أَوَّلَ شُهُورِ اسْتِحَاضَتِهَا لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ بِانْتِقَالِهَا مِنَ السَّوَادِ إِلَى الْحُمْرَةِ لِجَوَازِ انْقِطَاعِهِ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ حَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ حاله. حتى(1/391)
إِذَا تَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا تَتَعَقَّبُ اسْتِحَاضَتَهَا فَقَضَتْ مَا تَرَكَتْ مِنَ الصَّلَاةِ فِيمَا تَقَدَّمَ من الحمرة واستقبلتها فيهما تَعْقُبُ. فَإِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الثَّانِي فَقَدْ ثَبَتَتِ استحاضتها. فتصلي وتصوم حتى ينتقل مِنَ السَّوَادِ إِلَى الْحُمْرَةِ، لِأَنَّهُ لِاعْتِبَارِ حَالِهَا في الشهر الماضي قد صَارَ فِي الْأَغْلَبِ اسْتِحَاضَةً، وَإِنْ جَازَ لِانْقِطَاعِهِ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَنْ يَكُونَ حَيْضًا. وكذلك لَوْ رَأَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ وَبَاقِي الشَّهْرِ دَمًا أَصْفَرَ كَانَ الْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ حَيْضًا تَقُومُ مَقَامَ السَّوَادِ عِنْدَ عُدَّتِهِ وَكَانَ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةً تَقُومُ مَقَامَ الْحُمْرَةِ عِنْدَ تَقَدُّمِهَا. فَلَوْ رَأَتْ فِي ابْتِدَاءِ الشَّهْرِ الثَّانِي عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِي الشَّهْرِ دَمًا أَحْمَرَ كَانَ حَيْضُهَا الْعَشَرَةَ السَّوَادَ، وَإِنْ زَادَ عَلَى حَيْضِهَا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالتَّمْيِيزِ، وَلِكُلِّ حَيْضَةٍ حُكْمٌ، وَهَكَذَا لَوْ رَأَتْ فِي أَوَّلِ الثَّالِثِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَبَاقِي الشَّهْرِ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ كَانَ حَيْضُهَا سَبْعًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَسْتَدِيمَ الْحُمْرَةُ بَعْدَ السَّوَادِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ كُلِّهِ وَبَيْنَ أَنْ تَبْلُغَ قَدْرًا يَزِيدُ مَعَ السَّوَادِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فِي أَنَّهَا تَكُونُ مُسْتَحَاضَةٌ. فَإِنْ لَمْ يَزِدْ فَلَيْسَتْ مُسْتَحَاضَةٌ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فَإِنِ اتَّصَلَ الدَّمُ الْأَحْمَرُ بَعْدَهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا فَصَاعِدًا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً. وَإِنِ انْقَطَعَ الْعَشَرَةَ فَمَا دُونُ كَانَتْ حَائِضًا وَكَانَ الزَّمَانُ حَيْضًا. وَإِنِ اخْتَلَفَا فَلَوْ رَأَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَهُ دَمًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ كَانَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ السَّوَادُ حَيْضًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الصُّفْرَةِ هَلْ تَكُونُ اسْتِحَاضَةً أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ لَا يَكُونُ اسْتِحَاضَةً وَيَكُونُ دَمَ فَسَادٍ وَجُعِلَتِ الِاسْتِحَاضَةُ مَا دَخَلَتْ عَلَى إِثْرِ الْحَيْضِ فَيَ زَمَانٍ ثُمَّ تَجَاوَزَتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وهو قول أبي إسحاق يكون اسْتِحَاضَةً وَسَوَّى بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِيمَا دَخَلَ عَلَى زَمَانِ الْحَيْضِ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْحُمْرَةُ ثُمَّ يتعقبها السَّوَادُ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَنْقُصَ الْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ، وَيَبْلُغُ السَّوَادُ الْمُتَعَقِّبُ قَدْرَ الْحَيْضِ، مِثَالُهُ أَنْ تَرَى الْحُمْرَةَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَتَرَى السَّوَادَ بَعْدَهُ مَا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. فَالْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ دَمُ فَسَادٍ وَالْحَيْضُ مَا بَعْدَهُ مِنَ السَّوَادِ وَلَيْسَ لَهَا اسْتِحَاضَةً وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ التَّمْيِيزَ بِاخْتِلَافِ الدَّمَيْنِ وَكَانَ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا لِدَمِ الْحَيْضِ صَارَ الثَّانِي بِانْفِرَادِهِ حَيْضًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ الْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَدْرَ الْحَيْضِ وَيَنْقُصَ السَّوَادُ الْمُتَعَقِّبُ عَنْ(1/392)
قَدْرِ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى مَا بَيْنَ يوم وليلة إلى خمسة عشر دماً أحمراً وَأَصْفَرَ فَإِنَّ الصُّفْرَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْحُمْرَةِ وَتَرَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَمًا أَسْوَدَ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا لَا يتجاوزان قدر أكثر الحيض مثل ما تَرَى عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَتَرَى أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ فَكِلَا الدَّمَيْنِ يَكُونُ حَيْضًا فِي غَيْرِ الْمُبْتَدَأَةِ وَفِي الْمُبْتَدَأَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَجَاوَزَ جَمِيعًا قَدْرَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ مِثْلَ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ وَتَرَى بَعْدَهُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَمًا أَسْوَدَ. فَحَيْضُهَا مَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّمِ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ إِنْ كَانَتْ ذَاتَ حَيْضٍ غَيْرَ مُبْتَدَأَةٍ وَفِي الْمُبْتَدَأَةِ وَجْهَانِ. وَمَا يَتَعَقَّبُهُ مِنَ الدَّمِ الْأَسْوَدِ اسْتِحَاضَةٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ التَّمْيِيزِ لِمُجَاوَزَةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَنَقْصِ السَّوَادِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَنْقُصَ الْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَيَنْقُصَ السَّوَادُ الْمُتَعَقِّبُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ أَيْضًا. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى أقل من يوم وليلة دماً أحمر أو أصفر وترى أقل من يوم وليلة بعده دماً أسود فهذا وَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَقْسَامِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي شُرُوطِهَا أَنْ يَتَجَاوَزَ دَمُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي أَقْسَامِ الْمُمَيِّزَةِ فَكَذَلِكَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ ذَاتَ حَيْضٍ فَكِلَا الدَّمَيْنِ حَيْضٌ فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَعَلَى الْوَجْهَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ تَبْلُغَ الْحُمْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ قَدْرَ الْحَيْضِ وَيَبْلُغَ السَّوَادُ الْمُتَعَقِّبُ أَيْضًا قَدْرَ الْحَيْضِ فهذا على ضربين:
أحدهما: أن يتجاوزا جَمِيعًا قَدْرَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ ثُمَّ تَرَى بَعْدَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ. فَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَحَيْضُهَا الْعَشَرَةُ السَّوَادُ الْمُتَأَخِّرَةُ دُونَ الصُّفْرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا فِيهِ لِأَنَّ السواد قد وجد بصفة الحيض بخلاف الصفرة وكذا الزمانين عَلَى سَوَاءٍ فِي الْإِمْكَانِ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ حَيْضٍ فَعَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبي العباس وأبي علي أَنَّ حَيْضَهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَشَرَةِ الْحُمْرَةِ أَوِ الصُّفْرَةِ دُونَ مَا تَعَقُّبٍ مِنَ الْعَشَرَةِ السَّوَادِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لِأَنَّ الِاسْتِحَاضَةَ تَدْخُلُ عَلَى الْحَيْضِ وَالْحَيْضُ لَا يَدْخُلُ عَلَى الِاسْتِحَاضَةِ فَلَمَّا كَانَتِ الْعَشَرَةُ الْأَيَّامِ الصُّفْرَةُ أَوِ الْحُمْرَةُ لَوِ انْفَرَدَتْ كَانَتْ حَيْضًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا دَخَلَ عَلَيْهَا مِنَ السَّوَادِ اسْتِحَاضَةً لِتَمَيُّزِ الدمين وامتناع كونهما حيضاً.
والوجه الثاني: وهو قول أبي العباس وَجُمْهُورِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ حَيْضَهَا مَا تَأَخَّرَ مِنْ(1/393)
عَشَرَةِ السَّوَادِ دُونَ مَا تَقَدُّمٍ مِنْ عَشَرَةِ الصُّفْرَةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِصِفَةِ الْحَيْضِ مَعَ تَسَاوِي الزَّمَانَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُوجَدَ صِفَةُ الْحَيْضِ فِي دَمٍ مُمْكِنٍ فَيُجْعَلُ الْحَيْضُ فِيمَا سِوَاهُ وَلِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْحَيْضِ أَنْ يَبْدُوَ قَوِيًّا أَسْوَدَ ثُمَّ يَرِقُّ وَيَصْفُو وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَبْدُوَ رَقِيقًا صَافِيًا ثُمَّ يَقْوَى وَيَسْوَدُّ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْحَيْضَةَ تَبْدُو فَتَكُونُ دَمًا خَاثِرًا ثُمَّ يَرِقُّ الدَّمُ وَيَصْفُو ثُمَّ يَكُونُ صُفْرَةً فَإِذَا رَأَتِ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ فَهُوَ الطُّهْرُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ الزَّمَانُ قَدْرَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ ثُمَّ تَرَى بَعْدَهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فَمَنْ جَعَلَ الصفرة هناك حيضاً جعل كلا الزمانين ها هنا حَيْضًا وَمَنْ جَعَلَ السَّوَادَ هُنَاكَ حَيْضًا جَعَلَ السواد الخمسة ها هنا حَيْضًا فَهَذَا حُكْمُ الْمُمَيِّزَةِ إِذَا رَأَتْ صُفْرَةَ الدَّمِ وَحُمْرَتَهُ مِثْلَ سَوَادِهِ وَهُوَ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِهَا.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالْحُمْرَةُ أَوِ الصُّفْرَةُ فِي الْوَسَطِ فَهَذَا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أن يبلغ كل واحد من الدماء الثلاثة قَدْرًا يَكُونُ حَيْضًا وَلَا يَتَجَاوَزُ جَمِيعُهُ قَدْرَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ. فَفِي الصُّفْرَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ الدَّمَيْنِ الْأَسْوَدَيْنِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيْضٌ وهو قول أبي العباس.
والثاني: استحاضة في حُكْمِ الطُّهْرَيْنِ الدَّمَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنَ التَّلْفِيقِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ فِي حُكْمِ الْحَيْضِ.
وَالثَّانِي: فِي حُكْمِ الطُّهْرِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُبْتَدَأَةُ وَذَاتُ الْحَيْضِ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَةَ بِمَا تُقَدِّمُ مِنَ السَّوَادِ قَدْ صَارَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أن يبلغ كل واحد من الدماء الثلاثة قَدْرًا يَكُونُ حَيْضًا وَيَتَجَاوَزُ جَمِيعُهُ قَدْرَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ: أَنْ تَرَى سَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ حَيْضُهَا السَّبْعُ السَّوَادُ وَالسَّبْعُ الصُّفْرَةُ وَمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ السَّوَادِ اسْتِحَاضَةٌ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ حَيْضُهَا السَّبْعَةَ السَّوَادَ الْأُولَى وَالسَّبْعَةَ السَّوَادَ الْأَخِيرَةَ وَتَكُونُ السَّبْعَةُ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةً. وَلَا يَكُونُ عَلَى قَوْلَيِ التَّلْفِيقِ لِمُجَاوَزَةِ قَدْرِ الْحَيْضِ فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ كَانَ حَيْضُهَا الثَّمَانِيَةُ السَّوَادُ الْأُولَى وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الدَّمَيْنِ اسْتِحَاضَةً عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا لِأَنَّكَ إِذَا ضَمَمْتَ إِلَى السَّوَادِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا مِنَ الدَّمَيْنِ تَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَلَمْ يُضَمَّ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَلَا يَبْلُغُ(1/394)
جَمِيعُهَا قَدْرَ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى سَاعَةً دَمًا أَسْوَدَ وَسَاعَةً دَمًا أَصْفَرَ وَسَاعَةً دَمًا أَسْوَدَ فَهَذَا كُلُّهُ دَمُ فَسَادٍ وَذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُمَيِّزَةِ؛ لِأَنَّ مُقَابَلَةَ التَّقْسِيمِ فِي هَذَا الْفَصْلِ اقْتَضَاهُ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ لَكِنْ يَبْلُغُ جَمِيعُهَا قَدْرَ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ: أَنْ تَرَى يَوْمًا وَلَيْلَةً دَمًا أَسْوَدَ وَثَلَاثَةً أَصْفَرَ وَثَلَاثَةً أَسْوَدَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ حَيْضًا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَكُونُ حَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَخْرِجُ الصُّفْرَةَ فَيَكُونُ بَاقِي السَّوَادِ ثُلُثَيْ يَوْمٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا. فَلَوْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ حيضاً يوماً ونصف وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ لَا يَكُونُ حَيْضًا يَوْمًا وَنِصْفًا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ حَيْضُهَا يَوْمًا وَاحِدًا وَالنِّصْفُ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةٌ بَيْنَ دَمَيْ حَيْضٍ كَطُهْرِ التَّلْفِيقِ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّوَادَيْنِ قَدْرَ الْحَيْضِ وَتَنْقُصُ الصُّفْرَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ وَهِيَ الدِّمَاءُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ زَمَانَ السَّوَادَيْنِ وَنِصْفُ يَوْمِ الصُّفْرَةِ طُهْرٌ بَيْنَهُمَا. فَيَكُونُ عَلَى قَوْلِ التَّلْفِيقِ فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ السَّبْعَةِ اسْتِحَاضَةٌ لِمُجَاوَزَتِهِ أَكْثَرَ الْحَيْضِ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ السَّوَادَانِ دُونَ الصُّفْرَةِ.
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّوَادَيْنِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ فَتَبْلُغُ الصُّفْرَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ قَدْرَ الْحَيْضِ.
مِثَالُهُ: أَنْ تَرَى نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ وَهِيَ أَيَّامُ الدَّمِ كُلِّهِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا النِّصْفَانِ السَّوَادَانِ إِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمَا مَعَ الْيَوْمِ لَيْلَةٌ وَالْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ اسْتِحَاضَةٌ بَيْنَ دَمَيْ حَيْضٍ فَيَكُونُ كَطُهْرِ التَّلْفِيقِ وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إِلَى يَوْمِ السَّوَادَيْنِ لَيْلَةٌ صَارَ السَّوَادُ تَبَعًا لِلصُّفْرَةِ فَتَصِيرُ السِّتَّةُ كُلُّهَا وَهِيَ أَيَّامُ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ حَيْضًا فِي ذَاتِ الْحَيْضِ وَفِي الْمُبْتَدَأَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
وَالْقِسْمُ السَّابِعُ: أَنْ يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّوَادِ الْأَوَّلِ وَالصُّفْرَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ قَدْرَ الحيض(1/395)
وَيَنْقُصُ السَّوَادِ الْآخَرِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ فَكُلُّ ذَلِكَ حَيْضٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ. أَمَّا أَبُو الْعَبَّاسِ فَعَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الصُّفْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ وَإِنْ تَعَقَّبَهَا سَوَادٌ. وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَلِأَنَّ الصُّفْرَةَ لَمْ يَتَعَقَّبْهَا مِنَ السَّوَادِ قَدْرٌ يَكُونُ حَيْضًا فَصَارَتْ تَبَعًا وَكَانَ الْكُلُّ حَيْضًا فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ يَكُونُ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا الثَّمَانِيَةُ السَّوَادُ وَالسَّبْعَةُ الصُّفْرَةُ وَيَكُونُ النِّصْفُ يَوْمٍ السَّوَادُ دَمَ فَسَادٍ لِمُجَاوَزَةِ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَتَمَيُّزِهِ عَمَّا قَبْلُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ يَكُونُ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ وَهُوَ زَمَانُ الدَّمَيْنِ الْأَسْوَدَيْنِ وَالسَّبْعَةُ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةٌ مَحْضَةٌ فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ زَمَانَيِ السَّوَادِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ وَالثَّمَانِيَةُ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةٌ مَحْضَةٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يَنْقُصُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّوَادِ الْأَوَّلِ وَالصُّفْرَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَيَبْلُغُ السَّوَادُ الْأَخِيرُ قَدْرَ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ زمان الدماء الثلاثة وعلى قول أبي إسحاق حَيْضُهَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ وَهِيَ السَّوَادُ الْأَخِيرُ وَلَا يَكُونُ السَّوَادُ الْأَوَّلُ حَيْضًا لِمَا تَعَقَّبَهُ مِنَ الصُّفْرَةِ. فَلَوْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا أَسْوَدَ: فَحَيْضُهَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا الْخَمْسَةَ عَشَرَ السَّوَادُ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِلَى التَّمْيِيزِ مَعَ تَجَاوُزِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ مَا لَوِ انْفَرَدَ كَانَ حَيْضًا، فَهَذَا مَا فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّمَانِيَةِ.
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الصُّفْرَةُ فِي الطَّرَفَيْنِ وَالسَّوَادُ فِي الْوَسَطِ فَهَذَا عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُبْلَغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ قَدْرَ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَيَّامَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ الْخَمْسَةُ السَّوَادُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْخَمْسَةِ الصُّفْرَةِ فَلَا تَكُونُ الْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ حَيْضًا فَلَوْ رَأَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ كَانَ حَيْضُهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا السِّتَّةَ الصُّفْرَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ وَالسِّتَّةَ السَّوَادَ الْمُتَوَسِّطَةَ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ السِّتَّةِ الصُّفْرَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ اسْتِحَاضَةٌ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ السَّوَادُ الْمُتَوَسِّطَةُ وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الصُّفْرَتَيْنِ اسْتِحَاضَةٌ. فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا(1/396)
أَصْفَرَ فَحَيْضُهَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا الثَّمَانِيَةُ السَّوَادُ وَلَا تُضَمُّ إِلَيْهَا وَاحِدٌ مِنَ الصُّفْرَتَيْنِ لِأَنَّهُ يصبر مُجَاوِزًا لِأَكْثَرِ الْحَيْضِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى ثُلُثَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَثُلُثَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ فَيَكُونُ كُلُّهُ دَمَ فَسَادٍ وَجَمِيعُهُ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَلَوْ رَأَتْ نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا يَوْمٌ وَنِصْفُ زمان الدماء الثلاثة وعلى قول أبي إسحاق حَيْضُهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَهُوَ النِّصْفُ السَّوَادُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ النِّصْفِ الصُّفْرَةِ وَلَا تَكُونُ الصُّفْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ حَيْضًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصُّفْرَتَينِ قَدْرَ الْحَيْضِ وَيَنْقُصُ السَّوَادُ الْمُتَوَسِّطُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ زَمَانُ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهَكَذَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ أَيْضًا لِأَنَّ السَّوَادَ الْمُتَوَسِّطَ لَا يَكُونُ انْفِرَادُهُ حَيْضًا فَصَارَ تَبَعًا لِلصُّفْرَتَيْنِ. فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ. فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفٌ الْأَوَّلُ وَالسَّوَادُ الْمُتَوَسِّطُ وَتَكُونُ الصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ اسْتِحَاضَةٌ تَمَيَّزَتْ عَنِ الْأَوَّلِ بِمَا تَوَسَّطَهَا مِنَ السَّوَادِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ تَكُونُ مُسْتَحَاضَةً لَا تَمْيِيزَ لَهَا لِأَنَّ السَّوَادَ بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ حَيْضًا لِنَقْصِهِ وَالصُّفْرَتَانِ تَزِيدُ عَنْ قَدْرِهِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصُّفْرَتَيْنِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَيَبْلُغُ السَّوَادُ الْمُتَوَسِّطُ قَدْرَ الْحَيْضِ - مِثَالُهُ أَنْ تَرَى نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ زَمَانَ الدِّمَاءِ الثَّلَاثَةِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حَيْضُهَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفُ السَّوَادِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الصُّفْرَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ.
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصُّفْرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالسَّوَادِ الْمُتَوَسِّطِ قَدْرَ الْحَيْضِ وَتَنْقُصُ الصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَنِصْفُ السَّوَادِ الْمُتَوَسِّطِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الصُّفْرَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ حَيْضُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا الصُّفْرَةُ الثَّمَانِيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ السَّبْعَةِ السَّوَادِ وَالصُّفْرَةُ الْأَخِيرَةُ دَمُ فَسَادٍ لِمُجَاوَزَتِهَا أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ حيضها سبعة أَيَّامٍ وَنِصْفٌ وَهِيَ السَّوَادُ الْمُتَوَسِّطُ وَالصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ فَلَوْ رَأَتْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ فَحَيْضُهَا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَهِيَ السَّوَادُ الْمُتَوَسِّطُ وَالصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ اسْتِحَاضَةٌ فَأَمَّا الصُّفْرَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ تَكُونُ دَمَ فساد لأنه لا يجعل الِاسْتِحَاضَةَ إِلَّا مَا كَانَتْ عَلَى(1/397)
أَثَرِ حَيْضٍ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ الصُّفْرَةُ الأولة اسْتِحَاضَةٌ أَيْضًا كَالصُّفْرَةِ الثَّانِيَةِ وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَى الْحَيْضِ كَمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنِ الْحَيْضِ.
وَالْقِسْمُ السَّادِسُ: أَنْ يَنْقُصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصُّفْرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالسَّوَادِ الْمُتَوَسِّطِ عَنْ قَدْرِ الْحَيْضِ وَتَبْلُغُ الصُّفْرَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ قَدْرَ الْحَيْضِ. مِثَالُهُ أَنْ تَرَى نِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَصْفَرَ وَنِصْفَ يَوْمٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ كُلُّ ذَلِكَ حَيْضٌ وَهُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ تَكُونُ جَمِيعُهَا كَالصُّفْرَةِ الْمَحْضَةِ لِأَنَّ السَّوَادَ الْمُتَوَسِّطَ بِنُقْصَانِهِ عَنِ الْحَيْضِ يَكُونُ تَبَعًا فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ حَيْضٍ كَانَتِ السِّتَّةُ كُلُّهَا حَيْضًا - وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً فَدَمُ فَسَادٍ - فَهَذَا حُكْمُ الْمُمَيِّزَةِ عَلَى مَا انْقَسَمَتْ إِلَيْهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَسْتَظْهِرَ بِثَلَاثَةِ أيامٍ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " فإذا ذهب قدرها - يريد الحيضة - فاغسلي الدم عنك وصلي " ولا يقول لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا ذهب قدرها إلا وهي به عارفةٌ (قال) وإن لم ينفصل دمها بما وصفت ثم فَتَعْرِفُهُ وَكَانَ مُشْتَبِهًا نَظَرَتْ إِلَى مَا كَانَ عليه حيضتها فيما مضى من دهرها فتركت الصلاة للوقت الذي كانت تحيض فيه لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها ما أصابها فلتدع الصلاة فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بثوبٍ ثم تصلي ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اسْتُحِيضَتِ الْمُعْتَادَةُ رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِظْهَارٍ بِزِيَادَةٍ وَهَكَذَا الْمُمَيِّزَةُ - وَقَالَ مَالِكٌ: تَسْتَظْهِرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَوْقَ عَادَتِهَا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ عَادَتُهَا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يوماً استظهرت بيومين تمام الخمسة عشر يوماً وإن كانت أربعة عَشَرَ يَوْمًا اسْتَظْهَرَتْ بِيَوْمٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رَوَاهُ جابر بن عبد الله بن حزام الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَسْتَظْهِرَ بِثَلَاثَةِ أيامٍ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى) {البقرة: 238) فَكَانَ أَمْرُهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا يُوجِبُ الِاسْتِظْهَارَ لِفِعْلِهَا وَيَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِظْهَارِ مِنْ تَرْكِهَا وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ " لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ " كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِهَا مِنَ الشَّهْرِ ثُمَّ قَالَ: " فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ ثُمَّ لِتُصَلِّي " فَكَانَ أَمْرُهُ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَيَّامِ الْعَادَةِ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِظْهَارِ بشيء بعد - وما روى الشافعي عن عمرو بن أبي سلمة عن الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ " اسْتُحِيضَتْ أمُّ(1/398)
حَبِيبَةَ بِنْتُ جحشٍ وَهِيَ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عوفٍ سَبْعَ سِنِينَ فَاشْتَكَتْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لَهَا: " هَذِهِ لَيْسَتْ بحيضةٍ وَلَكِنَّ هَذَا عرقٌ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي " فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الِاسْتِظْهَارِ بِزِيَادَةٍ فَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ إِنْ صَحَّ فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِظْهَارِ لِلصَّلَاةِ فِيمَنْ شَكَّتْ فِي عَادَتِهَا ثَلَاثٌ هِيَ أَمْ أَرْبَعٌ فَأَمَرَهَا أَنْ تَسْتَظْهِرَ بِالرُّجُوعِ إِلَى ثَلَاثٍ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِتَأْتَلِفَ الْأَخْبَارُ وَلَا تختلف والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " (قَالَ) وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حيضٌ ثم إذا ذهب ذلك اغتسلت وصلت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَقَالَ أبو يوسف ومحمد: الْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ حَيْضٌ، فَأَمَّا الْكُدْرَةُ فَلَيْسَتْ حَيْضًا إِلَّا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا سَوَادٌ، وَهَذَا خَطَأٌ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ حَيْضٌ تَقَدَّمَهُ سَوَادٌ أَمْ لَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " كُنَّا نُعِدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ ألْحَيْضِ حَيْضًا " وَلِأَنَّ كُلَّمَا كَانَ حَيْضًا عِنْدَ تَقَدُّمِ غَيْرِهِ كَانَ حَيْضًا، وَإِنِ انْصَرَفَ عَنْ غَيْرِهِ كَالصُّفْرَةِ وَالْحُمْرَةِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ " أَيَّامُ الْحَيْضِ حَيْضٌ " فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَعْنِي: فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ، فَإِنْ تَجَاوَزَتْ أَيَّامَ الْعَادَةِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي قَدِيمِ أَمْرِهِ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَيْضًا وَهِيَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِنْ تَجَاوَزَتْ أَيَّامَ العادة ورجع إلى هذا القول أبو العباس فِي آخِرِ أَيَّامِهِ، وَقَالَ: كُنْتُ أَذْهَبُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ حَتَّى وَجَدْتُ لِلشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْعَدَدِ أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهَا أَيَّامٌ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَجَعَلَ حُكْمَ الْمُبْتَدَأَةِ، وَذَاتِ الْحَيْضِ سَوَاءً، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ لَوْلَا مَا وَجَدْنَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ؛ وَاسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ حَيْضًا فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ دُونَ مَا جَاوَزَهَا مِنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِرِوَايَةِ أُمِّ الْهُذَيْلِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ. - وَكَانَتْ بَايَعَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَتْ: كُنَا لَا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا يَعْنِي بَعْدَ أَيَّامِ الْعَادَةِ، قَالَ: وَلِأَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ ثَبَتَ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ.(1/399)
أما وجود شاهد فيه وصفة محلة وهو السواد أو مصادمة أيام العادة، فلما تجاوزت أيام الصفة بتغيره إلى الصفرة والكدرة، وتجاوزت أَيَّامَ الْعَادَةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، لِفَقْدِ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَيْهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمٍ فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ بِرِوَايَةِ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُرْسِلْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدَّرَجَةِ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الصُّفْرَةِ، فَتَقُولُ لَهُنَّ: لَا تُصَلِّينَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ، فَدَلَّ إِطْلَاقُهَا عَلَى اسْتِوَاءِ الحكم في الحالين، ولأن التمييز وَالْعَادَةِ مَعْنَيَانِ يُعْتَبَرُ بِهِمَا الْحَيْضُ عِنْدَ إِشْكَالِهِ وَمُجَاوَزَةِ أَيَّامِهِ، ثُمَّ كَانَتِ الْعَادَةُ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْحَيْضِ إِذَا لَمْ تُجَاوِزْ أَكْثَرَ أَيَّامِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِيهِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ أَكْثَرَ أَيَّامِهِ، وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ هُوَ الثَّخِينُ الْأَبْيَضُ وَقَدْ يَتَغَيَّرُ إِلَى الصُّفْرَةِ وَالرِّقَّةِ لِعِلَّةٍ تَحْدُثُ، ثُمَّ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلَافِ لَوْنِهِ؛ كَذَلِكَ مَا يُرْخِيهِ الرحمن مِنَ الدَّمِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي أَيَّامِهِ بِاخْتِلَافِ لَوْنِهِ فَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فَوَارِدٌ فِيمَا وُجِدَ فِي الطُّهْرِ، وَالطُّهْرُ مَا تَجَاوَزَ أَيَّامَ الْحَيْضِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَيْضِ بِمَعْنَيَيْنِ فَيُقَالُ: وَبِمَعْنَى ثَالِثٍ، وَهُوَ وُجُودُهُ فِي زمان يجوز أن يكون حيضاً.
(فصل)
: فعلى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ تَكُونُ فُرُوعُ هَذَا الْفَصْلِ فَإِذَا كانت عادة امرأة أن ترى من أو لكل شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، وَبَاقِيَ شَهْرِهَا طُهْرًا، فَرَأَتْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ، وَبَاقِيَ الشَّهْرِ طُهْرًا فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّ حَيْضَهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَهُوَ زَمَانُ الدَّمَيْنِ مَعًا لِوُجُودِهِ فِي زَمَانٍ يَجُوزُ أن يكون حيضا، وعلى مذهب أبي سعيد الْإِصْطَخْرِيُّ حَيْضُهَا الْخَمْسَةُ السَّوَادُ وَالْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ اسْتِحَاضَةٌ لمفارقتها أيام العادة.
(فرع)
: فلو بدأت وعادتها الْخَمْسَةَ السَّوَادَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَحْمَرَ، وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ، كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كل ذلك حيضا، وَعَلَى مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ حَيْضُهَا عَشَرَةُ أَيَّامٍ الْخَمْسَةُ السَّوَادُ، وَالْخَمْسَةُ الْحُمْرَةُ، لِأَنَّهُ يَجْعَلُهَا كَالسَّوَادِ بِخِلَافِ الصُّفْرَةِ، وَيَجْعَلُ الْخَمْسَةَ الصُّفْرَةَ اسْتِحَاضَةٌ لِمُفَارَقَتِهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ.
(فَرْعٌ)
: فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا الْخَمْسَةُ السَّوَادُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَبَاقِيهِ طُهْرًا، فَرَأَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرًا ثُمَّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ، كَانَتِ الْخَمْسَةُ الصُّفْرَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حَيْضًا؛ لِوُجُودِهَا فِي زَمَانٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حيضاً؛ على مَذْهَبِ أَبِي سَعِيدٍ اسْتِحَاضَةٌ لِمُفَارَقَتِهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ.
(فَرْعٌ)
: فَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَسْوَدَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَرَأَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِهِ دَمًا(1/400)
أَسْوَدَ ثُمَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ دَمًا أَصْفَرَ كَانَ جَمِيعُ الدَّمَيْنِ حَيْضًا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَيَجْعَلُ حَيْضَهَا مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَيُفَرِّقُ حُكْمَ الصُّفْرَةِ فَيَجْعَلُ خَمْسَةً مِنْهَا حَيْضًا لِوُجُودِهَا فِي أَيَّامِ الْعَادَةِ وَخَمْسَةً اسْتِحَاضَةً لِمُفَارَقَتِهَا أَيَّامَ الْعَادَةِ.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن لم ينفصل دمها بما وَصَفْتُ لَكَ فَتَعْرِفُهُ وَكَانَ مُشْتَبِهًا نَظَرَتْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَيْضُهَا فِيمَا مَضَى مِنْ دَهْرِهَا فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ لِلْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ تَحِيضُ فيه، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الِاسْتِحَاضَةِ وَهِيَ الْمُعْتَادَةُ.
وَصُورَتُهَا: فِي امْرَأَةٍ اسْتَمَرَّ بها الدم حتى يجاوز خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكُلُّهُ لَوْنٌ وَاحِدٌ، لَا يتميز بعضه عن بعض ولها عادة سالفة فِي حَيْضِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ إِلَى عَادَتِهَا السالفة، وَقَالَ مَالِكٌ لَا اعْتِبَارَ بِالْعَادَةِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهَا: " إِذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا هُوَ عرقٌ " فَرَدَّهَا إِلَى التَّمْيِيزِ وَلَمْ تُعْتَبَرِ الْعَادَةُ قَالَ: وَلِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْعَادَةِ فَيَكُونُ حَيْضًا، وَتُوجَدُ أَيَّامَ الْعَادَةِ بِغَيْرِ دَمٍ، فَلَا يَكُونُ حَيْضًا، فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَادَةِ تَأْثِيرٌ.
وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر مثل أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الصَّلَاةَ، قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَادَةِ وَرَوَى أَبُو الْيَقْظَانِ عَنْ عَدَيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أقْرَائِهَا ثُمَ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي حَتَّى أَيَّامَ حَيْضِهَا " وَرَوَى العلا بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ سَوْدَةَ اسْتُحِيضَتْ فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا مَضَتْ أَيَّامُهَا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ.
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَادَةِ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَعَلَّقُ بِدَمٍ وَأَيَّامٍ فَجَازَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْأَيَّامِ عِنْدَ إِعْوَازِ الدَّمِ كَالْعِدَّةِ تَنْتَقِلُ عَنِ الْأَقْرَاءِ إِلَى الشُّهُورِ.(1/401)