وهذا خطأ لان في قسمته الاجبار لا يعتبر الرضى في الابتداء، وههنا يعتبر فاعتبر بعد القرعة.
(فصل)
إذا تقاسما أرضا ثم ادعى أحدهما غلطا، فإن كان في قسمة اجبار لم يقبل قوله من غير بينة، لان القاسم كالحاكم فلم تقبل دعوى الغلط عليه من غير بينة كالحاكم، فإن أقام البينة على الغلط نقضت القسمة، وان كان في قسمة اختيار نظرت فإن تقاسما بأنفسهما من غير قاسم لم يقبل قوله لانه رضى بأخذ حقه ناقصا، وان أقام بينة لم تقبل لجواز أن يكون قد رضى دون حقه ناقصا
وان قسم بينهما قاسم نصباه، فإن قلنا انه يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة لم تقبل دعواه لانه رضى بأخذ الحق ناقصا، وان قلنا انه لا يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة فهو كقسمة الاجبار فلا يقبل قوله الا ببينة، فإن كان في القسمة رد لم يقبل قوله على المذهب، وعلى قول أبى سعيد الاصطخرى هو كقسمة الاجبار فلم يقبل قوله الا ببينة.
(فصل)
وان تنازع الشريكان بعد القسمة في بيت في دار اقتسماها فادعى كل واحد منهما أنه في سهمه ولم يكن له بينة تحالفا ونقضت القسمة كما قلنا في المتبايعين، وأن وجد أحدهما بما صار إليه عينا فله الفسخ كما قلنا في البيع
(فصل)
إذا اقتسما أرضا ثم استحق مما صار لاحدهما شئ بعينه نظرت فإن استحق مثله من نصيب الاخر أمضيت القسمة، وان لم يستحق من حصة الاخر مثله بطلت القسمة، لان لمن استحق ذلك من حصته أن يرجع في سهم شريكه، وإذا استحق ذلك عادت الاشاعة، وإذا استحق جزء مشاع بطلت القسمة في المتسحق، وهل تبطل في الباقي فيه وجهان.
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يبنى على تفريق الصفقة فإن قلنا ان الصفقة لا تفرق بطلت القسمة في الجميع، وان قلنا انها تفرق صحت في الباقي.
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أن القسمة تبطل في الباقي قولا واحدا،(20/179)
لان القصد من القسمة تمييز الحقين ولم يحصل ذلك لان المستحق صار شريكا لكل واحد منهما فبطلت القسمة.
(فصل)
إذا قسم أو ارثان التركة ثم ظهر دين على الميت فإنه يبنى على بيع التركة قبل قضاء الدين، وفيه وجهان ذكرناهما في التفليس، فإن قلنا إن القسمة
تمييز الحقين لم تنقض القسمة، وإن قلنا إنها بيع ففى نقضها وجهان والله أعلم (الشرح) قسم غنائم بدر بشعب..سبق تخريجه في باب الغنائم.
وروى البخاري ومسلم من حديث جابر ومن حديث ابن مسعود وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم بين المسلمين.
حديث (قسم غنائم خيبر ... ) سبق تخريجه في باب الغنائم حديث (قسم غنائم حنين ... ) سبق تخريجه في باب الغنائم أثر (أن عليا رضى الله عنه أعطى القاسم ... ) لم أجده حديث (لا ضرر ولا ضرار) أخرجه ابن ماجه والدارقطني من حديث أبى سعيد، وكذلك رواه مالك مرسلا وحسنه النووي في الاربعين النووية حديث (نهى عن إضاعة المال) أخرج البخاري ومسلم عن المغير بن شعبة (إن الله حرم عليكم عقوق الامهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) اللغة قوله (فارزقوهم منه) أي اعطوهم، والرزق العطاء، ورزق الجند عطاؤهم، وقولوا لهم قولا معروفا.
قال في التفسير قولا جميلا للاعتذار قوله (وإن كان في القسمة رد) الرد ما يرده أحد الشريكين إلى صاحبه إذا لم يتعادل الجزءان فيرد صاحب الجزء الكثير على صاحب القليل، من رده إذا رجعه إليه.
قوله (فرز النصببين) الفرز مصدر فرزت الشئ أفرزه فرزا إذا عزلته عن غيره وميزته، والقطعة منه فرزة بالكسر، وكذلك أفرزته بالهمز وكذلك التمييز مثله، لا ضرر ولا إضرار، وقد ذكر قوله (صاحب الطلق) بكسر الطاء هو ضد الوقف، سمى طلقا لان مالكه(20/180)
مطلق التصرف فيه والوقف غير مطلق التصرف بل هو ممنوع من بيعه وهبته، والمطلق أيضا الحلال.
قوله (أراض) قال أهل النحو لا يجوز جمع أرض على أراض والصواب أرضون بفتح الراء لان أفاعل جمع أفعل كأحمر وأحامر وأفكل وأفاكل، ولا يجمع فعل على أفاعل بل يجمع على أرضين وأراض في القليل وأروض أيضا، وقال الجوهرى: أراض جمع وآراض جمع الجمع قوله (يسقى بالسيح) هو الماء الجارى على وجه الارض، وقد ذكر في الزكاة، والناضح البعير الذى يستقى عليه، والانثى ناضحة وسانية، والناضح الذى ينضح على البعير أي يسوق السانية ويسقى بخلاف غيره.
قوله (وإن كان بينهما عضائد) أراد دكاكين متلاصقة متوالية البناء، قال الجوهرى: أعضاء كل شئ ما يسند حوله من البناء وغيره كأعضاد الحوض، وهى حجارة تنصب حول شفيره، ولعلها سميت عضائد من هذا البناء، ويقال عضد من نخل إذا كانت منعطفة متساوية، والعرصة هي ساحة فارغة لا بناء فيها بين الدور، والجمع العراص والعرصات، والحائط معروف وهو الجدار، سمى حائطا لانه يحيط بما دونه.
قوله (فأراد قسمتها مهايأة) المهايأة أصلها الاصلاح، وهيأت الشئ أصلحته وهى مفاعلة من ذلك، فإذا تصالحا على هذه القسمة قيل تهايأ مهايأة، والاكساب المبادرة التى تشذ ويعدم وجودها في كل حين.
قوله (جزء مشاع) من أشعت الخبر أي أذعته فهو شائع في الناس لا يعلمه واحد دون واحد، كذلك الشئ المشاع بين الشركاء لا يختص به واحد دون واحد قوله (التركة) ذكرنا أن التركة ما يتركه الميت تراثا فعلة من الترك والنظر في هذا الكتاب في:
1 - القاسم 2 - المقسوم عليه 3 - القسمة والقسمة تنقسم أولا إلى قسمين (1) قسمة رقاب الاموال (2) منافع الرقاب(20/181)
فأما قسمة الرقاب التى لا تكال ولا توزن فتقسم بالجملة إلى ثلاثة أقسام: 1 - قسمة قرعة بعد تقويم وتعديل 2 - قسمة مراضاة بعد تقويم وتعديل 3 - قسمة مراضاة بغير تقويم ولا تعديل وأما ما يكال أو يوزن فبالكيل والوزن.
وأما الرقاب فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ما لا ينقل ولا يحول وهى الرباع والاصول، وما ينقل ويحول، وهذا قسمان، إما غير مكيل ولا موزون وهو الحيوان والعروض، وإما مكيل أو موزون، ففى هذا الباب ثلاثة فصول: الاول في الرباع والاصول، والثانى في العروض، والثالث في المكيل والموزون.
الرباع والاصول فيجوز أن تقسم بالتراضى وبالسهمة إذا عدلت بالقيمة، اتفق أهل العلم على ذلك اتفاقا مجملا.
وإن كانوا اختلفوا في محل ذلك وشروطه، والقسمة لا تخلو أن تكون في محل واحد أو في محال كثيرة، فإذا كانت في محل واحد فلا خلاف في جوازها إذا انقسمت إلى أجزاء متساوية بالصفة ولم تنقص منفعة الاجزاء بالانقسام ويجبر الشركاء على ذلك، وأما إذا انقسمت إلى ما لا منفعة فيه، فاختلف في ذلك مالك وأصحابه، فقال مالك أنها تقسم بينهم إذا دعى أحدهم لذلك، ولو لم يصر لواحد منهم الا مالا منفعة فيه، مثل قدر القدم، وبه قال ابن كنانة من أصحابه فقط، وهو قول أبى حنيفة والشافعي.
وقال ابن القاسم لا يقسم إلا أن يصير لكل واحد في حظه ما ينتفع به من غير مضرة داخلة عليه في الانتفاع من قبل القسمة، وان كان لا يراعى في ذلك
نقصان الثمن.
وقال ابن الماجشون يقسم إذا صار لكل واحد منهم ما ينتفع به، وان كان من غير جنس المنفعة التى كانت في الاشتراك أو كانت أقل، وقال مطرف من أصحابه: إن لم يصر في حظ كل واحد ما ينتفع به لم يقسم، وان صار في حظ بعضهم ما ينتفع به وفى حظ بعضهم مالا ينتفع به قسم وجبروا على ذلك، سواه(20/182)
دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل أو الكثير، وقيل يجبر إن دعا صاحب النصيب القليل، ولا يجبر ان دعا صاحب النصيب الكثير، وقيل بعكس هذا وهو ضعيف.
واختلفوا من هذا الباب فيما إذا قسم انتقلت منفعته إلى منفعة أخرى مثل الحمام، فقال مالك يقسم إذا طلب ذلك أحد الشريكين، وبه قال أشهب.
وقال ابن القاسم لا يقسم، وهو قول الشافعي، فعمدة من منع القسمة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار) .
وقوله (لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم) والتعضية التفرقة وعمدة من رأى القسمة قوله تعالى (مما قل أو كثر نصيبا مفروضا) .
أما إذا كانت الرباع أكثر من واحد فإنها لا تخلو أيضا أن تكون من نوع واحد ومختلفة الانواع، فإذا كانت متفقة الانواع فإن فقهاء الامصار في ذلك مختلفون، فقال مالك إذا كانت متفقة الانواع قسمت بالتقويم والتعديل والسهمة.
وقال أبو حنيفة والشافعي: بل يقسم كل عقار على حدته، فعمدة ذلك أنه أقل للضرر الداخل على الشركاء من القسمة، وعمدة الفريق الثاني أن كل عقار قائم بنفسه لانه تتعلق به الشفعة.
واختلف أصحاب مالك إذا اختلفت الانواع المتفقة في النفاق وإن تباعدت
مواضعها على ثلاثة أقوال.
وأما إذا كانت الرباع مختلفة مثل أن يكون منها دور ومنها حوائط ومنها أرض فلا خلاف أنه لا يجمع في القسمة بالسهمية، ومن شرط قسمة الحوائط المثمرة أن لا تقسم مع الثمرة إذا بدا صلاحها باتفاق، وأما قسمتها قبل بدو الصلاح ففيه اختلاف، وأما ان كان بعد الابار فإنه لا يجوز الا بشرط.
وصفة القسم بالقرعة أن تقسم الفريضة وتحقق وتضرب ان كان في سهامها كسر إلى أن تصح السهام، ثم تقوم كل موضع منها وكل نوع من غراساتها، ثم يعدل على أقل السهام بالقيمة، فإذا قسمت على هذه الصفات وعملت وكتبت في بطائق أسماء المشتركين وأسماء الجهات، فمن خرج اسمه في جهة أخذ منها، وقيل يرمى بالاسماء في الجهات، فهذه هي حال قرعة السهم في الرقاب، والسهمة انما(20/183)
جعلها الفقهاء في القسمه تطيببا لنفوس المتقاسمين، وهى موجودة في الشرع في قوله تعالى (فساهم فكان من المدحضين) (وما كنت لديهم أذ يلقون أقلامهم) والاثر الصحيح الذى جاء فيه أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق ثلث ذلك الرقيق.
وأما القسمة بالتراضى سواء كانت بعد تعديل وتقويم أو بغير تقويم وتعديل فتجوز في الرقاب المتفقة والمختلفة.
(العروض) وأما الحيوان والعروض فاتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قسمة واحد منها للفساد الداخل في ذلك، واختلفوا إذا تشاح الشريكان في العين الواحدة منهما ولم يتراضيا الانتفاع بها على الشياع وأراد أحدهما أن يبيع صاحبه معه، فقال مالك وأصحابه يجبر على ذلك، فإن أراد أحدهما أن يأخذ بالقيمة التى أعطى
فيها أخذه.
وقال أهل الظاهر لا يجبر لان الاصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من يده الا بدليل من كتاب أو سنة أو اجماع، وحجة مالك أن في ترك الاجبار ضررا وهذا من باب القياس المرسل، وقد قلنا في غير ما موضع أنه ليس يقول به أحد من فقهاء الامصار الا مالك، ولكنه كالضروري في بعض الاشياء، وأما إذا كانت العروض أكثر من جنس واحد فاتفق العلماء على قسمتها على التراضي واختلفوا في قسمتها بالتعديل والسهمة.
(المكيل والموزون) فلا تجوز فيه القرعة باتفاق، والمكيل لا يخلو أن يكون صبرة أو صبرتين فزائدا فلا يخلو أن تكون قسمته على الاعتدال بالكيل أو الوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشريكين، ولا خلاف في جواز قسمته على التراضي على التفصيل البين كان ذلك من الربوي أو من غير الربوي، أعنى الذى لا يجوز فيه التفاضل ويجوز ذلك بالكيل المعلوم والمجهول، ولا يجوز قسمته جزافا بغير كيل ولا وزن وأما ان كانت قسمته تحريا فقيل لا يجوز في المكيل ويجوز في الموزون(20/184)
ويدخل في ذلك من الخلاف ما يدخل في جواز بيعه تحريا، وأما إن لم يكن ذلك من صبرة واحدة وكانا صنفين، فإن كان ذلك مما لا يجوز فيه التفاضل فلا تجوز قسمتها على جهة الجمع إلا بالكيل المعلوم فيم يكال وبالوزن بالصنجة المعروفة فيما يوزن، لانه إن كان بمكيال مجهول لم يدر كم يحصل فيه من الصنف الواحد إذا كانا مختلفين من الكيل المعلوم، وهذا كله مذهب مالك، وأما إن كان مما يجوز فيه التفاضل فيجوز قسمته على الاعتدال والتفاضل المعروف بالمكيال المعروف أو الصنجة المعروفة.
(قسمة المنافع) فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم ولا يجبر عليها من أباها ولا تكون القرعة على قسمة المنافع، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجبر على قسمة المنافع، وقسمة المنافع هي عند الجميع بالمهايأة، وذلك اما بالازمان واما بالاعيان، أما قسمة المنافع بالازمان فهو أن ينتفع كل واحد منهما بالعين مدة مساوية لمدة انتفاع صاحبه، وأما قسم الاعيان بأن يقسما الرقاب على أن ينتفع كل واحد منهما بما حصل له مدة محدودة والرقاب باقية على أصل الشركة، وفى قسمة المنافع بالزمان واختلاف في تحديد المدة التى يجوز فيها القسمة لبعض المنافع دون بعض للاغتلال أو الانتفاع مثل استخدام العبد وركوب الدابة وزراعة الارض، وذلك أيضا فيما ينقل ويحول أو لا ينقل ولا يحول، فأما فيما ينقل ويحول فلا يجوز عند مالك وأصحابه في المدة الكثير ويجوز في المد اليسيرة وذلك في الاغتلال الانتفاع واما فيما لا ينقل ولا يحول في المدة البعيده والاجل البعيد وذلك في الاغتلال والانتفاع.
واختلفوا في المدة اليسيرة فيما ينقل ويحول في الاغتلال، فقيل اليوم الواحد ونحوه، وقيل لا يجوز ذلك في الدابة والعبد وأما الاستخدام فقيل يجوز في الخمسة الايام، وقيل في الشهر وأكثر من الشهر قليلا.
وأما التهايؤ في الاعيان بأن يستعمل هذا دارا مدة من الزمان وهذا دارا تلك المدة بعينها، فقيل يجوز في سكنى الدار وزراعة الارضين ولا يجوز ذلك(20/185)
في الغلة والكراء إلا في الزمان اليسير، وقيل يجوز على قياس التهايؤ بالازمان وكذلك القول في استخدام العبد والدواب يجرى القول فيه على الاختلاف في قسمتها بالزمان.
وقالت الحنابلة: والقسمة نوعان عن تراض أو إجبار ولا قسمة في مشترك إلا برضا الشركاء كلهم حيث كان في القسمة ضرر ينقص القيمة كحمام ودور
صغار وشجر مفرد وحيوان، وحيث تراضيا صحت وكانت بيعا يثبت فيها ما يثبت فيه من الاحكام.
وإن لم يتراضيا ودعا أحدهما شريكه إلى البيع في ذلك أو إلى بيع عبد أو بهيمة أو سيف ونحوه مما هو شركة بينهما أجبر ان امتنع، فإن أبى بيع عليهما وقسم الثمن ولا إجبار في قسمة المنافع، فإن اقتسماها بالزمن كهذا شهرا والآخر مثله أو بالمكان كهذا في بيت والاخر في بيت صح جائزا ولكل الرجوع.
النوع الثاني قسمة إجبار وهى ما لا ضرر فيها ولا رد عوض، وتتأتى في مكيل وموزون وفى دار كبيرة وأرض واسعة ويدخل الشجر تبعا، وهذا النوع ليس بيعا فيجبر الحاكم أحد الشريكين إذا امتنع، ويصح أن يتقاسما بأنفسهما وأن ينصبا قاسما بينهما، ويشترط إسلامه وعدالته وتكليفه ومعرفته بالقسمة وأجرته على قدر أملاكهما، وان تقاسما بالقرعة جاز ولزمت القسمة بمجرد خروج القرعة ولو فيما فيه رداءة وضرر.
وان خير أحدهما الاخر بلا قرعة وتراضيا لزمت بالتفرق، وان خرج في نصيب أحدهما عيب جهله خير بين فسخ وامساك ويأخذ الارش، وان غبن غبنا فاحشا بطلت، وان ادعى كل أن هذا من سهمه تحالفا ونقضت، وان حصلت الطريق في حصة أحدهما ولا منفذ للآخر بطلت.(20/186)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الدعوى والبينات
لا تصح دعوى مجهول في غير الوصية، لان القصد بالحكم فصل الحكومة والتزام الحق ولا يمكن ذلك في المجهول، فإن كان المدعى دينا ذكر الجنس والنوع والصفة، وإن كان عينا باقيا ذكر صفتها، وإن ذكر قيمتها كان أحوط، وإن
كانت العين تالفة، فإن كان لها مثل ذكر صفتها، وإن ذكر القيمة كان أحوط، وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمتها، وإن كان المدعى سيفا محلى أو لجاما محلى، فإن كان بفضة قومه بالذهب، وإن كان بالذهب قومه بالفضة، وان كان محلى بالذهب والفضة قومه بما شاء منهما.
وإن كان المدعى مالا عن وصية جاز أن يدعى مجهولا، لان بالوصية يملك المجهول، ولا يلزم في دعوى المال ذكر السبب الذى ملك به لان أسبابه كثيرة فيشق معرفة سبب كل درهم فيه، وان كان المدعى قتلا لزمه ذكر صفته وأنه عمد أو خطأ وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره، ويذكر صفته وأنه عمد أو خطأ وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره، ويذكر صفة العمد لان القتل لا يمكن تلافيه، فإذا لم يبين لم تؤمن أن يقتص فيما لا يجب فيه القصاص، وان كان المدعى نكاحا فقد قال الشافعي رحمه الله: لا يسمع حتى يقول نكحتها بولي وشاهدين ورضاها، فمن أصحابنا من قال لا يشترط لانه دعوى ملك فلا يشترط فيه ذكر السبب كدعوى المال، وما قال الشافعي رحمه الله ذكره على سبيل الاستحاب، كما قال في امتحان الشهود إذا ارتاب بهم.
ومنهم قال ان ذلك شرط لانه مبنى على الاحتياط وتتعلق العقوبة بجنسه، فشرط في دعواه ذكر الصفة كدعوى القتل.
ومنهم قال ان كان يدعى ابتداء النكاح لزمه ذكره لانه شرط في الابتداء، وان كان يدعى استدامة النكاح لم يشترط لانه ليس بشرط في الاستدامة، وان ادعت امرأة على رجل نكاحا، فإن كان مع النكاح حق تدعيه من مهر أو نفقة سمعت دعواها، وان لم تدع حقا سواه ففيه وجهان(20/187)
(أحدهما)
أنه لا تسمع دعواها لان النكاح حق للزوج على المرأة فإذا
ادعت المرأة كان ذلك اقرارا، والاقرار لا يقبل مع انكار المقر له، كما لو أقرت له بدار.
(والثانى)
أنه تسمع لان النكاح يتضمن حقوقا لها فصح دعواها فيه، وان كان المدعى بيعا أو اجارة ففيه ثلاثة أوجه: (أحدها) أنه لا يفتقر إلى ذكر شروطه لان المقصود به المال فلم يفتقر إلى ذكر شروطه كدعوى المال.
(والثانى)
أنه يفتقر إلى ذكر شروطه لانه دعوى عقد فافتقر إلى ذكر شروطه كالنكاح.
(والثالث) أنه ان كان في غير الجارية لم تفتقر لانه لا يقصد به غير المال وان كان في جارية افتقر لانه يملك به الوطئ فأشبه النكاح، وما لزم ذكره في الدعوى ولم يذكره، سأله الحاكم عنه ليذكره، فتصير الدعوى معلومة فيمكن الحكم بها.
(فصل)
وإن ادعى عليه مالا مضافا إلى سببه فإن ادعى عليه ألفا اقترضه أو أتلف عليه فقال ما أقرضنى أو ما أتلفت عليه صح الجواب لانه أجاب عما ادعى عليه، وان لم يتعرض لما ادعى عليه بل قال لا يستحق على شيئا صح الجواب ولا يكلف انكار ما ادعى عليه من القرض أو الاتلاف لانه يجوز أن يكون قد أقرضه أو أتلف عليه ثم قضاه أو أبرأه منه، فإن أنكره كان كاذبا في إنكاره وإن أقر به لم يقبل قوله انه قضاء أو أبرأه منه فيستضر به، وان أنكر الاستحقاق كان صادقا ولم يكن عليه ضرر.
(فصل)
وان ادعى على رجل دينا في ذمته فأنكره لم تكن بينة فالقول قوله مع يمينه لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ أَنَّ الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن
اليمين على المدعى عليه، ولان الاصل براءة ذمته فجعل القول قوله وان ادعى عينا في يده فأنكره ولا بينة فالقول قوله مع يمينه لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في قصة الحضرمي والكندي شاهداك أو يمينه، ولان الظاهر من اليد(20/188)
الملك فقبل قوله، وإن تداعيا عينا في يدهما ولا بينة حلفا وجعل المدعى بينهما نصفين لما روى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رجلين تداعيا دابة ليس لاحدهما بينة فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ولان يد كل واحد منهما على نصفها فكان القول فيه قوله، كما لو كانت العين في يد أحدهما.
(فصل)
وإن تداعيا عينا ولاحدهما بينة وهى في يدهما أو في يد أحدهما أو في يد غيرهما حكم لمن له البينه لقوله صلى الله عليه وسلم (شاهدان أو يمينه) فبدأ بالحكم بالشهادة، ولان البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها، واليد تحتمل الملك وغيره، والذى يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة عليها، وإن كان لكل واحد منهما بينة نظرت فإن كانت العين في يد أحدهما قضى لمن له اليد من غير يمين ومن أصحابنا من قال لا يقضى لصاحب اليد من غير يمين لان بينته تعارضها بينة المدعى فتسقطها ويبقى له اليد.
واليد لا يقضى بها من غير يمين، المنصوص أنه يقضى له من غير يمين لان معه بينة معها ترجيح وهو اليد ومع الآخر بينة لا ترجيح معها، والحجتان إذا تعارضتا ومع إحداهما ترجيح قضى بالتى معها الترجيح، كالخبرين إذا تعارضا ومع أحدهما قياس، وإن كانت العين في يد أحدهما فأقام الآخر بينة فقضى له وسلمت العين إليه ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه، لانا حكمنا للآخر ظنا منا أنه لا بينة له، فإذا أتى بالبينة بان لنا أنه كانت له يد وبينة فقدمت على بينة الآخر.
(فصل)
وإن كان لكل واحد منهما بينة والعين في يدهما أو في يد غيرهما أو لا يد لاحدهما عليها تعارضت البينتان، وفيهما قولان
(أحدهما)
أنهما يسقطان وهو الصحيح لانهما حجتان تعارضتا ولا مزية لاحداهما على الاخرى فسقطتا كالنصين في الحادثة، فعلى هذا يكون الحكم فيه، كما لو تداعيا ولا بينة لواحد منهما.
(والثانى)
أنهما يستعملان وفى كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال.
أحدها أنه يوقف الامر إلى أن ينكشف أو يصطلحا، لان إحداهما صادقة والاخرى كاذبة ويرجى معرفة الصادقة فوجب التوقف، كالمرأة إذا زوجها وليان أحدهما بعد(20/189)
الآخر وفى السابق منهما.
والثانى أنه يقسم بينهما لان البينة حجة كاليد، ولو استويا في اليد قسم بينهما فكذلك إذا استويا في البينة.
والثالث أنه يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حكم له لانه لا مزية لاحداهما على الاخرى فوجب التقديم بالقرعة كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما.
(فصل)
وان كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الآخر أربعة وأكثر فهما متعارضتان وفيهما القولان لان الاثنين مقدران بالشرع فكان حكمهما وحكم ما زاد سواء، وإن كانت إحدى البينتين أعدل من الاخرى فهما متعارضتان وفيهما القولان، ولانهما متساويتان في إثبات الحق.
وإن كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الآخر شاهدا وامرأتين فهما متعارضتان وفيهما القولان لانهما يتساويان في إثبات المال، وان كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الاخر شاهدا ويمينا ففيه قولان
(أحدهما)
أنهما يتعارضان وفيهما القولان لانهما تساويا في اثبات المال (والقول الثاني) أنه يقضى لمن له الشاهدان لان بينته مجمع عليها وبينة الاخر مختلف فيها.
(فصل)
وان كانت العين في يد غيرهما فشهدت بينة أحدهما بأنه ملكه من سنة وشهدت بينة الآخر أنه ملكه من سنتين ففيه قولان.
قال في الهويطى هما سواء لان القصد إثبات الملك في الحال وهما متساويتان في اثبات الملك في الحال والقول الثاني أن التى شهدت بالملك المتقدم أولى وهو اختيار المزني وهو الصحيح لانها انفردت بإثبات الملك في زمان لا تعارضها فيه البينة الاخرى.
وأما إذا كان الشئ في يد أحدهما فإن كان في يد من شهد له بالملك المتقدم حكم له، وان كان في يد الآخر فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبوا لعباس رحمه الله بينى على القولين في المسألة قبلها ان قلنا انهما يتساويان حكم لصاحب اليد، وان قلنا ان التى شهدت بالملك المتقدم تقدم قدمت ههنا أيضا لان الترجيح من جهة البينة أولى من الترجيح باليد.
ومن أصحابنا من قال يحكم به لمن هو في يده قولا واحدا لان اليد الموجودة أولى من الشهادة بالملك المتقدم.
وأما إذا تداعيا دابة وأقام أحدهما بينة أنها ملكه نتجت في ملكه، وأقام(20/190)
الآخر أنها دابته ولم يذكر النتاج فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو العباس الحكم فيه كالحكم في الشهادة بالملك المتقدم وفيها قولان، لان الشهادة بالنتاج كشهادته بالملك المتقدم.
وقال أبو إسحاق: يحكم لمن شهدت له البينة بالنتاج قولا واحدا، لان بينة النتاج تنفى أن يكون الملك لغيره، والبينة بالملك المتقدم لا تنفى أن يكون الملك قبل ذلك لغير المشهود له
(فصل)
إذا ادعى رجل دارا في يد رجل وأقام بينة أن هذه الدار كانت في يده أو في ملكه أمس فقد نقل المزني والربيع أنه لا يحكم بهذه الشهادة، وحكى البويطى أن يحكم بها، فقال أبو العباس فيها قولان: أحدهما أنه يحكم
بذلك لانه قد ثبت بالبينة أن الدار كانت له والظاهر بقاء الملك.
والقول الثاني أنه لا يحكم بها وهو الصحيح لانه ادعى ملك الدار في الحال وشهدت له البينة بما لم يدعه فلم يحكم بها، كما لو ادعى دارا فشهدت له البينة بدار أخرى.
وقال أبو إسحاق لا يحكم بها قولا واحدا، وما ذكره البويطى من تخريجه.
(فصل)
وان ادعى رجل على رجل دارا في يده وأقر بها لغيره نظرت فإن صدقه المقر له حكم له، لانه مصدق فيما في يده، وقد صدقه المقر له فحكم له وتنتقل الخصومة إلى المقر له، فإن طلب المدعى يمين المقر أنه لا يعلم أنها له ففيه قولان بناء على من أقر بشئ في يده لغيره ثم أقر به لآخر، وفيه قولان:
(أحدهما)
يلزمه أن يغرم الثاني.
(والثانى)
لا يلزمه، فإن قلنا يلزمه أن يغرم حلف لانه ربما خاف أن يحلف فيقر للثاني فيغرم له، وان قلنا لا يلزمه لم يحلف لانه ان خاف من اليمين فأقر للثاني لم يلزمه شئ فلا فائدة في تحليفه، وان كذبه المقر ففيه وجهان:
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس أنه يأخذها الحاكم ويحفظها إلى أن يجد صاحبها، لان الذى في يده لا يدعيها والمقر له أسقط اقراره بالتكذيب وليس للمدعى بينة فلم يبق الا أن يحفظها الحاكم كالمال الضال
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أنه يسلم إلى المدعى، لانه ليس ههنا من(20/191)
يدعيه غيره، وهذا خطأ لانه حكم بمجرد الدعوى، وان أقر بها لغائب ولا بينة وقف الامر إلى أن يقدم الغائب لان الذى في يده لا يدعيها ولا بينة تقضى بها فوجب التوقف، فإن طلب المدعى يمين المدعى عليه أنه لا يعلم أنها له فعلى ما ذكرناه من القولين.
وان كان للمدعى بينة قضى له، وهل يحتاج إلى أن يحلف مع البينة فيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يحتاج أن يحلف مع البينة لانا حكمنا بإقرار المدعى عليه أنها ملك للغائب، ولا يجوز القضاء بالبينة على الغائب من غير يمين.
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق انه لا يحتاج أن يحلف لانه قضاء على الحاضر وهو المدعى عليه، وان كان مع المدعى عليه بينة أنها للغائب فالمنصوص أنه يحكم ببينة المدعى وتسلم إليه، ولا يحكم ببينة المدعى عليه وان كان معها يد لان بينة صاحب اليد انما يقضى بها إذا أقامها صاحب الملك أو وكيل له والمدعى عليه ليس بمالك ولا هو وكيل للمالك فلم يحكم ببينته.
وحكى أبو إسحاق رحمه الله عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ المقر للغائب يدعى أن الدار في يده وديعة أو عارية لم تسمع بينته، وان كان يدعى أنها في يده بإجارة سمعت بينته وقضى بها، لانه يدعى لنفسه حقا فسمعت بينته فيصح الملك للغائب ويستوفى بها حقه من المنفعة، وهذا خطأ لانه إذا لم تسمع البينة في اثبات الملك وهو الاصل، فلان لا تسمع لاثبات الاجارة وهى فرع على الملك أولى، وان أقر بها لمجهول فقد قال أبو العباس فيه وجهان.
(أحدهما)
أنه يقال له اقرارك لمجهول لا يصح، فإما أن تقر بها لمعروف أو تدعيها لنفسك أو نجعلك ناكلا ويحلف المدعى ويقضى له
(والثانى)
أن يقال له اما أن تقر بها لمعروف أو نجعلك ناكلا ولا يقبل دعواه لنفسه لانه بإقراره لغيره نفى أن يكون الملك له فلم تقبل دعواه بعد
(فصل)
إذا ادعى جارية وشهدت البينة أنها ابنة أمته لم يحكم له بها لانها قد تكون ابنة أمته ولا تكون له بأن تلدها في ملك غيره ثم يملك الامة دونها فتكون ابنة أمته ولا تكون له.
وان شهدت البينة أنها ابنة أمته ولدتها في ملكه فقد قال الشافعي رحمه الله(20/192)
حكمت بذلك، وذكر في الشهادة بالملك المتقدم قولين، فنقل أبو العباس جواب تلك المسألة إلى هذه وجعلها على قولين، وقال سائر اصحابنا يحكم بها ههنا قولا واحدا وهناك على قولين، والفرق بينهما أن الشهادة هناك بأصل الملك فلم تقبل حتى يثبت في الحال، والشهادة ههنا بتمام الملك وأنه حدث في ملكه فلم يفتقر إلى اثبات الملك في الحال.
وان ادعى غزلا أو طيرا أو آجرا وأقام البينة أن الغزل من قطنه والطير من بيضه والآخر من طينه قضى له، لان الجميع عين ماله وانما تغيرت صفته
(فصل)
إذا ادعى رجل أن هذه الدار ملكه من سنتين وأقام على ذاك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منذ سنتين وأقام على ذاك بينة قضى ببينة الابتياع، لان بينة الملك شهدت بالملك على الاصل وبينة الابتياع شهدت بأمر حادث خفى على بينة الملك فقدمت على بينة الملك كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.
(فصل)
وان كان في يد رجل دار وادعى رجل أنه ابتاعها من زيد وهو يملكها وأقام على ذلك بينة حكم له لانه ابتاعها من مالكها، وان شهدت له البينة أنه ابتاعها منه وسلمها إليه حكم له لانه لا يسلم الا ما يملكه، وان شهدت أنه ابتاعها منه ولم تذكر الملك ولا التسليم لم يحكم بهذه الشهادة ولم تؤخذ الدار ممن هي في يده لانه قد يبيع الانسان ما يملكه وما لا يملكه فلا تزال يد صاحب اليد
(فصل)
وان كان في يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها ممن هي في يده وأقام الذى في يده الدار بينة أنها له قدمت بينة الخارج الذى لا يد له، لان الدار المستأجرة في ملك المؤجر وبيده وليس للمستأجر الا الانتفاع فتصير كما لو كانت في يده دار وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذى هي في يده وأقام البينة فإنه يحكم بها للمغصوب منه.
(فصل)
وان تداعى رجلان دارا في يد ثالث فشهد لاحدهما شاهدان أن
الذى في يده الدار غصبه عليها وشهد للآخر شاهدان أنه أقر له بها قضى للمغصوب منه لانه ثبت بالبينة أنه غاصب، واقرار الغاصب لا يقبل فحكم بها للمغصوب منه.
(فصل)
إذا ادعى رجل أنه ابتاع دارا من فلان ونقده الثمن وأقام على(20/193)
ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منه ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وتاريخ أحدهما في رمضان وتاريخ الآخر في شوال قضى لمن ابتاعها في رمضان، لانه ابتاعها وهى في ملكه والذى ابتاعها في شوال ابتاعها بعد ما زال ملكه عنها، وان كان تاريخهما واحدا، أو كان تاريخهما مطلقا أو تاريخ أحدهما مطلقا وتاريخ الآخر مؤرخا، فإن كانت الدار في يد أحدهما قضى له لان معه بينة ويدا، وان كانت في يد البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان، أحدهما أنهما يسقطان والثانى أنهما يستعملان.
فإن قلنا انهما يسقطان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لكل واحد منهما يمينا على الانفراد وقضى له، وإن أقر لاحدهما سلمت إليه.
وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان، وان أقر لهما جعلت لهما نصفين، وهل يحلف كل واحد منهما للآخر على النصف الاخر؟ على القولين.
وان قلنا انهما يستعملان نظرت فإن صدق البائع أحدهما ففيه وجهان:
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس أنها تجعل لمن صدقه البائع لان الدار في يده فإذا أقر لاحدهما فقد نقل يده إليه فتصير له يد وبينة.
وقال أكثر أصحابنا لا يرجح بإقرار البائع وهو الصحيح لان البينتين اتفقتا على إزالة ملك البائع وإسقاط يده فعلى هذا يقرع بينهما في أحد الاقوال ويقسم بينهما في الثاني فيجعل لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذى ادعى
أنه ابتاع به، ولا يجئ القول بالوقف لان العقود لا توقف.
(فصل)
وان ادعى رجل أنه ابتاع هذه الدار من زيد وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة وادعى آخر أنه ابتاعها من عمرو وهو يملكها ونقده الثمن وأقام عليه بينة، فإن كانت في يد أجنبي أو في أحد البائعين وقلنا على المذهب الصحيح أنه لا ترجح البينة بقول البائع تعارضت البينتان، وفيهما قولان:
(أحدهما)
أنهما يسقطان
(والثانى)
أنهما يستعملان، فإن قلنا انهما يسقطان رجع إلى من هو في يده، فان ادعاه لنفسه فالقول قوله ويحلف لكل واحد منهما، وان أقر لاحدهما سلم إليه.
وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان،(20/194)
وإن أقر لهما جعل لكل واحد منهما نصفه، وهل يحلف للآخر على النصف الاخر؟ على القولين، وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الاقوال ويقسم بينهما في القول الثاني فيجعل لكل واحد منهما النصف بنصف الثمن الذى ادعى أنه ابتاعه ولا يجئ الوقف لان العقود لا توقف.
(فصل)
وإن كان في يد رجل دار فادعى زيد أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة وادعى عمرو أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة، فإن كانت البينتان بتاريخ واحد تعارضتا، وفيهما قولان:
(أحدهما)
أنهما يسقطان.
(والثانى)
أنهما يستعملان، فإذا قلنا إنهما يسقطان رجع إلى قول من هي في يده، فإن ادعاها لنفسه وأنكر الشراء حلف لكل واحد منهما وحكم له وإن أقر لاحدهما لزمه الثمن لمن أقر له وحلف للآخر قولا واحدا، لانه لو أقر له بعد إقراره للاول لزمه له الالف لانه يقر له بحق في ذمته فلزمه أن يحلف قولا واحدا، وان قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الاقوال ويقسم في
القول الثاني، ولا يجئ الوقف لان العقود لا توقف وإن كانتا بتاريخين مختلفين، بأن شهدت بينة أحدهما بعقد في رمضان، وبينة أحدهما بعقد في شوال لزمه الثمنان، لانه يمكن الجمع بينهما بأن يكون قد اشتراه في رمضان من أحدهما ثم باعه واشتراه من الاخر في شوال.
وان كانت البينتان مطلقتين ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يلزمه الثمنان، لانه يمكن استعمالهما بأن يكون قد اشتراه في وقتين مختلفين.
(والثانى)
انهما يتعارضان فيكون على القولين، لانه يحتمل أن يكونا في وقتين فيلزمه الثمنان، ويحتمل أن يكونا في وقت واحد، والاصل براءة الذمة.
(فصل)
وان ادعى رجل ملك عبد فأقام عليه بينة وادعى آخر أنه باعه أو وقفه أو أعتقه وأقام عليه بينة قدم البيع والوقف والعتق.
لان بينة الملك شهدت بالاصل وبينة البيع والوقف والعتق شهدت بأمر حادث خفى على بينة الملك فقدمت على بينة الملك.(20/195)
وإن كان في يد رجل عبد فادعى رجل أنه ابتاعه وأقام عليه بينة، وادعى العبد أن مولاه أعتقه وأقام عليه بينة، فإن عرف السابق منهما بالتاريخ قضى بأسبق التصرفين، لان السابق منهما يمنع صحة الثاني فقدم عليه، وان لم يعرف السابق منهما تعارضتا، وفيهما قولان.
(أحدهما)
أنهما يسقطان ويرجع إلى من في يده العبد، وان كان كذبهما حلف لكل واحد منهما يمينا على الانفراد، وان صدق أحدهما قضى لمن صدقه والقول الثاني أنهما يستعملان فيقرع بينهما في أحد الاقوال فمن خرجت له القرعة قضى له ويقسم في القول الثاني فيعتق نصفه ويحكم للمبتاع بنصف الثمن
ولا يجئ القول بالوقف لان العقود لا توقف.
(فصل)
قال في الامام: إذا قال لعبده إن قتلت فأنت حر، فأقام العبد بينة أنه قتل وأقام الورثة بينة أنه مات ففيه قولان
(أحدهما)
أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبد، لان بينة القتل تثبت القتل وتنفى الموت، وبينة الموت تثبت الموت وتنفى القتل فتسقطان ويبقى العبد على الرق.
(والثانى)
أنه تقدم بينة القتل ويعتق العبد لان بينة الورثة تشهد بالموت وبينة العبد تشهد بالقتل، لان المقتول ميت، ومعها زيادة صفة وهى القتل فقدمت، وان كان له عبدان سالم وغانم، فقال لغانم ان مت في رمضان فأنت حر، وقال لسالم أن مت في شوال فأنت حر، ثم مات.
فأقام غانم بينة أنه مات في رمضان، وأقام سالم بينة بالموت في شوال ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبدان، لان الموت في رمضان ينفى الموت في شوال، والموت في شوال ينفى الموت في رمضان فيسقطان ويبقى العبدان على الرق.
والقول الثاني أنه تقدم بينة الموت في رمضان لانه يجوز أن يكون قد علمت البينة بالموت في رمضان وخفى ذلك على البينة الاخرى إلى شوال فقدمت بينة رمضان لما معها من زيادة العلم.
وإن قال لغانم إن مت من مرضى فأنت حر، وقال لسالم إن برئت من مرضى(20/196)
فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة بالموت من مرضه، وأقام سالم بينة بأنه برئ من المرض ثم مات تعارضت البينتان وسقطتا ورق العبدان، لان بينة أحدهما أثبتت الموت من مرضه ونفت البرء منه والاخرى أثبتت البرء من مرضه ونفت
موته منه فتعذر الجمع بينهما فتعارضتا وسقطتا وبقى العبدان على الرق.
(فصل)
وإن اختلف المتبايعان في قدر الثمن أو اختلف المتكاريان في في قدر الاجرة أو في مدة الاجارة، فإن لم يكن بينة فالحكم في التحالف والفسخ على ما ذكرناه في الفسخ في البيع، وإن كان لاحدهما بينة قضى له، وإن كان لكل واحد منهما بينة فنظرت فإن كانا مؤرختين بتاريخين مختلفين قضى بالاولى منهما لان العقد الاول يمنع صحة العقد الثاني، وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخا واحدا، أو إحداهما مطلقة والاخرى مؤرخة فهما متعارضتان، وفيهما قولان
(أحدهما)
أنهما يسقطان ويصير كما لو لم تكن بينة فيتحالفا على ما ذكرناه في البيع
(والثانى)
أنهما يستعملان فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة قضى له ولا يجئ القول بالوقف لان العقود لا توقف ولا يجئ القول بالقسمة لانهما يتنازعان في عقد والعقد لا يمكن قسمته.
وخرج أبو العباس قولا آخر أنه إذا كان الاختلاف في قدر المدة أو في قدر الاجرة قضى بالبينة التى توجب الزيادة كما لو شهدت بينة أن لفلان عليه ألفا وشهدت بينة أن له عليه الفين، وهذا خطأ لان الشهادة بالالف لا تنفى الزيادة عليه فلم يكن بينها وبين بينة الاخرى تعارض، وههنا أحد البينتين ينفى ما شهدت به البينة الاخرى، لانه إذا عقد بأحد العوضين لم يجز أن يعقد بالعوض الآخر فتعارضتا.
(فصل)
إذا ادعى رجلان دارا في يد رجل وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضى اشتراكهما كالارث عن ميت والابتياع في صفقة، فأقر المدعى عليه بنصفها لاحدهما شاركه الآخر، لان دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء منهما، ولهذا لو كان طعاما فهلك بعضه كان هالكا منهما وكان الباقي بينهما، فإذا(20/197)
جحد النصف وأقر بالنصف جعل المجحود بينهما والمقر به بينهما، وان ادعيا ولم يعزيا إلى سبب فأقر لاحدهما بنصفها لم يشاركه الآخر لان دعواه لا تقتضي الاشتراك في كل جزء منه.
(فصل)
وان ادعى رجلان دارا في يد ثالث لكل واحد منهما نصفها وأقر الذى هي في يده بجميعها لاحدهما نظرت فان كان قد سمع من المقر له الاقرار للمدعى الاخر بنصفها لزمه تسليم النصف إليه لانه أقر بذلك، فإذا صار إليه لزمه حكم إقراره كرجل أقر لرجلين بعين ثم صارت العين في يده، وان لم يسمع منه اقرار فادعى جميعها حكم له بالجميع، لانه يجوز أن يكون الجميع له ودعواه للنصف صحيح لان من له الجميع فله النصف، ويجوز أن يكون قد خص النصف بالدعوى، لان على النصف بينة، أو يعلم أنه مقر له بالنصف وتنقل الخصومة إليه مع المدعى الاخر في النصف.
وان قال الذى الذى في يده الدار نصفها لى والنصف الآخر لا أعلم لمن هو، ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يترك النصف في يده لانه أقر لمن لا يدعيه فبطل الاقرار وبقى على ملكه.
(والثانى)
أن الحاكم ينتزعه منه ويكون عنده لان الذى في يده لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فأخذه الحاكم للحفظ كالمال الضال.
(والثالث) أنه يدفع إلى المدعى الاخر لانه يدعيه وليس له مستحق آخر وهذا خطأ لانه حكم بمجرد الدعوى.
(فصل)
إذا مات رجل وخلف إبنا مسلما وإبنا نصرانيا وادعى كل واحد منهما أنه مات أبوه على دينه وأنه يرثه وأقام على ما يدعيه بينة، فان عرف أنه كان نصرانيا نظرت فان كانت البينتان غير مؤرختين حكم ببينة الاسلام، لان
من شهد بالنصرانية شهد بالاصل والذى شهد بالاسلام شهد بأمر حادث خفى على من شهد بالنصرانية، فقدمت شهادته كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل فان شهدت إحداهما بأنه مات وآخر كلامه الاسلام وشهدت الاخرى بأنه مات(20/198)
وآخر كلامه النصرانية فهما متعارضتان، وفيهما قولان
(أحدهما)
أنهما يسقطان فيكون كما لو مات ولا بينة فيكون القول قول النصراني لان الظاهر معه
(والثانى)
أنهما يستعملان، فإن قلنا بالقرعة أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة ورث، وان قلنا بالوقف وقف، وإن قلنا بالقسمة ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه يقسم كما يقسم في غير الميراث
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أنه لا يقسم، لانه إذا قسم بينهما تيقن الخطأ في توريثهما وفى غير الميراث يجوز أن يكون المال مشتركا بينهما فقسم، وإن لم يعرف أصل دينه تعارضت البينتان، سواء كانتا مطلقتين أو مؤرختين وفيها قولان.
(أحدهما)
أنهما تسقطان، فإن كان المال في يد غيرهما فالقول قول من في يده المال، وأن كان في يديهما كان بينهما، وان قلنا انهما يستعملان، فإن قلنا يقرع أقرع بينهما، وإن قلنا يوقف وقف إلى أن ينكشف، وان قلنا يقسم قسم.
وقال أبو إسحاق لا يقسم لانه يتيقن الخطأ في توريثهما، والمنصوص أنه يقسم، وما قاله أبو إسحاق خطأ لانه يجوز أن يموت وهو نصراني فورثه ابناه وهما نصرانيان ثم أسلم أحدهما وادعى أن أباه مات مسلما ليأخذ الجميع، ويغسل الميت ويصلى عليه في المسائل كلها ويدفن في مقابر المسلمين وينوى بالصلاة عليه وان كان مسلما كما قلنا في موتى المسلمين إذا اختلطوا بموتى الكفار.
(فصل)
وان مات رجل وخلف ابنين واتفق الابنان أن أباهما مات
مسلما وأن أحد الابنين أسلم قبل موت الاب، واختلفا في الاخر فقال أسلمت أنا أيضا قبل موت أبى فالميراث بيننا وأنكر الاخر فالقول قول المتفق على اسلامه لان الاصل بقاؤه على الكفر.
ولو اتفقا على اسلامهما واختلفا في وقت موت الاب، فقال أحدهما مات أبى قبل اسلامك فالميراث لى، وقال الاخر بل مات بعد اسلامي أيضا فالقول قول الثاني لان الاصل حياة الاب.
وان مات رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين، فقال الابوان مات كافرا وقال الابنان مات مسلما فقد قال أبو العباس يحتمل قولين:(20/199)
(أحدهما)
أن القول قول الابوين، لانه إذا ثبت أنهما كافران كان الولد محكوما بكفره إلى أن يعلم الاسلام.
(والثانى)
أن الميراث يوقف إلى أن يصطلحوا أن ينكشف الامر لان الولد إنما يتبع الابوين في الكفر قبل البلوغ، فأما بعد البلوغ فله حكم نفسه، ويحتمل أنه كان مسلما ويحتمل أنه كان كافرا فوقف الامر إلى أن ينكشف.
(فصل)
وإن مات رجل وله ابن حاضر وابن غائب وله دار في يد رجل فادعى الحاضر أن أباه مات وأن الدار بينه وبين أخيه وأقام بينة من أهل الخبرة بأنه مات وأنه لا وارث له سواهما انتزعت الدار ممن هي في يده ويسلم إلى الحاضر نصفها وحفظ النصف للغائب، وان كان له دين في الذمة قبض الحاضر نصفه، وفى نصيب الغائب وجهان:
(أحدهما)
أنه يأخذه الحاكم ويحفظه عليه كالعين.
(والثانى)
أنه لا يأخذه لان كونه في الذمة أحفظ له ولا يطالب الحاضر فيما يدفع إليه بضمين لان في ذلك قدحا في البينة، وان لم تكن البينة من أهل
الخبرة الباطنة أو كانت من أهل الخبرة إلا أنها لم تشهد بأنها لا تعرف له وارثا سواه لم يدفع إليه شئ حتى يبعث الحاكم إلى البلاد التى كان يسافر إليها فيسأل هل له وارث آخر؟ فإذا سأل ولم يعرف له وارث غيره دفع إليه.
قال الشافعي رحمه الله: يأخذ منه ضمينا، وقال في الام: وأحب أن يأخذ منه ضمينا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
أنه يجب أخذ الضمين لانه ربما ظهر وارث آخر.
(والثانى)
أنه يستحب ولا يجب لان الظاهر أنه لا وارث له غيره، ومنهم من قال إن كان الوارث ممن يحجب كالاخ والعم وجب، وان كان ممن لا يحجب كالابن استحب، لان من لا يحجب يتيقن أنه وارث، ويشك فيمن يزاحمه فلم يترك اليقين بالشك، ومن يحجب يشك في إرثه، وحمل القولين على هذين الحالين.
ومنهم من قال ان كان الوارث غير مأمون وجب لانه لا يؤمن أن يضيع حق من يظهر، وان كان مأمونا لم يجب لانه لا يضيع حق من يظهر، وحمل القولين على هذين الحالين.(20/200)
وان كان الوارث ممن له فرض لا ينقص كالزوجين، فإن شهد الشهود أنه لا وارث له سواه وهم من أهل الخبرة دفع إليه أكمل للفرضين ولا يؤخذ منه ضمين، وان لم يشهدوا أنه لا وارث له سواه، أو شهدوا بذلك ولم يكونوا من أهل الخبرة دفع إليه أنقص الفرضين، فإن كان زوجا دفع إليه ربع المال عائلا، وان كان زوجة دفع إليها ربع الثمن عائلا ويوقف الباقي، فإن لم يظهر وارث آخر دفع إليه الباقي.
(فصل)
وان ماتت امرأة وابنها، فقال زوجها ماتت فورثها الابن، ثم مات الابن فورثته، وقال أخوها بل مات الابن أولا فورثته الام ثم ماتت
فورثتها لم يورث ميت من ميت، بل يجعل مال الابن للزوج ومال المرأة للزوج والاخ، لانه لا يرث الا من تيقن حياته عند موت مورثه، وههنا لا تعرف حياة واحد من الميتين عند موت مورثه فلم يورث أحدهما من الآخر كالغرقى
(فصل)
وإن مات رجل وله دار وخلف إبنا وزوجة، فادعى الابن أنه تركها ميراثا، وادعت الزوجة أنه أصدقها الدار، وأقام كل واحد منهما بينة، قدمت بينة الزوجة على بينة الارث، لان بينة الارث تشهد بظاهر الملك المتقدم وبينة الصداق تشهد بأمر حادث على الملك خفى على بينة الارث.
(فصل)
وإن تداعى رجلان حائطا بين داريهما، فإن كان مبنيا على تربيع إحداهما مساويا لها في السمك والحد ولم يكن بناؤه مخالفا لبناء الدار الاخرى ولم تكن بينة لاحدهما فالقول قول من بنى على تربيع داره، لان الظاهر أنه بنى لداره.
وان كان لاحدهما عليه أزج فالقول قوله لان الظاهر أنه بنى للازج، وإن كان مطلقا وهو الذى لم يقصد به سوى السترة ولم تكن بينة حلفا وجعل بينهما لانه متصل بالملكين اتصالا واحدا.
وان كان لاحدهما عليه جذوع ولم يقدم على الآخر بذلك لانهما لو تنازعا فيه قبل وضع الجذوع كان بينهما، ووضع الجذوع يجوز أن يكون بإذن من الجار أو بقضاء حاكم يرى وضع الجذوع على حائط الجار بغير رضاه يزيل ما تيقناه بأمر محتمل، كما لو مات رجل عن دار ثم وجد الدار في يد أجنبي(20/201)
(فصل)
وإن تداعى صاحب السفل وصاحب العلو السقف ولا بينة حلف كل واحد منهما وجعل بينهما، لانه حاجز توسط ملكيهما فكان بينهما كالحائط بين الداربن، فإن تنازعا في الدرجة، فإن كان تحتها مسكن فهى بينهما لانهما متساويان في الانتفاع بها، وأن كان تحتها موضع جب ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنهما يحلفان ويجعل بينهما لانهما يرتفقان بها
(والثانى)
أنه يحلف صاحب العلو ويقضى له لان المقصود بها منفعة صاحب العلو، وإن تداعيا سلما منصوبا حلف صاحب العلو وقضى له، لانه يختص بالانتفاع به في الصعود، وإن تداعيا صحن الدار نظرت فإن كانت الدرجة في الصحن حلفا وجعل بينهما، لان لكل واحد منهما يدا عليه، وإن كانت الدرجة في الدهليز ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنها بينهما لان لكل واحد منهما يدا، ولهذا لو تنازعا في أصل الدار كانت بينهما.
(والثانى)
أنه لصاحب السفل لانها في يده، ولهذا يجوز أن يمنع صاحب العلو من الاستطراق فيها.
(فصل)
وان تداعى رجلان مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر حلفا وجعل بينهما لان فيها منفعة لصاحب النهر لانها تجمع الماء في النهر ولصاحب الارض منها منفعة لانها تمنع الماء من أرضه.
(فصل)
وان تداعى رجلان دابة وأحدهما راكبها والآخر آخد بلجامها حلف الراكب وقضى له.
وقال أبو إسحاق رحمه الله هي بينهما لان كل واحد منهما لو انفرد لكانت له، والصحيح هو الاول، لان الراكب هو المنفرد بالتصرف فقضى له وإن تداعيا عمامة وفى يد أحدهما منها ذراع وفى يد الاخر الباقي حلفا وجعلت بينهما، لان يد كل واحد منهما ثابتة على العمامة، وان تداعيا عبدا ولاحدهما عليه ثياب حلف وجعل بينهما، ولا يقدم صاحب الثياب لان منفعة الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب.
(فصل)
وان كان في يد رجل عبد بالغ عاقل فادعى أنه عبده، فإن صدقه حكم له بالملك، وان كذبه فالقول قوله مع يمينه لان الظاهر الحرية، وان كان(20/202)
طفلا لا يميز فالقول قول المدعى لانه لا يعبر عن نفسه وهو في يده فهو كالبهيمة وان بلغ هذا الطفل فقال لست بمملوك له لم يقبل قوله، لانا حكمنا له بالملك فلا يسقط بإنكاره.
وان جاء رجل فادعى أنه ابنه لم يثبت نسيه بمجرد دعواه لان فيه اضرارا بصاحب الملك لانه ربما يعتقه فيثبت له عليه الولاء.
وإذا ثبت نسبه لمن يدعى النسب سقط حق ولائه، وان كان مراهقا وادعى أنه مملوكه فأنكر ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يحكم بالملك لانه يعبر عن نفسه فلم يحكم بملكه مع انكاره كالبالغ
(والثانى)
أنه يحكم له بالملك وهو الصحيح لانه لا حكم لقوله.
(فصل)
وان تداعى الزوجان متاع البيت الذى يسكنانه ولا بينة حلفا وجعل الجميع بينهما نصفين لانه في يدهما فجعل بينهما، كما لو تداعيا الدار التى يسكنان فيها، وان تداعى المكرى والمكترى المتاع الذى في الدار المكراة فالقول قول المكترى لان يده ثابتة على ما في الدار، وان تداعيا سلما غير مسمر فهو للمكترى لانه كالمتاع.
وان تداعيا سلما مسمرا فالقول قول المكرى لانه من أجزاء الدار، وان تداعيا الرفوف المسمرة فالقول قول المكرى لانها متصلة بالدار فصارت كأجزائها، وان كانت غير مسمرة فقد قال الشافعي رحمه الله أنهما يتحالفان وتجعل بينهما لان الرفوف قد تترك في العادة وقد تنقل عنها فيجوز أن تكون للمكترى ويجوز أن تكون للمكرى فجعل بينهما
(فصل)
ومن وجب له حق على رجل وهو غير ممتنع من دفعع لم يجز لصاحب الحق أن يأخذ من ماله حقه بغير اذنه لان الخيار فيما يقضى به الدين إلى من عليه الدين ولا يجوز أن يأخذ الا ما يعطيه، وان أخذ بغير إذنه لزمه رده، فإن تلف ضمنه لانه أخذ مال غيره بغير حق، وان كان ممتنعا من أدائه فإن لم يقدر على أخذه بالحاكم فله أن يأخذ من ماله لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(لَا ضَرَرَ وَلَا إضرار) وفى منعه من أخذ ماله في هذا الحال اضرار به، وان كان يقدر على أخذه بالحاكم بأن تكون له عليه بينة ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجوز أن يأخذه لانه يقدر على أخذه بالحاكم فلم يجز أن يأخذه بنفسه.(20/203)
(والثانى)
وهو المذهب أن يجوز لان هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطينى ما يكفيني وولدى إلا ما آخذه سرا، فقال عليه السلام خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف، فأذن لها في الاخذ مع القدرة على الاخذ بالحاكم، ولان عليه في المحاكمة مشقة فجاز له أخذه، فإن كان الذى قدر عليه من جنس حقه أخذ قدر حقه، وإن كان من غير جنسه أخذه ولا يجوز أن يتملكه لانه من غير جنس ماله فلا يجوز أن يتملكه ولكن يبيعه ويصرف ثمنه في حقه، وفى كيفية البيع وجهان:
(أحدهما)
أنه يواطئ رجلا ليقر له بحق وأنه ممتنع من أدائه فيبيع الحاكم المال عليه.
(والثانى)
وهو المذهب أنه يبيع المال بنفسه لانه يتعذر عليه أن يثبت الحق عند الحاكم وأنه ممتنع من بيعه فملك بيعه بنفسه، فإن تلفت العين قبل البيع ففيه وجهان: أحدهما أنها تتلف من ضمان من عليه الحق ولا يسقط دينه لانها محبوسة لاستيفاء حقه منها، فكان هلاكها من ضمان المالك كالرهن.
والوجه الثاني: أنها تتلف من ضمان صاحب الحق لانه أخذها بغير إذن المالك فتلفت من ضمانه بخلاف الرهن فإنه أخذه بإذن المالك فتلف من ضمانه (الشرح) حديث ابن عباس (لو أن الناس أعطوا ... ) متفق عليه بلفظ (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على
المدعى عليه) وأخرجه البيهقى عن نافع عن ابن عمر وابن حبان عن مجاهد عن ابن عمر، والترمذي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، والدارقطني وإسناده عنده ضعيف.
حديث (في قصة الحضرمي..) سبق تخريجه.
حديث أبى موسى الاشعري (أن رجلين تداعيا دابة..) أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بلفظ (أن رجلين تداعيا دابة وأقام كل واحد منهما بينة أنها دابته فقضى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للتى في يده، واسناده ضعيف.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي (أن رجلين اختصما(20/204)
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعير، فأقام كل واحد منهما بينة أنه له، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما) وذكر الاختلاف فيه على قتادة، وقال البيهقى هو معلول فقد رواه حماد بن سلمة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشر بن نهيك عن أبى هريرة.
ومن هذا الوجه أخرجه ابن حبان في صحيحه، واختلف فيه على سعيد بن أبى عروبة، فقيل عنه عن قتادة عن سعيد بن أبى بردة عن أبيه عن أبى موسى وقيل عنه عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة قال: أنبئت أن رجلا، قال البخاري قال سماك بن حرب أنا حدثت ابا بردة بهذا الحديث، فعلى هذا لم يسمع أبو بردة هذا الحديث من أبيه، ورواه أبو كامل مظفر بن مدرك عن حماد عن قتادة عن النضر بن أنس عن أبى بردة مرسلا، قال حماد فحدثت به سماك بن حرب فقال أنا حدثت أبا بردة وقال الدارقطني والبيهقي والخطيب: الصحيح أنه عن سماك مرسلا.
ورواه ابن أبى شيبة عن أبى الاحوص عن سماك عن تميم بن طرفة أن رجلين ادعيا بعيرا فأقام كل واحد منهما البينة أنه له فقضى النبي صلى الله عليه وسلم
به بينهما، ووصله الطبراني بذكر جابر بن سمرة بإسنادين في أحدهما حجاج بن أرطاه والراوي عنه سويد بن عبد العزيز، وفى الآخر ياسين الزيات والثلاثة ضعفاء.
حديث (شاهداك أو يمينه) سبق تخريجه حديث (لا ضرر ولا ضرار) سبق تخريجه حديث (أن هندا قالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل شحيح..) متفق عليه عن عائشة رضى الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبى سفيان عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينى من النفقة ما يكفيني ويكفى بنى إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل على في ذلك من جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (خذى من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفى بنيك) اللغة: المدعى في اللغة كل من ادعى نسبا أو علما أو ادعى ملك شئ نوزع(20/205)
فيه أو لم ينازع، ولا يقال في الشرع مدع إلا إذا نازع غيره، وسميت البينة بينة وهى الشهود، لانها تبين عن الحق وتوضحه بعد خفائه من بان الشئ.
إذا ظهر، وأبنته أظهرته وتبين لى ظهر ووضح.
قوله (امتحان الشهود) وهو اختبارهم، محنت الشئ وامتحنته أي اختبرته والاسم المحنة وأصله من محنت البئر محنا إذا خرجت ترابها وطينها.
قوله (الترجيح) مأخوذ من رجحان الميزان، ورجحت بفلان إذا كنت أرزن منه، وقوم مراجيح في الحلم، ومعناه أن يكون إحدى الحجتين أقوى بزيادة شئ ليس في الاخرى.
قوله (ونقده الثمن) النقد ضد الفقد وهو إحضاره في المجلس
قوله (وعزيا الدعوى) يقال عزيته إلى أبيه، وعزوته أي نسبته إليه، واعتزى هو أي انتمى وانتسب، وفى الحديث من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا أي من انتسب وانتمى، وذلك قولهم يا آل فلان قوله (قدحا في البينة) القدح مثل الجرح، يقال قدحت في نسبه أي طعنت قوله (أزج) على وزن فعل محرمك مخفف، الارج ضرب من الابنية والجمع آزج وآزاج، قال الاعشى: بناه سلميان بن داود حقة
* له أزج صم وطئ موثق ويروى أرج عال وهو كالعقود في محاريب المساجد وبين الاساطين قوله (موضع جب) هو السرداب ووعاء الماء، وقد ذكرنا أن صحن الدار وسطها.
قوله (مسناة) قال الهروي: المسناة ضفين يبنى للسبيل يرده.
سميت مسناة لان فيها مفاتيح الماء، يقال سنيت الشئ إذا فتحته قال الشاعر: إذا الله سنى عقد أمر تيسرا وذكر في مواضع من الكتاب ما يدل أن المسناة تجمع الماء من النهر، ولم أقف منه على حقيقة، وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى (سيل العرم) أن العرم المسناة، وكان ذلك سدا يجمع فيه ماء السيول قوله (مراهقا) هو الذى قارب الاحتلام، وقد ذكر(20/206)
قوله (المتاع الذى في الدار) هو ههنا الاثات وآلات البيت والابنية ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف حر مكلف رشيد، وإن تداعيا عينا لم تخل من أربعة أحوال.
1 - أن لا تكون بيد أحد ولا ثم ظاهر يعمل به ولا بينة فيتحالفان
ويتناصفانها، وإن وجد ظاهر يرجح أنها لاحدهما عمل به فيحلف بها ويأخذها 2 - أن تكون بيد أحدهما فهى له بيمينه، فإن لم يحلف قضى عليه بالنكول ولو أقام بينة.
3 - أن تكون بينيهما كشئ كل ممسك ببعضه فيتحالفان ويتناصفانه فإن قويت يد أحدهما كحيوان واحد سائقة والآخر راكبه فللثانى بيمينه لان تصرفه أقوى، ومتى كان لاحدهما بينة فالعين له لحديث الحضرمي والكندي فإن كان لكل واحد منهما بينة به وتساوتا من كل وجه وتعارضتا وتساقطتا فيتحالفان ويتناصفان ما بأيديهما ويقترعان فيما عداه، فمن خرجت له القرعة فهو بيمينه، وإن كانت العين بيد أحدهما فهو داخل والاخر خارج، وبينة الخارج مقدمة على بينة الداخل لحديث (البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه) الترمذي.
لكن لو أقام الخارج بينة أنها ملكه والداخل بينة أنه اشتراها منه قدمت بينة الداخل لما معها من زياده العلم 4 - أن تكون بيد ثالث فإن ادعاها لنفسه حلف لكل واحد يمينا، فإن نكل أخذاها منه مع بدلها أي مثلها واقترعا عليها، وان أقر بها لهما اقتسماها وحلف لكل واحد يمينا وحلف كل واحد لصاحبه على النصف المحكوم له به، وإن قال هي لاحدهما وأجمله فصدقاه لم يحلف وإلا حلف يمينا واحدة ويقرع بينهما، فمن قرع حلف وأخذها لحديث أبى هريرة (أن رجلين تداعيا عينا لم يكن لواحد منهما بينة، فأمرهما رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يستهما على اليمين أحبا أم كرها) أبو داود.
وروى الشافعي نحوه عن ابن المسيب.(20/207)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب اليمين في الدعاوى
إذا ادعى رجل على رجل حقا فأنكره ولم يكن للمدعى بينة، فإن كان ذلك في غير الدم حلف المدعى عليه، فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعى، وقد بينا ذلك في باب الدعاوى، وان كانت الدعوى في دم ولم يكن للمدعى بينة فإن كان في قتل لا يوجب القصاص نظرت فإن كان هناك لوث حلف المدعى خمسين يمينا وقضى له بالدية.
والدليل عليه ما روى سهل بن أبى جثمة أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خبير من جهد أصابهما، فأتى محيصة وذكر أن عبد الله طرح في فقير أو عين ماء فأتى يهودا فقال أنتم والله قلتموه؟ قالوا والله ما قتلناه، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن أخو المقتول إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذهب محيصة يتكلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكبر الكبر، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن ياذنوا بحرب من الله ورسوله، فكتب إلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك فكتبوا إنا والله ما قتلناه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: أتحلفون خمسين وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا لا، قال اتحلف لكم يهود؟ قالوا لا ليسوا بمسلمين، فوداه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عنده فبعث إليهم بمائة ناقة، قال سهل لقد ركضتنى منها ناقة حمراء، ولان باللوث تقوى جنبة المدعى ويغلب على الظن صدقه فسمعت يمينه كالمدعى إذا شهد له عدل وحلف معه.
وان كانت الدعوى في قتل يوجب القود ففيه قولان: قال في القديم يجب القود بأيمان المدعى لانها حجة يثبت بها قتل العمد فوجب بها القود كالبينة.
وقال في الجديد لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم أو يأذنوا
يحرب من الله ورسوله، فذكر الدية ولم يذكر القصاص، ولانه حجة لا يثبت(20/208)
بها النكاح فلا يثبت بها القصاص كالشاهد واليمين، فإن قلنا بقوله القديم وكانت الدعوى على جماعة وجب القود عليهم.
وقال أبو إسحاق رحمه الله لا يقتل إلا واحد يختاره الولى لانها بينة ضعيفة فلا يقتل بها جماعة، وهذا خطأ لان الجماعة عندنا تقتل بالواحد، والقسامة على هذا القول كالبينة في إيجاب القود فإذا قتل بها الواحد قتل بها الجماعة.
(فصل)
وإن كان المدعى جماعة ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، لان ما حلف به الواحد إذا انفرد حلف به كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى.
والقول الثاني: أنه يقسط عليهم الخمسون يمينا على قدر مواريثهم لانه لما قسط عليهم ما يجب بأيمانهم من الدية على قدر مواريثهم وجب أن تقسط الايمان أيضا على قدر مواريثهم، وإن دخلها كسر جبر الكسر، لان اليمين الواحدة لا تتبعض فكملت، فإن نكل المدعى عن اليمين ردت اليمين على المدعى عليه فيحلف خمسين يمينا لقوله عليه الصلاة والسلام (تبرئكم يهود منهم بخمسين يمينا) ولان التغليظ بالعدد لحرمة النفس، وذلك يوجد في يمين المدعى والمدعى عليه وان كان المدعى عليه جماعة ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا.
(والثانى)
أن الخمسين تقسط على عددهم، والصحيح من القولين ههنا أن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، والصحيح من القولين في المدعين أنهم يحلفون خمسين يمينا، والفرق بينهما أن كل واحد من المدعى عليه ينفى عن نفسه ما ينفيه لو انفرد، وليس كذلك المدعون، فإن كل واحد منهم لا يثبت لنفسه
ما يثبته إذا انفرد.
(فصل)
فأما إذا لم يكن لوث ولا شاهد فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) ولان اليمين انما جعلت في جنبة المدعى عند اللوث لقوة جنبته باللوث، فإذا عدم اللوث حصلت القوة في جنبة المدعى عليه لان الاصل براءة ذمته وعدم القتل فعادت اليمين إليه.(20/209)
وهل تغلظ بالعدد؟ فيه قولان
(أحدهما)
أنها لا تغلظ بل يحلف يمينا واحدة، وهو اختيار المزني لانها يمين توجهت على المدعى عليه ابتداء فلم تغلظ بالعدد كما في سائر الدعاوى.
(والثانى)
أنها تغلظ فيحلف خمسين يمينا وهو الصحيح لان التغليظ بالعدد لحرمة الدم وذلك موجود مع عدم اللوث، فإن قلنا إنها يمين واحدة فإن كان المدعى عليه جماعة حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، فإن نكلوا ردت اليمين على المدعى، فإن كان واحدا حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، وإن قلنا يغلظ بالعدد وكان المدعى عليه واحدا حلف خمسين يمينا.
وان كانوا جماعة فعلى القولين.
(أحدهما)
أنه يحلف كل واحد خمسين يمينا.
(والثانى)
أنه يقسط على عدد رؤوسهم فإن نكلوا ردت اليمين على المدعى فإن كان واحدا حلف خمسين يمينا، وإن كانوا جماعة فعلى القولين
(أحدهما)
أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا
(والثانى)
أنه يقسط عليهم خمسون يمينا على قدر مواريثهم من الدية.
وإذا نكل المدعى عليه فحلف المدعى وقضى له، فإن كان في قتل يوجب المال قضى له بالدية، وإن كان في قتل يوجب القصاص وجب
القصاص قولا واحدا، لان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالبينة في أحد القولين وكالاقرار في القول الاخر والقصاص يجب بكل واحد منهما.
(فصل)
وإن ادعى القتل على اثنين وعلى أحدهما لوث دون الاخر حلف المدعى على صاحب اللوث لوجود اللوث وحلف الذى لا لوث عليه لعدم اللوث وإن ادعى القتل على جماعة لا يصح اشتراكهم على القتل لم تسمع دعواه لانها دعوى محال، وإن ادعى القتل على ثلاثة وهناك لوث فحضر منهم واحد وغاب اثنان وأنكر الحاضر حلف المدعى خمسين يمينا، فإن حضر الثاني وأنكر ففيه أوجهان:
(أحدهما)
أنه يحلف عليه خمسين يمينا، لانهما لو حضرا ذكر كل واحد منهما في يمينه فإذا انفرد وجب أن يكرر ذكره.
والوجه الثاني أنه يحلف خمسا وعشرين يمينا لانهما لو حضرا حلف عليهما(20/210)
خمسين يمينا، فإذا انفرد وجب أن يحلف عليه نصف الخمسين، فإن حضر الثالث وأنكر ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يحلف عليه خمسين يمينا
(والثانى)
أنه يحلف عليه ثلث خمسين يمينا ويجبر الكسر فيحلف سبع عشرة يمينا.
وإن قال قتله هذا عمدا ولا أعلم كيف قتله الاخران أقسم على الحاضر ووقف الامر إلى أن يحضر الاخران، فإن حضرا وأقرا بالعمد ففى القود قولان، وان أقرا بالخطأ وجب على الاول ثلث الدية مغلظة، وعلى كل واحد من الآخرين ثلث الدية مخففة، وان أنكر القتل ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يحلف لانه لا يعلم ما يحلف عليه، ولا يعلم الحاكم ما يحكم به
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أن يحلف لان جهله بصفة القتل ليس بجهل بأصل القتل، فإذا حلف حبسا حتى يصفا القتل.
وإن قال قتله هذا وتفر لا أعلم عددهم، فإن قلنا إنه لا يجب القود
لم يقسم على الحاضر لانه لا يعلم ما يخصه، وان قلنا انه يجب القود ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يقسم لان الجماعة تقتل بالواحد فلم يضر الجهل بعددهم
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق أنه لا يقسم لانه ربما عفا عن القود على الدية ولا يعلم ما يخصه منها.
(فصل)
واللوث الذى يثبت لاجله اليمين في جنبة المدعى هو أن يوجد معنى يغلب معه على الظن صدق المدعى، فإن وجد القتيل في محلة أعدائه لا يخالطهم غيرهم كان ذلك لوثا فيحلف المدعى، لان قتيل الانصار وجد في خبير وأهلها أعداء للانصار، فجعل النبي ى صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعين، فصار هذا أصلا لكل من يغلب معه على الظن صدق المدعى، فيجعل القول قول المدعى مع يمينه، وان كان يخالطهم غيرهم لم يكن لوثا لجواز أن يكون قتله غيرهم، وان تفرقت جماعة عن قتيل في دار أو بستان وادعى الولى أنهم قتلوه فهو لوث، فيحلف المدعى أنهم قتلوه لان الظاهر أنهم قتلوه، وان وجد قتيل في زحمة فهو لوث، فإن ادعى الولى أنهم قتلوه حلف وقضى له، وان وجد قتيل في أرض وهناك رجل معه سيف مخضب بالدم وليس هناك غيره فهو لوث، فإن ادعى الولى عليه القتل حلف عليه لان الظاهر أنه قتله فإن كان هناك غيره من سبع أو رجل مول لم يثبت اللوث على صاحب السيف لانه يجوز أن يكون قتله السبع أو الرجل المولى(20/211)
ان تقابلت طائفتان فوجد قتيل من احدى الطائفتين فهو لوث على الطائفة الاخرى، فإن ادعى الولى أنهم قتلوه حلف وقضى له بالدية، لان الظاهر أنه لم تقتله طائفة، وان شهد جماعة من النساء أو العبيد على رجل بالقتل نظرت، فان جاءوا دفعة واحدة وسمع بعضهم كلام البعض لم يكن ذلك لوثا، لانه يجوز أن يكونوا قد تواطأوا على الشهادة، وان جاؤا متفرقين واتفقت أقوالهم ثبت
اللوث ويحلف الولى معهم، وان شهد صبيان أو فساق أو كفار على رجل بالقتل وجاءوا دفعة واحدة وشهدوا لم يكن ذلك لوثا، لانه يجوز أن يكونوا قد تواطأوا على الشهادة، فإن جاءوا متفرقين وتوافقت أقوالهم ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه ذلك لوث: لانه اتفاقهم على شئ واحد من غير تواطؤ يدل على صدقهم.
(والثانى)
أنه ليس بلوث لانه لا حكم لخبرهم فلو أثبتنا بقولهم لوثا لجعلنا خبرهم حكما، وان قال المجروح قتلني فلان ثم مات لم يكن قوله لوثا، لانه دعوى ولا يعلم به صدقه فلا يجعل لوثا، فان شهد عدل على رجل بالقتل، فان كانت الدعوى في قتل يوجب المال حلف المدعى يمينا وقضى له بالدية، لان المال يثبت بالشاهد واليمين، وان كانت في قتل يوجب القصاص حلف خمسين يمينا ويجب القصاص في قوله القديم والدية في قوله الجديد.
(فصل)
وان شهد واحد أنه قتله فلان بالسيف وشهد آخر أنه قتله بالعصا لم يثبت القتل بشهادتهما، لانه لم تتفق شهادتهما على قتل واحد، وهل يكون ذلك لوثا يوجب القسامة في جانب المدعى، قال في موضع: يوجب القسامة، وقال في موضع: لا يوجب القسامة.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ هو لوث يوجب القسامة قولا واحدا لانهما اتفقاء على اثبات القتل وانما اختلفا في صفته وجعل القول الآخر غلطا من الناقل.
وقال أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل ان ذلك ليس بلوث ولا يوجب القسامة قولا واحدا، لان كل واحد منهما يكذب الآخر فلا يغلب على الظن(20/212)
صدق ما يدعيه، والقول الآخر غلط من الناقل، ومنهم من قال في المسألة
قولان
(أحدهما)
أنه لوث يوجب القسامة،
(والثانى)
ليس بلوث، ووجههما ما ذكرناه، وإن شهد واحد انه قتله فلان وشهد آخر أنه أقر بقتله لم يثبت القتل بشهادتهما، لان أحدهما شهد بالقتل والآخر شهد بالاقرار وثبت اللوث على المشهود عليه وتخالف المسألة قبلها فان هناك كل واحد منهما يكذب الاخر، وههنا كل واحد منهما غير مكذب للآخر بل كل واحد منهما يقوى الآخر فيحلف المدعى مع من شاء منهما، فإن كان القتل خطأ حلف يمينا واحدة وثبتت الدية، فإن حلف مع من شهد بالقتل وجبت الدية على العائلة لانها تثبت بالبينة، وإن حلف مع من شهد بالاقرار وجبت الدية في ماله لانها تثبت بالاقرار، وان كان القتل موجبا للقصاص حلف المدعى خمسين يمينا ووجب له القصاص في أحد القولين والدية في الاخر، وإن ادعى على رجل أنه قتل وليه ولم يقل عمدا ولا خطأ وشهد له بما ادعاه شاهد لم يكن ذلك لوثا، لانه لو حلف مع شاهده لم يمكن الحكم بيمينه، لانه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفى موجبه فسقطت الشهادة وبطل اللوث.
(فصل)
وإن شهد شاهدان أن فلانا قتله أحد هذين الرجلين ولم يعينا ثبت اللوث فيحلف الولى على من يدعى القتل عليه، لانه قد ثبت أن المقتول قتله أحدهما فصار كما لو وجد بينهما مقتول، فإن شهد شاهد على رجل أنه قتل أحد هذين الرجلين لم يثبت اللوث، لان اللوث ما يغلب معه على الظن صدق ما يدعيه المدعى ولا يعلم أن الشاهد لمن شهد من الوليين فلا يغلب على الظن صدق واحد من الوليين فلم يثبت في حقه لوث، وان ادعى أحد الوارثين قتل مورثه على رجل في موضع اللوث وكذبه الاخر سقط حق المكذب من القسامة وهل يسقط اللوث في حق المدعى فيه قولان.
(أحدهما)
أنه لا يسقط فيحلف ويستحق نصف الدية وهو اختيار المزني
لان القسامة مع اللوث كاليمين مع الشاهد، ثم تكذيب أحد الوارثين لا يمنع(20/213)
الآخر من أن يحلف مع الشهادة فكذلك تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الاخر من أن يقسم مع اللوث.
(والقول الثاني) أنه يسقط، لانه اللوث يدل على صدق المدعى من جهة الظن وتكذيب المنكر يدل على كذب المدعى من جهة الظن فتعارضا وسقطا وبقى القتل بغير لوث فيحلف المدعى عليه على ما ذكرناه وإن قال أحد الابنين قتل أبى زيد ورجل آخر لا أعرفه، وقال الآخر قتله عمرو ورجل آخر لا أعرفه أقسم كل واحد على من عينه ويستحق عليه ربع الدية، لان كل واحد منهما غير مكذب للآخر لجواز أن يكون الاخر هو الذى ادعى عليه أخوه، فإن رجعا وقال كل واحد منهما علمت أن الآخر هو الذى ادعى عليه أخى أقسم كل واحد منهما على الذى ادعى عليه أخوه ويستحق عليه ربع الدية.
وإن قال كل واحد منهما علمت أن الاخر غير الذى ادعى عليه أخى صار كل واحد منهما مكذبا للآخر، فإن قلنا: إن تكذيب أحدهما لا يسقط اللوث أقسم كل واحد منهما على الذى يمينه ثانيا واستحق عليه ربع الدية.
وإن قلنا: إن التكذيب يسقط اللوث بطلت القسامة، فإن أخذ شيئا رده ويكون القول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن ادعى القتل على رجل عليه لوث فجاء آخر وقال أنا قتلته ولم يقتله هذا لم يسقط حق المدعى من القسامة بإقراره وإقراره على نفسه لا يقبل، لان صاحب الدم لا يدعيه وهل للمدعى أن يرجع ويطالب المقر بالدية فيه قولان.
(أحدهما)
أنه ليس له مطالبته، لان دعواه على الاول ابراء لكل من سواه
(والثانى)
أن له أن يطالب، لان دعواه على الاول باللوث من جهة الظن والاقرار يقين فجاز أن يترك الظن ويرجع إلى اليقين، وان ادعى على رجل قتل العمد فقيل له صف العمد ففسره بشبه العمد فقد نقل المزني أنه لا يقسم، وروى الربيع أنه يقسم، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ.(20/214)
(أحدهما)
أنه لا يقسم لان بقوله قتله عمدا أبرأ العائلة، وبتفسيره أبرا القاتل (والقول الثاني) أنه يقسم وتجب الدية على العاقلة، لان المعول على التفسير وقد فسر بشبه العمد، ومنهم من قال يقسم قولا واحدا لما بينا.
وقوله (لا يقسم) معناه لا يقسم على ما ادعاه
(فصل)
وإن كانت الدعوى في الجنابة على الطرف ولم تكن شهادة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه لان اللوث قضى به في النفس بحرمة النفس فلا يقضى به في الطرف كالكفارة، وهل تغلظ اليمين فيه بالعدد؟ فيه قولان.
(أحدهما)
لا تغلظ لانه يسقط فيه حكم اللوث فسقط فيه حكم التغليظ بالعدد
(والثانى)
أنه تغلظ بالعدد لانه يجب فيه القصاص والدية للغلظة فوجب فيه تغليظ اليمين، فإن قلنا لا تغلظ حلف المدعى عليه يمينا واحدة، وإن قلنا تغلظ فإن كان في جناية توجب دية كاملة كاليدين غلظ بخمسين يمينا، وإن كان فيما لا توجب دية كاملة كاليد الواحدة ففى قدر التغليظ قولان.
(أحدهما)
أنه يغلظ بخمسين يمينا لانه التغليظ لحرمة الدم، وذلك موجود في اليد الواحدة.
(والثانى)
أنه تغلظ بحصته من الدية، لان ديته دون دية النفس فلم تغلظ بما تغلظ به في النفس.
(فصل)
فإن كانت الدعوى في قتل عبد وهناك لوث ففيه طريقان:
(أحدهما)
أنه يبنى ذلك على أن العاقلة هل تحمل قيمته بالجناية، فإن قلنا تحمل العاقلة قيمته ثبتت فيه القسامة للسيد، وان قلنا لا تحمل لم تثبت القسامة.
(والثانى)
وهو قول أبى العباس أن للسيد القسامة قولا واحدا، لان القسامة لحرمة النفس فاستوى فيه الحر والعبد كالكفارة، فإن قلنا إن السيد يقسم أقسم المكاتب في قتل عبده، فإن لم يقسم حتى عجز عن أداء الكتابة أقسم المولى، وان قتل عبد وهناك لوث ووصى مولاه بقيمته لام ولده ولم يقسم السيد حتى مات ولم تقسم الورثة فهل تقسم أم الولد؟ فيه قولان.
(أحدهما)
تقسم
(والثانى)
لا تقسم كما قلنا في غرماء الميت إذا كان له دين(20/215)
وله شاهد ولم تحلف الورثة الغرماء يقسمون في أحد القولين ولا يقسمون في الآخر وقد بينا ذلك في التفليس.
(فصل)
وإن قتل مسلم وهناك لوث فلم يقسم وليه حتى ارتد المدعى لم يقسم لانه إذا أقدم على الردة وهى من أكبر الكبائر لم يؤمن أن يقدم على اليمين الكاذبة فإن أقسم صحت القسامة.
وقال المزني رحمه الله لا تصح لانه كافر فلا يصح يمينه بالله، وهذا خطأ لان القصد بالقسامة اكتساب المال والمرتد من أهل الاكتساب، فإذا أقسم وجب القصاص لوارثه أو الدية، فإن رجع إلى الاسلام كان له، وإن مات على الردة كان ذلك لبيت المال فيتا.
وقال أبو على بن خيران وأبو حفص بن الوكيل: يبنى وجوب الدية يقسامته على حكم ملكه، فإن قلنا إن ملكه لا يزول بالردة أو قلنا إنه موقوف فعاد إلى الاسلام ثبتت الدية، وإن قلنا إن ملكه يزول الردة أو قلنا انه موقوف فلم يسلم حتى مات لم تثبت الدية، وهذا غلط لان اكتسابه للمال يصح على الاقوال
كلها، وهذا اكتساب.
(فصل)
ومن توجهت عليه يمين في دم غلظ عليه في اليمين لما روى أن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مر بقوم يحلفون بين الركن والمقام، فقال أعلى دم؟ قيل لا، قال أفعلى عظيم من المال؟ قيل لا، قال لقد خشيت أن يبها الفاس بهذا المقام، وإن كانت اليمين في نكاح أو طلاق أو حد قذف أو غيرهما مما ليس بمال ولا المقصود منه المال غلظ لانه ليس بمال ولا المقصود منه المال فغلظ اليمين فيه كالدم.
وإن كانت اليمين في مال أو ما يقصد به المال، فإن كان يبلغ عشرين مثقالا غلظ وان لم يبلغ ذلك لم يغلظ، لان عبد الرحمن بن عوف فرق بين المال العظيم وبين ما دونه، فإن كانت اليمين في دعوى عتق فإن كان السيد هو الذى يحلف، فإن كانت قيمة العبد تبلغ عشرين مثقالا غلظ اليمين، وان لم تبلغ عشرين مثقالا لم يغلظ لان المولى يحلف لاثبات المال ففرق بين القليل والكثير كأروش(20/216)
الجنايات فإن كان الذى يحلف هو العبد غلظ قلت قيمته أو كثرت لانه يحلف لاثبات العتق، والعتق ليس بمال ولا المقصود منه المال فلم تعتبر قيمته كدعوى القصاص، ولا فرق بين أن يكون في طرف قليل الارش، أو في طرف كثير الارش.
(فصل)
والتغليظ قد يكون بالزمان وبالمكان وفى اللفظ، فأما التغليظ بالمكان ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يستحب
(والثانى)
أنه واجب، وأما التغليظ بالزمان فقد ذكر الشيخ أبو حامد الاسفراينى رحمه الله أنه يستحب، وقد بينا ذلك في اللعان.
وقال أكثر أصحابنا: إن التغليظ بالزمان كالتغليظ بالمكان.
وفيه قولان.
وأما التغليظ باللفظ فهو مستحب، وهو أن يقول والله الذى لا إله هو
عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احلف رجلا فقال قل والله الذى لا إله إلا هو، ولان القصد باليمين الزجر عن الكذب، وهذه الالفاظ أبلغ في الزجر وأمنه من الاقدام على الكذب.
وان اقتصر على قوله (والله) أجزأه، لان النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في احلاف ركانة على قوله والله.
وان اقتصر على صفة من صفات الذات كقوله وعزة الله أجزأه لانها بمنزلة قوله والله في الحنث في اليمين وايجاب الكفارة.
وأن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي رحمه الله عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف.
قال ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف، قال الشافعي وهو حسن، ولان القرآن من صفات الذات، ولهذا يجب بالحنث فيه الكفارة.
وان كان الحالف يهوديا أحلفه بالله الذى أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق، وان كان نصرانيا أحلفه بالله الذى أنزل الانجيل على عيسى، وان كان مجوسيا أو وثنيا أحلفه بالله الذى خلقه وصوره
(فصل)
ولا يصح اليمين في الدعوى الا أن يستحلفه القاضى لان ركمانة ابن عبد يزيد قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا رسول الله انى طلقت امرأتي سهيبة ألبتة والله ما أردت الا واحدة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(20/217)
والله ما أردت إلا واحدة، قال ركانة والله ما أردت إلا واحدة، ولان الاعتبار بنية الحاكم فإذا حلف من غير استحلافه نوى مالا يحنث به فيجعل ذلك طريقا إلى إبطال الحقوق، وإن وصل بيمينه استثناء أو شرطا أو وصله بكلام لم يفهمه أعاد عليه اليمين من أولها، وإن كان الحالف أخرس ولا يفهم إشارته وقف
الامر إلى أن يفهم إشارته، فإن طلب المدعى أن يرد اليمين عليه لم يرد اليمين عليه لان رد اليمين يتعلق بنكول المدعى عليه، ولا يوجد النكول، فإن كان الذى عليه اليمين حلف بالطلاق أنه لا يحلف بيمين مغلظة، فان كان التغليظ مستحقا عليه لزمه أن يحلف.
وان حنث في يمينه بالطلاق كما لو حلف بالطلاق أنه لا يحلف عند القاضى فان امتنع جعل ناكلا وردت اليمين على خصمه، وان كان التغليظ غير مستحق لم يلزمه أن يحلف يمينا مغلظة، وان امتنع من التغليظ لم يجعل ناكلا.
(فصل)
وان حلف على فعل نفسه في نفى أو إثبات حلف على القطع لان علمه يحيط بحاله فيما فعل وفيما لم يفعل، وان حلف على فعل غيره فان كان في إثبات حلف على القطع لان له طريقا إلى العلم مما فعل غيره، وان كان على نفى حلف على نفى العلم فيقول: والله لا أعلم أن أبى أخذ منك مالا ولا أعلم أن أبى أبرأك من دينه لانه لا طريق له إلى القطع بالنفى فلم يكلف اليمين عليه.
(فصل)
وإن ادعى عليه دين من بيع أو قرض فأجاب بأنه لا يستحق عليه شئ ولم يتعرض إليه والقرض لم يحلف الا على ما أجاب ولا يكلف أن يحلف على نفى البيع والقرض لانه يجوز أن يكون قد استقرض منه أو ابتاع ثم قضاه أو أبرأه منه، فإذا حلف على نفى البيع والقرض حلف كافيا، وان أجاب بأنه ما باعنى ولا أقرضنى ففى الاحلاف وجهان،
(أحدهما)
أنه يحلف أنه لا يستحق عليه شئ ولا يكلف أن يحلف على نفى البيع والقرض لما ذكرناه من التعليل (الثاني) أنه يحلف على نفى البيع والقرض لانه نفى ذلك في الجواب فلزمه أن يحلف على النفى، فان ادعى رجل على رجل ألف درهم فأنكر حلف أنه(20/218)
لا يستحق عليه ما يدعيه ولا شيئا منه فان حلف أنه لا يستحق عليه الالف لم يجزه لان يمينه على نفى الالف لا يمنع وجوب بعضها.
(فصل)
وان كان لجماعة على رجل حق فوكلوا رجلا في استحلافه لم يجز أن يحلف لهم يمينا واحدة، لان لكل واحد منهم عليه يمينا فلم تتداخل، فإن رضوا بأن يحلف لهم يمينا واحدة ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه يجوز كما يجوز أن يثبت ببينة واحدة حقوق الجماعة
(والثانى)
وهو المذهب أنه لا يجوز لان القصد من اليمين الزجر وما يحصل من الزجر بالتفريق لا يحصل بالجمع فلم يجز، وان رضوا كما لو رضيت المرأة أن يقتصر الزوج في اللعان على شهادة واحدة.
(الشرح) حديث سهل بن أبى خيثمة أن عبد الله ومحبصة خرجا..أخرجه مسلم والشافعي، وأخرج بعضه البخاري والبيهقي عن سهل بن أبى حثمة أن عبد الله بن سهل الانصاري ومحيصة ابنا مسعود خرجا إلى خيبر فتفرقا لحاجتهما، فقتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذهب عبد الرحمن أخو المقتول ليتكلم فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الكبر الكبر فتكلم حويصة ومحيصة فذكروا له شأن عبد الله بن سهل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيحلف منكم خمسون فتستحقون قاتلكم أو صاحبكم، فقالوا يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد، قال رسول الله صلى عليه وسلم: تبرئكم يهود بخمسين يمينا، قالو يارسول الله كيف نقبل ايمان قوم كفار، قال فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده.
حديث (اما أن يدوا صاحبكم..) أخرجه البيهقى حديث (يبرئكم يهود بخمسين يمينا..) سبق تخريجه حديث (لو أن الناس أعطوا بدعواهم..) سبق تخريجه
حديث (اليمين على المدعين..) سبق تخريجه.
حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقتصر في احلاف ركانة على قوله والله(20/219)
أخرجه البيهقى وذكره الشوكاني في نيل الاوطار بدون تخريج في الشرح حديث أن مطرف بن الزبير كان يحلف على المصحف.
قال الشافعي أخبرني مطرف بن مازن بإسناد لا أحفظه أن الزبير أمر بأن يحلف على المصحف وقال رأيت مطرف بصنعاء يحلف على المصحف وقال قد كان من حكام الآفاق من يستحلف على المصحف وذلك عندي حسن ذكر البيهقى هذا كله في السنن الكبرى.
حديث (لان ركانة قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا رسول الله إنى طلقت ... ) أخرجه البيهقى في السنن الكبرى والشافعي.
اللغة: اللوث بالفتح القوة.
قال الاعشى.
بذات لوث عفرناه إذا عثرت
* فالتعس أدنى لها من أن يقال لغا ومنه سمى الاسد ليثا، فاللوث قوه جنبة المدعى، وأما اللوث بالضم فهو الاسترخاء، واللوثة مس جنون، وسميت الايمان ههنا القسامة لتكرارها وكثرتها، وان كانت كل يمين قسما، وقيل لانها تقسم على الاولياء في الدم قوله (من جهد أصابهما) الجهد بالفتح المشقة وجهد الرجل فهو مجهود من المشقة، يقال أصابهم قحط من المطر فجهدوا.
قوله (طرح في فقير) الفقير مخرج الماء من القناة، وهو حفير كالبئر.
وعبد الله بن سهل المقتول وأخوه عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود.
قوله (الكبر الكبر) معناه ليبدأ الكلام الاكبر، وكان عبد الرحمن أصغر
من صاحبيه.
قوله (وإما أن يأذنوا بحرب من الله) يأذنوا يعلموا والاذان الاعلام، كأنه الايقاع في الاذن.
قوله (لحويصة ومحيصة) السماع فيهما بسكون الياء وياء التخفيف وبرهان الدين بن الحضرمي أسمعناه يكسر الياء وبالتشديد.
قوله (يبرئكم يهود) أي يحلفون فيبرءون من القتل، يقال برئ من الدين وأبرأته أنا فهو برئ وخلى منه.(20/220)
قوله (مغلظة) الغلظ في الجسم الكثافة والثخونة والامتلاء، وفيما سواه الكثرة، فتغلظ الايمان بكثره العدد وبالصفات، وتغليظ الدية تكثيرها بالاسنان التى تكثر قيمتها.
قوله (تواطأوا على الشهادة) توافقوا قوله (لان المعول) أي المعتمد.
والعرب تقول عولت عليه في الامر أي استعنت به فيه واعتمدت عليه.
قوله (لقد خشيت أن يبهأ الناس) أي يأنسوا به فتقل هيبته عندهم فيتهاونوا به ويحتقروه وقد ذكر.
قوله (من صفات الذات) أي حقيقته وثبوت وجوده في النفس من غير صورة ولا شخص ولا مثال.
إن ادعى ولى قتيل على رجل أو على جماعة وعليهم لوث ظاهر، وهو ما يغلب على القلب صدق المدعى بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرهم كقتيل خيبر وجد بينهم، والعداوة بين الانصار وبين أهل خيبر ظاهرة، أو اجتمع جماعة في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل، أو وجد في ناحية قتيل وثم
رجل مختضب بدمه، أو يشهد عدل واحد على أن فلانا قتله أو قاله جماعة من العبيد والنسوان جاءوا متفرقين بحيث لا يمكن تواطؤهم ونحو ذلك فيبدأ بيمين المدعى فيحلف خمسين يمينا ويستحق دعواه، فإن نكل المدعى عن اليمين ردت إلى المدعى عليه فيحلف خمسين يمينا على نفى القتل ويجب بها الدية المغلظة، فإن لم يكن هناك لوث فالقول قول المدعى عليه مع يمينه كما في سائر الدعاوى، ثم يحلف يمينا واحدا أو خمسين يمينا قولان أصحهما الاول فإن كان المدعون جماعة توزع الايمان عليهم على قدر مواريثهم على أصح القولين ويجبر الكسر.
والقول الثاني يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وإن كان المدعى عليهم جماعة وزع على عدد رؤوسهم على أصح القولين ان كان الدعوى في الاطراف سواء كان اللوث أو لم يكن فالقول قول المدعى عليه مع يمينه هذا كله بيان مذهب الشافعي.(20/221)
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبدأ بيمين المدعى بل يحلف المدعى عليه مع يمينه.
هذا كله بيان مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: إذا وجد قتيل في محلة يختار الامام خمسين رجلا من صلحاء أهلها ويحلفهم على أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا، ثم يأخذ الدية من أرباب الخطة، فإن لم يعرفوا فمن سكانها.
قال صديق حسن خان في الروضة الندية: اعلم أن هذا الباب قد وقع فيه لكثير من أهل العلم مسائل عاطلة من الدلائل، ولم يثبت في حديث صحيح ولا حسن قط ما يقتضى الجمع بين الايمان والدية بعض الاحاديث مصرح بوجوب الايمان فقط وبعضها بوجوب الدية فقط والحاصل أنه قد كثر الخلط والخبط في هذا الباب إلى غاية
فلم يتعبدنا الله بإثبات الاحكام العاطلة عن الدلائل، ولا سيما إذا خالفت ما هو شرع ثابت وكانت تستلزم أخذ المال الذى هو معصوم إلا بحقه.
وإذا كان القاتل من جماعة محصورة ثبتت وهى خمسين يمينا يختارهم ولى القتيل والدية إن نكلوا عليهم، وإن حلفوا سقطت، وان التبس الامر كانت الدية من بيت المال.(20/222)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الشهادات
تحمل الشهادة واداؤها فرض لقوله عز وجل (ولا يأب الشهداء إذاما دعوا) وقوله تعالى (ولا تكتمو الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) قال ابن عباس رضى الله عنه من الكبائر كتمان الشهادة، لان الله تعالى يقول (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) فهى فرض على الكفاية، فإن قام بها من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لان المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم، وإن كان في موضع لا يوجد فيه غيره ممن يقع به الكفاية تعين عليه، لانه لا يحصل المقصود إلا به فتعين عليه، ويجب الاشهاد على عقد النكاح وقد بيناه في النكاح وهل يحب على الرجعة؟ فيه قولان وقد بيناهما في الرجعة.
وأما ما سوى ذلك من العقود فالبيع والاجارة وغيرهما فالمستحب أن يشهد عليه لقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) ولا يَجِبُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتاع من أعرابي فرسا فجحده، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يشهد لى؟ فقال خزيمة بن ثابت الانصاري أنا أشهد لك، قال لم تشهد ولم تحضر فقال نصدقك على أخبار السماء ولا نصدقك على أخبار الارض، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم ذا الشهادتين.
(فصل)
ومن كانت عنده شهادة في حد لله تعالى فالمستحب أن لا يشهد به لانه مندوب إلى ستره ومأمور بدرئه، فإن شهد به جاز، لانه شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنا عند عمر رضى الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره من الصحابة عليهم ذلك.
ومن كانت عنده شهادة لآدمي، فإن كان صاحبها يعلم بذلك لم يشهد قبل أن يسأل لقوله عليه الصلاة والسلام: خير الناس قرنى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يفشو الكذب حتى شهد الرجل قبل أن يستشهد، وإن كان صاحبها لا يعلم شهد قبل أن يسأل، لما روى زيد بن خالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم(20/223)
قال (خير الشهود الذى يأتي بالشهادة قبل أن يسألها)
(فصل)
ولا يجوز لمن تعين عليه فرض الشهادة أن يأخذ عليها أجرة لانه فرض تعين عليه فلم يجز أن يأخذ عليه أجرة كسائر الفرائض، ومن لم يتعين عليه ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه يجوز له أخذ الاجرة، لانه لا يتعين عليه فجاز أن يأخذ عليه أجرة كما يجوز على كتب الوثيقة.
(والثانى)
أنه لا يجوز لانه تلحقه التهمة بأخذ العوض (الشرح) أثر ابن عباس (من الكبائر..) لم أجده ويشهد له ما أخرجته كتب السنة، ومن المتفق عليه (ألا أحدثكم بأكبر الكبائر، الاشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا، فجلس وقال شهادة الزور ثلاثا أو قول الزور..الخ حديث (النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا..) أخرجه البيهقى في السنن الكبرى عن عمارة بن خزيمة أن عمه أخبره أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتاع فرسا من رجل من الاعراب، وفى رواية (ابتاع فرسا من سواه بن الحارث المحاسبى) فاستتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضى ثمن فرسه، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشى وأبطأ الاعرابي فطفق رجال يعترضون الاعرابي ويساومونه الفرس ولا يشعرون أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أبتاعه حتى زاد بعضهم الاعرابي في السوم فلما زادوا نادى الاعرابي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه والا بعته، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سمع نداء الاعرابي حتى أتى الاعرابي فقال: أو ليس قد ابتعت منك؟ قال لا والله ما بعتكه، قال أين ابتعته منك، فطفق الناس يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالاعرابي وهما يتراجعان، فطفق الاعرابي يقول هلم شهيدا انى بايعتك؟ فقال خزيمه أنا أشهد أنك بايعته، فأقبل رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خزيمه فقال بم تشهد(20/224)
قال بتصديقك، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهادة خزيمة شهادة رجلين وفى رواية (من شهد له خزيمة أو شهد عليه فهو حسبه) أثر (شهد أبو بكرة ونافع ... ) أخرجه ابن أبى شيبة في مصنفه والبيهقي.
حديث (خير الصحابة قرنى..) متفق عليه والترمذي من حديث عمران ابن حصين.
وروى ابن حبان في صحيحه من حديث عمر في خطبته وفيه: ثم يفشوا الكذب حتى يحلف الرجل على اليمين قبل أن يستحلف عليها، ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد عليها.
) الحديث.
حديث زيد بن خالد (خير الشهود الذى يأتي..) أخرجه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهنى.
اللغة: أصل الشهادة الحضور، من قولهم شهد المكان، وشهد الحرب أي
حضرها، وللشاهدة المعاينة مع الحضور، والشهادة خير قطع بما حضر وعاين ثم قد يكون بما علم واستفاض وقيل إن الشهادة مأخوذة من العلم، من قوله تعالى (شهد الله) قيل علم وبين، كأن الشاهد يبين ما يوجب حكم الحاكم قوله (شهد أبو بكرة ونافع) وزياد هم اخوة أمهم سمية جارية للحارث بن كلدة الثقفى، وكان أبو بكرة نسب في الموالى.
قال البيهقى: أبو بكرة بن مسروح، وقيل اسمه نفيع بن الحارث، ونافع ينسب إلى الحارث وزياد ينسب إلى أبى سفيان بن حرب وصدقه معاوية رضى الله عنه وانتفى عن أبيه غبيل زوج سمية أمه، فهجره أخوه أبو بكرة إلى أن مات حين انتسب إلى الزانى وصدق أن أمه زنت، لان أبا سفيان زعم أنه زنى بأمه في الجاهلية قوله (خير الناس قرنى) القرن من الناس أهل زمان واحد واشتقاقه من الاقران.
وكل طبقة مقترنين في وقت فهم قرن، قال: إذا ذهب القرن الذى أنت منهم
* وخلفت في قرن فأنت غريب والقرن مثلك في السن تقول هذا على قرنى أي على سنى قوله (ثم يفشو) أي يكثر وينشر من فشا المال إذا تناسل وكثر، وفشا الخبر أيضا إذا ذاع.
قلت: وهذا الباب ممالا خلاف فيه كثيرا وسبق الكلام عليه(20/225)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل
لا تقبل شهادة الصبى لقوله تعالى (وأستشهدو اشهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وأمرأتان) والصبى ليس من الرجال، ولما رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ.
وَعَنْ النَّائِمِ
حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يفيق) ولانه إذا لم يؤتمن على حفظ أمواله فلان لا يؤتمن على حفظ حقوق غيره أولى.
ولا تقبل شهادة المجنون للخبر والمعنى الذى ذكرناه، ولا تقبل شهادة المغفل الذى يكثر منه الغلط لانه لا يؤمن أن يغلط في شهادته.
وتقبل الشهادة ممن يقل منه الغلط لان أحدا لا ينفك من الغلط.
واختلف أصحابنا في شهادة الاخرس، فمنهم من قال تقبل لان إشارته كعبارة الناطق في نكاحه وطلاقه فكذلك في الشهادة، ومنهم من قال لا تقبل لان إشارته أقيمت مقام العبارة في موضع الضرورة وهو في النكاح والطلاق لانها لا تستفاد إلا من جهته ولا ضرورة بنا إلى شهادته لانها تصح من غيره بالنطق فلا تجوز بإشارته.
(فصل)
ولا تقبل شهادة العبد لانها أمر لا يتبعض بنى على التفاضل فلم يكن للعهد فيه مدخل كالميراث والرحم، ولا تقبل شهادة الكافر لما روى معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تجوز شهادة أهل دين على أهل دين آخر إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم، ولانه إذا لم تقبل شهادة من يشهد بالزور على الآدمى، فلان لا تقبل شهادة من شهد بالزور على الله تعالى أولى، ولا تقبل شهادة فاسق لقوله تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فإن ارتكب كبيرة كالغصب والسرقة والقذف وشرب الخمر فسق وردت شهادته، سواء فعل ذلك مرة أو تكرر منه والدليل عليه قوله عزوجل(20/226)
(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون)
وَرُوِيَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذى غمر على أخيه، فورد النص في القذف والزنا وقسنا عليهما سائر الكبائر، ولان من ارتكب كبيرة ولم يبال شهد بالزور ولم يبال، وإن تجنب الكبائر وارتكب الصغائر فإن كان ذلك نادرا من أفعاله لم يفسق ولم ترد شهادته، وإن كان ذلك غالبا في أفعاله فسق وردت شهادته لانه لا يمكن رد شهادته بالقليل من الصغائر لانه لا يوجد من يمحض الطاعة ولا يخلطها بمعصية وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية إلا يحيى ابن زكريا (ولهذا قال الشاعر: من لك بالمحض وليس محض
* يخبث بعض ويطيب بعض ولا يمكن قبول الشهادة مع الكثير من الصغائر، لان منى استجاز الاكثار من الصغائر استجاز أن يشهد بالزور فعلقنا الحكم على الغالب من أفعاله، لان الحكم الغالب، والنادر لا حكم له ولهذا قال الله تعالى (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم الفالحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون)
(فصل)
ولا تقبل شهادة من لا مروءة له كالقوال والرقاص ومن يأكل في الاسواق ويمشى مكشوف الرأس في موضع لا عادة له في كشف الرأس فيه لان المروءة هي الانسانية، وهى مشتقة من المرء، ومن ترك الانسانية لم يؤمن أن يشهد بالزور، ولان من لا يستحيى من الناس في ترك المروءة لم يبال بما يصنع، والدليل عليه ما رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ان مما أدرك الناس من كلام النبوة الاولى إذا لم تستحى فاصنع ما شئت) واختلف أصحابنا في أصحاب الصنائع الدنيئة إذا حسنت طريقتهم في الدين كالكناس والدباغ والزبال والنخال والحجام والقيم بالحمام، فمنهم من قال لا تقبل شهادتهم لدناءتهم ونقصان مروءتهم، ومنهم من قال تقبل شهادتهم لقوله تعالى
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ولان هذه صناعات مباحة وبالناس إليها حاجة فلم ترد بها الشهادة.(20/227)
(فصل)
ويكره اللعب بالشطرنج لانه لعب لا ينتفع به في أمر الدين ولا حاجة تدعو إليه فكان تركه أولى ولا يحرم، لانه روى اللعب به عن ابن عباس وابن الزبير وأبى هريرة وسعيد بن المسيب رضى الله عنهم.
وروى عن سعيد بن جبير أنه كان يلعب به استدبارا ومن لعب به من غير عوض ولم يترك فرضا ولا مروءة لم ترد شهادته، وان لعب به على عوض نظرت فإن أخرج كل واحد منهما مالا على أن من غلب منهما أخذ المالين فهو قمار تسقط به العدالة وترد به الشهادة لقوله تعالى (انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) والميسر القمار وإن أخرج أحدهما مالا على أنه ان غلب أخذ ماله وان غلبه صاحبه أخذ المال لم يصح العقد لانه ليس من آلات الحرب فلا يصح بذلك العوض فيه ولا ترد به الشهادة لانه ليس بقمار، لان القمار أن لا يخلو أحد من أن يغنم أو يغرم، وههنا أحدهما يغنم ولا يغرم، وان اشتغل به عن الصلاة في وقتها مع العلم فإن لم يكثر ذلك منه لم ترد شهادته، وإن أكثر منه ردت شهادته لانه من الصغائر ففرق بين قليلها وكثيرها، فإن ترك فيه المروءة بأن يلعب به على طريق أو تكلم في لعبه بما يسخف من الكلام، أو اشتغل بالليل والنهار ردت شهادته لترك المروءة.
(فصل)
ويحرم اللعب بالترد وترد به الشهادة، وقال أبو إسحاق رحمه الله هو كالشطرنج، وهذا خطأ لما روى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: من لعب بالترد فقد عصى الله ورسوله وروى بُرَيْدَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: من لعب بالترد فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه، ولان المعول فيه على ما يخرجه الكعبان فشابه الازلام، ويخالف الشطرنج فإن المعول فيه على رأيه، ويحرم اللعب بالاربعة عشر لان المعول فيها على ما يخرجه الكعبان فحرم كالترد.
(فصل)
ويجوز اتخاذ الحمام لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال اتخذ زوجا من حمام،(20/228)
ولان فيه منفعة لانه يأخذ بيضه وفرخه، ويكره اللعب به لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلا يسعى بحمامة فقال: شيطان يتبع شيطانة، وحكمه في رد الشهادة حكم الشطرنج وقد بيناه.
(فصل)
ومن شرب قليلا من النبيذ لم يفسق ولم ترد شهادته، ومن أصحابنا من قال إن كان يعتقد تحريمه فسق وردت شهادته، والمذهب الاول، لان استحلال الشئ أعظم من فعله بدليل أن من أستحل الزنا كفر، ولو فعله لم يكفر فإذا لم ترد شهادة من استحل القليل من النبيذ فلان لا يرد شربه أولى ويجب عليه الحد، وقال المزني رحمه الله لا يجب كما لا ترد شهادته، وهذا خطأ لان الحد المردع والنبيذ كالخمر في الحاجة إلى الردع لانه يشتهى كما يشتهى الخمر ورد الشهادة لارتكاب كبيرة لانه إذا أقدم على كبيرة أقدم على شهادة الزور وشرب النبيذ ليس بكبيرة، لانه مختلف في تحر يمه، وليسى من أقدم على مختلف فيه اقدم على شهادة الزور وهى من الكبائر.
(فصل)
ويكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة، لما روى ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) ولا يحرم لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بجارية لحسان بن ثابت وهى
تقول: هل على ويحكما
* إن لهوت من حرج فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حرج إن شاء الله.
وروت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: كان عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر رضى الله عنه فقال: مزمار الشيطان في بَيْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعهما فإنهما أيام عيد، فإن غنى لنفسه أو سمع غناء جاريته ولم يكثر منه لم ترد شهادته، لان عمر رضى الله عنه كان إذا دخل في داره يرنم بالبيت والبيتين، واستؤذن عليه لعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه وهو يترنم، فقال أسمعتني يا عبد الرحمن، قال نعم، قال إنا إذا خلونا في منازلنا نقول كما يقول الناس.(20/229)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وهو من زهاد الصحابة وفقائها أنه قال إنى لاجم قلبى شيئا من الباطل لاستعين به على الحق، قأما إذا أكثر من الغناء أو اتخذه صنعة يغشاه الناس للسماع أو يدعى إلى المواضع ليغنى ردت شهادته لانه سفه وترك للمروءة، وإن اتخذ جارية ليجمع الناس لسماعها ردت شهادته لانه سفه وترك مروءة ودناءة.
(فصل)
ويحرم استعمال الآلات التى تطرب من غير غناء كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار، والدليل عليه قوله تعالى (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) قال ابن عباس انها الملاهي.
وروى عبد الله ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إن الله حرم على أمتى الخمر والميسر والمزمار والكوبة والقنين) فا لكوبة الطبل القنين البرط.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال (تمسخ أمة من أمتى بشربهم الخمر وضربهم بالكوبة والمعازف) ولانها تطرب وتدعو إلى الصد عن ذكر الله تعالى
وعن الصلاة والى اتلاف المال فحرم كالخمر، ويجوز ضرب الدف في العرس والختان دون غيرهما لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) ويكره الفضيب الذى يزيد الغناء طربا ولا يطرب إذا انفرده لانه تابع الغناء، فكان حكمه حكم الغناء، وأما رد الشهادة فما حكمنا بتحريمه من ذلك فهو من الصغائر، فلا ترد الشهادة بما قل منه وترد بما كثر منه كما قلنا في الصغائر، وما حكمنا بكراهيته واباحته فهو كالشطرنج في رد الشهادة وقد بيناه.
(فصل)
وأما الحداء فهو مباح لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة نام بالوادي حاديان.
وروت عائشة رضى الله عنها قالت: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال، وكان أنجشة مع النساء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحه (حرك بالقوم) فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فأعتقت الابل في السير، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أنجشة رويدك رفقا بالقوارير.(20/230)
ويجوز استماع نشيد الاعرابي لما روى عمر وبن الشريد عن أبيه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه ثم قال أمعك شئ من شعر أمية بن أبى الصلت فقلت نعم فأنشدته بيتا فقال هيه فأنشدته بيتا آخر فقال هيه، فأنشدته إلى أن بلغ مائة بيت.
(فصل)
ويستحب تحسين الصوت بالقرآن لما روى الشافعي رحمه الله بإسناده عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: ما أذن الله لشئ كإذنه لنبى حسن الترنم بالقرآن، وروى حسن الصوت بالقرآن، وروى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: حسنوا القرآن بأصواتكم، وقال عليه الصلاة والسلام (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وحمله الشافعي على تحسين الصوت وقال: لو كان المراد به الاستغناء بالقرآن لقال من لم يتغان بالقرآن.
وأما القراءة بالالحان فقد قال في موضع أكرهه، وقال في موضع آخر لا أكرهه وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين، فالذي قال أكرهه أراد أذا جاوز الحد في التطويل وادغام بعضه في بعض، والذى قال لا أكرهه إذا لم يجاوز الحد.
(فصل)
ويجوز قول الشعر لانه كان للنبى صلى الله عليه وسلم شعراء، منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، ولانه وفد عليه الشعراء ومدحوه وجاءه كعب بن زهير وأنشده: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
* متيم عندها لم يفد مكبول فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بردة كانت عليه فابتاعها منه معاوية بعشرة آلاف درهم وهى التى مع الخلفاء إلى اليوم وحكمه حكم الكلام في حظره واباحته وكراهيته واستحبابه ورد الشهادة به، والدليل عليه ما روى عبد الله ابن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام)
(فصل)
ومن شهد بالزور فسق وردت شهادته لانها من الكبائر، والدليل عليه ما روى خريم بن فاتك قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الصبح(20/231)
ولما انصرف قام قائما ثم قال عدلت شهادة الزور بالاشراك بالله (ثلاث مرات) ثم تلا قوله عز وجل (فاجتنبوا الرجس من الآوثان واجتنبوا قول الزور) وروى محارب بن دثار عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ (شاهد الزور لا يزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار ويثبت أنه شاهد زور) من ثلاثة أوجه (أحدها) أن يقر أنه شاهد زور
(والثانى)
أن تقوم البينة أنه شاهد زور (والثالث) أن يشهد بما يقطع بكذبه بأن شهد على رجل أنه قتل أوزنى في وقت معين في فوضع معين، والمشهود عليه في ذلك الوقت كان في بلد آخر، وأما إذا شهد بشئ أخطأ فيه فلم يكن شاهد زور لانه لم يقصد الكذب.
وإن شهد لرجل بشئ وشهد به آخر أنه لغيره لم يكن شاهد زور، لانه ليس تكذيب أحدهما بأولى من تكذيب الآخر فلم يقدح ذلك في عدالته.
وإذا ثبت أنه شاهد زور ورأى الامام تعزيره بالضرب أو الحبس أو الزجر فعل، وإن رأى أن يشهر أمره في صوته ومصلاه وقبيلته وينادى عليه أنه شاهد زور فاعرفوه فعل، لما روى بَهْزَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إذكروا الفاسق بما فيه ليحذره الناس) ولان في ذلك زجرا له ولغيره عن فعل مثله.
وحكى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قال (إن كان من أهل الصيانة لم يناد عليه لقوله عليه الصلاة والسلام (أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم) وهذا غير صحيح لان بشهادة الزور يخرج عن أن يكون من أهل الصيانة.
(فصل)
ولا تقبل شهادة جار إلى نفسه نفعا ولا دافع عن نفسه ضررا لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذى إحنة) والظنين المتهم، والجار إلى نفسه نفعا والدافع عنها ضررا متهمان، فإن شهد المولى لمكاتبه بمال لم تقبل شهادته لانه يثبت لنفسه حقا، لان مال المكاتب يتعلق به حق المولى.
وإن شهد الوصي اليتيم والوكيل للموكل فيما فوض النظر فيه إليه لم تقبل لانهما يثبتان لانفسهما حق المطالبة والتصرف، وان وكله في شئ ثم عزله لم يشهد فيها(20/232)
كان النظر فيه إليه، فإن كان قد خاصم فيه لم تقبل شهادته، وان لم يكن قد خاصم فيه ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه تقبل لانه لا يلحقه تهمة.
(والثانى)
أنه لا تقبل لانه بعقد الوكالة يملك الخصومة فيه.
وان شهد الغريم لمن له عليه دين وهو محجور عليه بالفلس لم تقبل شهادته لانه يتعلق حقه بما يثبت له بشهادته، وان شهد لمن له عليه دين وهو موسر قبلت شهادته لانه لا يتعين حقه فيما شهد به، وان شهد له وهو معسر قبل الحجر ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه لا يقبل لانه يثبت له حق المطالبة
(والثانى)
أنه يقبل لانه لا يتعلق بما يشهد به له حق
(فصل)
وان شهد رجلان على رجل أنه جرح أخاهما وهما وارثاه قبل الاندمال لم تقبل لانه قد يسرى إلى نفسه فيجب الدم به لهما، وان شهدا له بمال وهو مريض فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه لا تقبل لانهما متهمان لانه قد يموت فيكون المال لهما فلم تقبل، كما لو شهدا بالجراحة، والثانى وهو قول أبى الطيب بن سلمة أنه تقبل لان الحق يثبت للمريض ثم ينتقل بالموت اليهما، وفى الجناية إذا وجبت الدية وجبت لهما لانها تجب بموته فلم تقبل.
وان شهدا له بالجراحة وهناك ابن قبلت شهادتهما لانهما غير متهمين وان مات الابن وصار الاخوان وارثين نظرت فإن مات الابن بعد الحكم بشهادتهما لم تسقط الشهادة لانه حكم بها.
وان مات قبل الحكم بشهادتهما سقطت الشهادة كما لو فسقا قبل الحكم.
وان شهد المولى على غريم مكاتبه والوصى على غريم الصبى أو الوكيل على غريم الموكل بالابراء من الدين أو بفسق شهود الدين لم تقبل الشهادة لانه دفع
بالشهادة عن نفسه ضررا وهو حق المطالبة.
وان شهد شاهدان من عاقلة القاتل بفسق شهود القتل، فإن كانا موسرين لم تقبل شهادتهما لانهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما ضررا وهو الدية، وإن كانا فقيرين فقد قال الشافعي رضى الله عنه ردت شهادتهما، وقال في موضع(20/233)
آخر إذا كانا من أباعد العصبات بحيث لا يصل العقل اليهما حتى يموت من قبلهما قبلت شهادتهما، فمن أصحابنا من نقل جواب إحداهما إلى الآخرى وجعلهما على قولين:
(أحدهما)
أنه تقبل لانهما في الحال لا يحملان العقل.
(والثانى)
أنه لا تقبل لانه قد يموت القريب قبل الحول ويوسر الفقير فيصيران من العاقلة، ومنهم من حملهما على ظاهرهما فقال تقبل شهادة الاباعد ولا تقبل شهادة القريب الفقير، لان القريب معدود في العاقلة واليسار يعتبر عند الحول وربما يصير موسرا عند الحول، والبعيد غير معدود في العاقلة وانما يصير من العاقلة إذا مات الاقرب.
(فصل)
ولا تقبل شهادة الوالدين للاولاد وان سفلوا، ولا شهادة الاولاد للوالدين وان علوا وقال المزني رحمه الله وأبو ثور: تقبل، ووجهه قوله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) فعم ولم يخص، ولانهم كغيرهم في العدالة فكانوا كغيرهم في الشهادة، وهذا خطأ لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذى احنة) والظنين المتهم، وهذا متهم لانه يميل إليه ميل الطبع، ولان الولد بضعة من الوالد، ولهذا قال عليه السلام: يا عائشة ان فاطمة بضعة منى يربينى ما يربيها) ولان نفسه كنفسه وماله كماله، ولهذا قال عليه السلام لابي معشر الدرامى:
أنت ومالك لابيك.
وقال صلى الله عليه وسلم: ان أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وان ولده من كسبه، ولهذا يعتق عليه إذا ملكه ويستحق عليه النفقة إذا احتاج، والآية نخصها بما ذكرناه.
والاستدلال بأنهم كغيرهم في العدالة يبطل بنفسه فإنه كغيره في العدالة، ثم لا تقبل شهادته لنفسه، وتقبل شهادة أحدهما على الآخر في جميع الحقوق.
ومن أصحابنا من قال: لا تقبل شهادة الولد على الوالد في ايجاب القصاص وحد القذف لانه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه فلا يلزمه ذلك بقوله والمذهب الاول لانه انما ردت شهادته له للتهمة ولا تهمة في شهادته عليه.(20/234)
ومن عدا الوالدين والاولاد من الاقارب كالاخ والعم وغيرهما تقبل شهادة بعضهم لبعض لانه لم يجعل نفس أحدهما كنفس الآخر في العتق ولا ماله كماله في النفقة، وإن شهد شاهدان على رجل أنه قذف ضرة أمهما ففيه قولان: قال في القديم لا تقبل لانهما يجران إلى أمهما نفعا لانه يجب عليه بقذفها الحد فيحتاج أن يلاعن، وتقع الفرقة بينه وبين ضرة أمها، وقال في الجديد تقبل وهو الصحيح، لان حق أمهما لا يزيد بمفارقه الضرة، وإن شهد أنه طلق ضرة أمهما ففيه قولان
(أحدهما)
أنه تقبل
(والثانى)
أنه لا تقبل، وتعليلهما ما ذكرناه
(فصل)
وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر لان النكاح سبب لا يعتق به أحدهما على الآخر بالملك فلم يمنع من شهادة أحدهما للآخر كقرابة ابن العم ولا تقبل شهادة الزوج على الزوجة في الزنا، لان شهادته دعوى خيانة في حقه فلم تقبل كشهادة المودع على المودع بالخيانة في الوديعة، ولانه خصم لها فيما يشهد به فلم تقبل، كما لو شهد عليها أنها جنت عليه.
(فصل)
ولا تقبل شهادة العدو على عدوه لقوله عليه الصلاة والسلام (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذى إحنة) وذو الاحنة هو العدو، ولانه
متهم في شهادته بسبب منهى عنه فلم تقبل شهادته.
(فصل)
ومن جمع في الشهادة بين أمرين فردت شهادته في أحدهما نظرت فإن ردت العداوة بينه وبين المشهود عليه، مثل أن يشهد على رجل أنه قذفه وأجنبيا ردت شهادته في حقه وفى حق الأجنبي، لان هذه الشهادة تضمنت الاخبار عن عداوة بينهما وشهادة العدو على عدوه لا تقبل، فإن ردت شهادته في أحدهما لتهمة غير العداوة بأن شهد على رجل أنه اقترض من أبيه ومن أجنبي مالا ردت شهادته في حق أبيه، وهل ترد في حق الأجنبي؟ فيه قولان.
(أحدهما)
أنها ترد كما لو شهد أنه قذفه وأجنبيا
(والثانى)
أنها لا ترد لانها ردت في حق أبيه للتهمة ولا تهمة في حق الأجنبي فقبلت.
(فصل)
ومن ردت شهادته بمعصية فتاب قبلت شهادته لقوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم(20/235)
شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا) التوبة توبتان، توبة في الباطن وتوبة في الظاهر، فأما التوبة في الباطن فهى ما بينه وبين الله عزوجل، فينظر في المعصية فإن لم يتعلق بها مظلمة لآدمي ولا حد لله تعالى كالاستمتاع بالاجنبية فيما دون الفرج فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها، والدليل عليه قوله تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، وأولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) .
وإن تعلق بها حق آدمى فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على أن لا يعود إلى مثلها وأن يبرأ من حق الآدمى اما أن يؤديه أو يسأله حتى
يبرئه منه، لما روى ابراهيم النخعي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رأى رجلا يصلى مع النساء فضربه بالدرة، فقال الرجل والله لئن كنت أحسنت فقد ظلمتني وإن كنت أسأت فما علمتني، فقال عمر اقتص، قال لا أقتص، قال فاعف، قال لا أعفو، فافترقا على ذلك، ثم لقيه عمر من الغد فتغير لون عمر، فقال له الرجل يا أمير المؤمنين أرى ما كان منى قد أسرع فيك، قال أجل، قال فأشهد أنى قد عفوت عنك.
وان لم يقدر على صاحب الحق نوى أنه ان قدر أوفاه حقه، وان تعلق بالمعصية حد لله تعالى كحد الزنا والشرب، فإن لم يظهر ذلك فالاولى أن يستره على نفسه لقوله عليه السلام: من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله تعالى، فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله، وان أظهره لم يأثم، لان ما عزا والغامدية اعترفا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالزنا فرجمهما ولم ينكر عليهما، وأما التوبة في الظاهر وهى التى تعود بها العدالة والولاية وقبول الشهادة فينظر في المعصية فإن كانت فعلا كالزنا والسرقة لم يحكم بصحة التوبة حتى يصلح عمله مدة لقوله تعالى (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) وقدر أصحابنا المدة بسنة.
لانه لا تظهر صحة التوبة في مدة قريبة فكانت أولى المدد بالتقدير سنة، لانه تمر فيها الفصول الاربعة التى تهيج فيها الطبائع وتغير فيها الاحوال(20/236)
وإن كانت المعصية بالقول فإن كانت ردة فالتوبة منها أن يظهر الشهادتين، وإن كانت قذفا فقد قال الشافعي رحمه الله التوبة منه إكذابه نفسه.
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الاصطخرى رحمه الله: هو أن يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله.
ووجهه ما روى عن عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (توبة القاذف إكذابه نفسه) وقال أَبُو إِسْحَاقَ
وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هو أن يقول قذفي له كان باطلا، ولا يقول إنى كنت كاذبا لجواز أن يكون صادقا فيصير بتكذيبه نفسه عاصيا كما كان بقذفه عاصيا، ولا تصح التوبة منه إلا بإصلاح العمل على ما ذكرناه في الزنا والسرقة.
وفأما إذا شهد عليه بالزنا ولم يتم العدد فإن قلنا إنه لا يجب عليه الحد فهو على عدالته ولا يحتاج إلى التوبة، وإن قلنا انه يجب عليه الحد وجبت التوبة، وهو أن يقول ندمت على ما فعلت ولا أعود إلى ما أنهم به، فإذا قال هذا عادت عدالته، ولا يشترط فيه إصلاح العمل، لان عمر رضى الله عنه قال لابي بكرة تب أقبل شهادتك، وان لم يتب لم تقبل شهادته ويقبل خبره لان أبا بكره ردت شهادته وقبلت أخباره، وان كانت معصية بشهادة زور فالتوبة منها أن يقول كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله، ويشترط في صحة توبته إصلاح العمل على ما ذكرناه.
(فصل)
وان شهد صبى أو عبد أو كافر لم تقبل شهادته، فإن بلغ الصبى أو أعتق العبد أو أسلم الكافر وأعاد تلك الشهادة قبلت، وان شهد فاسق فردت شهادته ثم تاب وأعاد تلك الشهادة لم تقبل.
وقال المزني وأبو ثور رحمهما الله تقبل كما تقبل من الصبى إذا بلغ والعبد إذا أعتق والكافر إذا أسلم، وهذا خطأ لان هؤلاء لا عار عليهم في رد شهادتهم فلا يلحقهم تهمة في اعادة لشهادة بعد الكمال، والفاسق عليه عار في رد شهادته فلا يؤمن أن يظهر لتوبة لازالة العار فلا تنفك شهادته من التهمة، وان شهد المولى لمكاتبه بمال فردت شهادته ثم أدى المكاتب مال الكتابة وعتق وأعاد المولى الشهادة له بالمال فقد قال أبو العباس فيه وجهان.
(أحدهما)
أنه تقبل لان شهادته لم ترد بمعرة وانما ردت لانه ينسب لنفسه(20/237)
حقا بشهادته وقد زال هذا المعنى بالعتق
(والثانى)
أنها لا تقبل وهو الصحيح لانه ردت شهادته للتهمة فلم تقبل إذا أعادها كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة.
وإن شهد رجل على رجل أنه قذفه وزوجته فردت شهادته ثم عفا عن قذفه وحسنت الحال بينهما ثم أعاد الشهادة للزوجة لم تقبل شهادته لانها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل، وإن زالت التهمة كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة، وإن شهد لرجل أخوان له بجراحة لم تندمل وهما وارثان له فردت شهادتهما ثم اندملت الجراحة فأعاد الشهادة ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه تقبل لانها ردت للتهمة وقد زالت التهمة
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق وظاهر المذهب أنها لا تقبل لانها شهادة ردت التهمة فلم تقبل كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد (الشرح) حديث (رفع القلم ... ) سبق تخريجه حديث معاذ (لا تجوز شهاده أهل دين.
) أخرجه البيهقى من طريق الاسود بن عامر قال شاذان: كنت عند سفيان الثوري فسمعت شيخا يحدث عن يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة عن أبى هريرة نحوه وأتم منه، قال شاذان فسألت عن اسم الشيح فقالوا عمر بن راشد، قال البيهقى وكذا رواه الحسن بن موسى وعلى بن الجعد عن عمر بن راشد، وعمر ضعيف، وضعفه أبو حاتم، وفى معارضة حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض، أخرجه وفى اسناده مجالد وهو شئ الحفظ.
حديث (لا تجوز شهادة خائن.
) روى بلفظ (لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة.
) أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي من حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وسياقهم أتم وليس
فيه ذكر الزانى والزانية إلا عند أبى داود وسنده قوى، ورواه الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة وفيه زياد بن يزيد الشامي وهو ضعيف(20/238)
وقال الترمذي: لا يعرف هذا من حديث الزهري الا من هذا الوجه، ولا يصح عندنا اسناده.
وقال أبو زرعة في العلل منكر، وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزى ورواه الدارقطني والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو وفيه عبد الاعلى وهو ضعيف وشيخه يحيى بن سعيد الفارسى وهو ضعيف.
قال البيهقى: لا يصح من هذا شئ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ (ما منا من عصى أو هم..) قال الحافظ بن حجر (ما من آدمى الا وقد أخطأ أو هم بخطيئة الا يحيى بن زكريا لم يهم بخطيئة ولم يعملها) رواه أحمد وأبو يعلى والحاكم من حديث ابن عباس وهذا لفظه (ما من أحد من ولد آدم الا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا) وهو مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عن يوسف بن مهران وهما ضعيفان، وفى الباب عن أبى هريرة وفى الطيرانى في الاوسط وكامل بن عدى في ترجمة حجاج بن سليمان، وأخرجه البيهقى بإسناد صحيح إلى الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، وأخرجه عبد الرزاق من طريق سعيد ابن المسيب مرسلا.
حديث (ان مما أدرك الناس ... ) رواه البخاري وأحمد والطبراني من حديث أبى مسعود البدرى ومالك في الموطأ: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، وأن نصنع أيماننا على شمائلنا في الصلاة يُنْمِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أثر (روى اللعب بالشطرنج عن ابن عباس ... ) قال الحافظ أما ابن الزبير فلم أره، ويحتمل أنه يريد بهشام بن عروة بن الزبير كما ذكره الشافعي، وأما أبو هريرة فرواه أبو بكر الصولى في كتاب الشطرنج بسنده إليه وأخرج الشافعي وحكاه أيضا عن محمد بن سيرين وهشام ابن عروة أن سعيد بن جبير كان يلعب بالشطرنج استدبارا وكذا البيهقى حديث (من لعب بالترد..) أخرجه مالك وأحمد وأبو داود وابن ماجه(20/239)
والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث الجاموسى الاشعري، قال الحافظ ووهم من عزاه إلى تخريج مسلم.
حديث (من لعب بالترد ... ) أخرجه مسلم وقال أحمد عن موسى بن عبد الرحمن الخطمى أنه سمع محمد بن كعب يسأل عبد الرحمن: أخبرني ما سمعت أباك؟ قال سمعت أبى يقول سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (مثل الذى يلعب بالترد ثم يقوم فيصلى مثل الذى يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلى) حديث عبادة بن الصامت (أن رجلا شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ) لم أجده.
حديث (أن رجلا يسعى بحمامة..) أخرجه البيهقى وأبو داود حديث (الغناء ينبت النفاق..) أخرجه أبو داود بدون التشبيه والبيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعا وفيه شيخ لم يسم، ورواه البيهقى أيضا موقوفا، وفى الباب عن أبى هريرة رواه ابن عدى، وقال ابن طاهر أصح الاسانيد في ذلك أنه من قول ابراهيم، وروى في السنن الكبرى البيهقى أنه من قول ابن مسعود.
حديث (مر بجارية لحسان بن ثابت وهى تقول..) أخرجه البيهقى حديث عائشة (قالت كان عندي جاريتان تغنيان ... ) متفق عليه أثر عمر (كان إذا دخل داره ترنم..) ذكره المبرد في الكامل في قصة، وذكره البيهقى في المعرفة عن عمر وغيره ورواه المعافى النهرواني في كتاب الجليس والانيس وابن مسنده في المعرفة في ترجمة أسلم الحاوى في قصة، وروى أبو القاسم الاصبهاني في الترغيب شيئا من ذلك في قصة.
أثر عمر (واستؤذن عليه لعبد الرحمن بن عوف ... ) أخرج البيهقى قال السائب بن يزيد: فبينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق الحج ونحن نؤم مكة اعتزل عبد الرحمن رضى الله عنه الطريق ثم قال لرباح(20/240)
ابن المغترف غننا يا أبا حسان، وكان يحسن النصب، فبينا رباح يغنيه أدركهم عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خلافته فقال ما هذا؟ فقال عبد الرحمن ما بأس بهذا نلهو، فقال عمر رضى الله عنه: فإن كنت آخذا فعليك بشعر ضرار بن الخطاب، وضرار رجل من بى محارب بن فهر.
أثر أبى ذر (انى لاجم.
) لم أجده أثر ابن عباس عن آلات الطرب قال انها الملاهي أخرجه البيهقى بلفظ عن ابن عباس قال: الدف حرام والمعازف حرام والكوبة حرام والمزمار حرام.
حديث عبد الله بن عمرو (ان الله حرم على أمتى الخمر..) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي من حديث ابن عباس بهذا وزاد وهو الطبل وقال كل مسكر حرام من حديث ابن عمر، وبين في رواية أخرى
أن تفسير الكوبة من كلام على بن بذيمة، ورواه أبو داود من حديث ابن عمرو وزاد والغبيراء، وزاد أحمد فيه والمزمار، ورواه أحمد من حديث قيس بن سعد بن عبادة.
حديث (تمسخ أمة من الامم بشربهم الخمر ... ) أخرجه البخاري عن أبى عامر بلفظ (ليكون في أمتى أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم تروح عليهم سارحة لهم فيأتيهم رجل لحاجة فيقولون ارجع الينا غدا فبيتهم الله فيضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) ومسلم نحوه.
حديث (أعلنوا النكاح ... ) أخرجه الترمذي وابن ماجه والبيهقي عن عائشة وفيه (واضربوا عليه بالغربال) وفى اسناده خالد بن الياس وهو منكر الحديث، قال أحمد وفى رواية الترمذي عيسى بن ميمون وهو يضعف قاله الترمذي، وضعفه ابن الجوزى من الوجهين، فعم روى أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير (أعلنوا النكاح.
) وروى أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث محمد بن حاطب(20/241)
(فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف) وأدعى ابن الكمال جعفر الادنوى في كتاب الامتاع بأحكام السماع أن مسلما أخرج الحديث في صحيحه ووهم في ذلك وهما قبيحا.
حديث ابن مسعود (كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة نام بالوادي حاديان..) لم أجده.
حديث عائشة كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر وكان عبد الله ابن رواحة..) أخرجه النسائي من حديث قيس بن أبى حازم عن عمر بن
الخطاب، ورواه أيضا من حديث قيس عن أبى رواحة مرسلا وقوله صلى الله عليه وسلم (ارفق يا أنجشة ويحك رفقا بالقوارير) متفق عليه حديث عبد الله بن الشريد عن أبيه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه..) رواه مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: أردفني رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هل معك من شعر أمية بن أبى الطلت شئ قال نعم، قال هيه، قال فأنشدته بيتا فقال هيه، فأنشدته حتى بلغت مائة بيت، وفى رواية (وان كان في شعره تيسلم) ما رواه الشافعي (ما أذن الله كإذنه لنبى ... ) (ما أذن الله لشئ ما أذن لنبى حسن الصوت بالقرآن يجهر به، رواه البخاري ومسلم من وجه آخر.
حديث (حسن الصوت بالقرآن..) أخرج البيهقى عن عبد الرحمن بن السائب قال.
قدم علينا سعد بن مالك فأتيته مسلما فنسبني فانتسبت، فقال مرحبا يا ابن أخى بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول.
ان هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا) حديث البراء بن عازب (حسنوا القرآن بأصواتكم) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وابن حبان والحاكم من حديث البراء بن عازب (زينوا القرآن بأصواتكم) قلت: علقه البخاري بالجزم، ولابن حبان عن أبى هريرة والتزار عن عبد الرحمن بن عوف وللحاكم من طريق أخرى عن البراء (زينوا أصواتكم(20/242)
بالقرآن) وهى في الطبراني من حديث ابن عباس، ورجح هذه الرواية الخطابى وفيه نظر لما رواه الدارمي والحاكم بلفظ (زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت
الحق يزيد القرآن حسنا) فهذه الزيادة تؤيد معنى الرواية الاولى.
حديث (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) رواه البخاري وأحمد من حديث أبى هريرة وأحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وابن حبان من حديث سعد بن أبى وقاص، وفى الباب عن ابن عباس وعائشة في الحاكم، وعن أبى لبابة في سنن أبى داود، وقال الشافعي معنى هذا الحديث تحسين الصوت بالقرآن، وفى رواية أبى داود قال ابن أبى مليكة يحسنه ما استطاع، وقال ابن عيينة يجهر به، وقال وكيع يستغنى به.
وقيل غير ذلك في تأويله.
حديث (كان للنبى شعراء منهم حسان ... ) حسان بن ثابت (فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال اهجوا قريشا فإنها أشد على من رشق النبل، فأرسل إلى عبد الله بن رواحة فقال اهج فهجاهم، فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الاسد الضارى ثم ادلع لسانه فجعل يحركه ثم قال: والذى بعثك بالحق لافرينهم فرى الاديم فقال لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وان لى فيهم نسبا حتى يخلص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله قد لخص لى نسبك والذى بعثك بالحق لاسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين ... ) الحديث بطوله وفيه الشعر رواه مسلم.
ابن رواحة: في البخاري عن أبى هريرة أنه كان يقول في قصصه يذكر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أخا لكم لا يقول الرفث، يعنى بذلك عبد الله بن رواحة.
حديث عبد الله بن عمرو (الشعر بمنزلة الكلام) أخرجه الدارقطني مرفوعا من حديث عائشة وفيه عبد العظيم بن حبيب ضعيف
حديث خريم بن فاتك (قال صلى صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ... ) أخرجه البيهقى.(20/243)
حديث (شاهد الزور) أخرجه ابن ماجه وانفرد به وفيه محمد بن الفرات الكوفى كذبه أحمد، وقال في التقريب كذبوه.
حديث بهز بن حكيم (اذكروا الفاسق بما فيه..) قال الشوكاني في مجموعة الرسائل المنيرية صفحة 58 لم يصح ذلك بوجه من الوجوه.
حديث (أقيلوا ذوى الهيئات..) أخرجه البيهقى حديث ابن عمر (لا تقبل شهادة ظنين) سبق تخريجه حديث (يا عائشة ان فاطمة بضعة ... ) عن المسور بن محزمة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فاطمة بضعة منى من أذاها فقد آذانى، متفق عليه حديث معشر الدارمي أنت ومالك لابيك أخرجه ابن ماجه عن جابر والطبراني عن سمرة وابن مسعود.
حديث (ان أطيب ما أكل.
) أخرجه الحاكم وأبو داود وابن ماجه عن عمرو بلفظ (أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم) أثر ابراهيم النخعي أن عمر ضرب رجلا يعتلى.
أخرجه البيهقى أثر عمر (توبة القاذف إكذابه نفسه) أخرجه البيهقى، وقال الحافظ لم أره مرفوعا.
أثر عمر قال لابي بكرة: تب أقبل شهادتك.
أخرجه البخاري.
اللغة: قوله (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) يقال أشهدت واستشهدت بمعنى واحد، والشهيد والشاهد سواء بمعنى كالعالم والعليم، ومجمع على أشهاد
وشهداء وشهود وشهد، سمى خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين لانه حكم بشهادته وحده وأقام شهادته مقام شاهدين.
قوله (المغفل) الذى تكثر منه الغفلة وليس بمتيقظ ولا ذاكر قوله (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة) الخائن الذى أؤتمن فأخذ أمانته وقد وهم من قال هو السارق، وقد تقع الخيانة في غير المال، وذلك بأن يستودع سرا فيفشيه أو يؤمن على حكم فلا يعدل فيه.(20/244)
قوله (ولا ذى غمر) الغمر الحقد والغل، وقد غمر صدره على بالكسر يغمر غمرا وغمراء عن يعقوب، قوله (شهد بالزور) الزور الكذب وأصله الميل كأنه مال عن الصدق إلى الكذب، ومثله قوله تعالى (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم) وقيل هو مشتق من قولهم زورت في نفسي حديثا أصلحته وهيأته كأن شاهد الزور قد زور الشهادة في نفسه وهيأها ولم يسمع ولم ير.
قوله (بمحض الطاعة) أي يخلصها والمحض الخالص من كل شئ، قوله (يخبث بعض) الخبيث ضد الطيب، وقد خبثت خباثة وخبثا.
قوله (من استجاز) أي رآه جائزا سائغا، يقال جوز له ما صنع وأجاز له أي سوغ له ذلك والمروءة تهمز وتخفف، ويجوز التشديد وترك الهمزة فيها وهى الانسانية كما ذكر قال أبو زيد: مرؤ الرجل صار ذا مروءة، فهى مرء على فعيل وتمرأ تكلف المروءة قوله (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) معناه انما يمنع من فعل السوء والقبيح الحياء، فإذا عدم الحياء لم يمنعه منه مانع.
وقيل معناه إذا لم تستح صنعت ما شئت، وقيل اصنع ما شئت فأنت مجازى.
قوله (الصنائع الدنيئة) هي الخسيسة مأخوذة من الدنى.
وهو الخسيس مهموز، وقد دنأ الرجل إذا صار دنيئا لا خير فيه.
قوله (والزبال) الذى يحمل الزبل وهو السرجين
وموضعه المزبلة، والنخال هو الذى ينخل التراب يلتمس فيه الشئ التافه والشطرنج بكسر الشين في اللغة الفصيحة.
قوله (يلعب به استدبارا) الاستدبار خلاف الاستقبال أي يجعله خلف ظهره قوله (تكلم في لعبه بما يسخف) هو الكلام القذع الساقط، وأصل السخف رقة العقل، وقد سخف الرجل بالضم سخافة فهو سخيف، ويحرم اللعب بالنرد - ليس النرد بعربي _ وصورته أن يكون ثلاثون بندقا مع كل واحد من اللاعبين خمسة عشر ويكون فيه ثلاث كعاب مربعة، تكون في أرباع كل واحدة في ربع ست نقط وفى المقابلة نقطة، وفى الربع الثاني خمس نقط، وفى المقابلة نقطتان، وفى الربع الثالث أربع نقط وفى المقابلة ثلاث نقط، والاربعة عشر هي قطعة من خشب يحفر فيها ثلاثة(20/245)
أسطر فيجعل في تلك الحفر حضى صغار يلعبون بها، ذكره في البيان ويحرم اللعب بالاربعة عشر هي اللعبة التى تسميها العامة شاردة، وهو أربعة عشر بالفارسية، لان شعار أربعة وده عشرة بلغتهم، وهو حفيرات تجعل في لوح سطرا في أحد جانبيه وسطرا في الجانب الآخر، وتجعل في الحفر حصى صغار يلعبون بها.
وقال في الشامل ثلاثة أسطر.
قوله (من غير آلة مطربة) قد ذكرنا أن الطرب خفة نصيب الانسان لشدة حزن أو سرور.
قال الشاعر: وأرانى طربا في إثرهم
* طرب الواله أو كالمختبل وبين الجارية التى تنشد: هل على ويحكما
* إن لهوت من حرج؟ فقال لا حرج إن شاء الله.
قال ابن الانباري في الويح قولان، قال أهل التفسير: الويح الرحمة، وقالوا حسن أن يقول الرجل لمن يخاطبه ويحك.
والثانى قاله الفراء الويح والويس كنايتان عن الويل، ومعنى ويحك ويلك بمنزلة قول العرب قانعه الله كناية عن قولهم قاتله الله.
وكنى آخرون فقالوا كاتعه الله.
وقال غيره ويح كلمة رحمة ضد ويل كلمة عذاب.
وقال البريدى هما بمعنى واحد، يقال ويح لزيد وويل برفعهما على الابتداء ولك أن تقول ويحا لزيد وويلا لزيد فتنصبهما بإضمار فعل، كأنك قلت ألزمه الله ويحا وويلا.
قوله (لا حرج) أي لا ضيق أو لا إثم وقد ذكر قوله (ترنم بالبيت والبتين) الرنم بالتحريك الصوت وقد رنم بالكسر وترنم إذا رجع صوته.
والترنيم مثله وترنم الطائر في هديره، وقيل ان البيت الذى أنشده عمر (رض) وان ثوائى بالمدينة بعد ما
* قضى وطرا منها جميل بن معمر أراد جميل بن معمر الجحى لا العذري فإنه متأجر.
قوله (انى لاجم قلبى) أي أريحه.
والجمام بالفتح الراحة يقال جم الفرس جما وجماما إذا ذهب إعياؤه وكذلك إذا ترك الضراب يجم ويجم، وأجم الفرس إذا ترك أن يركب، وقيل(20/246)
يجمعه ويكمل صلاحه ونشاطه، يقال جم الماء يجم إذا زاد، وجم الفرس إذا زاد جريه.
قوله (المعزفة) بكسر الميم من آلات الملاهي، والمعازف الملاهي والعزيف صوت الجن يعزف عزيفا.
قوله (لهو الحديث) فسر بالغناء وسمى لهوا لانه يلهى عن ذكر الله تعالى يقال لهوت عن الشئ إذا أعرضت عنه قوله (ان الله حرم على أمتى الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين) الخمر يكون من العنب، ويقال لما سواها مجازا واتساعا، والميسر القمار وقد ذكر والمزر خمرة الذرة، واما الكوبة والقنين فقد فسرهما الشيخ في الكتاب وفسر
القنين بالبربط وهو عود الغناء، قال الزمخشري القنين بوزن السكيت الطنبور عن ابن الاعرابي، وقن إذا ضرب به، يقال قنقته بالعصا قنا إذا ضربته، قال وقيل لعبة الروم يتقامرون بها، وهو قول ابن قتبة.
قال ابن الاعرابي وهو الطنبور بالحبشة، والكوبة الترد، ويقال الطيل، وقال في الوسيط هو طبل المخنثين دقيق الوسط غليظ الطرفين.
وقال الجوهرى الكوبة الطبل الصغير المخصر وهو قريب مما قال في الوسيط وقال في العين هن قصبا يجمعن قطعة من أديم ويخرج عليهن ثم ينفخ فيها اثنان يزمران فيها وسميت كوبة لان بعضها كوب على بعض أي ألزم قوله (تمسخ) المسخ تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها، يقال مسخه الله قردا، والمسيخ من الرجال الذى لا ملاحة له، ومن اللحم الذى لا طعم له.
قوله (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) الاعلان والعلانية ضد الاسرار وهو إظهار الشئ وترك إخفاته ليخالف الزنا الذى عادته أن يستسر به ويخفى، والدف بالضم وحكى أبو عبيد أن الفتح فيه لغة.
قوله (الحداء) الحدا والحدو: سوق الابل والغناء لها، وقد حدوت الابل حدوا وحدا، قوله (فأعتقت الابل في السير) أي أسرعت والعنق ضرب من السير سريع كأن الابل ترفع أعناقها فيه، قوله (رويدك) تصغير رود وقد أرود به أي رفق به، وقد وضع موضع الامر، أي أرود بمعنى أرفق، قيل أصله من رادت الريح ترود إذا تحركت حركة خفيفة، قال الله تعالى (أمهلهم رويدا)(20/247)
أي إمهالا رويدا قوله (رفقا بالقوارير) شبههن بها لضعفهن ورقة قلوبهن، والقوارير يسرع إليها الكسر، وكان ينشد من الرجز ما فيه نسيب فلم يأمن أن يصيبهن أو يوقع في قلوبهن حلاوة أمر بالكف عن ذلك، يقال الغناء رقبة الزنا
ويقال إن سليمان بن عبد الملك سمع في معسكره مغنيا فدعا به فخصاه، فقال إن الغناء رقية الزنا، وكان شديد الغيرة، وأنشد بعض أهل العصر يا حادى العيس رفقا بالقوارير
* فقد أذاب سراها بالقواريرى وشفها السير حتى ما بها رمق
* في مهمه ليس فيه القواريرى جمع قارية وهى الفاتحة.
قوله (فأنشدته بيتا فقال هيه) معناه زد وهو اسم فعل يؤمر به، أي زد في إنشادك ينون فمن نون فمعناه زدنى حديثا لان التنوين للتكثير، ومن لم ينون فمعناه زدنى من الحديث المعروف منك، وأصله إيه والهاء مبدلة من الهمزة، تقوله الرجل إذا استزدته من حديث أو عمل، قال ذو الرمة: وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم
* وما بال تكليم الديار البلاقع وأما إيها فمعناه كف ولم يجئ إلا منكرا، قال النابغة إيها فذا لك الاقوام كلهم
* وما أثمر من مال ومن ولد في الحديث ما أذن الله لشئ إذنه لنبى يتغنى بالقرآن، يريد ما استمع الله لشئ والله تعالى لا يشغله سمع عن سمع، يقال أذن يأذن إذنا إذا سمع، ومنه قوله تعالى (وأذنت لربها وحقت) أي استعمت، قال ابن أحمر أيها القلب تمتع بددن
* إن همى في سماع وأذن ومن ذلك سميت الاذن.
قوله (من لم يتغن بالقرآن) مفسر في الكتاب والاولى الجمع بين التفسيرين الاستغناء به والتأدب بآدابه وتحسين الصوت به وترقيقه ليتعظ به من يسمعه ويتعظ هو.
قوله (وأما القراءة بالالحان) الالحان واللحون واحدها اللحن وهو الغناء والتطريب، وقد لحن في قراءته إذا طرب بها وغرد، وفى الحديث (اقرءوا القرآن بلحون العرب)
قوله (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول) بانت فارقت والبيت الفراق والبين(20/248)
أيضا الوصل لقد تقطع بينكم وهو من الاضداد.
متبول أي سقيم فاسد، يقال أتبله الحب وتبله أي أسقمه وأفسده.
قوله (عدلت شهادة الزور الاشراك بالله) أي ساوته وما ثلته، تقول عدلت فلانا بفلان إذا ساويت بينهما.
قوله (يتبوا مقعده) ذكر قوله (وان رأى أن يشهر أمره) أي يكشفه الناس ويوضحه، والشهرة وضوح الامر، يقال شهرت الامر أشهره شهرا وشهر فاشتهر، وكذلك شهرته تشهيرا.
قوله (أهل الصيانة) الذين يصانون عن التنكيل والتأديب بالتعزير وغيره قوله (اقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم) هم أهل المروءات وقد ذكر قوله (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين) الظنين المتهم، ومنه قوله تعالى (وما هو على الغيب بظنين) أي بمتهم في قراءة من قرأ بالظاء، والظنة التهمة، قال ابن سيرين لم يكن على يظن في قتل عثمان أي يتهم، وأما من قرأ بالضاد فإنه أراد ببخيل.
قوله (ذى إحنة) يقال في صدره إحنة أي حقد، ولا تقل حنة، والجمع إحن، وقد أحنت عليه بالكسر، قال: إذا كان في صدر ابن عمك إحنة
* فلا تستثرها سوف يبدو دفينها قوله (الطبع) هو السحية بما جبل عليه الانسان من أصل الخلقة والطبيعة مثله والجمع الطباع.
قوله (صلى الله عليه وسلم فاطمة بضعة منى) البضعة بفتح الباء هي القطعة من اللحم، هذه وحدها بالفتح وأخوانها بالكسر كالغدة والقدرة والخرقة والكسفة.
قوله (يريبنى ما يربيها) أي يدخل على الشك كما أدخل عليها الشك
والتهمة، يقال رابنى فلان إذا رأيت منه ما يريبك وتكرهه، والريبة الشك قال الهروي: يقال أر ابني الشئ أي شككني وأوهمني الريبة، وإذا استيقنته قلت ما رابنى بغير همزة.
وقال الفراء راب وأراب بمعنى واحد، والضرة قد ذكرت وهى إحدى الزوجتين سميت بذلك لادخال الضرر عليها قوله (فالتوبة أن يقلع عنها ويندم) وقد ذكرنا التوبة وأصلها الرجوع، والاقلاع عن الامر الكف عنه يقال أقلع فلان عما كان عليه إذا تركه فكف عنه(20/249)
قوله (ولم يصروا) لم يقيموا، والاصرار الاقامة على الذنب أو ترك التوبة منه.
قوله (أجل) بمعنى نعم، وقد ذكرت قوله (من أتى من هذه القاذورات شيئا) هي جمع قاذورة وهى الفعل القبيح واللفظ السيئ، وقذرت الشئ وتقذرته أي عقته وكرهته.
قوله (من أبدى لنا صفحته) الصفحة جانب العنق، ومعناه من أظهر لنا أمره أي أقر به وأقمنا عليه الحد قوله (تهيج فيه الطبائع) أي تثور، يقال هاج الشئ يهيج هيجا وهيجانا، أي ثار، الطبائع جمع طبيعة، وقد ذكر قوله (لم ترد بمعرة) أي عيب وعاره لحقه، والمعرة أيضا الاثم، قال الله تعالى (فتصيبكم منهم معرة) أي إثم ونستطيع أن نلخص الشهود الواردين في كتب المصنف في نقاط أجاز بعضهم ورد الآخرين وهم: (من رد شهادتهم) 1 - الصبى والمغفل 2 - العبد والكافر 3 - أهل دين على أهل دين آخر 4 - أهل الزور 5 - أهل الفسق 6 - أصحاب الكبائر 7 - الخائن
والخائنة والزانى والزانية 8 - من لا مروءة له كالرقاص 9 - لا عب القمار 10 - لاعب النرد 11 - جار لنفسه نفعا 12 - الاخ لاخيه (من أجاز شهادتهم) 1 - أصحاب للصغائر 2 - لا عب الشطرنج 3 - من لعب بالحمام 4 - الحاوى (من اختلف فيه) 1 - من شرب القليل من النبيذ 2 - من لم يكثر من الغناء 3 - من قلل استعمال آلات الطرب 4 - الولد لابيه وبالعكس 5 - العدو.
أحد الزوجين للآخر 6 - التائب(20/250)
ولا تقبل شهادة من ليس بعدل، وقد حكى في البحر الاجماع على أنها لا تصح شهادة فاسق وشرط الشاهد كونه مسلما حرا مكلفا، أي عاقلا بالغا ضابطا ناطقا عدلا ذا مروءة ليست به تهمة، وعليه أكثر أهل العلم، غير أنهم اختلفوا في بعض التفاصيل، فشهادة الذمي لا تقبل عند الشافعي على الاطلاق.
وقال أبو حنيفة: شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض جائزة وإن اختلفت مللهم، وشهادة الصبيان لا تقبل عند الاكثرين إلا عند مالك في الجراح فيما بينهم خاصة ما لم يصلوا إلى أهل بيتهم وأثر عبد الله بن الزبير أنه كان يقضى بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح معارض يقول ابن عباس أنها لا تجوز، وحد العدالة أن يكون محترزا عن الكبائر غير مصر على الصغائر، والمروءة وهى ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهى حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة، فإذا كان الرجل يظهر من نفسه شيئا مما يستحى أمثاله من إظهاره في الاغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته، وان كان ذلك
مباحا، ولا تقبل شهادة الخائن ولا ذى العداوة، وان كان مقبول الشهادة على غيره لانه متهم في حق عدوه، ولا يؤمن أن تحمله عداوته على إلحاق ضرر به فإن شهد لعدوه تقبل إذا لم يظهر في عداوته فسق، وكذا المتهم والقانع لاهل البيت ولا شهادة العدو على العدو.
وحكى في البحر الاجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده، قال في المسوى ولا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده ويجوز عليهما، وكذا لا تقبل شهادة من جر إلى نفسه نفعا، كمن شهد لرجل بشراء دار وهو شفيعها، أو شهد للمفلس واحد من غرمائه بدين على رجل، واتفقوا على قبول شهادة الاخ لاخيه وسائر الاقارب، واختلفوا في شهادة أحد الزوجين لصاحبه فلم يجزها أبو حنيفة، وأجازها الشافعي والحق أن القرابة بمجردها ليست بمانعة سواء كانت قريبة أو بعيدة، انما المانع التهمة، فإذا كان القريب ممن تأخذه حمية الجاهلية فشهادته غير مقبولة، وان كان على العكس من ذلك شهادته مقبولة.
وقد وقت الخلاف في كتب التفسير والاصول في حكم التوبة.(20/251)
قال مالك: الامر الذى لا اختلاف فيه عندنا أن الذى يجلد الجلد ثم تاب وأصلح تجوز شهادته، وهو أحب ما سمعت إلى في ذلك وعليه الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أن شهادة القاذف لا ترد بالقذف، فإذا حد ردت شهادته على التأييد وان تاب وأصل المسألة أن الاستثناء يعود إلى الفسق فقط في قول أهل الحجاز العراق وإلى الفسق وعدم قبول الشهادة جميعا فيقول أهل الحجاز وقال الشافعي هو قبل أن يحد شر منه حين يحد، لان الحدود كفارات فكيف تردونها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه، وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدا كيف ولا تقبلون توبة القاذف وهو أيسر ذنبا؟ قيل معنى قول أبى حنيفة
أن القاذف ما لم يحد يحتمل أن يكون صادقا وأن يكون معه شهود تشهد بالزنا، فإذا لم يأت بالشهداء وأقيم عليه الحد صار مكذبا بحكم الشرع فوجب رد شهادته ثم رد شهادة المحدوه في القذف تأبيدي، ولا تجوز شهادة أهل الزور لان صنيعهم من أكبر الكبائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب عدد الشهود
لا يقبل في الشهادة على الزنا أقل من أربعة أنفس ذكور لقوله تعالى (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) الآية وروى أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت ان وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتى بأربعة شهداء؟ قال نعم.
وشهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة: أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد، وقال زياد رأيت استا تنبو ونفسا يعلو ورجلان كأنهما أذنا حمار لا أدرى ما وراء ذلك، فجلد عمر رضى الله عنه الثلاثة ولم يجلد المغيرة.
ولا يقبل في اللواط إلا أربعة لانه كالزنا في الحد فكان كالزنا في الشهادة، فأما إتيان البهيمة فإنا إن قلنا إنه يجب فيه الحد فهو كالزنا في الشهادة لانه كالزنا(20/252)
في الحد فكان كالزنا في الشهادة، وإن قلنا إنه يحب فيه التعزير ففيه وجهان:
(أحدهما)
وهو قول أبى على بن خيران واختيار المزني رحمه الله أنه يثبت بشاهدين لانه لا يلحق بالزنا في الحد فلم يلحق به في الشهادة
(والثانى)
وهو الصحيح أنه لا يثبت إلا بأربعة، لانه فرج حيوان يحب بالايلاج فيه العقوبة فاعتبر في الشهادة عليه أربعة كالزنا، ونقصانه عن الزنا في
العقوبة لا يوجب نقصانه عنه في الشهادة، كزنا الامة ينقص عن زنا الحرة في الحد ولا ينقص عنه في الشهادة.
واختلف قوله في الاقرار بالزنا فقال في أحد القولين يثبت بشاهدين لانه إقرار فثبت بشاهدين كالاقرار في غيره
(والثانى)
أنه لا يثبت إلا بأربعة لانه سبب يثبت به فعل الزنا فاعتبر فيه أربعة كالشهادة على القتل، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ أَعْجَمِيًّا فَفِي التَّرْجَمَةِ وَجْهَانِ:
(أحدهما)
أنه يثبت باثنين كالترجمة في غيره
(والثانى)
أنه كالاقرار فيكون على قولين كالاقرار
(فصل)
وإن شهد ثلاثة بالزنا فيه قولان
(أحدهما)
أنهم قذفوه ويحدون وهو أشهر القولين، لان عمر رضى الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة وروى ابن الوصي أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا، وقال الرابع رأيتهما في ثوب واحد، فإن كان هذا زنا فهو ذلك، فجلد عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الثلاثة وعزر الرجل والمرأة، ولانا لو لم نوجب الحد جعل القذف بلفظ الشهادة طريقا إلى القذف.
والقول الثاني أنهم لا يحدون لان الشهادة على الزنا أمر جائز فلا يوجب الحد كسائر الجائزات، ولان إيجاب الحد عليهم يؤدى إلى أن لا يشهد أحد بالزنا خوف من أن يقف الرابع عن الشهادة فيحدون فتبطل الشهادة على الزنا، وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وأحدهم الزوج فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ، وظاهر النص أنه يحد الزوج قولا واحدا لانه لا تجوز شهادته عليها بالزنا فجعل قاذفا، وفى الثلاثة قولان(20/253)
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن الزوج كالثلاثة لانه أتى بلفظ الشهادة فيكون على القولين.
(فصل)
فإن شهد أربعة على رجل بالزنا فرد الحاكم شهادة أحدهم، فإن كان بسبب ظاهر بأن كان عبدا أو كافرا أو متظاهرا بالفسق كان كما لو لم يتم العدد لان وجوده كعدمه، وإن كان بسبب خفى كالفسق الباطن ففيه وجهان
(أحدهما)
أن حكمه حكم ما لو نقص بالعدد، لان عدم العدالة كعدم العدد
(والثانى)
أنهم لا يحدون قولا واحدا، لانه إذا كان الرد بسبب في الباطن لم يكن من جهتهم تفريط في الشهادة لانهم معذورون فلم يحدوا، وإذا كان بسبب ظاهر كانوا مفرطين فوجب عليهم الحد.
وإن شهد أربعة بالزنا ورجع واحد منهم قبل أن يحكم بشهادتهم لزم الراجع حد القذف لانه اعترف بالقذف.
ومن أصحابنا من قال في حده قولان، لانه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة وليس بشئ، وأما الثلاثة فالمنصوص أنه لا حد عليهم قولا وحدا لانه ليس من جهتهم تفريط لانهم شهدوا والعدد تام ورجوع من رجع لا يمنكهم الاحتراز منه.
ومن أصحابنا من قال في حدهم قولان وهو ضعيف، فإن رجعوا كلهم قالوا تعمدنا الشهادة وجب عليهم الحد، ومن أصحابنا من قال فيه قولان وليس بشئ وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وشهد أربع نسوة أنها بكر لم يجب عليها الحد لانه يحتمل أن تكون البكارة أصلية لم تزل، ويحتمل أن تكون عائدة، لان البكارة تعود إذا لم يبالغ في الجماع فلا يجب الحد مع الاحتمال ولا يجب الحد على الشهود، لانا إذا درأنا الحد عنها لجواز أن تكون البكارة أصلية وهم كاذبون وجب أن ندرأ الحد عنهم لجواز أن تكون البكارة عائدة وهم صادقون
(فصل)
ويثبت المال وما يقصد به كالبيع والاجارة والهبة والوصية والرهن والضمان بشاهد وامرأتين لقوله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وأمرأتان) فنص على ذلك في السلم وقسنا عليه المال
وكل ما يقصد به المال(20/254)
(فصل)
وما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والوكالة والوصية إليه وقتل العمد والحدود سوى حد الزنا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين لقوله عز وجل في الرجعة (وأشهدوا ذوى عدل منكم) ولما رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، لَا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) وعن الزهري أنه قال: جرت السنة عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة للنساء في الحدود، فدل النص على الرجعة والنكاح والحدود، وقسنا عليها كل ما لا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال.
وإن اتفق الزوجان على النكاح واختلفا فيه للصداق، ثبت الصداق بالشاهد والمرأتين لانه اثبات مال، وإن ادعت المرأة الخلع وأنكر الزوج لم يثبت الا بشهادة رجلين وان ادعى الزوج الخلع وأنكرت المرأة ثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، لان بينة المرأة لاثبات الطلاق وبينة الرجل لاثبات المال وان شهد رجل وامرأتان بالسرقة ثبت المال دون القطع، وان شهد رجل وامرأتان بقتل العمد لم يثبت القصاص ولا الدية، والفرق بين القتل والسرقة أن قتل العمد في أحد القولين يوجب القصاص والدية بدل عنه تجب بالعفو عن القصاص، وإذا لم يثبت القصاص لم يثبت بدله، وفى القول الثاني يوجب أحد البدلين لا بعينه.
وانما يتعين بالاختيار، فلو أوجبنا الدية دون القصاص أوجبنا معينا، وهذا خلاف موجب القتل، وليس كذلك السرقة فإنها توجب القطع والمال على سبيل الجمع، وليس أحدهما بدلا عن الآخر فجاز أن يوجب أحدهما دون الآخر.
(فصل)
ولا يقبل في موضحة العمد الا شاهدان ذكران لانها جناية
توجب القصاص، وفى الهاشمة والمنقلة قولان
(أحدهما)
أنه لا يثبت الا بشاهدين ذكرين لانها جناية تتضمن القصاص
(والثانى)
أنها تثبت بالشاهد والمرأتين، لان الهاشمة والمنقلة لا قصاص فيهما، وانما القصاص في ضمنهما فثبت بالشاهد والمرأتين، فعلى هذا يجب أرش الهاشمة والمنقلة، ولا يثبت القصاص(20/255)
في الموضحة، وإن اختلف السيد والمكاتب في قدر المال أو صفته أو أدائه قضى فيه بالشاهد والمرأتين، لان الشهادة على المال.
وان أفضى إلى العتق الذى لا يثبت بشهادة الرجل والمرأتين كما تثبت الولادة بشهادة النساء، وإن أفضى إلى النسب الذى لا يثبت بشهادتهن.
(فصل)
وإن كان في يد رجل جارية لها ولد فادعى رجل أنها أم ولده وولدها منه وأقام على ذلك شاهدا وامرأتين فضى له بالجارية لانها مملوكة فقضى فيها بشاهد وامرأتين، وإذا مات عتقت بإقراره، وهل يثبت نسب الولد وحريته؟ فيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يثبت لانه النسب والحرية لا تثبت بشاهد وامرأتين، فيكون الولد باقيا على ملك المدعى عليه.
والقول الثاني أنه يثبت لان الولد نماء الجارية وقد حكم له بالجارية فحكم له بالولد، فعلى هذا يحكم بنسب الولد وحريته، لانه أقر بذلك، وان ادعى رجل أن العبد الذى في يد فلان كان له وأنه أعتقه وشهد له شاهد وامرأتان فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فيه قولان:
(أحدهما)
أنه لا يحكم بهذه البينة لانها تشهد له بملك متقدم فلم يحكم بها، قالو ادعى على رجل عهدا وشهد له شاهد وامرأتان أنه كان له.
(والثانى)
أنه يحكم بها لانه ادعى ملكا متقدما وشهدت له البينة فيما ادعاء
ومن أصحابنا من قال يحكم بها قولا واحدا، والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن هناك لا يدعى ملك الولد وهو يقر أنه حر الاصل فلم يحكم ببينته في أحد القولين وههنا ادعى ملك العبد وأنه أعتقه فحكم ببينته.
(فصل)
ويقبل فيما لا يطلع الرجال من الولادة والرضاع والعيوب التى تحت الثياب شهادة النساء منفردات لان الرجال لا يطلعون عليها في العادة فلو لم تقبل فيها شهادة النساء منفردات بطلت عند التجاحد ولا يثبت شئ من ذلك الا بعدد لانها شهادة فاعتبر فيها العدد ولا يقبل أقل من أربع نسوة لان أقل الشهادات رجلان وشهادة امرأتين بشهادة رجل، والدليل عليه قوله تعالى(20/256)
(فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) فأقام المرأتين مقام الرجل وروى عبد الله بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ على ذى لب منكن، قالت امرأة يا رسول الله ما ناقصات العقل والدين؟ قال أما نقصان العقل فشهادة امرأتين كشهادة رجل فهذا نقصان العقل، وأما نقصان الدين فإن إحداكن تمكث الليالى لا تصلى وتفطر في شهر رمضان فهذا من نقصان الدين، فقبل فيها شهادة الرجلين وشهادة الرجل والمرأتين، لانه إذا أجيز شهادة النساء منفردات لتعذر الرجال، فلان تقبل شهادة الرجال.
والرجال والنساء أولى.
وتقبل ى ي الرضاع شهادة المرضعة لما روى عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبى إهاب فجاءت امرأة سوداء فقالت قد أرضعتكما، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما، فنهاه عنها، ولانها لا تجر بهذه الشهادة نفعا إلى نفسها ولا تدفع عنها ضررا.
ولا تقبل شهادة المرأة على ولادتها لانه تثبت لنفسها بذلك حقا وهو النفقة، وتقبل شهادة النساء
منفردات على استهلال الولد وانه بقى متألما إلى أن مات.
وقال الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يقبل الا شهادة رجلين، والصحيح هو الاولى لان الغالب أنه لا يحضرها الرجال
(فصل)
وما يثبت بالشاهد والمرأتين يثبت بالشاهد واليمين، لما روى عمرو بن دينار عن أبن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد، قال عمرو ذلك في الاموال واختلف أصحابنا في الوقف فقال أبو إسحاق وعامة أصحابنا يبنى على القولين فإن قلنا ان الملك للموقوف عليه قضى فيه بالشاهد واليمين لانه نقل ملك فقضى فيه بالشاهد واليمين كالبيع، وان قلنا انه ينتقل إلى الله عز وجل لم يقض فيه بالشاهد واليمين لانه ازالة ملك إلى غير الآدمى فلم يقض فيه بالشاهد واليمين كالعتق.
وقال أبو العباس رحمه الله: يقضى فيه بالشاهد واليمين على القولين جميعا لان القصد بالوقف تمليك المنفعة فقضى فيه بالشاهد واليمين كالاجارة(20/257)
(الشرح) حديث أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت ان وجدت مع امرأتي رجلا أمهله ... ) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، وأصل الحديث في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة، ورواه أبو داود من حديث عبادة بن الصامت وأحمد من حديث سعيد بن سعد بن عبادة أثر: شهد على المغيرة ثلاثا ... سبق تخريجه أثر: لانه عمر جلد الثلاثة الذين شهدوا ... سبق تخريجه حديث ابن مسعود (لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل ... ) أخرجه الشافعي والبيهقي عن سعيد بن جبير موقوفا بلفظ (لا نكاح الا بولي مرشد وشاهدي عدل) ورواه البيهقى من طريق آخر مرفوعا بلفظ (لا نكاح الا بإذن ولى مرشد
أو سلطان) قال والمحفوظ الموقوف.
وفى رواية ثالثة (لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل، فإن أنكحها ولى مسخوط عليه فنكاحها باطل) وفيه عدى وهو ضعيف.
أثر الزهري (جرت السنة عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم والخليفتين من بعده ... ) أخرجه ابن أبى شيبة.
وروى عن مالك عن عقيل عن الزهري، وزاد ولا في نكاح ولا في طلاق وقال الحافظ ابن حجر ولا يصح عن مالك، ورواه أبو يوسف في كتاب الخراج حديث عبد الله بن عُمَرَ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما رأيت من ناقصات عقل ودين ... ) أخرجه البخاري مطولا حديث (عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبى أهاب فجاءت امرأة سوداء ... ) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات من طرق، وقال الحافظ ووهم من ذكر هذا الحديث في المتفق عليه حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بيمين) سبق تخريجه.
اللغة: قوله (رأيت استا) الاست العجز وقد يراد به حلقة الدبر.
وأصلها سته على وزن فعل بالتحريك، يدل على ذلك أن جمعه أستاه مثل جمل وأجمال ولا يجوز أن يكون مثل جذع وقفل اللذين يجمعان أيضا على أفعال، لانك(20/258)
إذا زدت الهاء التى هي لام الفعل وحذفت العين قلت سه بالفتح، قال الشاعر: شأنك قعين غثها وسمينها
* وأنت السه السفلى إذا ذكرت نصر تقول أنت فيهم بمنزلة الاست من الناس.
قوله (تنبو) أي ترتفع أراد ههنا العجز دون حلقة الدبر.
قوله (وإنما القصاص في ضمنهما) أي فيما يشتملان عليه من قولهم فهمت ما تضمنه كتابك، أي ما اشتمل عليه وكان في ضمنه، وأنفذته ضمن كتابي أي في طيه.
قوله (أغلب على ذى لب منكن) اللب العقل والجمع الالباب، قال تعالى (إن في ذلك لذكرى لاولى الالباب) أي لذوى العقول اتفق المسلمون على أنه لا يثبت الحد في الزنا بأقل من أربعة عدول ذكور واتفقوا على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنا بشاهدين عدلين ذكرين ماخلا الحسن البصري فإنه قال لا تقبل بأقل من أربعة شهداء تشبيها بالرجم، وهذا ضعيف لقوله سبحانه وتعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) وكل متفق على أن الحكم يجب بالشاهدين من غير يمين المدعى، إلا ابن أبى ليلى فإنه قال لا بد من يمينه، واتفقوا على أنه تثبت الاموال بشاهد عدل ذكر وامرأتين، لقوله تعالى (فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) واختلفوا في قبولهما في الحد فالذي عليه الجمهور أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود لا مع رجل ولا مفردات وقال أهل الظاهر تقبل إذا كان معهن رجل وكان النساء أكثر من واحدة في كل شئ على ظاهر الآية.
وقال أبو حنيفة: تقبل في الاموال ما عدا الحدود من أحكام الابدان مثل الطلاق والرجعة والنكاح والعتق، ولا تقبل عند مالك في حكم من أحكام البدن واختلف أصحاب مالك في قبولهن في حقوق الابدان المتعلقة بالمال مثل الوكالات والوصية التى لا تتعلق الا بالمال فقط، فقال مالك وابن القاسم وابن وهب يقبل فيه شاهد وامرأتان، وقال أشهب وابن الماجشون لا يقبل فيه الا رجلان.
وأما شهادة النساء مفردات - أعنى النساء دون الرجال - فهى مقبولة(20/259)
عند الجمهور في حقوق الابدان التى لا يطلع عليها الرجال غالبا، مثل الولادة والاستهلال وعيوب النساء، ولا خلاف في شئ من هذا الا في الرضاع فإن أبا حنيفة قال لا تقبل فيه شهادتين الا مع الرجال، لانه عنده من حقوق الابدان التى يطلع عليها الرجال والنساء، والذين قالوا بجواز شهادتهن منفردات في هذا الجنس اختلفوا في العدد المشترط في ذلك منهن، فقال مالك يكفى في ذلك امرأتان، قيل مع انتشار الامر وقيل وان لم ينتشر وقال الشافعي ليس يكفي في ذلك أقل من أربع لان الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين واشترط الاثنينية.
وقال قوم لا يكتفى في ذلك بأقل من ثلاث، وهو قول لا معنى له.
وأجاز أبو حنيفة شهادة المرأة فيما بين السرة والركبة، والظاهرية أو بعضهم لا يجيزون شهادة النساء مفردات في شئ كما يجيزون شهادتهن مع الرجال في كل شئ وأما شهادة المرأة الواحدة بالرضاع فإنهما أيضا اختلفوا فيها لقوله عليه السلام في المرأة الواحدة التى شهدت بالرضاع (كيف وقد أرضعتكما) وهذا ظاهره الانكار ولذلك لم يختلف قول مالك في أنه مكروه وقالت الحنابلة: ولا يقبل في الزنا والواط والاقرار به الا أربعة رجال ويكفى في الشهادة على من أتى بهيمة رجلان، ومن عرف بغنى وادعى أنه فقير ليأخذ من الزكاة لم يقبل الا بثلاثة رجال، ويقبل في بقيه الحدود والقصاص رجلان، ولا تقبل فيه شهادة النساء، وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالبا كالنكاح والطلاق والرجعة والخلع والنسب يقبل فيه رجلان دون النساء، ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والاجل والخيار فيه ونحوه رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعى، وما لا يطلع عليه الرجال غالبا كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة
والرضاع والاستهلال ونحوه يقبل فيه شهادة امرأة عدل والرجل فيه كالمرأة ومن أتى رجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال، وان أتى برجل وامرأتين أو رجل ويمين في سرقة ثبت المال دون القطع(20/260)
وان أتى بذلك في خلع امرأته على عوض سماه ثبت له العوض وتثبت البينونة بمجرد دعواه لاقراره على نفسه وان ادعته لم يقبل فيه الا رجلان
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب تحمل الشهادة وأدائها
لا يجوز تحمل الشهادة وأداؤها الا عن علم، والدليل عليه قوله تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وقوله تعالى (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) يأمر الله تعالى أن يشهد عن علم.
وقوله عز وجل (ستكتب شهادتهم ويسألون) وهذا الوعيد يوجب التحفظ في الشهادة وأن لا يشهد الا عن علم وروى طاوس عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشهادة فقال: هل ترى الشمس؟ قال نعم، قال فعلى مثلها فاشهد أو دع، وان كانت الشهادة على فعل كالجناية والغصب والزنا والسرقة والرضاع والولادة وغيرها مما يدرك بالعين لم تجز الشهادة به الا عن مشاهدة لانها لا تعلم الا بها، وان كانت الشهادة على عورة ووقع بصره عليها من غير قصد جاز أن يشهد بما شاهد، وان أراد أن يقصد النظر ليشهد فالمنصوص أنه يجوز، وهو قول أبى اسحاق المروزى، لان أبا بكرة ونافعا وشبل بن سعيد شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر رضى الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره نظرهم.
وقال أبو سعيد الاصطخرى لا يجوز أن يقصد النظر لانه في الزنا مندوب إلى الستر، وفى الولادة والرضاع يقبل شهادة النساء فلا حاجة بالرجال إلى النظر الشهادة.
ومن أصحابنا من قال يجوز في الزنا دون غيره، لان الزانى هتك حرمة الله تعالى بالزنا فجاز أن تهتك حرمته بالنظر إلى عورته، وفى غير الزنا لم يوجد من المشهود عليه هتك حرمة فلم يجز هتك حرمته ومنهم من قال يجوز في غير الزنا ولا يجوز في الزنا، لان حد الزنا يبنى على الدرء والاسقاط فلا يجوز أن يتوصل(20/261)
إلى اثباته بالنظر، وغيره لم يبن على الدرء والاسقاط فجاز أن يتوصل إلى اثباته بالنظر
(فصل)
وان كانت الشهادة على قول كالبيع والنكاح والطلاق والاقرار لم يجز التحمل فيها الا بسماع القول ومشاهدة القائل، لانه لا يحصل العلم بذلك الا بالسماع والمشاهدة، وان كانت الشهادة على ما لا يعلم الا بالخير وهو ثلاثة: النسب والملك والموت جاز أن يشهد فيه بالاستفاضة، فإن استفاض في الناس أن فلانا ابن فلان، أو أن فلانا هاشمى أو أموى جاز أن يشهد به، لان سبب النسب لا يدرك بالمشاهدة.
وان استفاض في الناس أن هذه الدار وهذا العبد لفلان جاز أن يشهد به لان أسباب الملك لا تضبط فجاز أن يشهد فيه بالاستفاضة، وان استفاض أن فلانا مات جاز أن يشهد به لان أسباب الموت كثيرة، منها خفية ومنها ظاهرة ويتعذر الوقوف عليها، وفى عدد الاستفاضة وجهان.
(أحدهما)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله أن أقله أن يسمع من اثنين عدلين لان ذلك بينة.
(والثانى)
وهو قول أقضى القضاة أبى الحسن الماوردى رحمه الله أنه لا يثبت الا بعدد يقع العلم بخبرهم لان ما دون ذلك من أخبار الآحاد فلا يقع العلم من
جهتهم، فإن سمع انسانا يقر بنسب أب أو ابن، فإن صدقه المقر له جاز له أن يشهد به لانه شهادة على اقرار، وان كذبه لم يجز أن يشهد به لانه لم يثبت النسب، وان سكت فله أن يشهد به، لان السكوت في النسب رضى بدليل أنه إذا بشر بولد فسكت عن نفيه لحقه نسبه.
ومن أصحابنا من قال لا يشهد حتى يتكرر الاقرار به مع السكوت، وان رأى شيئا في يد انسان مدة يسيرة جاز أن يشهد له باليد، ولا يشهد له بالملك وان رآه في يده مدة طويلة يتصرف فيه جاز أن يشهد له باليد وهل يجوز أن يشهد له بالملك؟ فيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى رحمه الله أنه يجوز، لان اليد والتصرف يدلان على الملك.
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق رحمه الله أنه لا يجوز أن يشهد له بالمك،(20/262)
لانه قد تكون اليد والتصرف عن ملك وقد تكون عن إجارة أو وكالة أو غصب فلا يجوز أن يشهد له بالملك مع الاحتمال.
واختلف أصحابنا في النكاح والعتق والوقف والولاء، فقال أبو سعيد الاصطخرى رحمه الله يجوز أن يشهد فيها بالاستفاضة لانه يعرف بالاستفاضة أن عائشة رضى الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأن نافعا مولى ابن عمر رضى الله عنه، كما يعرف أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال أبو إسحاق رحمه الله لا يجوز لانه عقد فلا يجوز أن يشهد فيه بالاستفاضة كالبيع
(فصل)
ويجوز أن يكون الاعمى شاهدا فيما يثبت بالاستفاضة لان طريق العلم به السماع والاعمى كالبصير في السماع، ويجوز أن يكون شاهدا في الترجمة لانه يفسر ما سمعه بحضرة الحاكم وسماعه كسماع البصير، ولا يجوز أن يكون شاهدا على الافعال كالقتل والغصب والزنا، لان طريق العلم بها البصر،
ولا يجوز أن يكون شاهدا على الاقوال كالبيع والاقرار والنكاح والطلاق إذا كان المشهود عليه خارجا عن يده.
وحكى عن المزني رحمه الله أنه قال: يجوز أن يكون شاهدا فيها إذا عرف الصوت.
ووجهه أنه إذا جاز أن يروى الحديث إذا عرف المحدث بالصوت، ويستمتع بالزوجة إذا عرفها بالصوت جاز أن يشهد إذا عرف المشهود عليه بالصوت، وهذا خطأ لان من شرط الشهادة العلم وبالصوت لا يحصل له العلم بالمتكلم لان الصوت يشبه الصوت، ويخالف رواية الحديث والاستمتاع بالزوجة لان ذلك يجوز بالظن وهو خبر الواحد.
وأما إذا جاء رجل وترك فمه على أذنه وطلق أو أعتق أو أقر ويد الاعمى على رأس الرجل فضبطه إلى أن حضر عند الحاكم فشهد عليه بما سمعه منه قبلت شهادته لانه شهد عن علم وان تحمل الشهادة على فعل أو قول وهو يبصر ثم عمى نظرت فإن كان لا يعرف المشهود عليه الا بالعين وهو خارج عن يده لم تقبل شهادته عليه لانه لا علم له بمن يشهد عليه، وان تحمل الشهادة ويده في يده وهو بصير ثم عمى ولم تفارق يده يده حتى حضر إلى الحاكم وشهد عليه قبلت(20/263)
شهادته لانه يشهد عليه عن علم، وإن تحمل الشهادة على رجل يعرفه بالاسم والنسب وهو بصير ثم عمى قبلت شهادته لانه يشهد على من يعلمه
(فصل)
ومن شهد بالنكاح ذكر شروطه لان الناس يختلفون في شروطه فوجب ذكرها في الشهادة وإن رهن رجل عبدا عند رجل بألف ثم زاده ألفا آخر وجعل العين رهنا بهما وأشهد الشهود على نفسه أن العين رهن بألفين وعلم الشهود حال الرهن في الباطن، فإن كانوا يعتقدون أنه لا يجوز إلحاق الزيادة بالدين في الرهن لم يجز أن يشهدوا إلا بما جرى الامر عليه في الباطن، وإن
كانوا يعتقدون أنه يجوز إلحاق الزيادة بالدين في الرهن ففيه وجهان:
(أحدهما)
يجوز أن يشهدوا بأن العين رهن بألفين لانهم يعتقدون انهم صادقون في ذلك.
(والثانى)
أنه لا يجوز أن يشهدوا إلا بذكر ما جرى الامر عليه في الباطن لان الاعتبار في الحكم باجتهاد الحاكم دون الشهود.
(فصل)
ومن شهد بالرضاع وصف الرضاع وأنه ارتضع الصبى من ثديها أو من لبن حلب منها خمس رضعات متفرقات في حولين لاختلاف الناس في شروط الرضاع، فإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم تقبل لان الناس يختلفون فيما يصير به إبنا من الرضاع، وإن رأى امرأة أخذت صبيا تحت ثيابها وأرضعته لم يجز أن يشهد بالرضاع، لانه يجوز أن يكون قد أعدت شيئا فيه لبن من غيرها على هيئة الثدى فرأى الصبى يمص فظنه ثديا.
(فصل)
ومن شهد بالجناية ذكر صفتها، فإن قال ضربه بالسيف فمات، أو قال ضربه بالسيف فوجدته ميتا لم يثبت القتل بشهادته لجواز أن يكون مات من غير ضربه، وان قال ضربه بالسيف فمات منه، أو ضربه فقتله ثبت القتل بشهادته، وان قال ضربه بالسيف فأنهر دمه فمات مكانه ثبت القتل بشهادته على المنصوص لانه إذا أنهر دمه فمات علم أنه مات من ضربه، فإن قال ضربه فاتضح أو قال ضربه بالسيف فوجدته موضحا لم تثبت الموضحة بشهادته لما ذكرناه في النفس، وان قال ضربه فأوضحه ثبتت الموضحة بشهادته لانه أضاف الموضحة(20/264)
إليه، وان قال ضربه فسال دمه لم تثبت الدامية بالشهادة لجواز أن يكون سيلان الدم من غير الضرب، وان قال ضربه فأسال دمه ومات قبلت شهادته في الدامية لانه أضافها إليه، ولا تقبل في الموت لانه يحتمل أن يكون الموت من غيره.
وان قال ضربه بالسيف فأوضحه فوجدت في رأسه موضحتين لم يجز القصاص لانا لا نعلم على أي الموضحتين شهد، ويجب أرش موضحة لان الجهل بعينها ليس بجهل لانه قد أوضحه.
(فصل)
ومن شهد بالزنا ذكر الزانى ومن زنى به، لانه قد يراه على بهيمة فيعتقد أن ذلك زنا والحاكم لا يعتقدان أن ذلك زنا، أو يراه على زوجته أو جارية إبنه فيظن أنه زنى ويذكر صفة الزنا، فإن لم يذكر أنه أولج أو رأى ذكره في فرجها لم يحكم به، لان زيادا لما شهد على المغيرة عند عمر رضى الله عنه ولم يذكر ذلك لم يقم الحد على المغيرة، فإن لم يذكر الشهود ذلك سألهم الامام عنه، فإن شهد ثلاثة بالزنا ووصفوا الزنا وشهد الرابع ولم يذكر الزنا لم يجب الحد على المشهود عليه، لان البينة لم تكمل، ولم يحد الرابع عليه لانه لم يشهد بالزنا.
وهل يجب الحد على الثلاثة؟ فيه قولان.
وان شهد أربعة بالزنا وفسر ثلاثة منهم الزنا وفسر الرابع بما ليس بزنا لم يحد المشهود عليه لانه لم تكمل البينة، ويجب الحد على الرابع قولا واحدا، لانه قذفه بالزنا ثم ذكر ما ليس بزنا.
وهل يحد الثلاثة على القولين؟ فإن شهد أربعة بالزنا ومات واحد منهم قبل أن يفسر وفسر الباقون بالزنا لم يجب الحد على المشهود عليه لجواز أن يكون ما شهد به الرابع ليس، بزنا، ولا يحب على الشهود الباقين الحد، لجواز أن يكون ما شهد به الرابع زنا، فلا يحب الحد مع الاحتمال.
(فصل)
ومن شهد بالسرقة ذكر السارق والمسروق منه والحرز والنصاب وصفة السرقة لان الحكم يختلف باختلافها فوجب ذكرها ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتدا فلم يجز الحكم قبل البيان، كما لا يحكم بالشهادة على جرح الشهود قبل بيان الجرح، وهل يجوز للحاكم أن(20/265)
يعرض الشهود بالوقف في الشهادة في حدود الله تعالى فيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجوز لان فيه قدحا في الشهود
(والثانى)
أنه يجوز لان عمر رضى الله عنه عرض لزياد في شهادته على المغيرة فروى أنه قال: أرجو أن لا يفضح الله تعالى على يديك أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ولانه يجوز أن يعرض للمقر بالتوقف فجاز أن يعرض للشاهد.
(الشرح) حديث ابن عباس: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشهادة فقال: هل ترى الشمس.
أخرجه العقبلى والحاكم وأبو نعيم في الحلية وابن عدى والبيهقي من حديث طاوس عن ابن عباس وصححه الحاكم وفى إسناده محمد بن سليمان بن مسمول وهو ضعيف.
وقال البيهقى لم يرو من وجه يعتمد عليه، وقال الحافظ في بلوغ المرام: أخرجه ابن عدى بسند ضعيف وصححه الحاكم فأخطأ، وقال منصور البهوتى في الروض المربع رواه الخلال في جامعه.
أثر أن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة..سبق تخريجه أثر أن زيادا لما شهد على المغيرة عند عمر.
سبق تخريجه أثر أن عمر عرض لزياد في شهادته على المغيرة.
سبق تخريجه اللغة: قوله (ولا تقف ما ليس لك به علم) أي لا تتبعه فتقول فيه بغير علم يقال قفوته أقفوه وقفته أقوفه إذا اتبعت أثره، ومنه سميت القافة لتتبعهم الآثار وأصله من القفا.
قوله (لان الزانى هتك حرمة الله) هتك خرق وأصله خرق الستر وقد ذكره.
والحرمة ما يحرم انتهاكه قوله (بالاستفاضة) هي مأخوذة من فاض يفيض إذا شاع، وهو حديث مستفيض أي منتشر في الناس.
قوله (أخبار الآحاد) الآحاد ما انحط عن حد التواتر، والتواتر على محصور على الصحيح من الاقوال.
قوله (فضبطه إلى أن حضر عند الحاكم) أي أمسكه وضبط الشئ إذا حفظه بالحزم.(20/266)
قوله (أنهر دمه) أي أساله، وكل شئ جرى فقد نهر.
قوله (أن يعرض) التعريض التورية بالشئ عن الشئ وقد ذكر.
تحمل الشهادة في غير حق الله تعالى فرض كفاية، فإذا قام من يكفى سقط عن بقية المسلمين، وان لم يوجد إلا من يكفى تعين عليه وأداؤها فرض عين على من تحملها متى دعى إليها، وتحل وجوبها أن قدر على أدائها بلا ضرر يلحقه في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله، وكذا في التحمل، ولا يحل كتمانها، ويحرم أخذ أجرة وجعل عليها، ولو لم تتعين عليه، لكن إن عجز عن المشى أو تأذى به فله أجرة مركوب ومن عنده شهادة بحد لله فله إقامتها وتركها، ولا يحل أن يشهد أحد إلا بما يعلمه، والعلم إما برؤية أو سماع أو استفاضة فيما يتعذر علمه بدونها كنسب وموت وملك مطلق ونكاح ووقف ونحوها، ولا يحل لمن تحمل شهادة بحق وأخبره عدل باقتضاء الحق أن يشهد الا به.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الشهادة على الشهادة
وتجوز الشهادة على الشهادة في حقوق الآدميين وفيما لا يسقط بالشبهة من حقوق الله تعالى لآن الحاجة تدعو إلى ذلك عند تعذر شهادة الاصل بالموت والمرض والغيبة وفى حدود الله تعالى، وهو حد الزنا وحد السرقة وقطع الطريق وشرب الخمر قولان.
(أحدهما)
أنه يجوز لانه حق يثبت بالشهادة فجاز أن يثبت بالشهادة على الشهادة كحقوق الآدميين
(والثانى)
أنه لا يجوز لان الشهادة على الشهادة تراه لتأكيد الوثيقة ليتوصل بها إلى اثبات الحق، وحدود الله تعالى مبنية على الدرء والاسقاط فلم يجز تأكيدها وتوثيقها بالشهادة على الشهادة، وما يثبت بالشهادة على الشهادة يثبت بكتاب القاضى إلى القاضى، وما لا يثبت بالشهادة على الشهادة لا يثبت بكتاب(20/267)
القاضى إلى القاضى، لان الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضى الكاتب فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة.
(فصل)
ولا يجوز الحكم بالشهادة على الشهادة إلا عند تعذر حضور شهود الاصل بالموت أو المرض أو الغيبة، لان شهادة الاصل أقوى لانها تثبت نفس الحق والشهادة على الشهادة لا تثبت نفس الحق فلم تقبل مع القدرة على شهود الاصل والغيبة التى يجوز بها الحكم بالشهادة على الشهادة أن يكون شاهد الاصل من موضع الحكم على مسافة إذا حضر لم يقدر أن يرجع بالليل إلى منزله فإنه تلحقه المشقة في ذلك.
وأما إذا كان في موضع إذا حضر أمكنه أن يرجع إلى بيته بالليل لم يجز الحكم بشهادة شهود الفرع لانه يقدر على شهادة شهود الاصل من غير مشقة.
(فصل)
ولا يقبل في الشهادة على الشهادة وكتاب القاضى إلى القاضى شهادة النساء لانه ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو مما يطلع عليه الرجال فلم يقبل فيه شهادة النساء كالنكاح
(فصل)
ولا يقبل الا من عدد لانه شهادة فاعتبر فيها العدد كسائر الشهادات، وإن كان شهود الاصل اثنين فشهد على أحدهما شاهدان وعلى الآخر شاهدان جاز لانه يثبت قول كل واحد منهما بشاهدين، وان شهد واحد على
شهادة أحدهما وشهد الآخر على شهادة الثاني لم يجز لانه إثبات قول بشهادة واحد، فإن شهد اثنان على شهادة أحدهما ثم شهدا على شهادة الاخر ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يجوز لانه إثبات قول اثنين فجاز بشاهدين كالشهادة على إقرار نفسين.
(والثانى)
أنه لا يجوز وهو اختيار المزني رحمه الله تعالى لانهما قاما في التحمل مقام شاهد واحد في حق واحد، فإذا شهدا فيه على الشاهد الاخر سارا كالشاهد إذا شهد بالحق مرتين، وإذا كان شهود الاصل رجلا وامرأتين قبل في أحد القولين شهاد اثنين على شهادة كل واحد منهم، ولا يقبل في الآخر إلا ستة يشهد كل اثنين على شهادة واحد منهم.(20/268)
وإن كان شهود الاصل أربع نسوة وهو في الولادة والرضاع قبل في أحد القولين شهادة رجلين على كل واحدة منهن ولا يقبل في الاخر الا شهادة ثمانية يشهد كل اثنين على شهادة واحدة منهن، وان كان شهود الاصل أربعة من الرجال وهو في الزنا وقلنا انه تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود، فإن قلنا يقبل شاهدان على شاهدى الاصل في غير الزنا ففى حد الزنا قولان
(أحدهما)
أنه يكفى شاهدان في إثبات شهادة الاربعة كما يكفى شاهدان في إثبات شهادة اثنين.
(والثانى)
أنه يحتاج إلى أربعة لان فيها يثبت باثنين تحتاج شهادة كل واحد منهما إلى العدد الذى يثبت به أصل الحق وهو اثنان، وأصل الحق ههنا لا يثبت إلا بأربعة فلم تثبت شهادتهم الا بأربعة، فإن قلنا إنه لا يقبل فيما يثبت بشاهدين إلا أربعة ففى حد الزنا قولان:
(أحدهما)
أنه يحتاج إلى ثمانية ليثبت بشهادة كل شاهدين شهادة واحد.
(والثانى)
أنه يحتاج إلى ستة عشر.
لان ما يثبت بشاهدين لا يثبت كل شاهد إلا بما يثبت به أصل الحق.
وأصل الحق لا يثبت الا بأربعة فلا تثبت شهادة كل واحد منهم الا بأربعة فيصير الجميع ستة عشر.
(فصل)
ولا تقبل الشهادة على الشهادة حتى يسمى شاهد الفرع شاهد الاصل بما يعرف به، لان عدالته شرط، فإذا لم تعرف لم تعلم عدالته، فإن سماهم شهود الفرع وعدلوهم حكم بشهادتهم لانهم غير متهمين في تعديلهم، وان قالوا نشهد على شهادة عدلين ولم يسموا لم يحكم بشهادتهم لانه يجوز أن يكونوا عدولا عندهم غير عدول عند الحاكم.
(فصل)
ولا يصح تحمل الشهادة على الشهادة الا من ثلاثة أوجه: (أحدها) أن يسمع رجلا يقول أشهد أن لفلان على فلان كذا مضافا إلى سبب يوجب المال من ثمن مبيع أو مهر، لانه لا يحتمل مع ذكر السبب الا الوجوب
(والثانى)
أن يسمعه يشهد عند الحاكم على رجل بحق لانه لا يشهد عند الحاكم إلا بما يلزم الحكم به(20/269)
(والثالث) أن يسترعيه رجل بأن يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا فاشهدوا على شهادتى بذلك لانه لا يسترعيه إلا على واجب، لان الاسترعاء وثيقة، والوثيقة لا تكون إلا على واجب، وأما إذا سمع رجلا في دكانه أو طريقه يقول أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم ولم يقل فاشهد على شهادتى لم يحكم به لانه يحتمل أنه أراد أن له عليه ألفا من وعد وعده بها فلم يجز تحمل الشهادة عليه مع الاحتمال، وإن سمع رجلا يقول: لفلان على ألف درهم فهل يجوز أن يشهد عليه بذلك؟ فِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه لا يجوز أن يشهد عليه، كما لا يجوز
أن يتحمل الشهادة عليه.
(والثانى)
وهو المنصوص أنه يجوز أن يشهد عليه، والفرق بينه وبين التحمل أن المقر يوجب الحق على نفسه فجاز من غير استرعاء والشاهد يوجب الحق على غيره فاعتبر فيه الاسترعاء، ولان الشهادة آكد لانه يعتبر فيها العدالة ولا يعتبر ذلك في الاقرار.
(فصل)
وإذا أراد شاهد الفرع أن يؤدى الشهادة أداها على الصفة التى تحملها، فإن سمعه يشهد بحق مضاف إلى سبب يوجب الحق ذكره، وإن سمعه يشهد عند الحاكم ذكره، وإن أشهد شاهد الاصل على شهادته أو استرعاه قال أشهد أن فلانا يشهد أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته
(فصل)
وان رجع شهود الاصل قبل الحكم بشهادة الفرع بطلت شهادة الفرع لانه بطل الاصل فبطل الفرع: وإن شهد شُهُودَ الْفَرْعِ ثُمَّ حَضَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ قَبْلَ الحكم لم يحكم بشهادتهم لانه قدر على الاصل فلا يجوز الحكم بالبدل والله أعلم.
(الشرح) حديث أم سلمة (انكم تختصمون إلى وانما أنا بشر ... ) متفق عليه.
اللغة: قوله (الفرع) مأخوذ من فروع الشجرة وهى أغصانها التى تنمى عن الاصول، وفروع كل شئ اعلاه ايضا.(20/270)
قوله (ان يسترعيه) الاسترعاء في الشهادات مأخوذ من قولهم أرعيته سمعي أي أصغيت إليه، ومنه قوله راعنا.
قال الاخفش معناه أرعنا سمعك ولا تقبل الشهادة على الشهاة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضى إلى القاضى وهو حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى، لان الحدود مبنية على الستر
والدرء بالشبهات ولا يحكم بها، أي بالشهادة على الشهادة، إلا أن تتعذر شهادة الاصل بموت أو مرض أو غيبة مسافة قصر أو خوف من سلطان أو غيره، لانه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدى الاصل استغنى عن البحث عن عدالة شاهدى الفرع وكان أحوط الشهادة ولا بد من ثبوت عدالة الجميع، ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا بما يسترعيه شاهد الاصل، فيقول اشهد على شهادتى بكذا، أو بسمعه يقر أو يعزوها إلى سبب من قرض أو بيع أو نحوه فيجوز الفرع أن يشهد، لان هذا كالاسترعاء، ويؤديها الفرع بصفة تحمله وتثبت شهادة شاهدى الاصل بفرعين، ولو على كل أصل فرع، ويثبت الحق بفرع مع أصل آخر.
ويقبل تعديل فرع لاصله وبموته ونحوه لا تعديل شاهد لرفيقه.
وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض الحكم لانه قد تم ووجب المشهود به المشهود له، ولو كان قبل الاستيفاء ويلزمهم الضمان أي يلزم الشهود الراجعين بدل المال الذى شهدوا به قائما كان أو تالفا، لانهم أخرجوه من يد مالكه بغير حق وحالوا بينه وبينه دون من زكاهم، فلا غرم على مزك إذا رجع المزكى، لان الحكم تعلق بشهادة الشهود، ولا تعلق له بالمزكيين لانهم أخبروا بظاهر حال الشهود، وأما باطنه فعلمه إلى الله تعالى وإن حكم القاضى بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم الشاهد المال كله لان الشاهد حجة الدعوى، ولان اليمين قول الخصم.
وقول الخصم ليس مقبولا على خصمه، وانما هو شرط الحكم فهو كطلب الحكم، وان رجعوا قبل الحكم لغت ولا حكم ولا ضمان، وان رجع شهود قود أو حد بعد حكم وقبل استيفاء لم يستوف ووجبت دية وقود(20/271)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب اختلاف الشهود في الشهادة
إذا ادعى رجل على رجل ألفين وشهد له شاهد أنه أقر له بألف وشهد آخر أنه أقر بالفين ثبت له ألف بشهادتهما لانهما اتفقا على إثباتها وله أن يحلف مع شاهد الالفين ويثبت له الالف الآخرى لانه شهد له بها شاهد، وإن ادعى ألفا فشهد له شاهد بألف وشهد آخر بألفين ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يحلف مع الذى شهد له بالآلف ويقضى له وتسقط شهادة من شهد له بالالفين لانه صار مكذبا له فسقطت شهادته له في الجميع
(والثانى)
أنه يثبت له الالف بشهادتهما ويحلف ويستحق الالف الاخرى ولا يصير مكذبا بالشهادة لانه يجوز أن يكون له حق ويدعى بعضه ويجوز أنه لم يعلم أن له من يشهد له بالالفين
(فصل)
وان شهد شاهد على رجل أنه زنى بامرأة في زاوية من بيت وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثانية، وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثالثة، وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية رابعة لم يجب الحد على المشهود عليه لانه لم تكمل البينة على فعل واحد، وهل يحب حد القذف على الشهود؟ على القولين وإن شهد إثنان أنه زنى بها وهى مطاوعة وشهد إثنان أنه زنى بها وهى مكرهة لم يجب الحد عليها لانه لم تكمل بينة الحد في زناها وأما الرجل فالمذهب أنه لا يحب عليه الحد.
وخرج أبو العباس وجها آخر أنه يجب عليه الحد لانهم اتفقوا على أنه زنى وهذا خطأ لان زناه بها وهى مطاوعة غير زناه بها وهى مكرهة.
فصار كما لو شهد إثنان أنه زنى بها في زاوية وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية أخرى
(فصل)
وإن شهد شاهد أنه قذف رجلا بالعربية وشهد آخر أنه قذفه بالعجمية أو شهد أحدهما أنه قذفه يوم الخميس وشهد آخر أنه قذفه يوم الجمعة لم
يجب الحد لانه لم تكمل البينة على قذف واحد(20/272)
وإن شهد أحدهما أنه أقر بالعربية أنه قذفه وشهد آخر أنه أقر بالعجمية أنه قذفه أو شهد أحدهما أنه أقر بالقذف يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر بالقذف يوم الجمعة وجب الحد لان المقر به واحد وإن اختلفت العبارة فيه
(فصل)
وإن شهد شاهد أنه سرق من رجل كبشا أبيض غدوة وشهد آخر أنه سرق ذلك الكبش بعينه عشية لم يجب الحد لانه لم تكمل بينة الحد على سرقة واحدة وللمسروق منه أن يحلف ويقضى له بالغرم، لان الغرم يثبت بشاهد ويمين، فإن شهد شاهدان أنه سرق كبشا أبيض غدوة وشهد آخران أنه سرق منه ذلك الكبش بعينه عيشة تعارضت البينتان ولم يحكم بواحدة منهما، وتخالف المسألة قبلها، فإن كل واحد من الشاهدين ليس ببينة والتعارض لا يكون في غير بينة، وههنا كل واحد منهما بينة فتعارضتا وسقطنا وإن شهد شاهد أنه سرق منه كبشا غدوة وشهد آخر أنه سرق منه كبشا عشية ولم يعينا الكبش لم يجب الحد، لانه لم تكمل بينة الحد وله أن يحلف مع أيهما شاء ويحكم له، فإن ادعى الكبشين حلف مع كل واحد منهما يمينا وحكم له بهما لانه لا تعارض بينهما.
وإن شهد شاهدان أنه سرق كبشا غدوة وشهد آخران أنه سرق منه كبشا عشية وجب القطع والغرم فيهما لانه كملت بينة الحد والغرم.
وان شهد شاهد أنه سرق ثوبا وقيمته ثمن دينار، وشهد آخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع دينار لم يجب القطع، لانه لم تكمل بينة الحد ووجب له الثمن لانه اتفق عليه الشاهدان وله أن يحلف على الثمن الآخر ويحكم له، لانه انفرد به شاهد فقضى به مع اليمين، وان أتلف عليه ثوبا فشهد شاهدان أن قيمته عشرة وشهد آخران
أن قيمته عشرون قضى بالعشرة، لان البينتين اتفقتا على العشرة وتعارضتا في الزيادة لان إحداهما تثبتها والاخرى تنفيها فسقطت.
(فصل)
وان شهد شاهدان على رجلين أنهما قتلا فلانا وشهد المشهود عليهما على الشاهدين أنهما قتلاه، فإن صدق الولى الاولين حكم بشهادتهما ويقتل الآخران، لان الاولين غير متهمين فيما شهدا به والآخران متهمان لانهما يدفعان عن أنفسهما القتل(20/273)
وإن كذب الولى الاولين وصدق الآخرين بطلت شهادة الجميع، لان الاولين كذبهما الولى والاخران يدفعان عن أنفسهما القتل
(فصل)
وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل مورثه عمدا، وقال المدعى عليه قتلته خطأ، فأقام المدعى شاهدين، فشهد أحدهما أنه أقر بقتله عمدا وشهد الاخر على إقراره بالقتل خطأ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، لان صفة القتل لا تثبت بشاهد واحد، فإذا حلف ثبتت دية الخطأ فإن نكل حلف المدعى أنه قتله عمدا ويجب القصاص أو دية مغلظة.
(فصل)
وإن قتل رجل عمدا وله وارثان إبنان أو أخوان فشهد أحدهما على أخيه أنه عفا عن القود والمال سقط القود عن القاتل، عدلا كان أو فاسقا، لان شهادته على أخيه تضمنت الاقرار بسقوط القود.
فأما الدية فإن نصيب الشاهد يثبت لانه ما عفا عنه، وأما نصيب المشهود عليه فإنه إن كان الشاهد ممن لا تقبل شهادته حلف المشهود عليه أنه ما عفا ويستحق نصف الدية، وان كان ممن تقبل شهادته حلف القاتل معه ويسقط عنه حقه من الدية، لان ما طريقه المال يثبت بالشاهد واليمين.
وفى كيفية اليمين وجهان
(أحدهما)
أنه يحلف أنه قد عفا عن المال
(والثانى)
أنه يحلف أنه قد عفا عن القود والمال وهو ظاهر النص، لانه
قد يعفو عن الدية ولا يسقط حقه منها، وهو إذا قلنا ان قتل العمد لا يوجب غير القود.
فإذا عفا عن الدية كان ذلك كلا عفو فوجب أن يحلف أنه ما عفا عن القود والدية.
(فصل)
وان شهد شاهد أنه قال وكلتك وشهد آخر أنه قال أديت لك أو أنت جربى لم تثبت الوكالة لان شهادتهما لم تتفق على قول واحد، وان شهد أحدهما أنه قال وكلتك وشهد الآخر أنه أذن له في التصرف أو أنه سلطه على التصرف ثبتت الوكالة لان أحدهما ذكر اللفظ والاخر ذكر المعنى، ولم يخالفه الاخر الا في اللفظ.
(فصل)
وان شهد شاهدان على رجل أنه أعتق في مرضه عبده سالما وقيمته ثلث ماله وشهد آخر أنه أعتق غانما وقيمته ثلث ماله فإن علم السابق منهما عتق(20/274)
ورق الآخر، وإن لم يعلم ذلك ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يقرع بينهما لانه لا يمكن الجمع بينهما، لان الثلث لا يحتملهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر فأقرع بينهما، كما لو أعتق عبدين وعجز الثلث عنهما والقول الثاني أنه يعتق من كل واحد منهما النصف لان السابق حر والثانى عبد فإذا أقرع بينهما لم يؤمن أن يخرج سهم الرق على السابق وهو حر فيسترق وسهم العتق على الثاني فيعتق وهو عبد فوجب أن يعتق من كل واحد منهما النصف لتساويهما، كما لو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بالثلث ولم يجز الورثة ما زاد على الثلث فإن الثلث يقسم عليهما.
وان شهد شاهدان على رجل أنه أوصى لرجل بثلث ماله وشهد آخران أنه رجع عن الوصية وأوصى لآخر بالثلث بطلت الوصية الاولى وصحت الوصية للثاني، وإن ادعى رجل على رجلين أنهما رهنا عبدا لهما عنده بدين له عليهما
فصدقه كل واحد منهما في حق شريكه وكذبه في حق نفسه ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا تقبل شهادتهما لانه يدعى أن كل واحد منهما كاذب
(والثانى)
تقبل شهادتهما ويحلف مع كل واحد منهما ويصير العبد رهنا عنده لانه يجوز أن يكون قد نسى فلا يكون كذبه معلوما اللغة: قوله (في زاوية) الزاوية واحدة الزوايا، وأصله فاعلة من زويت الشئ أي قبضته وجمعته، كأنها تقبض وتجمع، ما فيها، وفى الحديث (زويت لى الارض) قوله (سرق كبشا) هو بالشين المعجمة والباء بواحدة، ومن قال كيسا بالباء باثنتين من تحتها والسين المهملة فقد أخطأ.
(الشرح) قال الامام الشافعي في الام صفحة 51 جزء 7 طبعة حسين امبابى وإذا شهد ثلاثة على رجل بالزنا فأثبتوه فقال الرابع رأيته نال منها ولا أدرى أغاب ذلك منه في ذلك منها، فمذهب أكثر المفتين أن يحد الثلاثة ولا يحد الرابع.
ولو كان الرابع قال أشهد أنه زان ثم قال هذا القول انبغى أن يحد في قولهم لانه قاذف لم يثبت الزنا الذى في مثله الحد ولم يحدوا.
وهكذا لو شهد(20/275)
أربعة فقالوا رأيناه على هذه المرأة فلم يثبتوا لم يحد ولم يحدوا، ولو قالوا زنا بهذه المرأة ثم لم يثبتوا حدوا بالقذف لانهم قذفة لم يخرجوا بالشهادة قال: وإذا شهد الشاهدان على سرقة فاختلفا في الشهادة فقال أحدهما سرق من هذه الدار كبشا لفلان، وقال الاخر بل سرقه من هذه الدار أو شهدا بالرؤية معا وقالا معا سرقه من هذا البيت وقال أحدهما بكرة وقال الاخر عشية أو قال أحدهما سرق الكبش وهو أبيض وقال الاخر سرقه وهو اسود، أو قال أحدهما كان الذى سرق أقرن وقال الاخر أجم أي غير أقرن، أو قال أحدهما
كان كبشا وقال الاخر كان نعجة، فهذا اختلاف لا يقطع به حتى يجتمعا على شئ واحد يجب في مثله القطع ويقال المسروق منه كل واحد من هذين يكذب صاحبه فادع شهادة أيهما شئت واحلف مع شاهدك، فإن قال أحدهما سرق كبشا ووصفه بكرة وقال الاخر سرق كبشا ووصفه عشية فلم يدع المسروق الا كبشا حلف على أي الكبشين شاء وأخذه أو ثمنه ان فات وان ادعى كبشين حلف مع شهادة كل واحد منهما وأخذ كبشين إذا لم يكونا وصفا أن السرقة واحدة واختلفا في صفتهما، فهذه سرقتان يحلف مع كل واحد منهما ويأخذه قال وكذلك لو شهد شاهد أنه شرب خمرا اليوم وشهد آخر أنه شرب خمرا أمس لم يحد من قبل أن أمس غير اليوم وإذا شهد شاهد على رجل أنه قذف رجلا اليوم وشهد آخر عليه أنه قذفه أمس فلا يحد من قبل أنه ليس ثم اثنان يشهدان على قذف واحد قالت الحنابلة في كتاب منار السبيل طبعة دمشق صفحة 416: وان اختلف اثنان قدم قول المثبت، لانه يشهد بزيادة لم يدركها النافي.
ثم قال صفحة 502: ولا يمين على شاهد أنكر شهادته وحاكم أنكر حكمه، لان ذلك لا يقضى فيه بالنكول فلا فائده بإيجاب اليمين فيه.
وقالوا في الفروع صفحة 518: ومن زاد في شهادته أو نقص قبل الحكم أو أذى بعد انكارها قيل نص عليهما، كقوله لا أعرف الشهادة، وقيل لا كبعد الحكم، وقيل يؤخذ بقوله(20/276)
المتقدم، وإن رجع لغت ولا حكم ولم يضمن وتقدم هل يجد في قذف، وفى الترغيب يحد، فإن ادعى غلطا فمبنى على ما إذا اتى بحد في صورة الشهادة ولم يكمل، وفى الرعاية يحد، فإن ادعى غلطا فلا، وإن لم يصرح بالرجوع بل قال
للحاكم توقف فتوقف ثم عاد إليها قبلت في الاصح ففى وجوب إعامتها احتمالان وإن رجع شهود مال أو عتق بعد الحكم قبل الاستيفاء أو بعده لم ينقض ويضمنون ما لم يصدقهم مشهود له لا من زكاهم.
وان رجع شهود القرابة وشهود الشراء غرم شهود القرابة وخرج في الانتصار كشهود زنا وإحصان، وفيه لو رجع شهود يمين بعتقه وشهود بحنثه فظاهر اختياره يغرمه شهود اليمين وفاقا لابي حنيفة.
وعن أصحابنا بينهما وفاقا للشافعي، وإن رجع شهود طلاق فلا غرم إلا قبل الدخول نصف المسمى أو بدله وإن رجع شهود قود أو حد لم يستوف فتجب دية القود، فإن وجب عينا فلا، وقيل بالاستيفاء ان كان لآدمي، وان كان بعده وقالوا أخطأنا غرموا دية ما تلف أو أرش الضرب، وان رجع واحد غرم بقسطه وقيل الكل، وإن رجع الزائد على البينة قبل الحكم أو بعده استوفى ويحد الراجع لقذفه ثم قالوا: وان رجع شهود تعليق عتق أو طلاق وشهود شرطه غرموا بعددهم قال ابن حزم في المحلى صفحة 513 جزء 9 طبعة الامام: وإذا رجع الشاهد عن شهادته بعد أن حكم بها أو قبل أن يحكم بها فسخ بها فيه، فلو مات أو جن أو تغير بعد أن شهد قبل أن يحم بشهادته أو بعد أن حكم بها نفذت على كل حال ولم ترد قال على: أما موته وجنونه وتغيره فقد تمت الشهادة الصحيحة ولم يوجب فسخها بعد ثبوتها ما حدث بعد ذلك، وأما رجوعه عن شهادته فلو أن عدلين شهدا بجرحته حين شهد لوجب رد ما شهد به واقراره على نفسه بالكذب أو الغفلة أثبت عليه من شهادة غيره عليه بذلك، وقولنا هو قول حماد بن أبى سليمان والحسن البصري وقالت الشيعة في المختصر النافع صفحة 214: ولا بد في الشهادة من ذكر المشاهدة كالميل في المكحلة ولا بد من تواردهم(20/277)
على الفعل الواحد في الزمان الواحد والمكان الواحد، ولو أقام الشهادة بعض حدوا لو لم يرتقب إتمام البينة وتقبل شهادة الاربعة على الاثنين فما زاد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الرجوع عن الشهادة
إذا شهد الشهود بحق ثم رجعوا عن الشهادة لم يخل إما أن يكون قبل الحكم أو بعد الحكم وقبل الاستيفاء أو بعد الحكم وبعد الاستيفاء، فإن كان قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم.
وحكى عن أبى ثور أنه قال يحكم وهذا خطأ لانه يحتمل أن يكونوا صادقين في الشهادة كاذبين في الرجوع، ويجوز أن يكونوا صادقين في الرجوع كاذبين في الشهادة ولم يحكم مع الشك، كما لو جهل عدالة الشهود، فإن رجعوا بعد الحكم وقبل الاستيفاء فإن كان في حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء لان هذه الحقوق تسقط بالشبهة والرجوع شبهة ظاهرة فلم يجز الاستيفاء بالشبهة معها، وإن كان مالا أو عقد فالمنصوص أنه يجوز الاستيفاء ومن أصحابنا من قال لا يجوز لان الحكم غير مستقر قبل الاستيفاء، وهذا خطأ لان الحكم نفذ والشبهة لا تؤثر فيه فجاز الاستيفاء، وإن رجعوا بعد الحكم والاستيفاء لم ينقض الحكم ولا يجب على المشهود له رد ما أخذه لانه يجوز أن يكونوا صادقين، ويجوز أن يكونوا كاذبين، وقد اقترن بأحد الجائزين الحكم والاستيفاء فلا ينقض برجوع محتمل.
(فصل)
وإن شهدوا بما يوجب القتل ثم رجعوا نظرت فإن قالوا تعمدنا ليقتل بشهادتنا وجب عليهم القود، لما روى الشعى أن رجلين شهدا عند على رضى الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه، ثم أتيا برجل آخر فقالا إنا أخطأنا بالاول وهذا السارق، فأبطل شهادتهما على الآخر وضمنهما دية يد الاول وقال
لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما، ولانهما الجاه إلى قتله بغير حق فلزمهما القود، كما لو أكرهاه على قتله.
وإن قالوا تعمدنا الشهادة ولم نعلم أنه يقتل وهم يجهلون قتله وجبت عليهم(20/278)
دية مغلظة لما فيه من العمد ومؤجلة لما فيه من الخطأ، فإن قالوا أخطأنا وجبت دية مخففة لانه خطأ ولا تحمله العاقلة لانها وجبت باعترافهم، فإن اتفقوا أن بعضهم تعمد وبعضهم أخطأ وجب على المخطئ قسطه من الدية المخففة وعلى المتعمد قسطه من الدية المغلظة ولا يجب عليه القود لمشاركة المخطئ.
وان اختلفوا فقال بعضهم تعمدنا كلنا وقال بعضهم أخطأنا كلنا وجب على المقر بعمد الجميع القود وعلى المقر بخطأ الجميع قسطه من الدية المخففة، وان كانوا أربعة شهدوا بالرجم، فقال اثنان منهم تعمدنا وأخطأ هذان، وقال الآخران تعمدنا وأخطأ الاولان ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه يجب القود على الجميع، لان كل واحد منهم أقر بالعمد وأضاف الخطأ إلى من أقر بالعمد، فصاروا كما لو أقر جميعهم بالعمد.
والقول الثاني، وهو الصحيح، أنه لا قود على واحد منهم بل يجب على كل واحد منهم قسطه من الدية المغلظة، لانه لا يؤخذ كل واحد منهم الا بإقراره وكل واحد منهم مقر بعمد شاركه فيه مخطئ فلا يجب عليه القود بإقرار غيره بالعمد وان قال اثنان تعمدنا كلنا، وقال الآخران تعمدنا وأخطأ الاولان، فعلى الاولين القود وفى الاخرين القولان:
(أحدهما)
يجب عليهما القود
(والثانى)
وهو الصحيح أنه يجب عليهما قسطهما من الدية المغلظة، وقد مضى توجيههما.
وان قال بعضهم تعمدت ولا أعلم حال الباقين، فإن قال الباقون تعمدنا
وجب القود على الجميع، وان قالوا أخطأنا سقط القود عن الجميع.
(فصل)
فإن رجع بعضهم نظرت فإن لم يزد عددهم على عدد البينة بأن شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم ثم رجع واحد منهم وقال أخطأت ضمن ربع الدية.
وان رجع اثنان ضمنا نصف الدية، وان زاد عددهم على عدد البينة بأن شهد خمسة على رجل بالزنا فرجم ورجع واحد منهم لم يجب القود على الراجع لبقاء وجوب القتل على المشهود عليه، وهل يجب عليه من الدية شئ؟ فيه وجهان
(أحدهما)
وهو الصحيح أنه لا يجب لبقاء وجوب القتل
(والثانى)
أنه(20/279)
يجب عليه خمس الدية لان الرجم حصل بشهادتهم فقسمت الدية على عددهم.
فإن رجع إثنان وقالا تعمدنا كلنا وجب عليهما القود، وان قالا أخطأنا كلنا ففى الدية وجهان:
(أحدهما)
أنهما يضمنان الخمس من الدية اعتبارا بعددهم
(والثانى)
يضمنان ربع الدية لانه بقى ثلاثه أرباع البينة
(فصل)
وإن شهد أربعة بالزنا على رجل وشهد إثنان بالاحصان فرجم ثم رجعوا كلهم عن الشهادة فهل يجب على شهود الاحصان ضمان؟ فيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه لا يجب لانهم لم يشهدوا بما يوجب القتل
(والثانى)
أنه يجب على الجميع لان الرجم لم يستوف إلا بهم (والثالث) أنهما إن شهدا بالاحصان قبل ثبوت الزنا لم يضمنا لانهما لم يثبتا إلا صفة، وإن شهدا بعد ثبوت الزنا ضمنا لان الرجم لم يستوف إلا بهما، وفى قدر ما يضمنان من الدية وجهان:
(أحدهما)
أنهما يضمنان نصف الدية لانه رجم بنوعين من البينة: الاحصان والزنا فقسمت الدية عليهما.
(والثانى)
أنه يجب عليهما ثلث الدية، لانه رجم بشهادة ستة فوجب على
الاثنين ثلث الدية، وإن شهد أربعة بالزنا وشهد إثنان منهم بالاحصان قبلت شهادتهما لانهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعا ولا يدفعان عنهما ضررا، فإن شهدوا فرجم المشهود عليه ثم رجعوا عن الشهادة، فأن قلنا لا يجب الضمان على شهود الاحصان وجبت الدية عليهم أرباعا على كل واحد منهم ربعها وإن قلنا انه يجب الضمان على شهود الاحصان ففى هذه المسألة وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يجب لاجل الشهادة بالاحصان شئ بل يجب على من شهد بالاحصان نصف الدية وعلى الآخرين نصفها، لان الرجوع عن الشهادة صار كالجناية فوجب على كل اثنين نصف الدية كأربعة أنفس جنى اثنان جنايتين، وحتى اثنان أربعة جنايات.
والوجه الثاني أنه يجب الضمان لاجل الشهادة بالاحصان، فإن قلنا يجب على شاهدى الاحصان نصف الدية وعلى شهود الزنا النصف وجب ههنا على الشاهدين بشهادتهما بالاحصان نصف الدية، وقسم النصف بينهم نصفين على(20/280)
شاهدى الاحصان النصف وعلى الاخرين النصف فيصير على شاهدى الاحصان ثلاثة أرباع الدية وعلى الاخرين ربعها، وإذا قلنا إنه يجب على شاهدى الاحصان ثلث الدية وجب ههنا عليهما الثلث بشهادتهما بالاحصان ويبقى الثلثان بينهم النصف على من شهد بالاحصان والنصف على الاخرين فيصير على من شهد بالاحصان ثلثا الدية وعلى من انفرد بشهادة الزنا ثلثها.
(فصل)
وان شهد على رجل أربعة بالزنا وشهد اثنان بتزكيتهم فرجم ثم بان أن الشهود كانوا عبيدا أو كفارا وجب الضمان على المزكيين لان المرجوم قتل بغير حق ولا شئ على شهود الزنا، لانهم يقولون انا شهدنا بالحق ولولى الدم أن يطالب من شاء من الامام أو المزكيين، لان الامام رجم المزكيين
الجاه، فإن طالب الامام رجع على المزكيين لانه رجمه بشهادتهما، وان طالب المزكيين لم يرجعا على الامام لانه كالالة لهما،
(فصل)
وان شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده ثم رجعا عن الشهادة وجب عليهما قيمة العبد لانهما أتلفاه عليه فلزمهما ضمانه كما لو قتلاه، وان شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثم رجعا عن الشهادة، فإن كان بعد الدخول وجب عليهما مهر المثل لانهما أتلفا عليه مقوما فلزمهما ضمانه، كما لو أتلفا عليه ماله وان كان قبل الدخول ففيه طريقان ذكرناهما في الرضاع.
(فصل)
وان شهدا عليه بمال وحكم عليه ثم رجعا عن الشهادة فالمنصوص أنه لا يرجع على المشهود وقال فيمن في يده دار فأقر أنه غصبها من فلان ثم أقر أنه غصبها من آخر أنها تسلم إلى الاول بإقراره السابق: وهل يجب عليه أن يغرم قيمتها للثاني؟ فيه قولان ورجوع الشهود كرجوع المقر، فمن أصحابنا من قال هو على قولين وهو قول أبى العباس:
(أحدهما)
أنه يرجع على المشهود بالغرم، لانهم حالوا بينه وبين ماله بعدوان وهو الشهادة فلزمهم الضمان.
(والثانى)
أنه لا يرجع عليهم لان العين لا تضمن إلا باليد أو بالاتلاف ولم يوجد من الشهود واحد منهما ومن أصحابنا من قال لا يرجع على الشهود(20/281)
قولا واحدا، والفرق بينهم وبين الغاصب أن الغاصب ثبتت يده على المال بعدوان والشهود لم تثبت أيديهم على المال، والصحيح أن المسألة على قولين، والصحيح من القولين أنه يجب عليهم الضمان، فإن شهد رجل وامرأتان بالمال ثم رجعوا وجب على الرجل النصف وعلى كل امرأة الربع، لان كل امرأتين
كالرجل.
وإن شهد ثلاثة رجال ثم رجعوا وجب على كل واحد منهم الثلث، فإن رجع واحد وبقى اثنان ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يلزمه ضمان الثلث لان المال يثبت بشهادة الجميع
(والثانى)
وهو المذهب أنه لا شئ عليه لانه بقيت بينة يثبت بها المال، فإن رجع آخر وجب عليه وعلى الاول ضمان النصف لانه انحل نصف البينة، وإن شهد رجل وعشر نسوة ثم رجعوا عن الشهادة وجب على الرجل ضمان السدس وعلى كل امرأة ضمان نصف السدس.
وقال أبو العباس يجب على الرجل ضمان النصف وعلى النسوة ضمان النصف لان الرجل في المال بمنزلة نصف البينة فلزمه ضمان النصف، والصحيح هو الاول لان الرجل في المال بمنزلة امرأتين، وكل امرأتين بمنزلة رجل فصاروا كستة رجال شهدوا ثم رجعوا فيكون حصة الرجل السدس وحصة كل امرأتين السدس وإن رجع ثمانى نسوة لم يجب على الصحيح من المذهب عليهن شئ لانه بقيت ببنة ثبت بها الحق، فإن رجعت أخرى وجب عليها وعلى الثمانى ضمان الربع، وأن رجعت أخرى وجب عليها وعلى النسع النصف.
(فصل)
وإن شهد شاهد بحق ثم مات أو جن أو أغمى عليه قبل الحكم لم تبطل شهادته لان ما حدث لا يوقع شبهة في الشهادة فلم يمنع الحكم بها، وإن شهد ثم فسق قبل الحكم لم يجز الحكم بشهادته، لان الفسق يوقع شكا في عدالته عند الشهادة فمنع الحكم بها.
وإن شهد على رجل ثم صار عدوا له بأن قذفه المشهود عليه لم تبطل شهادته لان هذه عداوة حدثت بعد الشهادة فلم تمنع من الحكم بها، وإن شهد وحكم الحاكم بشهادته ثم فسق فإن كان في مال أو عقد لم يؤثر في الحكم لانه يجوز أن يكون حادثا ويجوز أن يكون موجودا عند الشهادة فلا ينقض حكم نفذ بأمر محتمل، وإن كان في حد أو قصاص لم يجز(20/282)
الاستيفاء لان ذلك يوقع شبهة في الشهادة والحد والقصاص مما يسقطان بالشبهة فلم يجز استيفاؤه مع الشبهة.
(فصل)
وإن حكم بشهادة شاهد ثم بان أنه عبد أو كافر نقض الحكم لانه تيقن الخطا في حكمه فوجب نقضه كما لو حكم بالاجهاد ثم وجد النص بخلافه، وإن حكم بشهادة شاهد ثم قامت البينة أنه فاسق، فإن لم تسند الفسق إلى حال الحكم لم ينقض الحكم لجواز أن يكون الفسق حدث بعد الحكم فلم ينقض الحكم مع الاحتمال.
وإن قامت البينة أنه كان فاسقا عند الحكم فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق رحمه الله ينقض الحكم قولا واحدا، لانه إذا نقص بشهادة العبد ولا نص في رد شهادته ولا اجماع، فلان ينقض بشهادة الفاسق وقد ثبت رد شهادته بالنص والاجماع أولى.
وقال أبو العباس رحمه الله فيه قولان، أحدهما أنه ينقض لما ذكرناه، والثانى أنه لا ينقض لانه فسقه ثبت بالبينة من جهة الظاهر فلا ينقض حكم نفذ في الظاهر، والصحيح هو الاول لان هذا يبطل به إذا حكم بالاجتهاد فيه ثم وجد النص بخلافه، فإن النص ثبت من جهة الظاهر، وهو خبر الواحد ثم ينقض به الحكم.
(فصل)
وإذا نقض الحكم نظرت فإن كان المحكوم به قطعا أو قتلا وجب على الحاكم ضمانه لانه لا يمكن إيجابه على الشهود لانهم يقولون شهدنا بالحق ولا يمكن إيجابه على المشهود له، لانه يقول استوفيت حقى فوجب على الحاكم الذى حكم بالاتلاف ولم يبحث عن الشهادة، وفى الموضع الذى يضمن قولان
(أحدهما)
في بيت المال
(والثانى)
على عاقلته وقد بيناه في الديات،
وان كان المحكوم به مالا فإن كان باقيا في يد المحكوم له وجب عليه رده، وان كان تالفا وجب عليه ضمانه لانه حصل في يده بغير حق ويخالف ضمان القطع والقتل حيث لم يوجب على المحكوم له، لان الجناية لا تضمن الا أن تكون محرمة وبحكم الحاكم خرج عن أن يكون محرما فوجب على الحاكم دونه(20/283)
(فصل)
ومن حكم له الحاكم بمال أو بضع أو غيرهما بيمين فاجرة أو شهادة زور لم يحل له ما حكم له به لما روت أم سملة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: انكم تختصمون إلى وانما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له بما أسمع وأظنه صادقا، فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها، ولانه يقطع بتحريم ما حكم له به فلم يحل له بحكمه كما لو حكم له بما يخالف النص والاجماع (الشرح) أثر الشعبى أن رجلين شهدا عند على ثم رجعا ... ) أخرجه البيهقى في السنن الكبرى.
حديث أم سلمة متفق عليه، وقد خرجه مسلم بصيغ منها ما ذكر، ومنها (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ألا انما أنا بشر وانما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضى له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو بذرها، وأخرجه البخاري في غير موضع بألفاظ متقاربة وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والامام أحمد في مسنده.
اللغة: قوله (بتزكيتهم) تزكية الشهود مدحهم والثناء عليهم، يقال زكى فلان بينته أي مدحها، وزكى أي فمى صلاحه من زكى المال، ويقال تطهيرهم، من قوله تَعَالَى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) وقوله تعالى (غلاما
زكيا) أي طاهرا.
وقوله تعالى (ما زكى منكم من أحد أبدا) أي ما طهر قوله (ولعل بعضكم أن يكون الجن بحجته) أي أفطن وأقوم بها، يقال لحن يلحن لحنا بفتح الحاء إذا أصاب وفطن، قالوا وأما اللحن بإسكان الحاء فهو الخطأ واللحن أيضا اللغة، ومنه قول عمر رضى الله عنه: أبى اقرؤنا وإنا لترغب عن كثير من لحنه أي لغته وكان يقرأ التابوه قال: وقوم لهم لحن سوى لحن قومنا
* وشكل وبيت الله لسنا نشاكله واللحن أيضا التعريض والاشارة، قال أبو زيد: يقال لحنت له بالفتح لحنا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى عن غيره، ومنه قوله تعالى (ولتعرفنهم في(20/284)
لحن القول) قال ابن الانباى معناه ولتعرفنهم في معنى القول.
وقال العزيزي: فحوى القول ومعناه، وقال الهروي في نحوه وقصده، وأنشدوا للقتال الكلابي: وقد لحنت لكم لكيما تفهموا
* ووحيت وحيا ليس بالمرتاب وقبل أن أنقل لك ما قبل فقهيا أحببت أن أنقل لك ما ذكره ابن دقيق العهد في احكام الاحكام لان فيه رد قوى على أرباب الطرق وأصحاب التصوف ومن سار في ركابهم، واخراجهم رسولنا الكريم عن بشريته ومدحهم فيه بطريقة لا تتفق مع شرع ولا دين، بل حتى المعتدلين منهم حسب رأيهم في أنفسهم أخرجوا في هذه الايام كتيبا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تخبطوا فيه خبط عشواء ولم يستطيعوا أن يتحللوا من صوفيتهم البغيضة يقول ابن دقيق العبد في شرحه لحديث أم سلمة (فيه دليل على اجراء الاحكام على الظاهر وإعلام الناس بأن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كغيره وإن كان يفترق مع الغير في اطلاعه على ما يطلعه الله عز وجل عليه من الغيوب الباطنة وذلك في أمور مخصوصة لا في الاحكام العامة، وعلى هذا يدل قوله عليه
السلام (إنما أنا بشر) ولا أطيل عليك فهذا ليس من موضوعات كتابنا ولكن أتمنى لامثال هؤلاء السابقين أن يفتح الله قلوبهم للحق وأبصارهم على الاسلام الصحيح فيسيروا على نهج رسول الله عملا وقولا ويلتزموا بالسنة الصحيحة.
قال المزني في مختصره، قال الشافعي رحمه الله: الرجوع عن الشهادة ضربان فإن كانت على رجل بشئ يتلف من بدنه أو ينال بقطع أو قصاص فأخذ منه ذلك ثم رجعوا فقالوا عمدناه بذلك فهى كالجناية فيها القصاص.
واحتج في ذلك بعلى، وما لم يكن من ذلك فيه القصاص أغرموه وعزروا دون الحدود، وإن قالوا لم نعلم أن هذا يجب عليه عزروا وأخذ منهم العقل، ولو قالوا أخطأنا كان عليهم الارش، ولو كان هذا في طلاق ثلاث أغرمتهم للزوج صداق مثلها، دخل بها أو لم يدخل بها، لانهم حرموها عليه، فلم يكن لها قيمة إلا مهر مثلها، ولا التفت إلى ما أعطاها.(20/285)
قال المزني رحمه الله: ينبغى أن يكون هذا غلطا من غير الشافعي، ومعنى قوله المعروف أن يطرح عنهم ذلك بنصف مهر مثلها إذا لم يكن دخل بها قال الشافعي رحمه الله: وان كان في دار فأخرجت من يده إلى غيره عزروا على شهادة الزور ولم يعاقبوا على الخطأ ولم أغرمهم من قبل أنى جعلتهم عدولا بالاول فأمضينا بهم الحكم ولم يكونوا عدولا بالآخر، فترد الدار ولم يستفيدوا شيئا لا يؤخذ ولم يأخذوا شيئا لانفسهم فانتزعه منهم، وهم كمبتدئين شهادة لا تقبل منهم فلا أغرمهم ما أقروه في أيدى غيرهم.
قال ابن دقيق العبد: واتفق أصحاب الشافعي على أن القاضى الحنفي إذا قضى بشفعة الجار للشافع أخذها في الظاهر واختلفوا في حل ذلك في الباطن له على
وجهين.
والحديث (أي حديث أم سملة) عام بالنسبة إلى سائر الحقوق، والذى يتفقون عليه أعنى أصحاب الشافعي - أن الحجج إذا كانت باطلة في نفس الامر بحيث لو اطلع عليها القاضى لم يجز له الحكم بها أن ذلك لا يؤثر وإنما وقع التردد في الامور الاجتهادية إذا خالف اعتقاد القاضى اعتقاد المحكوم له كما قلنا في شفعة الجار.
قالت الحنابلة: وان رجع شهود المال أو العتق بعد حكم الحاكم لم ينقض الحكم لتمامه، ووجوب المشهود المحكوم له ورجوعهم لا ينقض الحكم، لانهم ان قالوا عمدنا فقد شهدوا على أنفسهم بالفسق، فهما متهمان بإرادة تقض الحكم وان قالوا أخطأنا لم يلزم نقضه أيضا لجواز خطئهم في قولهم الثاني بأن اشتبه عليهم الحال.
وقبل الانتهاء من هذا الباب ألخص لك الموضوع: 1 - (تعريف الشهادة) أن يخبر بها المرء صادقا بما شاهد أو سمع 2 - (حكمها) تحمل الشهادة كأدائها فرض كفايه على من تعينت عليه، لقول الله تعالى (فاستشهدوا شهيدين من رجالكم ... ) البقرة وقوله تعالى (ولا تكتموا الشهادة.
) ولقول سيد البشر (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذى يأتي بشهادته قبل أن يسألها) أخرجه مسلم.(20/286)
3 - (شروط الشاهد) أن يكون مسلما عاقلا بالغا عدلا غير متهم، أي ممن لا تقبل شهادتهم كعمودي النسب لبعضهم والزوجين كل منهما للآخر والذى يجر نفعا لنفسه أو يدفع ضررا والعدو على عدوه لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذى غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لاهل البيت) أحمد والبيهقي وأبو داود، وقال في التلخيص اسناده قوى
4 - (أحكام الشهادة) (أ) لا يجوز للشاهد أن يشهد الا بما علمه يقينا برؤية أو سماع لقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الشهادة: ترى الشمس؟ قال نعم، قال على مثلها فاشهد أو دع) ابن عدى بسند ضعيف وصححه الحاكم وخطأه الذهبي في تصحيحه له.
(ب) تجوز الشهادة على شهادة شاهد آخر إذا تعذر حضوره لمرض أو غياب أو موت وللضرورة إذا توقف عليه حكم الحاكم (ج) يزكى الشاهد بشهادة عدلين على أنه عدل مرضى إذا كان الشاهد غير مبرز العدالة، أما مبرز العدالة فلا يحتاج القاضى إلى تزكية له: (د) إن زكى رجلان رجلا وجرح فيه آخران قدم جانب التجريح على جانب التعديل لانه الاحوط.
(هـ) يجب تأديب شاهد الزور بما يردعه 5 - انواع الشهادات: (أ) شهادة الزنا ويتعين فيها أربعة شهود ولا يعتد بالاقل من ذلك، وأن تكون رؤيا العين فيها صحيحة بدخول المرود في المكحلة.
(ب) شهادة غير الزنا من جميع الامور يكفى فيها شاهد عدل (ج) شهادة الاموال يكفى فيها شهادة رجل وامرأتين (د) شهادة الاحكام يكفى فيها شاهد ويمين (هـ) شهادة الحمل والحيض وما لا يطلع عليه إلا النساء يكفى فيه شهادة امرأتين.(20/287)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الإقرار
الحكم بالاقرار واجب لقوله صلى الله عليه وسلم: يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترقت فارجمها، ولان النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية بإقرارهما، ولانه إذا وجب الحكم بالشهادة فلان يجب بالاقرار وهو من الريبة أبعد وأولى.
(فصل)
وان كان المقر به حقا لآدمي أو حقا لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة والكفارة ودعت الحاجة إلى الاقرار به لزمه الاقرار به لقوله عز وجل (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) ولقوله تعالى (فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) والاملال هو الاقرار، فإن كان حقا لله تعالى يسقط بالشبهة فقد بيناه في كتاب الشهادات.
(الشرح) حديث يا أنيس اغد على امرأة هذا.
سبق تخريجه حديث (رجم ماعز والغامدية..) حديث رجم ماعزا أصله في الصحيحين عن أبى هريرة وابن عباس ولم يسم، ورواه مسلم من حديث بريدة فسماه.
حديث الغامدية أخرجه أبو داود ومسلم اللغة: الاقرار اخبار عما قر وثبت وتقدم، ومعناه الاعتراف وترك الانكار، من استقر بالمكان إذا وقف فيه ولم يرتحل عنه، وقرار الماء وقرارته حيث ينتهى جريانه ويستقر، قال عنترة.
جادت علينا كل بكر حرة
* فتركن كل قرارة كالدرهم قوله (قوامين بالقسط) أي بالعدل بكسر القاف وبفتحها الجواز.
وقال آخر: ليتهم أقسطوا إذا قسطوا
* فالزمان قسط وقسط قوله (فليملل وليه بالعدل) يقال أمل عليه بمعنى أملى وأمللت عليه الكتاب(20/288)
الاقرار هو اعتراف الانسان بكل حق عليه بكل لفظ دال على الاقرار، بشرط كون المقر مكلفا وهو أبلغ البينات، ويدخل في جميع أبواب العلم من العبادات والمعاملات والانكحة والجنايات وغيرها، وفى الحديث (لا عذر لمن أقر) ذكره عبد الرحمن بن ناصر السعدى في منهج السالكين ولم أجد من خرجه.
ويجب على الانسان أن يعترف بجميع الحقوق التى عليه للآدميين ليخرج من التبعة بأداء أو استحلال قالت الحنابلة وهو الاعتراف بالحق والحكم به واجب لقوله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) وَرَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا والغامدية والجهنية بإقرارهم، ولانه إذا وجب الحكم بالبينة فلان يجب بالاقرار مع بعده من الريبة أولى قاله في الكافي قال أبو محمد بن حزم في المحلى: اختلف الناس في الاقرار بالحد بعد مدة وأيهما أفضل الاقرار أم الاستتار، فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه لنعلم الحق من ذلك فنتبعه بعون الله تعالى، فنظرنا فيها احتجت به الطائفة المختارة الستر وأن جميع الامة متفقون على ان الستر مباح وأن الاعتراف مباح، انما اختلفوا في الافضل، ولم يقل أحد من أهل الاسلام أن المعترف بما عمل بما يوجب الحد عاص لله تعالى في اعترافه.
ولا قال أحد من أهل الاسلام قط أن السائر على نفسه ما أصاب من حد عاص لله تعالى، فنظرنا في تلك الاخبار التى جاءت في ذلك فوجدناها كلها لا يصح منها شئ إلا خبرا واحدا وهو إعراض رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ المعترف بالزنا مرات، ولا حجة لهم فيه.
وبعد أن أورد نصوص كل من الفريقين وردها سندا وناقشها متنا قرر قائلا فصح يقينا أن الاعتراف بالذنب ليقام عليه الحد أفضل من الاستتار له بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم - أي للغامدية ولماعز - أنه لا أفضل من جودة
المعترف بنفسه لله تعالى، ثم قال وأن الستر مباح بالاجماع(20/289)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح الاقرار الا من بالغ عاقل مختار، فأما الصبى والمجنون فلا يصح إقرارهما لقوله عليه الصلاة والسلام (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يفيق) ولانه التزام حق بالقول فلم يصح من الصبى والمجنون كالبيع.
فإن أقر مراهق وادعى أنه غير بالغ فالقول قوله وعلى المقر له أن يقيم البينة على بلوغه ولا يحلف المقر لانا حكمنا بأنه غير بالغ.
وأما السكران فإن كان سكره بسبب مباح فهو كالمجنون، وإن كان بمعصية الله فعلى ما ذكرنا في الطلاق.
وأما المكره فلا يصح إقراره لقوله عليه الصلاة والسلام (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، ولانه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع، ويصح إقرار السفيه والمفلس بالحد والقصاص لانه غير متهم، وأما إقراره بالمال فقد بيناه في الحجر والتفليس.
(فصل)
ويصح إقرار العبد بالحد والقصاص لان الحق عليه دون مولاه ولا يقبل إقرار المولى عليه في ذلك لان المولى لا يملك من العبد الا المال، وأن جنى رجل على عبد جناية توجب القصاص، أو قذفه قذفا يوجب التعزير ثبت القصاص والتعزير له، وله المطالبة به والعفو عنه، وليس للمولى المطالبة به ولا العفو عنه لانه حق غير مال فكان له دون المولى، ولا يقبل إقرار العبد بجناية الخطأ لانه ايجاب مال في رقبته ويقبل إقرار المولى عليه لانه إيجاب حق في ماله ويقبل إقرار العبد المأذون في دين المعاملة ويجب قضاؤه من المال الذى في يده
لان المولى سلطه عليه، ولا يقبل اقرار غير المأذون في دين معاملة في الحال، ويتبع به إذا عتق، لانه لا يمكن أخذه من رقبته لانه لزمه برضى من له الحق.
وان أقر بسرقة مالا لا يجب فيه القطع، كمال دون النصاب وما سرق من غير حرز وصدقه المولى وجب التسليم ان كان باقيا وتعلق برقبته ان كان تالفا لانه لزمه بغير رضى صاحبه، وان كذبه المولى كان في ذمته يتبع به إذا عتق، وان وجب(20/290)
فيه القطع قطع لانه غير متهم في إيجاب القطع، وفى المال قولان، واختلف أصحابنا في موضع القولين على ثَلَاثَةُ طُرُقٍ.
(أَحَدُهَا) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه ان كان المال في يده ففيه قولان، أحدهما أنه يسلمه إليه لانه انتفت التهمة عنه في إيجاب القطع على نفسه، والثانى أنه لا يسلم لان يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه، كما لو كان المال في يد المولى وإن كان المال تالفا لم يقبل إقراره ولا يتعلق برقبته قولا واحدا، لان للغرم محلا يثبت فيه وهو ذمته.
والطريق الثاني وهو قول القاضى أبى حامد المروروذى رحمه الله انه إن كان المال تالفا ففيه قولان، أحدهما يتعلق برقبته يباع فيه، والثانى أنه لا يتعلق برقبته وإن كان باقيا لم يقبل إقراره قولا واحدا لان يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه، كما لو أقر بسرقة مال في يد المولى.
والطريق الثالث وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن القولين في الحالين سواء كان المال باقيا أو تالفا، لان العبد وما في يده في حكم ما في يد المولى، فإن قبل في أحدهما قبل في الآخر، وإن رد في أحدهما رد في الآخر، فلا معنى للفرق بينهما.
(فصل)
وان باع السيد عبده من نفسه فقد نص في الام أنه يجوز.
وقال الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يجوز واختلف أصحابنا فيه فقال أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يجوز قولا واحدا، وذهب القاضى أبو حامد المروروذى والشيخ أبو حامد الاسفراينى رحمهما الله إلى أنها على قولين
(أحدهما)
أنه يجوز لانه إذا جازت كتابته فلان يجوز بيعه وهو أثبت والعتق فيه أسرع أولى.
(والثانى)
أنه لا يجوز لانه لا يجوز بيعه بما في يده لانه للمولى ولا يجوز بمال في ذمته لان المولى لَا يَثْبُتُ لَهُ مَالٌ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ، فإذا قلنا انه يجوز وهو الصحيح فأقر المولى أنه باعه من نفسه وأنكر العبد عتق بإقراره وحلف العبد أنه لم يشتر نفسه ولا يجب عليه الثمن.(20/291)
(الشرح) حديث رفع القلم..سبق تخريجه حديث: رفع عن أمتى الخطأ والنسيان ... أخرجه الطبراني عن ثوبان، ورمز السيوطي لصحته وهو غير صحيح، فقد تعقبه الهيثمى بأن فيه يزيد بن ربيعة الرجى وهو ضعيف، وقصارى أمر الحديث أن النووي ذكر في الطلاق من الروضة أنه حسن، ولم يسلم له ذلك بل اعترض باختلاف فيه وتبابن الروايات وبقول أبى حاتم في العلل عن أبيه: هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة.
وذكر عبد الله بن أحمد في العلل أن أباه أنكره، ونقل الخلال عن أحمد: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف الكتاب والسنة، وقال ابن نصر: هذا الحديث ليس له سند يحتج بمثله.
اللغة: قوله (فإن أقر مراهق) يقال راهق العلام فهو مراهق إذا قارب الاحتلام.
قال الشافعي في الام: وان رهن الرجل الرجل عبدا وأقبضه المرتهن فادعى
عليه المرتهن أنه جنى عليه أو على رجل هو وليه جناية عمدا في مثلها قود فأقر بذلك العبد المرهون وأنكر الراهن ذلك أو لم يقر به ولم ينكره فإقرار العبد لازم له وهو كقيام البينة عليه.
قالت الحنفية في بدائع الصنائع: لا يصح اقرار المجنون والصبى الذى لا يعقل فأما البلوغ فليس بشرط، فيصح اقرار الصبى العاقل بالدين والعين، لان ذلك من ضرورات التجارة، الا أنه لا يصح اقرار المحجور عليه لانه من التصرفات الضارة المحضة من حيث الظاهر والقبول من المأذون للضرورة ولم يوجد.
وأما الحرية فليست بشرط لصحة الاقرار، فيصح اقرار العبد المأذون بالدين والعين وكذا بالحدود والقصاص، وكذا العبد المحجور يصح اقراره بالمال لكن لا ينفذ على المولى للحال حتى لا تباع رقبته بالدين بخلاف المأذون، لان اقرار المأذون انما صح لكونه من ضرورات التجارة والمحجور عليه لا يملك التجارة فلا يملك ما هو من ضروراتها، الا أنه يصح إقراره في حق نفسه حتى يؤاخذ به بعد الحرية لانه من أهل الاقرار لوجود العقل والبلوغ، الا أنه امتنع النفاذ على المولى للحال(20/292)
لحقه، فإذا عتق فقد زال المانع فيؤاخذ به وكذا يصح إقراره الحدود والقصاص فيؤاخذ به الحال لانه نفسه في حق الحدود والقصاص كالخارج على ملك المولى، ولهذا لو أقر المولى عليه بالحدود والقصاص لا يصح، وكذا الصحة ليست بشرط لصحة الاقرار.
قالت الحنابلة في الروض المربع ويصح الاقرار من مكلف لا من صغير غير مأذون في تجارة فيصح في قدر ما أذن له فيه ومختار غير محجور عليه فلا يصح من سفيه إقرار بمال، ولا يصح الاقرار من مكره.
هذا محترز قوله مختار إلا أن يقر بغير ما أكره عليه، كان يكره على الاقرار بدرهم فيقر بدينار، ويصح
من سكران ومن أخرس بإشارة معلومة، ولا يصح بشئ في يد غيره أو تحت ولاية غيره، كما لو أقر أجنبي على صغير أو وقف في ولاية غيره أو اختصاصه، وتقبل من مقر دعوى إكراه تقرينة كترسيم عليه، وتقدم بينة إكراه على طواعية، وان أكره على وزن مال فباع ملكه لذلك، أي لوزن ما أكره عليه صح البيع لانه لم يكره على البيع، ويصح اقرار صبى أنه بلغ باحتلام إذا بلغ عشرا ولا يقبل بسن الا ببينة كدعوى جنون
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويقبل اقرار المريض بالحد والقصاص لانه غير متهم، ويقبل اقراره بالمال لغير وارث لانه غير متهم في حقه، وان أقر لرجل بدين في الصحة وأقر لآخر بدين في المرض وضاق المال عنهما قسم بينهما على قدر الدينين لانهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يقدم أحدهما على الآخر، كما لو أقر لهما في ي حال الصحة.
واختلف أصحابنا في اقراره للوارث، فمنهم من قال فيه قولان، أحدهما أنه لا يقبل لانه اثبات مال للوارث بقوله من غير رضى الورثة فلم يصح من غير رضى سائر الورثة كالوصية.
والثانى أنه يقبل وهو الصحيح، لان من صح اقراره له في الصحة صح اقراره في المرض كالأجنبي(20/293)
ومن أصحابنا من قال يقبل اقراره قولا واحدا، والقول الاخر حكاه عن غيره، وان كان وارثه أخا فأقر له بمال فلم يمت المقر حتى حدث له ان صح اقراره للاخ قولا واحدا لانه خرج عن أن يكون وارثا، وان أقر لاخيه وله ابن فلم يمت حتى مات الابن صار الاقرار للوارث، فيكون على ما ذكرناه من الطريقين في الاقرار للوارث.
وان ملك رجل أخاه ثم أقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته بعد عتقه هل يرث أم لا؟ ان قلنا ان الاقرار الوارث لا يصح لم يرث لان توريثه يوجب ابطال الاقرار بحريته، وإذا بطلت الحرية سقط الارث فثبتت الحرية وسقط الارث، وان قلنا ان الاقرار للوارث يصح نفذ العتق بإقراره وثبت الارث بنسبه.
(الشرح) قوله (ويقبل اقرار المريض بالحد والقصاص..) قال الحنفيون في بدائع الصنائع ص 224 ج 7: (ولنا ما روى عن سيدنا عمر وابنه سيدنا عبد الله رضى الله عنهما أنهما قالا إذا أقر المريض لوارثه لم يجز، وإذا أقر لاجنبي جاز، ولم يرو عن غيرهما خلاف ذلك فيكون اجماعا، ولانه متهم في هذا الاقرار لجواز أنه آثر بعض الورثة على بعض بميل الطبع أو بقضاء حق موجب البعث على الاحسان وهو لا يملك ذلك بطريق التبرع والوصية به فأراد تنفيذ غرضه بصورة الاقرار من غير أن يكون للوارث عليه دين فكان متهما في اقراره فيرد، ولانه لما مرض مرض الموت فقد تعلق حق الورثة بماله، ولهذا لا يملك أن يتبرع عليه بشئ من الثلث مع أنه خالص ملكه لا حق لاجنبي فيه فكان اقراره البعض ابطالا لحق الباقين فلا يصح في حقهم، ولان الوصية لم تجز لوارث فالاقرار أولى لانه لو جاز الاقرار لارتفع بطلان الوصية، لانه يميل إلى الاقرار اختيارا للايثار بل هو أولى من الوصية بالطريق الاولى) ثم قالوا (ولو أقر المريض بديون لاناس كثيرة متفرقة بأن أقر بدين ثم بدين جاز ذلك كله، واستوى فيه المتقدم والمتأخر استواء الكل في التعلق(20/294)
لاستوأهما في زمان التعلق وهو زمان المرض، إذ زمن المرض مع امتداده
بتجدد أمثاله حقيقة بمنزلة زمان واحد في الحكم فلا يتصور فيه التقدم والتأخر.
ولو أقر وهو مريض بدين ثم بعين بأن أقر أن هذا الشئ الذى في يده وديعة لفلان فهما دينان، ولا تقدم الوديعة لان إقراره بالدين قد صح فأوجب تعلق حق الغرماء بالعين لكونها مملوكة من حيث الظاهر والاقرار بالوديعة لا يبطل التعلق لان حق الغير يصان عن الابطال ما أمكن، وأمكن أن يجعل ذلك إقرارا بالدين لاقراره باستهلاك الوديعة بتقديم الاقرار بالدين عليه، وإذا صار مقرا باستهلاك الوديعة فالاقرار باستهلاك الوديعة يكون إقرارا بالدين لذلك فانا دينين، ولو أقر بالوديعة أولا ثم أقر بادين فالاقرار بالوديعة أولى، لان الاقرار بالوديعة لما صح خرجت الوديعة من أن تكون محلا للتعلق لخروجها عن ملك فلا يثبت الاقرار.
لان حق غريم المرض يتعلق بالتركة لا بغيرها ولم يوجد: وكذلك لو أقر المريض بمال في يده أنه بضاعة أو مضاربة فحكمه وحكم الوديعة سواء، والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا أقر المريض بالدين وليس عليه دين ظاهر معلوم في حال الصحة يعتبر إقرارة، فأما إذا كان عليه دين ظاهر معلوم بغير اقراره ثم أقر بدين آخر نظر في ذلك فإن لم يكن المقر به ظاهرا معلوما بغير اقراره تقدم الديون الظاهرة لغرماء الصحة في القضاء فتقضى ديونهم أولا من التركة فما فضل يصرف إلى غير غرماء الصحة، وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله يستويان.
وقالوا (وكذلك إذا تزوج امرأة في مرضه بألف درهم.
ومهر مثلها ألف درهم جاز ذلك على غرماء الصحة والمرأة فحاصصهم بمهرها لانه لما جاز النكاح ولا يجوز الا بوجوب المهر كان وجوب ظاهر معلوما لظهور سبب وجوبه وهو النكاح فلم يكن وجوبه محتملا الرد فيتعلق بماله ضرورة.
يحققه أن النكاح إذا لم يجز بدون مهر والنكاح من الحوائج الاصلية للانسان
كذلك وجوب المهر الذى هو من لوازمه شرعا، والمريض غير محجور عن صرف ماله إلى حوائجه الاصلية كثمن الاعذية والادوية، وان كان عليه دين للصحة،(20/295)
وقالوا (وليس للمريض أن يؤثر بعض غرمائه على بعض، سواء كانوا غرماء المرض أو غرماء الصحة، حتى أنه لو قضى دين أحدهم شاركه الباقون في المقبوض، لان المرض أوجب تعلق الحق بالتركة، وحقوقهم في التعلق على السواء فكان في ايثار البعض ابطال حق الباقين الا أن يكون ذلك بدل قرض أو ثمن مبيع بأن استقرض في مرضه أو اشترى شيئا بمثل قيمته وكان ذلك ظاهرا معلوما فله أن يقضى القرض وينقد الثمن ولا يشاركه الغرماء في المقبوض والمنقود لان الايثار في هذه الصورة ليس ابطالا لحق الباقين) وقالوا (وأما اقرار المريض بالابراء بأن أقر المريض أنه كان أبرا فلانا من الدين الذى عليه في صحته لا يجوز لانه لا يملك انشاء الابراء للحال فلا يملك الاقرار به، بخلاف الاقرار باستيفاء الدين، لانه اقرار بقبض الدين وأنه يملك انشاء القبض فيملك الاخبار عنه بالاقرار) وقالوا في النسب (ولا يشترط صحة المقر لصحة اقراره بالنسب حتى يصح من الصحيح والمريض جميعا، لان المرض ليس بمانع لعينه بل لتعلق حق الغير أو التهمة فكل ذلك منعدم) وقالوا (ولو أقر بأخ في مرض الموت وصدقه المقر له ثم أنكر المريض بعد ذلك وقال ليس بينى وبينك قرابة بطل اقراره في حق الميراث أيضا) قالت الحنابلة في كتاب الفروع ص 608 ج 6 والمريض كالصحيح فيصح اقراره بوارث على الاصح، وان أقر بمال لوارث
قبل ببينة نص عليه، قال جماعة أو اجازة وظاهر نصه لا، وهو ظاهر الانتصار وغيره، واختار فيه يصح ما لم يتهم وفاقا لمالك، وأن أصله من المذهب وصيته لغير وارث يصير وارثا يصح لانتفاء التهمة وقال الازجى: قال أبو بكر: في صحة اقراره لوارثه روايتان.
(أحدهما)
لا يصح (والثانية) يصح لانه يصح لوارث، وفى الصحة أشبه الأجنبي، والاولى أصح، كذا قال وقال في الفنون يلزمه أن يقر وان لم يقبل، وقال أيضا ان حنبليا استدل(20/296)
بأنه لا يصح إقراره لوارثه في مرضه بالوصية له.
فقال له حنبلي: لو أقر له في الصحة صح ولو نحله لم يصح، والنحلة تبرع كالوصية فقد افترق الحال للتهمة في أحدهما دون الآخر، كذا في المرض، ولانه لولا يلزم التبرع فيما زاد على الثلث لاجنبي ويلزم الاقرار، وقد افترق التبرع والاقرار فيما زاد على الثلث، كذا يفترقان في الثلث للوارث) وقال (ويصح الاقرار بأخذ دين في صحة ومرض من أجنبي)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويصح الاقرار لكل من يثبت له الحق المقر به، فإن أقر لعبد بالنكاح أو القصاص أو تعزير القذف صح الاقرار له، صدقه السيد أو كذبه، لان الحق له دون المولى، فإن أقر له بمال فإن قلنا إنه يملك المال صح الاقرار، وإن قلنا إنه لا يملك كان الاقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده.
(فصل)
وإن أقر لحمل بمال فإن عزاه إلى ارث أو وصية صح الاقرار فإن اطلق ففيه قولان: (احدهما) انه لا يصح لانه لا يثبت له الحق من جهة المعاملة ولا من جهة الجناية.
(والثانى)
انه يصح، وهو الصحيح لانه يجوز أن يملكه بوجه صحح وهو
الارث أو الوصية فصح الاقرار له مطلقا كالطفل، ولا يصح الاقرار إلا لحمل يتيقن وجوده عند الاقرار كما بيناه في كتاب الوصية، وإن أقر لمسجد أو مصنع وعزاه إلى سبب صحيح من غلة وقف عليه صح الاقرار، فإن أطلق ففيه وجهان بناء على القولين في الاقرار للحمل.
اللغة: قوله (فإن عزاه إلى ارث) أي لسبه وأضافه،.
قد ذكر وقوله (مصنع) المصنع كالحوض يجمع فيه ماء المطر، وكذلك المصنعة بضم النون، هكذا ذكره الجوهرى وحقيقته البركة وحدث أبو الحسن اللؤلؤي وكان خيرا فاضلا قال: كنت مولعا بالحج فحججت في بعض السنين وعطشت(20/297)
عطشا شديدا فأجلست عديلي في وسط المحمل ونزلت أطلب الماء والناس قد عطشوا، فلم أزل أسال رجلا رجلا ومحملا محملا: معكم ماء؟ وإذا الناس شرع واحد حتى صرت في ساقة القافلة بميل أو ميلين، فمررت بمصنع مصهرج فإذا رجل فقير جالس في ارض المصنع وقد غرز عصاه في أرض المصنع والماء ينبع من موضع العصا وهو يشرب، فنزلت إليه فشربت حتى رويت وجئت إلى القافلة والناس قد نزلوا فأخرجت قربة ومضيت فملاتها، ورأنى الناس فتبادروا بالقرب فرووا عن آخرهم، فلما روى الناس وسارت القافلة جئت لانظر فإذا البركة ملاى تلتطم أمواجها، والمصانع أيضا الحصون، وقد فسر قوله تعالى (وتتخذون مصانع) قال مجاهد قصور مشيدة.
قال: تركن ديارهم منهم قفارا
* وتبقى وهد من المصانع والبروجا وقال قتادة هي برك الماء، وقال: لبيد بلينا وما تبلى النجوم الطوللع
* وتبقى جبال بعدنا ومصانع قوله (ويصح الاقرار لكل من ثبت له الحق المقر به) قلنا وهذا ما لا خلاف فيه بينهم.
وقوله (فإن أقر لعبد بالنكاح أو القصاص..) قال الحنفيون (فيصح إقرار العبد المأذون بالدين والعين، وكذا بالحدود والقصاص، وكذا العبد المحجور يصح إقراره بالمال لكن لا ينفذ على المولى للحال حتى لا تباع رقبته بالدين بخلاف المأذون لان اقرار المأذون انما صح لكونه من ضرورات التجارة والمحجور لا يملك التجارة فلا يملك ما هو من ضروراتها، الا أنه يصح اقراره في حق نفسه حتى يؤاخذ بعد الحرية لانه من أهل الاقرار لوجود العقل والبلوغ إلا أنه امتنع النفاذ على المولى للحال لحقه فإذا أعتق فقد زال المانع فيؤاخذ به وكذا يصح اقراره بالحدود والقصاص فيؤاخذ به الحال، لان نفسه في حق الحدود والقصاص كالخارج عن ملك المولى، ولهذا لو أقر المولى عليه الحدود والقصاص لا يصح قالت الحنابلة (ويقبل اقرار سيد على عبده بما يوجب مالا فقط لانه ايجاب حق في ماله، وفى الكافي: ان أقر بقود وجب المال ويفدى السيد منه(20/298)
ما لا يتعلق، وفى لفظ (ما يتعلق) بالرقبة لو ثبت ببينة وان أقر مكاتب بالجناية تعلقت بذمته في الاصح وبرقبته، ولا يقبل اقرار سيده عليه بذلك، وان أقر غير مكاتب لسيده أو سيده له بمال لم يصح، وقيل بلى ان ملك، وان أقر أنه باعه نفسه بألف عتق فإن صدقه لزمه والا حلف وقيل لا.
قوله (وان أقر لحمل بمال فإن عزاه)
قالت الحنابلة (وان أقر لحمل أمرأة بمال صح في لاصح فإن ولدت حيا وميتا فهو للحى، وحيين ذكرا وأنثى لهما بالسوية، وقيل اثلاثا، وان عزاه إلى ما يقتضى التفاضل كإرث ووصية عمل به وقال القاضى ان أطلق كلف ذكر
السبب فيصح منه ما يصح، ويبطل ما يبطل، فلو مات قبل أن يفسر بطل.
وقالوا: وصحح التميمي الاقرار لحمل ان ذكر ارثا أو وصية فقط، لانه لا يملك بغيرهما ويعمل بحسبه.
قوله (وان أقر لمسجد أو مصنع وعزاه ... ) قالت الحنابلة (وان أقر لمسجد أو مقبرة أو طريق ونحوه وذكر سببا صحيحا لعلة وقفه صح، وان أطلق فوجهان، وأطلقهما في لمعنى والشرح والرعايتين والحاوى وغيرهم
(أحدهما)
يصح، اختاره ابن حامد وهو الصواب ويكون لمصالحها.
والوجه الثاني لا يصح، اختاره التميمي وقدمه ابن رزين في شرحه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أقر بحق لآدمي أو بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة ثم رجع في قراره لم يقبل رجوعه، لانه حق ثبت لغيره فلم يملك اسقاط بغير رضاه.
وان أقر بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظرت فإن كان حد الزنا أو حد الشرب قبل رجوعه وقال أبو ثور رحمه الله: لا يقبل لانه حق ثبت بالاقرار فلم يسقط بالرجوع كالقصاص وحد القذف، وهذا خطأ لما روى أبو هرير ة رضى الله عنه قال: أتى رجل من أسلم إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله ان الاخر زنى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتنحى لشق وجهه الذى أعرض عنه، فقال يا رسول ان الاخر زنى، فأعرض عنه(20/299)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذى أعرض عنه،، فقال يا رسول الله إن الاخر زنى فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم فتنحى له الرابعة، فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هل بك جنون؟ فقال لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذهبوا
به فارجموه، وكان قد أحصن، فلو لم يسقط بالرجوع لما عرض له، ويخالف القصاص وحد القذف، فإن ذلك يجب لحق الآدمى وهذا يجب لحق الله تعالى، وقد ندب فيه إلى الستر، وإن كان حد السرقة أو قطع الطريق ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يقبل فيه الرجوع لانه حق يجب لصيانة حق الآدمى فلم يقبل فيه الرجوع عن الاقرار كحد القذف.
(والثانى)
وهو الصحيح أنه يقبل لما روى أبو أمية المخزومى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بلص قد اعترف، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما إخالك سرقت، فقال له، مرتين أو ثلاثة ثم أمر بقطعه فلو لم يقبل فيه رجوعه لما عرض له، ولانه حق لله تعالى يقبل فيه الرجوع عن الاقرار كحد الزنا والشرب
(الشرح) حديث أبى هريرة (أتى رجل من أسلم إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله ان الاخر زنى..أخرجه البخاري من حديث ابن عباس بلفظ (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ قال لا، قال أنكتها؟ لا يكنى، قال نعم وأخرجه أبو داود والنسائي والدارقطني من حديث أبى هريرة قال جاء الاسلمي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات، كل ذلك يعرض عنه، فأقبل عليه في الخامسة فقال أنكتها؟ قال نعم، قال كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال نعم، فيه ابن المضاض واسمه عبد الرحمن بن الصامت، قال البخاري حديثه في أهل الحجاز ليس يعرف إلا بهذا الواحد.
حديث أبى أمية المخزومى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بلص قد اعترف.
أخرجه أبو داود في لمراسيل من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ووصله(20/300)
الدارقطني والحاكم والبيهقي بذكر أبى هريرة فيه: ورجح ابن خزيمة وابن المدينى
وغير واحد ارساله، وصحح ابن القطان للوصول، ورواه أبو داود في السنن والنسائي وابن ماجه من طريق أبى أمية، قال الخطابى في إسناده مقال، قال والحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم.
اللغة: قوله (ان الاخر زنى) ذكر قوله (فتنحى لشق وجهه) أي أتاه من ناحيته الاخرى، وقيل مال واعتمد وكذا الانتحاء الاعتماد والميل.
قوله (ما إخالك سرقت) أي ما أظنك، يقال أخال بفتح الهمزة وإخال بكسرها والكسر أفصح والقياس الفتح قوله (وان أقر بحق لآدمي.
) قال الحنفيون ان المقر به في الاصل نوعان
(أحدهما)
حق الله تعالى عز شأنه
(والثانى)
حق العبد.
أما حق الله سبحانه وتعالى فنوعان أيضا
(أحدهما)
أن يكون خالصا لله تعالى وهو حد الزنا والسرقة والشرب
(والثانى)
أن يكون للعبد فيه حق، وهو حد القذف، ولصحة الاقرار بها شرائط.
وأما حق العبد فهو المال من العين والدين والنسب والقصاص والطلاق والعتاق ونحوها، ولا يشترط لصحة الاقرار بها ما يشترط لصحة الاقرار بحقوق الله تعالى من العدد ومجلس القضاء والعبارة، حتى ان الاخرس إذا كتب الاقرار بيده أو أومأ بما يعرف أنه اقرار بهذه الاشياء يجوز، بخلاف الذى اعتقل لسانه لان للاخرس اشارة معهودة، فإذا أتى بها يحصل العلم بالمشار إليه، وليس ذلك لمن اعتقل لسانه، ولان اقامة الاشارة مقام العبارة أمر ضروري، والخرس ضرورة لانه أصلى، فأما اعتقال اللسان فليس من باب الضرورة لكونه على شرف الزوال بخلاف الحدود، لانه لا يجعل ذلك اقرارا بالحدود لما بينا أن الحدود على صزيح البيان بخلاف القصاص فإنه غير مبنى على صريح البيان، فإنه
إذا أقر مطلقا عن صفة التعمد بذكر آلة دالة عليه وهى السيف ونحوه يستوفى بمثله القصاص، وحقوق العباد تثبت مع الشبهات بخلاف حقوق الله تعالى(20/301)
وأما بيان ما يبطل به الاقرار بعد وجوده فيبطل بشيئين
(أحدهما)
تكذيب المقر له في أحد نوعي الاقرار بحقوق العباد، لان إقرار المقر دليل لزوم المقر به، وتكذيب المقر له دليل عدم اللزوم، واللزوم لم يعرف ثبوته فلا يثبت مع الشك
(والثانى)
رجوع المقر عن إقراره فيما يحتمل الرجوع في أحد نوعي الاقرار بحقوق الله تبارك وتعالى خالصا، كحد الزنا يحتمل أن يكون صادقا في الانكار فيكون كاذبا في الاقرار ضرورة فيورث شبهة في وجوب الحد، وسواء رجع قبل القضاء أو بعده، قبل تمام الجلد أو الرجم قبل الموت لما قلنا وروى أن ماعزا لما رجم بعض الحجارة هرب من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة، فلما بلغ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عليه الصلاة والسلام (سبحان الله هلا خليتم سبيله) وكذلك الرجوع عن الاقرار بالسرقة والشرب لان الحد الواجب بهما حق الله سبحانه وتعالى خالصا فيصح الرجوع عن الاقرار بهما، إلا أن في السرقة يصح الرجوع في حق القطع لا في حق المال، لان القطع حق الله تعالى على الخلوص فيصح الرجوع عنه، فأما المال فحق العبد فلا يصح الرجوع فيه.
وأما حد القذف فلا يصح الرجوع عن الاقرار فيه، لان للعبد فيه حقا فيكون متهما في الرجوع فلا يصح الرجوع عن سائر الحقوق المتمحضة للعباد، وكذلك الرجوع عن الاقرار بالقصاص، لان القصاص خالص حق العباد فلا يحتمل الرجوع قال ابن حزم في مراتب الاجماع بعد أن ذكر وجوب الرجم على من أقر بالزنا (واختلفوا أيقبل رجوعه أم لا؟ واختلفوا إذا أقر بعد البينة أتبطل البينة ويرجع الحكم إلى حكم الاقرار ويسقط عنه الحد برجوعه أم لا)
قال الشوكاني في الدرر البهية (ويسقط الحد بالشبهات وبالرجوع عن الاقرار) وقال في السرقة (ويكفى الاقرار مرة واحدة) .
وقال صديق حسن خان في الروضة الندية شرح الدرر البهية، وبالرجوع عن الاقرار، لحديث أبى هريرة عند أحمد والترمذي (أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحى جمل (أي عظم الحنك) فضربه به(20/302)
وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هلا تركتموه، قال الترمذي انه حديث حسن، وقد روى من غير وجه عن أبى هريرة ورجال إسناده ثقات.
وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه وزاد (أنه لما وجد مس الحجارة صرخ يا قوم ردوني إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن قومي قتلوني وغرونى من نفسي وأخبروني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرناه قال فهلا تركتموه وجئتموني به) وقد أخرج البخاري ومسلم طرفا منه، وفى الباب روايات.
وقد ذهب إلى ذلك أحمد والشافعية والحنفية، وهو مروى عن مالك في قول له، وقد ذهب ابن أبى ليلى والبتى وأبو ثور ورواية عن مالك وقول الشافعية أنه لا يقبل فيه الرجوع عن الاقرار.
قوله (ومن أقر لرجل بمال في يده..) واتفقوا ان كذب المقر له المقر بطل الاقرار وكان للمقر أن يتصرف فيما أقر به بما شاء) وقوله (فإن أقر الزوج..) واتفقوا ان أقر رجل أو امرأة تزوجية الآخر فسكت صح وورث كل منهما الآخر في حال الوفاة بالزوجية لقيامها بينهما
بالاقرار أو جحده ثم صدقه صح وورثته لحصول الاقرار، إلا إذا بقى على تكذيبه حتى مات.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وما قبل فيه الرجوع عن الاقرار إذا أقر به فالمستحب للامام أن يعرضه للرجوع لما رويناه من حديث أبى هريرة وحديث أبى أمية المخزومى فإن أقر فأقيم عليه بعض الحد ثم رجع عن الاقرار قبل لانه إذا سقط بالرجوع جميع الحد سقط بعضه، وان وجد ألم الحد فهرب فالاولى أن يخلى لانه ربما رجع عن الاقرار فيسقط عنه الحد، وان أتبع وأقيم عليه تمام الحد جاز لما روى الزهري قال: أخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجم ماعزا(20/303)
فرجمناه في المصلى بالمدينة، فلما أذلقنه الحجارة تجمز حتى أدركناه بالحرة فرجمناه حتى مات، فلو لم يجز ذلك لانكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمنهم، ولان الهرب ليس بصريح في الرجوع فلم يسقط به الحد.
(فصل)
ومن أقر لرجل بمال في يده فكذبه المقر له بطل الاقرار لانه رده، وفى المال وجهان:
(أحدهما)
أنه يؤخذ منه ويحفظ لانه لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فوجب على الامام حفظه كالمال الضائع.
(والثانى)
أنه لا يؤخذ منه، لانه محكوم له بملكه، فإذا رده المقر له بقى على ملكه.
(فصل)
فإن أقر الزوج أن امرأته أخته من الرضاع وكذبته المرأة قبل قوله في فسخ النكاح لانه إقرار في حق نفسه ولا يقبل إقراره في إسقاط مهرها لان قوله لا يقبل في حق غيره، وإن أقرت المرأة أن الزوج أخوها من الرضاع
وأنكر الزوج لم يقبل قولها في فسخ النكاح، لانه إقرار في حق غيرها، وقبل قولها في إسقاط المهر لانه إقرار في حق نفسها.
(الشرح) حديث (أخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجم ماعزا) أخرجه الترمذي وأحمد والصحيحين من غير تسمية وأبو داود.
اللغة: قوله (فلما أذلقته الحجارة) أي أصابته بحدها، والحجارة المذلقة المحدودة، وذلق كل شئ حده وفلان ذلق اللسان حديده.
قوله (تجمز) أي عدا وأسرع، المجز ضرب من السير أشد من العتق والناقة تعدو المجزى.
قال ابن حزم في مراتب الاجماع (واتفقوا أن من أقر على نفسه بالزنا في مجلس حاكم يجوز حكمه أربع مرات مختلفات يغيب بين كل مرتين عن المجلس حتى لا يرى، وهو حر مسلم، غير مكره ولا سكران، ولا مجنون ولا مريض، ووصف الزنا وعرفه ولم يثبت ولا طال الامر أنه يقام عليه الحد ما لم يرجع عن اقراره، واختلفوا أيقبل رجوعه أم لا،(20/304)
قلت (لم يثبت الاجماع على أربع مرات كما قال ابن حزم، قال الشوكاني في الدرر البهية: ويكفى إقراره مرة، وما ورد من التكرار في وقائع الاعيان فلقصد الاستثبات.
قال صديق حسن خان في الروضة الندية في الشرح (لان أخذ المقر بإقراره هو الثابت في الشريعة، فمن أوجب تكرار الاقرار في فرد من أفراد الشريعة كان الدليل عليه، ولا دليل هنا بيد من أوجب تربيع الاقرار إلا مجرد ما وقع من ماعز من تكرار الاقرار، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أمره أو أمر غيره بأن يكرر الاقرار، ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن إقرار
الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات، وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الاقرار الاول لقصد التثبت في أمره، ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم (أبك جنون؟) ووقع منه السؤال لقوم ماعز عن عقله، وقد اكتفى بالاقرار مرة واحدة، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية ولم تقر إلا مرة واحدة، كما في صحيح مسلم وغيره، وكما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عَنْ أَبِيهِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رجم رجلا أقر مرة واحدة) ومن ذلك حديث الرجل الذى ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه، ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل فرجمه، وفى رواية أنه عفا عنه، والحديث في سنن النسائي والترمذي، ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية، فإنه لم ينقل أنهما كررا الاقرار، فلو كان الاقرار أربع مرات شرطا في حد الزانى لما وقع منه صلى الله عليه وسلم المخالفة في عدة قضايا.
وقد ذهب إلى ما ذكرنا جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، وحكاه صاحب البحر عن أبى بكر وعمر والحسن البصري ومالك وحماد وأبو ثور والبتى والشافعي.
وذهب الجمهور إلى التربيع في الاقرار.
أقول: هذه المسألة من المعارك، والحق أن الاقرار الذى يستباح به الجلد والرجم لا يشترط فيه أن يكون زيادة على مرة(20/305)
قال الحنفيون: يستحب للامام تلقين المقر بالرجوع بقوله لعلك لمستها أو قبلتها، كما لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا، وكما لقن صلى الله عليه وسلم السارق والسارقة بقوله صلى الله عليه وسلم: ما أخاله سرق، أو أسرقت؟ قولى
لا.
لو لم يكن محتملا الرجوع لم يكن للتلقين معنى وفائدة، فكان التلقين منه صلى الله عليه وسلم احتيالا للدرء، لانه أمرنا به بقوله صلى الله عليه وسلم: ادرءوا الحدود بالشبهات وقوله صلى الله عليه وسلم (ادرءوا الحدود ما استطعتم)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال لرجل لى عندك ألف، فقال لا أنكر لم يكن إقرارا، لانه يحتمل أن يريد أنى لا أنكر أنه مبطل في دعواه، وان قال أقر لم يكن إقرارا لانه وعد بالاقرار.
وإن قال لا أنكر أن تكون محقا لم يكن إقرارا، لانه يحتمل أنه يريد أنى لا أنكر أن تكون محقا في اعتقاده.
وان قال لا أنكر أن تكون محقا في دعواك كان إقرارا لانه لا يحتمل غير الاقرار.
وان قال أنا مقر ففيه وجهان.
(أحدهما)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله أنه لا يكون إقرارا، لانه يحتمل أنه يريد أنى مقر ببطلان دعواك.
والوجه الثاني أن يكون إقرارا لانه جواب عن الدعوى فانصرف الاقرار إلى ما ادعى عليه.
وإن قال لى عليك ألف فقال نعم أو أجل أو صدق أو لعمري كان مقرا، لان هذه الالفاظ وضعت للتصديق وإن قال لعل أو عسى لم يكن اقرارا لانها ألفاظ وضعت للشك والترجى وان قال أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن إقرارا لان هذه الالفاظ تستعمل في الشك، وان قال له على في علمي كان إقرارا لان ما عليه في علمه لا يحتمل الا الوجوب، وان قال اقض الالف التى لى عليك فقال نعم كان اقرارا لانه تصديق لما ادعاه.
وإن قال اشتر عبدى هذا فقال نعم أو اعطى عبدى هذا فقال نعم كان اقرارا بالعبد لما ذكرناه وان ادعى عليه ألفا فقال خذ أو انزن لم يكن اقرارا لانه(20/306)
يحتمل أنه أراد خذ الجواب منى أو الزن إن كان ذلك على غيرى، وإن قال خذها أو اتزنها ففيه وجهان:
(أحدهما)
وهو قول أبى عبد الله الزبيري رحمه الله أنه يكون إقرارا، لانه هاء الكناية ترجع إلى ما تقدم من الدعوى.
(والثانى)
وهو قول عامة أصحابنا أنه لا يكون إقرارا لان هاء الصفات ترجع إلى المدعى له ولم يقر أنه واجب.
وان قال وهى صحاح فقد قال أبو عبد الله الزبيري أنه اقرار لانها صفة للمدعى والاقرار بالصفة إقرار بالموصوف وقال عامة أصحابنا لا يكون اقرارا لان الصفة ترجع إلى المدعى ولا تقتضي الوجوب عليه.
وإن قال له على ألف أن شاء الله لم يلزمه شئ لان ما علق على مشيئة الله تعالى لا سبيل إلى معرفته.
وان قال له على ألف ان شاء زيد أو له على ألف ان قدم فلان لم يلزمه شئ لان ما لا يلزمه لا يصير واجبا عليه بوجود الشرط.
وان قال ان شهد لك فلان وفلان بدينار فهما صادقان ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه ليس بإقرار لانه اقرار معلق على شرط فلم يصح، كما لو قال ان شهد فلان على صدقته أو وزنت لك، ولان الشافعي رحمه الله تعالى قال: إذا قال لفلان على ألف ان شهد بها على فلان وفلان لم يكن اقرارا، فإن شهدا عليه وهما عدلان لزمه بالشهادة دون الاقرار.
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ أنه اقرار، وان لم يشهد به، وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب الطبري رحمه الله، لانه أخبر أنه ان شهدا به فهما صادقان ولا يجوز أن يكونا صادقين الا والدينار واجب عليه لانه لو لم يكن واجبا عليه لكان الشاهد به كاذبا، فإذا قال يكون صادقا دل على أن المشهود
به ثابت فصار كما لو شهد عليه رجل بدينار فقال صدق الشاهد، ويخالف قوله ان شهد فلان صدقته أو وزنت لك لانه قد يصدق الانسان من ليس بصادق وقد يزن بقوله ما لا يلزمه.
ويخالف ما قال الشافعي رحمه الله لفلان على ألف ان شهد به فلان وفلان، لان وجوب الالف لا يجوز أن يتعلق بشهادة من يشهد عليه، فإذا علق(20/307)
بشهادته دل على أنه غير واجب، وههنا لم يعلق وجوب الدينار بالشهادة، وانما أخبر أن يكون صادقا، وهذا تصريح بوجوب الدينار عليه في الحال، وان كان قال له على ألف ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يلزمه لانه أقر بالوجوب والاصل بقاؤه
(والثانى)
أنه لا يلزمه لانه أقر به في زمان مضى فلا يلزمه في الحال شئ وان أقر أعجمى بالعربية أو عربي بالعجمية ثم ادعى أنه لم يعلم بما قال فالقول قوله مع يمينه لان الظاهر ما يدعيه.
اللغة: قوله (فإن قال نعم أو أجل) قال الجوهرى: قولهم أجل انما هو جواب مثل نعم.
قال الاخفش الا أنه أحسن من نعم في التصديق ونعم أحسن منه في الاستفهام، فإذا قال أنت سوف تذهب، قلت أجل وكان أحسن من نعم، وإذا قال أتذهب قلت نعم وكان أحسن من أجل قوله (أو لعمري) لعمري ولعمرك قسم كأنه حلف ببقائه وحياته، والعمر والعمر واحد، فإذا أدخلت اللام فتحت لا غير، ومعناه في الاقرار كأنه أقسم بثبوته ولزومه عليه قوله (وان قال لرجل عندك ألف فقال..) قالت الحنابلة (من أدعى عليه بألف فقال نعم أو صدقت أو أنا مقر أو خذها أو اتزنها أو اقبضها فقد أقر، لان هذه الالفاظ تدل على تصديق المدعى وتتصرف إلى الدعوى لوقوعها عقبها لا ان قال أنا أقر فليس اقرارا بل وعد أو لا أنكر لانه لا يلزم من عدم الانكار الاقرار، لان بينهما قسما آخر وهو السكوت، ولانه يحتمل لا أنكر بطلان دعواك أو خذ لاحتمال أن يكون مراده خذ الجواب منى أو انزن أو افتح كمك لاحتمال أن يكون لشئ غير المدعى به أو انزن من غيرى أو افتح كمك للطمع، وبلى في جواب أليس لى عليك كذا اقرار بلا خلاف، لان نفى النفى اثبات لا نعم الا من عامى فيكون اقرارة كقوله عشرة غير درهم يلزمه تسعة لان ذلك لا يعرفه الا الحذاق من أهل العربية.
وفى حديث عمرو بن عنسة (فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني؟ فقال نعم أنت الذى لقيتني بمكة: قال فقلت بلى،(20/308)
قال في شرح مسلم: فيه صحة الجواب ببلى، وإن لم يكن قبلها، وصحة الاقرار بها، قال وهو الصحيح من مذهبنا أي مذهب الشافعية وإن قال اقض دينى عليك ألفا، أو هل لى أو لى عليك ألف فقال نعم فقد أقر له، لان نعم صريحة في صديقه، أو قال امهلني يوما أو حتى أفتح الصندوق فقد أقر، لان طلب الملهة يقتضى أن الحق عليه، أو قال له على ألف ان شاء الله فقد أقر له به نص عليه أو الا أن يشاء الله فقد أقر له به لانه علق رفع الاقرار على أمر لا يعلمه فلا يرتفع، أو قال له على ألف لا تلزمني الا أن يشاء زيد فقد أقر له بالالف.
وإن علق بشرط لم يصح سواء قدم الشرط كان شاء زيد فله على دينار، أو إن قدم زيد فلعمرو على كذا، لانه لم يثبت على نفسه شيئا في الحال وانما علق ثبوته على شرط، والاقرار إخبار سبق فلا يتعلق بشرط مستقبل بخلاف تعليقه على مشيئة الله عز وجل فإنها تذكر في الكلام تبركا وتفويضا إلى الله تعالى.
كقوله، لتدخلن المسجد الحرام ان شاء الله، وقد علم الله أنهم سيدخلونه بلا شك وقال القاضى يكون اقرارا صحيحا لان الحق الثابت في الحال لا تقف على شرط مستقبل فسقط الاستثناء قاله في لكافى، أو أخره كله على دينار ان شاء زيد أو قدم الحاج أو جاء المطر فلا يصح الاقرار لما بين الاخبار والتعليق على شرط مستقبل من التنافى، الا إذا قال إذا جاء وقت كذا فله على دينار فليلزمه في لحال، فإن فسره بأجل أو وصهة قبل بيمينه، ومن ادعى عليه بدينار فقال ان شهد به زبد فهو صادق لم يكن مقرا، وقد أفاض الحنفيون في هذا الامر في دائع الصنائع من صحفة 208 إلى 210 بما يتفق مع ما سبق ايضاحه(20/309)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب جامع الإقرار
إذا قال لفلان على شئ طولب بالتفسير فإن امتنع عن التفسير جعل ناكلا ورد اليمين على المدعى وقضى له لانه كالساكت عن جواب المدعى.
ومن أصحابنا من حكى فيه قولين
(أحدهما)
ما ذكرناه
(والثانى)
أنه يحبس حتى يفسر لانه قد أقر بالحق وأمتنع من أدائه فحبس.
وإن شهد شاهدان على رجل بمال مجهول ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يثبت بالحق كما يثبت بالاقرار، ثم يطالب المشهود عليه كما يطالب المقر.
(والثانى)
أنه لا يثبت الحق لان البينة ما أبانت عن الحق وهذه ما أبانت عن الحق، وإن أقر بشئ وفسره بما قل أو كثر من المال قبل، لان اسم الشئ يقع عليه، وإن فسره بالخمر والخنزير أو الكلب أو السرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يقبل لانه يقع عليه اسم الشئ
(والثانى)
أنه لا يقبل لان الاقرار إخبار عما يجب ضمانه، وهذه الاشياء لا يجب ضمانها.
(والثالث) أنه إن فسره بالخمر والخنزير لم يقبل لانه لا يجب تسليمه، وإن فسره بالكلب والسرجين وجلد الميتة قبل الدباغ قبل لانه يجب تسليمه، وإن قال غصبتك أو غصبتك ما تعلم لم يلزمه شئ لانه قد يغصبه نفسه فيحبسه وإن قال غصبتك شيئا ثم قال غصبته نفسه لم يقبل لان الاقرار يقتضى غصب شئ منه ويطالب بتفسير الشئ.
(فصل)
وإن قال له على مال ففسره بما قل أو كثر قبل لان اسم المال يقع عليه، وإن قال له على مال عظيم أو كثير قبل في تفسيره القليل والكثير، لان ما من مال إلا وهو عظيم وكثير بالاضافة إلى ما هو دونه، ولانه يحتمل(20/310)
أنه أراد به أنه عظيم أو كثير عنده لقلة ماله أو لفقر نفسه، فإن قال له على أكثر من مال فلان قبل في بيانه القليل والكثير، لانه يحتمل أنه يريد أنه أكثر من مال فلان لكونه من الحلال أو أكثر بقاء لكونه في ذمته
(فصل)
وان قال له على درهم لزمه درهم من دراهم الاسلام وهو ستة دوانتى وزن كل عشرة سبعة مثاقيل فإن فسره بدرهم طبري كطبرية الشام، وهو الذى فيه أربعة دوانق، فإن كان ذلك متصلا بالاقرار قبل منه، كما لو قال له على درهم إلا دانقين، وإن كان منفصلا نظرت فإن كان الاقرار في غير الموضع الذى يتعامل فيه بالدراهم الطبرية لم يقبل، كما لا يقبل الاستثناء المنفصل عن الجملة، وإن كان في الموضع الذى يتعامل فيه الدراهم الطبرية ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المنصوص أنه يقبل لان اطلاق الدراهم يحمل على دراهم
البلد كما يحمل في البيع دراهم البيع.
(والثانى)
أنه لا يقبل ويلزمه درهم من دراهم الاسلام لانه إخبار عن وجوب سابق، بخلاف البيع فإنه إيجاب في الحال فحمل على دراهم الموضع الذى يجب فيه، وإن قال له على درهم كبير لزمه درهم من دراهم الاسلام، لانه درهم كبير في العرف، فإن فسره بما هو أكبر منه وهو الدرهم البغلى قبل منه لانه يحتمل ذلك وهو غير متهم فيه.
وإن قال له على درهم صغير أوله على درهم لزمه درهم وازن لانه هو المعروف فإن كان في البلد دراهم صغار ففسره بها قبل لانه يحتمل اللفظ، وإن قال له على مائة درهم عدد الزمه مائة وازنة عددها مائة، لان الدراهم تقتضي الوازنة وذكر العدد لا ينافيها توجب الجمع بينهما.
(فصل)
وان قال له على دراهم ففسرها بدراهم مزيفة لا فضة فيها لم يقبل لان الدارهم لا تتناول مالا فضة فيه، وان فسرها بدراهم مغشوشه فالحكم فيها كالحكم فيمن أقر بدراهم وفسرها بالدراهم الطبرية، وقد بيناه وان قال له على دراهم وفسرها بسكة دون سكة دراهم البلد الذى أقر فيه ولا تنقص عنها في الوزن فالمنصوص أنه يقبل منه.
وقال المزني لا يقبل منه لان(20/311)
إطلاق الدراهم يقتضى سكة البلد كما يقتضى ذلك في البيع، وهذا خطأ لان البيع إيجاب في الحال فاعتبر الموضع الذى يجب فيه، والاقرار إخبار عن وجوب سابق وذلك يختلف فرجع إليه
(فصل)
وإن أقر بدرهم في وقت ثم أقر بدرهم في وقت آخر لزمه درهم واحد لانه إخبار فيجوز أن يكون ذلك خبرا عما أخبر به في لاول، ولهذا لو قال رأيت زيدا ثم قال رأيت زيدا لم يقتض أن يكون الثاني إخبارا عن رؤية
ثانية، وإن قال له على درهم من ثمن ثوب ثم قال له على درهم من ثمن عبد لزمه درهمان لانه لا يحتمل أن يكون الثاني هو الاول.
وإن قال له على درهم ودرهم لزمه درهمان لان الواو تقتضي أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه.
وان قال له على درهم ودرهمان لزمه ثلاثة دراهم لما ذكرناه.
وان قال له على درهم فدرهم لزمه درهم واحد، وان قال لامرأته أنت طالق فطالق وقعت طلقتان.
واختلف أصحابنا في ذلك، فقال أبو على بن خيران رحمه الله لا فرق بين المسئلتين فجلعهما على قولين، ومنهم من قال يلزمه في الاقرار درهم وفى الطلاق طلقتان، والفرق بينهما أن الطلاق لا يدخله التفصيل والدراهم يدخلها التفصيل فيجوز أن يزيد: له على درهم فدرهم خير منه.
وان قال له على درهم ودرهم ودرهم لزمه ثلاثة درهم.
وان قال أنت طالق وطالق وطالق ولم ينو شيئا ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يقع طلقتان
(والثانى)
أنه يقع ثلاث طلقات، فنقل أبو على ابن خيران جوابه في لطلاق إلى الاقرار وجعلهما على قولين ومن أصحابنا من قال يقع طلقتان في احد القولين وفى الاقرار يلزمه ثلاثة دراهم قولا واحدا، لان الطلاق يدخله التأكيد فحمل التكرار على التأكيد، والاقرار لا يدخله النأكيد فحمل التكرار على العدد.
وان قال له على درهم فوق درهم أو درهم تحت درهم لزمه درهم واحد لانه يحتمل أن يكون فوق درهم أو تحت درهم في الجودة، ويحتمل فوق درهم أو تحت درهم لى فلم يلزمه زيادة مع الاحتمال.(20/312)
وأن قال على درهم مع درهم لزمه درهم لانه يحتمل مع درهم لى فلم يلزمه ما زاد مع الاحتمال، وان قال له على درهم قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان
لان قبل وبعد تستعمل في التقديم والتأخير في الوجوب، وان قال له على درهم في عشرة فإن أراد الحساب لزمه عشرة.
لان ضرب الواحد في عشرة عشرة، وان لم يرد الحساب لزمه درهم، لانه يحتمل أن له على درهما مختلطا بعشرة لى، وان قال له على درهم بل درهم لزمه درهم، لانه لم يقر بأكثر من درهم، وان قال له على درهم بل درهمان لزمه درهمان.
وان قال له على درهم بل دينار لزمه الدرهم والدينار، والفرق بينهما أن قوله بل درهمان ليس برجوع عن الدرهم، لان الدرهم داخل في الدرهمين وانما قصد الحاق الزيادة به.
وقوله بل دينار رجوع عن الدرهم واقرار بالدينار فلم يقبل رجوعه عن الدرهم فلزمه وقبل اقراره بالدينار فلزمه، وان قال له على درهم أو دينار لزمه أحدهما وأخذ بتعيينه لانه أقر بأحدهما، وان قال له على درهم في دينار لزمه الدرهم ولا يلزمه الدينار لانه يجوز أن يكون أراد في دينار لى.
(فصل)
وان قال له على دراهم لزمه ثلاثة دراهم لانه جمع وأقل الجمع ثلاثة، وان قال دراهم كثيرة لم يلزمه أكثر من ثلاثة لانه يحتمل أنه أراد بها كثيرة بالاضافة إلى ما دونها أو أراد أنها كثيرة في نفسه، وان قال له على ما بين درهم إلى عشرة لزمه ثمانية لان ما بينهما ثمانية، وان قال له على من درهم إلى عشرة ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يلزمه ثمانية لان الاول والعاشر حدان فلم يدخلا في الاقرار فلزمه ما بينهما
(والثانى)
أنه يلزمه تسعة لان الواحد أول العدد، وإذا قال من واحد كان ذلك اقرارا بالواحد وما بعده فلزمه والعاشر حد فلم يدخل فيه
(فصل)
وان قال له على كذا رجع في التفسير إليه لانه أقر بمبهم فصار كما لو قال له على شئ، وان قال له على كذا درهم لزمه درهم لانه فسر المبهم
بالدرهم، وان قال له على كذا وكذا رجع في التفسير إليه لانه أقر بمبهم وأكده(20/313)
بالتكرار فرجع إليه، كما لو قال له على كذا، وان قال له على كذا كذا درهما لزمه درهم، لانه فسر المبهم به، وان قال له على كذا وكذا رجع في التفسير إليه لانه أقر بمبهمين، لان العطف بالواو يقتضى أن يكون الثاني غير الاول فصار كما لو قال له على شئ وشئ وإن قال له على كذا وكذا درهم فقد روى المزني فيه قولين
(أحدهما)
أنه يلزمه درهم
(والثانى)
يلزمه درهمان، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
أنه يلزمه درهمان لانه ذكر مبهمين ثم فسر بالدرهم فرجع إلى كل واحد منهما.
(والثانى)
أنه يلزمه درهم لانه يجوز أن يكون فسر المبهمين بالدرهم لكل واحد منهما نصفا فلا يلزمه ما زاد مع الاحتمال وقال أبوا سحاق وعامة أصحابنا: إذا قال كذا وكذا درهما بالنصب لزمه درهمان لانه جعل الدرهم تفسيرا فرجع إلى كل واحد منهما، وان قال كذا وكذا درهم بالرفع لزمه درهم لانه يخبر عن المبهمين بأنهما درهم، وحمل القولين على هذين الحالين، وقد نص الشافعي رحمه الله عليه في الاقرار والمواهب.
(فصل)
وان قال له على ألف رجع في البيان إليه وبأى جنس من المال فسره قبل منه.
وإن فسره بأجناس قبل منه لانه يحتمل الجميع، وان قال له على ألف ودرهم لزمه درهم ورجع في تفسير الالف إليه.
وقال أبو ثور يكون الجميع دراهم، وهذا خطأ لان العطف لا يقتضى أن يكون المعطوف من جنس المعطوف عليه، لانه قد يعطف الشئ على غير جنسه كما يعطف على جنسه، ألا ترى أنه يجوز أن يقول رأيت رجلا وحمارا، كما يجوز أن يقول رأيت رجلا ورجلا، وان قال له على مائة وخمسون درهما، أو له على ألف وعشرة دراهم
ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يلزمه خمسون درهما وعشرة دراهم ويرجع في تفسير المائة والالف إليه، كما قلنا في قوله ألف ودرهم
(والثانى)
أنه يلزمه مائة درهم وخمسون درهما أو ألف درهم وعشرة دراهم والفرق بينها وبين قوله ألف ودرهم أن الدرهم المعطوف على الالف لم يذكره(20/314)
التفسير وانما ذكره للايجاب، ولهذا يجب به زيادة على الالف والدراهم المذكورة بعد الخمسين والالف ذكرها التفسير، ولهذا لا يجب به زيادة على الخمسين والالف فجعل تفسيرا لما تقدم.
(فصل)
وإذا قال لفلان على عشرة دراهم إلا درهما لزمه تسعة لان الاستثناء لغة العرب وعادة أهل اللسان، وان قال على عشرة إلا تسعة لزمه ما بقى لان استثناء الاكبر من الجملة لغة العرب، والدليل عليه قوله عز وجل (قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) ثم قال عز وجل (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) فاستثنى الغاوين من العباد وإن كانوا أكثر.
وان قال له على عشرة إلا عشرة لزمه عشرة لان ما يرفع الجملة لا يعرف في لاستثناء فسقط وبقى المستثنى منه وان قال له على مائة درهم إلا ثوبا وقيمة الثوب دون المائة لزمه الباقي، لان الاستثناء من غير جنس المستثنى منه لغة العرب، والدليل عليه قول تعالى (فسجد الملائكة كلهم أجمعون الا إبليس) فاستثنى إبليس من الملائكة وليس منهم قال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس
* إلا اليعافير وإلا العيس فاستثنى اليعافير والعيس من الانيس، وان لم يكن منهم، وإن قال له على
ألف إلا درهما ثم فسر الالف بجنس قيمته أكثر من درهم سقط الدرهم ولزمه الباقي، وان فسره بجنس قيمته درهم أو أقل ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه يلزمه الجنس الذى فسر به الالف ويسقط الاستثناء لانه استثناء يرفع جميع ما أقر به فسقط وبقى المقر به، كما لو قال له على عشرة دراهم الا عشرة دراهم.
(والثانى)
أنه يطالب بتفسير الالف بجنس قيمته أكثر من درهم لانه فسر اقرار المبهم بتفسير باطل، فسقط التفسير لبطلانه.
وبقى الاقرار بالمبهم فلزمه تفسيره،(20/315)
اللغة: قوله (على شئ) أنكر النكرات شئ لانه يجمع المعرفة والنكرة والمذكر والمؤنث والموجود والمفقود، فهو أحق الكلام في التفسير.
قوله (ستة دوانق) جمع دانق وهو سدس الدرهم، يقال دانق ودانق بفتح النون وكسرها، وربما قالوا داناق كما قالوا للدرهم درهام.
قوله (الدرهم البغلى) وزنه ثمانية دوانق، والدانق منه أربعة قراريط مشبه بالدرهم الذى يكون في يد البغل، والدرهم البغلى والشهليل كبيران، وقال بعض المشايخ لعله أن يكون نسب إلى بغلان بلد ببلخ كالنسب إلى البحرين، يقال فيه يحرى على الصحيح.
قوله (فإن فسره بدراهم مزيفة) أي رديئة.
قال ابن القوطية زافت الدراهم تزيف زيفا بارت.
ولعله لرداءتها ودرهم زيف وزائف والجمع زيف مثل ناقص ونقص إذا لم تجز بأن تكون رصاصا أو نحاسا مغشوشا وزيفتها أنا.
قوله (بدراهم مغشوشة) مأخوذ من الغش بالكسر وهو ضد النصيحة، وقيل مأخوذ من الغشش وهو المشرب الكدر، قاله ابن الانباري
قوله (وفسرها بسكة) السكة الحديدة المنقوشة التى يطبع عليها أي يضرب وجمعها سكك.
قوله (وان قال على كذا وكذا) هو اسم مبهم الكاف للتشبيه وذا اسم اشارة تقول فعلت كذا وقد تجرى مجرى كم فتنصب ما بعده على التمييز ويقول عندي له كذا وكذا درهما لانه كالكناية.
قوله (الاستثناء) مأخوذ من الثنى وهو الكف والرد، يقال حلف يمينا لا ثنى فيها ولا مثنوية.
وقيل أنه مأخوذ من أثناء الحبل وهى أعطافه كأنه رجوع عن الشئ وانعطاف إلى غيره.
قوله (وعادة أهل اللسان) أي أهل الفصاحة، واللسن بالتحريك الفصاحة وقد لسن بالكسر فهو لسن وألسن، وقوله في بيت الشعر:
وبلدة ليس بها أنيس * الا اليعافير والا العيس
أي رب بلدة الواو بمعنى رب واليعافير جمع يعفور وهو ولد الظبية وولد البقرة الوحشية، وقال بعضهم اليعافير تيوس الظباء والعيس إلابل البيض واحدها(20/316)
أعيس والانثى عيساء بينة العيس، وهو استثناء منقطع، معناه الذى يقوم مقام الانيس اليعافير والعيس قوله (إذا قال لفلان على شئ طولب بالتفسير) قالت الحنابلة (إذا قال له على شئ وشئ أو كذا وكذا صح اقراره وقيل له فسر ويلزمه تفسيره، قال في الشرح بغير خلاف، فإن أبى حبس حتى يفسر لانه أمتنع من حق عليه فجس به كما لو عينه وامتنع من أدائه.
وقال القاضى: إذا امتنع من البهان قيل للمقر له فسره أنت، ثم يسأل المقر فإن صدقه ثبت عليه وان أبى جعل ناكلا وقضى عليه، قاله في الكافي، ويقبل تفسيره بأقل متمول لانه شئ، فإن مات قيل التفسير لم يؤاخذ وارثه بشئ ولو خلف تركة.
ولو قال له على مال عظيم أو خطير أو كثير أو جليل أو نفيس فسر بأقل متمول لانه ما من مالا الا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه، ويحتمل أنه أراد عظمة عنده لقلة ماله وفقر نفسه، ولانه لا حد له شرعا ولا لغة ولا عرفا، ويختلف الناس فيه فقد يكون عظيما عند بعض حقيرا عند غيره.
وله دراهم كثيرة قبل تفسير بثلاثة دراهم فأكثر أو له على كذا وكذا درهم بالرفع أو بالنصب لزمه درهم.
وان قال بالجر لزمه بعض درهم، ولو قال له على ألف ودرهم أو ألف ودينار أو ألف وثوب أو ألف إلا دينار كان المبهم في هذه الامثلة ونحوها من جنس المعين.
وإذا قال له ما بين درهم وعشرة لزمه ثمانية، ومن درهم إلى عشرة لزمه تسعة أو ما بين درهم إلى عشرة لزمه تسعة، وإذا قال وله درهم قبله درهم وبعده درهم أو درهم ودرهم ودرهم لزمه ثلاثة، وكذا درهم درهم درهم فإذا أراد التأكيد فعلى ما أراد أو وله درهم بل دينار لزماه أو وله درهم في دينار لزمه درهم فإن قال أردت العطف أو معنى مع لزماه، وإذا قال له درهم في عشرة لزمه درهم ما لم يخالفه عرف فيلزمه مقتضاه، أو يريد الحساب ولو جاهلا فيلزمه عشرة أو يريد الجمع فيلزمه أحد عشر، أو وله تمر في جراب أو سكين(20/317)
في قراب أو ثوب في منديل ليس بإقرار بالثاني، أوله خاتم في فص أو سيف بقراب اقرار بهما، لان الفص جزء من الخاتم، أشبه ما لو قال ثوب في علم، واقراره بشجرة ليس اقرارا بأرضها فلا يملك غرس مكانها لو ذهبت، لانه غير مالك للارض.
قال في الفروع: ورواية مهنا هي له بأصلها، فإن ماتت أو سقطت لم يكن
له موضعها ولا أجرة على ريها ما بقيت وليس لرب الارض قلعها وثمرتها للمقر له والبيع مثله، وإذا قال له على درهم أو دينار يلزمه أحدهما وبعينه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قال هؤلاء العبيد لفلان الا واحدا طولب بالتعيين لانه ثبت بقوله فرجع في بيانه إليه، فإن ماتوا الا واحدا منهم فقال الذى بقى هو المستثنى ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يقبل لانه يرفع به الاقرار فلم يقبل، كما لو استثنى الجميع بقوله
(والثانى)
وهو المذهب أنه يقبل لانه يحتمل أن يكون هو المستثنى فقبل قوله فيه، ويخالف إذا استثنى الجميع بقوله لانه رفع المقر به بقوله وههنا لم يرفع بالاستثناء الا واحدا وانما سقط في الباقي بالموت فصار كما لو أعتق واحدا منهم ثم ماتوا الا واحدا، وان قتل الجميع الا واحدا فقال الذى بقى هو المستثنى قبل وجها واحدا، لانه لا يسقط حكم الاقرار، لان المقر له يستحق قيمة المقتولين.
وان قال غصبت من فلان هؤلاء العبيد الا واحدا منهم ثم ماتوا الا واحدا منهم، وقال المستثنى هو الذى بقى قبل وجها واحدا لانه لا يسقط حكم الاقرار، لان المقر له بهم يستحق قيمتهم بالموت.
(فصل)
وان قال هذه الدار لفلان الا هذا البيت لم يدخل البيت في الاقرار لانه استثناء، وان قال هذه الدار لفلان وهذا البيت لى قبل لانه أخرج بعض ما دخل في الاقرار بلفظ متصل وصار كما لو استثناه بلفظ الاستثناء.
(فصل)
وان قال له هذه الدار هبة سكنى أو هبة عارية لم يكن اقرارا بالدار لانه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل في أوله وبقى البعض فصار كما لو أقر(20/318)
بجملة واستثنى بعضها، وله أن يمنعه من سكناها لانها هبة منافع لم يتصل بها القبض فجاز له الرجوع فيها.
(الشرح) قوله (وإن قال هؤلاء العبيد لفلان،) قالت الشافعية في كتاب الانوار لاعمال الانوار (إن قال لفلان على ألف إلا ثوبا أو عبدا صح إذا بين الثوب أو العبد بما لا يستغرق قيمته ألفا، فإن استغرقت بطل الاستثناء ولزم الالف) قالت الحنابلة في كتاب الفروع (فإن قال له هؤلاء العبيد العشرة إلا واحدا لزمه تسعة، فإن ماتوا إلا واحدا فقال هو المستثنى قبل في الاصح كقتلهم الا واحدا، وان قال له الدار الا هذا البيت أو الدار له والبيت لى صح ولو كان أكثرها، وإن قال إلا ثلثيها ونحوه، أو الدار له ولى نصفها فاستثناء للاكثر والنصف.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أقر لرجل بمال في ظرف بأن قال له عندي زيت في جرة أو تين غرارة أو سيف في غمد أو فص في خاتم لزمه المال دون الظرف لان الاقرار لم يتناول الظرف، ويجوز أن يكون المال في ظرف المقر، وان قال له عندي جرة فيها زيت أو غرارة فيها تبن أو غمد فيه سيف أو خاتم عليه فص لزمه الظرف دون ما فيه لانه لم يقر إلا بالظرف، ويجوز أن يكون ما فيه للمقر وإن قال له عندي خاتم لزمه الخاتم والفص، لان اسم الخاتم يجمعهما، وإن قال له عندي ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه ومن أصحابنا من قال: إن كان الطراز مركبا على الثوب بعد النسج ففيه وجهان:
(أحدهما)
ما ذكرناه
(والثانى)
أنه لا يدخل فيه لانه متميز عنه، وان قال له في يدى دار مفروضة لزمه الدار دون الفرش، لانه يجوز أن تكون مفروشة بفرش لمقر.
وان قال له عندي فرس عليه سرج لزمه الفرس دون السرج، وان قال له(20/319)
عندي عبد وعليه ثوب لزمه تسليم العبد والثوب، والفرق بينهما أن العبد له يد على الثوب وما في يد العبد لمولاه، والفرس لا يد له على السرج.
(فصل)
وان قال لفلان على ألف درهم ثم أحضر ألفا وقال هي التى أقررت بها وهى وديعة، فقال المقر له هذه وديعة لى عنده والالف التى أقر بها دين لى عليه غير الوديعة ففيه قولان.
(أحدهما)
أنه لا يقبل قوله لان قوله على اخبار عن حق واجب عليه فإذا فسر بالوديعة فقد فسر بما لا يجب عليه فلم يقبل
(والثانى)
أنه يقبل لان الوديعة عليه ردها وقد يجب عليه ضمانها إذا تلفت وان قال له على ألف في ذمتي، ثم فسر ذلك بالالف التى هي وديعة عنده وقال المقر له بل هي دين لى في ذمته غير الوديعة، فإن قلنا في التى قبلها أنه لا يقبل قوله فيها فههنا أولى أن لا يقبل، وان قلنا يقبل هناك قوله ففى هذه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يقبل وهو الصحيح، لان الالف التى أقر بها في الذمة والعين لا تثبت في الذمة.
(والثانى)
أنه يقبل لانه يحتمل أنها في ذمتي لانى تعديت فيها فيجب ضمانها في ذمتي، وان قال له على ألف ثم قال هي وديعة كانت عندي وظننت أنها باقية وقد هلكت لم يقبل قوله لان الاقرار يقتضى وجوب ردها أو ضمانها والهالكة لا يجب ردها ولا ضمانها فلم يصح تفسير الاقرار بها.
(فصل)
وان قال له على ألف درهم وديعة دينا لزمه الالف، لان الوديعة قد يتعدى فيها فتصير دينا، وان قال له على ألف درهم عارية لزمه ضمانها لان اعارة الدراهم تصح في أحد الوجهين فيجب ضمانها، وفى الوجه الثاني لا تصح اعارتها فيجب ضمانها لان ما وجب ضمانه في العقد الصحيح وجب
ضمانه في العقد الفاسد.
اللغة: قوله (فص في خاتم) فتح الفاء والعامة تكسره والجمع فصوص، وفى الخاتم ثلاث لغات: خاتم بالفتح، وخاتم بالكسر، وخاتام، ومنهم من زاد لغة رابعة فقال خيتام.(20/320)
قوله (ثوب مطرز) أي معلم والطراز على الثوب فارسي معرب وقد طرزت الثوب فهو مطرز والطراز الهيئة قال حسان.
بيض الوجوه كريمة أحسابهم * شم الانوف من الطراز الأول
أي من النمط الاول.
قوله (وان أقر لرجل بمال في ظرف..) قالت الشافعية في الانوار لاعمال الابرار (ولو قال لفلان من هذه النخلة إلى هذه النخلة دخلت الاولى في الاقرار ولو قال عندي سيف في غمد أو ثوب في صندوق لم يكن إقرار بالظرف، ولو على رأسه عمامة لم يكن إقرار بالعمامة، ولو قال دابة بسرجها أو ثوب مطرز أو سفينة بحملها أو عبد بثيابه فهو إقرار بهما، ولو قال هذه الجارية أو الدابة لفلان لم يدخل الحمل.
ولو قال هذه الشجرة لفلان لم تدخل الثمرة مؤبرة أو غيرها، قال القفال وغيره والضابط أن ما يدخل تحت مطلق البيع يدخل تحت الاقرار ومالا فلا إلا الثمرة المؤبرة والحمل والجدار.
قال الحنفيون: الاقرار بالظرف أو المظروف إقرار بهما إذا كان ذلك مما يجوز في الظرف غالبا، كالتمر في الجراب والزيت في الجرة بخلاف الفرس في الاصطبل وقالوا: ولو أقر إنسان لانسان بدار واستثنى بناءها لنفسه فالاستثناء باطل، لان اسم الدار لا يتناول البناء لغة بل وضع دلالة على العرصة في اللغة، وانما البناء فيها بمنزلة الصفة فلم يكن المستثنى من جنس المستثنى منه
فلم يصح الاستثناء وتكون الدار مع البناء للمقر له، لانه ان لم يكن له اسما عاما لكنه يتناول هذه الاجزاء بطريق التضمن، كمن أقر لغيره بخاتم كان له الحلقة والفص، لا لانه اسم عام، بل هو اسم لمسمى واحد وهو المركب من الحلقة والفص ولكنه يتناوله بطريق التضمن، وكذا من أقر بسيف لغيره كان له النصل والجفن والحمائل.
قالت الحنابلة: وان قال له عندي تمر في جراب أو سيف في قراب أو ثوب في منديل أو جراب فيه تمر أو قرار فيه سيف أو منديل فيه ثوب أو فص فيه(20/321)
خاتم أو دابة مسروجة أو عليها سرج، أو عبد عليه عمامة أو بالعكس، فقيل مقر بالثاني كالاول.
وكسيف بقراب وثوب مطرز ونحوه، وقيل لا.
وقال ابن حامد والقاضى وأصحابه: الاشهر أنه يكون مقرا بالمظروف دون ظرفه وقال ابن عبدوس: إذا قال ذلك يكون مقر بالاول والثانى الا إذا حلف ما قصدته، وان قال خاتم فيه فص فقيل الوجهان والاشهر لزومهما لانه جزؤه فلو أطلق لزماه وقال الشيخ الموفق يحتمل أن يخرج على الوجهين، وحكم في الكافي والرعاية في المسألة وجهين: قوله (وان قال لفلان على ألف درهم..) قالت الشافعية: ولو قال لفلان على ألف أو لفلان في ذمتي ألف فهو اقرار بالدين، ولو قال عندي أو معى فهو اقرار بالعين.
فلو قال أنه وديعة قبل في الصورتين، وصل ذكر الوديعة أو فصل، ولو ادعى الرد أو التلف قبل في العين مطلقا وفى الدين ان وصل وان فصل، فإن ادعى أنه رد أو تلف قبل الاقرار لم يقبل ولزمه الضمان وبعد الاقرار قبل بيمينه، ولو أتى به وقال المقر له هو وديعة لى وعليك ألف آخر صدق المقر بيمينه، وناقض في الروضة وقال في أول ركن الصيغة.
ومعنى قوله اقرار بالعين أنه محمول على الوديعة ويقبل دعوى الرد والتلف ومعنى قوله اقرار بالدين أنه لا تقبل دعوى الوديعة والرد والتلف.
وذكر هنا أنه يقبل بالوديعه وفى الرد والتلف تفصيل سمعت.
ولو قال له على ألف في ذمتي أو ألف دينا ثم جاء بألف وفسر بالوديعة لم يقبل والقول للمقر له بيمينه ولزمه ألف آخر، ولو قال دفع فلان إلى ألفا أو أخذت منه ألفا وفسره بالوديعة أو المضاربة وادعى التلف أو الرد قبل بيمينه قالت الحنابلة: وان قال له عندي رهن قبل قول المالك أنه وديعة نقل أحمد بن سعيد: إذا قال لى عندك وديعة قال هي رهن على كذا فعليه البينة أنها رهن.
وذكر الازجى تخريحا: من كان له على وقضبته، وان قال له عندي ألفا قبل تفسيره بدين أو وديعة، وان قال على أو في ذمتي الف لم يقبل تفسيره(20/322)
بوديعة، وقيل بلى كمتصل، فإن زاد المتصل وقد تلفت لم يقبل، ذكره القاضى وغيره بخلاف المنفصل لان إقراره تضمن الامانة ولا مانع، وان أحضره وقال هو هذا وهو وديعة، ففى قبول قول المقر له أن المقر به غيره وجهان، أحدهما لا يقبل وهو قول الازجى واختاره القاضى والثانى يقبل وهو الصحيح، ومقتضى كلام الخرقى ولو قال له عندي مائة وديعة بشرط الضمان لغا وصفه لها بالضمان وبقيت على الاصل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال له في هذا العبد ألف درهم أو له من هذا العبد ألف درهم ثم قال أردت أنه وزن في ثمنه ألف درهم وزنت أنا ألف درهم في صفقة واحدة كان ذلك إقرارا بنصفه، وإن قال اشترى ثلثه أو ربعه بألف في عقد واشتريت أنا الباقي بألف في عقد آخر قبل قوله لان اقراره متهم، وما فسر به محتمل والعبد في يده فقبل قوله فيه.
وإن قال جنى عليه العبد جناية أرشها ألف درهم قبل قوله وله أن يبيع العبد ويدفع إليه الارش وله أن يفديه وان قال وصى له من ثمنه بألف درهم بيع ودفع إليه من ثمنه ألف درهم، فإن أراد أن يدفع إليه ألفا من ماله لم يجز لان بالوصية يتعين حقه في ثمنه، وان قال العبد مرهون عنده بألف ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يقبل لان حق المرتهن في الذمة لا في العين
(والثانى)
وهو الصحيح أنه يقبل لان المرتهن متعلق حقه بالذمة والعين
(فصل)
وان قال له في ميراث أبى ألف درهم لزمه تسليم ألف إليه.
وان قال له في ميراثي من أبى ألف درهم ثم قال أردت هبة قبل منه لانه أضاف الميراث إلى نفسه فلا ينتقل ماله إلى غيره الا من جهته، وان قال في هذا المال ألف درهم لزمه، وان قال له في مالى هذا ألف درهم لم يلزمه لان ماله لا يصير لغيره بإقراره.
(فصل)
وإذا قال لفلان على ألف درهم من ثمن مبيع لم أقبضه لم يلزمه تسليم الالف لان الاصل أنه لم يقبض المبيع فلا يلزمه تسليم ما في مقابلته،(20/323)
وإن قال له على ألف درهم ثم قال بعد ذلك من ثمن مبيع لم أقبضه لم يقبل لانه لزمه الالف بإقراره فلم يقبل قوله في إسقاطه.
(فصل)
وإن أقر بحق ووصله بما يسقطه بأن أقر بأنه تكفل بنفس أو مال على أنه بالخيار أو أقر أن عليه لفلان ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير أو لفلان عليه ألف درهم قضاها ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه يلزمه ما أقر به ولا يقبل ما وصله به لانه يسقط ما أقر به
فلم يقبل، كما لو قال له على عشرة إلا عشرة.
(والثانى)
أنه لا يلزمه الحق لانه يحتمل ما قاله فصار كما لو قال له على ألف إلا خمسمائة، وإن قال له على ألف درهم مؤجلة ففيه طريقان، من أصحابنا من قال هي على القولين لان التأجيل كالقضاء، ومنهم من قال يقبل قولا واحدا، لان التأجيل لا يسقط الحق وإنما يؤخره، فهو كاستثناء بعض الجملة بخلاف القضاء فإنه يسقطه.
(فصل)
وان قال هذه الدار لزيد بل لعمرو أو قال غصبتها من زيد لا بل من عمر وحكم بها لزيد لانه أقر له بها، ولا يقبل قوله لعمرو لانه رجوع عن الاقرار لزيد، وهل يلزمه أن يغرم قيمتها لعمرو فيه قولان:
(أحدهما)
أنه لا يلزمه لان العين قائمة فلا يستحق قيمتها
(والثانى)
أنه يلزمه وهو الصحيح، لانه حال بينه وبين ماله فلزمه ضمانه، كما لو أخذ ماله ورمى به في البحر، فإن قال غصبت هذا من أحد هذين الرجلين طولب بالتعيين، فإن عين أحدهما فإن قلنا إنه إذا أقر به لاحدهما بعد الآخر غرم للثاني حلف لانه إذا نكل غرم له، وان قلنا انه لا يغرم الثاني لم يحلف لانه لا فائدة في تحليفه، لانه إذا نكل لم نقض عليه بشئ، وإن كان في يده دار فقال غصبتها من زيد وملكها لعمر وحكم بها لزيد لانها في يده فقبل إقراره بها، ولا يقبل قوله ان ملكها لعمر ولانه اقرار في حق غيره ولا يغرم لعمرو شيئا لانه لم يكن منه تفريط لانه يجوز أن يكون ملكها لعمرو وهى في يد زيد بإجارة أو رهن أو غصبها منه فأقر بها على ما هي عليه.
فأما إذا قال هذه الدار ملكها لعمرو وغصبها من زيد ففيه وجهان:(20/324)
(أحدهما)
أنها كالمسألة قبلها، إذ لا فرق بين أن يقدم ذكر الملك وبين
أن يقدم ذكر الغصب.
(والثانى)
أنها تسلم إلى زيد وهل يغرم لعمرو؟ على قولين، كما لو قال هذه الدار لزيد لا بل لعمرو اللغة: قوله (مبهم) معنى المبهم في الاقرار وغيره الذى خفى معناه ولم يعلم واستبهم الشئ خفى، ومنه سميت البهيمة لاستعجامها، والليل البهيم الذى يخفى ما فيه، وأسود بهيم لا بياض فيه.
قوله (وان قال له في هذا العبد ألف درهم..) قالت الحنابلة (من باع أو وهب أو عتق عبدا ثم أقر به لغيره لم يقبل اقراره لانه اقرار على غيره، وكذا لو ادعى بعد البيع ونحوه أن المبيع رهن أو أم ولد ونحوه بما يمنع صحة التصرف ويغرمه للمقر له لانه فوته عليه بتصرفه فيه.
وان قال غصبت هذا العبد من زيد لا بل من عمرو فهو لزيد لاقراره له به ولا يقبل رجوعه عنه لانه حق آدمى ويغرم قيمته لعمرو أو ملكه لعمرو وغصبته من زيد فهو لزيد لاقراره باليد له، ويغرم قيمته لعمرو لاقراره له بالملك ولوجود الحيلولة بالاقرار باليد لزيد وغصبته من زيد وملكه لعمرو فهو لزيد لاقراره باليد ولا يغرم لعمرو شيئا لانه انما شهد له به أشبه ما لو شهد له بمال بيد غيره.
قوله (وإذا قال لفلان على ألف درهم من ثمن مبيع.)
قال الحنفيون (إذا أقر بألف ثمن عبد اشتراه ولم يقبضه فهذا لا يخلو من أحد وجهين، إما أن ذكر عبدا معينا مشارا إليه بأن قال ثمن هذا العبد، وإما ان ذكر عبدا من غير تعيين بأن قال لفلان على ألف درهم ثمن عبد اشتريته منه ولم أقبضه، فإن ذكر عبدا بعينه فإن صدقه في البيع يقال للمقر له ان شئت أن تأخذ الالف تسلم العبد والا فلا شئ لك لان المقر به ثمن المبيع وقد ثبت البيع
بتصادقهما، والبيع يقتضى تسليما.
م 37 مجموع 18(20/325)
وإن كذبه في البيع وقال ما بعث منك شيئا والعبد عبدى ولى عليك ألف درهم بسبب آخر فالعبد للمقر له، لانه يدعى عليه البيع وهو ينكر، ولا شئ له على المقر من الثمن لان المقر به ثمن المبيع لا غيره ولم يثبت البيع.
قال الامام في النهاية والغزالي في الوسيط والقشير في الموضح: ولو باع عينا وكتب الصك وأشهد الشهود على قبض الثمن ثم قال ما كنت قبضت ولكن جريت على العادة وأقررت وأشهدت لم تقبل هذه الدعوى وقوله (وإن أقر بحق ووصله بما يسقطه..) قال يوسف الاردبيلى في الانوار لاعمال الابرار فقه شافعي: فلو قال لزيد على ألف من ثمن خمر أو خنزير أو كلب أو بيع فاسد أو ضمان بشرط الخيار أو براءة الاصيل لم يقبل النافي وصل أو فصل ويبعض إقراره فيعتبر أوله ويلغى آخره.
نعم لو صدقه المقر له على ذلك فلا شئ على المقر، وإن كذبه وحلف لزمه المقر به إلا أن يقيم بينة على الباقي فلا يلزم، ولو قدم ذكر النافي فقال لفلان من ثمر الخمر أو بيع فاسد على ألف لم يلزمه شئ.
ولو قال لفلان على ألف قضبته أو أقبضته أو أبراني منه لم يقبل للتحليف إلا بتأويل كإرادة كان ولزمه إلا أن يقيم بينة على القضاء والاقباض والاداء والابراء.
ولو قال كان لفلان على ألف قضبته قبل مطلقا للتحليف والبينة.
ولو قال له ألف من ثمن عبد لم أقبضه قبل وثبت الالف ثمنا فلا يطالب قبل قبض العبد، ولو قال من ثمن عبد ثم قال مفصولا لم أقبضه قبل أيضا باليمين ولا يلزمه
الالف الا أن يقيم المقر به البينة على القبض فيلزم.
ولو قال ألف مؤجل إلى وقت كذا، فإن ذكر الاجل مفصولا لم يقبل وموصولا قبل الا إذا أسند إلى جهة لا تقبل التأجيل كالقرض.
قال الحنفيون: فإن ذكر عبدا بغير عينه فعليه الالف عند أبى حنيفة ولا يصدق في عدم القبض، سواء وصل أم فصل صدقه المقر له في البيع أو كذبه وكان أبو يوسف أولا يقول ان وصل صدق وان فصل لا يصدق ثم رجع وقال يسئل المقر له عن الجهة، فإن صدقه فيها لكن كذبه في القبض كان القول قول(20/326)
المقر سواء وصل أم فصل، وان كذبه في البيع وادعى عليه ألفا أخرى أن وصل يصدق وان فصل لا يصدق، وهو قول محمد قالت الحنابلة (وإذا قال على من ثمن خمر ألف لم يلزمه لانه أقر بثمن خمر وقدره بالالف، وثمن الخمر لا يجب.
وان قال له على ألف من ثم خمر لزمه، وكذا ان قال له على ألف من ثمن مبيع لم أقبضه أو ألف لا تلزمني أو مضاربة أو وديعة تلفت وشرط على ضمانها ونحو ذلك، لان ما ذكر بعد قوله على ألف رفع لجميع ما أقر به فلا يقبل كاستثناء للكل.
وقالوا إذا فسره بكلب مباح نفعه فهل يقبل أم لا؟ أطلق الخلاف فيه
(أحدهما)
لا يقبل صححه في التصحيح، وبه قطع القاضى وصاحب الوجيز والآدمي في منتخبه (والوجه الثاني) يقبل تفسيره، بذلك جزم ابن عبدوس وغيره.
(قلت) يحتمل أن يرجع في ذلك إلى القرائن والعوائد فإن دلت على شئ مثل أن يكون عادة بصيد ونحوه قبل وإلا فلا.
والقول للمردوامى قوله (وان قال هذه الدار لزيد بل لعمرو ... ) قالت الحنفية: والرجوع عن الاقرار في حقوق العباد غير صحيح (قلت) ومما
سبق شرحه في هذا الباب من أقوال المذاهب الاخرى كاف
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وأن أقر رجل على نفسه بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه، فإن كان المقر به صغيرا أو مجنونا ثبت نسبه لانه أقر له بحق فثبت، كما لو أقر له بمال، فإن بلغ الصبى أو أفاق المجنون وأنكر النسب لم يسقط النسب لانه نسب حكم بثبوته فلم يسقط برده: وإن كان المقر به بالغا عاقلا لم يثبت الا بتصديقه، لان له قولا صحيحا فاعتبر تصديقه في الاقرار، كما لو أقر له بمال، وان كان المقر به ميتا فإن كان صغيرا أو مجنونا ثبت نسبه لانه يقبل اقراره به إذا كان حيا فقبل إذا كان ميتا، وان كان عاقلا بالغا ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يثبت لان نسب البالغ لا يثبت الا بتصديقه، وذلك(20/327)
معدوم بعد الموت
(والثانى)
أنه يثبت وهو الصحيح، لانه ليس له قول فثبت نسبه باقرارا كالصبى والمجنون وإن أقر بنسب بالغ عاقل ثم رجع عن الاقرار وصدقه المقر له في الرجوع ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يسقط النسب، وهو قول أبى على الطبري رحمه الله، كما لو أقر له بمال ثم رجع في الاقرار وصدقه المقر له في الرجوع.
(والثانى)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله أنه لا يسقط، لان النسب إذا ثبت لا يسقط بالاتفاق على نفيه كالنسب الثابت بالفراش.
(فصل)
وإن مات رجل وخلف إبنا فأقر على أبيه بنسب فإن كان لا يرثه بأن كان عبدا أو قاتلا أو كافرا والاب مسلم لم يقبل إقراره لانه لا يقبل إقراره عليه بالمال فلا يقبل إقراره عليه في النسب كالأجنبي، وإن كان يرثه فأقر عليه بنسب لو أقر به الاب لحقه، فإن كان قد نفاه الاب لم يثبت لانه يحمل عليه نسبا حكم ببطلانه، وان لم ينفه الاب ثبت النسب بإقراره، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اختصم سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابن أمة زمعة، فقال سعد بن أبى وقاص أوصاني أخى عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنه ابنه، وقال عبد بن زمعة أخى وابن وليدة أبى ولد على فراشه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر.
وإن مات وله إبنان فأقر أحدهما بنسب ابن وأنكر الآخر لم يثبت، لان النسب لا يتبعض، فإذا لم يثبت في حق أحدهما لم يثبت في حق الآخر ولا يشاركهما في الميراث لان الميراث فرع على النسب والنسب لم يثبت فلم يثبت الارث وإن أقر أحد الابنين بزوجة لابيه وأنكر الجخر ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه لا نشارك بحصتها من حق المقر، كما لا يشارك الابن إذا اختلف الوارثان في نسبه.
(والثانى)
أنها تشارك بحصتها من حق المقر لان المقر به حقها من الارث لان الزوجية زالت بالموت.
وان مات وخلف بنتا فأقرت بنسب أخ لم يثبت النسب لانها لا ترث جميع المال، فإن أقر معها الامام ففيه وجهان(20/328)
(أحدهما)
أنه يثبت لان الامام نافذ الاقرار في مال بيت المال
(والثانى)
أنه لا يثبت لانه لا يملك المال بالارث وإنما يملكه المسلمون وهم لا يتعينون فلم يثبت النسب.
وإن مات رجل وخلف ابنين عاقلا ومجنونا فأقر العاقل بنسب ابن آخر لم يثبت النسب لانه لم يوجد الاقرار من جميع الورثة، فإن مات المجنون قبل الافاقة، فإن كان له وارث غير الاخ المقر قام وارثه مقامه في الاقرار، وإن لم
يكن له وارث غيره ثبت النسب لانه صار جميع الورثة، فإن خلف الميت إبنين فأقر أحدهما بنسب صغير وأنكر الآخر ثم مات المنكر فهل يثبت النسب؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يثبت نسبه لان المقر صار جميع الورثة
(والثانى)
أنه لا يثبت نسبه، لان تكذيب شريكه يبطل الحكم بنسبه فلم يثبت النسب، كما لو أنكر الاب نسبه في حياته ثم أقر به الوارث.
وإن مات رجل وخلف إبنا وارثا فأقر بإبن آخر بالغ عاقل وصدقه المقر له ثم أقرا معا بابن ثالث ثبت نسب الثالث، فإن قال الثالث ان الثاني ليس بأخ لنا ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يسقط نسب الثاني لان الثالث ثبت نسبه بإقرار الاول والثانى فلا يجوز أن يسقط نسب الاصل بالفرع
(والثانى)
أنه يسقط نسبه وهو الاظهر لانه الثالث صار إبنا فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني.
وإن أقر الابن الوارث بأخوين في وقت واحد، فصدق كل واحد منهما صاحبه ثبت نسبهما وميراثهما، وان كذب كل واحد منهما صاحبه لم يثبت نسب واحد منهما، وان صدق أحدهما صاحبه وكذبه الآخر ثبت نسب المصدق دون المكذب وإن أقر الابن الوارث بنسب أحد التوأمين ثبت نسبهما، وان أقر بهما وكذب أحدهما الآخر لم يؤثر التكذيب في نسبهما لانهما لا يفترقان في النسب.
(فصل)
وان كان بين المقر وبين المقر به واحد وهو حى لم يثبت النسب(20/329)
الا بتصديقه، وان كان بينهما اثنان أو أكثر لم يثبت النسب الا بتصديق من بينهما، لان النسب يتصل بالمقر من جهتهم فلا يثبت الا بتصديقهم
(فصل)
وان كان المقر به لا يحجب المقر عن الميراث ورث معه ما يرثه، كما إذا أقر به الموروث وان كان يحجب المقر مثل أن يموت الرجل ويخلف أخا فيقر الاخ بابن الميت، أو يخلف الميت أخا من أب فيقر بأخ من الاب والام ثبت له النسب ولم يرث، لانا لو أثبتنا له الارث أدى ذلك إلى اسقاط ارثه، لان توريثه يخرج المقر عن أن يكون وارثا، وإذا خرج عن أن يكون وارثا بطل اقراره وسقط نسبه وميراثه فأثبتنا النسب وأسقطنا الارث.
وقال أبو العباس: يرث المقر به ويحجب المقر، لانه لو كان حجبه يسقط اقراره لانه اقرار من غير وارث لوجب أن لا يقبل اقرار ابن بابن آخر لانه اقرار من بعض الورثة والنسب لا يثبت بإقرار بعض الورثة، وهذا خطأ لانه انما يقبل إذا صدقه المقر به فيصير الاقرار من جميع الورثة.
(فصل)
وان وصى المريض بأبيه فقتله ومات عتق ولم يرث، لان توريثه يؤدى إلى اسقاط ميراثه وعتقه، لان عتقه في المرض وصية وتوريثه يمنع من الوصية، والمنع من الوصية يوجب بطلان عتقه وارثه، فثبت العتق وسقط الارث، وان أعتق موسر جارية في مرضه وتزوجها ومات من مرضه لم ترثه لان توريثها يبطل عتقها وميراثها، لان العتق في المرض وصية والوصية للوارث لا تصح، وإذا بطل العتق بطل النكاح، وإذا بطل النكاح سقط الارث فثبت العتق وسقط الارث.
وان أعتق عبدين وصارا عدلين وادعى رجل على المعتق أن العبدين له وشهد العبدان بذلك تقبل شهادتهما، لان قبول شهادتهما يؤدى إلى ابطال الشهادة لانه يبطل بها العتق فإذا بطل للعتق بطلت الشهادة.
(فصل)
وان مات رجل وخلف أخاه فقدم رجل مجهول النسب وقال أنا ابن الميت فالقول قول الاخ مع يمينه.
لان الاصل عدم النسب، فإن نكل
وحلف المدعى، فإن قلنا ان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالاقرار لم يرث كما لا يرث إذا أقر به، وان قلنا انه كالبينة ورث كما يرث إذا أقام البينة(20/330)
(فصل)
وإذا مات رجل ولا يعلم له وارث فجاء رجل وادعى أنه وارثه لم تسمع الدعوى حتى يبين سبب الارث لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يورث به، ولا يقبل قوله حتى يشهد له شاهدان من أهل الخبرة بحاله، ويشهدان أنه وارثه ولا نعلم له وارثا سواء، ويبينان سبب الارث كما يبين المدعى، فإذا شهدا على ما ذكرناه حكم به لان الظاهر مع هذه الشهادة أنه لا وارث له غيره وإن لم يكونا من اهل الخبرة أو كانا من أهل الخبرة ولكنهما لم يقولا ولا نعلم له وارثا سواء نظرت فإن كان المشهود له ممن له فرض لا ينقص أعطى اليقين، فيعطى الزوج ربعا عائلا والزوجة ثمنا عائلا ويعطى الابوان كل واحد منهما سدسا عائلا وإن كان ممن ليس له فرض، وهو من عدا الزوجين والابوين، بعث الحاكم إلى البلاد التى دخلها الميت فإن لم يجدوا وارثا توقف حتى تمضى مدة لو كان له وارث ظهر، وإن لم يظهر غيره فإن كان الوارث ممن لا يحجب بحال كالاب والابن دفعت التركة كلها إليه لان البحث مع هذه الشهادة بمنزلة شهادة أهل الخبرة، ويستحب أن يؤخذ منه كفيل بما يدفع إليه، وإن كان المشهود له ممن يحجب كالجد والاخ والعم فَفِيهِ وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه لا يدفع إليه إلا نصيبه لانه يجوز أن يكون له وارث يحجبه فلم يدفع إليه أكثر منه.
(والثانى)
وهو المذهب أنه يدفع إليه الجميع لان البحث مع هذه البينة بمنزلة شهادة أهل الخبرة، وهل يستحب أخذ الكفيل أو يجب؟ فيهو جهان،
(أحدهما)
أنه يستحب
(والثانى)
أنه واجب.
(فصل)
وان كان لرجل أمتان ولكل واحدة منهما ولد ولا زوج لواحدة منهما ولا أقر المولى بوطئ واحدة منهما، فقال أحد هذين الولدين ابني من أمتى طولب بالبيان، فإن عين أحدهما لحقه نسبه وحكم بحريته ثم يسأل عن الاستيلاد فإن قال استولدتها في ملكى فالولد حر لا ولاء عليه لانه لم يمسه رق وأمه أم ولد، وان قال استولدتها في نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لانه مسه الرق وأمه مملوكة لانها علقت منه بمملوك وترق الامة الاخرى وولدها، وان ادعت(20/331)
أنها هي التى استولدها فالقول قول المولى مع يمينه لانه الاصل عدم الاستيلاد وإن مات قبل البيان وله وارث يجوز ميراثه قام مقامه في البيان، لانه يقوم مقامه في الحاق النسب وغيره، فإن لم يعلم الوارث جهة الاستيلاد ففيه وجهان:
(أحدهما)
أن الامة لا تصير أم ولد لان الاصل الرق فلا يزال بالاحتمال
(والثانى)
وهو المنصوص أنها تكون أم ولد، لان الظاهر من ولده منها أنه استولدها في ملكه.
وان لم يكن وارث أو كان له وارث ولكنه لم يعيق الولد عرض الولدان على القافة، فإن الحقت به أحد الولدين ثبت نسبه ويكون الحكم فيه كالحكم فيه إذا عينه الوارث، وان لم تكن قامة أو كانت ولم تعرف أو الحقت الولدين به سقط حكم النسب لتعذر معرفته، وأقرع بينهما لتمييز العتق، لان القرعة لها مدخل في تمييز العتق، فإن خرجت القرعة على أحدهما عتق ولا يحكم لواحد منهما بالارث لانه لم يتعين، وهل يوقف ميراث ابن؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يوقف، وهو قول المزني رحمه الله، لانا نتيقن أن أحدهما ابن وارث.
(والثانى)
أنه لا يوقف، لان الشئ انما يوقف إذا رجى انكشافه،
وههنا لا يرجى انكشافه.
(فصل)
وان كان له أمة ولها ثلاثة أولاد ولا زوج لها ولا أقر المولى بوطئها فقال أحد هؤلاء ولدى أخذ البيان فان عين الاصغر ثبت نسبه وحريته ثم يسأل عن جهة الاستيلاد فان قال استوليتها في ملكى فالولد حر لا ولاء عليه والجارية أم ولد، وللولد الاكبر والاوسط مملوكان.
وان قال استولدتها في نكاح ثم ملكتها فقد عتق الولد بالملك وعليه الولاء لانه مسه الرق وأمه أمة فن والاكبر والاوسط مملوكان، وان عين الاوسط تعين نسبه وحريته ويسأل عن استيلاده، فان قال استولدتها في ملكى فالولد حر الاصل وأمه أم ولد، وأما الاصغر فهو ابن أم ولد وثبت لها حرمة الاستيلاد، وهل يعتق بموته كأمه؟ فيه وجهان(20/332)
(أحدهما)
أنه يعتق لانه ولد أم ولده
(والثانى)
أنه عبد قن لا يعتق بعنق أمه لجواز أن يكون عبدا قنا بأن أحبل أمه وهى مرهونة فثبت لها حرمة الاستيلاد فتباع على أحد القولين، وإذا ملكها بعد ذلك صارت أم ولده وولده الذى اشتراه معها عبد قن فلا يعتق مع الاحتمال.
وإن قال استولدتها في نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لانه مسه الرق وأمه أمة قن والولدان الآخران مملوكان وان عين الاكبر تعين نسبه وحريته ويسأل عن الاستيلاد فان قال استولدتها في ملكى فهو حر الاصل وأمه أم ولد والاوسط والاصغر على الوجهين.
وإن قال استولدتها في نكاح فالولد حر وعليه الولاء والامة قن والاوسط والاصغر مملوكان وإن مات قبل البيان وخلف إبنا يجوز الميراث قام مقامه في التعيين فان عين كان الحكم فيه على ما ذكرناه في الموروث إذا عين، وإن لم يكن له ابن
أو كان له ولم يعين عرض على القافة، فإن عينت القافة فان الحكم على ما ذكرناه وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها أقرع بينهم لتمييز الحربة لانها تتميز بالقرعة، فإن خرجت على أحدهما حكم بحريته ولا يثبت النسب، لان القرعة لا يتميز بها النسب، وأما الامة فان يبحث عن جهة استيلادها، فإن كانت في ملكه فهى أم ولده، وان كان في نكاح فهى أمة قن، وإن لم يعرف فعلى ما ذكرناه من الوجهين فلا يرث الابن الذى لم يتعين نسبه، وهل يوقف له نصيب ابن أو يعطى الابن المعروف النسب حقه؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
يوقف له ميراث ابن، وهو قول المزني رحمه الله
(والثانى)
وهو المذهب أنه لا يوقف له شئ بل تدفع التركة إلى المعروف النسب وقد بينا ذلك فيما تقدم.
(الشرح) حديث (اختصم سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة ... ) أخرجه البخاري في باب (الولد للفراش) واتققا عليه من حديث، سفيان ومالك في الموطأ وابن ماجه من حديث عائشة، وأورده ابن حجر في ترجمة سعد بن أبى وقاص في الاصابة والسخاوى في فتح المغيث،(20/333)
اللغة: قوله (وابن وليدة أبى) الوليدة الجارية قال حسان: وتغدو ولائدهم لقف الحنظل قوله (الولد للفراش) أي لمالك للفراش، وهو الزوج، أو لمالك الامة لانه يفترشها بالحق، وهذا من مختصر الكلام، وهو على حذف مضاف كقوله تعالى (واسأل القرية) أي أهل القرية.
والفراش الزوجة، يقال افترش فلان فلانة إذا تزوجها، ويقال لامرأة الرجل هي فراشه وإزاره ولحافه قوله (وللعاهر الحجر) العاهر الزانى، يقال عهر الرجل المرأة يعهر عهرا
إذا أتاها بفجور، والعهر الزنا، وفى الحديث: اللهم أبدله بالعهر العفة، ومعنى وللعاهر الحجر أي لا شئ له في نسب الولد وانما يستحق الحجر الذى لا ينتفع به.
أو يرمى بالحجر ويطرد، وقول من قال إنه يرجم الحد بالحجر ليس بشئ لانه ليس كل زان يجب رجمه، وهذا كما قالوا في معنى له التراب أي لا شئ له.
وروى أن أبا العيناء ولد له ولد وكان أعمى فأتاه الناس يهنئونه به، فأنى الجماز في جملتهم فوضع بين يديه حجرا ومضى، فتكلم بذلك فقال: أتدرون ما أراد لعنه الله؟ قالوا لا، قال أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) قالت الشافعية في الانوار (إلاقرار بالنسب قسمان، الاولى أن يلحقه بنفسه وله شروط:
1 - أن يكون الملحق رجلا مكلفا فلا يصح إقرار المرأة والصبى والمجنون، خلية كانت أو ذات زوج، ولو أقامت بينة لحق، ولا يشترط الاسلام والحرية وإطلاق التصرف.
2 - أن لا يكذبه الحس، فلو كان في سن لا يتصور أن يكون ولدا للملحق لم يلحق وان صدقه المقر.
3 - أن لا يكذبه الحال فان جاءت امرأة من بلدة بعيدة ومعها طفل فألحقه رجل ما سافر قط إلى بلدها ولا هي إلى بلده لم يلحقه.
4 - أن لا يكذبه الشرع، فإن كان المقر له مشهور النسب من غيره لم يلحق(20/334)
صدقه أو كذبه
5 - أن لا يكذبه المقر له ان كان بالغا فان كذبه أو سكت لم يثبت نسبه الا ببينة فان لم تكن وحلف للمقر له سقط نسبه وان نكل وحلف المقر ثبت، ولو استلحق صغيرا ثبت نسبه ويتوارثان، فإن بلغ وكذب لم يندفع
النسب، والمجنون كالصغير، ولو استلحق صغيرا أو بالغا بعد موته لحق، سواء كان له مال أو لم يكن، ولو قتله ثم استحلقه لحق وسقط القصاص.
6 - أن لا يزاحمه غيره، فإن ادعى آخر نسبه أيضا لم يلحق به الا بتصديقه وتكذيب الآخر ان كان بالغا أو ببينة مع عجز الاخر عنها أو الحاق القائف وحده ان كان صغيرا، والاقرار بنسب الغير لا يكون إقرار النكاح أمه فلا يتوارث ولو استحق عبد الغير أو معتقه لم يلحق إلا ببينة، صغيرا كان أو كبيرا وصدقه، وإذا لحق بقى رقيقا لمولاه، ولو استلحق عبدا في يده فان لم يكن لغا قوله، وان أمكن فان كان مجهول النسب لحقه ان كان صغيرا أو كبيرا وصدقه وعتق ويرث، وان كذبه لم يلحق وعتق ولا يرث، ولو كانت له جارية خلية ذات ولد فقال هذا ولدى من هذه لحقه ان أمكن ولا تصير الجارية أم ولد له.
ولو قال هذا ولدى استولدتها به في ملكى أو علقت به في ملكى أو هذا ولدى منها وهى في ملكى منذ عشر سنين، وكان الولد ابن سنة ثبت النسب وهى أم ولد قطعا.
ولو كانت الامة مزوجة فالولد للزوج ولا أثر لالحاق السيد ولو كانت فراشا للسيد لاقراه بوطئها لحقه الولد بالفراش ولا حاجة إلى الاقرار ولا يعتبر الا الامكان، ولا فرق في الاقرار بالاستيلاد بين الصحة والمرض.
القسم الثاني: أن يلحقه بغيره كهذا أخى أو عمى، ويشترط فيه وراء ما تقدم من الشروط شرطان: 1 - أن يكون الملحق به ميتا، فما دام حيا لم يكن لغيره الالحاق، وان كان مجنونا في حياته وألحقه وارثه بعد موته لحقه 2 - أن يصدر الاقرار من الوارث الجائز التزكة فلا يثبت بإقرار الاجانب ولا بإقرار القريب غير الاجانب، ولا بإقرار القريب غير الوارث لكفر أو رق أو قتل، ولا بإقرار الوارث غير الجائز، فلو مات وخلف ابنا واحدا فأقر بأخ ثبت، فلو خلف بنين وبنات فلا بد من اتفاقهم ومن اتفاق الزوج أو(20/335)
الزوجة والصغير والمجنون بعد البلوغ والافاقة لا الكافر والرقيق بعد الاسلام والحرية، ولو خلف بنتا حائزة لكونها معتقة أو غير حائزه ووافقها الامام لحق ولو أقر بنسب من يحجب المقر بأن مات عن أخ اوعم فاقر بابن للميت لحق ولم يرث، ولو احد الابنين باح وأنكر الآخر لم يثبت إرثه في الظاهر، وعلى المقر أن يشركه بثلث ما يخصه إن كان صادقا، والطريق أن يضرب أصل المسألة على قول المنكر وهو إثنان في أصل المسألة على قول المقر وهو ثلاثة تبلغ ستة، ثلاثة منها للمنكر وثلاثة للمقر فيكون بينهما أثلاثا.
قال القاضى حسين في الفتاوى: ولو زوج الحاكم امرأة وجاء رجل وقال أنا أبو وكنت في البلد وصدقته ثبت النسب وبطل النكاح قال القفال في الفتاوى: ولو أتت الجارية المشتركة بابن فقال أحد الشريكن هو ابني عتق عليه، موسرا كان أو معسرا، ولزمه غرم نصيب الاخر وتصير الجارية أم ولد له إن كان موسرا ونصيبه ان كان معسرا وقال في الحاشية المسماة بالكمثرى ردا عليه في مسألة بطلان النكاح واعلم أن بطلان النكاح مرجوع، فكأنه تبع فيه البغوي والمعتمد الراجح صحته، وانما يبطل بالبينة على ما يدعيه.
وفى حاشية الحاج ابراهيم في نفس الموضوع فيه نظر والظاهر أن النكاح لا يبطل إلا أن يقيم بينة على الحضور.
قالت الحنابلة: وإن أقر رجل أو امرأه بزوجية الاخر فجحده ثم صدقه صح قال القاضى وغيره تحل له بنكاح جديد، وان لم يصدقه إلا بعد موت المقر صح وورثه ويتخرج من مسألة الوارث بعدها لا أرث، فإن كذبه في حياته فوجهان
(أحدهما)
لا يصح تصديقه ولا يرثه: جزم به في الوجيز (والثاني) يصح
ويرثه، وهو ظاهر الكلام في المقنع، وفى الروضة الصحة قول أصحابنا وقال شيخنا فيمن أنكر الزوجية فأبرأته فأقر بها لها طلبه بحقها، وان أقر بزوج أو مولى أعضه فصدقه وأمكن ولم يدفع به نسب غيره قبل، ولو أسقط وارثه، وكذا بولد ولا يعتبر تصديقه مع صغر وجنون وإلا اعتبر، وقيل لا يرثه ان كان ميتا التهمة، وقيل ولا يثبت نسبه ان كان كبيرا عاقلا ميتا، في اقرار امرأة مزوجة بولد روايتان.(20/336)
(أحدهما)
يلحقها وهو الصحيح من المذهب (والثانية) لا يحلقها وان أقر بأب فكولد وفى الوسيلة ان قال عن بالغ هو ابني أو أبى فسكت المدعى عليه ثبت نسبه في ظاهر قوله، ولا يعتبر في تصديق أحدهما بالاخر، فيشهد الشاهد بنسبهما بدونه نقل أحمد بن سعيد: النسب بالولد ثبت بإقرار الرجل به أنه ابنه فلا ينكر أو بولد على فراشه أو يدخل على أهله وولده وحرمه.
ومن ثبت نسبه فادعت أمه بعد موت المقر زوجته لم يثبت، وكذا دعوى أخته البنوة ومن نسبه معروف فأقر بغير الاربعة المذكورين كإبن ابن وجد وأخ وعم لم يصح، وان أقر مجهول نسبه ولا ولاء عليه بنسب وارث حتى بأخ أو عم فصدقه وأمكن قبل ومع الولاء يقبل ان صدقه مولاه ويتخرج أو لا واختاره شيخنا وقافا لابي حنيفة، ومن أقر بالرق وكان تصرف بنكاح وغيره، ومن عنده أمة له منها أولاد فأقر بها لرجل قبل إقراره على الامة لا على أولادها نقله ابن مشيش.
قال الحنفيون: وأما الاقرار بالنسب فهو الاقرار بالوارث وهو نوعان:
(أحدهما)
إقرار الرجل بوارث
(والثانى)
إقرار الوارث بوارثه ويتعلق بكل
واحد منهما حكمان، حكم النسب وحكم الميراث.
أما الاقرار بوارث فلصحته في حق ثبات النسب شرائط.
منها أن يكون المقر به محتمل الثبوت لان الاقرار إخبار عن كائن، فإذا استحال كونه فالاخبار عن كائن يكون كذبا محضا.
ومنها أن لا يكون المقر بنسبه معروف النسب من غيره، فإن كان لم يصح لانه إذا ثبت نسبه من غيره لا يحتمل ثبوته له بعده.
ومنها تصديق المقر بنسبه إذا كان في يد نفسه لان اقراره يتضمن ابطال يده فلا تبطل الا برضاه.
ومنها أن يكون في حمل النسب على الغير، سواء كذبه المقر بنسب أو صدقه لان إقرار إلانسان حجة على نفسه لا على غيره لانه على غيره شهادة أو دعوى والدعوى المفردة ليست بحجة وشهادة الفرد فيما يطلع عليه الرجال، وهو من(20/337)
باب حقوق العباد غير مقبولة، والاقرار الذى فيه حمل نسب الغير على غيره إقرار على غيره لا على نفسه فكان دعوى أو شهادة، وكل ذلك لا يقبل الا بحجة وعلى هذا يجوز إقرار الرجل بخمسة نفر: أبوللدين والولد والزوجة والمولى، ويجوز إقرار المرأة بأربعة نفر الوالدين والزوج والمولى، ولا يجوز بالولد لانه ليس في الاقرار بهؤلاء حمل نسب نسب الغير على غيره.
أما الاقرار بالولاء فظاهر لانه ليس فهى حمل نسب إلى أحد.
وكذلك الاقرار بالزوجية ليس فيه حمل نسب الغير على غيره لكن لا بد التصديق لما ذكرنا، ثم ان وجد التصديق في حال حياة المقر جاز بلا خلاف وان وجد بعد وفاته فإن كان الاقرار من الزوج يصح تصديق المرأة، سواء صدقته في حال حياته أو بعد وفاته بالاجماع بأن أقر الرجل الزوجية فمات ثم صدقته المرأة، لان النكاح يبقى بعد الموت من وجه لبقاء بعض أحكامه في العدة فكان محتملا التصديق
وان كان الاقرار بالزوجبة من المرأه فصدقها الزوج بعد موتها لا يصح عند أبى حنيفة وعند أبى يوسف ومحمد يصح وأما الاقرار بالولد فلانه ليس فيه حمل نسب غيره على غيره بل على نفسه فيكون إقرارا على نفسه لا على غيره فيقبل لكن لا بد من التصديق إذا كان في يد نفسه لما قلنا، وسواء وجده في حال حياته أو بعد وفاته، لان النسب لا يبطل بالموت فيجوز التصديق في الحالين جميعا وكذلك الاقرار بالوالدين ليس فيه حمل نسب غيره على غيره فيكون إقرارا على نفسه لا على غيره فيقبل وكذلك اقرار المرأة بهؤلاء لما ذكرنا الا الولد لان فيه حمل نسب غيره على غيره وهو نسب الولد على الزوج فلا يقبل الا إذا صدقها الزوج أو تشهد امرأة على الولادة بخلاف الرجل لان فيه حمل نسب الولد على نفسه ولا يجوز الاقرار بغير هؤلاء من العم والاخ غيره على غيره وهو الاب والجد وكذلك الاقرار بوارث في حق حكم الميراث يشترط له ما يشترط للاقرار به في حق ثبات النسب، وهو ما ذكرنا، الا شرط حمل النسب على الغير، فإن الاقرار بنسب يحمله المقر على غيره لا يصح في حق ثبات النسب أصلا ويصح(20/338)
في حق الميراث لكن بشرط ان لا يكون له وارث أصلا ويكون ميراثه له لان تصرف العاقل واجب التصحيح ما أمكن، فإن لم يمكن في حق ثبات النسب لفقد شرط الصحة أمكن في حق الميراث وأن ثمة وارث قريبا كان أو بعيدا لا يصح إقراره أصلا ولا شئ له في الميراث بأن أقر أخ وله عمة أو خالة فميراثه لعمته أو فحالته ولا شئ للمقر له لانهما وارثان بيقين فكان حقهما ثابتا بيقين فلا يجوز إبطاله بالصرف إلى غيرهما.
وكذلك إذا أقر بأخ أو ابن ابن وله مولى الموالاة مات فالميراث للمولى ولا
شئ للمقر له، لان الولاء من أسباب الارث وأما اقرار بوارث فالكلام فيه في موضعين: أحدهما في حق ثبات النسب والثانى في حق الميراث.
اما الاول فالامر فيه لا يخلو من أحد وجهين، اما إن كان الوارث واحد وأما ان كان أكثر من واحد بأن مات رجل وترك ابنا فأقر بأخ هل يثبت نسبه من الميت؟ اختلف فيه، قال أبو حنيفة ومحمد لا يثبت النسب بإقرار وارث واحد، وقال أبو يوسف يثبت، وبه أخذ الكرخي رحمه الله، وان كان أكثر من واحد، بأن كان رجلين، أو رجلا وامرأتين فصاعدا، يثبت النسب بإقرارهم بالاجماع.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان مات رجل وخلف أبنين فأقر أحدهما على أبيه بدين وأنكر الآخر، نظرت فإن كان المقر عدلا جاز أن يقضى بشهادته مع شاهد آخر أو مع امرأتين أو مع يمين المدعى، وان لم يكن عدلا حلف المنكر ولم يلزمه شئ.
وأما المقر ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه يلزمه جميع الدين في حصته لان الدين قد يتعلق ببعض التركة إذا هلك بعضها كما يتعلق بحميعها فوجب قضاؤه من حصة المقر والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا يلزمه من الدين الا بقدر حصته، لانه(20/339)
لو لزمه بالاقرار جميع الدين لم تقبل شهادته بالدين لانه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه ضررا والله أعلم (الشرح) قوله (وإن مات رجل وخلف ابنين..) قال يوسف الاردبيلى في الانوار (ولو أقر بعض الورثة على الميت بدين
وأنكر بعضهم فلا يلزم المقر إلا بقسط نصيبه من التركة.
كما لو أقر أحد المالكين بحنانة العبد المشترك، فإن كان نصبه من الميراث يلزمه نصف الدين وان كان الربع فالربع، ولو مات المنكر ووارثه المقر لزمه الآن كل الدين، ولو شهد المقر على المورث، وهو عدل قبلت، سواء شهد قبل الاقرار أو بعده، ولو لم يكن للميت تركة لم يلزم الوارث قضاء الدين، ولو أبرأ صاحب الدين الموسر أو المعسر صح وبرئ، ولو أبرأ الوارث لم يصح ولم يبرأ الميت، ولو أقر أجنبي بدين على الميت ثم وقعت تركته في يده أمر بصرفها إلى ذلك الدين، ولو ادعى على ابني ميت أن بعض أعيان التركة ملكه فصدقه أحدهما، فإن كان قبل قسمة التركة سلم النصف إليه في الحال، وإن كان بعدها فإن كانت المدعاة في يد المصدق سلم ولا شئ على المكذب، وان كانت في يد الاخر فعلى المصدق نصف القيمة ولا شئ على الاخر ودعوى للعين لا تسمع الا على من هي في يده.
ولو شهد على الاخر سمع وغرم نصف قيمة العهد المشهود عليه ولو أقر رجل على ولده أو أخيه بدين أو جناية لم يقبل، ولو أقر على عبده بما يوجب بعقوبة من قصاص أو حد قذف أو شرب لم يقبل، وبما يوجب مالا قبل ولم يقبل بدين المعاملة والقرض.
قال صاحب التهذيب في كناية التعليق: ولو قال الدار التى تركها أبى لفلان بل لفلان سلمت إلى الاول ولا يغرم الثاني، ولو قال العين الفلانية تركة فلان لم يكن إقرارا بالملك لفلان ولو لوارثه ويكون اقرارا باليد قالت الحنابلة (وان أقر ورثة بدين على موروثهم قضوه من التركة، وان أقر بعضهم بلا شهادة فيقدر إرثه.
إن ورث النصف فنصف الدين كإقراره بوصية لا كل إرثه.(20/340)
وفى التبصرة إن أقر منهم عدلان أو عدل ويمين ثبت، وإن خلف وارثا واحدا لا يرق كل المال كبنت وأخت فأقر بما يستغرق التركة أخذ رب الدين كل ما بيدها ويقدم ما ثبت بإقرار الميت وقبل ما ثبت بإقرار ورثته.
ويحتمل التسوية، وذكره الازجى وجها ويقدم ما ثبت ببينة) وقد أجملت لك ما قاله المالكية هكذا: الاقرار إذا كان بينا فلا خلاف في وجوب الحكم به، وإنما النظر فيمن يجوز إقراره ممن لا يجوز، وأما إذا كان الاقرار محتملا وقع الخلاف ولا يصح الاقرار إلا من مكلف مختار، ولو هازلا بلفظ أو كتابة لا بإشارة إلا من أخرس، لكن لو أقر صغير أو قن أذن لهما في تجارة في قدر ما أذن لهما فيه صح ومن أكره ليقر بدرهم فأقر بدينار، أو ليقر لزيد فأقر لعمرو صح ولزمه لانه غير مكره، وليس الاقرار بإنشاء تمليك فيصح حتى مع إضافة الملك لنفسه، ويصح إقرار المريض بمال لغير وارث، حكاه ابن المنذر إجماعا، لانه غير متهم في حقه ويكون من رأس المال كإقراره في صحته وبأخذ دين من غير وارث، لا إن أقر لوارث إلا ببينة.
وقال مالك: يصح إذا لم يتهم إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل فيصح في قول الجميع إلا الشعبى، والاعتبار بكون من أقر له وارثا أو لا حال الاقرار لا الموت، وان كذب المقر له المقر بطل الاقرار وكان للمقر أن يتصرف فيما أقر به بما شاء، وان أقر رجل أو امرأة بزوجية الاخر فسكت صح وورثه بالزوجية لقيامها بينهما بالاقرار، أو جحده ثم صدقه صح وورثه لحصول الاقرار لا ان بقى على تكذيبه حتى مات ومن ادعى عليه بدينار فقال ان شهد به زيد فهو صادق لم يكن مقرا، ومن باع أو وهب أو عتق عبدا ثم أقر به لغيره لم يقبل ويغرمه للمقر له، ومن
خلف ابنين وماتين فادعى شخص مائة دينار على الميت فصدقه أحدهما وأنكر الآخر لزم المقر نصفها الا أن يكون عدلا ويشهد ويحلف معه المدعى فيأخذها(20/341)
وتكون الباقية بين الاثنين، ويحكم بإسلام من أقر بالشهادتين ولو مميزا، لان عليا رضى الله عنه أسلم وهو ابن ثمان سنين.
وقال البخاري: وكان ابن عباس مع أمه من المستضعفين ولم يكن مع أبيه على دين قومه) وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه عرض الاسلام على ابن صياد صغيرا متفق عليه.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: ولا خلاف بينهم أن الاقرار مرة واحدة عامل في المال، وأما المسائل التى اختلفوا فيها من ذلك فهن من قبل احتمال اللفظ وقال ابن حزم في المحلى (وصح بنص كلام رسول الله واعلامه أمته اياهم بأحسن ما عليه ربه تعالى أن من أصاب حدا فستره الله عليه فإن أمره إلى الله تعالى ان شاء عذبه وانشاء غفر له، وأن من أقر وأقيم عليه الحد فقد سقط عنه ذلك الذنب وكفره الله تعالى عنه.
وبالضرورة ندرى أن يقين المغفرة أفضل من التعزير في امكانها أو عذاب الآخرة، وأين عذاب الدنيا كلها من غمسة في النار، نعوذ بالله منها، فكيف بأكثر من ذلك) وهاك ملخصا وجيزا عن الاقرار: تعريفه: الاقرار هو أن يعترف المرء بالشئ في ذمته لغيره، كأن يقول ان لزيد عندي ألف درهم مثلا أو مناعا أو دارا أو ضباعا ممن يقبل: من العاقل البالغ ولا يقبل من المجنون أو الصبى أو المكره لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثة ... ) الحديث، إلا أن اقرار الصبى
وقال ابن حزم في المحلى (وصح بنص كلام رسول الله واعلامه أمته اياهم بأحسن ما عليه ربه تعالى أن من أصاب حدا فستره الله عليه فإن أمره إلى الله تعالى ان شاء عذبه وانشاء غفر له، وأن من أقر وأقيم عليه الحد فقد سقط عنه ذلك الذنب وكفره الله تعالى عنه.
وبالضرورة ندرى أن يقين المغفرة أفضل من التعزير في امكانها أو عذاب الآخرة، وأين عذاب الدنيا كلها من غمسة في النار، نعوذ بالله منها، فكيف بأكثر من ذلك) وهاك ملخصا وجيزا عن الاقرار: تعريفه: الاقرار هو أن يعترف المرء بالشئ في ذمته لغيره، كأن يقول ان لزيد عندي ألف درهم مثلا أو مناعا أو دارا أو ضباعا ممن يقبل: من العاقل البالغ ولا يقبل من المجنون أو الصبى أو المكره لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثة ... ) الحديث، إلا أن اقرار الصبى إذا كان مميزا ومأذونا له في التصرف صح، فإن كان غير مميز أو محجور عليه فلا يصح.
حكمه: اللزوم فمن أقر بشئ لزمه لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن اعترفت فارجمها) بعض أحكام الاقرار: (ا) اعتراف المفلس أو المحجور عليه في الشئون المالية لا يلزم لاتهام(20/342)
المفلس بحد الغرماء، ولان المحجور عليه إذا قبل إقراره أصبح وكأنه لم يحجر عليه ويبقى بذمتيهما ما أقرا به فيسددانه بعد زوال المانع.
(تم كتاب المجموع والحمد لله رب العالمين)(20/343)