وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الشهر هكذا وهكذا، وأوما بأصابع يديه وحبس إبهام يده في الثالثة كأنه يعد خمسين " وروى أنه قال " قد يكون الشهر هكذا وهكذا وحبس إبهامه في الثالثة " وإن ابتدأ بالصوم وقد مضى من الشهر يوم أو أكثر صام ما بقى من هذا الشهر بالعدد وصام الشهر الذى بعده بالهلال تاما أو ناقصا وتم عدد الاول من الثالث ثلاثين يوما تاما كان الاول أو ناقصا، لانه لما فاته شئ من الشهر الاول لم يصمه لم يمكن اعتباره بالهلال فاعتبر بالعدد، واعتبر الثاني بالهلال لانه أمكنه ذلك
(فرع)
وإن أفطر في يوم أثناء الشهرين - فإن كان أفطر لغير عذر - انقطع تتابعه ولزمه أن يستأنف صوم شهرين متتابعين لقوله تعالى " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " ومعنى التتابع أن يوالى بالصوم أيامهما ولا يفطر فيهما لغير عذر ولم يفعل ذلك فصار كما لو لم يصم وأن جامع في ليلة في أثناء الشهرين عامدا عالما بالتحريم أثم بذلك ولا ينقطع تتابعه، وإن وطئها بالنهار ناسيا لم يفسد صومه ولم ينقطع تتابعه، وبه قال أبو يوسف، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة: ينقطع تتابعه بذلك، إلا أن مالكا يقول: إذا وطئها بالنهار ناسيا فسد صومه، وأبو حنيفة يقول: لا يفسد إلا أن ينقطع التتابع.
دليلنا على انه لا ينقطع التتابع أنه وطئ لم يفسد به الصوم، فلم ينقطع التتابع كما لو وطئ امرأة أخرى، وإن كان الفطر بعذر نظرت، فإن كان العذر حيضا، ولا يتصور ذلك في كفارة الظهار، وإنما يتصور ذلك في كفارة القتل والجماع في رمضان، إذا قلنا تجب عليه الكفارة، فإن التتابع لا ينقطع، لان زمن الحيض مستحق للفطر فهو كليالى الصوم، ولان الحيض حصل بغير اختيارها ولا يمكنها الاحتراز منه.
فلو قلنا إنه ينقطع التتابع لادى إلى أن المرأة لا يمكنها أن تكفر بالصوم إلا بعد الاياس من الحيض، وفى ذلك تأخيرها عن وقت وجوبها، وربما بانت قبل الاياس، فلذلك قلنا لا يقطع التتابع.
وإن أفطرت للنفاس احتمل أن يكون فيه وجهان كما قلنا في الايلاء.(17/374)
وإن كان الفطر للمرض ففيه قولان.
قال في القديم لا ينقطع التتابع وبه قال مالك وأحمد، لان سبب الفطر حدث بغير اختياره فهو كالحيض، ولانا لو قلنا
انه ينقطع بالفطر في المرض لادى ذلك إلى أن يتسلسل، لانه لا يأمن وقوع المرض إذا استأنف بعد البرء.
وقال في الجديد ينقطع تتابعه، وبه قال ابو حنيفة، لانه أفطر باختياره، فهو كما لو أفطر بغير المرض.
وان أفطر بالسفر - فإن قلنا ان المرض إذا أفطر قطع التتابع فالسفر أولى، وان قلنا ان أفطر بالمرض لا ينقطع ففى السفر قولان.
أحدهما لا ينقطع التتابع لان السفر عذر يبيح الفطر فهو كالمرض، والثانى أنه ينقطع التتابع لانه حدث بسبب الفطر وهو السفر.
وإن نوى الصوم من الليل ثم أغمى عليه في أثناء النهار فهل يبطل صومه؟ فيه طريقان مضى ذكرهما في الصوم وأبانهما الامام النووي رضى الله عنه، فإن قلنا لا يبطل لم ينقطع التتابع بذلك، وان قلنا يبطل صومه قال الشيخ ابو اسحاق والمحاملى: هو كالفطر بالمرض على قولين، قال العمرانى وفيه نظر، لانه لم يفطر باختياره بخلاف الفطر بالمرض فإنه أفطر باختياره آه وان أفطرت المرضع والحامل في أثناء الشهرين، فإن كان خوفا على انفسهما فهو كالفطر للمرض، وان كان خوفا على ولديهما فهل ينقطع التتابع؟ فِيهِ طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قولان كالفطر للمرض.
ومنهم من قال يقطع التتابع قولا واحدا لانهما أفطرتا لحق غيرهما بخلاف المرض (فرع)
وان صام في أثناء الشهرين تطوعا أو عن نذر أو قضاء انقطع تتابعه بذلك.
لان ذلك لا يقع عن الشهرين فانقطع تتابعه به كما لو أفطر، فإن صام بعض الشهرين ثم تخللها زمان لا يجرى صومه عن كفارته مثل رمضان أو عيد الاضحى انقطع تتابعه، لان رمضان مستحق لصومه، وعيد الاضحى مستحق للفطر، وقد يمكنه أن يبتدئ صوما لا يقطعه ذلك، فإن لم يفعل ذلك فقد فرط
كما لو أفطر في أثناء الشهرين بغير عذر، ولا يجئ أن يقال تخللهما عيد الفطر ولا أيام التشريق، لان عيد الفطر يتقدمه رمضان، وأيام التشريق يتقدمها عيد(17/375)
الاضحى.
فأما إذا ابتدأ الصوم عن الشهرين في رمضان لم يصح صومه عن رمضان لانه لم ينو الصيام عنه ولا عن الشهرين، لان الزمان مستحق لصوم رمضان فلا يقع عن غيره.
وإن ابتدأ صوم الشهرين يوم عيد الفطر لم يصح لانه مستحق للفطر ويصح صومه باقى الشهرين، وإن ابتدأ الصوم أيام التشريق، فإن قلنا بقوله الجديد وأن صومها لا يصح عن صوم التمتع، أو قلنا بقوله القديم أنه يصح صومها عن صوم التمتع، وقلنا بأحد الوجهين على القديم لا يصح صومها عن التمتع لم يصح صومه عن الشهرين، وإن قلنا يصح صومها عن التطوع صح صومها عن الشهرين
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن دخل في الصوم ثم وجد الرقبة لم يبطل صومه، وقال المزني يبطل كما قال في المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة، وقد دللنا عليه في الطهارة، والمستحب أن يخرج من الصوم ويعتق، لان العتق أفضل من الصوم لما فيه من نفع الآدمى، ولانه يخرج من الخلاف.
(فصل)
وإن لم يقدر على الصوم لكبر لا يطيق معه الصوم أو لمرض لا يرجى برؤه منه لزمه أن يطعم ستين مسكينا للآية، والواجب أن يدفع إلى كل مسكين مدا من الطعام، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في حديث الجماع في شهر رمضان " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: أطعم ستين مسكينا.
قال لا أجد، قال فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِرْقٍ من تمر فيه خمسة عشر صاعا فقال خذه وتصدق به " وإذا ثبت هذا بالجماع بالخبر ثبت في المظاهر بالقياس عليه
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أصله في الصحيحين بلفظين عن أبى هريرة، ورواه أبو داود وفى إسناده رجل فيه مقال، ورواه البيهقى وغيره مختصرا مرسلا ومتصلا، وقد مضى الكلام عليه في الصوم أما الاحكام فإنه مما يتسق مع ما قلناه في مقدمة كتاب العتق أن الشرع الحكيم جعل العتق هو الكفارة الاصلية، وأن الصوم بدل من الكفارة إذا لم يجد الرقبة حتى لقد جعل الصوم يبطل في قول المزني وأبى حنيفة إذا وجد الرقبة التى يعتقها(17/376)
كفارة.
وجملة ما في الفصل أنه إذا دخل في الشهرين بالصوم ثم أيسر وقدر على الرقبة لم يجب عليه الانتقال إلى الرقبة، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ والمزنى يلزمه الانتقال، ودليل المذهب أنه وجد المبدل بعد شروعه في البدل فلم يلزمه الانتقال إليه، كما لو وجد الهدى بعد شروعه في صوم السبع، وقال الامام الشافعي رضى الله عنه: ولو أعتق كان أفضل لانه الاصل وليخرج بذلك من الخلاف (قلت) ولان في ذلك نفعا للآدمي بفك اساره من الرق كما أفاده المصنف.
(فرع)
ولا يجزيه الصوم عن الكفارة حتى ينوى الصوم كل ليلة لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ الليل " فهذا عام في كل صوم، وقد وافقنا أبو حنيفة على ذلك.
وهل يلزمه نية التتابع؟ فيه ثلاثة أوجه (أحدها) يلزمه نية التتابع كل ليلة، لان التتابع واجب كالصوم، فلما وجب عليه نية الصوم كل ليلة فكذلك نية التتابع
(والثانى)
يلزمه التتابع أول ليلة من الشهر لان الفرص تبيين هذا الصوم عن غيره بالتتابع، وذلك يحصل بالنية أولى ليلة منه (والثالث) لا يجب عليه نية التتابع وهو الاصح، لان التتابع شرط في العبادة
وعلى الانسان أن ينوى فعل العبادة دون نية شروطها، كما قال العمرانى في الصلاة أن ينوى فعل الصلاة دون نية شرطها.
(مسألة) قوله: وان لم يقدر على الصوم لكبر الخ، فجملة ذلك أنه إذا عجز لعلة تلحقه من الجوع والظمأ وكان قادرا على الاطعام لزمه الانتقال إلى الاطعام لقوله تعالى " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " ولما ذكرناه من حديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر.
إذا ثبت هذا فعليه أن يطعم ستين مسكينا، كل مسكين مدا من طعام، ولا يجرز أن ينقص من عدد المساكين ولا من ستين مدا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ أعطى الطعام كله مسكينا واحدا في ستين يوما جاز.
دليلنا قوله تعالى " فإطعام ستين مسكينا، وقوله " اطعام " مصدر يتعدى بأن والفعل، وهذا(17/377)
وهذا لا يجيز الاقتصار على دون الستين، ولانه مسكين استوفى قوت يوم من كفارة، فإذا دفع إليه غيره منها لم يجزه، كما لو دفع إليه في يوم واحد (فرع)
ويجب أن يدفع إلى كل مسكين مدا في جميع الكفارات إلا كفارة الاذى فأنه يدفع إليه مدين سواء كفر بالتمر أو الزبيب أو البر أو الشعير أو الذرة وبه قال ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والاوزاعي.
وقال أبو حنيفة: إن كفر بالتمر أو الشعير لزمه لكل مسكين صاع، والصاع أربعة أمداد والمد عنده رطلان.
وإن كفر بالبر لزمه لكل مسكين نصف صاع، وفى الزبيب عنه روايتان (إحداهما) أنه كالتمر والشعير
(والثانى)
أنه كالبر وقال مالك في كفارة اليمين والجماع في رمضان كقولنا في كفارة الظهار يطعم كل مسكين مدا بمد هشام، وهو مد وثلث بمد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل بل هو مدان.
وقال أحمد من البر مد ومن التمر والشعير مدان
دليلنا ما روى أبو هريرة أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يضرب خده وينتف شعره، فقال يا رسول الله هلكت، قَالَ وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي في نهار رمضان.
قال اعتق رقبة، قال لا أجد، قال صم شهرين متتابعين قال لا أستطيع، قال أطعم ستين مسكينا، قال لا أستطيع، ثُمَّ جَلَسَ فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بِعِرْقٍ فِيهِ تَمْرٌ قَدْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا، فَقَالَ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: اذهب أطعمه أهلك " فإذا ثبت هذا في المجامع في رمضان قسنا سائر الكفارات عليها.
فأما خبر سلمة بن صخر حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم بوسق من تمر من صدقة بنى زريق فمحمول على الجواز، وأن ما زاد على خمسة عشر صاعا تطوع بدليل هذا الخبر.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب ذلك من الحبوب والثمار التى تجب فيها الزكاة لان الابدان بها تقوم، ويجب من غالب قوت بلده.
قال القاضى أبو عبيد بن حربويه: يجب(17/378)
من غالب قوته، لان في الزكاة الاعتبار بمال فكذلك ههنا، والمذهب الاول لقوله تعالى " فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " والاوسط الاعدل، وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد، ويخالف الزكاة فإنها تجب من المال والكفارة تجب في الذمة، فإن عدل إلى قوت بلد آخر، فإنك كان أجود من غالب قوت بلده الذى هو فيه جاز لانه زاد خيرا، فإن لم يكن أجود، فإن كان مما يجب فيه زكاة ففيه وجهان.
(أحدهما)
يجزئه لانه قوت تجب فيه الزكاة فأشبه قوت البلد
(والثانى)
لا يجزئه وهو الصحيح لانه دون قوت البلد، فإن كان في موضع قوتهم الاقط ففيه قولان
(أحدهما)
تجزئه لانه مكيل مقتات فأشبه قوت البلد
(والثانى)
لا يجزئه لانه يجب فيه الزكاة فلم يجزئه كاللحم، وان كان لحما أو سمكا أو جرادا ففيه طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ كالاقط.
ومنهم من قال لا يجزئه قولا واحدا، ويخالف الاقط لانه يدخله الصاع، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا قُوتَ فِيهِ وجب من غالب قوت أقرب البلاد إليه
(فصل)
ولا يجوز الدقيق السويق والخبز، ومن أصحابنا من قال يجزئه لانه مهيا للاقتيات مستغنى عن مؤنته، وهذا فاسد، لانه ان كان قد هيأه لمنفعة فقد فوت فيه وجوها من المنافع، ولا يجوز إخراج القيمة لانه أخذ ما يكفر به فلم يجز فيه القيمة كالعتق
(فصل)
ولا يجوز أن يدفع الواجب إلى أقل من ستين مسكينا للآية والخبر فإن جمع ستين مسكينا وغداهم وعشاهم لما عليه من الطعام لم يجزه، لان ما وجب للفقراء بالشرع وجب فيه التمليك كالزكاة، ولانهم يختلفون في الاكل ولا يتحقق أن كل واحد منهم يتناول قدر حقه وإن قال لهم ملكتكم هذا بينكم بالسوية ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجزئه.
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى لانه يلزمهم مؤنة في قسمته فلم يجزه، كما لو سلم إليهم الطعام في السنابل
(والثانى)
أنه يجزئه وهو الاظهر لانه سلم إلى كل واحد منهم قدر حقه والمؤنة في قسمته قليلة، فلا يمنع الاجزاء(17/379)
(الشرح) الاحكام: اختلف أصحابنا في هل يلزمه أن يخرج من غالب قوته أو من غالب قوت البلد؟ على وجهين.
قال أبو عبيد بن حربويه يلزمه من غالب قوته وهو اختيار الشيخ أبى حامد، لان الزكاة زكاتان، زكاة المال وزكاة النفس، فلما
كانت زكاة النفس يجب إخراجها من غالب قوت البلد لقوله تعالى " من أوسط ما تطعمون أهليكم " والاوسط الاعدل، وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد، فإن عدل عن قوته وقت بلده إلى قوت بلد آخر، فإن كان أعلى منها وجب عليه إخراجه، بأن عدل عن الذرة والشعير إلى البر، أو كان في مصر وأخرج زبيبا أجزأه لانه أعلى مما وجب عليه، وإن كان دون ذلك بأن عدل عن البر إلى الذرة والشعير فهل يجزئه؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد، وحكاهما المصنف في المهذب هنا وجهين.
(أحدهما)
يجزئه لانه قوت تجب فيه الزكاة
(والثانى)
لا تجزئه وهو الاصح لانه دون ما وجب عليه، وإن أخرج من قوت لا تجب فيه الزكاة - فإن كان غير الاقط - لم يجزه، وإن كان من الاقط ففيه وجهان كما قلنا في زكاة الفطر، وان كان في بلد لا قوت لهم تجب فيه الزكاة وجب من قوت أقرب بلد إليه، وله يجزئه اخراج الخبز والدقيق والسويق؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجزئه لانه مهيأ للاقتيات
(والثانى)
لا يجزئه وهو الاصح لانه قد فوت فيه وجوها من المنفعة.
وان أخرج القيمة لم يجزه كما قلنا في الزكاة وأكثر أهل المدن يقلدون من يجيز اخراج القيمة بيد أن الاولى عندنا والاقرب إلى المذهب أن يشترى دقيقا يخرجه منه، وهو وجه صحيح عندنا، وان كان الاصح غيره كما تقدم.
(مسألة) قوله " ولا يجوز أن يدفع الواجب إلى أقل من ستين مسكينا الخ " فجملة ذلك أنه إذا دفع إلى مائة وعشرين مسكينا ستين مدا لكل مسكين نصف مد لم يجزه ذلك.
وقيل له اختر له منهم ستين مسكينا وادفع إلى كل واحد منهم نصف مد، لانه لا يجوز أن يدفع إلى كل واحد منهم أقل من مد، فإن دفع إلى ستين مسكينا ستين مدا إلى كل واحد منهم مدا دفعة واحدة أو في أوقات متفرقة
أجزأه لقوله تعالى " فإطعام ستين مسكينا " فعم ولم يخصص.(17/380)
وان دفع إلى ثلاثين مسكينا ستين مدا إلى كل واحد مدين لم يجزه الا ثلاثون لانه لم يطعم ستين مسكينا، وعليه أن يطعم ثلاثين مسكينا ثلاثين مدا أخرى لكل واحد مد، وهل له أن يرجع على كل واحد من الثلاثين بما زاد على المد؟ ينظر فيه فإن بين أن ذلك عن كفارة واحدة كان له أن يرجع به، لان ما زاد على المدعى الكفارة لا يجزئ دفعه إلى واحد، وان أطلق لم يرجع لان الظاهر أن ذلك تطوع وقد لزم بالقبض.
وان وجب عليه كفارتان من جنس أو جنسين، فدفع إلى كل مسكين مدين أجزأه لانه لم يدفع إليه عن كل كفارة أكثر من مد، ويجوز الدفع إلى الكبار من المساكين والى الصغار منهم لقوله تعالى " فإطعام ستين مسكينا " ولم يفرق ولكن يدفع مال الصغير إلى وليه، فإن دفع إلى الصغير لم يجزه لانه ليس من أهل القبض، ولهذا لو كان له عليه دين فأقبضه اياه لم يبرأ بذلك (فرع)
والدفع المبرئ له هو أن يدفع إلى كل مسكين مدا يقول خذه أو كله أو ألحقه لك وان قدم ستين مدا إلى ستين مسكينا وقال خذوا أو كلوا أو أبحته لكم لم يجزه ذلك، لان عليه أن يوصل إلى كل واحد منهم مدا، وهذا لم يفعل ذلك.
وان قال ملكتكم هذا بينكم بالسوية أو قبضتكم اياه فقبضوه فَفِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ لَا يجزيه لان عليهم مشقة في القسمة فلم يجزه، كما لو دفع إليهم الطعام في سنابله.
وقال أبو إسحاق يجزيه.
وهو الاصح.
لانه قد ملكهم اياه، ولا يلحقهم في قسمته كبير مشقة، ويمكن كل واحد منهم بيع نصيبه مشاعا، فإن جمع ستين
مسكينا وغداهم وعشاهم لم يجزه لاختلاف كل منهم عن الآخر في القدر الذى تناوله من الطعام وتعاطاه.
وقال أبو حنيفة يجزيه.
دليلنا أن الواجب عليه دفع الحب وهذا لم يدفع الحب، ولانه لا يتحقق أن كل واحد منهم أكل قدر حقه وهو يشك في اسقاط الفرض عن ذمته والاصل بقاؤه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز أن يدفع إلى مكاتب لانها تجب لاهل الحاجة والمكاتب(17/381)
مستغن بكسبه إن كان له كسب، أو بأن يفسخ الكتابة ويرجع إلى مولاه إن لم يكن له كسب، ولا يجوز أن يدفع إلى كافر لانها كفارة فلا يجوز صرفها إلى كافر كالعتق، ولا يجوز دفعها إلى من تلزمه نفقته من زوجة أو والد أو ولد، لانه مستغن بالنفقة، فإن دفع بعض ما عليه من الطعام ثم قدر على الصيام لم يلزمه الانتقال إلى الصوم، كما لا يلزمه الانتقال إلى العتق إذا وجد الرقبة في أثناء الصوم والافضل أن ينتقل إليه لانه أصل
(فصل)
ولا يجوز أن يكفر عن الظهار قبل أن يظاهر، لانه حق يتعلق بسببين فلا يجوز تقديمه عليهم كالزكاة قبل أن يملك النصاب، ويجوز أن يكفر بالمال بعد الظهار وقبل العود لانه حق مال يتعلق بسببين، فإذا وجد أحدهما جاز تقديمه على الآخر كالزكاة قبل الحول، وكفارة اليمين قبل الحنث
(فصل)
ولا يجوز شئ من الكفارات إلَّا بِالنِّيَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " ولانه حتى يجب على سبيل الطهرة فافتقر إلى النية كالزكاة، ولا يلزمه في النية تعيين سبب الكفارة، كما لا يلزمه في الزكاة تعيين المال الذى يزكيه.
فإن كفر بالصوم لزمه أن ينوى كل ليلة أنه صائم غدا عن الكفارة.
وهل يلزمه نية التتابع؟ فيه ثلاث أوجه
(أحدها) يلزمه أن ينوى كل ليلة، لان التتابع واجب فلزمه نيته كالصوم.
(والثانى)
يلزمه أن ينوى ذلك في أوله لانه يتميز بذلك عن غيره (والثالث) وهو الصحيح أنه لا تلزمه نية التتابع، لان العبادة هي الصوم، والتتابع شرط في العبادة فلم تجب نيته في أداء العبادة، كالطهارة وستر العورة لا يلزمه نيتهما في الصلاة.
(فصل)
وان كان المظاهر كافرا كفر بالعتق أو الطعام لانه يصح منه العتق والاطعام في غير الكفارة فصح منه في الكفارة، ولا يكفر بالصوم لانه لا يصح منه الصوم في غير الكفارة فلا يصح منه في الكفارة، فإن كان المظاهر عبدا فقد ذكرناه في باب المأذون فأغنى عن الاعادة، وبالله التوفيق (الشرح) حديث انما الاعمال بالنيات قال فيه الحافظ بن حجر حديث عزيز وقال فيه الشافعي انه نصف الدين.
قلت: ولهذا زعم بعض المشتغلين بالفتيا(17/382)
والدعوة والارشاد من الازهريين انه متواتر وصححنا لهم هذا الفهم بما كتبناه في مجلة الازهر في حينه.
لان الحديث آحادى من طرفه الاول، إذ لم يروه من الصحابة الا عمر، ومع أن عمر خطب به على المنبر فإنه لم يروه عنه سوى علقمة ابن وقاص الليثى، ولم يروه عن علقمة سوى محمد بن ابراهيم التيمى، ولم يروه عن التيمى سوى يحيى بن سعيد الانصاري.
وفى هذا الاسناد نكتة قلما تتوفر لغيره من الاحاديث، وهى أن كلا من علقمة الليثى والتيمي والانصاري تابعيون متعاصرون أقران، ولم يشترك اثنان منهما في سماع الحديث من الثالث أو من عمر أما الاحكام فإنه لا يجوز دفع الكفارة إلى عبد ولا كافر ولا إلى من يلزمه نفقته لما ذكره النووي في كتاب الزكاة، ولا يجوز دفعها إلى مكاتب.
وان جاز دفع الزكاة إليه، لان القصد بالكفارة المواساة المحضة، والمكاتب مستغن عن
ذلك، لانه ان كان له كسب فنفقته في كسبه.
وان لم يكن له كسب فيمكنه أن يعجز نفسه وتكون نفقته على السيد (فرع)
وان أطعم بعض المساكين ثم قدر على الصيام لم يلزمه الصيام كما قلنا فيمن قدر على العتق بعد الشروع في الصيام.
وان وطئها في خلال الاطعام أثم بذلك ولا يلزمه الاستئناف وقال مالك يلزمه.
دليلنا أن الوطئ لا يبطل ما فعله من الاطعام فلم يلزمه الاستئناف كما لو وطئ غيرها (فرع)
ولا يجزيه الاطعام إلَّا بِالنِّيَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نوى " متفق عليه.
وهل يجب أن تكون النية مقارنة للدفع؟ أم يجوز تقديمها على الدفع؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الزكاة وأما التتابع فقد مضى كلامنا في نيته في هذا الباب قبل هذه الفصول بقليل (فوائد) لو أن المظاهر أدى الكفارة بإطعام المساكين فأحضرهم وأطعم كل واحد مدا لم يجزئه ذلك الا أن يملكه اياه.
هذا هو مذهبنا به قال أحمد في احدى روايتيه.
والاخرى أنه يجزئه إذا أطعمهم القدر الواجب لهم.
وهو قول النخعي وأبى حنيفة.
وأطعم أنس في فدية الصيام.
قال أحمد أطعم شيئا كثيرا وصنع الجفان.
وذكر حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس.
وذلك لقول(17/383)
الله تعالى " فإطعام ستين مسكينا " وهذا قد أطعمهم فينبغي أن يجزئة، ولانه أطعم المساكين فأجزأه كما لو ملكهم ولنا أن المنقول عن الصحابة إعطاؤهم، ولانه مال وجب للفقراء شرعا فوجب تمليكهم إياه كالزكاة قلنا: إنه لا يجب التتابع في الاطعام وبه قال أحمد، فلو أطعم واحد اليوم
والثانى بعد يومين والثالث بعد كذا حتى يستكمل الستين صح.
وذلك لان الله تعالى لم يشترط التتابع فيه كما قاله في الصوم.
ولو وطئ في أثناء الاطعام لم تلزمه إعادة ما مضى منه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وقال مالك: يستأنف لانه وطئ في أثناء كفارة الظهار فوجب الاستئناف كالصيام.
دليلنا انه وطئ في أثناء ما لا يشترط التتابع فيه فلم يوجب الاستئناف كوطئ غير المظاهر منها أو كالوطئ في كفارة اليمين، وبهذا فارق الظهار إذا أعطى مسكينا مدين من كفارتين في يوم واحد أجزأه وهو إحدى الروايتين عن أحمد والاخرى لا يجزئه، وهو قول أبى حنيفة لانه استوفى قوت يوم من كفارة فلم يجزئه الدفع إليه ثانيا في يومه كما لو دفعهما إليه من كفارة واحدة والقيمة في الكفارة لا تجزئ عندنا ولا عند أحمد ونظرا لان الشارع الحكيم شرع الدين للسواد من الناس وأكثر الناس أهل قرى وبادية وأقلهم يسكنون المدائن لذلك كان الحب هو المشروع، ويجوز إخراج الدقيق على قول صحيح والاصح الحب، وإذا كان أهل المدائن أنفع لهم أن يعطوا الدقيق كان الدقيق أولى لانه بالنسبة لهم هو حال الكمال وتيسير المنفعة.
أما أهل القرى فحال الكمال وتيسير المنفعة لهم هو الحب فلا يعطوا الدقيق.
والله أعلم(17/384)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب اللعان
إذا علم الزوج أن امرأته زنت - فإن رآها بعينه وهى تزني ولم يكن نسب يلحقه - فله أن يقذفها، وله أن يسكت لما روى علقمة عن عبد الله " أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا رسول الله إن رجل وجد مع امرأته رجلا ان تكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم اللهم افتح، وجعل يدعو فنزلت آية اللعان " والذى يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء الا أنفسهم.
الآية " فذكر أنه يتكلم أو يسكت ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم كلامه ولا سكوته.
وان أقرت عنده بالزنا فوقع في نفسه صدقها أو أخبره بذلك ثقة أو استفاض أن رجلا يزنى بها ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب فله أن يقذفها وله أن يسكت، لان الظاهر أنها زنت فجاز له القذف والسكوت.
وأما إذا رأى رجلا يخرج من عندها ولم يستفض أنه يزنى بها لم يجز أن يقذفها، لانه يجوز أن يكون قد دخل إليها هاربا أو سارقا، أو دخل ليراودها عن نفسها ولم تمكنه، فلا يجوز قذفها بالشك.
وان استفاض أن رجلا يزنى بها ولم يجده عندها ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز قذفها لانه يحتمل أن يكون عدو قد أشاع ذلك عليهما
(والثانى)
يجوز.
لان الاستفاضة أقوى من خبر الثقة.
ولان الاستفاضة تثبت القسامة في القتل فثبت بها جواز القذف (الشرح) قصة الملاعن التى ساقها المصنف هنا رويت من طرق وبأسانيد مختلفة.
منها ما رواه الشيخان وأحمد في مسنده عن سعيد بن جبير أنه قال لعبد الله ابن عمر " يا أبا عبد الرحمن المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال سبحان الله.
نعم.
ان أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان.
قال يا رسول الله أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ ان تكلم تكلم بأمر عظيم وان سكت سكت(17/385)
على مثل ذلك.
قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذى سألتك عنه ابتليت به، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء " فتلاهن عليه
ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال لا والذى بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقالت: لا والذى بعثك بعثك بالحق انه لكاذب فبدأ الرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما " وعند الشيخين وأحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن سهل بن سعد " أن عويمر العجلاني أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فيقتلونه، أم كيف يفعل؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ نزل فيك وفى صاحبتك فاذهب فائت بها، قال سهل: فتلاعنا، وأنا مع الناس عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما فرغ قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين " وفى رواية الشيخين وأحمد " ذاكم التفريق بين كل متلاعنين " وفى لفظ لاحمد ومسلم " وكان فراقه إياها سنة في المتلاعنين " أما اللغات فاللعان مصدر لاعن يلاعن لعانا وملاعنة، كقاتل يقاتل قتالا ومقاتلة، أي لعن كل واحد الآخر، ولاعن الرجل زوجته قذفها بالفجور.
وقال ابن دريد كلمة إسلامية في لغة فصيحة.
وقال في الفتح: اللعان مأخوذ من اللعن، لان الملاعن يقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
واختير لفظ اللعن دون الغضب في التسمية لانه قول الرجل، وهو الذى بدئ به في الآية، وهو أيضا يبدأ به وقيل سمى لعانا لان اللعن الطرد والابعاد وهو مشترك بينهما، وإنما خصت
المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها(17/386)
قوله " واستفاض " أي شاع.
قوله " في أوقات الريب " أي الشك في سبب دخوله لماذا دخل إليها.
وقد اختلف العلماء فيمن وجد مع امرأته رجلا وتحقق وجود الفاحشة منهما فقتله، هل يقتل به أم لا؟ فمنع الجمهور الاقدام، وقالوا يقتص منه إلا أن يأتي ببينة الزنا، أو يعترف المقتول بذلك بشرط أن يكون محصنا.
وقيل بل يقتل به لانه ليس له أن يقيم الحد بغير اذن الامام.
وقال بعض السلف: لا يقتل أصلا، ويعذر فيما فعله إذا ظهرت أمارات صدقه.
وشرط أحمد واسحاق ومن تبعهما أن يأتي بشاهدين أنه قتله بسبب ذلك ووافقهم ابن القاسم وابن حبيب من المالكية، لكن زاد أن يكون المقتول قد أحصن.
وعند الامام الهادى من العترة أنه يجوز للرجل أن يقتل من وجده مع زوجته وأمته وولده حال الفعل، وأما بعده فيقاد به ان كان بكرا.
ولنعد إلى ما في الفصل.
قال في البيان.
اللعان مشتق من اللعن وهو الطرد والابعاد فسمى المتلاعنان بذلك لان في الخامسة اللعنة.
ولما يتعقب من المأثم والطرد، لانه لابد أن يكون أحدهما كاذبا فيكون ملعونا اه إذا ثبت هذا فإن رأى الرجل امرأته تزني أو أقرت عنده بالزنا أو أخبره بذلك ثقة واستفاض في الناس أن رجلا زنا بها ثم وجده عندها ولم يكن هناك نسب يلحقه من هذا الزنا فله أن يقذفها بالزنا، لانه إذا رآها فقد تحقق زناها.
وإذا أقرت عنده أو أخبره ثقة أو استفاض في الناس ووجد الرجل عندها غلب على ظنه زناها فجاز له قذفها.
ولا يجب عليه قذفها لما روى أَنَّ رَجُلًا قَالَ
" يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امرأتي لا ترد يد لامس " تعريضا منه بزناها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم طلقها.
فقال إنى أحبها.
فقال أمسكها.
وللاحاديث التى سقناها في صدر هذا البحث إذ أذن النبي صلى الله عليه وسلم للملاعن أن يتكلم أو يسكت حيث لم ينكر عليه أيهما.
فأما إذا لم يظهر على المرأة الزنا ببينة ولا سبب حرم عليه قذفها لقوله تعالى " إن الذين جاءوا بالافك عصبة منكم - إلى قوله تعالى - سبحانك هذا بهتان عظيم " ولقوله صلى الله عليه وسلم(17/387)
" من قذف محصنة أحبط الله عمله ثمانين عاما " وإن أخبر بزناها من لا يثق بقوله حرم عليه قذفها، لانه لا يغلب على الظن إلا قول الثقة، وإن وجد عندها رجلا ولم يستفض في الناس أنه زنا بها حرم عليه قذفها لجواز أن يكون دخل إليها هاربا أو لحاجة أو لطلب الزنا ولم تجبه، فلا يجوز قذفها بأمر محتمل وإن استفاض في الناس أن فلانا زنى بها ولم يجده عندها فهل يجوز له أن يقذفها؟ فيه وجهان حكاهما المصنف
(أحدهما)
يجوز له قذفها لان الاستفاضة أقوى من خبر الثقة، والقسامة تثبت بالاستفاضة فيثبت بها جواز القذف.
(والثانى)
لا يجوز له قذفها، ولم يذكر في التعليق والشامل غيره لجواز أن يكون أشاع ذلك عدو لها.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ومن قذف امرأته بزنا يوجب الحد أو تعزير القذف، فطولب بالحد أو بالتعزير فله أن يسقط ذلك بالبينة، لقوله عز وجل " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " فدل على أنه إذا أتى بأربعة شهداء لم يجلد.
ويجوز أن يسقط باللعان، لما روى ابن عباس رضى الله عنه " أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: البينة أو الحد في ظهرك، فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك.
فقال هلال: والذى بعثك بالحق إنى لصادق، ولينزلن الله عز وجل في أمرى ما يبرئ ظهرى من الحد، فنزلت: والذين يرمون أزواجهم " ولان الزوج يبتلى بقذف امرأته لنفى العار والنسب الفاسد، ويتعذر.
عليه إقامة البينة فجعل اللعان بينة له، ولهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي صلى الله عليه وسلم " أبشر يا هلال، فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا.
قال هلال قد كنت أرجو ذلك من ربى عز وجل " فإن قدر على البينة ولاعن جاز لانهما بينتان في اثبات حق، فجاز إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الاخرى، كالرجلين، والرجل والمرأتين في المال.(17/388)
وان كان هناك نسب يحتاج إلى نفيه لم ينتف بالبينة، ولا ينتفى الا باللعان، لان الشهود لا سبيل لهم إلى العلم بنفى النسب.
وان أراد أن يثبت الزنا بالبينة ثم يلاعن لنفى النسب جاز، وان أراد أن يلاعن ويثبت الزنا وينفى النسب باللعان جاز.
(الشرح) حديث ابن عباس أخرجه احمد والبخاري وابو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني ولفظه " أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك.
فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول البينة والا حد في ظهرك، فقال هلال والذى بعثك بالحق انى لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهرى من الحد، فنزل جبريل وأنزل الله عليه (والذين يرمون أزواجهم) فقرأ حتى بلغ (ان كان من الصادقين) فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل اليهما فجاء هلال فشهدوا النبي صلى الله عليه وسلم
يقول ان الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كان عند الخامسة وقفوها فقالوا انها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم انظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابع الاليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا ما مضى من كتاب الله لكان لى ولها شأن " قوله " البينة أو حد في ظهرك " فيه دليل على أن الزوج إذا قذف امرأته بالزنا وعجز عن اقامة البينة وجب عليه حد القاذف.
وإذا وقع اللعان سقط وهو قول الجمهور.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن اللازم بقذف الزوج انما هو اللعان فقط، ولا يلزمه الحد، والحديث وما في معناه حجة عليه قوله فنزلت " والذين يرمون أزواجهم " فيه التصريح بأن الآية نزلت في شأن هلال.
وقد تقدم الخلاف في ذلك.
وفى الحديث مشروعية تقديم الوعظ للزوجين قبل اللعان وقد أخرج هذا الحديث احمد ومسلم والنسائي عن أنس بلفظ " ان هلال بن(17/389)
أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخا لبراء بن مالك لامه، وكان أول رجل لاعن في الاسلام.
قال فتلاعنا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضئ العينين فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء.
قال فأنبئت أنها جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين " وفى رواية أن أول لعان كان في الاسلام أن هلال بن أمية قذف شريك بن السحماء بامرأته، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
أربعة شهداء وإلا حد في ظهرك، يردد ذلك عليه مرارا، فقال له هلال: والله يا رسول الله إن الله ليعلم انى لصادق ولينزلن الله عليك ما يبرئ ظهرى من الحد فبينما هم كذلك إذ نزلت عليه آية اللعان (والذين يرمون أزواجهم) إلى آخر الآية وذكر الحديث.
رواه النسائي ورجاله رجال الصحيح وقوله " قضئ العينين " بفتح فكسر بعدها همزة على وزن حذر، وهو فاسد العينين، والجعد خلاف السبط ويسميه عوام المصريين (أكرت) قوله " حمش الساقين " أي دقيق الساقين.
ورواه أحمد وابو داود مطولا وفى إسناده عباد بن منصور وقد تكلم فيه غير واحد.
وقيل فيه إنه كان قدريا داعية أما الاحكام فإنه إذا قدف الرجل رجلا محصنا أو امرأة أجنبية منه محصنة وجب عليه حد القذف وحكم بفسقه وردت شهادته.
فإن أقام القاذف بينة على زنا المقذوف سقط عنه الحد وزال التفسيق وقبلت شهادته ووجب على المقذوف حد الزنا لقوله تعالى " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " الآية وإن قذف الرجل امرأته وجب عليه حد القذف إن كانت محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة وحكم بفسقه، فإن طولب بالحد أو التعزير فله أن يسقط ذلك عن نفسه بإقامة البينة على الزنا، وله ان يسقط ذلك باللعان، فإن لاعن والا أقيم عليه الحد أو التعزير.
هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذا قذف الرجل امرأته لم يجب عليه الحد بقذفها وإنما يجب عليه اللعان فإن لاعن وإلا حبس حتى يلاعن.(17/390)
دليلنا قوله تعالى " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " الآية.
وهذا عام في الازواج وغير الازواج، فأخبر الازواج بأن
لعانهم يقوم مقام شهادة أربعة غيرهم بقوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء الا أنفسهم " الآية.
وحديث ابن عباس الذى ساقه المصنف في الفصل في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن السحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " البينة أو حد في ظهرك " فقال والذى بعثك بالحق انى لصادق ولينزلن الله في امرى ما يبرئ ظهرى من الحد، فأنزل الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآية، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال " أبشر يا هلال قد جعل الله لك فرجا مخرجا " فقال قد كنت أرجو ذلك من ربى وحديث عويمر العجلاني الذى مضى في اول هذا البحث وفيه: قد انزل الله فيك وفى صاحبتك اذهب فأت بها، فأتى بها فتلاعنا.
فيكون المعنى قد انزل الله فيك وفى صاحبتك، أي ما انزل في هلال بن امية وامرأته لانها عامة، ويجوز ان تكون الآية نزلت في الجميع، والمشهور هو الاول، وإنما خص الازواج باللعان بقذف الزوجات، لان الأجنبي لا حاجة به إلى القذف فغلظ عليه ولم يقبل منه في اسقاط الحد عنه الا بالبينة.
وإذا زنت الزوجة فقد أفسدت على الزوج فراشه وخانته فيما ائتمنها عليه، وألحقته من الغيظ مالا يلحق الأجنبي، وربما ألحقت به نسبا ليس منه، فاحتاج إلى قذفها لنفى ذلك النسب عنه، فخفف عنه بأن جعل لعانه يقوم مقام شهادة أربعة.
وان قدر الزوج على البينة واللعان فله أن يسقط الحد عن نفسه بأيهما شاء.
وقال بعض الناس ليس له ان يلاعن.
دليلنا انهما بينتان في اثبات حق فجاز له اقامة كل واحدة منهما مع القدرة على الاخرى، كالرجلين في الشهادة في المال والرجل والمرأتين (فرع)
وسواء قال الزوج رأيتها تزني أو قذفتها بزنى ولم يضف ذلك إلى رؤيته فله ان يلاعن لاسقاط الحد عنه.
وبه قال ابو حنيفة.
وقال مالك ليس له
أن يلاعن الا إذا قال رأيتها تزني، لان آية اللعان نزلت في هلال بن امية وكان(17/391)
قال رأيت بعينى وسمعت بأذنى.
دليلنا قوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " الآية.
ولم يفرق بين أن يقول رأيت بعين أو أطلق ولانه معنى يخرج به من القذف المضاف إلى المشاهدة، فصح الخروج به من القذف المطلق كالبينة (فرع)
وإن كان هناك ولد يريد نفيه لم ينتف بالبينة وإنما ينتفى باللعان، لان الشهود لا سبيل لهم إلى ذلك.
وإن أراد أن يثبت الزنا بالبينة ويلاعن لنفى النسب أو يلاعن لهما جاز له ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن عفت الزوجة عن الحد أو التعزير - ولم يكن نسب - لم يلاعن، ومن أصحابنا من قال له أن يلاعن لقطع الفراش، والمذهب الاول، لان المقصود باللعان درء العقوبة الواجبة بالقذف ونفى النسب لما يلحقه من الضرر بكل واحد منهما، وليس ههنا واحد منهما، وأما قطع الفراش فإنه غير مقصود ويحصل له ذلك بالطلاق فلا يلاعن لاجله وإن لم تعف الزوجة عن الحد أو التعزير ولم تطالب به فقد روى المزني أنه ليس عليه أن يلاعن حتى تطلب المقذوفة حدها.
وروى فيمن قذف امرأته ثم جنت أنه إذا التعن سقط الحد، فمن أصحابنا من قال لا يلاعن لانه لا حاجة به إلى اللعان قبل الطلب.
وقال ابو إسحاق: له أن يلاعن لان الحد قد وجب عليه فجاز أن يسقطه من غير طلب، كما يجوز أن يقضى الدين المؤجل قبل الطلب.
وقوله: ليس عليه أن يلتعن، لا يمنع الجواز وإنما يمنع الوجوب
(فصل)
وإن كانت الزوجة أمة أو ذمية أو صغيرة يوطأ مثلها فقذفها عزر وله أن يلاعن لدرء التعزير لانه تعزير قذف، وإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها فقذفها عزر ولا يلاعن لدرء التعزير، لانه ليس بتعزير قذف، وإنما هو تعزير على الكذب لحق الله تعالى.
وإن قذف زوجته ولم يلاعن فحد في قذفها ثم قذفها بالزنا الذى رماها به عزر(17/392)
ولا يلاعن لدرء التعزير لانه تعزير لدفع الاذى، لانا قد حددناه للقذف، فإن ثبت بالبينة أو بالاقرار أنها زانية ثم قذفها فقد روى المزني انه لا يلاعن لدرء التعزير.
وروى الربيع انه يلاعن لدرء التعزير.
واختلف أصحابنا فيه على طريقين، فقال ابو اسحاق: المذهب ما رواه المزني وما رواه الربيع من تخريجه لان اللعان جعل لتحقيق الزنا وقد تحقق زناها بالاقرار أو البينة، ولان القصد باللعان إسقاط ما يجب بالقذف، والتعزير ههنا على الشتم لحق الله تعالى لا على القذف، لانه بالقذف لم يلحقها معرة.
وقال ابو الحسن بن القطان وأبو القاسم الداركى: وهى على قولين
(أحدهما)
لا يلاعن لما ذكرناه
(والثانى)
يلاعن لانه إذا جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها، فلان يلاعن فيمن ثبت زناها أولى.
(الشرح) درء العقوبة دفعها وإزالتها، وبابه نفع، ودارأته دافعته، وفى الحديث " ادرءوا الحدود بالشبهات " وفى الكتاب " ويدرءون بالحسنة السيئة " وقال تعالى (فادارأتم فيها) أي تماريتم وتدافعتم، والمدارأة بالهمز المدافعة.
قال الشاعر بلسان ناقته: تقول وقد درأت لها وضينى
* أهذا دينه أبدا وديني؟ أكل الدهر حل وارتحال؟
* فما تبقى على ولا تقيني
والمداراة بغير همز الاخذ بالرفق أو المخاتلة.
يقال داريته إذا لاينته، ودريته إذا ختلته.
ومنه: فإن كنت لا أدرى الظباء فانني
* أدس لها تحت التراب الدواهيا أما الاحكام فإن حد القذف حق للمقذوف، فإن عفا عنه سقط وان مات قبل أن يستوفيه ورث عنه، وقال أبو حنيفة: وهو حق لله لا حق للمقذوف فيه، فإن عفا عنه لم يسقط، وان مات لم يورث عنه.
ووافقنا أنه لا يستوفى الا بمطالبته.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام " فأضاف العرض الينا كإضافة الدم والمال، فوجب أن يكون ما في مقابلته(17/393)
للمقذوف كالدم والمال، ولانه حق على البدن إذا ثبت بالاعتراف لم يسقط بالرجوع فكان للآدمي كالقصاص، ففى قولنا إذا ثبت بالاعتراف لم يسقط بالرجوع، احتراز من حد الزنا والخمر والقطع في السرقة.
إذا ثبت هذا فقذف زوجته ثم عفت عما وجب لها من الحد أو التعزير ولم يكن هناك ولد لم يكن له أن يلاعن، لانه يلاعن لاسقاط الحد عنه، وقد سقط بالعفو.
ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن لانه يستفيد به قطع الفراش والفرقة المؤبدة.
والمذهب الاول لان الفرقة يمكنه إحداثها بالطلاق الثلاث.
وان كان هناك ولد فله أن يلاعن لنفيه، وان لم تطالبه بالحد ولم تعف عنه، فإن كان هناك نسب فله يلاعن لنفيه عنه، وان لم يكن هناك نسب فليس له أن يلاعن.
ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن لقطع الفراش، والمذهب الاول، لانه انما يلاعن لنفى النسب أو لاسقاط الحد عنه، وليس هناك أحدهما، وقطع الفراش يمكنه بالطلاق الثلاث.
وجملة ما تقدم انه لا يتعرض له بإقامة الحد عليه ولا طلب اللعان منه حتى
تطالبه زوجته بذلك، فإن ذلك حق لها فلا يقام من غير طلبها كسائر حقوقها، وليس لوليها المطالبة عنها ان كانت مجنونة أو محجورا عليها، ولا لولى الصغيرة وسيد الامة المطالبة بالتعزير من أجلهما، لان هذا حق ثبت للتشفي فلا يقوم غير المستحق فيه مقام المستحق كالقصاص فإن أراد الزوج اللعان من غير مطالبة نظرنا فإن لم يكن هناك نسب يريد نفيه لم يكن له أن يلاعن، وكذلك كل موضع سقط فيه الحد، مثل أن أقام البينة بزناها أو أبرأته من قذفها أو حد لها ثم أراد لعانها ولا نسب هناك ينفى فإنه لا يشرع اللعان، وهذا قول أكثر اهل العلم، ولا نعلم فيه مخالفا الا بعض أصحابنا الذين قالوا: له الملاعنة لازالة الفراش، ولكن الصحيح عندنا مثل قول سائر الفقهاء لان ازالة الفراش تمكنه بالطلاق، والتحريم المؤبد ليس بمقصود يشرع اللعان لاجله، وانما حصل ذلك ضمنا.
أفاده ابن قدامة في المغنى فإذا قذف امرأته ثم جنت، أو قذفها في حال جنونها بزنا أضافه إلى حال الصحة، فإنه لا يجب عليه الحد بذلك، وانما يجب عليه التعزير، وان أراد الولى(17/394)
أن يطالب بما وجب لها من الحد أو التعزير لم يكن له ذلك، لان طريقة التشفي من القاذف بإقامة الحد عليه فلم يكن له ذلك كالقصاص، فإن التعن الزوج منها فقد قال الشافعي رضى الله عنه: وقعت الفرقة واختلف أصحابنا فيه على وجهين، فمنهم من قال إن كانت حاملا فللزوج أن يلاعن لان اللعان يحتاج إليه لنفى الولد عنه.
وإن كانت حائلا لم يكن له أن يلاعن لان اللعان يراد لاسقاط الحد أو لنفى الولد ولا ولد ههنا فتحتاج إلى نفيه، ولا يجب عليه الحد إلا بمطالبتها ولا مطالبة لها قبل الافاقة، فلم يكن له أن يلاعن.
وقال أبو إسحاق المروزى: له أن يلاعن سواء كانت حاملا أو حائلا، لانها إن كانت حاملا احتاج إلى اللعان لنفى الولد، وإن كانت حائلا احتاج إلى اللعان
لاسقاط الحد الواجب عليه في الظاهر كمن وجب عليه دين إلى أجل فله أن يدفعه قبل حلول الاجل، والاول أصح لان الشافعي قال " ليس على الزوج أن يلتعن حتى تطالب المقذوفة بحدها.
(مسألة) وإن قذف زوجته الصغيرة - فإن كانت لا يوطأ مثلها - كإبنة سبع سنين يعلم يقينا أنها لا توطأ وأنه كاذب ويجب عليه التعزير للكذب، وليس له أن يلاعن لاسقاط هذا التعزير لانا نتحقق كذبه فلا معنى للعان.
قال الشيخ أبو حامد ولا يقام عليه التعزير إلا بعد بلوغها، لانه لا يصح مطالبتها ولا ينوب عنها الولى في المطالبة.
وإن كانت صغيرة يوطأ مثلها كإبنة تسع سنين فما زاد صح قذفه، لان ما قاله يحتمل الصدق والكذب، ولا يجب عليه الحد بقذفها لانها ليس بمحصنة، وإنما يجب عليها التعزير، وهل للزوج أن يلاعن لاسقاط التعزير؟ فيه وجهان.
من أصحابنا من قال ليس له أن يلاعن، لان اللعان يراد لنفى النسب أو لاسقاط ما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها، وذلك لا يجب قبل مطالبتها.
وقال أبو إسحاق، له أن يلاعن لاسقاط ما وجب عليه من التعزير في الظاهر وإن لم تطالب به كما يجوز أن يقدم ما وجب عليه من الدين المؤجل قبل حلوله.
وإن كانت له زوجة كتابية فقذفها لم يجب عليه الحد لانها ليست بمحصنة، ويجب عليه التعزير، وحكمه حكم الحد الذى يجب عليه بقذف المحصنة يسقط عنه(17/395)
بإقامة البينة على زناها أو باللعان، لانه إذا سقط عنه الحد الكامل بذلك فلان يسقط ما هو دونه بذلك أولى.
وإن كانت الزوجة أمة فقذفها لم يجب عليه الحد لانها ليست بمحصنة، ويجب عليه التعزير، وليس للسيد أن يطالب به لانه ليس بمال ولا له بدل هو مال،
وحق السيد إنما يتعلق بالمال أو بما بدله المال، فإن طالبته الامة به كان له أن يسقط ذلك بالبينة أو باللعان كما قلنا في الحد الذى يجب عليه بقذف المحصنة.
وإن عفت الامة عما وجب لها من التعزير سقط لانه لا حق للسيد فيه (مسألة) إذا قامت البينة على امرأة بالزنا أو أقرت بذلك ثم قذفها الزوج أو أجنبي بذلك الزنا أو بغيره لم يجب عليه حد القذف لقوله تعالى " والذين يرمون المحصنات " الآية.
وهذه ليست بمحصنة، ولان القذف هو ما احتمل الصدق والكذب.
فأما ما احتمل أحدهما فإنه لا يكون قذفا، ألا ترى أنه لو قذف الصغيرة التى لا يوطأ مثلها في العادة.
أو قال الناس كلهم زناة لم يكن قذفا ولان الحد إنما جعل دفعا للعار عن نسب المقذوفة، وهذه لا عار عليها بذلك القذف، لان زناها قد ثبت ويجب عليه التعزير لانه أذاها وسبها وذلك محرم فعزر لاجله، فإن كان المؤذى لها بذلك أجنبيا لم يسقط عنه ببينة ولا بغيرها، لان هذا تعزير أذى وليس بتعذير قذف.
وإن كان المؤذى لها بذلك زوجها فهل له إسقاطه باللعان.
نقل المزني ليس له إسقاطه باللعان.
ونقل الربيع أن له إسقاطه باللعان، فاختلف أصحابنا في ذلك، فقال ابو اسحاق الصحيح ما نقله المزني، وما نقله الربيع غلط، لان اللعان إنما يراد لتحقيق الزنا والزنا هنا متحقق فلا فائدة في اللعان.
ولان اللعان إنما أسقط حق المقذوفة، وأما حق الله فلا يسقط، وهذا التعزير لحق الله تعالى فلم يجز إسقاطه باللعان، كما قلنا فيمن قذف صغيرة لا يوظأ مثلها فإن قيل لو كان هذا التعزير لحق الله تعالى لما كان يفتقر إلى مطالبتها، كما لو قال، الناس كلهم زناة، فإن الامام يعزره من غير مطالبة.
قلنا انما افتقر إلى مطالبتها لانه يتعلق بحق امرأة بعينها.
وقال أبو الحسين ابن القطان وابو القاسم الداركى هي على قولين(17/396)
(أحدهما)
لا يلاعن لما ذكرناه
(والثانى)
يلاعن، لانه إذا جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها فلان يلاعن فيمن ثبت زناها أولى.
ومنهم من قال ليست على قولين.
وإنما هي على اختلاف حالين، فالموضع الذى قال لا يلاعن إذا كان قد رماها بالزنا مضافا إلى ما قبل الزوجية، مثل ان رماها بالزنا وهما أجنبيان فأقام عليها البينة بذلك ثم تزوجها ورماها بذلك الزنا لانه كان في الاصل لا يجوز له اللعان لاجله فكذلك في الثاني، والموضع الذى قال: له أن يلاعن إذا رماها بالزنا في حال الزوجية، فحققه عليها بالبينة ثم رماها به ثانيا فله أن يلاعن لانه كان في الاصل له إسقاط حده باللعان قبل البينة فكذلك بعد البينة (فرع)
وإن قذف امرأته بالزنا ولم يقم عليها البينة ولم يلاعن فحد ثم رماها بذلك الزنا فإنه لا يجب عليه الحد، لان القذف هو ما احتمل الصدق والكذب وهذا لا يحتمل إلا الكذب، ولان الحد إنما يراد لدفع العار عن نسب المقذوفة وقد دفع عنه العار بالحد الاول فلا معنى لاقامة الحد ثاينا، ويجب عليه التعزير لانه آذاها بذلك، والاذى بذلك محرم ولا يلاعن لاسقاط هذا التعزير، لانه تعزير أذى فهو كالتعزير لاذى الصغيرة التى لا يوطأ مثلها وإن قذف أجنبي أجنبية بالزنا ولم يقم البينة على الزنا فحد القاذف ثم رماها القاذف بذلك ثانيا فإنه لا يجب عليه الحد وإنما يجب عليه التعزير للاذى.
وقال بعض الناس يجب عليه حد القذف دليلنا ما روى أن أبا بكرة شهد هو ورجلان معه على المغيرة بن شبعة بالزنا فحدهم عمر رضى الله عنه.
ثم قال أبو بكرة للمغيرة: قد كنت زنيت، فهم عمر بجلده فقال له على رضى الله عنه: إن كنت تريد أن تحده فارجم صاحبك، فأدرك عمر معنى قول على عليه السلام: إن كنت تجعل هذا قذفا ثانيا فقد تمت الشهادة على
المغيرة.
وإن كان هو القذف الاول فقد حددته.
(فرع)
قال ابن الصباغ في الشامل: إذا قذف الرجل امرأته وثبت عليها الحد بلعانه نظرت - فإن لاعنته - فقد عارض لعانه لعانها فلا يثبت عليها الزنا ولا يجب عليها الحد ولا تزول حصانتها.
ومتى قذفها هو أو غيره وجب عليه حد القذف.
وإن قذفها ولاعنها ولم تلاعن هي فقد وجب عليها الحد ويسقط احصانها(17/397)
في حق الزوج.
وهل تسقط حصانتها في حق الأجنبي؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تسقط حصانتها لانه قد ثبت زناها بلعان الزوج فلا يسقط احصانها لان اللعان حجة تختص بالزوج، ولهذا لا يسقط عن الأجنبي حد القذف به فلا يسقط احصانها به في حقه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق أن الزوج إذا قذفها وتلاعنا، ثم قذفها بذلك الزنا الذى تلاعنا عليه لم يجب عليه الحد.
وان قذفها بزنا آخر ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجب عليه الحد، لان اللعان لا يسقط الا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته إلى القذف.
وقد زالت الزوجية فزالت الحاجة إلى القذف.
وان تلاعنا ثم قذفها أجنبي حد، فكل موضع قلنا لا يجب على الزوج الحد بقذفها بعد الزوجية فإنه يجب عليه التعزير لانه أذاها والاذى محرم، ولا خلاف أنه لا يسقط هذا التعزير ولا الحد الذى يجب عليه إذا قذفها برنا آخر باللعان، لان اللعان انما يكون بين الزوجين وهما أجنبيان.
هذا مذهبنا وقال أبو حنيفة إذا قذفها أجنبي فإن كان الزوج لاعنها ونفى حملها وكان الولد حيا فعلى الأجنبي الحد، وان كان لم ينف حملها، أو نفاه وكان الولد ميتا فإنه لا حد على الأجنبي.
دليلنا ما رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لاعن بين هلال بن أمية
وامرأته ففرق بينهما وقضى بأن لا يدعى الولد لاب، وأنها لا ترمى ولا ولدها فمن رماها أو ولدها فعليه الحد ولم يفرق وهذا حجة لما قال ابن الصباغ فإنها أجابته باللعان وقال صلى الله عليه وسلم " فمن رماها أو ولدها فعليه الحد " ولم يفرق بين الزوج وغيره.
والله تعالى أعلم بالصواب(17/398)
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
بَابُ مَا يلحق من النسب وما لا يلحق وما يجوز نفيه باللعان وما لا يجوز
إذا تزوج امرأة وهو ممن يولد لمثله، وأمكن اجتماعهما على الوطئ، وأتت بولد لمدة يمكن أن يكون الحمل فيها لحقه في الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " ولان مع وجود هذه الشروط يمكن أن يكون الولد منه، وليس ههنا ما يعارضه ولا ما يسقطه، فوجب أن يلحق به
(فصل)
وإن كان الزوج صغيرا لا يولد لمثله لم يلحقه، لانه لا يمكن أن يكون منه وينتفى عنه من غير لعان، لان اللعان يمين واليمين جعلت لتحقيق ما يجوز أن يكون، ويجوز أن لا يكون فيتحقق باليمين أحد الجائزين، وههنا لا يجوز أن يكون الولد له فلا يحتاج في نفيه إلى اللعان.
واختلف أصحابنا في السن التى يجوز أن يولد له، فمنهم من قال يجوز أن يولد له بعد عشر سنين، ولا يجوز أن يولد له قبل ذلك، وهو ظاهر النص.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في المضاجع " ومنهم من قال يجوز أن يولد له بعد تسع سنين ولا يجوز أن يولد له قبله،
لان المرأة تحيض لتسع سنين فجاز أن يحتلم الغلام لتسع، وما قاله الشافعي رحمه الله أراد على سبيل التقريب لانه لابد أن يمضى بعد التسع إمكان الوطئ وأقل مدة الحمل وهو ستة أشهر، وذلك قريب من العشرة وإن كان الزوج مجبوبا فقد روى المزني أن له أن يلاعن، وروى الربيع أنه ينتفى من غير لعان.
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق إن كان مقطوع الذكر والانثيين انتفى من غير لعان لانه يستحيل أن ينزل مع قطعهما، وإن قطع أحدهما لحقه، ولا ينتفى إلا بلعان، لانه إذا بقى الذكر أولج وأنزل، وإن بقى الانثيان ساحق وأنزل، وحمل الروايتين على هذين الحالين(17/399)
قال القاضى أبو حامد: في أصل الذكر ثقبان إحداهما للبول والاخرى للمنى فإذا انسدت ثقبة المنى انتفى الولد من غير لعان لانه يستحيل الانزال، وإن لم تنسد لم ينتف إلا باللعان، لانه يمكن الانزال.
وحمل الروايتين على هذين الحالين (الشرح) حديث " الولد للفراش " رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا أبا داود، وقد عده السيوطي في الاحاديث المتواترة.
وقال الحافظ بن حجر: هذا الحديث رواه بضعة وعشرون نفسا (قلت) ورد هذا الحديث عن أبى هريرة وعائشة وعثمان وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وأبى أمامة وعمرو بن خارجة وابن الزبير وابن مسعود وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وقاص والبراء بْنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عباس والحسن بن على عليهما السلام وعبادة بن الصامت وواثلة بن الاسقع ومعاوية بن عمرو وأنس وعبد الله بن حذافة السهمى وسودة بنت زمعة وأبى مسعود البدرى وزينب بنت جحش.
وعن التابعين مرسلا سعيد بن المسيب وعبيد بن عمر والحسن البصري.
وفى لفظ للبخاري " الولد لصاحب الفراش ".
أما حديث " مروهم بالصلاة " أخرجه
أبو داود والترمذي وغيرهما من حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ومن حديث سبرة بن معبد الجهنى.
قال الترمذي هو حديث حسن ولفظ رواية عمرو بن شعيب " مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في المضاجع " أما اللغات، فقوله " ما يلحق من النسب " فهو من باب تعب ومصدره لحاق بالفتح أي أدرك وألحق مثله: وألحقت زيد بعمرو أتبعته إياه فلحق به وألحق أيضا.
وفى الدعاء " ان عذابك بالكفار ملحق " يجوز اسم فاعل بالكسر أي لاحق وبالفتح اسم مفعول لان الله ألحقه وألحق القائف الولد بأبيه واستلحقت الشئ ادعيته.
ولحقه الثمن لحوقا لزمه، فاللحوق اللزوم واختلف في معنى الفراش فذهب الاكثر إلى أنه اسم للمرأة، وقد يعبر به عن حالة الافتراش.
وقيل انه اسم للزوج.
روى ذلك عن أبى حنيفة.
وأنشد بن الاعرابي مستدلا على هذا المعنى قول جرير.
باتت تعانقه وبات فراشها(17/400)
وفى القاموس: إن الفراش زوجة الرجل.
قيل ومنه " وفرش مرفوعة " والجارية يفترشها الرجل.
اه والعاهر الزانى، يقال " عهر " أي زنى.
قيل ويختص ذلك بالليل.
قال في القاموس: عهر المرأة كمنع عهرا ويكسر ويحرك، وعهارة بالفتح وعهورة، وعاهرها عهارا أتاها ليلا للفجور أو نهارا.
اه ومعنى له الحجر أي الخيبة أو لا شئ له في الولد، والعرب تقول: له الحجر وبفيه الترب، يريدون ليس له إلا الخيبة، وقيل المراد بالحجر أنه يرجم بالحجارة إذا زنى، ولكنه يرد على هذا أنه لا يرجم كل من زنى بل المحصن فقط
أما الاحكام فإنه يمهد لذلك بأنه لا فرق أولا بين كون الزوجة مدخولا بها أو غير مدخول بها في أنه يلاعنها.
قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من علماء الامصار، منهم عطاء والحسن والشعبى والنخعي وعمرو بن دينار وقتادة وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَهْل الْعِرَاقُ وَالشَّافِعِيُّ، فإن كانت غير مدخول بها فقد قال أحمد وسعيد بن جبير وقتادة ومالك: لها نصف الصداق، فإن كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما على ما سيأتي بيانه، فإن كان غير المكلف الزوج فله حالان
(أحدهما)
أن يكون طفلا
(والثانى)
أن يكون بالغا زائل العقل، فإن كان طفلا - فإن أتت امرأته بولد نظرنا - فإن كان لدون عشر سنين، وهى السن التى يؤيدها ظاهر النص والحديث " اضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع " وإن ذهب بعض الاصحاب إلى ما دون ذلك، فإن كان لدون عشر سنين لم يلحقه الولد ويكون منفيا عنه، لان العلم يحيط به بأنه ليس منه، فإن الله عز وجل لم يجر العادة بأن يولد له لدون ذلك فينتفى عنه، كما لو أتت به المرأة لدون ستة أشهر منذ تزوجها كما سيأتي، ولان الولد لا يخلق الا من ماء الرجل والمرأة ولو أنزل لبلغ.
والصحيح أنه إذا تحقق إمكان الانزال فقد ثبت البلوغ وألحق به الولد.
وهذا ظاهر مذهب أحمد، لان الولد يلحق بالامكان، وإن خالف الظاهر.
فإذا ولدت ولدا يمكن كونه منه فهو ولده في الحكم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم(17/401)
" الولد للفراش " ولا ينتفى عنه إلا بنفيه باللعان من الزوج وحده.
وقال أحمد أن يوجد اللعان منهما جميعا.
ولنا أن نفى الولد إنما كان بيمينه والتعانه هو لا بيمين المرأة على تكذيبه، ولا معنى ليمين المرأة في نفى النسب وهى تثبته وتكذب قول من ينفيه، وإنما لعانها لدرء الحد عنها، كما قال تعالى " ويدرأ عنها العذاب أن
تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " وقال أحمد وأصحابه: لا يكون اللعان تاما إلا إذا التعنا جميعا، وأن تكمل ألفاظ اللعان منهما جميعا، وأن يبدأ بلعان الزوج قبل المرأة، فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد به، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ مالك وأصحاب الرأى ان فعل أخطأ السنة والفرقة جائزة وينتفى الولد عنه، لان الله تعالى عطف لعانها على لعانه بالواو وهى لا تقتضي ترتيبها، ولان اللعان قد وجد منهما جميعا فأشبه ما لو رتبت، وعندنا لا يتم اللعان إلا بالترتيب إلا أنه يكفى عندنا لعان الرجل وحده لنفى الولد، وذلك حاصل مع إخلاله بالترتيب وعدم كمال ألفاظ اللعان من المرأة.
ومن شروطه أن يذكر نفى الولد في اللعان.
وهذا هو ظاهر مذهب الحنابلة.
وقد خالف القاضى ابو بكر منهم فقال انه لا يحتاج إلى ذكر الولد ونفيه، وينتفى بزوال الفراش، ولان حديث سهل الذى وصف فيه اللعان لم يذكر فيه الولد وقال فيه ففرق الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لاب ولا يرمى ولدها.
رواه أبو داود وغيره.
وفى حديث مسلم عن عبد الله أن رجلا لاعن امرأته عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بأمه.
دليلنا أن من سقط حقه باللعان كان ذكره شرطا، ولان غاية ما في اللعان أن يثبت زناها وذلك لا يوجب نفى الولد، كما لو أقرت به أو قامت به بينة فأما حديث سهل بن سعد فقد روى فيه - وكانت حاملا فأنكر حملها - من رواية البخاري وروى ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة، والزيادة من الثقة مقبولة(17/402)
فعلى هذا لابد من ذكر الولد في كل لفظة ومع اللعن في الخامسة لانها من لفظات اللعان.
(مسألة) قال بعض أصحابنا يجوز أن يولد لهما لتسع سنين، ونصف السنة وهى مدة الحمل، لان الجارية قد تحيض لتسع فكذلك الغلام.
وقد عرفنا أن عمرو بن العاص كان بينه وبين إبنه عبد الله إثنا عشر عاما ولنا أن الزمن الذى يمكن البلوغ فيه والاحتلام منه يلحقه الولد فيه.
وأما قياس الغلام على الجارية فغير صحيح، لاننا نعلم أنه لا يمكنه الاستمتاع لتسع (فرع)
قال أصحابنا: إن ولدت امرأة مقطوع الذكر والانثيين لم يلحق نسبه به في قول عامة أهل العلم، لانه يستحيل منه الايلاج والانزال.
وإن قطعت أنثياه دون ذكره فكذلك لانه لا ينزل ما يخلق منه الولد.
وقال بعضهم يلحقه النسب لانه يتصور منه الايلاج وينزل ماء رقيقا أو منيا من ثقبة المنى.
وبهذا قال القاضى أبو حامد المروروذى من أصحابنا وقال أبو إسحاق إن هذا لا يخلق منه ولد عادة ولا وجد ذلك.
وبه قال أكثر أصحاب أحمد رضى الله عنه.
فأما ان قطع ذكره وحده فإنه يلحقه الولد لانه يمكن أن يساحق فينزل ماء يخلق منه الولد.
وقال ابن اللبان لا يلحقه الولد في هاتين الصورتين في قول الجمهور ولاصحاب أحمد اختلاف في ذلك على نحو ما ذكرنا من الخلاف عندنا، وهو الخلاف الناشئ من روايتي الربيع والمزنى، وقد حمل أصحابنا الروايتين على الحالين اللذين أتينا عليهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن لم يمكن اجتماعهما على الوطئ بأن تزوجها وطلقها عقيب
العقد أو كانت بينهما مسافة لا يمكن معها الاجتماع انتفى الولد من غير لعان، لانه لا يمكن أن يكون منه.
(فصل)
وإن أتت بولد لدون ستة أشهر بولد من وقت العقد انتفى عنه من غير لعان، لانا نعلم أنها علقت به قبل حدوث الفراش، وإن دخل بها ثم طلقها وهى(17/403)
حامل فوضعت الحمل ثم أتت بولد آخر لستة أشهر لم يلحقه، وانتفى عنه من غير لعان، لانا قطعنا ببراءة رحمها بوضع الحمل، وأن هذا الولد الآخر علقت به بعد زوال الفراش.
وإن طلقها وهى غير حامل واعتدت بالاقراء ثم وضعت ولدا قبل أن تتزوج بغيره لدون ستة أشهر لحقه، لانا تيقنا أن عدتها لم تنقض، وإن أتت به لستة أشهر أو أربع سنين أو ما بينهما لحقه.
وقال أبو العباس بن سريج لا يلحقه لانا حكمنا بانقضاء العدة وإباحتها للازواج وما حكم به يجوز نقضه لامر محتمل، وهذا خطأ لانه يمكن أن يكون منه، والنسب إذا أمكن إثباته لم يجز نفيه، ولهذا إذا أتت بولد بعد العقد لستة أشهر لحقه.
وإن كان الاصل عدم الوطئ وبراءة الرحم فإن وضعته لاكثر من أربع سنين نظرت - فإن كان الطلاق بائنا - انتفى عنه بغير لعان، لان العلوق حادث بعد زوال الفراش، وإن كان رجعيا ففيه قولان
(أحدهما)
ينتفى عنه بغير لعان لانها حرمت عليه بالطلاق تحريم المبتوتة، فصار كما لو طلقها طلاقا بائنا (والقول الثاني) يلحقه لانها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والايلاء، فإذا قلنا بهذا فإلى متى يلحقة ولدها؟ فيه وجهان، قال أبو إسحاق يلحقه أبدا، لان العدة يجوز أن تمتد لان أكثر الطهر لا حد له، ومن أصحابنا من قال يلحقه إلى أربع سنين من وقت انقضاء العدة، وهو الصحيح
لان العدة إذا انقضت بانت وصار كالمبتوتة (الشرح) إذا تزوج رجل امرأة في مجلس ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد، أو تزوج مشرقي بمغربية ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه، وبذلك قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة يلحقه نسبه لان الولد انما يلحقه بالعقد ومدة الحمل، ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان الامكان لحق الولد، وان علم انه لم يحصل منه الوطئ دليلنا انه لم يحصل امكان الوطئ بهذا العقد فلم يلحق به الولد، كزوجة ابن سنة أو كما لو ولدته لدون ستة أشهر، وفارق ما قاسوا عليه، لان الامكان إذا(17/404)
وجد لم يعلم أنه ليس منه قطعا لجواز أن يكون وطئها من حيث لا يعلم، ولا سبيل لنا إلى معرفة حقيقة الوطئ، فعلقنا الحكم على إمكانه في النكاح، ولم يجز حذف الامكان عن الاعتبار، لانه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه، فلم يجز إلحاقة به مع يقين كونه ليس منه.
ومن ولدت امرأته ولدا لا يمكن كونه منه في النكاح لم يلحقه نسبه ولم يحتج إلى نفيه لانه يعلم أنه ليس منه فلم يلحقه، كما لو أتت به عقيب نكاحه لها، وذلك مثل أن تأتى به لدون ستة أشهر من حين تزوجها فلا يلحق به في قول كل من علمنا قوله من أهل العلم لاننا نعلم أنها علقت به قبل أن يتزوجها (فرع)
إذا طلق امرأته وهى حامل فوضعت ولدا ثم ولدت آخر قبل مضى ستة أشهر فهما من الزوج لاننا نعلم أنهما حمل واحد، فإذا كان أحدهما منه فالآخر منه، وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر لم يلحق الزوج وانتفى عنه من غير لعان لانه لا يمكن أن يكون الولدان حملا واحدا وبينهما مدة الحمل، فعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية وانقضاء العدة: وكونها أجنبية فهى كسائر الاجنبيات،
وإن طلقها فاعتدت بالاقراء ثم ولدت ولدا قبل مضى ستة أشهر من آخر أقرائها لحقه لاننا تيقنا أنها لم تحمله بعد انقضاء عدتها ونعلم أنها كانت حاملا به في زمن رؤية الدم فيلزم أن لا يكون الدم حيضا فلم تنقض عدتها به، وإن أتت به لاكثر من ذلك إلى أربع سنين لحقه.
وقال أبو العباس بن سريج لا يلحقه لانها أتت به بعد الحكم بانقضاء عدتها في وقت يمكن أن لا يكون منه فلم يلحقه، كما لو انقضت عدتها بوضع الحمل، وإنما يعتبر الامكان مع بقاء الزوجية أو العدة، وأما بعدهما فلا يكتفى بالامكان للحاقه، وإنما يكتفى بالامكان لنفيه، لان الفراش سبب، ومع وجود السبب يكتفى بإمكان الحكمة واحتمالها، فإذا انتفى السبب وآثاره فينتفى الحكم لانتفائه ولا يلتفت إلى مجرد الامكان، وبهذا قال أحمد وأصحابه.
وهذا خطأ لانه يمكن أن يكون منه لان الاصل أن الولد يلحق بالامكان فلحق به (فرع)
إذا وضعته قبل انقضاء العدة لاقل من أربع سنين لحق بالزوج ولم ينف عنه إلا باللعان، وإن وضعته لاكثر من أربع سنين من حين الطلاق وكان(17/405)
بائنا انتفى عنه بغير لعان لاننا علمنا أنها علقت به بعد زوال الفراش، وان كان رجعيا فوضعته لاكثر من أربع سنين منذ انقضت العدة فكذلك لانها علقت به بعد البينونة، وان وضعته لاكثر من أربع سنين منذ الطلاق ولاقل منها منذ انقضت العدة ففيه قولان
(أحدهما)
لا يلحقه لانها لم تعلق به قبل طلاق فأشبهت البائن
(والثانى)
يلحقه لانها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والايلاء، وبهذا الذى قلناه عندنا فمثله عند أحمد رضى الله عنه، فالقولان عندنا روايتان له أفادهما ابن قدامة.
قال المصنف رحمة الله تعالى
(فصل)
وان كانت له زوجة يلحقه ولدها ووطئها رجل بالشبهة وادعى الزوج أن الولد من الواطئ عرض معهما على الفافة ولا يلاعن لنفيه لانه يمكن نفيه بغير لعان وهو القافة فلا يجوز نفيه باللعان، فإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك حتى يبلغ السن الذى ينتسب فيه إلى أحدهما، فإن بلغ وانتسب إلى الواطئ بشبهة انتفى عن الزوج بغير لعان، وان انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه الا باللعان لانه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان وان قال زنى بك فلان وأنت مكرهة والولد منه ففيه قولان
(أحدهما)
لا يلاعن لنفيه لان أحدهما ليس بزان فلم يلاعن لنفى الولد كما لو وطئها رجل بشبهة وهى زانية
(والثانى)
أن له أن يلاعن وهو الصحيح، لانه نسب يلحقه من غير رضاه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان كما لو كانا زانيين
(فصل)
وان أتت امرأته بولد فادعى الزوج انه من زوج قبله، وكان لها زوج قبله، نظرت فإن وضعته لاربع سنين فما دونها من طلاق الاول، ولدون ستة أشهر من عقد الزوج الثاني فهو للاول، لانه يمكن ان يكون منه، وينتفى عن الزوج بغير لعان لانه لا يمكن أن يكون منه وان وضعته لاكثر من أربع سنين من طلاق الاول ولاقل من ستة أشهر(17/406)
من عقد الزوج الثاني انتفى عنهما، لانه لا يمكن أن يكون من واحد منهما، وإن وضعته لاربع سنين فما دونها من طلاق الاول، ولستة أشهر فصاعدا من عقد الزوج الثاني عرض على القافة، لانه يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فإن ألحقته بالاول لحق به وانتفى عن الزوج بغير لعان، وإن ألحقته بالزوج لحق به
ولا ينتفى عنه إلا باللعان، وان لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك إلى أن يبلغ وقت الانتساب، فإن انتسب إلى الاول انتفى عن الزوج بغير لعان، وإن انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه إلا باللعان: وإن لم يعرف وقت طلاق الاول ووقت نكاح الزوج فالقول قول الزوج مع يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه، لان الاصل عدم الولادة وانتفاء النسب، فإن حلف سقطت دعواها وانتفى النسب بغير لعان، لانه لم يثبت ولادته على فراشه، وإن نكل رددنا اليمين عليها، وإن حلفت لحق النسب بالزوج ولا ينتفى إلا باللعان، لانه ثبتت ولادته على فراشه وإن نكلت فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبى فيحلب ويثبت نسبه، فيه وجهان بناء على القولين في رد اليمين على الجارية المرهونة إذا أحبلها الراهن وادعى أن المرتهن أذن له في وطئها وأنكر المرتهن ونكلا جميعا عن اليمين
(أحدهما)
لا ترد اليمين، لان اليمين حق للزوجة، وقد أسقطته بالنكول، فلم يثبت لغيرها.
(والثانى)
ترد لانه يتعلق بيمينها حقها وحق الولد، فإذا أسقطت حقها لم يسقط حق الولد.
(فصل)
وإن جاءت امرأة ومعها ولد وادعت أنه ولدها منه وقال الزوج ليس هذا منى ولا هو منك بل هو لقيط أو مستعار لم يقبل قولها أنه منها من غير بينة لان اولادة يمكن إقامة البينة عليها والاصل عدمها فلم يقبل قولها من غير بينة، فإن قلنا ان الولد يعرض مع الام على القافة في أحد الوجهين عرض على القافة، فإن لحقته بالام لحق بها وثبت نسبه من الزوج لانها أتت به على فراشه ولا ينتفى عنه الا باللعان وان قلنا ان الولد لا يعرض مع الام على القافة.
أو لم تكن قافة.
أو كانت وأشكل عليها فالقول قول الزوج مع يمينه انه لا يعلم أنها ولدته على فراشه.
فإذا(17/407)
حلف انتفى النسب من غير لعان، لانه لم تثبت ولادته على فراشه.
وان نكل رددنا اليمين عليها فإن حلفت لحقه نسبه ولا ينتفى عنه الا باللعان.
وان نكلت فهل توقب اليمين على بلوغ الولد ليحلب؟ على ما ذكرناه من الوجهين في الفصل قبله.
(الشرح) ان غاب عن زوجته سنين فبلغتها وفاته فاعتدت ونكحت نكاحا صحيحا في الظاهر ودخل بها الثاني وأولدها أولادا ثم قدم الاول فسخ نكاح الثاني وردت إلى الاول وتعتد من الثاني ولها عليه صداق مثلها والاولاد له لانهم ولدوا على فراشه.
روى ذلك عن على عليه السلام.
وبه قال الثوري وأهل العراق وابن أبى ليلى ومالك وأهل الحجاز وأحمد واسحاق وأبو يوسف وغيرهم من أهل العلم الا أبا حنيفة فإنه قال الولد للاول لانه صاحب الفراش لان نكاحه صحيح ثابت ونكاح الثاني غير ثابت فأشبه الأجنبي دليلنا أن الثاني انفرد بوطئها في نكاح يلحق النسب في مثله فكان الولد له دون غيره.
كولد الامة من زوجها يلحقه دون سيدها.
وفارق الأجنبي فإنه ليس له نكاح.
(فرع)
إذا ولدت المرأة فأنكر زوجها الولد فلا حد عليه لان هذا ليس بقذف لاحتمال أن يكون مراده انه لا يشبهه في خلقه أو خلقه.
وان قال وطئت بشبهة والولد من الواطئ فلا حد عليه لانه لم يقذفها ولم يقذف واطئها.
وان قال أكرهت على الزنا فهل عليه اللعان؟ فمذهب أحمد وأبى حنيفة أنه لا حد عليه ولا لعان لانه لم يقذفها ومن شرط اللعان القذف ويلحقه نسب الولد.
ومذهبنا أن له اللعان لانه محتاج إلى نفى الولد بخلاف ما إذا قال وطئت بشبهة فإنه يمكن نفى النسب بعرض الولد على القافة فيستغنى بذلك عن اللعان فلا يشرع كما لا يشرع
لعان أمته لما أمكن نفى نسب ولدها بدعوى الاستبراء فإن قال وطئك فلان بشبهة وأنت تعلمين الحال فليس هذا بلعان وليس له نفيه باللعان لانه يمكنه نسبه بالقافة فأشبه ما لو قال واشتبه عليك أيضا.
وقدا اختار هذا بعض أصحاب أحمد(17/408)
وقال ابن قدامة: إنه يدخل في قوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم " فملك اللعان ونفى الولد، لانه قد لا يوجد قافة، وقد لا يعترف الرجل بما نسب إليه، أو يغيب أو يموت فلا ينتفى الولد.
(فرع)
وإن أتت بولد فادعى أنه من زوج قبله نظرت - فإن كانت تزوجت بعد انقضاء العدة - لم يلحق بالاول بحال، وان كان بعد أربع سنين منذ بانت من الاول لم يلحق به أيضا.
وإن وضعته لاقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني لم يلحق به وينتفى عنهما.
وإن كان لاكثر من ستة أشهر فهو ولده، وان كان لاكثر من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ولاقل من أربع سنين من طلاق الاول ولم يعلم انقضاء العدة عرض على القافة وألحق بمن ألحقته به منهما، فإن ألحقته بالاول انتفى عن الزوج بغير لعان، وإن ألحقته بالزوج انتفى عن الاول ولحق الزوج، ولا ينتفى عنه الا باللعان، وهذا احدى الروايتين عن أحمد (رض) (مسألة) إذا تزوج رجلان أختين فغلط بهما عند الدخول فزفت كل واحدة منهما إلى زوج الاخرى فوطئها وحملت منه لحق الولد بالواطئ لانه وطئ يعتقد حله فلحق به النسب كالوطئ في نكاح فاسد وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب أحمد: لا يكون الولد للواطئ وانما يكون للزوج.
وهذا الذى يقتضيه أصل أبى حنيفة لان الولد للفراش.
دليلنا أن الواطئ انفرد بوطئها فيما يلحق به النسب فلحق به، كما لو لم تكن ذات زوج،
وكما لو تزوجت امرأة المفقود عند الحكم بوفاته ثم بان حيا، والخبر مخصوص بهذا فنقيس عليه ما كان في معناه وان وطئت امرأة بشبهة في طهر لم يصبها فيه، فاعتزلها حتى أتت بولد لستة أشهر من حين الوطئ لحق الواطئ وانتفى عن الزوج من غير لعان.
وعلى قول أبى حنيفة وبعض أصحاب أحمد: يلحق الولد الزوج، لان الولد للفراش.
وان أنكر الواطئ الوطئ فالقول قوله بغير يمين ويحلق نسب الولد بالزوج، لانه لا يمكن إلحاقه بالمنكر، ولا تقبل دعوى الزوج في قلع نسب الولد.
وان أتت بالولد لدون ستة أشهر من حين الوطئ لحق الزوج بكل حال لاننا نعلم أنه ليس(17/409)
من الواطئ.
وان اشتركا في وطئها في طهر فأتت بولد يمكن أن يكون منهما لحق الزوج لان الولد للفراش وقد أمكن كونه منه وان ادعى الزوج أنه من الواطئ فقال بعض أهل العلم: يعرض على القافة معهما فيلحق بمن ألحقته منهما، فإن ألحقته بالزوج لحق ولم يملك نفيه باللعان، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عنه ولنا أنه يمكن الاستعانة بالطب الشرعي في تحليل فصائل دم كل من الرجلين والام فإن تشابهت فصائل الدم عندهما أخذ بالقافة وان اختلفت فإن كان أحدهما (ا) والآخر (ب) والام (و) فإن جاء الولد (و) رجعنا إلى القافة.
وان جاء (ا) كان لمن فصيلته (ا) وان جاء (ب) كان كذلك، وان جاء (اب) رجعنا إلى القافة، ويحتمل أن يلحق الزوج لان الفراش دلالته أقوى فهو مرجح لاحد الاحتمالين فيلحق بالزوج، ويمكن أن يلحق بهما ولم يملك الواطئ نفيه عن نفسه، وللزوج أن ينفيه باللعان.
وهذا احدى الروايتين عن أحمد (رض) وان لم توجد القافة أو أنكر الواطئ الوطئ أو اشتبه على الطب الشرعي أو
القافة ترك إلى أن يكبر إلى وقت الانتساب فإن انتسب إلى الزوج والا نفاه باللعان (مسألة) إذا قال: ما ولدته وانما التقطته أو استعرته، فقالت بل هو ولدى منك لم يقبل قول المرأة الا ببينة، وهذا هو قول احمد وابى ثور واصحاب الرأى لان الولادة يمكن اقامة البينة عليها، والاصل عدمها فلم تقبل دعواها من غير بينة كالدين، فإن قلنا بأحد الوجهين ان الولد يعرض مع الام على القافة أو على الطب الشرعي، فإن ألحقاه بالام لحق بها وثبت نسبه من الزوج لانه لم يأت الا على فراشه، وليس له ان ينفيه باللعان، لانه لم يقذفها بالزنا، وانما ادعى نفى الولادة.
وان قلنا بالوجه الآخر بعدم العرض على القافة كان القول قوله مع يمينه انه لا يعلم انها ولدته على فراشه، وكذلك إذا أشكلت القافة حين عرض عليها أو تشابهت فصائل الدم، واحتمل ان يكون من غيرها، أو كانت فصيلته مشابهة للزوج ويحتمل ان يكون من غيره فإن القول قول الزوج مع يمينه، فإن حلف فلا لعان وانتفى نسبه منه، وان نكل رددناه عليها وبحلفها يلحقه الولد،(17/410)
وليس له أن يلاعنها، فإن نكلت هي أيضا فعلى ما ذكره المصنف في الفصل قبله من الوجهين من وقوف اليمين حتى يبلغ الولد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا تزوج امرأة وهى وهو ممن يولد له ووطئها، ولم يشاركه أحد في وطئها بشبهة ولا غيرها، وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا لحقه نسبه، ولا يحل له نفيه لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال حين نزلت آية الملاعنة: أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه الله على رءوس الاولين والآخرين " وإن أتت امرأته بولد يلحقه في الظاهر بحكم الامكان وهو يعلم أنه لم يصبها،
وجب عليه نفيه باللعان، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شئ، ولن يدخلها الله تعالى جنته " فلما حرم النبي صلى الله عليه سلم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم، دل على أن الرجل مثلها، ولانه إذا لم ينفه جعل الأجنبي مناسبا له ومحرما له ولاولاده ومزاحما لهم في حقوقهم.
وهذا لا يجوز، ولا يحوز أن يقذفها لجواز أن يكون من وطئ شبهة أو من زوج قبله.
(فصل)
وإن وطئ زوجته ثم استبرأها لحيضة وطهرت ولم يطأها وزنت وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا من وقت الزنا لزمه قذفها ونفى النسب لما ذكرناه وان وطئها في الطهر الذى زنت فيه فأتت بولد وغلب على ظنه أنه ليس منه، بأن علم أنه كان يعزل منها أو رأى فيه شبها بالزانى لزمه نفيه باللعان، وان لم يغلب على ظنه أنه ليس منه لم ينفه لقوله صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر " (الشرح) عمد المصنف إلى حديث أبى هريرة فجزأه جزأين مما أوهم أنهما حديثان، وكان يمكنه سوق الحديث برمته والاستدلال به في الموضعين بغير تجزئه ولا تكرار، فالحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم في المستدرك وابن أبى شيبة عن ابى هريرة رضى الله عنه مرفوعا " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شئ، وأيما رجل جحد(17/411)
ولده وهو ينظر إليه احتجب الله تعالى منه، وفضحه على رءوس الاولين والآخرين يوم القيامة " وفى رواية ابن ماجه " ألحقت بقوم " أما أحكام الفصلين فإنه يحرم على الرجل قذف زوجته، وقد جعله القرآن الكريم من الكبائر قال تعالى " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم " ولقوله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل جحد ولده
وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رءوس الاولين والآخرين " قوله " ينظر إليه " يعنى يراه منه، فكما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم حرم على الرجل جحد ولده، ولا يجوز قذفها بخبر من لا يوثق بخبره لانه غير مأمون على الكذب عليها، ولا برؤيته رجلا خارجا من عندها من غير أن يستفيض زناها لانه يجوز أن يكون دخل سارقا أو هاربا أو لحاجة.
كما قررنا ذلك في صدر هذا البحث (فرع)
اللعان واجب إذا رأى امرأته تزني في طهر لم يطأها فيه فإنه يلزمه اعتزالها حتى تنتهى عدتها، فإذا أتت بولد لستة أشهر من حين الزنا فأكثر لزمه قذفها ونفى ولدها لان ذلك يجرى مجرى اليقين في ان الولد من الزانى، فإذا لم ينفه لحقه الولد.
وورثه وورث أقاربه وورثوا منه.
ونظر إلى بنانه واخواته.
وليس ذلك بجائز وسيحمل هو وزره فيجب نفيه لازالة ذلك وإذا أقرت له بالزنا وقع في قلبه صدقها فهو كما لو رآها.
وكذلك إذا غلب على ظنه زناها في طهر وطئها فيه ثم اتت بولد فرأى ملامح الزانى ومخايله واضحة في الوليد.
أو كان يطؤها ويعزل عنها ثم ولدت لستة اشهر من حين العزل فصاعدا لزمه نفيه ايضا باللعان.
فإن لم يوقن أو يظن ظنا قويا انه ليس منه لم ينفه لحديث ابى هريرة رضى الله عنه الذى اخرجاه الشيخان واصحاب السنن الا ابا داود عن النبي صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر " وما رواه الشافعي بسنده عن ابن عمر " ان عمر قال: ما بال رجال يطأون ولائدهم ثم يعتزلونهن.
لا تأتيني وليدة يعترف سيدها ان قد ألم بها الا ألحقت به ولدها.
فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا "(17/412)
ومقتضى هذا أن الولد يلحق الاب بعد ثبوت الفراش، وهو لا يثبت إلا بعد
إمكان الوطئ في النكاح الصحيح أو الفاسد، وإلى ذلك ذهب جمهور الفقهاء، وقال أبو حنيفة: إنه يثبت بمجرد ال؟ قد، واستدل له بأن مجرد المظنة كافية، ورد بمنع حصولها بمجرد العقد، بل لابد من إمكان الوطئ، ولا شك أن اعتبار مجرد العقد في ثبوت الفراش جمود ظاهر وحكى ابن القيم عن ابى حنيفة أنه يقول بأن نفس العقد وإن علم أنه لم يجتمع بها بل لو طلقها عقبه في المجلس تصير الزوجة به فراشا، وكذلك قوله بأن العقد يثبت به الفراش ولحوق النسب، ولو كانت بينهما م؟ افة طويلة لا يمكن وصوله إليها في مقدار مدة الحمل، وهذا كله لا دليل عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أتت امرأته بولد أسود وهما أبيضان، أو بولد أبيض وهما أسودان ففيه وجهان:
(أحدهما)
أن له أن ينفيه لما روى ابن عباس رضى الله عنه في حديث هلال ابن أمية إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الاليتين فهو للذى رميت به، فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الاليتين، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لولا الايمان لكان لى ولها شأن " فجعل الشبه دليلا على أنه ليس منه
(والثانى)
أنه لا يجوز نفيه لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بنى فزارة فقال " إن امرأتي جاءت بولد أسود ونحن أبيضان، فقال هل لك من إبل؟ قال نعم، قال ما ألوانها؟ قال حمر.
قال هل فيها من أورق؟ قال إن فيها لورقا.
قال فأنى ترى ذلك؟ قال عسى أن يكون نزعه عرق، قال وهذا عسى أن يكون نزعه عرق " (الشرح) حديث ابن عباس رواه أحمد وأبو داود وهو مطول عنده، وفى
إسناده عباد بن منصور فيه مقال معروف.
وحديث أبى هريرة أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الاربعة والدارقطني ولفظه " جاء رجل من بنى فزارة(17/413)
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ولدت امرأتي غلاما أسود، وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لك من ابل؟ قال نعم، قال فما ألوانها؟ قال حمر، قال هل فيها من اورق؟ قال ان فيها لورقا، قال فأنى أتاها ذلك؟ قال عسى أن يكون نزعه عرق، قال فهذا عسى أن يكون نزعه عرق ولم يرخص له في الانتفاء منه " ولابي داود في رواية " إن امرأتي ولدت غلاما أسود وانى أنكره " قوله " هلال بن أمية " هو أحد الثلاثة الذين خلفوا.
قوله " جاء رجل " اسمه ضمضم بن قتادة أما اللغات فالاورق الاسمر، وفى المصباح ما كان لونه كلون الرماد، والاسم الورقة كالحمرة والخضرة والصفرة.
والجعد ضد السبط وقد مضى.
وقال الهروي يكون مدحا وذما، فالمدح؟ بعنيين، أحدهما أن يكون معضوب الخلق شديد الاسر، والثانى أن يكون شعرا جعدا، والذم بمعنيين.
أحدهما أن يكون قصيرا مترددا، والثانى أن يكون نحيلا، يقال رجل جعد اليدين وجعد الاصابع أي مقبضها، والجمالى بضم الجيم، الضخم الاعضاء التام الاوصال، هكذا قال ابن بطال، وقال في المصباح: عظيم الخلق، وقيل طويل الجسم اه.
قالوا ناقة جمالية من بدانتها، قال الشاعر: جمالية لم يبق سيرى ورحلتي
* على ظهرها من نيها غير محفدى وخدلج الساقين أي عريض صدر القدمين خفاق القدم، وسابغا الاليتين أي كامل واف، ومنه الدرع السابغة
أما الاحكام فإن حديث ابن عباس دليل على أنه يجوز للاب.
أن ينفى ولده بمجرد كونه مخالفا لهما في اللون، وبهذا قال القاضى وأبو الخطاب من الحنابلة، وهو أحد الوجهين عند أصحابنا، وحديث أبى هريرة دليل على أنه لا يجوز له أن ينفى ولده بمجرد كونه مخالفا لهما في اللون وقد حكى القرطبى وابن رشد الاجماع على ذلك وتعقبهما الحافظ بن حجر بأن الخلاف في ذلك ثابت عند الشافعية فقالوا: ان لم ينضم إلى المخالفة في اللون قرينة زنا لم يجز النفى، فإن اتهمها فأتت بولد على لون الرجل الذى اتهمها به جاز(17/414)
النفى على الصحيح عندهم.
وعند الحنابلة يجوز النفى مع القرينة مطلقا.
وقال ابن قدامة: لا يجوز النفى بمخالفة الولد لون والديه أو شبههما، ولا لشبهه بغير والديه لما روى أبو هريرة (وساق حديث الفزارى) (قلت) ولان الناس كلهم لآدم وحواء وألوانهم وخلقهم مختلفة، فلولا مخالفتهم شبه والديهم لكانوا على خلفة واحدة، ولان دلالة الشبه ضعيفة، ودلالة ولادته على الفراش قوية فلا يجوز ترك القوى لمعارضة الضعيف، ولذلك لما تنازع سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه شبها بينا بعتبة ألحق الولد بالفراش وترك الشبه، وهذا اختيار أبى عبد الله ابن حامد من أصحاب أحمد.
وهو الوجه الآخر لاصحاب الشافعي
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أتت امرأته بولد وكان يعزل عنها إذا وطئها لم يجز له نفيه، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ الله إنا نصيب السبايا ونحب الاثمان أفنعزل عنهن؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وجل إذا قضى خلق نسمة خلقها " ولانه قد يسبق من الماء مالا يحس به فتعلق به، وإن
أتت بولد وكان يجامعها فيما دون الفرج ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز له النفى لانه قد يسبق الماء إلى الفرج فتعلق به
(والثانى)
أن له نفيه لان الولد من أحكام الوطئ، فلا يتعلق بما دونه كسائر الاحكام.
وإن أتت بولد وكان يطؤها في الدبر ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز له نفيه، لانه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما تعلق به.
(والثانى)
له نفيه لانه موضع لا يبتغى منه الولد.
(فصل)
إذا قذف زوجته وانتفى عن الولد - فإن كان حملا - فله أن يلاعن وينفى الولد، لان هلال بن أمية لاعن على نفى الحمل، وله أن يؤخره إلى أن تضع، لانه يجوز أن يكون ريحا أو غلظا فيؤخر ليلاعن على يقين، وإن كان الولد منفصلا ففى وقت نفيه قولان
(أحدهما)
له الخيار في نفيه ثلاثة(17/415)
أيام، لانه قد يحتاج إلى الفكر والنظر فيما يقدم عليه من النفى، فجعل الثلاث حدا لانه قريب، ولهذا قال الله عز وجل " يا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب " ثم فسر القريب بالثلاث، فقال " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب "
(والثانى)
وهو المنصوص في عامة الكتب أنه على الفور، لانه خيار غير مؤد لدفع الضرر، فكان على الفور كخيار الرد بالعيب، فإن حضرت الصلاة فبدأ بها أو كان جائعا فبدأ بالاكل، أو له مال غير محرز واشتغل بإحرازه، أو كان عادته الركوب واشتغل بإسراج المركوب، فهو على حقه من النفى، لانه تأخير لعذر.
وان كان محبوسا أو مريضا أو قيما على مريض أو غائبا لا يقدر على المسير وأشهد على النفى فهو على حقه وان لم يشهد مع القدرة على الاشهاد سقط حقه، لانه لما تعذر عليه الحضور للنفي أقيم الاشهاد مقامه إلى أن يقدر
كما أقيمت الفيئة باللسان مقام الوطئ في حق المولى إذا عجز عن الوطئ إلى أن يقدر (الشرح) حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ مختلفة كلها تؤدى معنى ما ساقه المصنف هنا، وقد مضى الكلام على طرقه وأقوال العلماء فيه في أحكام العزل من كتاب النكاح فليراجع.
وروى معناه عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وأسامة بن زيد وغيرهم رضى الله عنهم أجمعين.
فإذا أتت بولد وكان يعزل عنها لم يجز له نفيه لحديث ابى سعيد، ولانه قد يسبق من الماء مالا يحس به فتعلق.
وأما ان كان لا يطؤها الا دون الفرج أو في الدبر فأتت بولد، فذكر أصحابنا فيه وجهين
(أحدهما)
انه ليس له نفيه لانه لا يأمن ان يسبق الماء إلى الفرج فيعلق به، وبه قال احمد.
وقال ابن قدامة: هو بعيد لانه من أحكام الوطئ في الفرج فلا يتعلق بما دونه كسائر الاحكام، ودلالة عدم الوطئ في الفرج على انتفاء الولد أشد من دلالة مخالفة الولد لون أبيه اه.
وهذا هو الوجه الثاني عندنا وبشجب ابن قدامة لما قاله أصحابه يكون في مذهب احمد في المسألة قولان(17/416)
وقال أبو حنيفة لا يلاعن وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد.
وهذا فاسد لان الرمى به معرة، وقد دخل تحت عموم قوله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) وقد حقق القرطبى في تفسير سورتي الاعراف والمؤمنون انه يجب الحد.
وقالت المالكية: يلاعن إذا انتفى من الحمل بشرطه (مسألة) إذا ظهر بامرأته حمل فله أن ينفيه وله أن يؤجل نفيه إلى أن تضع واختلف أصحاب أحمد فيما إذا لاعن امرأته حاملا ونفى حملها في لعان.
فقال الخرقى وجماعة: لا ينتفى الحمل بنفيه قبل الوضع، ولا ينتفى حتى يلاعنها بعد
الوضع وينتفى الولد فيه.
وهذا قول ابى حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، لان الحمل غير مستيقن يجوز أن يكون ريحا أو غيرها فيصير نفيه مشروطا بوجوده ولا يجوز تعليق اللعان بشرط ولنا أنه يصح نفى الحمل وينتفى عنه.
دليلنا حديث هلال بن أمية وأنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وسلم وألحقه بالاول، ولا خفاء بأنه كان حملا وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " انظروها فإن جاءت به " كذا وكذا قال ابن عبد البر: الآثار الدالة على صحة هذا القول كثيرة - إلى أن قال - ولان الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا ثبتت للحامل أحكام تخالف بها الحائل من النفقة والفطر في الصيام وترك إقامة الحد عليها وتأخير القصاص عنها مما يطول ذكره.
اه وقالت المالكية: إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد سكوته، لان سكوته بعد العلم به رضا به، كما لو أقر به ثم ينفيه فانه لا يقبل منه فان قال رجوت أن يكون ريحا ينفش أو تسقطه فأستريح من السقط، أو يكون من أمراض النساء كالاورام الليفية التى تبدو معها المرأة كأنها حامل في الشهر التاسع، وهى في حاجة إلى استئصال هذا الورم، فهل لنفيه بعد وضعه مدة ما؟ فإذا جاوزها لم يكن له ذلك، فقد اختلف في ذلك على قولين
(أحدهما)
إذا لم يكن له عذر في سكوته ح؟ ؟ مضت ثلاثة أيام فهو راض به ليس له نفيه.
وبهذا قال المالكية وقالت الحنابلة: إذا ولدت ولدا فسكت عن نفيه مع امكانه لزمه نسبه(17/417)
ولم يكن له نفيه بعد ذلك، ومدة الثلاث فرصة كافيه لانعام النظر واعمال الفكر والتدبر في الامر، فقد يكون في التريث أمن من الندم، ومدة الثلاث حكمها شائع
في خيار البيع وفى اختبار المصراة، وقد جاء في تأويل قوله تعالى " قال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام " أنها توضيح لمبهم " قريب " في آية الناقة من وعيدهم بالعذاب.
(والثانى)
وهو المنصوص، وهو قول ابى بكر من اصحاب احمد رضى الله عنه: لا يتقدر ذلك بثلاث، بل هو على ما جرت به العادة ان كان ليلا، فحتى يصبح وينتشر في الناس، وان كان جائعا أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب، أو ينام ان كان ناعسا، أو يلبس ثيابه ويسرج دابته ويركب ويصلى ان حضرت الصلاة، ويحرز ماله ان كان غير محرز، وأشباه ذلك من أشغاله، فان أخره بعد هذا كله لم يمكن له نفيه.
وقال ابو حنيفة: له تأخير نفيه يوما ويومين استحسانا، لان النفى عقيب الولادة يشق فقدر باليومين لقلته.
وقال ابو يوسف ومحمد يتقدر بمدة النفاس لانها جارية مجرى الولادة في الحكم.
وحكى عن عطاء ومجاهد أن له نفيه ما لم يعترف به فكان له نفيه كحالة الولادة.
ووجه القول الاول انه خيار لدفع الضرر المتحقق فكان على الفور كخيار الشفعة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " عام خرج منه ما اتفقنا عليه مع السنة الثابتة، فما عداه يبقى على عموم الحديث.
وما ذكره ابو حنيفة يبطل بخيار الرد بالعيب والاخذ بالشفعة، وتقديره بمدة النفاس تحكم لا دليل عليه، وكذلك يرد هذا على ما قال عطاء، ولا يلزم القصاص لانه لاستيفاء حق لا لدفع ضرر ولا الحمل لانه لم يتحقق ضرره.
وقالت المالكية: ان الايام الثلاثة آخر حد القلة وأول حد الكثرة (فرع)
ان كان له عذر يمنعه من الحضور لنفيه كالمرض والحبس، أو الاشتغال بحفظ مال يخاف ضيعته أو بملازمة غريم يخالف فوته أو غيبته نظرت - فان كانت مدة ذلك قصيرة فأخره إلى الحضور ليزول عذره - لم يبطل نفيه
لانه بمنزلة من علم ذلك ليلا فأخره إلى الصبح وان كانت تطاول فأمكنه التنفيذ إلى الحاكم ليبعث إليه من يستوفى عليه اللعان(17/418)
والنفى فلم يفعل سقط نفيه، فإن لم يمكنه أشهد على نفسه أنه ناف لولد امرأنه، فإن لم يفعل بطل خياره، لانه إذا لم يقدر على نفيه كان الاشهاد قائما مقامه كما يقيم المريض الفيئة بقوله في الايلاء بدلا عن الفيئة بالجماع
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة فإن كان في موضع لا يجوز أن يخفى عليه ذلك من طريق العادة، بأن كان معها في دار أو محلة صغيرة لم يقبل، لانه يدعى خلاف الظاهر، وإن كان في موضع يجوز أن يخفى عليه كالبلد الكبير، فالقول قوله مع يمينه، لان ما يدعيه ظاهر وإن قال علمت بالولادة إلا أنى لم أعلم أن لى النفى - فإن كان ممن يخالط أهل العلم - لم يقبل قوله، لانه يدعى خلاف الظاهر، وإن كان قريب عهد بالاسلام أو نشأ في موضع بعيد من أهل العلم قبل قوله، لان الظاهر أنه صادق فيما يدعيه وإن كان في بلد فيه أهل علم إلا أنه من العامة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقبل كما لا يقبل قوله إذا ادعى الجهل برد المبيع بالعيب.
(والثانى)
يقبل لان هذا لا يعرفه إلا الخواص من الناس بخلاف رد المبيع بالعيب، فإن ذلك يعرفه الخاص والعام.
(فصل)
وإن هنأه رجل بالولد فقال: بارك الله لك في مولودك وجعله الله لك خلفا مباركا وأمن على دعائه، أو قال استجاب الله دعاءك سقط حقه من النفى لان ذلك يتضمن الاقرار به، وإن قال أحسن الله جزاءك، أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله، لم يسقط حقه من النفى، لانه يحتمل أنه قال له ذلك ليقابل
التحية بالتحية.
(فصل)
وإن كان الولد حملا فقال أخرت النفى حتى ينفصل ثم ألاعن على يقين فالقول قوله مع يمينه لانه تأخير لعذر يحتمله الحال.
وان قال أخرت لانى قلت لعله يموت فلا أحتاج إلى اللعان، سقط حقه من النفى، لانه ترك النفى من غير عذر.(17/419)
(الشرح) إذا ثبت ما قدمنا من شرح الفصول فهل يتقدر الخيار في النفى بمجلس العلم؟ أو بإمكان النفى؟ على وجهين بناء على المطالبة بالشفعة، فإن أخر نفيه عن ذلك ثم ادعى أنه لا يعلم بالولادة وأمكن صدقه بأن يكون في موضع يخفى عليه ذلك، مثل أن يكون في محلة أخرى فالقول قوله مع يمينه لان الاصل عدم العلم، وان لم يمكن - مثل أن يكون معها في الدار - لم يقبل لان ذلك لا يكاد يخفى عليه.
وإن قال علمت ولادته ولم أعلم أن لى نفيه، أو علمت ذلك ولم أعلم انه على الفور وكان ممن يخفى عليه ذلك كعامة الناس قبل منه، لان هذا مما يخفى عليهم فأشبه ما لو كان حديث عهد بإسلام.
وان كان فقيها لم يقبل منه وقال بعض الحنابلة يحتمل أن يقبل منه لان الفقيه يخفى عليه كثير من الاحكام أفاده ابن قدامة.
وقال أكثرهم كقولنا لا يقبل ذلك من الفقيه ويقبل من الناشئ وحديث العهد بالاسلام.
وهل يقبل من سائر العامة؟ على وجهين ذكرهما المصنف (فرع)
إذا قال لم أصدق الخبر عنه نظرت - فإن كان مستفيضا وكان المخبر مشهور العدالة - لم يقبل والا قبل.
وان قال لم أعلم أن على ذلك قبل قوله لانه مما يخفى، وان علم وهو غائب فأمكنه السير فاشتغل به لم يبطل خياره.
وان كانت له حاجة تمنعه من السير فهو
على ما ذكرنا من قبل، وان أخر نفيه لغير عذر وقال: أخرت نفيه رجاء أن يموت فأستر عليه وعلى بطل خياره، لانه أخر نفيه مع الامكان لغير عذر (مسألة) قوله " وان هنأه رجل بالولد الخ " فجملة ذلك انه إذا هنئ به فأمن على الدعاء لزمه في قولهم جميعا.
وان قال أحسن الله جزاءك أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله فانه لا يلزمه لانه جازاه على قصده وليس ذلك اقرارا ولا متضمنا له.
وقال أحمد وأصحابه وأبو حنيفة: يلزمه الولد، لان ذلك جواب الراضي في العادة فكان اقرارا كالتأمين على الدعاء، وان سكت كان اقرارا.
هكذا أفاده ابن قدامة، قال لان السكوت صلح دال على الرضى في حق البكر وفى مواضع أخرى، فههنا أولى وهذا وما بقى من فروع في الفصول فقد مضى لنا بحثها في الفصول قبله(17/420)
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
إذا أتت امرأته بولدين توأمين وانتفى عن أحدهما وأقر بالآخر أو ترك نفيه من غير عذر، لحقه الولدان لانهما حمل واحد فلا يجوز أن يلحقه أحدهما دون الآخر، وجعلنا ما انتفى منه تابعا لما أقر به، ولم نجعل ما أقر به تابعا لما انتفى منه، لان النسب يحتاط لاثباته ولا يحتاط لنفيه، ولهذا إذا أتت بولد يمكن أن يكون منه ويمكن أن لا يكون منه ألحقناه به احتياطا لاثباته، ولم ننفه احتياطا لنفيه.
وإن أتت بولد فنفاه باللعان ثم أتت بولد آخر لاقل من ستة أشهر من ولادة الاول لم ينتف الثاني من غير اللعان، لان اللعان يتناول الاول، فإن نفاه باللعان انتفى، وإن أقر به أو ترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان لانهما حمل واحد وجعلنا ما نفاه تابعا لما لحقه، ولم نجعل ما لحقه تابعا لما نفاه، لما ذكرناه
في التوأمين.
وإن أتت بالولد الثاني لستة أشهر من ولادة الاول انتفى بغير لعان لانها علقت به بعد زوال الفراش.
(فصل)
وان لاعنها على حمل فولدت ولدين بينهما دون ستة أشهر، لم يلحقه واحد منهما لانهما كانا موجودين عند اللعان فانتفيا به، وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر انتفى الاول باللعان، وانتفى الثاني بغير لعان، لانا تيقنا بوضع الاول براءة رحمها منه وأنها علقت بالثاني بعد زوال الفراش
(فصل)
وإن قذف امرأته بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح - فإن لم يكن نسب - لم يلاعن لاسقاط الحد لانه قذف غير محتاج إليه فلم يجز تحقيقه باللعان كقذف الاجنبية، وإن كان هناك نسب يلحقه فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه لا يلاعن لانه قذف غير محتاج إليه، لانه كان يمكنه أن يطلق ولا يضيفه إلى ما قبل العقد
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن له أن يلاعن لانه نسب يلحقه من غير رضاه لا ينتفى بغير لعان فجاز له نفيه باللعان.(17/421)
(الشرح) إذا ولدت امرأته توأمين - وهو أن يكون بينهما دون ستة أشهر - فاستلحق أحدهما ونفى الآخر لحقا به، ولا عبرة بنفيه، لان الحمل الواحد لا يجوز أن يكون بعضه منه وبعضه من غيره، فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة فجعلنا ما نفاه تابعا لما استلحقه، ولم نجعل ما أقر به واستلحقه تابعا لما نفاه، لان النسب يحتاط لاثباته لا لنفيه، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن أن يكون من غيره ألحقناه به احتياطا، ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه، ولان الشارع الحكيم يتشوف إلى ثبوت النسب مهما أمكن ولا يحكم بانقطاع النسب الا حيث يتعذر اثباته، ولهذا ثبت بالفراش،
وبالدعوى وبالانساب التى بمثلها لا يثبت نتاج الحيوان، ولان اثبات النسب فيه حق لله تعالى وحق للولد وحق للاب، ويترتب عليه من الاحكام في الوصل بين العباد ما به قوام مصالحهم، فأثبته الشرع بأنواع الطرق التى لا يثبت بمثلها نتاج الحيوان، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن كونه من غيره ألحقناه به احتياطا ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه.
فلو قذف أمهما فطالبته بالحد فليس له اسقاطه باللعان، لانه باستلحاقه اعترف بكذبه في قذفه فلم يسمع منه انكاره بعد ذلك.
وقالت الحنابلة: له اسقاطه باللعان.
وحكى ابن قدامة قولا آخر للقاضى منهم انه يحد ولا يملك اسقاطه باللعان.
ووجه المذهب عندنا ظاهر.
أما وجه المسألة عندهم فإنه لا يلزم من كون الولد منه انتفاء الزنا عنها كما لا يلزم من الولد وجود الزنا منها كون الولد منه.
ولذلك لو أقرت بالزنا أو قامت به بينة لم ينتف الولد عنه، فلا تنافى بين لعانه وبين استلحاقه للولد.
(فرع)
إذا استلحق أحد الولدين وسكت عن الآخر لحقه، لانه لو نفياه للحقه، فإذا سكت عنه كان أولى، ولان امرأته متى أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه باللعان.
وان نفى أحدهما وسكت عن الاخر نفيناه.
وقال أصحاب أحمد لحقاه جميعا، لان لحوق النسب مبنى على التغليب وهو يثبت بمجرد الامكان.
وان كان لم يثبت الوطئ، ولا ينتفى الامكان للنفي فافترقا(17/422)
ولنا أنهما كانا موجودين عند اللعان فانتفيا به.
وإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه ثم ولدت آخر لاقل من ستة أشهر انتفى الثاني باللعان الاول وقال الحنابلة لم ينتف لان اللعان تناول الاول وحده، ويحتاج في نفى الثاني
إلى لعان ثان.
ولنا أنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة فلا يحتاج إلى لعان ثان فأما إن نفى الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر، فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل وينتفى الثاني بغير لعان، لانها بولادتها للاول تبينا براءة رحمها، فيكون حملا آخر.
وقال الحنابلة لا ينتفى بغير اللعان لانه حمل منفرد، فإن استلحقه أو ترك نفيه لحقه وإن كانت قد بانت باللعان لانه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الاول دليلنا أنها بانت باللعان فحرم عليه وطؤها فلا يكون ولده وإنما يكون من سفاح لاسيما وأنه جاء بعد براءة الرحم وانقضاء العدة بوضع الاول فكان حملها الثاني في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه لكونها أجنبية كسائر الاجنبيات.
وقال في الام: إذا لاعن امرأته بولد فنفيناه عنه ثم جاءت بولد آخر فنفيناه عنه ثم جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر، وما يلزم به نسب ولد المبتوتة فهو ولده إلا أن ينفيه بلعان فإن نفاه فذلك له.
(فرع)
إذا مات أحد التوأمين أو ماتا معا فله أن يلاعن لنفى نسبهما.
وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة يلزمه نفى الحى ولا يلاعن إلا لنفى الحى، لان الميت لا يصح نفيه باللعان، فإن نسبه قد انقطع بموته فلا حاجة إلى نفيه باللعان، كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لقطع النكاح، لكونه قد انقطع، وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحى لانهما حمل واحد.
دليلنا أن الميت ينسب إليه فيقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه فكان له نفى نسبه وإسقاط مؤنته كالحى، وكما لو كان للميت ولد.
(فرع)
إذا قذف امرأته بالزنا قبل زواجه منها لم يكن له أن يلاعن، لانه يأتي باللعان على غير ما ورد به القرآن والسنة، لانه كمن يلاعن أجنبية عنه فلم يصح ويقام عليه الحد.
وهل له أن يلاعن إذا جاءت بولد ينتسب إليه؟ وجهان
قال أبو إسحاق المروزى: لا يلاعن لامكان أن يطلقها من غير حاجة إلى إضافة(17/423)
ولدها لما قبل العقد إذ هو المفرط بنكاح حامل بالزنا فلا يشرع له نفيه.
وبهذا قال أحمد وأصحابه.
(والثانى)
قول أبى على بن أبى هريرة، لنفى ما عساه يلحقه من نسب لا يرضاه وليس من فراشه ولا ينتفى إلا باللعان فجاز له وقال مالك وأبو ثور وأحمد: إن قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح حد ولم يلاعن سواء كان ثم ولد أو لم يكن، وروى ذلك عن سعيد بن المسيب والشعبى وقال الحسن وزرارة بن أبى أوفى وأصحاب الرأى: له أن يلاعن لانه قذف امرأته فيدخل في عموم قوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم " ولانه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل النكاح.
وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية أخرى.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن أبانها ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال النكاح - فان لم يكن نسب - لم يلاعن لدرء الحد لانه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك نسب - فإن كان ولدا منفصلا - فله أن يلاعن لنفيه لانه يحتاج إلى نفيه باللعان، وأن كان حملا فقد روى المزني في المختصر أن له أن ينفيه.
وروى في الجامع أنه لا يلاعن حتى ينفصل الحمل واختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق لا يلاعن قولا واحدا، وما رواه المزني في المختصر أراد إذا انفصل، وقد بين في الام، فإنه قال لا يلاعن حتى ينفصل، ووجهه أن الحمل غير متحقق لجواز أن يكون ريحا فينفش، ويخالف إذا قذفها في حال الزوجية، لان هناك يلاعن لدرء الحد فتبعه نفى الحمل، وههنا
ينفرد الحمل باللعان فلم يجز قبل أن يتحقق ومن أصحابنا من قال في قولان: أحدهما لا يلاعن حتى ينفصل، لما ذكرناه والثانى يلاعن، وهو الصحيح، لان الحمل موجود في الظهار ومحكوم بوجوده، ولهذا أمر بأخذ الحامل في الديات ومنع من أخذها في الزكاة، ومنعت الحامل إذا طلقت أن تتزوج حتى تضع، وهذه الطريقة هي الصحيحة، لان الشافعي(17/424)
رحمه الله نص في مثلها على قولين وهى في نفقة المطلقة الحامل فقال فيها قولان
(أحدهما)
تجب لها النفقة يوما بيوم
(والثانى)
لا تجب حتى ينفصل
(فصل)
وإن قذف امرأته وانتفى عن حملها وأقام على الزنا بينة سقط عنه الحد بالبينة، وهل له أن يلاعن لنفى الحمل قبل أن ينفصل؟ على ما ذكرناه من الطريقين في الفصل قبله.
(الشرح) إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا يا زانية في فراشي نظرت - فإن كان هناك نسب يريد أن ينفيه، ولا يتحقق هذا إلا إذا انفصل الولد عنها - لاعن، لانه محتاج إلى نفيه، وبه قال مالك وأحمد، حيث نقل منها قال: سألت أحمد عن رجل قال لامرأته أنت طالق يا زانية ثلاثا، فقال يلاعن.
قلت إنهم يقولون يحد ولا يلزمها إلا واحدة.
قال بئس ما يقولون، فهذا يلاعن لانه قذفها قبل الحكم ببينونتها فأشبه القذف، فإن كان بينهما ولد فإنه يلاعن لنفيه وإلا حد ولم يلاعن، لانه يتعين إضافة القذف إلى حال الزوجية لاستحالة الزنا منها بعد طلاقه لها فصار كأنه قال لها بعد ابانتها: زنيت ان كنت زوجتى، على ما قررناه، وبه قال مالك.
وقال عثمان البتى: لا يلاعن بأى حال لانها ليست بزوجة.
وقال أبو حنيفة في الوجهين لا يلاعن - يعنى في حال نفى النسب والحمل - لانها ليست زوجة،
وينتقض عليها هذا القذف قبل الزوجية، كما ذكرنا آنفا، بل هذا أولى، لان النكاح قد تقدم وهو يريد الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلابد من اللعان، فإن كان هناك حمل يرجى فقد روى المزني في المختصر أن له أن ينفيه وروى رواية أخرى أنه لا يلاعن حتى ينفصل الحمل.
فاختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق المروزى: لا يلاعن قولا واحدا، وأول ما رواه المزني في المختصر أن الامام الشافعي أراد إذا انفصل قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: ولو قال رجل لامرأته أنت طالق ثلاثا(17/425)
أو طالق واحدة لم يبق له عليها من الطلاق الا هي أو طالق ولم يدخل، أو أي طلاق ما، كان لا رجعة عليها بعده وأتبع الطلاق مكانه يا زانية، حد ولا لعان الا أن يكون ينفى به ولدا أو حملا فيلاعن للولد يوقف للحمل فإذا ولدت التعن، فإن لم تلد حد ولو بدأ فقال يا زانية أنت طالق ثلاثا التعن، لان القذف وقع وهى أمرأته، ولو قال: أنت طالق ثلاثا يا زانية حد ولا لعان، الا أن ينفى ولد افيلاعن به ويسقط الحد.
ثم قال رضى الله عنه " ولو قذف رجل امرأته فصدقته ثم رجعت فلا حد ولا لعان الا أن ينفى ولدا فيلاعن به ويسقط الحد، ولو قذف رجل امرأته فصدقته ثم رجعت فلا حد ولا لعان الا أن ينفى ولدا فلا ينفى الا بلعان، ولو قذف رجل امرأته ثم زنت بعد القذف أو وطئت وطئا حراما فلا حد ولا لعان الا أن ينفى ولدا أو يريد أن يلتعن فيثبت عليها الحد ان لم يلتعن، وإذا قذف رجل امرأته فارتدت عن الاسلام وطلبت حدها لاعن أو حد، لان القذف كان وهى زوجة مسلمة.
اه فهذا القول من الشافعي قاطع في أنه يلاعن لنفى الحمل بعد أن يوقف إلى أن
تلد.
قال المصنف الصحيح أن يلاعن وهى حامل لان الحمل موجود في الظاهر ومحكوم بوجوده، ويترتب على هذا الحمل أحكام في مواطن كثيرة فمثلا لا تعطى الحامل من الارقاء في الدية ولا تؤخذ البهيمة الحامل في الزكاة، ولا يحل زواج الحامل حيت تضع، فكيف ينتظر من وجد امرأته حاملا من غيره حتى تضع فيلاعنها وقد غاظته بهذا الزنا في فراشه، ويمكن حمل قول الشافعي على ما إذا اشتبه عليه الحمل ولم يتحقق وتردد فيه، أو كان محتملا أن يكون انتفاخا أو مرضا من أمراض النساء فلا يلاعن حتى تلد.
ويمكن حمل قوليه في النفقة على ما إذا كان حملها غير مقطوع به فتجب نفقتها حتى تلد.
أما إذا كان حملها مقطوعا به فقد وجب لها يوما بيوم، وسنأتي على هذا في كتاب النفقات ان شاء الله.
على أن قول الشافعي يوقف حتى تلد إذا قصد به الحمل المقطوع به كان مخالفا لحديث " ان جاءت به كذا فهو لابيه، وان جاءت به كذا فهو لفلان " فجاءت به على النعت المكروه، فإذا اعتمدنا أصله " إذا صح الحديث(17/426)
فهو مذهبي، حملنا قوله على ما إذا كان الحمل غير متيقن، بدليل قوله فإن لم تلد حد.
ومن ثم يكون الحمل محتملا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قذف امرأته في نكاح فاسد - فإن لم يكن نسب - لم يلاعن لدرء الحد، لانه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك نسب - فإن كان ولدا منفصلا - فله أن يلاعن لنفيه، لانه ولد يلحقه بغير رضاه لا ينتفى عنه بغير اللعان، فجاز نفيه باللعان كالولد في النكاح الصحيح، وإن كان حملا فعلى ما ذكرناه من الطريقين.
(فصل)
وإن ملك أمة لم تصر فراشا بنفس الملك، لانه قد يقصد بملكها
الوطئ، وقد يقصد به التمول والخدمة والتجمل، فلم تصر فراشا، فإن وطئها صارت فراشا له، فإن أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطئ لحقه، لان سعدا نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة فقال عبد: هو أخى وابن وليدة أبى ولد على فراشه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك، الولد للفراش وللعاهر الحجر " وروى ابن عمر رضى الله عنه أن عمر رضى الله عنه قال " ما بال رجال يطأون ولائدهم ثم يعزلونهن، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا " وإن قذفها وانتفى عن ولدها فقد قال أحمد: أما تعجبون من أبى عبد الله يقول بنفى ولد الامة باللعان، فجعل أبو العباس هذا قولا، ووجهه أنه كالنكاح في لحوق النسب، فكان كالنكاح في النفى باللعان ومن أصحابنا من قال لا يلاعن لنفيه قولا واحدا لانه يمكنه نفيه بغير اللعان وهو بأن يدعى الاستبراء ويحلف عليه، فلم يجز نفيه باللعان بخلاف النكاح، فإنه لا يمكنه نفى الولد فيه بغير لعان، ولعل أحمد أراد بأبى عبد الله غير الشافعي رحمة الله عليهما.
(فصل)
إذا قذف امرأته بزناءين وأراد اللعان كفاه لهما لعان واحد، لانه في أحد القولين يجب حد واحد، فكناه في إسقاطه لعان واحد، وفى القول(17/427)
القول الثاني يجب حدان، إلا أنهما حقان لواحد فاكتفى فيهما بلعان واحد، كما يكتفى في حقين لواحد بيمين واحد.
وإن قف أربع نسوة أفرد كل واحدة منهم بلعان، لانها أيمان فلم تتداخل فيها حقوق الجماعة، كالايمان في المال.
وإن قذفهن بكلمات بدأ بلعان من بدأ بقذفها لان حقها أسبق.
وإن قذفهن بكلمة واحدة وتشاححن في البداية أقرع
بينهن، فمن خرجت لها القرعة بدأ بلعانها.
وإن بدأ بلعان إحداهن من غير قرعة جاز، لان الباقيات يصلن إلى حقوقهن من اللعان من غير نقصان (الشرح) خبر تنازع سعد وعبد بن زمعة أخرجه أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن خلا الترمذي.
عن عائشة قالت " اختصم سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال سعد: يا رسول الله ابن أخى عتبة ابن أبى وقاص عهد إلى أنه ابنه أنظر إلى شبهه.
وقال عبد بن زمعة: هذا أخى يا رسول الله ولد على فراش ابى، فنظر رسول الله إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة فقال: هو لك يا عبد بن زمعة.
الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة، قال فلم ير سودة قط " وفى رواية أبى داود وأخرى للبخاري " هو أخوك يا عبد " عبد بن زمعة أخو سودة أم المؤمنين.
وقوله " الولد للفراش وللعاهر الحجر " سبق القول بتواتره أما خبر ابن عمر فقد رواه الشافعي في الام ولم أره في مسنده في اللعان " ولم يعزه في المنتقى إلى غيره.
ومن هذا الحديث يتضح أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ألحق الولد بزمعة لانه صاحب الفراش، ودليله أقوى من دليل الشبه، وقد ذهب بعضهم إلى أن قوله هو لك يا عبد بن زمعة، أن " لك " للتمليك، فكأنه لم يلحقه به أخا وإنما ملكه له، بدليل أنه أمر سودة بالاحتجاب منه، فلو كان أخا لها لم تؤمر بالاحتجاب منه.
وفى رواية: احتجبي منه فإنه ليس بأخ لك.
ويجاب على ذلك بأن اللام للاختصاص لا للتمليك.(17/428)
ويؤيد ذلك ما في رواية " هو أخوك يا عبد " أما أمره لسودة بالاحتجاب
فذلك على سبيل الاحتياط والورع والصيانة لامهات المؤمنين لما رآه من الشبه بعتبة بن أبى وقاص كما في حديث " كيف وقد قيل؟ " أو يكون ذلك مراعاة للشيئين وإعمالا للدليلين، فإن الفراش دليل لحوق النسب، والشبه بغير صاحبه دليل نفيه فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدعى، وأعمل الشبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة.
قال ابن القيم: وهذا من أحسن الاحكام وأبينها وأوضحها، ولا يمنع ثبوت النسب من وجه دون وجه.
وأما الرواية التى فيها " احتجبي منه فإنه ليس بأخ لك " فقد طعن البيهقى في إسنادها.
وقال فيها جرير وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيها يوسف مولى آل الزبير وهو غير معروف.
أما الاحكام فإنه إذا نكح امرأة نكاح فاسدا ثم قذفها، وبينهما ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه ولا حد عليه، وإن لم يكن يينهما ولد حد ولا لعان بينهما.
وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: يلحقه الولد وليس له نفيه ولا اللعان لانها أجنبية فأشبهت سائر الاجنبيات أو إذا لم يكن بينهما ولد.
وهذا فاسد لان الولد يلحقه بحكم عقد النكاح فكان له نفيه كما لو كان النكاح صحيحا، ويفارق إذا لم يكن ولد فإنه لا حاجة إلى القذف لكونها أجنبية.
ويفارق سائر الاجنبيات لانه لا يلحقه ولدهن فلا حاجة به إلى قذفهن.
ويفارق الزوجة فإنه يحتاج إلى قذفها مع عدم الولد لكونها خانته وغاظته وأفسدت فراشه، فإذا كان له منها ولد فالحاجة موجودة فيهما، وإذا لاعن سقط الحد، لانه لعان مشروع لنفى الحد، فأسقط الحد كاللعان في النكاح الصحيح، وهل يثبت التحريم المؤبد؟ وجهان سيأتي بيانهما وقالت المالكية يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لانها صارت فراشا له.
أما
إذا كانت حاملا فعلى ما مضى من النكاح الصحيح أما حكم قوله " يعترف سيدها أن قد ألم بها " فيه تقوية لمذهب الجمهور من أنه لا يشترط في فراش الامة الدعوة، بل يكفى مجرد ثبوت الفراش(17/429)
وقول الامام أحمد رضى الله عنه: أما تعجبون من قول أبى عبد الله فإن كان يقصد بنسبة مقول القول إلى الامام الشافعي كانت تلك رواية أخرى لم تعرف عن الشافعي إلا عن أحمد متفردا بها، والقاعدة ان في رواية الشيخ عن شيخه مخالفا للاقران غرابة، وقد أخذ بعض أصحابنا بصحة نسبة القول إلى الشافعي كأبى العباس ابن سريج فاعتبره قولا ووجهه أنه كالنكاح وقال المصنف: ولعل أحمد أراد بأى عبد الله غير الشافعي - وهذا أحسن ما أجيب به.
(مسألة) إذا قذف امرأته قذفين بزناءين فليس عليه إلا حد واحد، ويكفيه لعان واحد لانه يمين، فإذا كان الحقان لواحد كفته يمين واحدة في أحد القولين، والثانى يجب حدان لانهما حقان، وإن لم يلزمه إلا لعان واحد، ومقتضى القول الاول أنه يكفيه أن يقول: أشهد بالله إنى لمن الصادقين فيما رميتها به من الزناءين وفارق ما إذا قذف زوجتين حيث لا يكفيه لعان واحد، لان اليمين وجبت لكل واحد منهما فلا تتداخل كسائر الايمان.
وإن أقام البينة بالاول سقط عنه موجب الثاني لانه زال إحصانها ولا لعان إلا أن يكون فيه نسب يريد نفيه، وإن أقامها بالثاني لم يسقط الحد الاول وله إسقاطه باللعان الا على قول القاضى، فإنه يسقط بإقامة البينة على الثاني وان قذفها في الزوجية ولاعنها ثم قذفها بالزنا الاول فلا حد عليه لانه قد حققه بلعانه، ومقتضى القول الثاني أن يحد، كما لو قذفها به أجنبي، ولو قذفها به
أجنبي أو بزنا غيره فعليه الحد في قول عامة أهل العلم.
منهم ابن عباس والزهرى والشعبى والنخعي وقتادة وأحمد وأبو عبيد.
وذكر أبو عبيد عن أصحاب الرأى أنهم قالوا: ان لم ينف بلعانها ولدا حد قاذفها، وان نفاه فلا حد على قاذفها لانه منتف عن زوجها بالشرع (فرع)
إذا قذف امرأته وأجنبية أو أجنبيا بكلمتين فعليه حدان لهما، فيخرج من حد الاجنبية بالبينة خاصة، ومن حد الزوجة بالبينة أو اللعان، وان قذفهما بكلمة واحدة الا أنه إذا لم يلاعن ولم تقم بينة فهل يحد لهما حدا واحدا أو حدين؟ على قولين.
قال في القديم: يحد حدا واحدا، وبه قال أبو حنيفة وزاد، سواء(17/430)
كان بكلمة أو كلمات، لانهما حدود من جنس فوجب أن تتداخل كحدود الزنا وقال أحمد في احدى روايتيه بقول الشافعي في القديم، والثانى يقام لكل واحد حد بكل حال لانها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون.
وقال أحمد في الرواية الاخرى: إذا طالبوا مجتمعين فحد واحد، وان طالبوا متفرقين فلكل واحد حد لانهم إذا اجتمعوا في الطلب أمكن ايفاؤهم بالحد الواحد، وإذا تفرقوا لم يمكن جعل الحد الواحد ايفاء لمن لم يطالب، لانه لا يجوز اقامة الحد له قبل المطالبة منه ولنا أنه إذا قذفهما بكلمة واحدة لا يجزئ حد واحد، لان لكل واحد حقا فوجب لكل واحد حد، كما لو قذف الثاني بعد حد الاول، وهكذا الحكم فيما إذا قذف أجنبيين أو أجنبيات فالتفصيل فيه على ما ذكرناه.
وان قذف أربع نسائه فالحكم في الحد كذلك، وان أراد اللعان فعليه أن يلاعن لكل واحدة لعانا مفردا، ويبدأ بلعان التى تبدأ بالمطالبة، فان طالبن جميعا وتشاححن بدأ باحداهن بالقرعة، وان لم يتشاححن بدأ بلعان من شاء منهن.
ولو بدأ بواحدة منهن من غير قرعة من المشاحة صح، ويحتمل أن يجزئه لعان
واحد فيقول: أشهد بالله انى لمن الصادقين فيما رميت به كل واحدة من زوجائى هؤلاء الاربع من الزنا، وتقول كل واحدة أشهد بالله انه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، لانه يحصل المقصود بذلك، والاول أصح لان اللعان أيمان فلا تتداخل لجماعة كالايمان في الديون (فرع)
إذا أقام البينة على زناها فقذفها آخر فلا حد عليه لانه قد زال احصانها، ولان هذا القذف لم يدخل المعرة عليها، وانما دخلت المعرة بقيام البينة ولكنه يعزر تعزير السب والاذى، وهكذا كل من قامت البينة بزناه لا حد على قاذفه، وبه قال أحمد وأصحاب الرأى، ولكنه يعزر تعزير السب والاذى، ولا يملك الزوج اسقاطه عن نفسه باللعان لما قدمناه وان قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا آخر فعليه الحد لانها بانت منه باللعان وصارت أجنبية الا أن يضيف الزنا إلى حال الزوجية، فعند ذلك ان كان ثم نسب يريد نفيه فله الملاعنة لنفيه والا لزمه الحد ولا لعان بينهما، والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل(17/431)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من الاحكام)
يصح اللعان من كل زوج بالغ عاقل مختار، مسلما كان أو كافرا، حرا كان أو عبدا، لقوله عز وجل " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " ولان اللعان لدرء العقوبة الواجبة بالقذف ونفى النسب، والكافر كالمسلم، والعبد كالحر في ذلك، فأما الصبى والمجنون فلا يصح لعانهما لانه قول يوجب الفرقة فلم يصح من الصبى والمجنون كالطلاق.
وأما الاخرس فإنه ان لم يكن له اشارة معقولة ولا كتابة مفهومة لم يصح لعانه لانه في معنى المجنون، وان كانت له اشارة معقولة أو كتابة مفهومة صح لعانه لانه كالناطق في نكاحه وطلاقه، فكان كالناطق في لعانه.
وأما من اعتقل لسانه فإنه ان كان مأيوسا منه صح لعانه بالاشارة كالاخرس، وان لم يكن مأيوسا منه ففيه وجهان:
(أحدهما)
لا يصح لعانه لانه غير مأيوس من نطقه فلم يصح لعانه بالاشارة كالساكت
(والثانى)
يصح، لان أمامة بنت أبى العاص رضى الله عنها أصمتت فقيل لها الفلان كذا ولفلان كذا؟ فأشارت أي نغم، فرفع ذلك فرؤيت أنها وصية، ولانه عاجز عن النطق يصح لعانه بالاشارة كالاخرس
(فصل)
وان كان أعجميا، فإن كان يحسن بالعربية فيه وجهان
(أحدهما)
يصح لعانه بلسانه لانه يمين فصح بالعجمية مع القدرة على العربية كسائر الايمان
(والثانى)
لا يصح لان الشرع ورد فيه بالعربية فلم يصح بغيرها مع القدرة كأذكار الصلاة، فإن لم يحسن بالعربية لاعن بلسانه لانه ليس بأكثر من اذكار الصلاة واذكار الصلاه تجوز بلسانه إذا لم يحصن بالعربية فكذلك اللعان.
وان كان الحاكم لا يعرف لسانه أحضر من يترجم عنه.
وفى عدده وجهان بناء على القولين في الشهادة على الاقرار بالزنا
(أحدهما)
يحتاج إلى أربعة
(والثانى)
يكفيه اثنان(17/432)
(الشرح) يستفاد من هذين الفصلين أحكام مسائل وفروع، منها أن اللعان يصح من كل زوجين، سواء كانا مسلمين أو كافرين، عاقلين بالغين، حرين أو عبدين.
وقال أحمد في احدى الروايتين رواها ابن منصور: جميع الازواج يلتعنون، الحر من الحرة والامة إذا كانت زوجة.
وكذلك المسلم من اليهودية والنصرانية.
وقال سعيد ابن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وربيعة ومالك
واسحاق: يصح من كل زوجين مكلفين.
مسلمين أو كافرين.
عدلين أو فاسقين أو محدودين في قذف أو كان أحدهما كذلك.
وقال أحمد في روايته الاخرى: لا يصح اللعان الا من زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف وروى هذا عن الزهري والثوري والاوزاعي وحماد وأصحاب الرأى، ومأخذ القولين أن اللعان يجمع وصفين اليمين والشهادة، وقد سماه القرآن شهادة وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم يمينا في حديث " لولا الايمان لكان لى ولها شأن " فمن غلب حكم الايمان قال: يصح من كل من يصح يمينه.
وهذا مذهبنا ومذهب فقهاء الامصار كافة الا أبا حنيفة، واحدى روايتي أحمد والزهرى والثوري والاوزاعي وحماد فإنهم اعتبروه شهادة دليلنا قوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم " وأنه قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم يمينا.
ولانه يفتقر إلى اسم الله والى ذكر القسم المؤكد وجوابه، ولانه يستوى فيه الذكر والانثى - بخلاف الشهادة - ولو كان شهادة لما تكرر لفظه بخلاف اليمين فإنه قد يشرع فيها التكرار كأيمان القسامة، ولان حاجة الزوج التى لا تصح منه الشهادة إلى اللعان ونفى الولد كحاجة من تصح شهادته سواء، والامر الذى نزل به مما يدعو إلى اللعان، كالذى ينزل بالعدل الحر، والشريعة الغراء لا ترفع ضرر أحد النوعين وتجعل له مخرجا مما نزل به، وتدع النوع الآخر في الآصار والاغلال، فلعله يكون صادقا فنقضي عليه بأن يكون تيسا أو ديوثا، ولا فرج له ما نزل به ولا مخرج ولا مهرب وأما احتجاج أبى حنيفة وأصحابه ومن قال بقوله من الفقهاء ممن ذكرنا آنفا(17/433)
فاستدلوا بقوله تعالى " ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " - " فشهادة أحدهم أربع
شهادات بالله " فاستثنى أنفسهم من الشهداء، فلا يقبل إلا من ليس من أهل الشهادة، فردنا عليهم أن الله تعالى سماه شهادة لقوله في يمينه " أشهد بالله " فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينا.
كما قال تعالى " إذا جاء المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله " اعتبارا بلفظها، وكيف وهو مصرح فيه بالقسم وجوابه.
وكذلك لو قال أشهد بالله انعقدت يمينه بذلك، سواء نوى اليمين أو أطلق، والعرب تعد ذلك يمينا في لغتها واستعمالها.
قال قيس بن الملوح الشهير بالمجنون: فأشهد عند الله أنى أحبها
* فهذا لها عندي فما عندها ليا؟ قال ابن القيم في الهدى: وفى هذا البيت حجة لمن قال: ان قوله أشهد تنعقد به اليمين، ولو لم يقل بالله، كما هو احدى الروايتين عن أحمد.
والثانية لا يكون يمينا الا بالنية، وهو قول الاكثرين.
كما أن قوله أشهد بالله يمين عند الاكثرين بمطلقه.
وأما استثناؤه سبحانه أنفسهم من الشهداء فيقال أولا الا ههنا صفة بمعنى غير، والمعنى ولم يكن لهم شهداء غير أنفسهم، فإن غير وإلا يتعاوضان الوصفية والاستثناء، فيستثنى بغر حملا على الا، ويوصف بإلا، حملا على غير، ويقال ان أنفسهم مستثنين من الشهداء ولكن يجوز أن يكون منقطعا على لغة تميم فإنهم يبدلون في المنقطع كما يبدل الحجازيون في المتصل.
وكذلك استثنى أنفسهم من الشهداء لانه نزلهم منزلتهم في قبول قولهم.
وهذا قوى جدا على قول من يرجم المرأة بالتعان الزوج إذا نكلت وهو الصحيح كما سيأتي وكما مضى بعضه.
والصحيح أن لعانهم يجمع الوصفين اليمين والشهادة، فهو شهادة مؤكدة بالقسم والتكرار، ويمين مغلظة بلفظ الشهادة والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الامر.
(فرع)
إذا كان زائل العقل لجنون فلا حكم لقذفه لان القلم عنه مرفوع، فإذا أتت امرأته بولد فنسبه لاحق لامكانه، ولا سبيل إلى نفيه مع زوال عقله، فإذا عقل فله نفيه حينئذ واستلحاقه، وان ادعى انه كان ذاهب العقل حين قذفه
- وأنكرت ذلك - فالحكم لصاحب البينة منهما، والا فالقول قوله (مسألة) الاخرس والخرساء ان كانا معلومى الاشارة والكتابة فهما كالناطقين في القذف واللعان.(17/434)
وحكى ابن المنذر عن أحمد وأبى عبيد وأصحاب الرأى: إذا كانت المرأة خرساء لم تلاعن لانه لا تعلم مطالبتها قال ابن قدامة: وينبغى أن يكون ذلك في الاخرس، وذلك لان اللعان يفتقر إلى الشهادة فلم يصح من الاخرس كالشهادة الحقيقية، ولان الحد يدرأ بالشبهات، والشهادة صريحة كالنطق، فلا يخلو من احتمال وتردد فلا يجب الحد بها كما لا يجب على أجنبي بشهادته.
وقال القاضى وأبو الخطاب كقولنا: هو كالناطق في قذفه ولعانه، ويفارق الشهادة لانه يمكن حصولها من غيره فلم تدع الحاجة إلى الاخرس.
وفى اللعان لا يحصل الا منه فدعت الحاجة إلى قبوله منه كالطلاق (فرع)
إذا قذف الاخرس أو لاعن ثم تكلم فأنكر القذف واللعان لم يقبل انكاره للقذف لانه قد تعلق به حق لغيره بحكم الظاهر فلا يقبل انكاره، ويقبل انكاره اللعان فيما عليه فيطالب بالحد ويلحقه النسب ولا تعود الزوجية.
فإن قال أنا ألاعن للحد ونفى النسب كان له ذلك لانه انما لزمه باقراره أنه لم يلاعن، فإذا أراد أن يلاعن كان له ذلك فإذا قذفها وهو ناطق ثم خرس وأيسنا من نطقه فحكمه حكم الاصلى، وان رجى عود نطقه وزوال خرسه انتظر به، ويرجع في معرفة ذلك إلى قول طبيبين عدلين من المختصين بالصحة النفسية والعصبية.
وقال بعض الاصحاب: انه لا يلاعن في الحالين بالاشارة، لان أمامة بنت
أبى العاص أصمتت، فقيل لها لفلان كذا ولفلان كذا؟ فأشارت أن نعم، فرأوا أنها وصية والصحيح الاول.
وعند أصحاب أحمد على وجهين.
ذكره أبو الخطاب (مسألة) إذا كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما لانه قول تحصل به الفرقة ولا يصح من غير المكلف كسائر الايمان، ولا يخلو غير المكلف من أن يكون الزوج أو الزوجة أو هما، وقد مضى لنا في الفصول قبله بحث السن والبلوغ والامكان.
فليراجع والخلاصة أن كل موضع لا لعان فيه فالنسب لا حق فيه، ويجب بالقذف موجبه من الحد والتعزير الا أن يكون القاذف صبيا أو مجنونا فلا ضرب فيه(17/435)
ولا لعان، كذلك قال الثوري ومالك وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأى وابن المنذر وقال: ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم (مسألة) إذا كان الزوجان يعرفان العربية لم يجز أن يلتعنا بغيرها، لان اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية، وإن كانا لا يحسنان ذلك جاز لهما الالتعان بلسانهما لموضع الحاجة، فان كان الحاكم يحسن لسانهما أجزأ ذلك، وإن لم يكن يعرف لسانهما فلابد من ترجمان، وفى العدد المجزى للترجمة قولان
(أحدهما)
يجزئ إثنان عدلان، وهو ظاهر قول الخرقى من الحنابلة لانه قال ولا يقبل في الترجمة عن أعجمى حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه أقل من عدلين يعرفان لسانه.
وذكر أبو الخطاب رواية أخرى عند الحنابلة أنه يجزئ ترجمان واحد، وهو قول أبى حنيفة (الثاني) لا يجزئ أقل من أربعة، بناء على الشهادة في الاقرار بالزنا ففيها هذان القولان (فرع)
لو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها، وشهد آخر أنه أقر ذلك
بالعجمية، فإذا قلنا ان الشاهدين يجزئان تمت الشهادة، وان شهد شاهدان أحدهما أنه قذفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة لم تتم الشهادة، وان شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية لم تتم الشهادة.
وان شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية والعجمية وشهد الآخر أنه قذفها بالعربية فقط فقد اكتملت الشهادة إذا قلنا باجزاء الشاهدين لاتفاقهما في لغة واحدة.
وعند أصحاب أحمد فيمن شهد أحدهما بالقذف يوم الخميس والآخر بالقذف يوم الجمعة أو شهد أحدهما بالقذف بالعربية والآخر أنه بالعجمية وجهان
(أحدهما)
تكمل الشهادة، وهو قول أبى بكر ومذهب أبى حنيفة، لان الوقت ليس ذكره شرطا في الشهادة بالقذف وكذلك اللسان، فلم يؤثر الاختلاف كما لو شهدا أحدهما أنه قذفها يوم الخميس بالعربية، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة بالعجمية (الثاني) لا تكمل الشهادة ولنا أنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم تثبت، كما لو شهد أحدهما(17/436)
أنه تزوجها يوم الخميس وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة، وفارق الاقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح اللعان إلا بأمر الحاكم لانه يمين في دعوى فلم يصح إلا بأمر الحاكم كاليمين في سائر الدعاوى، فإن كان الزوجان مملوكين جاز للسيد أن يلاعن بينهما، لانه يجوز أن يقيم عليهما الحد فجاز أن يلاعن بينهما كالحاكم.
(فصل)
واللعان هو أن يقول الزوج أربع مرات " أشهد بالله إنى لمن الصادقين " ثم يقول " وعلى لعنة الله إن كنت من الكاذبين " وتقول المرأة أربع مرات " أشهد بالله إنه لمن الكاذبين " ثم تقول " وعلى غضب الله إن كان من
الصادقين " والدليل عليه قوله عز وجل " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها ان كان من الصادقين " فإن أخل أحدهما بأحد هذه الالفاظ الخمسة لم يعتد به، لان الله عز وجل علق الحكم على هذه الالفاظ، فدل على أنه لا يتعلق بما دونها، ولانه بينة يتحقق بها الزنا فلم يجز النقصان عن عددها كالشهادة.
وإن أبدل لفظ الشهادة بلفظ من ألفاظ اليمين بأن قال: أحلف أو أقسم أو أولى فيه وجهان.
(أحدهما)
يجوز لان اللعان يمين فجاز بألفاظ اليمين
(والثانى)
أنه لا يجوز لانه أخل باللفظ المنصوص عليه.
وإن أبدل لفظ اللعنة بالابعاد أو لفظ الغضب بالسخط، ففيه وجهان.
أحدهما يجوز لان معنى الجميع واحد، والثانى لا يجوز لانه ترك المنصوص عليه، وان أبدلت المرأة لفظ الغضب بلفظ اللعنة لم يجز، لان الغضب أغلظ، ولهذا خصت المرأة به، لان المعرة بزناها أقبح، وإثمها بفعل الزنا أعظم من إثمه بالقذف وإن أبدل الرجل لفظ اللعنة بلفظ الغضب فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز،(17/437)
لان الغضب أغلظ
(والثانى)
لا يجوز لانه ترك المنصوص عليه.
وان قدم الرجل لفظ اللعنة على لفظ الشهادة أو قدمت المرأة لفظ الغضب على لفظ الشهادة ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، لان القصد منه التغليظ وذلك يحصل مع التقديم.
(والثانى)
لا يجوز لانه ترك المنصوص عليه (الشرح) الاحكام.
لا يصح اللعان إلا بأمر الحاكم أو من يقوم مقامه،
وهذا مذهب أحمد رضى الله عنه، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ هلال بن أمية أن يستدعى زوجته إليه ولاعن بينهما، ولانه إما يمين واما شهادة، فأيهما كان فمن شرطه الحاكم.
وان تراضى الزوجان بغير الحاكم يلاعن بينهما لم يصح ذلك لان اللعان مبنى على التغليظ والتأكيد فلم يجز بغير الحاكم كالحد، هذا إذا كانا حرين، وساوى أحمد بين الحرين والعبدين في وجوب اللعان بمحضر من الحاكم أو من ينوب عنه.
أما ألفاظه فقد مضى بيانها وهى هنا على وجهها
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
والمستحب أن يكون اللعان بحضرة جماعة، لان ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد رضى الله عنهم حضروا اللعان بحضرة النبي صلى الله عليه على حداثة سنهم والصبيان لا يحضرون المجالس الا تابعين للرجال، فدل على أنه قد حضر جماعة من الرجال فتبعهم الصبيان، ولان اللعان بنى على التغليظ للردع والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في الردع.
والمستحب أن يكونوا أربعة لان اللعان سبب للحد ولا يثبت الحد الا بأربعة، فيستحب أن يحضر ذلك العدد، ويستحب ان يكون بعد العصر لا اليمين فيه أغلظ.
والدليل عليه قوله عز وجل " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله " قيل هو بعد العصر.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ثَلَاثَةٌ لَا يكلمم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب اليم، رجل حلف يمينا على مال مسلم فاقتطعه، ورجل حلف يمينا بعد صلاة العصر لقد اعطى بسلعته اكثر(17/438)
مما أعطى وهو كاذب، ورجل منع فضل الماء، فإن الله عز وجل يقول: اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ماء لم تعمله يداك "
ويستحب أن يتلاعنا من قيام، لما روى ابن عباس رضى الله عنه في حديث هلال بن أمية " فأرسل اليهما فجاءا فقام هلال فشهد، ثم قامت فشهدت، لان فعله من قيام أبلغ في الردع.
واختلف قوله في التغليظ بالمكان فقال في أحد القولين إنه يجب لانه تغليظ ورد به الشرع فأشبه التغليظ بتكرار اللفظ، وقال في الآخر يستحب كالتغليظ في الجماعة والزمان، والتغليظ بالمكان أن يلاعن بينهما في أشرف موضع من البلد الذى فيه اللعان، فإن كان بمكة لاعن بين الركن والمقام، لان اليمين فيه أغلظ.
والدليل عليه ما روى أن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رأى قوما يحلفون بين الركن والمقام، فقال أعلى دم؟ قالوا لا، قال أفعلى عظيم من المال؟ فقالوا لا، فقال لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام.
وإن كان في المدينة لاعن في المسجد لانه أشرف البقاع بها، وهل يكون على المنبر أو عند المنبر؟ اختلفت الرواية فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ حلف عند منبرى على يمين آثمة ولو على سواك من رطب وجبت له النار وروى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: من حلف على منبرى هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار، فقال ابو إسحاق ان كان الخلق كثيرا لاعن على المنبر ليسمع الناس، وان كان الخلق قليلا لاعن عند المنبر مما يلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يلاعن على المنبر، لان ذلك علو وشرف والملاعن ليس في موضع العلو والشرف، وحمل قوله على منبرى أي عند منبرى لان حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، وان كان ببيت المقدس لاعن عند الصخرة لانها أشرف البقاع به وإن كان في غيرها من البلاد لاعن في الجامع، إن
كانت المرأة حائضا لاعنت على باب المسجد، لانه أقرب إلى الموضع الشريف.(17/439)
وإن كان يهوديا لاعن في الكنيسة، وإن كان نصرانيا لاعن في البيعة، وان كان مجوسيا لاعن في بيت النار، لان هذه المواضع عندهم كالمساجد عندنا (الشرح) حديث أبى هريرة الاول أخرجه الشيخان في صحيحيهما.
قال العزيزي في السراج المنير " والذين لا يكلمهم الله يوم القيامة لا ينحصرون في الثلاثة، والعدد لا ينفى الزائد " اه وقوله " بعد العصر " خصه لشرفه لانه آخر النهار وقرب أفول الشمس، فينبغي أن لا يكون آخر أعمال المرء سوءا وأشرا.
لاسيما وهو وقت اجتماع ملائكة الليل والنهار ورفع الاعمال فيه فغلظت العقوبة وقوله " منع فضل مائه " الحاصل أنه إذا حفرها في موات بقصد الاحياء لنفسه، أي لينتفع بمائها لم يلزمه إلا بذل ما زاد على حاجته، وان حفرها بقصد نفع المسلمين فليس له المنع إلا إذا كان يملكه أما حديث أبى هريرة الثاني فقد أخرجه أبو داود والامام أحمد وابن ماجة بلفظ " لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار " ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
هكذا في زوائد ابن ماجه لابن حجر.
وحديث جابر أخرجه مالك في موطئه في باب ما جاء في الحنث على منبر النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الاقضية، وفيه أن زيد بن ثابت وابن مطيع اختصما في دار كانت بينهما إلى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة - فقضى مروان على زيد باليمين على المنبر، فقال زيد أحلف له مكاني، فقال مروان " لا والله إلا عند مقاطع الحقوق " قال فجعل زيد يحلف ان حقه لحق ويأبى أن يحلف على المنبر، فجعل مروان يعجب من ذلك
قال مالك لا أرى أحدا يحلف على المنبر على أقل من ربع دينار وذلك ثلاثة دراهم.
اه - وروى حديث جابر أبو داود في الايمان والنذور " باب ما جاء في تعظيم اليمين عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم " وأحمد بن حنبل في مسنده، وأخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وله شاهد عن أبى أمامة ابن ثعلبة مرفوعا عند النسائي أيضا(17/440)
أما الاحكام فإنه يستحب أن يكون اللعان بمحضر جماعة من المسلمين صغارا كانوا أو كبارا، فقد رويت أخبار المتلاعنين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد رواية من حضروها وسمعوا تفصيلاتها وكانوا حدثاء السن، فإن عبد الله بن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن ثلاث عشرة سنة إذ تُوُفِّيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هَذَا قول الواقدي والزبير بن بكار.
قال أهل السير: ولد عبد الله بن عباس في الشعب قبل خروج بنى هاشم منه وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين وروينا من وجوه عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال تُوُفِّيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم - يعنى المفصل - هذه رواية أبى بشر عن سعيد بن جبير، وقد روى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال قبض رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ختين، أو قال مختون.
قال ابن عبد البر ولا يصح وقال عبد الله بن أحمد، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة عن ابن اسحاق قال سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال، تُوُفِّيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابن خمس عشرة سنة.
قال عبد الله بن أحمد
قال أبى وهذا هو الصواب.
قال أبو عمر بن عبد البر وما قاله أهل السير والعلم بأيام الناس عندي أصح والله أعلم - وهو قولهم ان ابن عباس كان ابن ثلاث عشرة سنة يوم تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومات ابن عباس سنة ثمان وستين في أيام ابن الزبير وكان قد أخرجه من مكة إلى الطائف فمات بها وهو ابن سبعين سنة وصلى عليه محمد ابن الحنفية وكبر عليه أربعا وقال اليوم مات ربانى هذه الامة وضرب على قبره فسطاطا.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وجوه كثيرة قوله له اللهم علمه الحكمة.
اللهم علمه التأويل.
اللهم فقهه في الدين أما عبد الله بن عمر فقد أسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم.
وقيل انه(17/441)
أسلم قبل أبيه ولا يصح.
وأصح من ذلك أن هجرته كانت قبل هجرة أبيه، واجتمعوا أنه لم يشهد بدرا.
واختلف في شهوده أحدا، والصحيح أن أول مشاهده الخندق.
وقال الواقدي كان ابن عمر يوم بدر ممن لم يحتلم فاستصغره رسول الله صلى الله عليه وسلم ورده، وأجازه يوم أحد.
وعن نافع أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رده يوم أحد لانه كان ابن أربع عشرة سنة، وأجازه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة وقد عرف عنه رضى الله عنه الاتباع وشدة التحرى والاحتياط والتوقى في فتواه ويقولون انه من أعلم الصحابة بمناسك الحج، وقد كان مولعا به حتى في أيام الفتنة حيث كان يحج كل عام.
أما سهل فهو ابن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة الساعدي الخزرجي الانصاري يكنى أبا العباس.
روى ابن عبد البر بإسناده إلى محمد بن اسحاق عن الزهري قال قلت لسهل بن سعد " ابن كم كنت يومئذ - يعنى يوم المتلاعنين؟ - قال ابن خمس
عشرة.
وروى بإسناده عن الزهري عن سهل أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفى وهو ابن خمس عشرة سنة، وعمر سهل حتى أدرك الحجاج وامتحن به، وتوفى سنة ثمان وثمانين وهو ابن ست وتسعين، وقد بلغ المائة، ويقال انه آخر من بقى بالمدينة مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، حكى ابن عيينة عن ابى حازم، سمعت سهل بن سعد يقول " لو مت لم تسمعوا أحدا يَقُولَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قرر هذا فإن هؤلاء الصبيان انما كانوا يحضرون تبعا للرجال، ولان اللعان مبنى على التغليظ والمبالغة في الردع به والزجر، فإن فعله في الجماعة أبلغ في ذلك، ويستحب أن يكون ذلك بعد العصر لتعرض من يحلف كاذبا منهما لغضب الله لحديث " ثلاثة لا يكلمهم الله " الذى ساقه المصنف، كما يستحب أن لا ينقصوا عن أر؟ ؟ ة، لان بينة الزنا الذى شرع اللعان من أجل الرمى به أربعة، وليس شئ من هذا واجبا، كما يستحب أن يتلاعنا قياما، فيبدأ بالزوج حيث يلتعن وهو قائم، فإذا فرغ قامت المرأة فالتمنت وهى قائمة، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انه قال لهلال بن أمية " قم فاشهد اربع شهادات " ولانه إذا قام شاهده الناس(17/442)
فكان أبلغ في شهرته فاستحب كثرة الجمع وليس ذلك واجبا.
وبهذا كله قال أحمد وأبو حنيفة.
قال ابن قدامة ولا أعلم فيه مخالفا.
قلت إلا فيما يتعلق بالزمان فقد خالفنا فيه أصحاب أحمد وأبو حنيفة.
قالوا لان الله تعالى أطلق الامر بذلك ولم يقيده بزمن ولا مكان فلا يجوز تقييده إلا بدليل، ولان النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بإحضار امرأته ولم يخصه بزمن، ولو خصه بذلك لنقل ولم يهمل، وخالفهم في ذلك أبو الخطاب من الحنابلة فقال بقولنا ولنا أنه يستحب أن يتلاعا في الازمان والاماكن التى تعظم، ولان حديث
" ثلاثة لا يكلمهم الله " وقت في الوعيد على من حلف بعد العصر، فاسب أن يراعى هذا استكمالا لكل معاني الردع والزجر.
أما المكان ففيه قولان
(أحدهما)
أن التغليظ به مستحب كالزمان
(والثانى)
أنه واجب، لان النبي صلى الله عليه وسلم لاعن عند المنبر فكان فعله بيانا للعان، ومعنى التغليظ بالمكان أنهما إذا كانا بمكة لاعن بينهما بين الركن والمقام فإنه أشرف البقاع، وإن كانا في المدينة فعند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وان كان في سائر البلدان ففى مساجدها، وان كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذى يعتقدان تعظيمه، وان كانا يهوديين أو نصرانيين فالكنيسة، وان كانا غير ذلك - قال القرطبى ان كانا مجوسيين ففى بيت النار، وان كانا وثنيين أو لا دين لهما ففى مجلس حكمه.
وان كانت المسلمة حائضا وقلنا ان اللعان بينهما يكون في المسجد وقفت على بابه ولم تدخله، لان ذلك أقرب المواضع إليه.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يصعد الملاعن على المنبر إذ لا يليق بالمنبر أن يصعد عليه ملاعن لشرف المنبر وعلو مكانته، وبكل ما قررنا قال الائمة كافة ولم أعلم لهم مخالفا.
قال الشافعي في الام في باب " أين يكون اللعان " فإذا لاعن الحاكم بين الزوجين بمكة لاعن بينهما بين المقام والبيت - إلى أن قال - وكذلك يلاعن بين كل زوجين في مسجد كل بلد، ويبدأ فيقيم الرجل قائما وامرأة جالسة، فيلتعن ثم يقيم المرأة قائمة فتلتعن، إلا أن يكون بأحدهما علة لا يقدر على القيام معها(17/443)
فيلتعن جالسا أو مضطجعا إذا لم يقدر على الجلوس.
وان كانت المرأة حائضا التعن الزوج في المسجد والمرأة على باب المسجد.
وان كان الزوج مسلما والزوجة
مشركة التعن الزوج في المسجد والزوجة في الكنيسة وحيث تعظم، وان شاءت الزوجة المشركة أن يحضر الزوج المسلم في المساجد كلها حضرته الا أنها لا تدخل المسجد الحرام لقوله تَعَالَى " إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الحرام بعد عامهم هذا " ثم قال رضى الله عنه " وان أخطأ الامام بمكة أو المدينة أو غيرهما فلاعن بين الزوجين في غير المسجد لم يعد اللعان عليهما لانه قد مضى اللعان عليهما ولانه حكم قد مضى بينهما وكذلك ان لاعن ولم يحضر أحدهما الآخر، قال وإذا كان الزوجان مشركين لاعن بينهما معا في الكنيسه وحيث يعظمان.
وإذا كانا مشركين لا دين لهما تحاكما الينا لاعن بينهما في مجلس الحكم.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإذا أرادا اللعان فالمستحب للحاكم أن يعظهما لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال والله لقد صدقت عليها، فقالت كذب، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاعنوا بينهما " وان كانت المرأة غير برزة بعث إليها الحاكم من يستوفى عليها اللعان، ويستحب أن يبعث معه أربعة
(فصل)
ويبدأ الزوج ويأمره أن يشهد، لان الله تعالى بدأ به وبدأ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في لعان هلال بن أمية، ولان لعانه بينة لاثبات الحق، ولعان المرأة بينة الانكار، فقدمت بينة الاثبات فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد به لان لعانها اسقاط الحد، والحد لا يجب الا بلعان الزوج فلم يصح لعانها قبله، والمستحب إذا بلغ الزوج إلى كلمة اللعنة والمرأة إلى كلمة الغضب أن يعظهما.
لما روى ابن عباس رضى الله عنه قال " لما كان في الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وان
هذه الموجبة التى توجب عليك العذاب.
فقال والله لا يعذبنى الله عليها كما لم(17/444)
يحلدنى عليها فشهد الخامسة، فلما كانت الخامسة قيل لها اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التى توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " ويستحب أن يأمر من يضع يده على فيه في الخامسة، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أمر رجلا أن يضع يده على فيه عند الخامسة يقول إنها موجبة "
(فصل)
وإن لاعن وهى غائبة لحيض أو موت قال أشهد بالله إنى لمن الصادقين فيما رميت به زوجتى فلانة، ويرفع في نسبها حتى تتميز.
وإن كانت حاضرة ففيه وجهان أحدهما يجمع بين الاشارة والاسم، لان مبنى اللعان على التأكيد، ولهذا تكرر فيه لفظ الشهادة، وإن حصل المقصود بمرة والثانى أنه تكفيه الاشارة لانها تتميز بالاشارة كما تتميز في النكاح والطلاق
(فصل)
وإن كان القذف بالزنا كرره في الالفاظ الخمسة، فإن قذفها بزناءين ذكرهما في الالفاظ الخمسة، لانه قد يكون صادقا في أحدهما دون الآخر فإن سمى الزانى بها ذكره في اللعان في كل مرة، لانه ألحق به المعرة في إفساد الفراش فكرره في اللعان كالمرأة.
فإن قذفها بالزنا وانتفى من الولد قال في كل مرة وأن هذا الولد من زنا وليس منى، فإن قال هذا الولد ليس منى ولم يقل من زنا لم ينتف لانه يحتمل أن يريد أنه ليس منى في الخلق أو الخلق.
وان قال هذا الولد من زنا ولم يقل وليس منى ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول القاضى أبى حامد المروروذى أنه ينتفى منه
لان ولد الزنا لا يلحق به
(والثانى)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى أنه لا ينتفى لانه قد يعتقد أن الوطئ في النكاح بلا ولى زنا على قول أبى بكر الصيرفى فوجب أن يذكر أنه ليس منى لينتفي الاحتمال (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ويبدأ الرجل باللعان حتى يكمله، فإذا أكمله خمسا التعنت المرأة، وإن أخطأ الحاكم فبدأ بالمرأة فالتعنت ولو لم يبق من(17/445)
لعان الرجل إلا حرف واحد من قبل أن الله عز وجل بدأ بالرجل في اللعان فلا يجب على المرأة لعان حتى يكمل الرجل اللعان، لانه لا معنى لها في اللعان الا إذا رفع الحد عن نفسها، والحد لا يجب حتى يلتعن الرجل ثم يجب لانها تدفع الحد عن نفسها وإلا حدت.
وإذا بدأ الرجل فالتعن قبل أن يأتي الحاكم أو بعدما أتاه قبل أن يأمره بالالتعان أو المرأة أو هما أعاد أيهما بدأ قبل امر الحاكم إياه بالالتعان، لان ركانة أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بطلاق امرأته البتة وحلف له فأعاد النبي صلى الله عليه اليمين على ركانة ثم رد إليه امرأته بعد حلفه بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يرد امرأته إليه قبل حلفه بأمره.
اه إذا تقرر هذا فإن ألفاظه خمسة في حق كل واحد منهما، وصفته أن الامام يبدأ بالزوج فيقيمه ويقول له: قل أربع مرات ويلقنه الصيغة التى مضى ذكرها ثم يشير إليها ويشير إلى نسبها وتسميتها، وان كانت غائبة أسماها ونسبها فقال، امرأتي فلانة بنت فلان ويرفع في نسبها حتى ينفى المشاركة بينها وبين غيرها، فإذا شهد أربع مرات وقفه الحاكم وقال له: اتق الله فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وكل شئ أهون من لعنة الله، ويأمر رجلا فيضع يده على فيه حتى لا يبادر بالخامسة قبل الموعظة، ثم يأمر الرجل فيرسل يده عن فيه
فإن رآه يمضى في ذلك قال له: قل وأن لعنة الله على ان كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتى هذه من الزنا، ثم يأمر المرأة بالقيام ويقول لها: قولى أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه، وان كان غائبا أسمته ونسبته، فإذا كررت ذلك أربع مرات وقفها ووعظها كما ذكرنا في حق الزوج، ويأمر امرأة فتضع يدها على فيها، فإن رآها تمضى على ذلك قال لها قولى وأن غضب الله عليها إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا.
وسئل أحمد بن حنبل رضى الله عنه: كيف يلاعن؟ قال على ما في كتاب الله ثم ذكر ما قررناه من صفة اللعان، فإن أبدل لفظا منها فظاهر كلام الاصحاب أن فيه وجهين
(أحدهما)
أنه يعتد به، وهو ما ذهب إليه الخرقى من الحنابلة(17/446)
أنه يجوز أن يبدل قوله: إنى لمن الصادقين بقوله لقد زنت لان معناهما واحد، ويجوز لها إبدال انه لمن الكاذبين بقولها لقد كذب.
لانه ذكر صفة اللعان كذلك واتباع لفظ النص أول وأحسن.
وإن أبدل لفظة أشهد بلفظ من ألفاظ اليمين فقال.
أحلف أو أقسم أو أولى فكذلك مثله، وان كان الصحيح في هذا الاخير لا يصح، لان ما اعتبر فيه لفظ الشهادة لم يقم غيره مقامه كالشهادات في الحقوق، ولان اللعان يقصد فيه التغليظ واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ فلم يجز تركه، ولهذا لم يجز أن يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام أشهد.
وأما موعظة الامام لهما بعد الرابعة وقبل الخامسة فهى مستحبة في قول أكبر أهل العلم.
وكذلك وضع يد على في الملاعن لما رواه أبو إسحاق الجوزجانى بإسناده في حديث المتلاعنين قال " فشهد أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين، ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه وقال: ويحك كل شئ أهون عليك من لعنة الله ثم أرسل
فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم دعاها فقرأ عليها فشهدت أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين، ثم أمر بها فأمسك على فيها وقال: ويحك كل شئ أهون عليك من عذاب الله.
وذكر الحديث " قال الشافعي في الام: ثم تقام المرأة فتقول أشهد بالله ان زوجي فلانا وتشير إليه ان كان حاضرا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، ثم تعود حتى تقول ذلك أربع مرات، فإذا فرغت من الرابعة وقفها الامام وذكرها الله تبارك وتعالى وقال لها: احذري أن تبوئى بغضب من الله عز وجل إن لم تكوني صادقة في أيمانك، فإن رآها تمضى وحضرتها امرأة أمرها أن تضع يدها على فيها، وان لم تحضرها فرآها تمضى قال لها: قولى وعلى غضب الله ان كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا، فإذا قالت ذلك فقد فرغت من اللعان، وإنما أمرت بوقفهما وتذكيرهما أن سفيان أخبرنا عن عاصم بن كليب عن أبيه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رجلا حين لاعن بين المتلاعنين أن يضع يده على فيه عند الخامسة وقال إنها موجبة(17/447)
(مسألة) إذا كان بينهما ولد فإنه يشترط أن يقول: هذا الولد من زنا وليس هو منى، لانه إذا اقتصر على قوله: ليس هو منى - يعنى في الخلق أو أو في الخلق، ولم نقتصر على قوله من زنا لانه قد يعتقد أن الوطئ في نكاح فاسد زنا فأكدنا بذكرهما جميعا.
وقال ابن قدامة من الحنابلة: إن نفى الولد في اللعان فاكتفى به كان كمن ذكر اللفظين، وما ذكروه من التأكيد تحكم بغير دليل، ولا ينتفى الاحتمال بضم احدى اللفظتين إلى الاخرى فإنه إذا اعتقد أنه من وطئ فاسد واعتقد أن ذلك زنا صح منه أن يقول اللفظين جميعا، وقد يرد أنه لا يشبهني خلقا وخلقا أو أنه
من وطئ فاسد، فإن لم يذكر الولد في اللعان لم ينتف عنه، وان أراد نفيه أعاد اللعان ويذكر نفى الولد.
اه هذه المسألة لاصحابنا فيها وجهان
(أحدهما)
قول القاضى أبى حامد المروروذى أنه إذا نسبه إلى الزنا ولم ينفه عن نفسه فقد انتفى منه، لان ولد الزنا لا يلحق به فكان نفيه بالزنا كافيا في أن لا يلحق به
(والثانى)
قول الشيخ أبى حامد الاسفرايينى أن نسبته إلى الزنا لا يكفى في نفيه لانه قد يعتقد أن الوطئ في النكاح بلا ولى زنا، لان أبا بكر الصيرفى من أصحابنا يقول " ان النكاح بلا ولى زنا " وبقوله هذا قال كثير من الفقهاء والمحدثين لحديث " أيما امرأة نكحت بغير وليها فهى زانية، فهى زانية، فهى زانية " وقد مضى تخريجه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا لاعن الزوج سقط عنه ما وجب بقذفه من الحد أو التعزير وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عباس رضى الله عنه " أن هلال بن أمية قذف امرأته فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البينة أو حد في ظهرك، فقال هلال والذى بعثك بالحق انى لصادق، ولينزلن الله في امرى ما يبرئ ظهرى من الحد فنزلت " والذين يرمون ازواجهم " فسرى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا، فقال هلال قد كنت أرجو(17/448)
ذلك من ربى عز وجل " وإن قذفها برجل فسماه في اللعان سقط عنه حده، لانه سماه في اللعان فسقط حده كالمرأة، فإن لم يسمه في اللعان فيه قولان
(أحدهما)
يسقط حده لانه أحد الزانيين فسقط حده باللعان كالزوجة
(والثانى)
لا يسقط حده لانه لم يسمه في اللعان فلم يسقط حده كالزوجة
إذا لم يسمها، فعلى هذا إذا أراد إسقاط حده استأنف اللعان وذكره وأعاد ذكر الزوجة.
(فصل)
وإن نفى باللعان نسب ولد انتفى عنه لما روى ابن عمر رضى الله عنه " أن رجلا لاعن امرأته فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وانتفى عن ولدها، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة " فان لم يذكر النسب في اللعان أعاد اللعان لانه لم ينتف باللعان الاول (الشرح) حديث عبد الله بن عباس سبق تخريجه حيث قلنا رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني.
وحديث ابن عمر أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني أما غريبه فقوله " فسرى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أي كشف، كأنه هم كشفه الله عنه صدره.
قال ابن بطال: ومثله الحديث الآخر " فإذا مطرت السحابة سرى عنه " أي كشف عنه الخوف.
قال ابن الصباغ في الشامل: قصة هلال بن أمية نزلت فيها الآية.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قصة عويمر العجلاني " إن الله قد أنزل فيك وفى صاحبتك " فمعناه ما نزل في قصة هلال بن أمية.
أما الاحكام فانه إذا قذف امرأته بالزنا برجل بعينه فقد قذفهما، فان سماه سقط عنه حده لانه سماه وإن لم يسمه ففيه قولان.
أحدهما يسقط حده، وبهذا قال أصحاب أحمد وأبو حنيفة ومالك.
والثانى لا يسقط حده لانه لم يسمه في اللعان فلم يسقط.
فان لم يلاعن فلكل واحد منهما المطالبة، وأيهما طالب حد له.
ومن لم يطالب قال بعض أصحابنا يجب الحد مطلقا.
وقال بعض أصحاب أحمد: القذف(17/449)
للزوجة وحدها ولا يتعلق بغيرها حق في المطالبة ولا في الحد، لان هلال بن أمية قذف زوجته في شريك بن سحماء فلم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ولا عزره، ولان اللعان بينة في أحد الطرفين، ولا خلاف عندنا انه إذا لاعن وذكر الأجنبي إنه يسقط عنه حده.
وإن لم يذكره فعلى قولين مضيا (فرع)
استدل بحديث ابن عمر على أن الولد ينتفى باللعان، وأن يذكر في صيغة اللعان، وعن أحمد أنه ينتفى بمجرد اللعان وإن لم يتعرض الرجل لذكره في اللعان.
قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر، لانه لو استلحقه لحقه، وإنما يؤثر اللعان دفع حد القاذف عنه وثبوت زنا المرأة قال الشافعي رضى الله عنه إن نفى الولد في الملاعنة انتفى، وان لم يتعرض له فله أن يعيد اللعان لانتفائه ولا إعادة على المرأة.
وان أمكنه الرفع إلى الحاكم فأخر بغير عذر حتى ولدت لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة، واستدل بالحديث أيضا على أنه لا يشترط في نفى الولد التصريح بأنها ولدته من زنا ولا بأنه استبرأها بحيضة.
وقد مضى إيضاحه.
وعن المالكية أنه يشترط ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب على المرأة حد الزنا، لانه بينة حقق بها الزنا عليها فلزمها الحد كالشهادة، ولا يجب على الرجل الذى رماها به حد الزنا، لانه لا يصح منه درء الحد باللعان فلم يجب عليه الحد باللعان
(فصل)
وان كان اللعان في نكاح صحيح وقعت الفرقة لحديث ابن عمر رضى الله عنه وحرمت عليه على التأبيد لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال " مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا " فان كان اللعان في نكاح فاسد، أو كان اللعان بعد البينونة في زنا أضافه إلى حال الزوجية فهل تحرم المرأة على التأبيد؟ فيه وجهان.
أحدهما تحرم، وهو الصحيح، لان
ما أوجب تحريما مؤبدا إذا كان في نكاح أوجبه، وان لم يكن في نكاح كالرضاع
(والثانى)
لا يحرم، لان التحريم تابع للفرقة ولم يقع بهذا اللعان فرقة فلم يثبت به تحريم.(17/450)
(فصل)
وللمرأة أن تدرأ حد الزنا عنها باللعان لقوله عز وجل " ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " ولا تذكر المرأة النسب في اللعان، لانه لا مدخل لها في إثبات النسب ولا في نفيه.
(فصل)
إذا لاعن الزوج ثم أكذب نفسه وجب عليه حد القذف إن كانت المرأة محصنة، أو التعزير إن لم تكن محصنة ولحقه النسب لان ذلك حق عليه فعاد بتكذيبه، ولا يعود الفراش ولا يرتفع التحريم، لانه حق له فلا يعود بتكذيبه نفسه، وإن لاعنت المرأة ثم أكذبت نفسها وجب عليها حد الزنا لانه لا يتعلق بلعانها أكثر من سقوط حق الزنا وهو حق عليها فعاد بإكذابها (الشرح) حديث ابن عمر الذى ذكرناه آنفا، وحديث سهل بن سعد الذى أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني، وقد مضى بلفظه، وفيه قصة عويمر العجلاني، وسياق المصنف يفيد أن عبارة " مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان " من قول سهل بن سعد، بيد أن الروايات التى في الكتب المذكورة قال ابن عمر " فكانت سنة المتلاعنين " وفى رواية متفق عليها، أي في مسند أحمد والصحيحين " ذاكم التفريق بين كل متلاعنين، وفى لفظ لاحمد ومسلم " وكان فراقه إياها سنة في المتلاعنين " وزاد أبو داود عن القعنبى عن مالك فكانت تلك - وهى إشارة إلى الفرقة.
وقال مسلم إن قوله وكان فراقه اياها سنة بين المتلاعنين مدرج (1) وكذا ذكر الدارقطني في غريب مالك اختلاف الرواة على ابن شهاب.
وذكر ذلك الشافعي في الام
إلى أن نسبته إلى ابن شهاب لا تمنع نسبته إلى سهل، ويؤيد ذلك ما وقع في رواية لابي داود عن سهل قال " فطلقها ثلاث تطليقات عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنقذه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ما صنع عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المدرج هو أن تزاد لفظة في متن الحديث من كلام الراوى فيحسبها من يسمعها مرفوعة في الحديث فيرويها، وقد صنف الحافظ أبو بكر الخطيب في ذلك كتابا حافلا سماه: فصل الواصل لما أدرج في النقل، وقد يكون الادراج في الاسناد على تفصيل نذكره في مناسبته(17/451)
سنة.
وفى نسخة الصغانى قال أبو عبد الله - يعنى البخاري - قوله " ذلك تفريق بين المتلاعنين " من قول الزهري وليس من الحديث أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ومتى التعن الزوج فعليها أن تلتعن فإن أبت حدت - إلى أن قال - وان امتنعت من اليمين وهى مريضة فكانت ثيبا رجمت.
اه (قلت) ولا يجب اقامة الحد على الرجل الذى زنى بها، لاننا إذا قلنا يجب أن يقام الحد عليها ببينة الزنا بلعان الزوج فإنه يدرأ عنها الحد أن تلاعنه.
وإذا كان على الزوج حد القذف فإنه يدرأ عنه ذلك بلعانه.
أما الذى رميت به فليس له أن يشترك في الملاعنة ليدرأ عن نفسه فعلا يجب عليه الحد لاجله، فلم يكن عليه حد، وبصورة أخرى نقول لما كان اللعان لدرء الحد، ولما كان لا لعان عليه كان لا حد عَلَيْهِ (فَرْعٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فإذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبدا بحال، وان أكذب نفسه لم تعد إليه التعنت أو لم تلتعن، حدت أو لم تحد، قال وانما قلت هذا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الولد
للفراش " وكانت فراشا فلم يجز أن ينفى الولد عن الفراش الا بأن يزول الفراش فلا يكون فراش أبدا.
ثم ساق حديث ابن عمر ثم قال " وكان معقولا في حكم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ألحق الولد بأمه أنه نفاه عن أبيه وأن نفيه عن أبيه بيمينه والتعانه لا بيمين أمه على كذبه بنفيه، ومعقول في اجماع الناس أن الزوج إذا أكذب نفسه ألحق به الولد وجلد الحد، لان لا معنى للمرأة في نفيه، وأن المعنى للزوج بما وصفت من نفيه، وكيف يكون لها معنى في يمين الزوج ونفى الولد والحاقه، والولد بكل حال ولدها لا ينفى عنها انما عنه ينفى واليها ينسب إذا نسب (فرع)
سبق أن قلنا ان مذهبنا حصول الفرقة بلعان الزوج وحده وان لم تلتعن المرأة لانها فرقة حاصلة بالقول فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق.
وقال سائر الائمة ان الشرع ان أمر بالتفريق بين المتلاعنين، وانما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما بعد تمام اللعان منهما.
فإذا قلنا بأن اللعان منه يوجب الفرقة بينهما وتحرم(17/452)
عليه على التأبيد إذا كان نكاحهما صحيحا.
أما إذا كان النكاح فاسدا أو بعد بينونة في زنا أضافه إلى حال الزوجية، فهل تكون محرمة على التأبيد؟ وجهان ذكرهما المصنف.
(فرع)
الفرقة باللعان فسخ عندنا.
وقال أبو حنيفة: هي طلاق لانها فرقة من جهة الزوج تختص النكاح فكانت طلاقا كالفرقة بقوله أنت طالق.
ولنا أنها فرقة توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع، ولان اللعان ليس بصريح في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يكن طلاقا كسائر ما ينفسخ به النكاح وبهذا قال أحمد وأصحابه، واستدلوا كذلك بكونه لو كان طلاقا لوقع بلعان الزوج دون لعان المرأة.
(فرع)
قوله " إذا لاعن الزوج ثم أكذب نفسه الخ " فجملة ذلك أن الرجل إذا قذف امرأته ثم أكذب نفسه فلها عليه الحد، سواء أكذبها قبل لعانه أو بعده.
وقوله " أكذب نفسه " قال في المصباح شرح غريب الشرح الكبير للرافعي وأكذب نفسه وكذبها بمعنى اعترف بأنه كذب في قوله السابق قال الكسائي: وتقول العرب أكذبته بالالف إذا أخبرت بأن الذى حدث كذب.
انتهى وهذا أصرح ما في النعوت من حكاية غير الواقع، وترى الفقهاء ينزهون ألسنتهم فيما بينهم عن استعمال هذه الكلمة فيقولون عند احتمال الكذب: ليس الامر كذلك.
وعند احتمال الغلط أو التلبيس يقولون: لا نسلم ويشيرون إلى المطالبة بالدليل تارة والى الخطأ في النقل تارة والى التوقف تارة، فإذا أغلظوا في الرد قالوا ليس كذلك وليس بصحيح، وقد رأيت بعض من يتسمون بسمات العلم في عصرنا يتراشقون بالتكذيب وما هو أشد منه في أمور خلافية، فيخرجون عن آداب البحث وعن حياء أهل المجادة من حملة العلم العاملين ونعود فنقول وجب على الزوج حد القذف بعد الاكذاب، وبهذا قال أحمد وأبو ثور وأصحاب الرأى ومالك ولا نعلم لهم مخالفا، وذلك لان اللعان أقيم مقام البينة في حق الزوج فإذا أكذب نفسه بان أن لعانها كذب وزيادة في هتكها وتكرار لقذفها فلا أقل من أن يجب الحد الذى كان واجبا بالقذف المجرد للحرة البالغة،(17/453)
فالصبية ليست محصنة وكذلك غير الحرة، فإن عاد عن اكذاب نفسه وقال لى بينة أقيمها بزناها أو أراد اسقاط الحد عنه باللعان لم يسمع من خلافه، وهذا فيما إذا كانت المقذوفة محصنة، فإن كانت على محصنة فعليه التعزير، وفى ذلك كله يلحقه نسب الولد، سواء كان الولد حيا أو ميتا، غنيا أو فقيرا، وبهذا قال أحمد
وأبو ثور.
وقال الثوري: إذا استلحق الولد الميت نظرنا - فإن كان ذا مال - لم يلحقه لانه انما يدعى مالا، وان لم يكن ذا مال لحقه وقال أصحاب الرأى: ان كان الولد الميت ترك ولدا ثبت نسبه من المستلحق وتبعه نسب ابنه، وان لم يكن ترك ولدا لم يصح استلحاقه ولم يثبت نسبه ولا يرث منه المدعى شيئا لان نسبه منقطع بالموت فلم يصح استلحاقه، فإذا كان له ولد كان مستلحقا لولده وتبعه نسب الميت دليلنا أن هذا ولد نفاه باللعان فكان له استلحاقه كما لو كان حيا أو كان له ولد ولان ولد الولد يتبع نسب الولد، وقد جعل ابو حنيفة نسب الولد تابعا لنسب ابنه فجعل الاصل تابعا للفرع وذلك باطل فأما قول الثوري انه انما يدعى مالا، قلنا انما يدعى النسب والميراث والمال تبع له، فان قيل هو متهم في أن غرضه حصول الميراث.
قلنا ان النسب لا تمنع التهمة لحوقه، بدليل انه لو كان له أخ يعاديه فأقر بابن لرمه وسقط ميراث أخيه ولو كان الابن حيا وهو غنى والاب فقير فاستلحقه فهو متهم في ايجاب نفقته على ابنه ويقبل قوله، فكذلك ههنا، ثم كان ينبغى أن يثبت النسب ههنا لانه حق للولد ولا تهمة فيه، ولا يثبت الميراث المختص بالتهمة، ولا يلزمه من انقطاع التبع انقطاع الاصل ونخلص من كل ما سبق أن أربعة أحكام تعلقت باللعان، حقان عليه وحقان له، فما عليه وجوب الحد ولحوق النسب، وما له الفرقة والتحريم المؤبد، فإذا أكذب نفسه قبل قوله فيما عليه، فلزمه الحد والنسب فلم يقبل فيما له، فلم تزل الفرقة أو التحريم المؤبد وعن أحمد رواية: ان أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله.
قال ابن قدامة هي رواية شاذة شذ بها حنبل عن أصحابه(17/454)
(فرع)
للمرأة في ملاعنته حق نفى الزنا ودرء الحد عن نفسها فإن هي أكذبت نفسها بعد أن لاعنته وجب أن يقام الحد عليها لان حق الزنا عليها قد أضاعته بلعانها فعاد بإكذابها.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن مات الزوج قبل اللعان وقعت الفرقة بالموت وورثته الزوجة لان الزوجية بقيت إلى الموت، فإن كان هناك ولد ورثه، لانه مات قبل نفيه، وما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها سقط بموته، لانه اختص ببدنه وقد فات، وإن ماتت الزوجة قبل لعان الزوج وقعت الفرقة بالموت وورثها الزوج، لان الزوجية بقيت إلى الموت، وإن كان هناك ولد فله أن يلاعن لنفيه، لان الحاجة داعية إلى نفيه، فإن طالبه ورثتها بحد القذف لاعن لاسقاطه، ولا يسقط من الحد لو لم يلاعن شئ لحقه من الارث كما يسقط ما لها عليه من القصاص، لان القصاص ثبت مشتركا بين الورثة، فإذا سقط ما يخصه بالارث سقط الباقي وحد القذف يثبت جميعه لكل واحد من الورثة، ولهذا لو عفا بعضهم عن حقه كان للباقين أن يستوفوا الجميع، فان مات الولد قبل أن ينفيه باللعان جاز له نفيه باللعان، لانه يلحقه نسبه بعد الموت فجاز له نفيه، وإذا نفاه لم يرثه لانا تبينا باللعان أنه لم يكن ابنه.
(فصل)
إذا قذف امرأته وامتنع من اللعان فضرب بعض الحد ثم قال أنا ألاعن سمع اللعان وسقط ما بقى من الحد، وكذلك إذا نكلت المرأة عن اللعان فضربت بعض الحد، ثم قالت أنا ألاعن سمع اللعان وسقط بقية الحد، لان ما أسقط جميع الحد أسقط بعضه كالبينة
(فصل)
إذا قذفها ثم تلاعنا ثم قذفها نظرت - فان كان بالزنا الذى تلاعنا
عليه - لم يجب عليه حد لان اللعان في حقه كالبينة، ولو أقام البينة على القذف ثم أعاد القذف لم يجب الحد، فكذلك إذا لاعن وإن قذفها بزنا آخر ففيه وجهان
(أحدهما)
انه لا يجب الحد، لان اللعان في حقه كالبينة، ثم بالبينة يبطل إحصانها فكذلك باللعان
(والثانى)
يجب عليه(17/455)
الحد، لان اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته إلى قذف الزوجة، وقد زالت الزوجية باللعان فزالت الحاجة إلى القذف فلزمه الحد، وان تلاعنا ثم قذفها أجنبي حد، لان اللعان حجة يختص بها الزوج فلا يسقط به الحد عن الأجنبي فان قذفها ولاعنها ونكلت عن اللعان فحدت فقد اختلف أصحابنا فيها، فقال أبو العباس: لا يرتفع احصانها إلا في حق الزوج، فان قذفها أجنبي وجب عليه الحد لان اللعان حجة اختص بها الزوج فلا يبطل به الاحصان إلا في حقه.
وقال أبو إسحاق: يرتفع احصانها في حق الزوج والاجنبى، فلا يجب على واحد منهما الحد بقذفها، لانها محدودة في الزنا فلم يحد قاذفها، كما لو حدت بالاقرار أو البينة (الشرح) الاحكام: إذا قذفها ثم مات قبل لعانها أو قبل اتمام لعانه سقط اللعان ولحقه الولد وورثته في قول جميع الفقهاء، ولان اللعان لم يوجد فلم يثبت حكمه.
وان مات بعد أن أكمل لعانه فقد بانت بلعانه ولو لم تلاعن هي، وسقط التوارث بينهما وانتفى الولد ولزمها الحد الا أن تلتعن وقال أحمد: ان مات بعد أن أكمل لعانه وقبل لعانها فكمن مات قبل أن يتم لعانه أو قبل أن يلاعن يسقط اللعان ويلحقه الولد وترثه.
لان أحكام اللعان مترتبة على اللعان عنده.
وتمامه أن تلاعن هي دليلنا قول ابن عباس رضى الله عنهما: ان التعن لم يرث.
ونحو ذلك عن الشعبى
وعكرمة.
لان اللعان يوجب فرقة تبين بها فيمنع التوارث.
كما لو التعن في حياتها وقال أحمد: ان مات على الزوجية فورثها كما لو لم يلتعن.
ولان اللعان سبب الفرقة فلم يثبت حكم بعد موتها كالطلاق.
وفارق اللعان في الحياة فانه يقطع الزوجية.
على أنهم قالوا: لو لاعنها ولم تلتعن هي لم تنقطع الزوجية أيضا فههنا أولى.
وقال الشافعي رضى الله عنه " ان كان ثم ولد يريد نفيه فله أن يلتعن " وهذا ينبنى على أصل - وهو أن اللعان انما يكون بين الزوجين - فان لعان الرجل وحده يثبت به الحكم.
وعند أحمد بخلاف ذلك.
فان كانت طالبت بالحد في حياتها - فان كان للمرأة وارث غير الزوج - فله اللعان ليسقط الحد عن(17/456)
نفسه، وإلا فلا لعدم الحاجة إليه.
وقال أصحاب أحمد: إن أولياءها يقومون في الطلب به مقامها - فإن طولب به فله إسقاطه باللعان وإلا فلا، لانه لا حاجة إليه مع عدم الطلب فإنه لا حد عليه (فرع)
إذا مات المقذوف قبل المطالبة بالحد فإنه يورث كالمطالب سواء بسواء، لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ تَرَكَ حقا فلورثته " ولانه حق ثبت في الحياة يورث إذا طالب به فيورث وإن لم يطالب به كحق القصاص وقال أحمد: إنه حد تعتبر فيه المطالبة فإذا لم يوجد الطلب من المالك لم يجب كحد القطع في السرقة.
(فرع)
فإن لم يكذب نفسه ولكن لم يكن له بينة ولم يلاعن أقيم عليه، فإن أقيم عليه بعضه وقال أنا ألاعن قبل منه لان اللعان يسقط جميع الحد فيسقط بعضه كالبينة، فإن ادعت زوجته أنه قذفها بالزنا فأنكر فأقامت عليه بينة أنه قذفها بالزنا، فقال صدقت البينة وليس ذلك قذفا، لان القذف الرمى بالزنا كذبا وأنا صادق فيما رميتها به لم يكن ذلك إكذابا لنفسه لانه مصر على رميها بالزنا، وله
إسقاط الحد باللعان، ومذهب أحمد رضى الله عنه في هذا كمذهبنا وكذلك نقول فيمن نكلت عن اللعان فضربت بعض الحد ثم قالت أنا ألاعن فإنه يسقط ما بقى من الحد، لان اللعان يسقط الحد كله، فلان يسقط بعضه أولى ولان اللعان قام مقام البينة فأوقف الحد وأسقط باقيه (مسألة) إن قذفها في الزوجية ولاعنها ثم قذفها بالزنا الاول فلا حد عليه لانه قد حققه بلعانه، وعند أصحاب أحمد يحتمل أن يحد كما لو قذفها به أجنبي.
أما إذا قذفها بزنا آخر ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يجب عليه الحد، لان الله تعالى قال " والذين يرمون المحصنات " فاشترط لاقامة الحد بالقذف أن تكون المقذوفة منعوتة بالاحصان، فإذا لاعنها فقد زال إحصانها، لان اللعان كالبينة.
(والثانى)
يجب عليه الحد، لان اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته إليه، وقد صارت باللعان أجنبية عنه فزالت الحاجة إلى القذف، وفى القذف بغير حاجة إشاعة للفاحشة بين الذين آمنوا فوجب الحد.
وبهذا قال(17/457)
ابن عباس والزهرى والشعبى والنخعي وقتادة ومالك وأبو عبيد وأحمد بن حنبل، (فرع)
إذا قذفها أجنبي بعد لعانه فإن كانت قد درأت عن نفسها الحد باللعان أقيم على الأجنبي الحد قولا واحدا، وان نكلت فقد اختلف أصحابنا، فعلى قول أبى العباس بن سريج يجب حده لانه لم يرتفع احصانها الا في حق الزوج.
وعلى قول أبى اسحاق المروزى يرتفع احصانها مطلقا فلا يجب على أحد الحد بقذفها، لانها محدودة باللعان كما لو حدت بالاقرار أو بالبينة قال ابن قدامة: فأما ان أقام بينة فقذفها قاذف بذلك الزنا أو بغيره فلا حد عليه لانه قد زال احصانها، ولان هذا القذف لم يدخل المعرة عليها، وانما دخلت المعرة بإقامة البينة، ولكنه يعزر تعزير السب والاذى.
وهكذا كل من قامت البينة بزناه لا حد على قاذفه.
وبه قال الشافعي وأصحاب الرأى، ولكنه يعزر تعزير الاذى والسب ولا يملك الزوج اسقاطه عن نفسه باللعان لما قدمناه.
اه.
والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تم الجزء السابع عشر ويليه الجزء الثامن عشر وأوله كتاب الايمان(17/458)
التكملة الثانية
المجموع شرح المهذب
للامام أبي زكريا محيى الدين بن شرف النووي
المتوفى سنة 676 هـ
الجزء الثامن عشر
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع(18/1)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الأيمان
(باب من تصح يمينه وما تصح به اليمين)
تصح اليمين من كل مكلف مختار قاصد إلى اليمين لقوله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " وأما غير المكلف كالصبي والمجنون والنائم فلا تصح يمينه لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يفيق " ولانه قول يتعلق به وجوب حق فلا يصح من غير مكلف كالبيع، وفيمن زال عقله بالسكر طريقان على ما ذكرناه في الطلاق.
وأما المكره فلا تصح يمينه لما روى واثلة بن الاسقع وأبو أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال " ليس على مقهور يمين " ولانه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح، كما لو أكره على كلمة الكفر.
وأما من لا يقصد اليمين وهو الذي يسبق لسانه إلى اليمين، أو أراد اليمين على شئ فسبق لسانه إلى غيره فلا تصح يمينه لقوله عز وجل " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " وروى
عن أبن عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أنهم قاوا " هو قول الرجل لا والله، ويلي والله " ولان ما سبق إليه اللسان من غير قصد لا يؤاخذ به، كما لو سبق لسانه إلى كلمة الكفر.
(الشرح) قوله تعالى " باللغو " مصدر لغا يلغو ويلغي وبابه نصر وعلم إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام أو بما لاخير فيه.
قال ابن بطال بما لاقصد له فيه.
وفي الحديث " إذا قلت لصاحبك والامام يخطب أنصت فقد لغوت " ولفظ أبى هريرة " فقد لغيت " قال العجاج ورب أسراب حجيج كظئم عن اللغا ورفث التكلم وقال الفرزدق: ولست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم(18/3)
واختلف في سبب نزول الآية، فقال ابن عباس سبب نزولها الرهط الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم، حلفوا على ذلك، فلما نزلت " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " قالوا كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت هذه الآية.
قال القرطبي والمعنى على هذا القول، إذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها، أي أسقطتم حكمها بالتكفيرة وكفرتم فلا يؤاخذكم الله بذلك، وإنما يؤاخذكم بما أقمتم عليه فلم تلغوه - أي فلم تكفروا - فبان بهذا أن الحلف لا يحرم شيئا.
وهو دليل الشافعي رضى الله عنه على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال وأن تحريم الحلال لغو كما أن تحليل الحرام لغو.
اه وروى أن عبد الله بن رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد ساعة من الليل فقال أعشيتم ضيفي؟ فقالوا انتظرناك، فقال لا والله لا آكله الليلة فقال ضيفه وما أنا بالذي يأكل.
وقال أيتامه ونحن لا نأكل، فلما رأى ذلك أكل وأكوا، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له " أطعت الرحمن
وعصيت " فنزلت الآية وفي البخاري في آية البقرة " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يوأخذكم بما كسبت قلوبكم " عن عائشة رضى الله عنها أنها نزلت في قول الرجل لا والله وبلى والله.
وقيل اللغو ما يحلف به على الظن فيكون بخلافه.
قاله مالك حكاه ابن القاسم عنه.
قال القرطبي وقال به جماعة من السلف قرأ حمزة والكسائي وشعبة عن عاصم (عقدتم) بالتخفيف بلا ألف، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر " عاقدتم " بألف بوزن فاعل (1) وقرأه الباقون بالتشديد من غير ألف.
قال مجاهد معناه تعمدتم أي قصدتم.
وروى عن أبن عمر أن التشديد يقتضي التكرار، فلاتجب عليه الكفارة إلا إذا كرر، وهذا يرده ماروى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنى والله، ان شاء الله لاأحلف على يمين فأرى غيرها
__________
(1) وذلك لا يكون إلا من اثنين في الاكثر من حلف لاجله في كلام وقع منه أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الايمان(18/4)
خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر قال أبو عبيد التشديد يقتضي التكرير مرة بعد مرة، ولست آمن أن يلزم من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مرارا وهذا قول خلاف الاجماع كما يقول القرطبي.
وروى عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين، فإذا وكد اليمين أعتق رقبة.
قيل لنافع ما معنى وكد اليمين؟ قال أن يحلف على الشئ مرارا وقال الجكني في أضواء البيان والتضعيف والمفاعلة معناهما مجرد الفعل بدليل
قراءة (عقدتم) بلا ألف ولا تضعيف، والقراءات يبين بعضها بعضا، وما في قوله (بما عقدتم) مصدرية على التحقيق لا موصولة، كما قاله بعضهم زاعما أن ضمير الربط محذوف اه وقال القرطبي في الآية (عقدتم) مخفف القاف من العقد، والعقد على ضربين حسى كعقد الحبل وحكمي كعقد البيع.
قال الشاعر (1) قوما إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا فاليمين المنعقدة منفلعة من العقد، وهي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل ففعل أو ليفعلن فلا يفعل كما تقدم، فهذه التي يحلها الاستثناء والكفارة على ما يأتي.
وحديث رفع القلم وقع في رواية لاحمد في مسنده وأبى داود والنسائي والحاكم في الصحيح عن عائشة بلفظ " رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر " وفي رواية لهم عن علي وعمر رضى الله عنهما " رفع القلم عن ثلاثة، عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي
__________
(1) هذا البيت للحطيئة والعناج ككتاب حبل يشد في أسفل الدلو العظيمة، ويطلق على الامر وملاكه.
وقوله " لا عناج له " أرسل بلا روية، والكرب بالتحريك أصول السعف الغلاظ العراض، والحبل يشد في وسط العراقى ليلى الماء فلا يعفن الحبل الكبير؟ المطيعى(18/5)
حتى يحتلم " والرفع لا يقتضى تقدم وضع كما في قول يوسف عليه السلام " انى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله " وهو لم يكن على ملتهم أصلا.
وكذا في قول شعيب " قد افترينا على الله كذبا ان عدنا في ملتكم بعد اذنجانا الله منها " ومعلوم أن شعيبا لم يكن على ملتهم قط.
وأخرجه الدارقطني: انا أبو بكر النيسابوري
نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم نا عبد الله بن وهب أخبر جرير بن حازم عن سليمان ابن مهران عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال " مر علي بن أبي طالب بمجنونة بني فلان قد زنت فأمر عمر بزحمها فردها على وقال لعمر: أما تذكر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: رفع القلم عن ثلاثة.
عن المجنون المغلوب على عقله.
وعن النائم حتى يستيقظ.
وعن الصبي حتى يحتلم؟ قال: صدقت فخلى عنها ".
وأخرج البخاري قول على تعليقا في باب الطلاق والرجم.
ووصله البغوي في الجعديات عن علي بن الجعد عن شعبه عن الاعمش عن أبى ظبيان عن ابن عباس أن عمر أتى بمجنونة قد زنت وهي حبلى فأراد أن يرجمها فقال له علي: أما بلغك أن القلم قد وضع عن ثلاثة فذكره وتابعه ابن نمير ووكيع وغير واحد عن الاعمش ورواه جرير بن حازم عن الاعمش فصرح فيه بالرفع.
أخرجه أبو داود وابن حبان من طريقه.
وأخرجه النسائي من وجهين آخرين عن أبي ظبيان مرفوعا وموقوفا لكن لم يذكر فيهما ابن عباس جعله عن أبي ظبيان عن على.
ورجح الموقوف على المرفوع.
ولفظ الحديث المرفوع " مر بمجنونة بنى فلان قد زنت فأمر عمر برجمها فردها علي وقال لعمر: أما تذكر " الحديث.
ورواية جرير بن حازم متصل لكن أعله النسائي بأن جرير بن حازم حدث بمصر بأحاديث غلط فيها.
وفي رواية أبي داود والنسائي أتى عمر بامرأة فذكر الحديث وفيه فخلى علي سبيلها.
فقال عمر، ادعو إلى عليا فقال: يا أمير المؤمنين أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إلخ.
أما حديث واثلة وأبي أمامه فقد أخرجه الدارقطني: نا أبو بكر محمد بن الحسن المقري نا الحسين بن ادريس عن خالد بن الهياج نا أبى عن عنبسه بن عبد الرحمن عن العلاء عن مكحول عن واثلة بن الاسقع وعن أبي أمامه قَالَا " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(18/6)
صلى الله عليه وسلم: ليس على مقهور يمين " هكذا أخرجه الدارقطني وفي اسناده عنبسة.
قال البخاري: تركوه وروى الترمذي عن البخاري ذاهب الحديث.
وقال أبو حاتم: كان يضع الحديث أما جده عنبسة بن سعيد بن العاص فثقة تابعي كان أحد الاشراف يروى عن أبى هريرة وأنس وثقه ابن معين وأبو داود، وأما حفيده هذا فقد قال في التنقيح في حديث: ليس على مقهور يمين حديث منكر بل موضوع، وفيه جماعة ممن لا يجوز الاحتجاج بهم اه.
والحسين بن ادريس عن ابن الهياج.
قال ابن أبى حاتم كتب إلى بجزء من حديثه فأول حديث فيه باطل والثاني باطل والثالث ذكرته لعلى بن الجنيد فقال أحلف بالطلاق أنه حديث ليس له أصل.
وكذا هو عندي فلا أدرى البلاء منه أو من خالد بن هياج اه من الميزان.
أما الاحكام فإن اللغو ما يجرى على لسان الانسان من غير قصد كقوله: لا والله وبلى والله، وبهذا قالت عائشة في احدى الروايتين عنها.
وروى عن ابن عمر وابن عباس في أحد قوليه والشعبي وعكرمة في أحد قوليه وعروة وأبى صالح والضحاك في أحد قوليه وأبى قلابة والزهري كما جاء في ابن كثير والقرطبي وأضواء البيان وغيرها وذهب مالك إلى أن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده فيظهر نفيه، وقال انه أحسن ما سمعه في معنى اللغو، وهو مروي أيضا عن عائشة وأبى هريرة وابن عباس في أحد قوليه، وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد في أحد قوليه وابراهيم النخعي في أحد قوليه، والحسن وزرارة بن أوفى وأبى مالك وعطاء الخراساني وبكر بن عبد الله وأحد قولى عكرمة وحبيب بن أبى ثابت والسدى ومكحول ومقاتل وطاوس وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن سعيد وربيعة.
وقال في أصواء البيان والقولان متقاربان واللغو يشملهما، لانه في الاول لم يقصد عقد اليمين أصلا، وفي الثاني لم يقصد الا الحق والصواب.
قال أبو هريرة: إذا حلف الرجل على الشئ لا يظن الا أنه اياه، فإذا ليس هو فهو لغو، وليس فيه كفارة.
وقال الحنابلة ان نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه سواء موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا له(18/7)
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا عبرة بالنية، والسبب فيما يخالف لفظه لان الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين لفظه، فلو أحنثناه على ما سواه لاحنثناه على ما نوى لا على ما حلف، ولان النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك لا يحنث بمخالفتها.
(فرع)
من ذهب عقله بالسكر فحلف هل ينعقد يمينه؟ وجهان، أصحهما: ينعقد للتغليظ عليه، وقد مضى بحيث ضاف له في الطلاق فارجع إليه: (فرع)
قال الصنعانى في سبل السلام في حديث عائشة الذي أخرجه البخاري موقوفا وأخرجه أبو داود مرفوعا في قوله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " هو قول الرجل لا والله وبلى والله، قال: فيه دليل على أن اللغو من الايمان مالا يكون عن قصد الحلف، وإنما جرى على اللسان من غير إرادة الحلف وإلى تفسير اللغو بهذا ذهب الشافعي وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وغيرهما من الصحابة وجماعة من التابعين، وذهب الهادوية والحنفية إلى أن لغو اليمين أن يحلف على الشئ يظن صدقه فينكشف خلافه، وذهب طاوس إلى أنها الحلف وهو غضبان، ثم قال: وتفسير عائشة أقرب لانها شاهدت التنزيل وهي عارفة بلغة العرب.
(مسألة) قوله: وأما المكره فلا تصح يمينه، وقد استدل المصنف بحديث واثلة وأبى أمامة، وقد أوضحنا أنه يدور بين النكارة والوضع، فلا يستحق الاستدلال به، وأما الدليل الصحيح السليم الصالح للتمسك به فقوله، ولانه قول
حمل عليه بغير حق فلم يصح كما لو أكره على كلمة الكفر، وهذا صحيح إذا أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشى على نفسه الهلاك أنه لاإثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان، ولاتبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر هذا قول مالك والشافعي والكوفيين غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الاسلام، وتبين منه إمرأته ولا يصلى عليه إن مات ولا يرث أباه إن مات مسلما.
قال القرطبي: وهذا قول يرده الكتاب والسنة قال تعالى " إلا من أكره " الآية وقال " الا أن تتقوا منهم تقاة " وقال " الا المستضعفين من الرجال والنساء(18/8)
واولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون الا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به، قاله البخاري، فلما سمح الله عز وجل بالكفر به لمن أكره وهو أصل الشريعة ولم يؤاخذ به حمل عليه أهل العلم فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم، وبه جاء الاثر الْمَشْهُورِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ويقول القاضي ابن العربي: والخبر وان لم يصح سنده فان معناه صحيح باتفاق من العلماء، وذكر أبو محمد عبد الحق أن اسناده صحيح قال: وقد ذكره أبو بكر الاصيلي في الفوائد وابن المنذر في الاقناع.
إذا ثبت هذا: فإن يمين المكره غير لازمة عند مالك والشافعي وأبى ثور وأكثر العلماء قال ابن الماجشون وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذا أكره على اليمين، وقال أصبغ: بقوله، وقال مطرف: ان أكره على اليمين
فيما هو لله معصية أو ليس في فعله طاعة ولا معصية فاليمين فيه ساقطة، وأن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذوا لوالى رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق لا يشرب الخمر أو لا يفسق أولا يغش في عمله أو الوالد يحلف ولده تأديبا له فإن اليمين تلزم، وان كان المكره قد أخطا فيما يكلف من ذلك، وقال بهذا ابن حبيب وقال أبو حنيفة ومن أتبعه من الكوفيين انه ان حلف ألا يفعل ففعل حنث، قالوا لان المكره له أن يورى في يمينه كلها فلما لم يور ولاذهبت نيته إلى خلاف ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين.
قال القاضي أبو بكر بن العربي.
ومن غريب الامر أن علماء - يعني علماء المالكية - اختلفوا في الاكراه على الحنث هل يقع به أم لا؟ وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم، لا كانت هذه المسألة ولا كانوا، وأى فرق يا معاشر أصحابنا بين الاكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع: فاتقوا الله وراجعوا بصائركم ولا تغتروا بهذه الرواية فإنها وصمة في الدراية اه.(18/9)
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ويصح اليمين على الماضي والمستقبل، فان حلف على ماض وهو صادق فلا شئ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ اليمين على المدعي عليه، ولايجوز أن يجعل اليمين عليه إلا وهو صادق، فدل على أنه يجوز أن يحلف على ما هو صادق فيه.
وروى محمد بن كعب القرظي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال وهو على المنبر وفي يده عصا " يأ أيها الناس لا يمنعكم اليمين عن أخذ حقوقكم فو الذي نفسي بيده أن في يدي عصا " وان كان كاذبا وهو أن يحلف على أمر أنه كان ولم يكن أو على أمر أنه لم يكن وكان أثم بذلك وهى اليمين الغموس، والدليل عليه
ماروى عن الشعبي رضى الله عنه عن عبد الله بن عمر قال " جاء رجل أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يارسول الله ما الكبائر؟ قال الشرك بالله.
قال ثم ماذا؟ قال عقوق الوالدين، قال ثم ماذا؟ قال اليمين الغموس " قيل للشعبي ما اليمين الغموس قال الذي يقتطع بها مال إمرئ مسلم وهو فيها كاذب.
وروى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ " من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال إمرئ مسلم لقى الله عز وجل وهو عليه غضبان " وإن كان على مستقبل نظرت - فإن ان على أمر مباح - ففيه وجهان.
(أحدهما)
الاولى أن لا يحنث لقوله عز وجل " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " (والثاني) أن الاول أن يحنث لقوله عز وجل " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " فإن حلف على فعل مكروه أو ترك مستحب، فالاولى أن يحنث لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير ".
(الشَّرْحُ) قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ اليمين على المدعى عليه، وذلك لحديث البينة على من ادعى واليمين على المدعى عليه.
وقد مضى تخريجه في البيوع في اختلاف المتايعين.(18/10)
وحديث الشعبى عن ابن عمر وأخرجة البخاري باللفظ الذي ساقه المصنف وقوله " قلت " ظاهره أن السائل عبد الله بن عمرو راوي الحديث والمجيب هو النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون السائل غير عبد الله لعبد الله وعبد الله المجيب، والاول أظهر وقال الشيخ الخولى في تعليقه على سبل السلام: الذي حققه الحافظ في الفتح
وحمد الله عليه أن السائل فراس والمسؤول عامر الشعبي.
وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجه عن عبد الله بن مسعود والاشعث بن قيس بلفظ " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان " وحديث أم سلمه رضى الله عنها أخرجه الطبراني باللفظ الذي ساقه المصنف ويؤخذ على المصنف استشهاده برواية الطبراني، مع أنه ورد في الصحيحين عن عبد الرحمن بن سمرة قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فاءت الذي هو خير وكفر عن يمينك " وفي لفظ عندهما " فكفر عن يمينك واءت الذي هو خير " وفي لفظ " إذا حلفت على يمين فكفر عن يمينك واءت الذي هو خير " رواه النسائي وأبو داود وهو صريح في تقديم الكفارة.
وأخرجه مسلم عن عدى بن حاتم قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير " وفي لفظ رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن عدي بن حاتم أيضا " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي وصححه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير " وفي لفظ لمسلم " فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وأخرجه الشيخان عن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير تحللتها " وفي لفظ عند الشيخين " إلا كفرت عن يمينى وفعلت الذي هو خير " وعندهما " إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني "(18/11)
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عند أبي داود والنسائي مرفوعا " لانذر ولا يمين فيما لا تملك ولا في معصية ولا في قطيعة رحم.
ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها " وذكره البيهقى وقال لم يثبت وقال أبو داود: الاحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم " وليكفر عن يمينه " إلا مالا يعبأ به، قال الحافظ في الفتح: ورواته لا بأس بهم.
وقد استدل بحديث أم سلمة على أن الكفارة يجب تقديمها على الحنث، ولا يعارض ذلك الروايات التي سقناها وفيها " فاءت الذي هو خير وكفر " لان الواو لاتدل على ترتيب، إنما هي لمطلق الجمع، على أن الواو لو كانت تفيد ذلك لكانت الرواية التي فيها " فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير " تخالفها.
وكذلك بقية الروايات المذكورة آنفا، قال ابن المنذر: رأى ربيعة والاوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الامصار غير أهل الرأى أن الكفارة تجزى قبل الحنث، إلا أن الشافعي استثنى الصيام فقال لا يجزى إلا بعد الحنث.
وقال أصحاب الرأى: لاتجزئ قبل الحنث.
وعن مالك روايتان.
ووافق الحنفية أشهب عن المالكية وداود الظاهرى وخالفه ابن حزم، واحتج له الطحاوي بقوله تعالى (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) فإن المراد إذا حلفتم فحنثتم ورده مخالفوه فقالوا: إذا أردتم الحنث قال الحافظ بن حجر: وأولى من ذلك أن يقال التقدير أعم من ذلك، فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر، وسيأتى لهذا البحث مزيد في الكلام على الكفارة قوله " ويصح اليمين على الماضي والمستقبل " وجملة ذلك أن اليمين على الماضي تنقسم ثلاثة أقسام، ما هو صادق فيه فلا كفارة فيه إجماعا.
وما تعمد الكذب فيه فهو يمين الغموس، وقد اختلف في كفارتها وسيأتي بيانها، واليمين على المستقبل، وهو ما عقد عليه قلبه وقصد اليمين عليه ثم خالف فعليه الكفارة.
وما لم يعقد عليه قلبه ولم يقصد اليمين عليه، وانما جرت على لسانه فهو من لغو اليمين، وكلام عائشة يدل على هذا فإنها قالت: أيمان اللغو ما كان في المراء والمزاحة والهزل.(18/12)
وقال الثوري في جامعه: الايمان أربعة، يمينان يكفران، وهو أن يقول الرجل: والله لاأفعل فيفعل، أو يقول: والله لافعلن ثم لا يفعل، ويمينان لا يكفران أن يقول والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول والله لقد فعلت وما فعل.
(قلت) ونحن ننازع الثوري في هذا وإن خالفنا في هذا النزاع من وافق الثوري على ما ذهب كالامام أحمد والامام مالك وأصحاب الرأى وغيرهم.
ذلك أن الشعبي يقول بما رواه الدارقطني في سننه حدثنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثنا خلف بن هشام ثنا عبثر عن ليث عن حماد عن ابراهيم بن علقمة عن عبد الله قال: الايمان أربعة يمينان يكفران ويمينان لا يكفران وذكرهن قال المروزى " أما اليمينان الاوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان، وأما اليمينان الاخريان فقد اختلف فيهما أهل العلم، فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقا يرى أنه على ما حلف عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري وأصحاب الرأى.
وكذلك قال أحمد وأبو عبيد.
وقال الشافعي لاإثم عليه وعليه الكفارة.
ثم قال، وقد قال بعض التابعين بقول الشافعي ولكني أميل إلى قول مالك وأحمد هكذا نقله القرطبي في جامع أحكام القرآن واختلف في اليمين الغموس هل هي يمين منعقدة أم لا؟ فمذهبنا أنها يمين منعقدة لانها مكتسبة بالقلب معقودة بخبر مقرونة باسم الله تعالى وفيها الكفارة قال ابن المنذر، ذهب مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ المدينة إلى أنها يمين مكر
وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها.
وبه قال الاوزاعي ومن وافقه من أهل الشام، وهو قول الثوري وأهل العراق، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وأصحاب الرأى من أهل الكوفة ولنا أنها يمين مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى فوجب فيه الكفارة.
(مسألة) قال القرطبي الاخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين.
قال ابن العربي " الآية وردت بقسمين، لغو ومنعقدة، وخرجت على الغالب في أيمان الناس، فرع(18/13)
ما بعدها يكون مائة قسم، فإنه لم تعلق عليه كفارة قال القرطبي، قلت خرج البخاري عن عبد الله بن عمرو قَالَ، جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يارسول الله ما الكبائر؟ قال الاشراك بالله، قال ثم ماذا.
؟ قال عقوق الدين قال ثم ماذا؟ قال اليمين الغموس، قلت وما اليمين الغموس؟ قال التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب " وخرج مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل وان كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال وان كان قضيبا من أراك " أه قلت وظاهر مذهب أحمد أنه لا كفارة في اليمين الغموس، والغموس اسم فاعل لانها تغمس صاحبها في الاثم لانه حلف كاذبا على علم منه، وطعنة غموس أي نافذة، وأمر غموس أي شديد.
وقال ابن قدامة وروى عن أحمد أن فيها الكفارة.
وروى ذلك عن عطاء والزهرى والحكم والبتى، وهو قول الشافعي، لانه وجدت منه اليمين بالله تعالى والمخالفة مع القصد فلزمته الكفارة كالمستقبلة.
ثم قال ولنا أنها يمين غير منعقدة فلا توجب الكفارة كاللغو أو يمين على ماض فأشبهت اللغو.
(قلت) إن وجوب الكفارة عندنا لا يقلل من شأن الغموس، بل إن تعاظم الغموس يقتضى التغليظ على الحالف إذا أراد التوبة.
وفي أداء الكفارة إشعار كامل بدخوله ساحة التوبة، وبدون ذلك لا يكون (فرع)
قوله فإن كان على أمر مباح الخ " وجملة ذلك أن المباح مثل الحلف على فعل مباح أو تركه، والحلف على الخبر بشئ هو صادق فيه أو يغلب على ظنه الصدق فيه، فإن الله تعالى يقول " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " فإن كان على فعل شئ مباح أو تركه فإن فيه الكفارة إذا حنث في الابرار بالقسم.
قوله - فإن حلف على مكروه - ومثله إذا حلف على ترك مندوب.
قال الله تعالى " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس "(18/14)
وروينا أن أبا بكر الصديق رضى الله تعالى عنه حلف لا ينفق على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال، وكان من جملة أهل الافك الذين تكلموا في عائشة رضى الله عنها فأنزل الله تعالى " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا " واليمين على ذلك مانعة من فعل الطاعة أو حاملة على فعل المكروه فتكون مكروهة ويمكن أن يرد على هذا أنها لو كانت مكروهة لانكر النبي صلى الله عليه وسلم على الاعرابي الذي سأله عن الصلوات فَقَالَ: هَلْ عَلِيَّ غَيْرُهَا؟ فَقَالَ: لَا إلَّا أن تطوع فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ولان أنقص منها " ولم ينكر عليه بل قال " أفلح الرجل إن صدق " ونجيب بأنه لا يلزم من هذا جواز الحلف على
ترك المندوبات، إذ أن اليمين على ترك التطوع لا تزيد على تركها، ولو تركها لم ينكر عليه، ويكفي في ذلك بيان أن ما تركه تطوع، ولان هذه اليمين إن تضمنت ترك المندوب فقد تناولت فعل الواجب والمحافظة عليه كله بحيث لا ينقص منه شيئا، وهذا في الفضل يزيد على ما قابله من ترك التطوع، فيترجح جانب الاتيان بها على تركها فيكون من قبيل المندوب فكيف ينكر؟ ولان في الاقرار على هذه اليمين بيان حكم محتاج إليه ألا وهو بيان أن ترك التطوع غير مؤاخذ به، فلو أنكر على الحالف لحصل ضد هذا وتوهم كثير من الناس لحوق الاثم بتركه يفوت الغرض.
ومن قبيل المكروه الحلف في البيع والشراء ففي سنن ابن ماجه عن محمد بن إسحاق عن سعيد بن كعب بن مالك عن أبى قتادة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " إياكم والحلف فإنه ينفق ثم يمحق " أي منفقة للسلعة ممحقة للبركة.
قال المصنف رحمه الله.
(فصل)
وتكره اليمين بغير الله عزوجل، فإن حلف بغيره كالنبي والكعبة والآباء والاجداد لم تنعقد يمينه، لما روى ابن عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ كَانَ حالفا فلا يحلف الا بالله تعالى " وروى عن عمر رضى الله عنه قال " سمعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي(18/15)
فقال: إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فقال عمر رضى الله عنه: والله ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا " وان قال: إن فعلت كذا وكذا فأنا يهودى أو نصراني أو أنا برئ من الله أو من الاسلام لم ينعقد يمينه: لما روى بُرَيْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (من حلف أنه برئ من الاسلام، فإن كان كادبا فقد قال: وان كان صادقا فلم يرجع إلى الاسلام سالما) ولانه يمين بمحدث
فلم ينعقد كاليمين بالمخلوقات.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أخرجه أحمد ومسلم والنسائي ولفظه (من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم) وفي رواية عن ابن عمر عند أحمد والبخاري وَمُسْلِمٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ عمر وهو يحلف بأبيه فقال إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) .
وفي رواية عند الترمذي (أنه سمع رجلا يقول لا والكعبة، فقال لا تحلف بغير الله فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك) قال الترمذي حسن وصححه الحاكم والتعبير بقوله: كفر أو أشرك سيأتي بيانه قريبا.
وحديث عمر أخرجه البخاري في الايمان والنذور عن سعيد بن نمير ومسلم فيه عن أبى الطاهر وأبو داود فيه عن أحمد بن حنبل: وعن أحمد بن يونس والنسائي فيه عن عمرو بن عثمان، وعن محمد بن عبد الله بن يزيد وعن سعيد بن عبد الرحمن وابن ماجه في الكفارات عن محمد بن يحيى بن أبى عمر وهو جزء من حديث ابن عمر الذي سقناه آنفا وليس فيه زيادة (ما حلف بها ذاكرا ولا آثرا) قال ابن الاثير في النهاية: وفي حديث عمر (ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا) أي ما تكلمت به حالفا من قولك ذكرت لفلان كذا وكذا أي قلته له، وليس من الذكر بعد النسيان اه.
وقال ابن منظور في لسان العرب، وفي حديث عمر رضى الله عنه قال، قال أبو عبيد أما قوله ذاكرا فليس من الذكر بعد النسيان إنما أراد متكلما به كقولك(18/16)
ذكرت لفلان حديث كذا وكذا.
وقوله ولا آثرا يريد مخبرا عن غيرى أنه
حلف به يقول.
لاأقول إن فلانا قال وأبى لاأفعل كذا وكذا أي ما حلفت به مبتدئا من نفسي ولا رويت عن أحد أنه حلف بها، ومن هذا قيل حديث مأثور أي يخبر الناس به بعضهم بعضا، أي ينقله خلف عن سلف، يقال منه أثرت الحديث فهو مأثور وأنا آثر، قال الاعشى.
إن الذي فيه تماريتما بين للسامع والآثر اه (قلت) ومنه قوله تعالى (إن هذا إلا سحر يؤثر) أي يأخذه واحد عن واحد، ومثله قوله تعالى (أو أثارة من علم) .
أما حديث بريدة فقد أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وهو عندهم من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وقد صححه النسائي، وقد أخرج الشيخان وأحمد وأصحاب السنن إلا أبا داود عن ثابت بن الضحاك (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال من حلف على يمين بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال وأخرج النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لاتحفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) .
(أما الاحكام) فإن الحلف بغير الله تعالى وردت فيه أحاديث غير ما ذكرنا ما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر رفعه (من خلف بغير الله فقد كفر) وهو عند أحمد من هذا الوجه أيضا بلفظ (فقد كفر وأشرك) قال البيهقى لم يسمعه سعد بن عبيدة من أبن عمر، قال الحافظ ابن حجر قد رواه شعبة عن منصور عنه قال كنت عند ابن عمر ورواه الاعمش عن سعيد عن عبد الرحمن السلمى عن ابن عمر.
وفي التعبير بقوله كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك، وقد تمسك به من قال بالتحريم.
قال الامام الشوكاني، قال العلماء السر في الحلف بغير الله أن الحلف بالشئ يقتضى تعظيمه والعظمة في الحقيقة انما هي لله وحده، فلا يخاف الا بالله
وذاته وصفاته وعلى ذلك اتفق الفقهاء، واختلف هل الحلف بغير الله حرام(18/17)
أو مكروه.
للمالكية والحنابلة قولان، ويجعل ما حكاه ابن عبد البر من الاجماع على عدم جواز الحلف بغير الله على أن مراده بنفى الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه.
وقد صرح بذلك في موضع أخر أه.
وقال القرطبى: لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته.
وقال أحمد ابن حنبل: إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه لانه حلف بما لايتم الايمان إلا به فتلزمه الكفارة كما لو حلف بالله، وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما، وقد عده السيوطي من المتواتر في كتابه الازهار المتناثرة في الاحاديث المتواترة، وله شروط في التواتر انطبقت على أحاديث كثيره منها هذا الحديث (أنه صلى لله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بأبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) وهذا حصر في عدم الحلف بكل شئ سوى الله تعالى واسمائه وصفاته كما ذكرنا، ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالانداد ولا تحلفوا إلا بالله، ولا بالله إلا وأنتم صادقون) ثم ينتقض عليه بمن قال، وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه وقد حلف بما لايتم الايمان إلا به، وجمهور أصحابنا من الشافعية على أنه مكروه تنزيها وحزم ابن حزم بالتحريم.
وقال إمام الحرمين المذهب القطع بالكراهة، وجزم غيره بالتفصيل، فان اعتقد في المحلوف به ما يعتقد في الله تعالى كان بذلك الاعتقاد كافرا، ومذهب الهادوية أنه لا إثم في الحلف بغير الله ما لم يسو بينه وبين الله في التعظيم أو كان
الحلف متضمنا كفرا أو فسقا.
قال في الفتح: وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير الله: ففيه جوابان، أحدهما أن فيه حذفا والتقدير ورب الشمس ونحوه، والثاني أن ذلك يختص بالله فإذا أراد تعظيم شئ من مخلوقاته أقسم به، وليس لغيره ذلك: وأما ما وقع مما مخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم للاعرابي (أفلح وأبيه إن صدق) فقد(18/18)
أجيب عنه بأجوبة (الاول) الطعن في صحة هذه اللفظة كما قال أبن عبد البر إنها غير محفوظة وقال إن أصل الرواية أفلح والله إن صدق فصحفها بعضهم، والثاني أن ذلك كان يقع من العرب ويجرى على ألسنتهم من دون قصد للقسم، والنهى إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف، قاله البيهقى وقال النووي: إنه الجواب المرضى، والثالث انه كان يقع في كلامهم على وجهين للتعظيم والتأكيد.
والنهى انما وقع عن الاول، والرابع أن ذلك كان جائزا ثم نسخ، قاله الماوردى في الحاوي.
وقال السهيلي أكثر الشراح عليه، قال ابن العربي، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك، قال السهيلي، ولا يصح، لانه لَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يحلف بغير الله، ويجاب بأنه قبل النهى عنه غير ممتنع عليه، ولاسيما الاقسام القرآنية على ذلك النمط.
وقال المنذرى: دعوى النسخ ضعيفة لامكان الجمع ولعدم تحقق التاريخ.
والخامس أنه كان في ذلك حذف، والتقدير أفلح ورب أبيه، قاله البيهقى، والسادس أنه للتعجيب، قاله السهيلي (والسابع) أنه خاص به صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، والاحاديث كلها متظاهرة على أن الحلف بغير الله لا ينعقد
لان النهى يدل على فساد المنهى عنه: واليه ذهب الجمهور.
وقال ابن قدامة: ولايجوز الحلف بغير الله وصفاته نحو أن يحلف بأبيه أو الكعبة أو صحابي أو امام.
قال الشافعي أخشى أن يكون معصية، إلى أن قال: وأما قسم الله بمصنوعاته فإنما أقسم به دلالة على قدرته وعظمته ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، ولا وجه للقياس على اقسامه، وقد قيل ان في اقسامه اضمار القسم برب هذه المخلوقات، فقوله (والضحى) أي ورب الضحى اه.
(مسألة) في الرجل يقول هو يهودى أو نصراني، قال أبو حنيفة في الرجل يقول هو يهودى أو نصراني أو برئ من الاسلام أو من النبي أو من القرآن أو أشرك بالله أو أكفر بالله: انها يمين تلزم فيها الكفارة ولا تلزم فيما إذا قال(18/19)
واليهودية والنصرانية والنبي والكعبة، وإن كانت على صيغة الايمان ومتمسكه ما رواه الدارقطني عن أبي رافع أن مولانه أرادت أن تفرق بينه وبين أمراته فقالت: هي يوما يهودية ويوما نصرانية، وكل مملوك لهاحر، وكل مال لها في سبيل الله، وعليها مشى إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس وأم سلمة فكلهم قال لها: أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلى بينهما.
وخرج أيضا عنه قال: قالت مولاتي: لافرقن بينك وبين امرأتك، وكل مال لها في رتاج الكعبه وهي يوما يهودية ويوما مجوسية إن لم أفرق بينك وبين امرأتك، قال فانطلقت إلى أم سلمة فقلت إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين امرأتي، فقالت انطلق إلى مولاتك، فقل لها إن هذا لا يحل لك، قال فرجعت إليها ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب، فقال: هنها هاروت وماروت؟ فقالت: إنى جعلت كل مال لى في رتاج الكعبة، قال فمم تأكلين؟
قالت، وقلت أنا يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية، فقال إن تهودت قتلت، وإن تنصرت قتلت، وان تمجست قتلت، قالت فما تأمرني؟ قال تكفري عن يمينك، وتجمعين بين فتاك وفتاتك.
إذا ثبت هذا فقد قال ابن المنذر اختف فيمن قال أكفر بالله ونحوه إن فعلت كذا ثم فعل، فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الامصار لا كفارة عليه ولايكون كافرا إلا إذا أضمر ذلك بقلبه.
وقال الاوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق هو يمين وعليه الكفارة قال ابن المنذر والاول أصح لقوله صلى الله عليه وسلم من حلف بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ولم يذكر كفارة، زاد غيره، وكذا من قال بملة سوى الاسلام فهو كما قال، فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه.
ونقل ابن القصار من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لايجاب الكفارة بأن في اليمين الامتناع من الفعل، وتضمن كلامه بما ذكر تعظيما للاسلام، وتعقب ذلك بأنهم قالوا فيمن قال: وحق الاسلام، إذا حنث لا يجب عليه(18/20)
كفارة، فأسقطوا الكفارة إذا صرح بتعظيم الاسلام، وأثبتوها إذا لم يصرح قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشئ حقيقة هو القسم به وادخال بعض حروف القسم عليه كقوله والله، وقد يطلق على التعليق بالشئ يمين كقولهم من حلف بالطلاق، فالمراد تعليق الطلاق، وأطلق عليه الحلف لمشابهته لليمين في اقتضاء الحنث أو المنع، وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله كاذبا والكذب يدخل القضية الاخبارية التي يقع مقتضاها تارة، ولا يقع أخرى، وهذا بخلاف قولنا والله ما أشبهه، فليس الاخبار بها عن أمر خارجي، بل هي لانشاء القسم، فتكون صورة الحلف هنا على وجهين
(أحدهما)
أن تتعلق بالمستقبل، كقوله ان فعل كذا فهو يهودى.
(والثاني) تتعلق بالماضي كقوله ان كان كاذبا فهو يهودى، وقد يتعلق بهذا من لم ير فيه الكفارة بل جعل المرئب على كذبه، قال ولا يكفر في صورة الماضي الا ان قصدا التعظيم، وفيه خلاف عند الحنفية لكونه تنجيز معنى، فصار كما لو قال هو يهودي، ومنهم من قال: إذا كان لا يعلم أنه يمين لم يكفر، وان كان يعلم أنه يكفر بالحنث به كفر لكونه رضى بالكفر حيث أقدم على الفعل.
وقال بعض أصحابنا: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبا، والتحقيق التفصيل، فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر، وان قصد حقيقة التعليق فينظر - فإن كان أراد أن يكون متصفا بذلك كفر - لان ارادة الكفر كفر وان أراد البعد عن ذلك لم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيها؟ الثاني هو المشهور، وقوله في حديث بريدة، فإن كان كاذبا زاد في البخاري ومسلم " متعمدا " قال القاضي عياض: تفرد بهذه الزيادة سفيان الثوري وهى زيادة حسنة يستفاد منها أن الحالف متعمدا ان كان مطمئن القلب بالايمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر، وان قاله معتقدا لليمين بتلك الملة لكونه حقا كفر، وان قالها لمجرد التعظيم لها احتمل.
قال الحافظ وينقدح بأن يقال ان أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضا، قال ودعواه أن سفيان تفرد بها ان أراد بالنسبة إلى رواية مسلم(18/21)
فعسى أنه أخرجها من طريق شعبة عن أيوب وسفيان عن خالد الحذاء جميعا عن أبى قلابة، وقوله في الحديث " فهو كما قال ".
قال الحافظ في الفتح: يحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم كأنه قال: فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال ونظيره " من ترك الصلاة فقد كفر " أي استوجب عقوبة من كفر.
وقال ابن المنذر:
ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر، بل المراد أنه كاذب كذب المعظم لتلك الجهة اه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وتجوز اليمين بأسماء وصفاته، فإن حلف من أسمائه بالله انعقدت يمينه، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: والله لاغزون قريشا، والله لاغزون قريشا: والله لاغزون قريشا، ثم قال إن شاء " وإن حلف بالرحمن، أو بالاله أو بخالق الخلق أو بيازى النسمة أو بالحى القيوم، أن بالحى الذي لا يموت، أو برب السموات والارضين، أو بمالك يوم الدين، أو برب العالمين، وما أشبه ذلك من الاسماء التي لا يشاركه فيها أحد، انعقدت يمينه، لانه لا يسمى بها غيره ولا يوصف بها سواه، فصار كما لو قال والله، فإن حلف بالرحيم والرب والقادر والقاهر والملك والجبار والخالق والمتكبر، ولم ينوبه غير الله عز وجل انعقدت به يمينه، لانه لا تطلق هذه الاسماء الا عليه، وان نوى به غيره لم ينعقد، لانه قد تستعمل في غيره مع التقييد، لانه يقال، فلان رحيم القلب، ورب الدار، وقادر على المشي، وقاهر للعدو، وخالق للكذب، ومالك للبلد، وجبار متكبر، فجاز أن تصرف إليه بالنية.
فإن قال: والحى والموجود والعالم والمؤمن والكريم لم تنعقد يمينه الا أن ينوى به الله تعالى، لان هذه الاسماء مشتركة بين الله تعالى وبين الخلق مستعملة في الجميع استعمالا واحدا، فلم تنصرف إلى الله تعالى من غير نية كالكنايات في الطلاق، وان حلف بصفة من صفاته نظرت - فإن حلف بعظمة الله أو بعزته(18/22)
أو بكبريائه أو بجلاله أو ببقائه أو بكلامه - انعقدت يمينه، لان هذه الصفات
للذات لم يزل موصوفا بها، ولايجوز وصفه بضدها، فصار كاليمين بأسمائه وان قال الله وعلم الله ولم ينوبه المعلوم أو بقدرة الله ولم ينو به المقدور انعقدت يمينه، لان العلم والقدرة من صفات الذات لم يزل موصوفا بهما، ولايجوز وصفه بضدهما، فصارا كالصفات الستة، فإن نوى بالعلم المعلوم أو بالقدرة المقدور لم ينعقد يمينه، لانه قد يستعمل العلم في المعلوم، والقدرة في المقدور، ألا ترى أنك تقول اغفر لنا علمك فينا، وتريد المعلوم، وتقول انظروا إلى قدرة الله، وتريد به المقدور، فانصرف إليه بالنية.
فإن قال وحق الله وأراد به العبادات لم ينعقد يمينه، لانه يمين بمحدث، وان لم ينو العبادات انعقدت يمينه، لان الحق يستعمل فيما يستحق من العبادات ويستعمل فيما يستحقه الباري من الصفات وذلك من صفات الذات، وقد انضبم إليه العرف في الحلف به فانعقدت به اليمين من غير نية.
(فصل)
وان قال على عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته، فإن أراد به ما أخذ علينا من العهد في العبادات فليس بيمين لانه يمين بمحدث، وان أراد بالعهد استحقاقه ما تعبدنا به فهو يمين لانه صفة قديمة، وان لم يكن له نية ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يمين، لان للعادة الحلف بها والتغليظ بألفاظها كالعادة بالحلف بالله والتغليظ بصفاته كالطالب الغالب والمدرك المهلك (والثاني) ليس بيمين لانه يحتمل العبادات، ويحتمل ما ذكرناه من استحقاقه ولم يقترن بذلك عرف عام وانما يحلف به بعض الناس وأكثرهم لا يعرفونه فلم يجعل يمينا.
(الشرح) حديث ابن عباس: أخرجه أبو داود عن عكرمة عنه، قال أبو داود انه قد أسنده غير واحد عن عكرمة عن أبن عباس، وقد رواه البيهقى موصولا ومرسلا.
قال ابن أبى حاتم الاشبه ارساله.
وقال ابن حبان في الضعفاء رواه مسعر وشريك أرسله مرة ووصله أخرى.
أما اللغات: فقوله " أو ببارئ النسمة " أي خالق الانسان، والبارئ هو الذي خلق الخلق لا عن مثال.
قال في النهاية: ولهذه اللفظة من الاختصاص(18/23)
بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلما تستعمل في غير الحيوان، فيقال: برأ الله النسمة، وخلق السموات والارض اه والنسمة: النفس والروح، وكل دابة فيها روح فهى نسمة وإنما يريد الناس ومنه حديث على " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة " أي خلق ذات الروح، وكثيرا ما كان يقولها إذا اجتهد في يمينه، وقوله " خالي للكذب " يقال: خلق الافك واختلقه وتخلقه أي افتراه، ومنه قوله تعالى " وتخلقون إفكا " و " إن هذا إلا اختلاق " وأما الخالق بالالف واللام فإنها صفة لا تجوز لغير الله تعالى وأصل الخلق التقدير يقال: خلفت الاديم للسقاء إذا قدرته له، وخلق الرجل القول خلقا افتراه واختلقه مثله، والجبار الذي يقتل على الغصب.
وقال الخطابى: الجبار الذى جبر خلقه على ما أراد من أمره ونهيه، يقال: جبره السلطان وأجبره بمعنى ورأيت في بعض التفاسير عند قوله تعالى " وما أنت عليهم بجبار " أن الثلاثي لغة حكاها الفراء وغيره واستشهد لصحتها بما معناه أنه لايبنى فعال إلا من فعل ثلاثى نحو الفتاح والعلام، ولم يجئ من أفعل بالالف إلا دراك، فإن حمل جبار على هذا المعنى فهو وجه، والمقصود هنا عند المصنف من يقتل من غضب والمتكبر المتعظم، والكبر العظمة، وكذلك الكبرياء، والمؤمن سمى مؤمنا لانه آمن عباده من أن يظلمهم، ذكره الجوهرى في الصحاح وقوله " بعظمة الله أو بعزته أو بكبريائه أو بجلاله " العزة القوة والغلبة عن عز إذا غلب، ومنه " فعززناهما بثالث " أي قويناهما، وعز الشئ يعز من باب ضرب لم يقدر عليه.
وقوله " من صفات الذات " الذات حقيقة الشئ، والذات الالهية الحقيقة الثابتة بالربوبية والالوهيه اعتقادا بلا كيف ولا تشبيه ولا تجسيم.
أما الاحكام، ففي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " ان لله تسعه وتسعين اسما من أحصاها - وفي لفظ من حفظها - دخل الجنه " وقد ساق الترمذي وابن حبان الاسماء.
قال الحافظ في بلوغ المرام: والتحقيق أن سردها من بعض الرواة.
وقال(18/24)
الصنعانى: اتفق الحفاظ من أئمه الحديث أن سردها ادراج من بعض الرواة.
وظاهر الحديث أن أسماء الله الحسنى منحصره في هذا العدد بناء على القول بمفهوم العدد، ويحتمل أنه حصر لها باعتبار ما ذكر بعده من قوله " من أحصاها دخل الجنة " وهو خبر المبتدأ، فالمراد أن هذه التسعة والتسعين تختص بفضيلة من بين سائر أسمائه تعالى، وهو أن احصاءها سبب لدخول الجنة، والى هذا ذهب الاكثرون.
وقال النووي: ليس في الحديث حصر أسمائه تعالى.
وليس معناه أنه ليس له اسم غير التسعة والتسعين.
ويدل عليه ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من حديث ابن مسعود مرفوعا " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك " فإنه دل على أن له تعالى أسماء لم يعرفها أحد من خلقه بل استأثر بها ودل على أنه قد يعلم بعض عباده بعض أسمائه.
ولكنه يحتمل أنه من التسعة والتسعين.
وقد جزم بالحصر فيما ذكر أبو محمد بن حزم فقال: قد صح أن أسماءه لا تزيد على تسعه وتسعين شيئا لقوله صلى الله عليه وسلم " مائة الا واحدا " فنفى الزيادة وأبطلها.
ثم قال: وجاءت أحاديث في أحصاء التسعة والتسعين اسما مضطربة
لا يصح منها شئ أصلا.
وانما تؤخذ من نص القرآن، وَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سرد أربعة وثمانين اسما استخرجها من القرآن والسنه.
وقال الشارح تبعا لكلام المصنف في التلخيص: انه ذكر ابن حزم أحدا وثمانين اسما.
والذى رأيناه في كلام ابن حزم أربعة وثمانون وقد استخرج الحافظ بن حجر من القرآن فقط تسعه وتسعين اسما وسردها في التلخيص وغيره وذكر السيد محمد بن ابراهيم الوزير في ايثار الحق أنه تتبعها من القرآن فبلغت مائة وثلاثة وسبعين اسما.
وان قال صاحب الايثار مائة وسبعه وخمسين فإنا عددناها فوجدناها كما قلنا أولا.
وقد عرفت من كلام الحافظ ان حجر أن سرد الاسماء الحسنى المعروفة مدرج عند المحققين وأنه ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وذهب كثيرون إلى أن عددها مرفوع(18/25)
وقال ابن حجر: بعد نقله كلام العلماء في ذكر عدد الاسماء والاختلاف فيها ما لفظه: ورواية الوليد بن مسلم عن شعيب هي أقرب الطرق الواضحة، وعليها عول غالب من شرح الاسماء الحسنى ثم سردها على رواية الترمذي، وذكر اختلافا في بعض ألفاظها وتبديلا في إحدى الروايات للفظ بلفظ ثم قال: واعلم أن الاسماء الحسنى على أربعة أقسام.
(الاول) العلم وهو الله.
(والثاني) ما يدل على الصفات الثابته للذات كالعلم والقدير والسميع والبصير (والثالث) ما يدل على إضافة أمر إليه كالخالق والرازق.
(والرابع) ما يدل على سلب شئ عنه كالعلي والقدوس.
واختلف العلماء هل هي توقيفيه، يعنى أنه لا يجوز لاحد أن يشتق من الافعال الثابتة لله تعالى
اسما بل لا يطلق عليها إلا ما ورد به نص الكتاب والسنه؟ قال الفخر الرازي المشهور عن أصحابنا أنها توفيقيه.
وقالت المعتزلة والكراميه إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله جاز إطلاقه عليه.
وقال القاضى ابن العربي والغزالي الاسماء توقيفيه دون الصفات قال الغزالي: وكما أنه ليس لنا أن نسمى النبي صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه ولا أمه، ولا سمى به نفسه كذلك في حق الله تعالى، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يطلق عليه تعالى اسم أو صفة توهم نقصا، فلا يقال: ماهد ولا زارع ولا فالق: وان جاء في القرآن " فنعم الماهدون " " أم نحن الزراعون " " فالق الحب والنوى " ولايقال ماكر ولابناء: وإن ورد " ومكروا ومكر الله " " والسماء بنيناها ".
وقال القشيرى: الاسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة فكل اسم ورد فيها وجب إطلاقه وما لم يرد لم يجز ولو صح معناه (قلت) من أمثلة الاسماء التي يخترعها العامه وأنصاف المتعلمين ما سمعت بعضهم وقد وقع في محنه مما يمتحن بها أهل العزائم ينادى قائلا " يامهون " وكنت أعترض على هذه التسميه لله تعالى وان كان الله تعالى قادرا على أن يهون علينا مصائب الدنيا والآخرة، إذا تقرر(18/26)
هذا فان اليمين تنعقد بالحلف بالله تعالى أو باسم، أجمع أهل العلم على أن من حلف بالله عز وجل فقال: والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة.
وقال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأى يقولون: من حلف باسم من أسماء الله تعالى فحنث أن عليه الكفارة ولا نعلم في هذا خلافا إذا كان من أسماء الله عز وجل التي لا يسمى بها سواه، وأسماء الله تعالى أربعة أقسام كما مضى نقلنا عن أصحابنا، وهى من حيث انعقاد الحلف بها
في الاستعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام، فأولها هو العلم وما يجرى مجراه ممالا يسمى به غير الله تعالى مثل الله والرحمن، والاول الذى ليس قبله شئ والآخر الذي ليس بعده شئ، ورب العالمين، مالك يوم الدين، ورب السموات والارضين والحى الذي لا يموت ونحو هذا فالحلف بهذا يمين بكل حال، وان نوى غيره والثاني: ما يسمى به غير الله تعالى مجازا، واطلاقه ينصرف إلى الله تعالى مثل الخالق والرازق والرب والرحيم والقادر والقاهر والملك والجبار ونحوه، فهذا مما يشترك الله تعالى في التسمى به مع غير من مخلوقاته، ويطلق على غير الله مجازا بدليل قوله تعالى " إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون افكا " " أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين " وقوله " ارجع إلى ربك " " واذكرني عند ربك - فأنساه الشيطان ذكر ربه " وقال " فارزقوهم منه " وقال " بالمؤمنين روءف رحيم " فهذا ان نوى به اسم الله تعالى أو أطلق كان يمينا: لانه باطلاقه ينصرف إليه.
وان نوى به غير الله تعالى لم يكن يمينا لانه يستعمل في غيره فينصرف بالنية إلى مانواه، وهذا مذهب أحمد.
وقال بعض الحنابلة: هو يمين كالاول على كل حال.
والقسم الثالث: ما يسمى به الله تعالى وغيره، ولا ينصرف إليه بإطلاقه كالحى والعالم والموجود والمؤمن والكريم والشاكر، فهذا ان قصد به اليمين باسم الله تعالى، فعندنا لا يكون يمينا.
لان اليمين انما تنعقد لحرمة الاسم ومع الاشتراك لا تكون له حرمة، والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين وقال أحمد وأصحابه إلا القاضى أبا بكر: ان قصد به اليمين باسم الله تعالى(18/27)
كان يمينا، وإن أطلق أو قصد غير الله تعالى لم يكن يمينا فيختلف هذا القسم والذي قبله في حالة الاطلاق، ففي الاول يكون يمينا وفي الثاني لا يكون يمينا
(فرع)
والقسم بصفاته تعالى كالقسم بأسمائه.
وصفاته تنقسم إلى ثلاثة أقسام أولها ما هو من صفات الذات الالهية ولا يحتمل صرفا إلى غيرها كعزة الله وجلاله وعظمته وكبريائه وكلامه، فهذه تنعقد بها اليمين، وبه قال أحمد وأصحاب الرأى ومالك، لان هذه من صفات ذاته لم يزل موصوفا بها، وقد ورد الاثر بالقسم ببعضها، فروى " أن النار تقول قط قط وعزتك " رواه البخاري، والذي يخرج من النار يقول: وعزتك لا أسألك غيرها.
وفي كتاب الله تعالى " فبعزتك لاغوينهن أجمعين " (الثاني) ما هو صفة الذات ويعبر به عن غيرها مجازا كعلم الله وقدرته، فهذه صفة للذات لم يزل موصوفا بها، وقد تستعمل في المعلوم والمقدور اتساعا، كقولهم اللهم اغفر لنا علمك فينا، ويقال اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك ويقال انظر إلى قدرة الله، أي إلى مقدوره، فمتى أقسم بهذه الصفات مضافة إلى الله تعالى ولم ينو المعلوم أو المقدور انعقد يمينه، وبهذا قال أحمد رضى الله عنه.
وقال أبو حنيفة " إذا قال وعلم الله " لا يكون يمينا لانه يحتمل المعلوم دليلنا أن العلم من صفات الله تعالى فكانت اليمين به يمينا موجبة للكفارة كالعظمة والعزة والقدرة، وينتقض ما ذكروه بالقدرة، فإنهم قد سلموها وهى قرينها، فأما إن نوى القسم بالمقدور والمعلوم لا يكون يمينا، وهو قول أصحاب أحمد لانه نوى بالاسم غير صفة الله مع احتمال اللفظ مانواه، فأشبه ما لو نوى القسم بمحلوف في الاسماء التى يسمى بها غير الله تعالى وقد روى عن أحمد أن ذلك يكون يمينا بكل حال ولاتقبل منه نية غير صفة الله تعالى، وهو قول أبى حنيفة في القدرة، لان ذلك موضوع للصفة فلا يقبل منه غير الصفة كالعظمة.
قال ابن قدامة " وقد ذكر طلحة العاقولي في أسماء الله تعالى المعرفة بلام
التعريف كالخالق والرازق أنها تكون يمينا بكل حال، لانها لا تنصرف إلا إلى اسم الله تعالى.
كذا هذا(18/28)
والثالث مالا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى، لكن ينصرف بإضافته إلى الله سبحان لفظا أو نية كالعهد والميثاق والامانة ونحوه، فهذا لا يكون يمينا مكفرة إلا بإضافته أو نيته وسنذكر ذلك.
(فرع)
إذا قال وحق الله نظرت - فإن أراد بحقه ما يستحقه تبارك وتعالى من العظمة والجلال والعزة والبقاء - فهي يمين مكفرة، وإن أراد بحقه ما يستحقه من الطاعات والمفروضات لم تنعقد يمينه لانها حادثة.
وبهذا قال أحمد ومالك.
وقال أبو حنيفة لا كفارة لها، لان حق الله طاعته ومفروضاته وليست صفة له دليلنا أن الله حقوقا يستحقها لذاته هي من صفات الذات من العزة والجلال، واقترن عرف الاستعمال بالحلف بهذه الصفة فتنصرف إلى صفة الله تعالى، كقوله وقدرة الله، وإن نوى بذلك القسم بمخلوق، فالقول فيه كالقول في الحلف بالعلم والقدرة، إلا أن احتمال المخلوق بهذا اللفظ أظهر من احتماله في العلم والقدرة (مسأله) إذا قال على عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته فإنها لا تنعقد إلا أن ينوى الحلف بصفات الله تعالى وقال أصحاب أحمد " لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة " وبقولهم هذا قال أبو حنيفة.
لان أمانة الله صفة له بدليل وجوب الكفارة على من حلف بها ونوى ويجب حملها على ذلك عند الاطلاق لوجوه أحدها أن حملها على غير ذلك صرف ليمين المسلم إلى المعصية أو المكروه لكونه قسما بمخلوق والظاهر من حال المسلم خلافه ثانيها أن القسم في العادة يكون بالمعظم المحترم دون غيره وصفة الله تعالى
أعظم حرمة وقدرا.
ولنا أن الامانه لا تنعقد اليمين بها.
ومثلها العهد والميثاق والكفالة.
إلا أن ينوى الحلف بسفة الله تعالى.
لان الامانه تطلق على الفرائض والودائع والحقوق وكذلك العهد والميثاق.
قال تعالى " انا عرضنا الامانه على السموات والارض والجبال فأبين أن يحملنها وأسفقن منها وحملها الانسان " وقال تَعَالَى " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أهلها " يعنى الودائع والحقوق،(18/29)
وقال صلى الله عليه " وأد الامانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " وإذا كان اللفظ محتملا لم يصرف إلى أحد محتملاته إلا بنية أو دليل صارف إليه، على أنه إذا لم ينو شيئا وأطلق هل تنعقد يمينه.
؟ وجهان
(أحدهما)
تنعقد لان العادة والعرف جريا على الحلف بها، والتماس التغليظ في اليمين بالنطق بها كمن يحلف بالله تعالى والتغليظ بصفاته، وضرب له المصنف مثلا بالطالب الغالب والمدرك الملك (والثاني) لما ذكرناه من احتماله العبادات واحتماله لصفات الله تعالى إلا أن الناس لا يجرى العرف بينهم على اعتباره من صفات الله تعالى فلم يكن يمينا.
هذ فيما يتعلق بأمانة الله، أما إذا حلف بالامانة قال في المغنى - فإن نوى الحلب بأمانة الله فهو يمين مكفرة موجبة للكفارة.
وان أطلق فعلى روايتين.
أحداهما يكون يمينا لما ذكرناه من الوجوه.
والثانية لا يكون يمينا لانه لم يضفها إلى الله تعالى فيحتمل غير ذلك قال أبو الخطاب: وكذلك العهد والميثاق والجبروت والعظمة وامانات، فإن نوى يمينا كان يمينا والا فلا، وقد ذكرنا في الامانة روايتين فيخرج في سائر
ما ذكروه وجهان قياسا عليها ويكره الجلب بالامانة لما روى أبو داود عن بُرَيْدَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ حلف بالامانة فليس منا " وروى عن زياد بن خدير أن رجلا حلف عنده بالامانة فجعل يبكى بكاء شديدا فقال له الرجل هل كان هذا يكره؟ قال نعم كان عمر ينهى عن الحلف بالامانة أشد النهى "
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قال بالله لافعلن كذا بالباء المعجمة من تحت، فإن أراد بالله أنى أستعين بالله أو أوثق بالله في الفعل الذي أشار إليه لم يكن يمينا، لان مانواه ليس بيمين واللفظ يحتمله فلم يجعل يمينا، وان لم يكن له نية كان يمينا لان الباء من حروف القسم فحمل اطلاق اللفظ عليه وان قال تالله لافعلن كذا بالتاء المعجمة من فوق، فالمنصوص في الايمان(18/30)
والايلاء أنه يمين.
وروى المزني في القسامة أنه ليس بيمين، واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال المذهب ما نص عليه في الايمان والايلاء لان التاء من حروف القسم، والدليل عليه قوله عز وجل " وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين " وقوله تعالى " تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين " فصار كا لو قال والله وبالله، وما رواه المزني صحف فيه، والذي قال المزني في القسامة بالباء المعجمة من تحت وتعليله يدل عليه، فإنه قال لانه دعاء وتالله الله ليس بدعاء ومن أصحابنا من قال ان كان في الايمان والايلاء فهو يمين لانه يلزمه حق.
وان كان في القسامة لم يكن يمينا لانه يستحق به المال فلم يجعل يمينا وان قال الله لافعلن كذا فإن أراد به اليمين فهو يمين لانه قد تحذف حروف القسم، ولهذا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قتل أبا جهل، فقال الله انك قتلته؟ قال الله اني قتلته " وان لم يكن له نية لم يكن يمينا لانه لم يأت بلفظ القسم.
وان قال لاها الله ونوى به اليمين فهو يعين، لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال في سلب قتيل قتله أبو قتادة " لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله ورسوله فيعطيك سلبه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدق وان لم ينو اليمين لم يكن يمينا لانه غير متعارف في اليمين فلم يجعل يمينا من غيرنية.
وان قال وايم الله ونوى اليمين فهو يمين، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أسامة بن زيد " وأيم الله، انه لخليق بالامارة فإن لم يكن له نية لم يكن يمينا لانه لم يقترن به عرف ولانية (الشرح) حديث عبد الله بن مسعود أخرجه أبو داود وأحمد بمعناه.
وقال في منتفى الاخبار: وانما أدرك ابن مسعود أبا جهل وبه رمق فأجهز عليه.
وروى معنى ذلك أبو داود وغيره.
وقال في النيل شرح المنتفى: حديث ابن مسعود هو من رواية ابنه أبى عبيدة عنه ولم يسمع منه، كما تقدم غير مرة(18/31)
ولفظ مسند أحمد عن أبى عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود " أنه وجد أبا جهل يوم بدر وقد ضربت رجله وهو صريع يذب السيف عنه بسيف له، فأخذه عبد الله بن مسعود فقتله به: فنقله رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه هذا وقد خرج أحمد والبخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه قال " بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني فإذا أنا بين غلامين من الانصار حديثة أسنانهما تمنيت لو كنت بين أضلع منها، فغمزني أحدهما فقال
يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخى؟ قال أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادى سواده حتى يموت الاعجل منها.
قال فعجبت لذلك، فعمزنى الآخر فقال مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل يزول في الناس فقلت ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبراه، فقال أيكما قتله؟ فقال كل منهما أنا: فقال هل مسحتما سيفيكما؟ قالا لا: فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
والرجلان معاذ بن عمرو ومعاذ بن عفراء " قال في الفتح بعد أن ذكر رواية ابن اسحاق.
فهذا الذي رواه ابن اسحاق بجميع بين الاحاديث لكنه يخالف ما في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف فإنه رأى معاذا ومعوذا شدا عليه جميعا حتى طرحاه.
وابن اسحاق يقول ان ابن عفراء هو معوذ والذي في الصحيح معاذ.
فيحتمل أن يكون معاذ بن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو كما في الصحيح وضربه بعد ذلك معوذ حتى أثبته ثم حز رأسه ابن مسعود فتجتمع الاقوال كلها.
واطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود أنه وجده وبه رمق.
وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما اياه بسيفيهما منزلة المقتول حتى لم يبق له الا مثل حركة المذبوح.
وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فضرب عنقه.
على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نقل ابن مسعود السيف فقط جمعا بين الاحاديث أَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقد أخرجه أحمد والبخاري ومسلم عن أبى قتادة بلفظ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين فلما التقينا(18/32)
كانت للمسلمين جولة قال فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين
فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه، وأقبل على فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت، فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب فقال ما للناس؟ فقلت أمرأته، ثم ان الناس رجعوا وجلس رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه.
قال فقمت فقلت من يشهد لى، ثم جلست ثم قال مثل ذلك.
قال فقمت فقلت من يشهد لي، ثم جلست.
ثم قال ذلك الثالثة فقمت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالك يا أبا قتادة؟ فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم صدق يارسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقى، فقال أبو بكر الصديق لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدق فأعطه إياه فأعطاني: قال فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في بنى سلمة، فإنه لاول مال تأثلته في الاسلام ".
ويؤخذ على المصنف قوله " لما روى أن أبا بكر الخ " هكذا بصيغة التمريض مما لا يتناسب مع حديث متفق عليه في الصحيحين وفي غيرهما.
وأما حديث " وايم الله " ذكره الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء هكذا إسماعيل بن جعفر وان عيبنة عن عبد الله بن دينار سمع ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أسامة على قوم، فطعن الناس في إمارته فقال " إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه، وايم الله إن كان لخليقا الامارة، وان كان لمن أحب الناس إلى، وإن ابنه هذا لاحب الناس إلى بعده " لفظ اسماعيل " وان ابنه لمن أحب " ابراهيم بن طهان عن موسى بن عقبه عن سالم عن أبيه فذكر نحوه وفيه " وان كان أبوه لخليقا للامارة وان كان لاحب الناس كلهم إلى " قال سالم " ما سمعت أبى يحدث بهذا الحديث قط الا قال والله ما حاشا فاطمة " انتهى.
وقد كان أسامة أسود أفطس لان أمه بركة الحبشية مَوْلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ محمد بن اسحاق حدثنا يزيد بن هرون قال حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن(18/33)
عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ الافاضة من غرفة من أجل أسامة بن زيد ينتظره، فجاء غلام أسود أفطس، فقال أهل اليمن انما حبسنا من أجل هذا، قال فلذلك كفر أهل اليمن من أجل هذا.
قال يزيد بن هرون " يعني ردتهم يام أبى بكر الصديق ولما فرض عمر بن الخطاب للناس فرض لاسامة خمسة آلاف ولعبد الله بن عمر ألفين، فقال ابن عمر فضلت على أسامة وقد شهدت ما لم يشهد؟ فقال أن أسامة كان أحب إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منك.
وأبوه كان أحب إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبيك أما الاحكام، فحروف القسم ثلاثة.
الباء وهى الاصل وتدخل على المظهر والمضمر جميعا، والواو وهى بدل من الباء تدخل على المظهر دون المضمر لذلك وهى أكثر استعمالا وبها جاءت أكثر الاقسام في الكتاب والسنة، وانما كانت الباء الاصل لانها الحرف الذي تصل به الافعال القاصرة عن التعدي إلى مفعولاتها والتقدير في القسم، أقسم بالله، كما قال تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) والتاء بدل من الواو، وتختص بإسم واحد من أسماء الله تعالى وهو الله ولا تدخل على غيره، فيقال تالله.
ولو قال تالرحمن أو تالرحيم لم يكن قسما، فإذا أقسم بأحد هذه الحروف الثلاثة في موضعه كان قسما صحيحا لانه موضوع له.
وقد جاء في كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى (تالله لتسأل عما كنتم تفترون) (تالله لقد آثرك الله علينا) (تالله تفتؤ تذكر يوسف) (تالله لقد علمتم) (وتالله لاكيدن أصنامكم)
وقد اختلف أصحابنا فيه لما روى المزني في القسامة وما رواه الربيع في الام فرواية المزني أنه ليس بيمين، والصواب كما رواه الربيع في الام فإن قال ما أردت به القسم لم يقبل منه لانه أتى باللفظ الصريح في القسم، واقترنت به قرينة دالة، وهو الجواب بجواب القسم وان قال بالله ونوى الاستعانة بالله والتحصن بالله أو الثقة بالله لم يكن يمينا فإن أطلق كان يمينا وان لم ينو اليمين لانه يؤخذ بلفظه (فرع)
وان أقسم بغير حرف القسم فقال الله لاقومن: بالجرأو النصب،(18/34)
قال الشافعي لا يكون يمينا إلا أن ينوى لان ذكر اسم الله تعال بغير حرف القسم ليس بصريح في القسم فلا ينصرف إليه إلا بالنية وقال الحنابلة يكون يمينا لانه سائغ في العربية، وقد ورد به عرف الاستعمال في الشرع نوى أو لم ينو، ويجاب عن هذا بأنكم سوغتم اليمين للعامي إذا قال والله بالرفع مع عدم جوازه في العربية قسما، وهذا تناقض فكيف بلفظ لم يرد فيه حرف القسم ولم ينو به القسم، ومذهبنا أنه إذا أراد به اليمين انعقدت يمينه لان العرف لم يجر بذلك وقال امرئ القيس يمين الله أبرح قاعدا وقال فقالت: يمين الله مالك حيلة فهذا مصرح فيه بأنه يمين، فلا يقال عنه إنه لم ينوه.
ويجاب عن القسم بأربعة أحرف.
حرفان للنفي هما ما ولا، وحرفان للاثبات وهما إن واللام المفتوحة، وتقوم إن المكسورة مقام ما النافية، مثل قوله " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى " (فرع)
وإن قال لا ها الله ونوى اليمين فهو يمين لما جاء في حديث أبى بكر رضى الله عنه حين قال في سلب قتيل أبى قتادة لاها الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله
يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدق " وإن لم ينو اليمين فالظاهر أنه لا يكون يمينا لانه لم يتقرن به عرف ولانية، ولا في جوابه حرف يدل على القسم، وهذا مذهب أحمد رضى الله عنه (فرع)
وإن قال وايم الله ونوى اليمين فهو يمين موجبة للكفارة، وكذلك وايمن.
وقال أصحاب أحمد هي موجبة للكفارة مطلقا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم به، وقد اختلف في اشتقاقه، فقيل هو جمع يمين وحذفت فيه في البعض تخفيفا لكثرة الاستعمال.
وقيل هو من اليمين، فكأنه قال ويمين الله لافعلن وألفه ألف وصل.
وذكر القلعى أنها تخفض بالقسم، والواو واو قسم عنده.
قال ابن بطال في شرح غريب المهذب " وذاكرت جماعة من أئمة النحو والمعرفة فمنعوا من الخفض، وقال أيمن بنفسها آلة للقسم فلا يدخل على الآلة آلة هكذا ذكر لي من يسمع التاج النحوي رئيس أهل العربية بدمشق وقوله " أنه لخليق بالامارة " أي حقيق بها وجدير وقد خلق لذلك(18/35)
قال المصنف رحمه الله.
(فصل)
وإن قال لعمر الله ونوى به اليمين فهو يمين لانه قد قبل معناه بقاء الله وقيل حق الله وقيل علم الله، والجميع من الصفات التي تنعقد بها اليمين، فإن لم يكن له نية ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يمين لان الشرع ورد به في اليمين، وهو قول الله عز وجل (لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون) (والثاني) أنه ليس بيمين، وهو طاهر النص لانه غير متعارف في اليمين.
(فصل)
وإن قال أقسمت بالله أو أقسم بالله لافعلن كذا ولم ينو شيئا فهو يمين لانه ثبت له عرف الشرع وعرف العادة، فالشرع قوله عز وجل " فيقسمان
بالله لشهادتنا أحق من شهادهما) وقوله عز وجل (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) وعرف العادة أن الناس يحلفون بها كثيرا وإن قال أردت بقولى أقسمت بالله الخبر عن يمين متقدمة، وبقولي أقسم بالله الخبر عن يمين مستأنفة، قبل قوله فيما بينه وبين الله تعالى، لان ما يدعيه يحتمله اللفظ، فأما في الحكم فالمنصوص في الايمان أنه يقبل وقال في الايلاء إذا قال لزوجته أقسمت بالله لا وطئتك، وقال أردت به في زمان متقدم أنه لا يقبل، فمن أصحابنا من قال لا يقبل قولا واحدا، وما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع، وعرف العادة - وقوله في الايمان انه يقبل أراد به فيما بينه وبين الله عزوجل.
ومنهم من قال لا يقبل في الايلاء ويقبل في غيره من الايمان، لان الايلاء يتعلق به حق المرأة فلم يقبل منه خلاف الظاهر، والحق في سائر الايمان لله عز وجل فقبل قوله.
ومنهم من نقل جوابه في كل واحدة من المسئلتين إلى الاخرى وجعلهما على قولين
(أحدهما)
يقبل لان ما يدعيه يحتمله اللفظ (والثاني) لا يقبل لان ما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع وعرف العادة، فإن قال شهدت بالله أو أشهد بالله لافعلن كذا فإن نوى به اليمين(18/36)
فهو يمين، لانه قد يراد بالشهادة اليمين، وإن نوى بالشهادة بالله الايمان به فليس بيمين لانه قد يراد به ذلك.
وإن لم يكن له نية ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يمين لانه ورد به القرآن، والمراد به اليمين، وهو قوله عز وجل (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين) (والثاني) أنه ليس بيمين، لانه ليس في اليمين بها عرف من جهة العادة.
وأما في الشرع فقد ورد، والمراد به اليمين وورد والمراد به الشهادة، فلم يجعل يمينا
من غير نية.
وإن قال أعزم بالله لافعلن كذا - فإن أراد به اليمين - فهو يمين، لانه يحتمل أن يقول أعزم ثم يبتدئ اليمين بقوله بالله لافعلن كذا.
وإن أراد أنى أعزم بالله، أي بمعونته وقدرته لم يكن يمينا، وإن لم ينو شيئا لم يكن يمينا لانه يحتمل اليمين ويحتمل العزم على الفعل بمعونة الله فلم يجعل يمينا من غير نية ولا عرف.
وإن قال أقسم أو أشهد أو أعزم ولم يذكر اسم الله تعالى لم يكن يمينا، نوى به اليمين أو لم ينو، لان اليمين لا ينعقد إلا بإسم معظم أو صفة معظمة ليتحقق له المحلوف عليه، وذلك لم يوجد
(فصل)
وإن قال أسألك بالله أو أقسم عليك بالله لتفعلن كذا - فإن أراد به الشفاعة بالله عز وجل في الفعل - لم يكن يمينا، وإن أراد أن يحلف عليه ليفعلن ذلك صار حالفا: لانه يحتمل اليمين.
وهو أن يبتدئ بقوله بالله لتفعلن كذا، وان أراد أن يعقد للمسئول بذلك يمينا لم ينعقد لواحد منهما، لان السائل صرف اليمين عن نفسه والمسؤول لم يحلف.
(فصل)
إذا قال والله لافعلن كذا ان شاء زيد أن أفعله، فقال زيد قد شئت أن يفعله انعقدت يمينه لانه علق عقد اليمين على مشيئتة وقد وجدت، ثم يقف البر والحنث على فعل الشئ وتركه، وان قال زيد لست أشاء أن يفعله لم تنعقد اليمين لانه لم يوجد شرط عقدها، وان فقدت مشيئته بالجنون أو الغيبة أو الموت لم ينعقد اليمين، لانه لم يتحقق شرط الانعقاد، ولا ينعقد اليمين به.
والله تعالى أعلم.(18/37)
(الشرح) إذا قال لعمر الله - فإن قصد اليمين فهى يمين، والا فلا، ولعمره الله.
اللام لام القسم على المصدر المفتوح الذي فعله عمر يعمر كقتل يقتل،
فتقول لعمرك، والمعنى وحياتك وبقائك، ومنه اشتقاق العمرى.
وقال أحمد رضى الله عنه هي يمين موجبة للكفارة مطلقا حيث أقسم بصفة من صفات الذات فكان يمينا موجبة للكفارة، كالحلف ببقاء الله، فإن معنى ذلك الحلف ببقاء الله وحياته.
وقال أبو حنيفة يقول أحمد رضى الله عنه ولنا أنها تكون يمينا إذا نوى اليمين لانها انما تكون يمينا بتقدير خبر محذوف فكأنه قال لعمر الله ما أقسم، فيكون مجازا: والمجاز لا ينصرف إليه الاطلاق.
وهذا قول هو وجه عندنا وظاهر يخالفه.
وقد ثبت في القرآن الكريم القسم به، كقوله (لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون) وقال النابغة فلا لعمر الذى زرته حججا
* وما أريق على الانصاب من جسد وقال غيره، إذا رضيت كرام بنى قشير
* لعمر الله أعجبني رضاها وقال آخر: ولكن لعمر الله ما ظل مسلما
* كغر الثنايا واضحات الملاغم وان قال عمرك الله بحذف لام القسم نصب اسم الله تعالى فيه، لانه يأتي بمعنى نشدتك الله كما في قوله: أيها المنكح الثريا سهيلا
* عمرك الله كيف يلتقيان؟ وان قال لعمري أو لعمرك أو عمرك فليس بيمين خلافا لما ذهب إليه الحسن البصري حيث جعل في قوله لعمري الكفارة ولنا أنه أقسم بمخلوق فلم تلزمه الكفارة، كما لو قال وحياتي، وذلك لان هذا اللفظ يكون قسما بحياة الذي أضيف إليه العمر، فإن التقدير: لعمرك قسمي أو ما أقسم به.
(فرع)
إذا قال أقسم بالله أو أقسمت بالله لافعلن كذا كان يمينا، سواء نوى أو أطلق، وهذا قول أهل العلم كافة، لاتعلم فيه خلافا، لانه لو قال بالله ولم يقل أقسم ولم يذكر الفعل كان يمينا، وذلك بتقدير الفعل قبله، لان الباء
تتعلق بفعل مقدر على ما ذكرناه: فإذا أطلق الفعل ونطق بالمقدر كان أولى بثبوت حكمه - وقد ثبت له عرف الاستعمال - قال تعالى (فيقسمان بالله)(18/38)
وقال تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) وأنشد أعرابي عمر " أقسم بالله لتفعلنه " وكذلك الحكم إن ذكر الفعل بلفظ الماضي فقال أقسمت بالله أو شهدت بالله.
قال عبد الله بن رواحة أقسمت بالله لتنزلنه.
وإن أراد بقوله أقسمت بالله الخبر عن قسم ماض أو بقوله أقسم بالله عن قسم يأتي به قبل قوله فيما بينه وبين الله تعالى ولا كفارة عليه لان ما يدعيه يحتمله، وهل يقبل قوله في الحكم؟ فالذي قاله الشافعي في الايمان أنه يقبل، وبه قال أحمد وأصحابه خلا القاضى.
وقال في الايلاء في صورة مماثلة، إذا قال لزوجته أقسمت بالله لا وطئتك.
وقال أردت به في زمان متقدم أنه لا يقبل، فقد قال بعض أصحابنا لا يقبل قولا واحدا، وبه قال القاضى من الحنابلة، لان ما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع وعرف العادة أو الاستعمال، وقالوا إن قوله في الايمان انما أراد به أن يقبل فيما بينه وبين الله تعالى.
ومن أصحابنا من قال هو على حالين يقبل في الايمان ولا يقبل في الايلاء، وصرف كل قول على وجهه، لان حق المرأة لا يتعلق إلا بالظاهر فلم يقبل منه خلافه، والحق في سائر الايمان متعلق بالله تعالى فقبل قوله.
ومن اصحابنا من جعلهما قولين.
ونقل جواب كل مسألة منهما إلى الاخرى فتساويا، وأحد القولين يقبل لاحتمال اللفظ ما يدعيه (والثاني) لا يقبل لمخالفة ما يدعيه لمقتضى اللفظ والشرع والعرف والعادة والاستعمال.
(فرع)
وإن قال أشهد بالله أو شهدت بالله لافعلن كذا، فإن قصد به اليمين انعقدت ولزمته الكفارة، وإن لم يقصد اليمين بأن قال أردت به الشهادة على أني
مؤمن يشهد باوحدانية قبل منه لانه يحتمل ذلك، وقد ورد اللفظ في الكتاب الكريم بمعنى اليمين في قوله تعالى (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) كما ورد في القرآن مرادا به الشهادة، ولذا جعلنا قصده مرجحا لاحد المعنيين.
وان أطلق ولم يعن شيئا في نيته فوجهان
(أحدهما)
ينعقد يمينا لوروده في الشرع كذلك (والثاني) لا ينعقد يمينا لوروده في الشرع بمعنى الشهادة ووروده بمعنى اليمين، فلا يكون يمينا بغير نية.(18/39)
وقال أصحاب أحمد شهد بالله تجرى مجرى أقسم بالله.
وزعم ابن قسامة في المغنى أنه قول عامة الفقهاء، وقال لا نعلم فيه خلافا، وقال وسواء نوى اليمين أو أطلق لانه لو قال أشهد ولم يذكر الفعل كان يمينا وانما كان يمينا بتقدير الفعل قبله، وما قرره ابن قدامة من كونه قول عامة الفقهاء غير صحيح كما عرفت من مذهبنا من الفرق بين قوله أقسم بالله وقوله أشهد بالله (فرع)
وإن قال أعزم بالله لافعلن كذا وعنى به اليمين فهو يمين، لانه لو قال بالله لافعلن كذا احتمل أن يكون يمينا، فإذا قال قبل ذلك أعزم ثم ابتدأ اليمين بقوله بالله احتمل كونه.
فإذا أراد بذلك اليمين انعقد يمينا.
وان أراد به العزم بالله وعنى بمعونته وتأييده وقدرته وتوفيقه لم يكن يمينا وان أطلق لم يكن يمينا لانه خلا من النية كما خلا منه العرف والاستعمال فلم يكن يمينا.
وبه قال أحمد.
فإذا تقرر هذا فإذا قال أشهد أو أقسم أو أعزم ويذكر اسم الله تعالى لم يكن يمينا.
سواء نوى به اليمين أو لم ينو.
لان اليمين لا تنعقد بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته.
وقال ابن قدامة " وان قال أقسمت أو آليت أو حلفت أو شهدت لافعلن
ولم يذكر بالله.
فعن أحمد روايتان (إحداهما) انها يمين.
وسواء نوى اليمين أو اطلق.
وروى نحو ذلك عن عمر وابن عباس والنخعي والثوري وابى حنيفة واصحابه.
وعن احمد ان نوى اليمين بالله كان يمينا والا فلا.
وهو قول مالك واسحاق.
ابن المنذر لانه يحتمل القسم بالله وبغيره فلم تكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة ولنا انها ليست بيمين وان نوى.
لانها عريت عن اسم الله تعالى وصفته فلم تكن يمينا كما لو قال أقسمت بالبيت أو اقسمت بالكعبة.
وروى هذا عن عطاء والحسن والزهرى وقتادة وابى عبيد.
وما بقى من الفصول فعلى وجهها وقد مضى توضيحها في الفروع آنفا.
على أن الذي تفتقر إليه هذه الفصول هو بيان احكام الحلف بالقرآن الكريم.
فنقول ان الحلف بالقرآن أو بآية منه أو بكلام الله يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها.
وبهذا قال ابن مسعود والحسن وقتادة ومالك واحمد وابو عبيد وعامة أهل العلم(18/40)
قال أبو حنيفة وأصحابه: ليس بيمين ولا تجب به كفارة، فمنهم من زعم أنه مخلوق.
ومنهم من قال لا يعهد اليمين به.
والحق أن القرآن كلام الله وصفة من صفات ذاته فتنعقد اليمين به، كما لو قال وجلال الله وعظمته.
وقوله " هو مخلوق " فهذا كلام المعتزلة، وإنما الخلاف مع الفقهاء، ولاشك أن مذاهب المتكلمين لها تأثيرها على تقرير أحكام الفروع عند الفقهاء وقد روى عن ابن عمر مرفوعا أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقال ابن عباس في قوله تعالى " قرآنا عربيا غير ذى عوج " أي غير مخلوق.
إذا ثبت هذا فإن الحلف بآية منه كالحلف بجميعه لانها من كلام الله تعالى.
وان حلف بالمصحف انعقدت بمينه، وكان قتادة يحلف بالمصحف.
وقال ابن قدامة
ولم يكره ذلك إمامنا وإسحق، لان الحالف بالمصحف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه وهو القرآن، فإنه بين دفتى المصحف بإجماع المسلمين (مسألة) نص احمد رضى الله عنه على أن من حلف بحق القرآن لزمته بكل آية كفارة يمين.
وهو قول ابن مسعود والحسن (قلت) مذهبنا أن الواجب كفارة واحدة وهو قياس المذهب عند الحنابلة وأبى عبيد، لان الحلف بصفات الله كلها وتكرر اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة واحدة، فالحلف بصفة واحدة من صفاته أولى أن تجزئه كفارة واحدة ووجه الاول ما رواه مجاهد قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية كفارة يمين صبر، فمن شاء بر ومن شاء فجر " رواه الاثرم، ولان ابن مسعود قال عليه بكل آية كفارة يمين.
قال أحمد وما أعلم شيئا يدفعه قال في المغنى: ويحتمل أن كلام أحمد في كل آية كفارة على الاستحباب لمن قدر عليه، فإنه قال عليه بكل آية كفارة يمين فإن لم يمكنه فكفارة واحدة.
ورده إلى واحدة عند العجز دليل على أن ما زاد عليها غير واجب، وكلام ابن مسعود يحمل على الاختيار والاحتياط لكلام الله والمبالغة في تعظيمه، كما أن عائشة رض أعتقت أربعين رقبة حين حلفت بالعهد - وليس ذلك بواجب - ولا يجب أكثر من كفارة واحدة لقول الله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن(18/41)
يوأخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين " وهذه يمين فتدخل في عموم الايمان المنعقدة، لانها يمين واحده فلم توجب كفارات كسائر الايمان ولان إيجاب كفارات بعدد الآيات يفضى إلى المنع من البر والتقوى والاصلاح بين الناس، لانه من علم أنه يحنثه تلزمه هذه الكفارات كلها ترك المحلوف عليه كائنا ما كان، وقد يكون برا وتقوى وإصلاحا فتمنعه منه، وقد نهى الله تعالى عنه بقوله (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى
باب جامع الايمان
إذا حلف لا يسكن دارا وهو فيها، فخرج في الحال بنية التحويل وترك رحله فيها لم يحنث لان اليمين على سكناه وقد ترك السكنى فلم يحنث الرحل، كما لو حلف لا يسكن في بلد فخرج وترك رحله فيه، وان تردد إلى الدار لنقل الرحل لم يحنث، لان ذلك ليس بسكنى وإن حلف لا يسكنها وهو فيها، أو لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه، أو لا يركب هذه الدابة وهو راكبها فاستدام حنث، لان الاسم يطلق على حال الاستدامة، ولهذا تقول سكنت الدار شهرا ولبست الثوب شهرا وركبت الدابة شهرا.
وان حلف لا يتزوج وهو متزوج أو لا يتطهر وهو متظهر أو لا يتطيب وهو متطيب فاستدام لم يحنث، لانه لا يطلق الاسم عليه في حال الاستدامة، ولهذا تقول تزوجت من شهر وتطهرت من شهر وتطيبت من شهر، ولا تقول تزوجت شهرا وتطهرت شهرا وتطيبت شهرا وإن حلف لايدخل الدار وهو فيها فاستدام ففيه قولان: قال في الام يحنث لان استدامة الدخول كالابتداء في التحريم في ملك فكذلك في الحنث في اليمين كاللبس والركوب وقال في حرملة لا يحنث - وهو الصحيح - لان الدخول لا يستعمل في(18/42)
الاستدامة ولهذا تقول دخلت الدار من شهر، ولا تقول دخلتها شهرا فلم يحنث
بالاستدامة، كما لو حلف لا يتطهر أو لا يتزوج فاستدام، فإن حلف لا يسافر وهو في السفر فأخذ في العود لم يحنث، لانه أخذ في ترك السفر، وان استدام السفر حنث لانه مسافر.
(الشرح) قوله " بنية التحويل " التحويل مصدر حول تحويلا وهو يلزم ويتعدى، فيقال حولته تحويلا إذا غيرت موضعه، وحول هو تحويلا إذا انتقل من موضع إلى موضع، وقد مضى في الحوالة بحث مادته واستقاقاتها.
والرحل كل شئ بعد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للمطية وجلس ورسن وجمعه أرحل ورحال، ورحل الشخص مأواه في الحضر، ثم أطلق على أمتعة المسافر لانها هناك مأواه، وفي الحديث " صلوا في رحالكم " أي في مأواكم أما الاحكام فإن منبي اليمين على لفظ الحالف، فإذا حلف صريحة عبارته انصرفت يمينه إليها، سواء كان مانواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا، فالموافق للظاهر أن ينوى باللفظ موضوعه الاصلى مثل أن ينوى باللفظ العام العموم، وبالمطلق الاطلاق، وسائر الالفاظ ما يتبادر إلى الافهام منها أو المخالف فإنه يتنوع أنواعا: (أحدها) أن ينوى بالعام الخاص، مثل أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة ويريد لحما بعينه وفاكهة بعينها.
ومنها أن يحلف على فعل شئ أو تركه مطلقا وينوى فعله أو تركه في وقت بعينه.
مثل أن يحلف أن لا يركب السيارة، وهو يعنى الآن أو اليوم، أو يحلف لالبسن، يعنى الساعة ومنها أن يعنى بقسمه غير ما يفهمه السامع منه كالمعاريض ونحوها.
ومنها أن يريد بالخاص العام.
مثل أن يحلف لا شربت لفلان الماء من العطش، يعنى قطع كل ما له فيه منة، أو لا يأوي مع امرأته في دار يريد جفاءها بترك اجتماعها معه في جميع الدور.
في كل ما ذكرنا لا عبره عندنا بماء عساه أو نواه أو خالف لفظه، لان الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين هو اللفظ، فلو أحنثناه على ما سواه لاحنثناه(18/43)
على ما نوى لا على ما حلف، ولان النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك لا يحنث بمخالفتها، وبهذا قال أبو حنيفة رضى الله عنه وقال مالك وأحمد رضى الله عنهما: إذا نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه، سواء خالف اللفظ أو وافقه، لان مبنى اليمين على النية (فرع)
إذا خلف لا يسكن دارا وهو ساكنها خرج من وقته، فإن تخلف عن الخروج وأقام بعد يمينه زمنا حنث لان استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم السكنى عليها، ألا تراه يقول سكنت هذه الدار شهرا، كما يقول لبست هذا الثوب شهرا، وبهذا قال أحمد وأصحابه.
وإن أقام لنقل رحله وقماشه لم يحنث، لان الانتقال لا يكون إلا بالاهل والمال فيحتاج أن ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلا وحكى عن مالك أنه إن أقام دون اليوم واللية لم يحنث، لان ذلك قليل يحتاج إليه في الانتقال فلم يحنث به.
وعن زفر انه قال يحنث وان انتقل في الحال لانه لابد من أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة فيحنث بها وليس بصحيح فإن ما لا يمكن الاحتراز منه لايراد باليمين ولا يقع عليه.
وأما إذا أقام زمنا يمكنه الانتقال فيه فإنه يحنث لانه فعل ما يقع عليه اسم السكنى فحنث به كموضع الاتفاق ألا ترى أنه لو حلف لا يركب سيارة فوقف على سلمها أو تعلق بمؤخرتها حنث وإن كان قليلا؟ (فرع)
إذا أقام على متاعه وأهله حنث، وقال أبو حنيفة واحمد لم يحنث لان الانقتال لا يكون الا بالاهل والمال ولا يمكنه التحرز من هذه الاستدامة
فلا يقع اليمين عليها.
وعلى هذا إن خرج بنفسه وترك أهله وماله في المسكن مع إمكان نقلهم عنه حنث ولنا أن لا يحنث إذا خرج بنية الانتقال، لانه إذا خرج بنية الانتقال فليس بساكن - ولانه يجوز أن يريد السكنى وحده دون اهله وماله - وعند احمد وابي حنيفة ان السكنى لا يكون الا بالاهل والمال، ولهذا يقال فلان ساكن بالبلد الفلاني وهو غائب عنه بنفسه.
وإذا نزل بلدا بأهله وماله يقال سكنه، ولو نزله نفسه لا يقال سكنه.(18/44)
هذا كلامهم وهو ظاهر الخطأ، لان المرء قد يموت أبواه أو ينفصل عنهما ولما يتزوج بعد ثم يسكن أنى شاء وحده، وحكى عن مالك أنه اعتبر نقل عياله دون ماله، والاولى إن شاء الله أنه إذا انتقل إلى مسكن آخر لا يحنث وإن بقى متاعه في الدار، لان مسكنه حيث حل هو، وضع في المسكن الذي نزل فيه ما يتأثث به أو لم يضع، مادام قد تحقق حلوله فيه من إجارة أو تملك أو اتهاب (فرع)
وإن أكره على المقام لم يحث، وكذلك إن كان في جوف الليل في وقت لا يجد فيه منزلا يتحول إليه، أو يحول بينه وبين المنزل أبواب مغلقة لا يمكن فتحها أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله فأقام في طلب النقلة أو انتظارا لزوال المانع منها لم يحنث: وإن خرج طالبا للنقلة فتعذرت عليه إما لكونه لم يجد مسكنا يتحول إليه لتعذر الكراء واكتظاظ المساكن بأهلها ونذرة الخالي منها أو يوجد في مقابل مبلغ كبير لا يطيقه ولا يتيسر له أداؤه، أو لم يجد من يحمل أمتعته كسيارة أو دابة أو حمال ولا يمكنه النقلة بدونها فأقام حنث وعليه الكفارة وقال الحنابلة لم يحنث لان إقامته عن غير اختيار منه لعدم تمكنه من النقلة (فرع)
فإن حلف لا يتزوج ولا يتطيب ولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث
في قولهم جميعا، لانه لا يطلق على من استدامها اسم الفعل، فلا يقال تزوجت شهرا، ولا تطيبت شهرا، وإنما يقال منذ شهر، ولم ينزل الشارع استدامة التزويج والطيب منزلة أبتدائها في تحريمه في الاحرام وإيجاب الكفارة فيه (فرع)
وان حلف لايدخل دارا هو فيها فأقام فيها ففيه قولان أصحهما ما رواه حرملة أنه لا يحنث.
وعن أحمد روايتان، إحداهما يحنث.
قال أحمد في رجل حلف على أمرأته لادخلت أنا وأنت هذه الدار وهما جميعا فيها، قال أخاف أن يكون حنث.
والثانية لا يحنث، ذكرها ابن قدامة عن القاضي واختارها أبو الخطاب.
وهو قول أصحاب الرأى، لان الدخول لا يستعمل في الاستدامة، ولهذا يقال دخلتها منذ شهر ولايقال دخلتها شهرا فجزى مجرى التزويج، ولان الدخول الانفصال من خارج إلى داخل فلا يوجد هذا المعنى في الاقامة والمكث(18/45)
قال ابن قدامة: ويحتمل أن من أحثه إنما كان لان ظاهر حال الحالف أنه يقصد هجران الدار ومباينتها: والاقامة فيها تخالف ذلك فجرى مجرى الحالف على ترك السكنى به أه.
(فرع)
فإن حلف لا يلبس ثوبا وهو لابسه فإن نزعه في الحال وإلا حنث وكذلك إن حلف لا يركب دابة هو راكبها - فإن نزل في أول حالة الامكان والاحنث، وبهذا قال أحمد وأصحاب الرأى.
وقال أبو ثور لا يحنث باستدامته اللبس والركوب حتى يبتدئه.
لانه لو حلف لا يتزوج ولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث.
كذا ههنا دليلنا أن استدامة اللبس والركوب تسمى لبسا وركوبا، ويسمى به لابسا وراكبا.
ولذلك يقال ليست هذا الثوب شهرا، وركبت دابتي يوما فحنث
باستدامته، كما لو حلف لا يسكن فاستدام السكنى، وقد اعتبر الشرع هذا في الاحرام حيث حرم لبس المخيط فأوجب الكفارة في استدامته كما أوجبها في ابتدائه وفارق التزويح فإنه لا يطلق على الاستدامة فلا يقال تزوجت شهرا.
وانما يقال منذ شهر.
ولهذا لم تحرم استدامته في الاحرام كابتدائه (فرع)
ان حلف لا يسافر وكان في السفر فإن سدر في سفره حنث وإن أخذ في العود لم يحنث ولو كانت مسافة العود أكبر من قدر مسافة القصر.
وذلك لانه يعتبر آخذا في ترك السفر
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان حلف لا يساكن فلانا - وهما في مسكن واحد.
ففارق أحدهما الآخر في الحال وبقي الآخر - لم يحنث لانه زالت المساكنة.
وإن سكن كل واحد منهما في بيت من خان أو دار كبيرة.
وانفرد كل واحد منهما بباب وغلق لم يحنث لانه ما ساكنه.
فإن حلف لايدخل دار فأدخل احدى الرجلين أو أدخل رأسه إليها لم يحنث، وان حلف لا يخرج من دار فأخرج احدى الرجلين أو أخرج رأسه منها لم يحنث.
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ معتكفا وكان يدخل رأسه إلى عائشة لترجله " ولان كمال الدخول والخروج لا يحصل بذلك.(18/46)
(فصل)
وإن حلف لايدخل دارا فحصل في سطحها وهو غير محجر لم يحنث، وقال أبو ثور يحنث لان السطح من الدار.
وهذا خطأ لانه حاجز بين داخل الدار وخارجها فلم يصر بحصوله فيه داخلا فيها، كما لو حصل على حائط الدار وإن كان محجرا ففيه وجهان أحدهما يحنث لانه يحيط يه سور الدار والثاني لا يحنث، وهو ظاهر النص لانه لم يحصل في داخل الدار، وإن كان في
الدار نهر فطرح نفسه في الماء حتى حمله إلى داخل الدار حنث لانه دخل الدار.
وإن كان في الدار شجرة منتشرة الاغصان فتعلق بغصن منها ونزل فيها حتى أحاط به حائط الدار حنث.
وإن نزل فيه حتى حاذى السطح فإن كان غير محجر لم يحنث وإن كان محجرا فعلى الوجهين (الشرح) حديث اعتكاف الرسول فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُدْخِلُ عَلِيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وكان لايدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا " أما غريب الفصل فقوله " بيت من خان " قال في المصباح: والخان ما ينزله المسافرون.
والجمع خانات.
(قلت) لعله مكان كان يقوم مقام الفندق في عصرنا هذا، إلا أن الخان فيما مضى كان فيه مكان فسيح تأوى إليه الدواب، ومستودع لبضائع المسافرين وأمتعتهم.
وقوله " غير محجر " المحجر الذي عليه بناء يحيط به ومنه سميت الحجرة وسور الدار ما يحيط به.
أما الاحكام فإنه إذا حلف لا يساكن فلانا فالحكم في الاستدامة على ما ذكرنا في الحلف على السكنى.
وإن انتقل أحدهما وبقي الآخر لم يحنث لزوال المساكنة وإن سكنا في دار واحدة - وكل واحد في بيت ذى باب وقفل أو غلق - فإن كانت الدار صغيرة فهما متساكنان، لان الصغيرة مسكن واحد، وإن كانت كبيرة إلا أن أحدهما في البيت والآخر في الصفة، أو كانا في صفتين أو بينتين ليس على أحدهما غلق دون صاحبه فهما متساكنان، وإن كانا في بيتين كل واحد(18/47)
منهما ينفرد بمسكنه دون الآخر فأشبها المتجاورين كل واحد منهما ينفرد بمسكنه وقالت الحنابلة: انهما في دار واحدة فكانا متساكنين كالصغيرة، وفارق
المتجاورين في الدارين فإنهما ليسا متساكنين، ويمينه على نفي المساكنة لا على المجاورة.
ولو كانا في دار واحدة حالة اليمين فخرج أحدهما منها وقسماها حجرتين وفتحا لكل واحدة منهما بابا وبينهما حاجز، ثم سكن كل واحد منهما في حجرة لم يحث لانهما غير متساكنين (فرع)
إذا تشاغلا ببناء الحاجز بينهما وهما متساكنان حنث، لانهما تساكنا قبل انفراد إحدى الدارين من الاخرى، وبهذا قال أحمد وأصحاب الرأى وأهل المدينة ولا نعلم فيه خلافا (فرع)
ان حلف لا ساكنت فلانا في هذه الدار فقسماها حجريتن وبنيا بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما لنفسه بابا ثم سكنا فيهما لم يحنث لما ذكرنا في التى قبلها.
وهذا قول أحمد وابن المنذر وأبي ثور وأصحاب الرأى.
وقال مالك: لا يعجبني ذلك لكونه عين الدار ولا ينحل بتغيرها (فرع)
إن حلف لا يخرج من دار فأخرج يده أو رجله أو رأسه لم يحنث بلا خلاف، سواء كان لحاجة أم غيرها.
أما الخروج بكل بدنه أو أَخْرَجَ رِجْلَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا وَبَقِيَ رَأْسُهُ دَاخِلَ الدار حنث، فإذا قعد معتمدا على مقعدته وأخرج رجليه مادهما إلى الخارج فلا يحنث على الصحيح لما ذكر في الاعتكاف من أن اعتكافه لا يبطل، فلم يحنث في يمينه، لان كمال الخروج والدخول لا يحصل بذلك.
(فرع)
قوله " وإن حلف لايدخل دارا فحصل في سطحها الخ " قلت، قال الشافعي لا يحنث.
ولاصحابنا فيما إذا كان محجرا وجهان، وظاهر النص أنه لا يحنث.
وقال أحمد يحنث، سواء كان السطح محجرا أم لا، بهذا قال مالك وأبو ثور وأصحاب الرأى - وهذا خطأ - لان السطح حاجز بين داخل الدار وخارجها، كسطح المسجد فإنه لا يعد من المسجد ولايجوز الاعتكاف فيه،
كما لا يجوز الاعتكاف في منارته على ما مضى في الاعتكاف، وعند الحنابلة يصح الاعتكاف في سطح المسجد(18/48)
قوله " فتعق بغصن منها ونزل الخ " وجملة ذلك أنه إن تعلق بغضن شجرة في الدار ولم يكن بين حيطانها لم يحنث، فإن نزل حنث، وفي وجه عند الحنابلة وأبى ثور وأصحاب الرأى أنه إذا تعلق بغصن شجرة في الدار وإن لم ينزل بين حيطانها لانه في هوائها، وهواؤها ملك لصاحبها فأشبه ما لو قام على سطحها لانه يحنث بصعود السطح عندهم كما ذكرنا آنفا، وكذلك إن كانت الشجرة في غير الدار فتعلق بفرع ماد على الدار في مقابلة سطحها، فإن قام على حائط الدار احتمل عندهم وجهين.
أحدهما أنه يحنث لانه داخل في حدها فأشبه القائم على سطحها والوجه الثاني وهو المذهب عندنا: لا يحنث لانه لا يسمى دخولا، وإن قام في طاق الباب فكذلك لانه بمنزلة حائطها.
وإن حلف أن لا يضع قدمه في الدار فدخلها راكبا أو ماشيا منتعلا أو حافيا حنث، كما لو حلف أن لا يدخلها وبهذا قال أصحاب الرأى وأحمد.
وقال أبو ثور: إن دخلها راكبا لم يحنث لانه لم يضع قدمه فيها.
دليلنا أنه قد دخل الدار فحنث، كما لو دخلها ماشيا، ولانسلم أنه لم يضع قدمه فيها، فإن قيمه موضوعة، فإن كان في الدار نهر فدخلها في سفينة أو زورق فقدمه في الزورق أو على الدابة فأشبه ما لو دخلها منتعلا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن حلف لايدخل دار زيد هذه فباعها ثم دخلها حنث، لان اليمين على عين مضافة إلى مالك فلم يسقط الحنث فيه بزوال الملك، كما لو حلف
لا يكلم زوجة فلان هذه فطلقها ثم كلمها وإن حلف لايدخل دار زيد فدخل دارا لزيد وعمر ولم يحنث لان اليمين معقودة على دار جميعها لزيد.
وإن حلف لايدخل دار زيد فدخل دارا يسكنها زيد بإعارة أو إجارة أو غصب - فإن أراد مسكنه - حنث لانه يحتمل ما نوى، وإن لم يكن له نية لم يحنث.
وقال أبو ثور: يحنث، لان الدار تضاف إلى الساكن، والدليل عليه قوله(18/49)
تعالى " لا تخرجوهن من بيوتهن " فأضاف بيوت أزواجهن اليهن بالسكنى، وهذا خطأ، لان حقيقة الاضافة تقتضي ملك العين، ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد جعل ذلك إقرارا له بملكها
(فصل)
وإن حلف لايدخل هذه الدار فانهدتمت وصارت ساحة أو جعلت حانوتا أو بستانا فدخلها لم يحنث لانه زال عنها اسم الدار.
وإن أعيدت بغير تلك الآلة لم يحنث بدخولها لانها غير تلك الدار، وإن أعيدت بتلك الآلة ففيه وجهان، أحدهما لا يحنث، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لانها غير تلك الدار والثاني أنه يحنث لانها عادت كما كانت (الشرح) إن حلف لايدخل دار فلان فدخل دارا له يسكنها بأجرة أو عارية أو غصب لم يحنث.
وقال أحمد وأبو ثور وأصحاب الرأى يحنث، لان الدار تضاف إلى ساكنها كإضافتها إلى مالكها.
قال تعالى " لا تخرجوهن من بيوتهن " أراد بيوت أزواجهن التي يسكنها.
وقال تعالى " وقرن في بيوتكن " ولان الاضافة للاختصاص، وكذلك ساكن الدار مختص بها فكانت إضافتها إليه صحيحة، وهي مستعمله في العرف فوجب أن يحنث بدخولها كالمملوكة له ولنا أن الاضافة في الحقيقة إلى المالك بدليل أنه لو قال هذه الدار لفلان كان
مقرا له بملكها، ولو قال أردت أنه يسكنها لم يقبل لان حقيقة الاضافة تقتضي ملك العين، وأن اضافة البيت إلى ساكنه اضافة مجازية، ولو سلمنا بإحلال المجاز مكان الحقيقة لا نسلخ الناس من أيمانهم.
وان حلف لايدخل دار زيد هذه واسم الاشارة هنا ينصرف إلى عين مضافة إلى زيد حنث ولا يسقط الحنث هنا بزوال الملك.
ومثاله لو حلف لا يكلم زوجة فلان فطلقها ثم كلهما حنث (فرع)
ولو حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة أستأجرها فلان هذا فقياس المذهب أنه لا يحنث لما قررنا من أن الاضافة تقتضي حقيقة الملك، وكذلك ان ركب دابة استعارها فلان لم يحنث وعند الحنابلة أنه يحنث في الاولى(18/50)
ولم يحنث في الثانية، وكذلك القول فيما إذا اغتصبها فإنه لا يحنث في قول الجميع.
وما بقى من الفصلين فعلى وجهه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن حلف لايدخل هذه الدار من هذا الباب فقلع الباب ونصبه في مكان آخر وبقى الممر الذي كان عليه الباب فدخلها من الممر حنث.
وإن دخلها من الموضع الذى نصب فيه الباب لم يحنث.
ومن أصحابنا من قال: إن دخل من الممر الذي كان فيه الباب لم يحنث لانه لم يدخل من ذلك الباب، لان الباب نقل وهذا خطأ لان الباب هو الممر الذي يدخل ويخرج منه دون المصراع المنصوب والممر الاول باق فتعلق به الحنث وإن حلف لايدخل هذه الدار من بابها أو لايدخل من باب هذه الدار فسد الباب وجعل الباب في مكان آخر فدخلها منه ففيه وجهان أحدهما أنه لا يحنث.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وهو المنصوص في
الام، لان اليمين انعقدت على باب موجود مضاف إلى الدار، وذلك هو الباب الاول فلا يحنث بالثاني، كما لو حلف لايدخل دار زيد فباع زيد داره ثم دخلها والثاني وهو قول أبى إسحاق انه يحنث وهو الاظهر لان اليمين معقودة على بابها وبابها الآن هو الثاني فتعلق الحنث به، كما لو لايدخل دار زيد فباع زيد داره واشترى أخرى.
فإن الحنث بتعلق بالدار الثانية دون الاولى
(فصل)
وان حلف لايدخل بيتا فدخل مسجدا أو بيتا في الحمام لم يحنث لان المسجد وبيت الحمام لا يدخلان في إطلاق اسم البنت، ولان البيت اسم لما جعل للايواء والسكنى، والمسجد وبيت الحمام لم يجعل لذلك، فإن دخل بيتا من شعر أو أدم نظرت، فإن كان الحالف ممن يسكن بيوت الشعر والادم حنث وإن كان ممن لا يسكنها ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى العباس بن سريج أنه لا يحنث لان اليمين تحمل على العرف، ولهذا لو حلف لا يأكل الرموس حمل على ما يتعارف أكله منفردا وبيت الشعر والادم غير متعارف للقروى فلم يحنث به(18/51)
والثانى وهو قول أبى إسحاق وغيره أنه يحنث لانه بيت جعل للايواء والسكنى فأشبه بيوت المدر.
وقولهم انه غير متعارف في حق أهل القرى يبطل بالبيت من المدر فإنه غير متعارف في حق أهل البادية ثم يحنث به، وخبز الارز غير متعارف في حق غير الطبري ثم يحنث بأكله إذا حلف لا يأكل الخبز (الشرح) إن حلف لايدخل هذه الدار من بابها بهذا فدخلها من غير الباب أي من الممر بعد تجريده من الباب حنث، وإن دخلها من الممر الآخر الذي وضع فيه الباب لم يحنث، ومن أصحابنا من قال: إن دخل من الممر الذي كان فيه الباب لم يحنث لان الباب قد انتزع وهو قدحلف على الدخول منه، فإن دخل
من الممر الذي ركب فيه حنث، والى هذا ذهب أحمد وأصحابه.
وهذا خطأ، لان الباب هو الممر الذي منه الدخول والخروج، وليس هو المصراع القائم المتحرك، ولما كان الممر باقيا تعلق الحنث به وإن حلف لايدخل من باب هذه الدار فعمل لها باب آخر في مكان آخر فدخلها منه ففيه وجهان أحدهما المنصوص في الام، واليه ذهب أبو على بن أبى هريرة أنه لا يحنث لتعلق اليمين بباب قائم مضاف إلى الدار، وهو الباب الاول، فلا تنعقد اليمين على الباب الثاني.
والثاني وهو قول أبي اسحاق الاسفرايينى، وهو مذهب أحمد رضى الله عنه أنه يحنث، لانه دخلها وقد حلف أن لا يدخلها من بابها، وقد صار هذا الباب الاخير بابها فينعقد اليمين به، كما لو حلف لايدخل دار زيد فباع زيد داره واشترى أخرى، فإن الحنث يرتبط بالاخرى ارتباطه بالاولى قبل بيعها، ولا يتعلق اليمين بالاول بعد بيعها.
وان قلع الباب ونصب في دار أخرى وبقى الممر حنث بدخوله ولم يحنث بدخوله من الموضع الذي نصب فيه الباب لانها دار أخرى: لان الدخول من الممر لا من المصراع (مسألة) إذا حلف أن لايدخل بيتا فدخل مسجدا أو حماما عاما، ومثل ذلك ما صنع على الشواطئ من أكشاك الاستراحة وخلع الملابس فإنه(18/52)
لا يحنث بدخولها.
وإن كان من أهل الحضر فحلف أن لايدخل بيتا فدخل خباء من الشعر أو الوبر فإنه لا يحنث في وجه قال به أبن سريج ويحنث في وجه قال به أبو إسحق الاسفرايينى وغيره، لان وظيفة البيت الايواء، وبه قال أحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء ومنهم أصحاب أحمد أنه لا يحنث لانه لا يسمى بيتا في العرف
ورجح ابن قدامة أن المذهب الحنث لانهما بيتان حقيقة لقوله تعالى " في بيوت أذن الله أن ترفع " وقال " إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا " وروى " بئس البيت الحمام " وقوله صلى الله عليه وسلم " ستفتح لكم بلاد الروم وستجدون فيها بيوتا تسمى الحمامات، فإذا دخلتموها فائتزروا بالمآزر " وقالوا: إذا دخل الحضرى بيتا من الشعر أو غيره حنث، سواء كان الحالف حضريا أو بدويا لقوله تعالى " والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم " فأما ما لا يسمى بيتا في العرف كالخمية والكشك فالاظهر أن لا يحنث بدخوله من لا يسميه بيتا لان يمينه لا تنصرف إليه قوله " في حق غير الطبري " قلت نسبة إلى طبرستان بفتح الباء وكسر الراء لالتقاء الساكنين وسكون السين اسم بلاد بالعجم، وهى مركبة من كلمتين واليها ينسب أبو على الطبري وابن جرير المفسر وجماعة من أصحابنا.
وأما طبرية وهى مدينة من أعمال فلسطين - أعادها الله إلى الاسلام من يد اليهود - فإن النسبة إليها طبراني على غير قياس - واليها ينسب صاحب المعاجم الثلاثة رحمه الله - وأهل طبرستان كانوا يصنعون الخبز من الارز، ومراد المصنف أن غير الطبري إذا حلف أن لا يأكل الخبز فإنه يحنث إذا أكل خبز الارز وقوله " المصراع " هو الشطر وهما مصراعان أي لوحان.
وقوله " القروى " نسبة إلى القرية وهى الضيعة وقال في كفاية المتحفظ: القرية كل مكان اتصلت به الابنية واتخذ قرارا.
وتقع على المدن وغيرها والجمع قرى على غير قياس.
قال بعضهم: لان ما كان على فعلة من المعتل فبابه أن يجمع على فعال بالكسر مثل ظبية وظباء، وركوة وركاء والنسبة إليها قروى بفتح الراء على غير قياس(18/53)
وقال ابن بطال: القرية سميت بذلك لانها تجمع الناس من قرى إذا جمع ويقال قرية لغة يمانية ولعلها جمعت على قرى مثل لحية ولحى.
وقوله " بيوت المدر " والمدر جمع مدرة مثل قصب وقصبة، وهو التراب المتلبد.
قال الازهرى: المدر قطع الطين وبعضهم يقول: الطين العلمك الذي لا يخالطه رمل.
والعرب تسمى القرية مدرة، لان بنيانها غالبا من المدر وفلان سيد مدرته، أي قريته، ومدرت الحوض مدرا من باب قتل، أصلحته بالمدر وهو الطين.
(فرع)
إذا حلف أن لايدخل البيت فوقف في الدهليز أو الفناء أو الصفة هل يحنث؟ وجهان.
الاول لا يحنث، واليه ذهب أحمد، لانه لا يسمى بيتا، حيث يقال ما دخلت البيت إنما وقفت في الدهليز أو الصحن أو الفناء.
الثاني: يحنث لانه يمكن أن يقال: أمان أهل مكة أن من دخل بيت أبى سفيان فهو آمن، ويشمل ذلك من كان في الفناء أو الصحن أو الصفة - وبهذا قال أبو حنيفة لان جميع الدار بيت.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان حلف لا يأكل هذه الحنطه فجعلها دقيقا، أو لا يأكل هذا الدقيق فجعله عجينا، أو لا يأكل هذا العجين فجعله خبزا لم يحنث بأكله وقال أبو العباس يحنث لان اليمين تعلقت بعينه فتعلق الحنث بها.
وان زال الاسم، كما لو حلف لا يأكل هذا الحمل فذبحه وأكله، والمذهب الاول، لانه علق اليمين على العين والاسم ثم لا يحنث بغير العين، فكذلك لا يحنث بغير الاسم ويخالف الحمل لانه لا يمكن أكله حيا، والحنطة يمكن أكلها حبا، ولان الحمل.
ممنوع من أكله في حال الحياة من غير يمين فلم يدخل في اليمين، والحنطة غير ممنوع
من أكلها فتعلق بها اليمين.
وان حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله وهو تمر، أو لا يأكل هذا الحمل فأكله وهو كبش، أو لا يكلم هذا الصبي فكلمه وهو شيخ، ففيه وجهان(18/54)
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنه لا يحنث كما لا يحنث في الحنطة إذا صارت دقيقا فأكله.
(والثاني) أنه يحنث لان الانتقال حدث فيه من غير صنعة، وفي الحنطة الانتقال حدث فيها بصنعة، وهذا لا يصح لانه يبطل به إذا حلف لا يأكل هذا البيض فصار فرخا، أو لا يأكل هذا الحب فصار زرعا فإنه لا يحنث.
وإن كان الانتقال حدث فيه من غير صنعة وإن حلف لا يشرب هذا العصير فصار خمرا، أو لا يشرب هذا الخمر فصار خلا فشربه لم يحنث كما قلنا في الحنطة إذا صارت دقيقا.
وإن حلف لا يلبس هذا الغزل فنسج منه ثوبا حنث بلبسه، لان الغزل لا يلبس إلا منسوجا فصار كما لو حلف لا يأكل هذا الحيوان فذبحه وأكله.
(فصل)
وإن حلف لا يشرب هذا السويق فأستفه، أو لا يأكل هذا الخبز فدقه وشربه أو ابتلعه من غير مضغ لم يحنث، لان الافعال أجناس مختلفة كالاعيان، ثم لو حلف على جنس من الاعيان لم يحنث بجنس آخر، فكذلك إذا حلف على جنس من الافعال لم يحنث بجنس آخر وإن حلف لا يذوق هذا الطعام فذاقه ولفظه ففيه وجهان.
احدهما لا يحنث لانه لا يوجد حقيقة الذوق ما لم يزدرده، ولهذا لا يبطل به الصوم.
والثاني أنه يحنث لان الذوق معرفة الطعم وذلك يحصل من غير ازدراد، وإن حلف لا يذوقه فأكله أو شربه حنث لانه قد ذاق وزاد عليه.
وإن حلف لا يأكل ولا يشرب
ولا يذوق فأوجر في حلقه حتى وصل إلى جوفه لم يحنث، لانه لم يأكل ولم يشرب ولم يذق.
وان قال: والله لاطعمت هذا الطعام فأوجر في حلقه حنث، لان معناه لاجعلته لى طعاما وقد جعله طعاما له.
(الشرح) ان حلف على شئ بعينه وصفته فتغيرت صفته تبعا لتغير هيئته كمن حلف لا يأكل هذه الحنطة فطحنها دقيقا، فإنها سميت دقيقا، أو حلف لا يأكل هذا الدقيق فعجنه عجينا، أو لا يأكل هذا العجين في التنور خبزا.(18/55)
كل هذه الصور لم يحنث بأكلها، لان اليمين تعلقت على العين والصفة، فكما أنه لا يحنث بغير العين فكذلك لا يحنث بغير الصفة.
وقال أبو العباس بن سريج: يحنث لان اليمين تنعقد على العين والعين باقية وزوال الصفة لا يؤثر في جوهرها، كما لو حلف لا يأكل هذا الحمل فذبجه وأكله فإنه يحنث، والى هذا ذهب أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، والمذهب الاول لما قررنا من اجتماع العين والاسم، ويفارق الحمل لان أكله حيا ممنوع بالشرع وممنوع بالعرف بغير يمين (فرع)
" وان حلف لا يأكل هذا الرطب الخ " إذا تغيرت حقيقة الشئ بصنعتة فلا يتعلق الحنث به.
أما إذا تغير بغير صنعة كمن حلف لا يأكل الرطب فأكله تمرا، أو لا يأكل هذا الحمل فأكله كبشا أو لا يكلم هذا الصبي فكلمه شيخا ففيه وجهان.
ذهب أبو على بن أبى هريرة إلى أنه لا يحنث كما قلنا في الحنطة صارت دقيقا (والثاني) أنه يحث لما ذكره المصنف.
وذهب أصحاب الرأى وأحمد بن حنبل إلى أنه لا يحنث، لانه إذا لم يعنى المحلوف عليه ولم ينو بيمينه ما يخالف ظاهر اللفظ ولا صرفه السبب عنه تعلقت يمينه بما تناوله الاسم الذي علق عليه
يمينه ولم يتجاوزه، فإذا حلف لا يأكل رطبا لم يحنث إذا أكل تمرا ولا بسرا ولا بلحا ولا سائر ما لا يسمى رطبا: وهذا في قول أكثر الفقهاء وقال ابن قدامة ولا نعلم فيه خلافا.
ولو حلف لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو دبسا أو خلا أو ناطقا أو لا يكلم شابا فكلم شيخا، أولا يشترى جديا فاشترى تيسا، أو لا يضرب عبدا فضرب عتيقا لم يحنث بغير خلاف لان اليمين تعلقت بالصفة دون العين ولم توجد الصفة فجرى مجرى قوله: لا أكلت هذه التمرة فأكل غيرها.
(فرع)
فإن حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا - وهو الذي بعضه بسر وبعضه تمر - أو مذنبا - وهو الذي بدأ الارطاب فيه من ذنبه وباقيه بسر - أو حلف لا يأكل بسرا فأكل مذنبا ففيه وجهان.
(أحدهما)
وهو الاظهر أنه يحنث، لانه أكل رطبا وبسرا فحنث، كما لو أكل نصف رطبة ونصف بسرة منفردتين.
وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد ومحمد(18/56)
ابن الحسن (والثاني) لا يحنث، لانه لا يسمى رطبا ولا تمرا، وهو قول أبى يوسف وبعض أصحابنا (مسألة) قوله " فاستقه " من سقفت الدواء وغيره من كل يابس إذا أخذته غير ملتوت، وكل دواء غير مذاب أو معجون فهو سفوف.
والازدراء الالتقام والبلغ من غير مضغ ولا لوك.
أما جملة الفصل أن من حلف لا يأكل شيئا فشربه أولايشربه فأكله أو سفه فإنه لا يحنث، وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأى، لان الافعال أنواع كالاعيان.
وكما لو حلف على نوع من الاعيان لم يحث بغيره فكذلك الافعال، وهي إحدى الروايتين عن أحمد رواها منها فيمن خلف لا يشرب النبيذ فأكله لا يحنث
لانه لا يسمى شربا وفي رواية الخرقي أنه يحنث، لان اليمين على أكل شئ أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب ذلك الشي فحملت اليمين عليه إلا أن ينوى.
ولو قال طبيب لمريض لا تأكل العسل لكان نهيا عن شربه وإن حلف لا يشرب شيئا فمصه ورمى له لا يحنث، وقد روى عن أحمد فيمن حلف لا يشرب فمص قصب السكر لا يحنث.
وهذا قول أصحاب الرأى، فإنهم قالوا إذا حلف لا يشرب فمص حب الرمان ورمى بالتفل لا يحنث، لان ذلك ليس بأكل ولا شرب، ويجئ على قول الخرقى أنه يحنث لانه قد تناوله ووصل إلى بطنه وحقله فإنه يحنث على ما قالوا فيمن حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه فأكله، فإن حلف لا يأكل سكرأ في فيه حتى ذاب فابتلعه فإنه لا يحنث ويتخرج عند أحمد وأصحابه على الروايتين، فإن حلف لا يأكله أولايشربه فذاقه لم يحنث في قولهم جميعا، وإن حلف لا يذوقه فذاقه ولفظه فعلى وجهين
(أحدهما)
لا يحنث، لان التذوق لا يتحقق إلا بالازدراد، ولهذا لم يبطل الصوم به إلا إذا ازدرده (والثاني) يحنث وبه قال أحمد (فرع)
إذا حلف لا يذوقه، فأكله أو شربه أو سفه حنث في قولهم جميعا لانه ذوق وزيادة.
وإن مضغه ورمى به فعلى ما أسلفنا من الوجهين.
وإن حلف لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق فأوجر - والوجوه بفتح والواو وزان رسول(18/57)
الدواء يصب في الحلق، وأوجرت المريض ايجازا فعلت به ذلك، ووجرته أجره من باب وعد لغة، فإن وجره بنحو منقطة أو قطنارة فإنه لم يحنث لانه لم يفعل شيئا مما حلف عليه.
فإن قال لاطعمت هذا الطعام فأوجره أو سفه أو شربه أو ازدرده أو التقمه
حنث لان ذلك كله يسمى طعاما، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم اللبن طعاما في حديث " إنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم " وفي الماء وجهان
(أحدهما)
هو طعام لقوله تعالى " ان الله مبتليكم بنهر فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يطعمه فإنه منى " (والثاني) ليس بطعام لانه لا يسمى طعاما ولا يفهم من اطلاق اسم الطعام ولهذا يعطف عليه فيقال طعام وشراب.
وحديث ابن ماجه يقول صلى الله عليه " لاأعلم ما يجزى من الطعام والشراب الا اللبن " ويقال باب الاطعمة والاشربة (فرع)
إذا أكل دواء فالمذهب أنه يحنث لانه يطعم حال الاختيار، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة، والثاني لا يحنث لانه لايدخل في اطلاق اسم الطعام ولا يؤكل الا عند الضرورة، فإن أكل من نبات الارض ما جرت العادة بأكله حنث بأكله.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان حلف لا يأكل اللحم حنث بأكل لحم كل ما يؤكل لحمه من النعم والوحش والطير، لان أسم اللحم يطلق على الجميع، ولا يحنث بأكل السمك لانه لا يطلق عليه اسم اللحم، وهل يحنث بأكل لحم ما لا يؤكل لحمه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يحنث لانه يطلق عليه اسم اللحم وان لم يحل، كما أطلق على اللحم المغصوب وان لم يحل (والثاني) لا يحنث لان القصد باليمين أن يمنع نفسه مما يستبيحه، ولحم ما لا يؤكل لحمه ممنوع من أكله من غير يمين، فلم يدخل في اليمين، وان حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم لم يحنث، وان حلف لا يأكل الشحم فأكل اللحم لم يحنث لانهما جنسان مختلفان في الاسم والصفة، وان حلف على اللحم فأكل سمين الظهر(18/58)
والجنب وما يعلو اللحم ويتخلله من البياض حنث لانه لحم سمين، وإن حلف على الشحم فأكل ذلك لم يحنث لانه ليس بشحم، وان حلف على اللحم أو الشحم فأكل الكبد أو الطحال أو الرئة أو الكرش أو المخ لم يحنث لانه مخالف للحم والشحم في الاسم والصفة.
وإن حلف على اللحم فأكل لحم الخد أو لحم الرأس أو اللسان ففيه وجهان أحدهما يحنث لانه لحم، والثاني لا يحنث لان اللحم لا يطلق إلا على لحم البدن واختلف أصحابنا في الالية، فمنهم من قال هو شحم يحنث به في اليمين على الشحم ولا يحنث به في اليمين على اللحم لانه يشبه الشحم في بياضه ويذوب كما يذوب الشحم، ومنهم من قال هو لحم فيحنث به في اليمين على اللحم ولا يحنث به في اليمين على الشحم لانه نابت في اللحم ويشبهه في الصلابة.
ومنهم من قال ليس بلحم ولا شحم ولا يحنث به في اليمين على واحد منهما، لانه مخالف للجميع في الاسم والصفة فصار كالكبد والطحال وإن حلف على اللحم فأكل شحم العين لم يحنث لانه مخالف للحم في الاسم والصفة، وان حلف على الشحم فأكله ففيه وجهان أحدهما يحنث به بدخوله في اسم الشحم، والثاني لا يحنث به لانه لايدخل في إطلاق اسمه، كما لايدخل لحم السمك في إطلاق اليمين على اللحم، ولا التمر الهندي في اليمين على التمر.
(الشرح) قوله " كل ما يؤكل لحمه من النعم والوحش والطير " احترز به عما لا يؤكل لحمه ككل ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ من الطير والخنزير والميتة وجملة ذلك أن الحالف على ترك أكل اللحم لا يحنث بأكل ما ليس بلحم من الشحم والمخ، وهو الذي في العظام، والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ولا الكبد والطحال والرئة والقلب والكرش والمصران والقانصة ونحوها، وبهذا قال أحمد
وقال أبو حنيفة ومالك، يحنث بأكل هذا كله لانه لحم حقيقة، ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم فأشبه لحم الفخذ دليلنا أنه لا يسمى لحما وينفرد عنه باسمه وصفته، ولو أمر وكيله بشراء لحم(18/59)
فاشترى هذا لم يكن ممتثلا لامره ولا ينفذ الشراء للموكل، وقد سألت القصاب يوما هل عندك لحم؟ فقال لا، عندي حوائج - يعنى الكبد والقلب والكلية - وقد دل على أن الكبد والطحال ليستا بلحم قوله صلى الله عليه وسلم " أحلت لكم ميتتان ودمان " أما الدمان فالكبد والطحال، ولانسلم أنه لحم حقيقة، بل هو من الحيوان مع اللحم كالعظم والدم فإذا ثبت هذا فإنه إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل من لحم الانعام أو الصيد أو الطائر من مأكولة اللحم فإنه يحنث في قول علماء الامصار.
وأما السمك فإنه لا يحنث بأكله، وبه قال أبو حنيفة وأبو تور، والظاهر من مذهب أحمد ومالك وأبى يوسف وأبى ثور وقتادة أنه يحنث وقال ابن أبى موسى في الارشاد لا يحنث به الا أن ينويه ودليلهم قوله تعالى " الله الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا " وقال " ومن كل تأكلون لحما طريا " ولانه من جسم حيوان ويسمى لحما ودليلنا أنه لا ينصرف إليه اطلاق اسم اللحم، ولو وكل وكيلا في شراء اللحم فاشترى سمكا لم يلزمه، ثم إنه يصح أن ينفى عنه اسم اللحم عرفا واستعمالا فتقول ما أكلت لحما وانما أكلت سمكا، فلم يتعلق به الحنث عند الاطلاق، كما لو حلف لاقعدت تحت سقف، فإنه لا يحنث تحت السماء، مع أن الله تعالى سماها سقفا فقال " وجعلنا السماء سقفا محفوظا " فإطلاق اسم اللحم على لحم السمك مجاز في القرآن واليمين إنما ينصرف إلى الحقيقة
(فرع)
أما في غير مأكول اللحم كالميتة والخنزير والمغصوب فهل يحنث بأكل لحمه؟ وجهان عندنا (الاول) لا يحنث بأكل المحرم بأصله لان يمينه تنصرف إلى ما يحل لا إلى ما يحرم فلم يحنث بما لا يحل، كما لو حلف لايبع فباع بيعا فاسدا لم يحنث (والثاني) وبه قال أحمد وأبو حنيفة يحنث، لان الله تعالى سماه لحما فقال " ولحم الخنزير " ولانه لو حلف أن لا يلبس ثوبا فلبس ثوب بحرير حنث، وأما البيع الفاسد فلا يحنث به لانه ليس بيعا في الحقيقة (فرع)
ان حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم لم يحنث، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
وَقَالَ(18/60)
أبو حنيفة ومالك يحنث.
دليلنا أنه لا يسمى لحما وينفرد عنه باسمه وصفته، ولو أمر وكيله بشراء لحم، فأشترى شحما لم يكن ممتثلا لامره ولا ينفذ الشراء للموكل فلم يحنث بأكله كالبقل فإذا حلف لا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث قولا واحدا لانهما جنسان مختلفان اسما وصفة.
وبهذا قال أبو حنيفة.
وقال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: إذا حلف لا يأكل شحما فأكل لحما حنث لان اللحم لا يخلو من شحم، ولا يكاد اللحم يخلو من شئ منه وإن قل فيحنث به.
وذهب بعض أصحاب أحمد إلى مخالفة الخرقى إلى أنه لا يحنث.
قال ابن قدامة وهو الصحيح، لانه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمه ولا لونه، والذى يظهر في المرق قد فارق اللحم فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه.
(فرع)
إذا حلف على اللحم فأكل لحم الخد أو لحم الرأس أو اللسان فوجهان
(أحدهما)
يحنث لانه لحم حقيقة - وبه قال أحمد في لحم الخد - وحكى عن أبى موسى من أصحاب أحمد أنه لا يحنث إلا أن ينويه باليمين.
وقال أصحاب أحمد
في اللسان وجهان كاوجهين عندنا وفي لحم الرأس والاكارع روى عن أحمد ما يدل على أنه لا يحنث، لان من حلف لا يشترى لحما فاشترى رأسا أو كارعا لا يحنث إلا أن ينوى أن لا يشترى من الشاة شيئا، لان إطلاق اسم اللحم لا يتناول الرؤوس والاكارع، ولو وكله في شراء لحم فاشترى رأسا أو كارعا لم يلزمه والوجه الثاني لا يحنث لما ذكره المصنف، واختلف أصحابنا في الالية، فمنهم من جعلها من الشحم، فلو حلف على الشحم فأكلها حنث، لانها تشبه الشحم في ذوبها وشكلها، فلو حلف لا يأكل لحما فأكلها لم يحنث، وممن قال هي شحم أبو يوسف ومحمد.
ومن أصحابنا من قال هو لحم لانها نابتة في اللحم وتشبهه في الصلابة.
قال ابن قدامة وليس بصحيح لانها لا تسمى لحما ولا يقصد بها ما يقصد به، وتخالفه في اللون والذوب والطعم فلم يحنث بأكلها كشحم البطن.
(فرع)
كل ما كان مقيدا بالنعت أو بالاضافة لا ينصرف إليه اليمين إذا أطلق كمن حلف لا يأكل تمرأ فإنه لا يتناول التمر الهندي أو الشحم فلا يتناول الشحم(18/61)
المعدني الذي تشحم به محركات السيارات والطيارات، وإنما يتناول الشحم الحيواني ويحتمل أن لا يحنث إلا بأكله لان الحقيقة العرفية في عصرنا حصرت اسم الشحم على ماكان معدنيا، ولايقال للادهان المأكولة شحم لا بين العوام ولاغيرهم من الخواص.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان حلف لا يأكل الرؤوس ولم يكن له نية حنث برؤوس الابل والبقر والغنم، لانها تباع مفردة وتؤكل مفردة عن الابدان، ولا يحنث برؤوس الطير فإنها لاتباع مفردة ولا تؤكل مفردة، فإن كان في بلد يباع فيه رءوس الصيد
ورؤوس السمك مفردة حنث بأكلها، لانها تباع مفردة فهى كرءوس الابل والبقر والغنم.
وهل يحنث بأكلها في سائر البلاد؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يحنث لانه لا يطلق عليها اسم الرموس إلا في البلد الذي يباع فيه ويعتاد أكله.
(والثاني) يحنث بها، لان ما ثبت له العرف في مكان وقع الحنث به في كل مكان كخبز الارز.
(فصل)
وان حلف لا يأكل البيض حنث بأكل كل بيض يزايل بائضه في الحياة، كبيض الدجاجة والحمامة والنعامة، لانه يؤكل منفردا ويياع منفردا، فيدخل في مطلق اليمين، ولا يحنث بما لايزايل بائضه كبيض السمك والجراد، لانه لا يباع منفردا ولا يؤكل منفردا، فلم يدخل في مطلق اليمين (الشرح) إذا حلف لا يأكل الرؤوس، والمحلوف عليه هنا عام يتناول أنواعا منها ما جرى العرف ببيعه منفصلا عن البدن، كرءوس الضأن والمعز والبقر: ومنها ما لا ينفصل عن البدن ولا يباع واحده كرءوس الدجاج والحمام والارانب لم يحنث الا فيما تنفصل عن أبدانها وتعرض للبيع وهي بهيمة الانعام دون غيرها وقال أبو حنيفة " لا يحنث بأكل رءوس الابل لان العادة لم تجر بيعها منفردة " وقال محمد وأبو يوسف لا يحنث الا بأكل رءوس الغنم لانها التي تباع في الاسواق - أي على عهدهما - دون غيرهما فيمينه تنصرف إليها(18/62)
وقال أحمد بن حنبل: يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم والصيود والطيور والحيتان والجراد.
ووجهه أن هذه الرؤوس حقيقة عرفية مأكولة فحنث بأكلها كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل من لحم النعام والزرافة وما يندر وجوده وبيعه وعندنا أنها لو صارت حقيقة عرفية وكان الحالف في بلد تباع فيه رءوس الصيود
أو الاسماك منفردة حنث بأكلها.
وفي سريان الحنث على أكلها في بلد آخر وجهان
(أحدهما)
لا يحنث لان الحقيقة العرفية في إطلاق اسم الرؤوس وبيعها لا توجد إلا في البلد الذي تباع فيه الرؤوس ويعتاد أكلها (والثاني) يحنث لان ما ثبت به في بلد يقع به الحنث في كل مكان آخر كخبز الارز الذي لا يصنع إلا في طبرستان، وقد مضى توضيحه (فرع)
إذا حلف لا يأكل البيض وقلنا أن البيض نوعان.
نوع يزايل بائضه في الحياة كبيض الدجاج والحمام والنعام، والآخر لايزايل بائضه كبيض السمك والجراد، فإن الحنث لا يتعلق إلا بالنوع الاول، لانه يؤكل منفردا ويياع منفردا، سواء كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل وجوده كبيض النعام، وبهذا قال أحمد، وقال أصحاب الرأى لا يحنث بأكل بيض النعام.
وقال أبو ثور لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج وما يباع في السوق ولنا أن هذا كله بيض حقيقة وعرفا وهو مأكول فيحنث بأكله كبيض الدجاج، ولانه لو حلف لا يشرب ماء فشرب ماء البحر حنث أو ماء نجسا، أو لا يأكل خبزا فأكل خبز الارز أو الذرة أو البتاو، وهو خبز أهل الصعيد، ويصنع من الذرة الصفراء أو القيظى مع قليل من الحلبة، وهو يختلف عن خبز المدن، فإذا حلف أن لا يأكل خبزا فأكل البتاو في مكان لم يعتد فيه أكله حنث لانه خبز ولافرق بينه وبين الفنيو وأما أكل بيض السمك أو الجراد فكما تقرر لا يحث إلا بأكل بيض يزايل بائضه في الحياة، وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأى وأبو الخطاب من الحنابلة وأكثر العلماء، لان هذا لا يفهم من إطلاق اسم البيض، ولا يذكر إلا مضافا إلى بائضه، ولا يحنث بأكل شئ يسمى بيضا غير بيض الحيوان ولا بأكل شئ يسمى رأسا غير رءوس الانعام إلا فيما فيه الاوجه المذكورة آنفا(18/63)
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن حلف لا يأكل اللبن حنث بأكل لبن الانعام ولبن الصيد، لان اسم اللبن يطلق على الجميع، وان كان فيه ما يقل أكله لتقذره، كما يحنث في اليمين على اللحم بأكل لحم الجميع، وإن كان فيه ما يقل أكله لتقذره، ويحنث بالحليب والرائب وما جمد منه، لان الجميع لبن، ولا يحنث بأكل الجبن واللور واللبا والزبد والسمن والمصل والاقط وقال أبو علي بن أبى هريرة: إذا حلف على اللبن حنث بكل ما يتخذ منه لانه من اللبن والمذهب الاول، لانه لا يطلق عليه اسم اللبن فلم يحنث به، وان كان منه.
كما لو حلف لا يأكل الرطب فأكل التمر.
أو لا يأكل السمسم فأكل الشيرج فإنه لا يحنث.
وإن كان التمر من الرطب والشيرج من السمسم
(فصل)
وإن حلف لا يأكل السمن فأكله مع الخبز أو أكله في العصيدة وهو ظاهر فيها حنث.
وان حلف لا يأكل اللبن فأكله في طبيخ وهو ظاهر فيه أو حلف لا يأكل الخل فأكله في طبيخ وهو ظاهر فيه حنث.
وقال أبو سعيد الاصطخرى " إذا أكله مع غيره لم يحنث لانه لم يفرده بالاكل فلم يحنث.
كما لو حلف لا يأكل طعاما اشتراه زيدا فأكل طعاما اشتراه زيد وعمرو والمذهب الاول لانه فعل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث.
كما لو حلف لايدخل على زيد فدخل على جماعة وهو فيهم.
(الشرح) الحليب فعيل بمعنى مفعول، والحلب بفتحتين يطلق على المصدر كالفتح فالسكون.
وعلى اللبن المحلوب.
فيقال لبن حلب ولين حليب.
وهو أول ما يخرج عند الحلب.
والرائب اسم فاعل من راب يروب رؤبا إذا خثر والروبة بالضم خميرة تلقى في اللبن ليروب ويثخن.
والجبن معروف يعقد من اللبن بالانفحة
واللور بضم اللام هو الجبن يؤكل قبل أن يشتد وهو مرحلة بعد وضع الانفحة في اللبن وقبل أن يصير جبنا، وكانت العرب تأتدم به وتأكله مع التمر.
ويعمل من الحليب الذي يكون بعد اللبا.
واللبا مقصور ومهموز هو لبن البهيمة عند(18/64)
اول ما تنتج يترك على النار فينعقد، ويسمونه في ديارنا المصرية (السرسوب) والمصل فهو الذي يسمونه في ديارنا (الشرش) وهو ماء الجبن فإذا تعتق قيل له (المش) والاقط اللبن المجفف، وقد يغلى ماء الجبن مع الاقط ثم يصفى ثم يعصر فيوضع على الخريطة شئ ثقيل حتى يذهب ما فيه من الماء ثم يملح بالملح ثم يجعل أقراصا أو حلقا.
قال ابن بطال " والشيراز هو أن يؤخذ اللبن الخاثر، وهو الرائب فيجعل في كيس حتى ينزل ماؤه ويضرب " هذا الذي قصده صاحب الكتاب.
ثم قال وقد يعمل الشيراز أيضا بأن يترك الرائب في وعاء ويوضع فوقه الابازير وشئ من المحرمات ثم يؤكل ويترك فوقه كل يوم لبن حليب.
اه أما الاحكام فإنه لو حلف لا يأكل لبنا، فأكل من لبن الانعام أو الصيود أو لبن آدمية حنث، لان اسم اللبن يتناوله حقيقة وعرفا، وسواء كان حليبا أو رائبا أو مائعا أو مجمدا، لان الجميع البن.
وإن كان فيه ما يقل أكله لعدم استساغته أو تقذره، كما لو حلف على اللحم حنث بأكل أي لحم مما مضى تفصيله وإن كان فيه ما يستقذر، ولا يحنث بأكل الجبن والسمن والمصل والاقط والكشك، وبهذا قال العلماء كافة وقال أبو على بن أبى هريرة " إذا حلف على اللبن حنث بكل ما يتخذ منه لانه من اللبن - وليس بمذهب - والمذهب أنه لا يحنث لانه لا يطلق عليه اسم اللبن، وإن كان منه كالرطب والتمر والسمسم والشيرج
(فرع)
وإن حلف لا يأكل السمن فأكله مع الخبز أو أكله في العصيدة وكان السمن ظاهرا فيها حنث، والعصيدة من قولك عصدت الشئ عصدا إذا لويته.
قال الجوهرى والعصيدة التى تعصدها بالمسواط فتمرها به فتنقلب ولا يبقى في الاناء منها شئ إلا انقلب.
وفي حديث خولة فقربت له عصيدة - هو دقيق يلت بالسمن ويطبخ - يقال عصدت العصيدة وأعصدتها، أي اتخذتها، وعصد البعير عنقه لواه نحو حاركه للموت يعصده عصودا فهو عاصد، وكذلك الرجل، يقال عصد فلان يعصد عصودا مات.
وأنشد شمر على الرحل مما منه السير عاصد "(18/65)
وقال الليث " العاصد ههنا الذي يعصد العصيدة " أي يديرها ويقلبها بالمعصدة شبه الناعس به لخفقان رأسه.
وقال أحمد " ان حلف لا يأكل زبدا فأكل سمنا أو لبنا لم يظهر فيه الزبد لم يحنث، وان كان الزبد ظاهرا فيه حنث.
اه وإن حلف لا يأكل سمنا فأكل زبدا أو لبنا أو شيئا مما يصنع من اللبن سوى السمن لم يحنث، وإن أكل السمن منفردا أو في عصيدة أو حلواء أو طبيخ فظهر فيه طعمه حنث، ولذلك إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل طبيخا فيه لبن، أو لا يأكل خلا فأكل (سلطة) فيها خل يظهر طعمه فيه حنث.
وبهذا قال أحمد وأصحابه.
وقال بعض أصحابنا لا يحنث لانه لم يفرده بالاكل، وهذا لا يصح لانه أكل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث، كما لو أكله ثم أكل غيره
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن حلف لا يأكل أدما فأكل اللحم حنث لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " سيد الادام اللحم " ولانه يؤتدم به في العادة فحنث به
كالخل والمرى، فإن أكل التمر ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يحنث لانه لايؤتدم به في العادة، وإنما يؤكل قوتا أو حلاوة (والثاني) أنه يحنث بِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أعطى سائلا خبزا وتمرا وقال هذا أدم هذا "
(فصل)
وان حلف لا يأكل الفاكهة فأكل الرطب أو العنب أو الرمان أو الاترنج أو التوت أو النبق حنث، لانها ثمار أشجار فحنث بها، كالتفاح والسفرجل: وإن أكل البطيخ أو الموز حنث، لانه يتفكه به كما يتفكه بثمار الاشجار.
وإن أكل الخيار أو القثاء لم يحنث لانهما من الخضراوات
(فصل)
وان حلف لا يأكل بسرا ولا رطبا فأكل منصفا حدث في اليمين لانه أكل البسر والرطب، وإن حلف لا يأكل بسرة ولا رطبة فأكل منصفا لم يحنث لانه لم يأكل بسرة ولا رطبة
(فصل)
وإن حلف لا يأكل قوتا فأكل التمر أو الزبيب أو اللحم وهو(18/66)
ممن يقتات ذلك حنث، وهل يحتسب به غيره؟ على ما ذكرناه من الوجهين في بيوت الشعر ورؤوس الصيد.
(الشرح) حديث " سيد الادام اللحم " هو من حديث أخرجه الطبراني في الاوسط وأبو نعيم في الطب والبيهقي في الشعب عن بريدة ولفظه " سيد الادام في الدنيا والآخرة اللحم، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء، وسيد الرياحين في الدينا والآخرة الفاغية " ضعفه السيوطي وقال حسن لغيره.
قلت ولعله يريد بغيره حديث " سيد طعام أهل الجنة اللحم " رواه بن حبان عن أبى الدرداء مرفوعا.
قال الشوكاني (1) في إسناده سليمان بن عطاء يروى الموضوعات عن شيخه مسلمة بن عبد الله اجهنى.
وقال ابن حجر: لم يتبين لى الحكم على هذا المتن بالوضع وأن مسلمة غير
مجروح وسليمان بن عطاء ضعيف.
قال في التعليق: رواه سليمان عن مسلمة عن أبى مشجعة عن أبى الدرداء، وأبو مشجعة ومسلمة لم يجرحا ولم يوثقا فهما مجهولا الحال.
وسليمان قال البخاري في حديثه مناكير.
وقال أبو زرعة منكر الحديث وقال ابن جهان " يروى عن مسلمة بن عبد الله الجهنى عن عمه أبى مشجعة بن ربعى أشياء موضوعة لاتشبه حديث الثقات " اه.
ورواه العقيلى من حديث ربيعة بن كعب مرفوعا " أفضل طعام الدنيا والآخرة اللحم " وقال هذا حديث غير محفوظ.
وقال ابن حبان: عمرو بن بكر المذكور في إسناده يروى عن الثقات الطامات.
ورواية البيهقى في الشعب عن عبد الله بن بريدة عن أبيه من طريق أحمد بن مبيع، ثنا بن بكار ثنا أبو هلال الراسبى عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه.
قال السيوطي في اللآلئ، قال البيهقى ورواه جماعة عن أبى هلال الراسبى تفرد به أبو هلال ثم قال السيوطي: وهو من رجال الاربعة ووثقه أبو داود قال العلامة المعلمى: أقول إذا كان رواه جماعة عن أبى هلال فالظاهر ان يسوق البيهقى الطرق.
وهذه الطريق التى ساقطة البتة، فإن العباس بن بكار
__________
(1) الفوائد المجموعة بتعليق العلامة المحدث عبد الرحمن المعلمى(18/67)
كذاب يضع.
وإذا كانت هذه أقوى الطرف فما ظنك بالباقي؟ وقد أخرجه الطبراني في الاوسط ثنا محمد بن شعيب ثنا سعيد بن عتبة القطان ثنا أبو عبيدة الحداد ثنا أبو هلال - فذكره ثم قال - ولم يروه عن ابن بريدة إلا أبو هلال ولا عنه إلا أبو عبيدة تفرد به سعيد.
وقال في مجمع الزوائد (5 - 25) فيه سعيد بن عبية (كذا) القطان ولم أعرفه.
أقول أحسبه سعيد بن عنبسة الرازي الخزاز فإنه يروى عن أبى عبيدة
الحداد، ولعله كان يبيع القطن مع الخز فقال الرواى عنه القطان.
ومحمد بن شعيب ليس هو بن سابور، فإن الطبراني لم يدركه، فينظر من هو؟ وسعيد بن عنبسة كذاب.
أما رواية أنس عند البيهقى أيضا فهى من طريق هشام بن سلمان عن يزيد الرقاشى، وهشام قال ابن عدى أحاديثه عن يزيد غير محفوظة، ويزيد ليس بشئ.
ورواية أبى نعيم إنما هي من حديث علي رضى الله عنه، وهى من نسخة عبد الله بن أحمد بن عامر الموضوعة.
وقال الشوكاني وليس في شئ من هذه الطرق ما يوجب الحكم بالوضع.
أما حديث " هذا أدم هذا " أخرجه أبو داود عن يوسف عن عبد الله بن سلام قَالَ " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع تمرة على كسرة وقال هذه إدام هذه، وذكره الامام أحمد في مسنده والمرى بتشديد الراء والياء وكأنه منسوب إلى المرارة، قال ابن بطال والعامة تخففه وصفته أن يوخذ الشعير فيقلى ثم يطحن ويعجن ويخمر ثم يخلط بالماء فيستخرج منه خل يضرب لونه إلى الحمرة يؤتدم به ويطبخ به، والاترنج والاترج والاترجة والترنجة والترنج قال في القاموس " حامضة مسكن غلمة النساء ويجلو اللون والكلف.
وقشره في الثياب يمنع السوس اه وقد ثبت فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال " مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الاترجة طعمها طيب وريحها طيب " والتوت شجر معروف يعلف به دود القز له ثم أحمر، والنبق ثمار النذر، وفي الحديث في سدرة(18/68)
المنتهى " نبقها مثل قلال هجر " والريحان الفارسى ويسميه عوام اليمن الشقر والبنفسج والياسمين معروفان
أما الاحكام فإنه ان حلف لا يأكل أدما حنث بأكل كل ما جرت العادة بأكل الخبر به لان هذا معنى التأدم، وسواء في هذا ما يصطبغ كالطيخ والمرق والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن قال تعالى في الزيت " تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " وقال صلى الله عليه وسلم " نعم الادام الخل " وقال " ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " أخرجه ابن ماجه: أو من الجامدات كالشواء والجبن والباقلاء والزيتون والبيض.
وبهذا قال أحمد وأبو ثور وقال أبو حنيفة: ما لا يصطبغ به فليس بأدم، لان كل واحد منهما يرفع إلى الفم منفردا.
دليلنا ماروى عن النبي صلى الله عليه وسلم " سيد الادام اللحم " وقال " سيد الادام الملح " رواه ابن ماجه، لانه يؤكل به الخبز عادة، فكان أدما كالذى يصطبغ به، ولان كثيرا مما ذكرنا لا يؤكل في العادة وحده إنما يعد للتأدم به وأكل الخبز به فكان أدما كالخل واللبن.
وقول أبى حنيفة انه يرفع إلى الفم وحده مفردا، يجاب عنه بجوابين
(أحدهما)
أن منه ما يرفع مع الخبز كالملح ونحوه، (والثاني) أنهما يجتمعان في الفم والمضغ والبلع الذي هو حقيقة الاكل فلا يضر افتراقهما قبله.
فأما التمر ففيه وجهان
(أحدهما)
هو أدم لما روى أبو داود عن عبد الله بن سلام قَالَ " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع تمرة على كسرة وقال: هذه إدام هذه " (والثاني) ليس بأدم لانه لايؤتدم به عادة إنما يؤكل قوتا أو حلوى (فرع)
فإن حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل كل ما يسمى فاكهة وهى كل ثمرة تخرج من الشجرة يتفكه بها من العنب والرطب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والاترج والتوت والنبق والموز والجميز،
وبهذا قال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة وأبو ثور لا يحنث بأكل ثمرة النخل والرمان لقوله تعالى (فيهما فاكهة ونخل ورمان) والمعطوف(18/69)
يغاير المعطوف عليه.
دليلنا أنها ثمرة شجرة يتفكه بهما فكانا من الفاكهة كسائر ما ذكرنا، ولانهما في عرف الناس فاكهة ويسمى بائعهما فاكيها، وموضع بيعهما سوق الفاكهة، والاصل في العرف الحقيقة والعطف لشرفهما وتخصيصهما كَقَوْلِهِ تَعَالَى " مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ ورسله وجبريل وميكال " وهما من الملائكة.
(فرع)
القثاء والخيار والفرع والباذنجان من الخضر وليس من الفاكهة وبهذا قال أحمد.
أما البطيخ فإنه من الفاكهة على ما ذكره المصنف، وهو أحد الوجهين عند أصحاب أحمد ذكره القاضى وبه قال أبو ثور، لانه ينضج ويحلو، أشبه ثمر الشجر.
والثاني عندهم: ليس من الفاكهة، لانه ثم بقلة أشبه الخيار والقثاء، وأما ما يكون في الارض كالجزر واللفت والفجل والقلقاس والسوطل ونحوه، فليس شئ من ذلك فاكهة، لانه لا يسمى بها ولا في معناها دليلنا أن البطيخ وإن كان يشبه في شجرة النباتات الزاحفة كالباذنجان والقرع والقثاء والخيار، إلا أنه ثمر حلو يفارق ما ذكرنا في الطعم وفي طريقة الاكل إذ تلك الانواع تصطبغ وتطبخ وتملح وليس كذلك البطيخ والشمام ولانها فاكهة في حقيقتها العرفية عند الناس على أختلاف أقاليمهم وأجناسهم.
(فرع)
إذا حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا - وهو الذي بعضه بسر وبعضه تمر أو مذنبا - وهو الذي بدأ فيه الارطاب من ذنبه وباقيه بسر، أو حلف لا يأكل بسرا فأكل ذلك حنث، وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن
وأحمد بن حنبل.
وقال أبو يوسف وبعض أصحابنا: لا يحنث لانه لا يسمى رطبا ولا تمرا، والصحيح أنه أكل رطبا وبسرا فحنث، كما لو أكل نصف رطبة ونصف بسرة منفردتين، وما ذكروه لا يصح، فإن القدر الذى أرطب رطب والباقي بسر، ولو أنه حلف لا يأكل البسر فأكل البسر الذي في النصف حنث، وإن أكل البسر من يمينه على الرطب وأكل الرطب من يمينه على البسر لم يحنث واحد منهما وإن حلف واحد ليأكلن رطبا وآخر ليأكلن بسرا فأكل الحالف على أكل(18/70)
الرطب ما في النصف من الرطبة وأكل الآخر باقيها برا جميعا، وإن حلف ليأكلن رطبة أوبسرة أو لا يأكل ذلك فأكل منصفا لم يبر ولم يحنث لانه ليس فيه رطبة ولابسرة (فرع)
إذا حلف لا يأكل قوتا فأكل خبزا أو تمرا أوزيبا أو لحما أو لبنا حنث لان لك واحد من هذه يقتات في بعض البلدان، ويحتمل أن لا يحنث إلا بأكل ما يقتاته أهل بلده، لان يمينه تنصرف إلى القوت المتعارف عندهم في بلدهم ولاصحاب أحمد وجهان كالوجهين عندنا، وإن أكل حبا يقتات خبزه حنث لانه يسمى قوتا، لان النبي صلى الله عليه ولم " كان يدخر قوت عياله لسنة " وإنما يدخل الحب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن حلف لا يأكل طعاما حنث بأكل كل ما يطعم من قوت وأدم وفاكهة وحلاوة، لان اسم الطعام يقع على الجميع، والدليل عليه قوله تَعَالَى " كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وهل يحنث بأكل الدواء؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يحنث لانه لايدخل في إطلاق اسم الطعام (والثاني) يحنث لانه يطعم في حال الاختيار، ولهذا يحرم فيه الربا
(فصل)
وإن حلف لا يشرب الماء فشرب ماء البحر احتمل عندي وجهين
(أحدهما)
يحنث لانه يدخل في اسم الماء المطلق، ولهذا تجوز به الطهارة.
(والثاني) لا يحنث لانه لا يشرب، وإن حلف لا يشرب ماء فراتا فشرب ماء دجلة أو غيره من الماء العذبة حنت، لان الفرات هو الماء العذب، والدليل عليه قوله تعالى (وأسقيناكم ماء فراتا) وأراد به العذب، وان حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من ماء دجلة لم يحنث، لان الفرات إذا عرف بالالف واللام فهو النهر الذي بين العراق والشام
(فصل)
وإن حلف لا يشم الريحان فشم الضميران - وهو الريحان الفارسى - حنت، وإن شم ما سواه كالورد والبنفسج والياسمين والزعفران لم يحنث لانه(18/71)
لا يطلق اسم الريحان الا على الضميران وماواه لا يسعى إلا بأسمائها.
وان حلف لا يشم المشموم حنث بالجميع، لان الجميع مشموم، وان شم الكافور أو المسك أو العود أو الصندل لم يحنث لانه لا يطلق عليه اسم المشموم.
وان حلف لا يشم الورد والبنفسج فشم دهنهما لم يحنث لانه لم يشم الورد والبنفسج، وان جف الورد والبنفسج فشمهما ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يحنث، كما لا يحنث إذا حلف لا يأكل الرطب فأكل التمر (والثاني) يحنث لبقاء اسم الوردة والبنفسج.*
*
* (الشرح) في قوله تَعَالَى " كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ " الآية، هو يعقوب عليه السلام.
روى الترمذي عن ابن عباس " أن اليهود قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال كان يسكن البدو فاشتكى عرق
النساء فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الابل وألبانها فلذلك حرمها، قالوا " صدقت " وذكر الحديث.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتاده والسدى: أقبل يعقوب عليه السلام من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلا بطشا قويا، فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه، فغمز الملك فخذ يعقوب عليه السلام ثم صعد الملك إلى السماء ويعقوب ينظر إليه، فهاج عليه عرق النسا ولقى من ذلك بلاء شديدا، فكان لاينام الليل من الوجع ويببت وله زقاء - أي صياح - فحلف يعقوب عليه السلام ان شفاه الله عز وجل ألايأكل عرقا، ولا يأكل طعاما فيه عرق فرحمها على نفسه، فجعل بنوه يتبعون بعد ذلك العروق فيخرجونها من اللحم واختلف هل كان التحريم من يعقوب باحتهاده أم بإذن الله تعالى؟ والصحيح الاول لان الله تعالى أضاف التحريم إليه بقوله " إلا ما حرم " وأن النبي إذا أداه اجتهاده إلى شئ كان دينا يلزمنا اتباعه لتقرير الله إياه على ذلك، وكما يوحى إليه(18/72)
ويلزم اتباعه.
كذلك يؤذن له ويجتهد، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه.
وقد حرم نبينا صلى الله عليه وسلم العسل على الرواية الصحيحة، أو خادمه مارية فلم يقر الله تحريمه ونزل " لم تحرم ما أحل لله لك " قال الكيا الطبري فيمكن أن يقال مطلق قوله تعالى " لم تحرم ما أحل الله " يقتضى ألا يختص بمارية، وقد رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى، فجعلها مخصوصا بموضع النص، وأبو حنيفة رأى ذلك أصلا في تحريم كل بماح وأجراه مجرى اليمين.
هكذا أفاده القرطبى أما قوله تعالى " وأسقيناكم ماء فراتا " فالفرات أشد الماء عذوبة.
وقال تعالى
" هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج " وقد فرت الماء يفرت فرته إذا عذب فهو فرات.
وقال ابن الاعرابي، فرت الرجل إذا ضعف عقله بعد مسكه، والفراتان الفرات ودجيل.
أما الاحكام: فإذا حلف لا يأكل طعاما فأكل ما يسمى طعاما من قوت وأدم وحلواء وتمر جامد ومائع حنث لقوله تَعَالَى " كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ " وقوله تعالى " ويطعمون الطعام على حبه " يعنى على محبتهم للطعام لحاجتهم إليه، وقيل على حب الله تعالى، وقال تعالى " قل لا أجد فيما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لحم خنزير " وسمى النبي صلى الله عليه وسلم اللبن طعاما وقال " انما تحزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم " وفي الماء عند الحنابلة وجهان
(أحدهما)
هو طعام لقوله تعالى " ان الله مبتليكم بنهر فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يطعمه فإنه منى " والطعام ما يطعم، ولان النبي صلى الله عليه وسلم سمى اللبن طعاما وهو مشروب فكذلك الماء (والثاني) ليس بطعام لانه لا يسمى طعاما ولا يفهم من اطلاق اسم الطعام ولهذا يعطف عليه، فيقال طعام وشراب، والمعطوف يغاير المعطوف عليه، وقال صلى الله عليه وسلم " إنى لاأعلم ما يجزئ من الطعام والشراب الا اللبن " رواه ابن ماجه، ويقال باب الاطعمة والاشربة، ولانه أن كان طعاما في الحقيقة فليس بطعام في العرف فلا يحنث بشربه، لان مبنى الايمان على العرف، لكون الحالف على الغالب لا يريد بلفظه الا ما يعرفه، وهذا هو الاصح من اوجهين(18/73)
(فرع)
هل يحنث بأكل الدواء كالاقراص المسكنة والفيتامينات والمركبات الاقرباذ ينية والفار ماكوبيا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يحنث لانه يطعم حال الاختيار
(والثاني) لا يحنث لانه لايدخل في اطلاق اسم الطعام ولا يؤكل الا عند الضرورة، وبهذين الوجهين قال الحنابلة، ومن يراجع كتاب الربا هنا يجد أن الدواء ربوي لانه طعام وجها واحدا أما هنا فوجهان (مسألة) إذا حلف لا يشرب ماء وأطلق احتمل عند المصنف وجهين في حنثه بشرب ماء البحر - وهو الابيض المتوسط أو الاحمر أو المحيط الهندي أو الاطلسي أو الاقيانوس - أو ما تفرع عنها من خلجان كالخليج العربي وخليج العقبة وما تربط من مضايق وممرات، وأحد الوجهين أنه يحنث لان ماء البحر يدخل في مطلق الماء ولذا تصح الطهارة به لانه ماء طهور.
فإذا عرفت أن المياه جميعها مصدرها البحر.
اما عن طريق التبخر ثم نزولها مطرا تكون منه الآبار والانهار.
واما عن طريق المياه الجوفية التي تكون منها العيون وبعض الآبار.
وعرفت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله " إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الماء " قال " هو الطهور وماؤه الحل ميتته " عرفت أن الماء عند الاطلاق يتناول ماء البحر حقيقة وعرفا وشرعا والوجه الثاني أنه لا يحنث.
لان ماء البحر لا يشرب ولا يساغ عادة.
ولو كان يسمى ماء لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم " انا نركب البحر ونحمل معا القليل من الماء فإن توضأنا به لم نجد ماء نشربه أفنتوضأ بماء البحر؟ وهذا سؤال يدل بمجرده على أن ماء البحر لا يسمى ماء بلا قيد.
لانه قال أفنتوضأ بماء البحر.
هكذا بالاضافة (مسألة) إذا حلف على الجنس المضاف كماء دجلة أو ماء الفرات أوماء البئر فهل يحنث بشرب بعضه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يحنث بشرب بعضه لانه حلف على ما لا يمكنه فعل جميعه فتناولت يمينه بعضه منفردا.
وبهذا قال أحمد وأبو حنيفة
(والثاني) لا يحنث.
لانه إذا حلف على الجنس كالناس والماء والخبز والتمر(18/74)
حنث بفعل البعض، لان يمينه تناولت الجميع فلم يحنث بفعل البعض، فألحق به اسم الجنس المضاف، وأما غير المضاف فليس فيه الوجهان، لانه إذا حلف ليفعلن شيئا لم يبر إلا بفعل جميعه وان حلف لاشربت من الفرات فشرب من مائه حنث، سواء كرع فيه أو اغترف منه ثم شرب، وبهذا قال أحمد وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: لا يحنث حتى يكرع فيه، لان حقيقة ذلك الكرع فلم يحنث بغيره، كما لو حلف لاشربت من هذا الاناء فصب منه في غيره وشرب ولنا أن معنى يمينه أن لا يشرب من ماء الفرات: لان الشرب يكون من مائها.
ومنها الغرف فحملت اليمين عليه، كما لو حلف لاشربت من هذه البئر ولا أكلت من هذه الشجرة ولا شربت من لبن هذه الشاة، ويفارق الكوز فإن الشرب في العرف منه، لانه آلة للشرب بخلاف النهر.
وما ذكروه يبطل بالبئر والشاة والشجرة، وقد سلموا أنه لو استقى من البئر أو احتلب لبن الشاة أو التقط من الشجرة وشرب وأكل حنث فكذا في مسألتنا هنا (فرع)
وان حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه حنث لانه من ماء الفرات، ولو حلف لا يشرب من نهر الفرات فشرب من نهر يأخذ منه ففيه وجهان
(أحدهما)
يحنث لان معنى الشرب منه الشرب من مائه فحنث، كما لو حلف لاشربت من مائه.
وهذا أحد الاحتمالين لاصحاب أحمد (والثاني) لا يحنث.
وهو قول أبى حنيفة وأصحابه الا أبا يوسف فإن عنه رواية أنه يحنث، وانما قلنا لا يحنث، لان ما أخذه النهر يضاف إلى ذلك النهر
لا إلى الفرات، ويزول بإضافته إليه عن اضافته إلى الفرات فلا يحنث به كغير الفرات، ومن حلف لا يشرب من نهر النيل فشرب من ترعة النوبارية أو ترعة المحمودية فإن اضافتها إلى الترعة لايمنع العلم بكونها احدى روافد النيل فيحنث، كما لو شرب من فرع رشيد أو فرع دمياط أما إذا حلف لا يشرب من نهر الاردن فشرب من بحيرة الحولة لم يحنث لانهما وان اتصل ماؤهما فلكل منهما اسمه وموقعه.
وكذلك يقال في بانياس(18/75)
والحصبائى والليطانى والمزهرانى واليرموك وبحيرة طبرية من أنهار الشام أنقذها وأقالها من عثرتها وأهلك الطامعين فيها.
(فرع)
إذا حلف لا يشم الريحان فإنه لا يحنث الا بشم الريحان الفارسى كالضميران: لان الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه فلا يحنث بشم النبت أو الزهر الطيب الريح كالورد والبنفسج والنرجس والياسمين والزعفران، لان هذه كلها وان كانت رياحين الا أن كلا منها له اسم يعرف به فلم يحنث بشمها.
وقال أبو الخطاب من الحنابلة يحنث بشم ما يمسى في الحقيقة ريحانا لان الاسم يتناوله حقيقة، ولا يحنث بشم الفاكهة وجها واحدا لانها لا تسمى ريحانا حقيقة ولا عرفا.
ومن هذا لو حلف لا يشم وردا ولا بنفسجا فشم دهن البنفسج وماء الورد فإنه لا يحنث لانه لم يشم وردا ولا بنفسجا وقال أبو حنيفة: يحنث بشم دهن البنفسج لانه يسمى بنفسجا ولا يحنث بشم ماء الورد لانه لا يسمى وردا.
وهل يحنث بشم الورد والبنفسج البابس؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل تمرا (والثاني) يحنث لان حقيقته باقية فحنث به كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل لحما قديدا أو محفوظا، وفارق ما ذكر في الوجه
الاول فإن التمر ليس رطبا، وبهذا قال أحمد وأصحابه وأصحاب الرأى وان حلف لا يشم المشموم حنث بكل ما ذكرنا ما عدا الكافور والمسك والعود والصندل والجاوى، لانه لا يطلق عليه اسم المشموم.
وانما يقال التجمير والتبخير أو التعطير للمسك
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان حلف لا يلبس شيئا فلبس درعا أو جوشنا أو خفا أو نعلا ففيه وجهان، أحدهما يحنث لانه لبس شيئا.
والثاني لا يحنث لان اطلاق اللبس لا ينصرف إلى غير الثياب
(فصل)
وان كان معه رداء فقال: والله لا لبست هذا الثوب وهو رداء فارتدى به أو تعمم به أو اتزر به حنث لانه لبسه وهو رداء.
فإن جعله قميصا أو(18/76)
سراويل ولبسه لم يحنث لانه لم يلبسه وهو رداء.
فإن قال والله لالبست هذا الثوب ولم يقل وهو رداء فارتدى به أو تعمم به أو اتزر به أو جعله قميصا أو سراويل ولبسه حنث.
ومن أصحابنا من قال لا يحنث لانه حلف على لبسه وهو على صفة فلم يحنث بلبسه على غير تلك الصفة، والصحيح هو الاول لانه حلف على لبسه ثوبا فحمل على العموم، كما لو قال والله لالبست ثوبا
(فصل)
وان إحلف لا يلبس حليا فلبس خاتما من ذهب أو فضة أن مخنفة من لؤلؤ أو غيره من الجواهر حنث لان الجميع حلى، والدليل عليه قوله عز وجل (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) وإن لبس شيئا من الخرز أو السبج، فإن كان ممن عادته التحلى به كأهل السواد حنث لانهم يسمونه حليا.
وهل يحنث به غيرهم؟ على ما ذكرناه من الوجهين في بيوت الشعر ورؤوس الصيد.
وإن تقلد سيفا محلى لم يحث، لان السيف ليس بحلى.
وإن لبس منطقة
محلاة ففيه وجهان
(أحدهما)
يحنث لانه من حلى الرجال (والثاني) لا يحنث، لانه ليس من الآلات المحلاة فلم يحنث به كالسيف وإن حلف لا يلبس خاتما فلبسها في غير الخنصر، أو حلف لا يلبس قميصا فارتدى به أو لا يلبس قلنسوة فلبسها في رجله لم يحنث، لان اليمين يقتضى لبسا متعارفا وهذا غير متعارف
(فصل)
وإن من عليه رجل فحلف لا يشرب له ماء من عطش فأكل له خبزا أو لبس له ثوبا أو شرب له ماء من غير عطش لم يحنث، لان الحنث لا يقع إلا على ما عقد عليه اليمين، والذي عقد عليه اليمين شرب الماء من عطش، فلو حنثاه على سواه لحنثناه على ما نوى لا على ما حلف عليه.
وإن حلف لا يلبس له ثوبا فوهب له ثوبا فلبسه لم يحنث لانه لم يلبس ثوبه (الشرح) الدرع الحديد مؤنثة في الاكثر وتصغر على دريع بغير هاء على غير قياس.
وجاز أن يكون التصغير على لغة من ذكر، وربما قيل دريعة بالماء وجمعها أدرع ودروع وأدراع.(18/77)
قال ابن الاثير وهى الزردية، ودرع المرأة قميصها مذكر.
وقال في اللسان: الدرع لبوس الحديد تذكر وتؤنث.
قال الاخرر مقلصا بالدرع ذى التقضن يمشى العرضي في الحديد المتقن والجمع في القليل أدرع وأدراع وفي الكثير دروع.
وفي حديث خالد " أدراعه وأعتده حبسا في سبيل الله " والجوشن الصدر، وقيل ما عرض من وسط الصدر وجوشن الجرادة صدرها وجوشن الليل وسطه وصدره، والجوشن الذي يلبس من السلاح.
قال ذو الرمة يصف ثورا طعن كلابا بروقيه في صدرها
فكر يمشق طعنا في جواشنها كأنه الاجر في الاقبال يحتسب والمخنقة القلادة الواقعة على المخنق، والسبخ خرز والواحدة سبجة مثل قصب وقصبة، وسواد العراق سمى كذلك لخضرة أشجاره وزروعه، والعرب تسمى الاخضر أسود لانه يرى كذلك على بعده وكل شخص من إنسان وغيره يسمى سوادا، وجمعه أسودة، مثل جناح وأجنحة، ومتاع وأمتعة، وسواد المسلمين جماعتهم.
أما الاحكام: فان حلف لا يلبس شيئا حنث بكل ما يلبس من الثياب وغيرها كالدرع والجوشن والنعل والخف في أحد الوجهين، وبه قال أحمد لانه ملبوس حقيقة وعرفا فحنث به كالثياب، وقد استدل على هذا الوجه بحديث " أن النجاشي أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خفين فلبسهما " وقيل لابن عمر انك تلبس النعال، فقال إنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبسهما فإذا أدخل يده في الخف أو النعل أو الدرع والجوشن في رجليه لم يحنث، لان ذلك ليس بلبس لهما (واوجه الثاني) لا يحنث.
لان اللبس عند الاطلاق لا ينصرف إلا إلى الثياب.
(فرع)
ان حلف لا يلبس هذا الثوب وهو رداء، فارتدى به أو ائتزر أو اعتم به حنث، لان ما فعله يطلق عليه اسم اللبس فحنث به.
وبهذا قال أحمد وأصحابه، لانه لبسه وهو رداء، فإن غيره عن كونه رداء ولبسه ولم يحنث لان اليمين وقعت على ترك لبس رداء.
فإن حلف لا يلبس هذا الثوب - وكان رداء في حال حلفه - لم يقل(18/78)
وهو رداء كالتي قلها - فارتدى به أو ائتزر أو اعتم به أو جعله قميصا أو سراويل أو قباء ولبسه حنث على الصحيح من المذهب لانه قد لبسه فحمل على عموم اللبس
كما لو قال والله لالبست ثوبا، فإنه يحنث بلبس أي ثوب على أي نحو مما قررنا (فرع)
إذا حلف ليلبسن هو أو ليلبسن أمراته حليا فلبس هو أو ألبس امرأته خاتما من فضة أو مخنقة من لؤلؤ أو جوهر وحده بر في يمينه، وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة لايبر لانه ليس بحلى.
وإذا حلف لا يلبس - بالنفى - حليا فلبس خاتما من فضة أو وضع دبوسا في صدره أو زرارا معدنيا في كم قميصه حنث لان ذلك من وسائل الزينة في عصرنا هذا كالخرز والسبج عند أهل السواد في عصر المصنف، فإن كان ممن يلبس الجبة والقفطان فوضع دبوسا في صدره مما يوضع حلية من يلبس الملابس الافرنجية ففيه وجهان كالوجهين في بيوت الشعر ورؤوس الصيد وقال الحنابلة: إن لبس عقيقا أو سبجا، ولو كان من أهل السواد لا يحنث لانه ليس بحلى كالودع وخرز الزجاج، وإن كان لا يلبس حليا فلبس دراهم أو دنانير في مرسلة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يحنث لانه ليس بحلى إذا لم يلبسه فكذلك إذا لبسه (والثاني) يحنث لانه ذهب وفضة لبسه فكان حليا كالسوار والخاتم (فرع)
إذا حلف لا يلبس حليا فتقلد سيفا محلى بالذهب لا يحنث، لان الشرع لم يعتبره حليا، وإن لبس حزاما محلى ففيه وجهان
(أحدهما)
يحنث لانه مما يتحلى به الرجال، وبه قال أحمد رضى الله عنه (والثاني) لا يحنث لانه آلة محلاة فأشبه السيف.
وإن حلف لا يلبس خاتما فلبسها في غير مكانها من الخنصر بل جعلها في الوسطى أو السبابة لم يحنث كما لو حلف لا يلبس قميصا فارتدى به، أولا يلبس قلنسوة فلبسها في رجله لم يحنث لمخالفة ذلك للعرف (مسألة) إذا أراد أن يقطع منة عليه لرجل فإن يمينه لا تتعدى ما انعقد
عليه لفظه.
وقال أحمد: إن الاسباب معتبرة في الايمان فيتعدى الحكم بتعديها، فإذا امتن عليه بثوب فحلف أن لا يلبسه لتنقطع المنة به حنث بالانتفاع به في(18/79)
غير اللبس من أخذ ثمنه، لانه نوع انتفاع به يلحق المنة به، وان لم يقصد قطع المنة ولا كان سبب يمينه يقتضى ذلك لم يحنث إلا بما تناولته يمينه، وهو لبسه خاصة فلو أبدله بثوب غيره ثم لبسه أو انتفع به في غير اللبس أو باعه وأخذ ثمنه لم يحنث لعدم تناول اليمين له لفظا ونية وسببا ولنا أننا لو أحنثناه هنا لاحنثناه على ما نوى لا على ما حلف عَلَيْهِ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَإِنْ حلف لا يضرب امرأته فضربها ضربا غير مؤلم حنث لانه يقع عليه اسم الضرب، وان عضها أو خنقها أو نتف شعرها لم يحنث، لان ذلك ليس بضرب، وان لكمها أو لطمها أو رفسها ففيه وجهان.
أحدهما يحنث لانه ضربها والثاني لا يحنث لان الضرب المتعارف ما كان يؤلم وإن حلف ليضرب عبده مائة سوط فشد مائة سوط فضربه بها ضربة واحدة فإن تيقن أنه أصابه المائة بر في يمينه لانه ضربه مائة سوط.
وان تيقن أنه لم يصبه بالمائة لم يبر لانه ضربه دون المائة.
وإن شك هل أصابه بالجميع أو لم يصبه بالجميع فالمنصوص أنه يبر وقال المازنى.
لايبر، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ حَلَفَ ليفعل كذا في وقت إلا أن يشاء فلان: فمات فلان حنث، وإذا لم نجعله بارا للشك في المشيئة وجب أن لا نجعله بارا للشك في الاصابة، والمذهب الاول، لان أيوب عليه السلام حلف ليضربن امرأته عددا فقال عز وجل " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " ويخالف ماقاله الشافعي رحمه الله في المشيئة لانه ليس الظاهر وجود
المشيئة، فإذا لم تكن مشيئة حنث بالمخالفة، والظاهر إصابته بالجميع فبر.
وان حلف ليضربنه مائة مرة فضربه بالمائة المشدودة لم يبر لانه لم يضربه إلا مرة، فإن حلف ليضربه مائة ضربة، فضربه بالمائة المشدودة دفعة واحدة فأصابه الجميع ففيه وجهان:
(أحدهما)
لايبر لانه ما ضربه الا ضربة، ولهذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة إلى الجمرة لم يحتسب له سبعا(18/80)
(والثاني) أنه يبر لانه حصل بكل سوط ضربة، ولهذا لو ضرب به في حد الزنا حسب بكل سوط جلدة (الشرح) قوله: فقال الله عز وجل " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " ذهب المفسرون في تفسير هذه الآية مذهب الاسرائيليات التي تغفل السياق ومواقع الكلم.
وحكموا في ذلك أحاديث بعضها موقوف وبعضها مرفوع لم يصح منها سوى حديث " بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رجل من جراد من ذهب " الحديث.
وإذ لم يصح عنه فيه إلا ما ذكر القرآن فإنا ذاكروا ماقاله ابن العربي لموافقته مذهبنا في تأويلها.
قال ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة من العام فقول باطل، لانه أهبط منها بلغنة وسخط إلى الارض فكيف يرقى إلى محل الرضا ويحول في مقامات الانبياء ويخترق السموات العلى، إن هذا لخطب من الجهالة عظيم، إلى أن قال: وأما قولهم: إنه قال لزوجته أنا إله الارض، ولو تركت ذكر الله وسجدت أنت لى لعافيته، فاعلموا وإنكم لتعلمون أنه لو عرض لاحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام ما جاز عنده أن يكون إلها في الارض وأنه يسجد له وأنه يعافى من البلاء فكيف أن تستريب زوجة نبى؟ ولو كانت زوجة سوادى أو قدم برجوى
ما ساغ لك عندها وأما تصويره الاموال والاهل في واد فذلك ما يقدر عليه إبليس بحال، ولا هو في طريق السحر، فيقال إنه من جنسه.
إلى أن قال: والذي جرأهم على ذلك وتذرعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى " إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب " انتهى.
قلت: الذى يتفق مع نظام الذكر الحكيم والتذكير المتين أن الله تعالى أراد أن يسلى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بجهاد الانبياء قبله وصبرهم على الضرر والبلاء فليس من المناسب أن يقول له: اذكر عبدنا أيوب كيف حلف أن يضرب امرأته مائة سوط، فقلنا له خذ عرجونا به مائة شمراخ فاضربها به ولا تحنث انا وجدناه صابرا نعم العبد انه أواب.(18/81)
ان هذا كلام عجيب وفهم للآيات غريب، وان الذي يناسب مقام النبوة أن يكون أبوب عليه السلام بعث في قوم كان الشيطان يعبث بعقولهم، فكان كلما آمن به فريق منهم ارتد وانحاز إلى الضلالة فشكا لربه هذا العناء " انى مسنى الشيطان بنصب وعذاب " فقال له ربه " ثبت قدمك على دعوتنا وتقدم بخطى سريعة ثابتة إلى الامام، وهذا هو الذي يفيده معنى الركض بالرجل.
ففى هذا ازالة لما يمسك من لغوب ونصب وتنقية لما تعانيه من عناد قومك من وساوس الشيطان، وشراب هنئ لك يشرح صدرك، ويجلو عنك الضيق والحرج وخذ بيدك غصنا فلوح به على وجوه الناس ولا تأثم ولا تغلظ، لان الحنث هو الاثم.
قال تعالى " وكانوا يصرون على الحنث العظيم " ومما استقر في الفطر وارتكز في الطباع أن الغصن الرطب كغصن الزيتون مثلا يضرب به المثل في الامم بالسلام.
والله أعلم.
أما أحكام الفصل فإنه لا يجوز أن يضرب الرجل امرأته فوق حد الادب، لقوله صلى الله عليه وسلم " واضربوهن ضربا غير مبرح " وقد اختلف الفقهاء في هذا الحكم الذي فهموه من الآتة، هل هو عام أو خاص بأيوب وحده؟ فروى عن مجاهد أنه عام وحكى عن القشيرى أن ذلك خاص بأيوب.
وحكى المهدوى عن عطاء بن أبى رباح أن ذلك حكم باق، وأنه أذا ضرب بمائة قضيب ونحوه ضربة واحدة بر وروى نحوه الشافعي رضى الله عنه.
وروى نحوه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المقعد الذي حملت منه الوليدة.
وأمر أن يضرب بعثكول فيه مائة شمراخ ضربة واحدة.
وقال القشيرى وقيل العطاء هل يعمل بهذا اليوم؟ فقال ما أنزل القرآن الا ليعمل به ويتبع.
وروى عن عطاء أنها لايوب خاصة.
وكذلك روى أبو زيد عن ابن القاسم عن مالك " من حلف ليضربن عبده مائة فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر وقال القرطبى، وقال بعض علمائنا - يريد مالك - قوله تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " أي ان ذلك منسوخ بشريعتنا(18/82)
قال ابن المنذر وقد روينا عن على أنه جلد الوليد بن عقبه بسوط له طرفان أربعين جلدة، وأنكر مالك هذا وتلا قوله تعالى " فاجلدوا كل واحد منها مائة جلدة " وهذا مذهب أصحاب الرأى.
اه وقد احتج الشافعي رضى الله عنه بحديث خرجه أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن أبن شهاب أخبرني أبو أسامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الانصار " أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلدة على عظم، فدخلت
عليه جارية لبعضهم، فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال: استفتوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنى قد وقعت على جارية دخلت على، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه اليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ".
قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة أو ضربا ولم يقل: ضربا شديدا ولم ينو ذلك بقلبه يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ولا يحنث، وقال ابن المنذر: إذا حلف الرجل ليضربن عبده مائة فضربه ضربا خفيفا فهو بار عند الشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى وقال مالك ليس الضرب إلا الضرب الذي يؤلم.
(تنبيه) قال القرطبى في جامع أحكام القرآن ج 15 ص 215.
استدل بعض جهال المنزهدة، وطعام المتصوفة بقوله تعالى لايوب " اركض برجلك " على جواز الرقص، قال أبو الفرج الجوزى: وهذا احتجاج بارد، لانه لو كان أمر بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء إعجازا من الرقص، ولئن جاز أن يكون تحريك رجل قد أنحلها تحكم الهوام دلالة على جواز الرقص في الاسلام جاز أن يجعل قوله سبحانه " اضرب بعصاك الحجر " جوازا على ضرب المحاد بالقضبان نعوذ بالله من التلاعب بالشرع، وقد احتج بعض قاصريهم بِأَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلى " أنت منى وأنا منك "(18/83)
فخجل، وقال لجعفر " أشبهت خلقي وخلقي " فحجل، وقال لزيد " أنت أخونا ومولانا " فخجل، ثم ذكر قصة زفن الحبشة والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر
إليهم وأجاب على كل ذلك.
(فرع)
إذا حلف أن يضربها عشرة أسواط فجمعها وضربها بها ضربة واحدة بر في يمينه إذا علم أنها مستها كلها، وإن علم أنها لم تمسها لم يبر، وقال أحمد: إن حلف أن يضربه عشرة فجمعها فضربه بها لم يبر في يمينه، وبهذا قال مالك وأصحاب الرأى.
وقال ابن حامد من الحنابلة يبر، لان أحمد قال في المريض عليه الحد، يضرب بعثكال النخل فيسقط عنه الحد.
(فرع)
وإن حلف أن يضرب امرأته في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه، لان الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه في وقته وهو الغد، والحالف قد خرج عن أن يكون من أهل التكليف قبل الغد فلا يمكن حنثه، وكذلك إن جن الحالف في يومه فلم يفق إلا بعد خروج الغد، لانه خرج عن كونه من أهل التكليف.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن حلف لا يهب له فأعمره أو أرقبه أو تصدق عليه حنث لان الهبة تمليك العين بغير عوض: وإن كان لكل نوع منها اسم.
وإن وقف عليه وقلنا إن الملك ينتقل إليه حنث، لانه ملكه العين من غير عوض.
وإن باعه وحاباه لم يحنث، لانه ملكه بعوض، وإن وصى له لم يحنث، لان التمليك بعد الموت والميت لا يحنث.
(فصل)
وإن حلف لا يتكلم فقرا القرآن لم يحنث: لان الكلام لا يطلق في العرف الا على كلام الآدميين.
وان حلف لا يكلم فلانا فسلم عليه حنث، لان السلام من كلام الآدميين، ولهذا تبطل به الصلاة، فإن كلمه وهو نائم أو ميت أو في موضع لا يسمع كلامه لم يحنث، لانه لا يقال في العرف كلمه.
وان كلمه في موضع يسمع الا أنه لم يسمع لاشتغاله بغيره حنث، لانه كلمه.
ولهذا
يقال كلمه فلم يسمع(18/84)
وان كلمه وهو أصم فلم يسمع للصم فقيه وجهان.
أحدهما يحنث لانه كلمه وان لم يسمع فحنث، كما لو كلمه فلم يسمع لاشتغاله بغيره.
والثاني لا يحنث وهو الصحيح لانه كلمه وهو لا يسمع، فأشبه إذا كلمه وهو غائب، وان كاتبه أو راسله ففيه قولان: قال في القديم يحنث.
وقال في الجديد لا يحنث.
وأضاف إليه أصحابنا: إذا أشار إليه، فجعلوا الجميع على قولين، أحدهما يحنث.
والدليل عليه قوله عز وجل " وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا " فاستثنى الوحى وهو الرسالة من الكلام فدل على أنها منه.
وقوله عز وجل " قال آيتك أن لاتكلم الناس ثلاثة أيام الا رمزا " فاستثنى الرمز وهو الاشارة من الكلام، فدل على أنها منه، ولانه وضع لافهام الآدميين فأشبه الكلام.
والقول الثاني أنه لا يحنث لقوله عز وجل " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ انسيا " ثم قال " يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا، فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا " فلو كانت الاشارة كلاما لم تفعله، وقد نذرت أن لاتكلم.
ولان حقيقة الكلام ما كان باللسان، ولهذا يصح نفيه عما سواء بأن نقول: ماكلمته وانما كاتبته أو راسلته أو أشرت إليه، ويحرم على المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، لقوله عليه السلام " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، والسابق أسبقهما إلى الجنة " وان كاتبه أو راسله ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يخرج من مأثم الهجران، لان الهجران ترك الكلام فلا يزول الا بالكلام (وَالثَّانِي) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ
أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يخرج من مأثم الهجران، لان القصد بالكلام ازالة ما بينهما من الوحشة، وذلك يزول بالمكاتبة والمراسلة (الشرح) قوله تعالى " وما كان لبشر أن يكلمه الله الاوحيا " سبب ذلك أن اليهود قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه ان كنت نبيا(18/85)
كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ مُوسَى لن ينظر إليه، فنزل قوله تعالى " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " ذكره النقاش والواحدي والثعلبي.
وقد احتج بهذه الآية الشافعي في القديم فيمن حلف ألا يكلم رجلا فأرسل إليه رسولا أنه حانث، لان المرسل قد سمى فيها مكلما للمرسل إليه، إلا أن ينوى الحالف المواجهة بالخطاب قال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يحلف أن لا يكلم فلانا فكتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا، فقال الثوري الرسول ليس بكلام.
وقال الشافعي في الجديد: لا يبين أن يحنث.
وقال النخعي: والحكم في الكتاب يحنث.
وقال مالك يحنث في الكتاب والرسول وقال مرة: الرسول أسهل من الكتاب.
وقال أبو عبيد: الكلام سوى الخط والاشارة وقال أبو ثور " لا يحنث في الكتاب " وقال ابن المنذر لا يحنث في الكتاب والرسول.
وقال القرطبى وهو قول مالك أما قوله تعالى قال آيتك أن لاتكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " قال أبو الشعثاء جابر بن زيد رضى الله عنه، إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لايستطيع أن يكلم أحدا، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه (قلت) والرمز في اللغة الايماء بالشفتين، وقد يستعمل في الايماء بالحاجبين
والعينين واليدين، وأصله الحركة.
وقيل طلب تلك الآية زيادة طمأنينة.
المعنى تم النعمة بأن تجعل لى آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة، فقيل له " آيتك أن لاتكلم الناس ثلاثة أيام " أي تمتنع من الكلام ثلاث ليال.
وقال النحاس، قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه، لان الله لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا، اه ثم إن في هذه الاية دليلا على أن الاشارة تنزل منزلة الكلام، وذلك موجود في كثير من السنة.
وآكد الاشارات ماحكم بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أمر الجارية حين قال لها أين الله؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقال اعتقها فإنها مؤمنة فأجاز الاسلام بالاشارة الذي هو أصل الديانة الذي يمنع الدم والمال وتستحق(18/86)
به الجنة وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فوجب أن تكون الاشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء وروى ابن القاسم عن مالك أن الاخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه.
وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالاخرس في الرجعة والطلاق وقال أبو حنيفة ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهى باطل، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان.
وقال القرطبى والقياس في هذا كله أنه باطل لانه لا يتكلم ولا يعقل اشارته قال أبو الحسن بن بطال، وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التى جاءت بجواز الاشارات في أحكام مختلفة في الديانة، ولعل البخاري حاول بترجمته " باب الاشارة في الطلاق والامور " الرد عليه وقال عطاء أراد بقوله ألا تكلم الناس، صوم ثلاثه أيام، وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا، وهذا فيه بعد.
أفاده القرطبى
(قلت) وعندي أن زكريا سأل الله تعالى أن يجعل له آية، فقال أيتك أنى أجعلك لا تستطيع الكلام ثلاثة أيام إلا إشارة.
وهذه أعظم آية بظهرها الله تعالى لزكريا في ذات نفسه أما قوله تعالى " فإما ترين من البشر أحدا " الاصل في ترين ترأيين بوزن تمنعين قبل التوكيد ودخول الجازم، فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى، ونقلت فتحتها إلى الراء فصار تريين ثم قبلت الياء الاولى ألفا لتحركها وانتفاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان الالف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث لالتقاء الساكنين، لان النون المثقلة يمنزلة نونين، الاولى ساكتة فصار ترين.
وعلى هذا النحو قول دريد بن الصمة إما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أديال الدجى وقول الافوه العبدى إما ترى أزرى به مأس زمان ذى انتكاس مئوس قال ابن عباس وأنس، إذا سألك أحد عن ولدك فقولي إنى نذرت للرحمن(18/87)
صوما.
أي صمتا، وفي قراءة أبى بن كعب (إنى نذرت للرحمن صوما صما) والذى تتابعت به الاخبار عن أهل الحديث أن الصوم هو الصمت، لان الصوم إمساك عن الاكل، والصمت إمساك عن الكلام وقوله تعالى (فأشارت إليه) دليل عليه أن مريم التزمت ما أمرت به من ترك الكلام.
ولم يرد في هذه الآية أنها نطفت ب (إنى نذرت للرحمن صوما) وإنما ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال إن أمرها ب (قولى) إنما أريد به الاشارة.
أما حديث (لا يحل لمسلم) الخ فقد أخرجه البخاري في الادب عن أبي أيوب
الانصاري من طريق عبد الله بن يوسف، وفي الاستئذان عن على عند مسلم، وفي الادب عن أبى أيوب من طريق بن يحيى بن يحيى في سنن أبي داود، وعن أبى أيوب عند الترمذي في البر من طريق محمد بن يحيى وفي الموطأ عن أبي أيوب من طريق ابن شهاب.
أما الاحكام فقد اختلف علماء الشرع فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا، فقال مالك إنه يحنث الا أن ينوى مشافهته، ثم رجع فقال لا ينوى في الكتاب ويحنث الا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله قال ابن القاسم: إذا قرأ كتابه حنث، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه.
وقال أشهب، لا يحنث إذا قرأه الحالف، وهذا بين، لانه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام.
الا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث، وعليه يخرج قول ابن القاسم هكذا قال المالكية.
فإن حلف ليكلمنه لم يبر الا بمشافهته وقال ابن الماجشون: وان حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا بر ولو علماه جميعا لم يبر حتى يعلمه، لان علمهما مختلف.
واتفق مالك والشافعي وأهل الكوفة أن الاخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه.
وقال الكوفيون الا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شئ.
قال الطحاوي، الاخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع(18/88)
العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز المأيوس منه الجماع نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة واتفق أكثر أصحابنا على أنه إذا حلف ألا يكلمه فأرسل إليه رسولا أو كتب إليه حنث، الا إذا أراد لا يشافهه
وقد روى الاثرم وغيره عن أحمد في رجل حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه كتابا.
قال وأى شئ كان سبب ذلك انما ينظر إلى سبب يمينه ولم حلف؟ ان الكتاب قد يجرى مجرى الكلام، والكتاب قد يكون بمنزلة الكلام في بعض الحالات الا أن يكون قاصدا هجرانه وترك صلته والا لم يحنث بكتاب ولا رسول لان ذلك ليس بتكلم في الحقيقة، وهذا يصح نفيه، فيقال ما كلمته وانما كاتبته أو راسلته، ولذلك قال تعالى (تلك الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله) وقال (يا موسى ان اصطفتيك على الناس برسالاتى وبكلامي) وقال (وكلم الله موسى تكليما) ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره من الرسل ولم يختص بكونه كليم الله ونجيه وقد قال أحمد حين مات بشر الحافي، لقد كان فيه أنس وما كلمته قط، وكانت بينهما مراسلة.
وممن قال لا يحنث بهذا الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر والشافعي في الجديد واحتجوا جميعا بقوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى) فاستثنى الرسول من التكلم، والاصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، ولانه وضع لافهام الآدميين أشبه الخطاب، والصحيح أن هذا ليس بتكلم، وهذا الاستثناء من غير الجنس كما قال في الاية الاخرى (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) والرمز ليس بتكلم، لكن ان نوى ترك مواصلته أو كان سبب يمينه يقتضى هجرانه حنث لذلك.
ولذلك قال أحمد وغيره، ان الكتاب ينزل منزلة الكلام فلم يجعلوه كلاما، انما قالوا هو بمنزلته في بعض الحالات(18/89)
(فرع)
إذا كلم غير المحلوف عليه بقصد إسماع المحلوف عليه فإنه يحنث.
وبهذا قال أحمد، لانه قد أراد تكليمه، ويرد عليه ماروينا عن أبى بكرة رضى الله عنه أنه كان قد حلف ألا يكلم أخاه زيادا، فلما أراد زياد الحج جاء أبو بكرة إلى قصر زياد فدخل فأخذ بنيا لزياد صغيرا في حجره ثم قال: يا أبن أخى إن أباك يريد الحج ولعله يمر بالمدينة فيدخل على أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا النسب الذي أدعاه - وهو يعلم أنه ليس بصحيح - وأن هذا لا يحل له، ثم قام فخرج وهذا يدل على أنه لم يعتقد ذلك تكليما.
ووجه الاول أنه أسمعه كلامه قاصدا لاسماعه فأشبه ما لو خاطبه كما قال الشاعر اياك أعنى فاسمعي يا جارة فإن ناداه بحيث يسمع فلم يسمع لتشاغله أو غفلته حنث، وقد سئل أحمد عن رجل حلف ألا يكلم فلانا، فناداه والمحلوف عليه لا يسمع قال " يحنث " لانه قد أراد تكليمه، وهذا لكون ذلك يسمى تكليما، يقال كلمته فلم يسمع، وان كان ميتا أو غائبا أو مغمى عليه أو أصم لا يعلم بتكليمه اياه لم يحنث
__________
(1) زياد بن أبيه استلحقه معاوية بأبي سفيان بن حرب فدعى زياد بن أبي سفيان، وقد كانت أمهما - هو وأخوه أبو بكرة - سمية، جارية مهداة من النعمان بن المنذر ملك الحيرة إلى الطبيب العربي الحارث بن كلدة، وكان أبو سفيان يستريح عندها لدى مروره بالطائف ويقال انه سفح بها فأعقبت زيادا وأبو سفيان هو أبو أم المؤمنين أم حبيبه، وادعاه زياد النسب يجعله أخا لام حبيبة، الامر الذي تستنكره حتى لا يقوى على مواجهتها فيدخل بيتها بهذا النسب الزائف(18/90)
وقال بعض أصحاب أحمد كالقاضي أبى بكر: إنه يحنث بنداء الميت، لان النبي صلى الله عليه وسلم كلهم وناداهم وقال " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ".
ويرد على هذا قوله تعالى " وما أنت يسمع من في القبور " ولانه قد بطلت حواسه وذهبت نفسه، فكان أبعد من السماع من الغائب البعيد لبقاء الحواس في حقه، وإنما كان ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرأ اختص به فلا يقاس عليه غيره.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن حلف لا يسلم على فلان فسلم على قوم هو فيهم ونوى السلام على جميعهم حنث، لانه سلم عليه، وإن استثناه بقلبه لم يحنث لان اللفظ، وان كان عاما إلا أنه يحتمل التخصيص فجاز تخصيصه بالنية، وإن أطلق السلام من غيرنية ففيه قولان.
(أحدهما)
أنه يحنث لانه سلم عليهم، فدخل كل واحد منهم فيه.
(والثاني) أنه لا يحنث لان اليمين يحمل على المتعارف، ولايقال في العرف لمن سلم على الجماعة وفيهم فلان: إنه كلم فلانا وسلم على فلان، وإن حلف لايدخل على فلان في بيت فدخل على جماعة في بيت هو فيهم - ولم يستثنه بقلبه - حنث بدخوله عليهم، وان استثنى بقلبه عليهم ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يحنث كما لو حلف لا يسلم عليه فسلم عليهم واستثناه بقلبه (والثاني) أنه يحنث لان الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالاستثناء، والسلام قول فجاز تخصيصه بالاستثناء، ولهذا لو قال سلام عليكم إلا على فلان صح، وإن قال دخلت عليكم إلا على فلان لم يصح.
(فصل)
وإن حلف لا يصوم أو لا يصلى فدخل فيهما حنث، لانه بالدخول فيهما سمى صائما ومصليا، وان حلف لايبع أو لا يتزوج أو لا يهب
لم يحنث إلا بالايجاب والقبول ومن أصحابنا من قال يحنث في الهبة بالايجاب من غير قبول، لانه يقال(18/91)
وهب له ولم يقبل، والصحيح هو الاول، لان الهبة عقدتمليك فلم يحنث فيه من غير ايجاب وقبول كالبيع والنكاح ولا يحنث الا بالصحيح، فأما إذا باع بيعا فاسدا أو نكاح نكاحا فاسدا أو وهب هبة فاسدة لم يحنث، لان هذه العقود لا تطلق في العرف والشرع إلا على الصحيح.
(الشرح) إذا حلف لا يكلم فلانا فسلم عليه أو لا يسلم عليه فسلم على جماعة هو فيهم حنث لان السلام كلام تبطل الصلاة به، فإن قصد المحلوف عليه مع الجماعة حنث لانه كلمه، وان قصدهم دونه لم يحنث، وهو مذهب أحمد رضى الله عنه لان اللفظ العام يحتمل التخصيص، فإن أطلق السلام من غيرنية ففيه قولان
(أحدهما)
يحنث، وبه قال الحسن وأبو عبيد ومالك وأبو حنيفة وأحمد لانه مكلم لجميعهم، لان مقتضى اللفظ العموم فيحمل على مقتضاه عند الاطلاق (والثاني) لا يحنث، لان العام يصلح للخصوص فلا يحنث بالاحتمال، ووجه القول الاول أن هذا الاحتمال مرجوح فيتعين العمل بالراجح، كما احتمل اللفظ المجاز الذى ليس بمشتهر، فإنه لايمنع حمله على الحقيقة عند الاطلاق، فإن لم يعلم أن المحلوف عليه فيهم ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يحنث، لانه لم يرده فأشبه مالو استثناه، وهو احدى الروايتين عن أحمد (والثاني) يحنث لانه قد أرادهم بسلامه، وهو منهم وهذا بمنزلة الناسي.
(فرع)
إذا صلى بالمحلوف عليه اماما ثم سلم من الصلاة حنث، لانه شرع له أن ينوى السلام على الحاضرين، وقال أحمد وأبو حنيفة لا يحنث، لانه قول مشروع في الصلاة فلم يحنث به كتكبيرها وليست نية الحاضرين بسلامة واجبة
في السلام وان أرتج عليه في الصلاة ففتح عليه الحالف لم يحنث لان ذلك كلام الله وليس بكلام الآدميين.
(مسألة) إذا حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ قرأ في الصلاة لم يحنث، وان قرأ خارجا منها حنث لانه يتكلم بكلام الله، وان ذكر الله تعالى لم يحنث، ومقتضى مذهب أبى حنيفة أنه يحنث لانه كلام، قال تعالى " وألزمهم كلمة التقوى ".(18/92)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أفضل الكلام أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا الله والله أكبر " وقال " كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم " دليلنا أن الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين، ولهذا لما قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّ اللَّهَ يحدث عن أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ أَنْ لا تكلموا في الصلاة " لم يتناول المختلف فيه.
وقال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت " وقوموا لله قانتين " فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وقال تعالى " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أياما إلا رمزا، واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والابكار " فأمره بالتسبيح مع قطع الكلام عنه، ولان ما لا يحنث به في الصلاة لا يحنث به خارجا منها كالاشارة، وما ذكروه يبطل بالقراءة والتسبيح في الصلاة، وذكر الله المشروع فيها، وان استأذن عليه إنسان فقال (ادخلوها بسلام آمنين) يقصد القرآن لم يحنث وان قصد التعبير بالآية عن الاذن حنث.
(فرع)
إذا حلف لايدخل على فلان فدخل على جماعة هو فيهم يقصد الدخول عليه معهم حنث، وان استثناه بقلبه ففيه وجهان.
(أحدهما)
يحنث لان الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالقصد، وقد وجد في حق الكل على السواء وهو فيهم فحنث به كما لو لم يقصد استثناءه، وفارق السلام فإنه قول يصح تخصيصه بالقصد، ولهذا يصح أن يقال: السلام عليكم الا فلانا، ولا يصح أن يقال: دخلت عليكم الا فلانا، ولان السلام قول يتناول ما يتناوله الضمير في عليكم، والضمير يصح أن يراد به الخاص، فصح أن يراد به من سواها، والفعل لا يتأتى هذا فيه، وان دخل بيتا لا يعلم أنه فيه فوجده فيه فهو كالدخول عليها ناسيا.
(والثاني) لا يحنث كما لو حلف أن يسلم عليه فسلم على جماعة هو فيهم يقصد بقلبه السلام على غيره، فإن قلنا، لا يحنث بذلك فخرج جبن علم بها لم يحنث، وكذلك ان حلف لايدخل عليها فدخلت هي عليه فخرج في الحال(18/93)
لم يحنث، وإن أقام فهل يحنث؟ على وجهين بناء على من حلف لايدخل دارا هو فيها فاستدام المقام بها فهل يحنث؟ وجهين (مسألة) كل عمل يتوقف حدوثه على شخص الحالف حنث بفعله له كالصلاة والصوم، أما إذا كان العمل لا يتحقق تنفيذه إلا بشخصين كطرفي التعاقد في البيع والشراء والزواج والهبة والعمرى والرقبي، فإنه لا يحنث إلا بالايجاب والقبول، فإن حلف لا يبيع فباع بيعا فيه الخيار ففيه وجهان
(أحدهما)
يحنث لانه بيع شرعى صحيح فيحنث به كالبيع اللازم، لان بيع الخيار يثبت الملك به بعد الخيار بالاتفاق وهو سبب له.
وهذا هو قول أحمد وأصحابه (والثاني) لا يحنث لان الملك لا يثبت في مدة الخيار فأشبه البيع الفاسد وهذا هو قول أبي حنيفة فإن حلف لا يبيع أو لا يتزوج، فأوجب البيع والنكاح ولم يقبل المزوج
والمشتري لم يحنث، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، ولا نعلم فيه خلافا، لان البيع والنكاح عقدان لا يتمان إلا بالقبول، فلم يقع الاسم على الايجاب بدونه، فلم يحنث به.
وإن حلف لا يهب ولا يعير فأوجب ذلك ولم يقبل الآخر، فقال القاضى من الحنابلة وأبو حنيفة وأبو العباس بن سريح من أصحابنا " يحنث " لان الهبة والعارية لاعوض فيهما فكان مسماهما الايجاب، والقبول شرط لنقل الملك وليس هو من السبب فيحنث بمجرد الايجاب فيهما كالوصية، والمذهب عندنا وهو ما صححه المصنف أنه لا يحنث بمجرد الايجاب لانه عقد لايتم إلا بالقبول فلم يحنث فيه بمجرد الايجاب كالنكاح والبيع (فرع)
إذا حلف لا يتزوج حنث بمجرد الايجاب والقبول الصحيح، لا نعلم فيه خلافا لان ذلك يحصل به المسمى الشرعي فتناولته يمينه، وإن حلف ليتزوجن بر بذلك، سواء كانت له امرأة أو لم يكن، وسواء تزوج نظيرتها أو دونها أو أعلى منها.
إذا ثبت هذا فإنه لا يحنث بالنكاح الفاسد ولا يحنث بالبيع الفاسد، وقد روى عن أحمد في البيع الفاسد روايتان، والماضي والمستقبل في ذلك سواء إلا عند محمد بن الحسن فإنه قال، إذا حلف ما صليت ولا تزوجت ولا بعت وكان قد فعله فاسدا حنث لان الماضي لا يقصد منه إلا الاسم، والاسم يتناوله(18/94)
والمستقبل بخلافه فإنه يراد بالنكاح والبيع الملك وبالصلاة القربة.
ودليلنا أن ما لا يتناوله الاسم في المستقبل لا يتناوله في الماضي كالايجاب وغير المسمى، وما ذكروه لا يصح لان الاسم لا يتناول الا الشرعي (فرع)
الوصيه قد يتبادر إلى الخاطر أنها تنزل منزلة الهبة والبيع وما فيه إيجاب وقبول فإننا قد علمنا قول المذهب في الهبة ولكن الوصية يقع عليها الاسم بدون القبول، ولهذا لما قال الله تعالى " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان
ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين " انما أراد الايجاب دون القبول، ولان الوصية صحيحة قبل موت الموصى ولا قبول لها حينئذ، وإذا كان الشافعي رضى الله عنه يقول " إذا صح الحديث فهو مذهبي " فإنه - لاشك - أن مذهبه في الوصية هو ما ذهبنا إليه المفهوم من الآية بناء على أصله وإذا حلف لا يهب له فأهدى إليه أو أعمره حنث وان أعطاه من الصدقة الواجبة أو نذر كفارة حنث.
ولاصحاب أحمد قولان
(أحدهما)
لا يحنث.
وهو قول أصحاب الرأى لانهما يختلفان اسما فاختلفا حكما، بِدَلِيلِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " هو عليه صدقة ولنا هدية " وكانت الصدقة محرمة عليه والهدية حلال له، وكان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة: فمع هذا الاختلاف لا يحنث في أحدهما بفعل الآخر.
دليلنا أنه تبرع بعين في الحياة فحنث به كالهدية، ولان الصدقة تسمى هبة فلو تصدق بدينار قيل وهب دينارا وتبرع بدينار.
واختلاف التسمية لكون الصدقة نوعا من الهبة فيختص باسم دونها، كاختصاص الهدية والعمرى بإسمين ولم يخرجهما ذلك عن كونهما هبة.
وكذلك اختلاف الاحكام فإنه قد يثبت للنوع ما لا يثبت للجنس، كما يثبت للآدمي من الاحكام ما لا يثبت لمطلق الحيوان فإن وصى له لم يحنث، لان الهبة تمليك في الحياة، والوصية انما تملك بالقبول بعد الموت، فإن أعاره لم يحنث لان الهبة تمليك الاعيان وليس في العارية تمليك عين ولان المستعير لا يملك المنفعة وانما يستبيحها، ولهذا يملك المعير الرجوع فيها، ولا يملك المستعير اجارتها ولا اعارتها.
(مسألة) إذا حلف لاصليت صلاة حنث بتكبيرة الاحرام وفي الصيام حنث(18/95)
بطلوع الفجر إذا نوى الصيام، ووافقنا أبو حنيفة في الصيام.
وقال في الصلاة
لا يحنث حتى يسجد سجدة.
وقال أحمد لا يحنث حتى يكمل الصلاة.
وقال ابن قدامة يسمى مصليا بدخوله في الصلاة، ولانه شرع فيما حلف عليه، فوافقنا في الصلاة والصوم، وقال أبو الخطاب يحنث إذا صلى ركعة، وفي الصوم يوما كاملا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال والله لاتسريت ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يحنث بوطئ الجارية، لانه قد قبل إن التسرى مشتق من السراة، وهو الظهر، فيصير كأنه حلف لا يتخذها ظهرا، والجارية لا يتخذها ظهرا إلا باوطئ - وقد قيل إنه مشتق من السر وهو الوطئ، فصار كما لو حلف لا يطؤها (والثاني) أنه لا يحنث الا بالتحصين عن العيون والوطئ، لانه مشتق من السر، فكأنه حلف لا يتخذها أسرى الجوارى.
وهذا لا يحصل الا بالتحصين والوطئ (والثالث) أنه لا يحنث الا بالتحصين والوطئ والانزال، لان التسرى في العرف اتخاذ الجارية لابتغاء الولد، ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه
(فصل)
وإن حلف أنه لامال له وله دين حال حنث، لان الدين الحال مال، بدليل أنه تجب فيه الزكاة ويملك أخذه إذا شاء، فهو كالعين في يد المودع، وان كان له دين مؤجل ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يحنث لانه لا يستحق قبضه في الحال (والثاني) أنه يحنث لانه يملك الحوالة به والابراء عنه، وان كان له مال مغصوب حنث لانه على ملكه وتصرفه، وان كان له مال ضال ففيه وجهان
(أحدهما)
يحنث، لان الاصل بقاؤه (والثاني) لا يحنث، لانه لا يعلم بقاءه فلا يحنث بالشك.
(فصل)
وان حلف أنه لا يملك عبدا وله مكاتب فالمنصوص أنه لا يحنث.
وقال في الام: ولو ذهب ذاهب إلى أنه عبدا ما بقى عليه درهم، فإنما يعنى أنه عبد
في حال دون حال، لانه لو كان عبدا له لكان مسلطا على بيعه وأخذ كسبه، فمن أصحابنا من جعل ذلك قولا آخر.(18/96)
وقال أبو على الطبري رحمه الله: إنه لا يحنث قولا واحدا، وإنما ألزم الشافعي رحمه الله نفسه شيئا وانفصل عنه فلا يجعل ذلك قولا له.
(فصل)
وان حلف لا يرفع منكرا إلى فلان القاضى أو إلى هذا القاضى ولم ينو أنه لا يرفعه إليه وهو قاض فرفعه إليه بعد العزل ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يحنث لانه شرط أن يكون قاضيا فلم يحنث بعد العزل.
كما لو حلف لا يأكل هذه الحنطة فأكلها بعد ما صارت دقيقا (والثاني) أنه يحنث لانه علق اليمين على عينه فكان ذكر القضاء تعريفا لا شرطا، كما لو حلف لايدخل دار زيد هذه فدخلها بعد ما باعها زيد.
وإن حلف لا يرفع منكرا إلى قاض حنث بالرفع إلى كل قاض لعموم اللفظ، وإن حلف لا يرفع منكرا إلى القاضى لم يحنث إلا بالرفع إلى قاضى البلد، لان التعريف بالالف واللام يرجع إليه، فإن كان في البلد قاض عند اليمين فعزل وولى غيره فرفع إليه حنث.
(الشرح) قال في اللسان: السرية الجارية المتخذة للملك والجماع فعلية منه على تغير النسب.
وقيل هي فعولة من السرو وقلبت الواو الاخيرة ياء طلب الخفة، ثم أدغمت الواو فيها فصارت ياء مثلها، ثم حولت الضمة كسرة لمجاورة الياء، وقد تسررت وتسريت على تحويل التضعيف.
وقال أبو الهيثم.
السر الزنا والسر الجماع.
واختلف أهل اللغة في الجارية التى يتسراها مالكها لم سميت سرية، فقال بعضهم نسبت إلى السر وهو الجماع، وضمت السين للفرق بين الحرة والامة توطأ
فيقال للحرة إذا نكحت سرا أو كانت فاجرة سرية، وللملوكة يتسراها صاحبها سرية مخافة اللبس.
وقال أبو الهيثم: السر السرور فسميت الجارية سرية لانها موضع سرور الرجل.
وقال وهذا أحسن ما قيل فيها.
وقال الليث: السرية فعلية من قولك تسررت.
ومن قال لتسريت فإنه غلط.(18/97)
قال الازهرى: هو الصواب، والاصل تسررت، ولكن لما توالت ثلاث راءات أبدلوا إحداهن ياء، كما قالوا تظنيت من الظن، وقصيت أظفاري والاصل قصصت، وإنما ضمت سينه.
لان الا بينة قد تغير في النسبة خاصة، كما قالوا في النسبة إلى الدهر دهري وإلى الارض السهلة سهلى، والجمع السرارى وفي حديث عائشة وذكر لها المتعة فقالت " والله مانجد في كتاب الله إلا النكاح والاستسرار " تريد اتخاذ السرارى، وكان القياس الاستسراء من تسريت إذا إتخذت سرية، لكنها ردت الحرف إلى الاصل، وهو تسررت من السر النكاح وهو السرور، فأبدلت إحدى الراءات ياء وفي حديث سلامة: فاسترني أي اتخذني سرية، والقياس أن تقول.
تسررنى أو تسرانى، فأما استسرني فمعناه ألقى إلى سره.
وأما قول المصنف من الظهر فعلى وجهه ولم أره في اللسان أما الاحكام فإنه إذا حلف لاتسريت ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) حنث بوطئ الجارية، وبه قال أبو الخطاب من أصحاب أحمد (والثاني) لا يحنث إلا بتحصينها وحجبها عن الناس، لان التسرى مأخوذ من الصر، وبه قال أبو حنيفة.
والوجه الثالث لا يحنث إلا بالتحصين والوطئ والانزال.
وقال القاضي من أصحاب أحمد: لا يحنث حتى يطأ فينزل فحلا كان أو خصيا ووجه الاول أنه مأخوذ من السر - ويؤخذ على المصنف التعبير عن هذا الوجه بقيل، مع أنه أحرى من الظهر.
قال تعالى " ولكن لا تواعدوهن سرا " وقال الشاعر: فلن تطلبوا سرها للغنى ولن تسلموها لازدهادها وقال آخر: ألا زعمت بسباسة اليوم اننى كبرت وألا يحسن السر أمثالى (مسألة) إذا حلف ألا مال له وله دين حال حنث لوجوب الزكاة فيه،(18/98)
وهو قول الحنابلة ومالك.
وقال أبو ثور وأصحاب الرأى لا يحنث، كما لو قضاء دينه فجاءت النقود زيوفا وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يملك مالا حنث يملك كل ما يسمى مالا، سواء كان من الاثمان أو غيرها من العقار والاثاث والحيوان.
وعن أحمد أنه إذا نذر الصدقة بجميع ماله إنما يتناول نذره الصامت من ماله، ذكرها ابن أبي موسى: لان إطلاق المال ينصرف إليه وقال أبو حنيفة: لا يحنث إلا ان ملك مالا زكويا استحسانا.
لان الله تعالى قال " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " فلم يتناول الا الزكوية ولنا أن غير الزكوية أموال: قال الله تعالى أن تبتغوا بأموالكم " وهى مما يجوز ابتغاء النكاح بها.
وقال أبو طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم: أن أحب أموالي إلى بنيرحاء.
يعنى حديقة.
وقال عمر: أصبت مالا بأرض خبير لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ.
وقال أبو قتادة اشتريت مخرفا فكان أول مال تأثلته وفي الحديث " خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة " ويقال " خير المال عين
قرارة في أرض خوارة " ولانه يسمى مالا فحنث به كالزكوي.
وأما قوله " وفي أموالهم حق " فالحق ههنا غير الزكاة: لان هذه الآية مكية نزلت قبل فرض الزكاة فإن الزكاة انما فرضت بالمدينة ثم لو كان الحق الزكاة فلا حجة فيها، فإن الحق إذا كان في بعض المال فهو في المال، كما أن من هو في بيت من دار أو في بلدة فهو في الدار والبلدة.
قال تعالى " وفي السماء رزقكم وما توعدون ولا يلزم أن يكون في كل أقطارها.
ثم لو اقتضى هذا العموم لوجب تخصيصه: فإن ما دون النصاب مال ولا زكاة فيه.
فإن حلف لامال له وله دين حنث وقال أبو حنيفة لا يحنث لانه لا ينتفع به دليلنا أنه ينعقد عليه حول الزكاة ويصح اخراجها عنه ويصح التصرف فيه بالابراء والحوالة والمعاوضة عنه لمن هو في ذمته والتوكيل في استيفائه فيحنث به كالمودع (فرع)
ان كان له مال مغصوب حنث لانه باق على ملكه، فإن كان له مال ضائع أو ضال ففيه، جهان
(أحدهما)
يحنث، لان الاصل بقاؤه على ملكه(18/99)
(والثاني) لا يحنث لانه لا يعلم بقاؤه.
وإن ضاع على وجه قد يئس من عوده كالذي يسقط في بحر لم يحنث، لان وجوده كعدمه، ويحتمل ألا يحنث في كل مال لا يقدر على أخذه كالمجحود والمغصوب والذي على غير ملئ لانه لانفع فيه وحكمه حكم المعدوم في جواز الاخذ من الزكاة، وانتفاء وجوب أدائها.
وقد مضى في الزكاة للامام النووي مزيد بحث وتفصيل (فرع)
إذا تزوج لم يحنث لان ما يملكه ليس مالا، وإن وجب له حق شفعة لم يحنث لانه لم يثبت له الملك به.
وإن استأجر عقارا أو غيره لم يحنث لانه لا يسمى مالك لمال، وما بقى من الفصول فعلى وجهه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن حلف لا يكلم فلانا حينا أو دهرا أو حقبا أو زمانا بر بأدنى زمان، لانه اسم للوقت، ويقع على القليل والكثير، وإن حلف لا يكلمه مدة قريبة أو مدة بعيدة بر بأدنى مدة، لانه ما من مدة إلا وهى قريبة بالاضافة إلى ما هو أبعد منها، بعيدة بالاضافة إلى ما هو أقرب منها
(فصل)
وان حلف لا يستخدم فلانا فخدمه وهو ساكت لم يحنث، لانه حلف على فعله وهو طلب الخدمة ولم يوجد ذلك منه، وإن حلف لا يتزوج أو لا يطلق فأمر غيره حتى تزوج له أو طلق عنه لم يحنث، لانه حلف على فعله نفسه ولم يفعل.
وإن حلف لا يبيع أو لا يضرب فأمر غيره ففعل - فإن كان ممن يتولى ذلك بنفسه - لم يحنث لما ذكرناه، وإن كان ممن لا يتولى ذلك بنفسه كالسلطان فالمنصوص أنه لا يحنث.
وقال الربيع: فيه قول أخر أنه يحنث، ووجه أن العرف في حقه أن يفعل ذلك عنه بأمره، واليمين يحمل على العرف، ولهذا لو حلف لا يأكل الرؤوس حملت على رءوس الانعام، والصحيح هو الاول، لان اليمين على فعله والحقيقة لا تنتقل بعادة الحالف، ولهذا لو حلف السلطان أنه لا يأكل الخبز أو لا يلبس الثوب فأكل خبز الذرة ولبس عباءة حنث.
وإن لم يكن ذلك من عادته(18/100)
وإن حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه ففيه طريقان
(أحدهما)
أنه على القولين كالبيع والضرب في حق من يتولاه بنفسه (والثاني) أنه يحنث قولا واحدا، لان العرف في الحلق في حق كل أحد أن يفعله غيره بأمره ثم يضاف الفعل إلى المحلوق.
(فصل)
وإن حلف لايدخل دارين فدخل احداهما، أو لا يأكل رغيفين فأكل أحدهما، أو لا يأكل رغيفا فأكله الا لقمة، أولايأكل رمانة فأكلها الا حبة، أو لا يشرب ماء حب فشربه الا جرعة: لم يحنث لانه لم يفعل المحلوف عليه.
وان حلف لا يشرب ماء هذا النهر أو ماء هذه البئر ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس أنه يحنث بشرب بعضها، لانه يستحيل شرب جميعه فانعقدت اليمين على مالا يستحيل وهو شرب البعض (والثاني) وهو قول أبى أسحاق أنه لا يحنث بشرب بعضه لانه حلف على شرب جميعه فلم يحنث بشرب بعضه، كما لو حلف على شرب ماء في الحب
(فصل)
وان حلف لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وعمرو لم يحنث لانه ليس فيه شئ يمكن أن يشار إليه ان اشتراه زيد دون عمرو فلم يحنث وان اشترى كل واحد منهما طعاما ثم خلطاه فأكل منه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه لا يحنث لانه ليس فيه شئ يمكن أن يقال هذا الطعام اشتراه زيد دون عمرو، فلم يحنث، كما لو اشترياه في صفقة واحدة (والثاني) أنه ان أكل النصف فما دونه لم يحنث، وان أكل أكثر من النصف حنث، لان النصف فما دونه يمكن أن يكون مما اشتراه عمرو فلم يحنث بالشك.
وفيما زاد يتحقق أنه أكل مما اشتراه زيد (والثالث) وهو قول أبى اسحاق أنه ان أكل الحبة والعشرين حبة لم يحنث لجواز أن يكون مما اشتراه عمرو، وان أكل الكف والكفين حنث، لانه يستحيل فيما يختلط أن يتميز في الكف والكفين ما اشتراه زيد عما اشتراه عمرو
(فصل)
وان حلف لا يدخل دار زيد فحمله غيره باختياره فدخل به حنث لان الدخول ينسب إليه كما ينسب إذا دخلها راكبا على البهيمة أو دخلها برجله(18/101)
فإن دخلها ناسيا لليمين أو جاهلا بالدار، أو أكره حتى دخلها ففيه قولان
(أحدهما)
يحنث لانه فعل ما حلف عليه فحنث (والثاني) لا يحنث وهو الصحيح لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ولان حال النسيان والجهل، والاكراه لايدخل في اليمين كما لايدخل في الامر والنهى في خطاب الله عز وجل وخطاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَإِذَا لم يدخل في اليمين لم يحنث به، وإن حمله غيره مكرها حتى دخل به ففيه طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ، كما لو أكره حتى دخلها بنفسه، لانه لما كان في حال الاختيار دخوله بنفسه ودخوله محمولا واحدا، وجب أن يكون في حال الاكراه دخوله بنفسه ودخوله محمولا واحدا ومنهم من قال لا يحنث قولا واحدا، لان الفعل إنما ينسب إليه، إما بفعله حقيقة أو بفعل غيره بأمره مجازا، وههنا لم يوجد واحد منهما فلم يحنث (الشرح) الحين الوقت، والدهر الامد الممدود، وقيل الدهر ألف سنة، قال ابن سيدة: وقد حكى فيه الدهر بفتح الهاء، فإما أن يكون الدهر والدهر لغتين كما ذهب إليه البصريون في هذا النحو فيقتصر على ما سمع منه، وإما أن يكون ذلك لمكان حروف الحق فيطرد في كل شئ، كما ذهب إليه الكوفيون قال أبو النجم: وجبلا طال معدا فاشمخر أشم لايسطيعه الناس الدهر قال ابن سيده: وجمع الدهر دهر ودهور.
وكذلك جمع الدهر، لانا لم نسمع أدهارا، ولاسمعنا فيه جمعا الا ما قدمنا من جمع دهر دهر.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم " لاتسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " فمعناه أن ما أصابك من الدهر فالله فاعله ليس الدهر، فإذا شتمث به الدهر فكأنك أردت به الله.
قال
الجوهرى: لانهم كانوا يضيفون النوازل إلى الدهر، فقيل لهم " لاتسبوا فاعل ذلك بكم فإن ذلك هو الله تعالى، وفي رواية " فإن الدهر هو الله تعالى "(18/102)
قال الازهرى، قال أبو عبيد قوله " فإن الله هو الدهر " مما لا ينبغى لاحد من أهل الاسلام أن يجهل وجهه، وذلك أن المعطلة يحتجون به على المسلمين، قال ورأيت بعض من يتهم بالزندقة أو الدهرية يحتج بهذا الحديث وقول، ألا تراه يقول فإن الله هو الدهر؟ قال فقلت وهل كان أحد يسب الله في آباد الدهر وقد قال الاعشى في الجاهلية استأثر الله بالوفاء وبال محمد وول الملامة الرجلا وقال الازهرى، قال الشافعي الحين يقع على مدة الدينا: ويوم قال ونحن لا نعلم للحين غاية، وكذلك زمان ودهر وأحقاب.
ذكر هذا في كتاب الايمان حكاه المزني في مختصره عنه.
وقال شمر الزمان والدهر واحد وأنشد إن دهرا يلف حبلى بجمل لزمان يهم بالاحسان فعارض شمرا خالد بن يزيد وخطأه في قوله " الزمان والدهر واحد " وقال الزمان زمان الرطب والفاكهة وزمان الحر وزمان البرد، ويكون الزمان شهرين إلى ستة أشهر والدهر لا ينقطع.
قال الازهرى يقع عند العرب على بعض الدهر الاطول، ويقع على مدة الدنيا كلها.
قال وقد سمعت غير واحد من العرب يقول أقمنا على ماء كذا وكذا دهرا، دارنا التي حللنا بها تحملنا دهرا، وإذا كان هذا هكذا جاز أن يقال الزمان والدهر واحد في معنى، قال والسنة عند العرب أزمنة، ربيع وقيظ وخريف وشتاء، ولايجوز أن يقال الدهر أربعة أزمنة، فهما يفترقان وروى الازهرى بسنده عن أبى بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلم أنه قال " ألا ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض السنة إثنا عشر شهرا أربعة منها حرم، ثلاثة منها متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مفرد " قال الازهرى أراد بالزمان الدهر.
وقوله " ماء حب " الحب الخابية فارسي معرب وهو السرداب أما الاحكام فإنه إذا حلف ألا يكلمه حينا فإنه يبر بأدنى زمن، لانه لاقدر له، ولانه اسم مبهم يقع على القليل والكثير.
قال تعالى " ولتعلن نبأه بعد حين "(18/103)
قيل أراد يوم القيامة.
وقال (هل أتى على الانسان حين من الدهر؟) وقال تعالى فذرهم في غمرتهم حتى حين) وقال (حين تمسون وحين تصبحون) ويقال منذ حين وإن كان أتاه من ساعة.
وبهذا قال أبو ثور وقال أحمد: إذا حلف لا يكلمه حينا - فإن قيد ذلك بلفظه أو بنيته بزمن - تقيد به.
وإن أطلقه انصرف إلى ستة أشهر.
روى ذلك عن أبن عباس، وهو قول أصحاب الرأى.
وقال مجاهد والحكم وحماد ومالك " هو سنة " لقوله تعالى (تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها) أي كل عام وقال عكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيد في قوله تعالى " تؤتى أكلها كل حين " إنه ستة أشهر، فيحمل مطلق كلام الآدمى على مطلق كلام الله تعالى.
فإن حلف لا يكلمه حقبا، فإنه ينصرف إلى أدنى زمان كالحين، وبه قال القاضي من أصحاب أحمد.
وقال أكثر أصحابه وفيهم ابن قدامة: إن حلف لا يكلمه حقبا فذلك ثمانون عاما، لما روى عن أبن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى " لابثين فيها أحقابا " الحقب ثمانون سنة.
وفي قوله تعالى عن موسى " أو أمضى حقبا " ما يجعل كونه ثمانين سنة بعيدا
لان موسى لم يعس بعد هذا مثل هذا القدر، فضلا عن مضاعفته أضعافا كثيرة " حقبا " إذا ثبت هذا فإنه إذا حلف لا يكلمه زمنا أو وقتا أو دهرا أو عمرا أو مليا أو طويلا أو بعيدا أو قريبا بر بالقليل والكثير.
وبه قال أبو الخطاب من الحنابلة لان هذه الاسماء لاحد لها في اللغة، وتقع على القليل والكثير، فوجب حمله على أقل ما يتناوله اسمه، وقد يكون التقريب بعيدا بالنسبة لما هو أقرب منه، وقريبا بالنسبة لما هو أبعد منه، ولايجوز التحديد بالتحكم، وإنما يصار إليه بالتوقيف ولا توقيف ههنا، فيجب حمله على اليقين وهو أقل ما يتناوله الاسم.
وقال ابن أبى موسى: الزمان ثلاثة أشهر.
وقال طلحة العاقولي: الحين والزمان والعمر واحد، لانهم لا يفرقون في العادة بينهما، والناس يقصدون بذلك التبعيد فلو حمل على القليل حمل على خلاف قصد الحالف(18/104)
وقال في بعيد وملى وطويل: هو أكثر من شهر، وهذا قول أبي حنيفة: لان ذلك ضد القليل قال: ولايجوز حمله على ضده، ولو حمل العمر على أربعين سنة كان حسنا لقوله تعالى مخبرا عن نبيه " فقد لبثت فيكم عمرا من قبله " وكان أربعين سنة ولان العمر في الغالب لا يكون إلا مدة طويلة فلا يحمل على خلاف ذلك (فرع)
إذا حلف لا يكلمه الدهر أو الابد أو الزمان كذلك على الابد، لان ذلك بالالف واللام وهى للاستغراق فتقتضى الدهر كله.
(مسألة) إذا حلف لا يستخدم فلانا فخدمه وهو ساكت لم يأمره ولم ينهه لم يحنث، لانه حلف على فعل نفسه، ولا يحنث على فعل غيره كسائر الافعال، وقال أبو حنيفة: إذا كان خادمه حنث، وإن كان خادم غيره لم يحنث، وبه قال القاضى من أصحاب أحمد، لان خادمه يخدمه بحكم استحقاقه ذلك عليه، فيكون
معى يمينه، لامنعنك خدمتي، فإذا لم ينهه لم يمنعه فيحنث وخادم غيره بخلافه، وقال أبو الخطاب: يحنث في الحالين لان إقراره على الخدمة استخدام، ولهذا يقال فلان يستخدم عبده إذا خدمه وإن لم يأمره، ولان ما حنث به في خادمه حنث به في غيره كسائر الاشياء.
(مسألة) مضى كلامنا فيمن حلف على شيئين أو أكثر ففعل بعض ذلك هل يحنث؟ وشرحنا الخلاف في ذلك كمن حلف لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وعمرو لا يحنث، وقال أحمد وأبو حنيفة ومالك يحنث، فإن حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها حنث، وبه قال أحمد، وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها فلبس من غزلها وغزل غيرها فإنه لا يحنث، وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، لانه لم يلبس ثوبا كاملا من غزلها، أما في الطعام فعلى وجهين مضيا في الفصول آنفا.
(مسألة) إذا حلف لايدخل دارا فحمل فأدخلها باختياره حنث، فإن لم يكن باختياره ولم يمكنه الامتناع لم يحنث، نص عليه أحمد في رواية أبى طالب، وهو قول أبى ثور وأصحاب الرأى ولا نعلم فيه خلافا، وذلك لان الفعل غير حاصل منه ولا منسوب إليه، وإن حمل بأمره فأدخلها حنث، لانه دخلها مختارا(18/105)
فأشبه ما لو دخلها راكبا وان حمل بغير أمره ولكنه أمكنه الامتناع فلم يمتنع حنث أيضا لانه دخلها غير مكره فأشبه ما لو حملها بأمره، فإن أكره بالضرب ونحوه على دخولها فدخلها لم يحنث في أحد القولين عندنا، وهو أحد الوجهين عند أصحاب أحمد.
(والقول الثاني) يحنث وهو الوجه الثاني عند الحنابلة، وهو قول أصحاب الرأى ونحوه قول النخعي لانه فعل ما حلف على تركه ودخلها.
ووجه الاول
قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ولانه دخلها مكرها فأشبه ما لو حمل مكرها.
إذا ثبت هذا: فإنه إذا حلف أن لا يشترى شيئا أو لا يضرب فلانا فوكل في الشراء والضرب، ففي قول أنه يحنث.
والصحيح أنه لا يحنث إلا إذا نوى بيمينه أن لا يستنيب أو يكون ممن لم تجر عادته بمباشرته، لان اطلاق أضافة الفعل يقتضى مباشرته بدليل أنه لو وكله في البيع لم يجز للوكيل توكيل غيره، وان حلف لا يبيع ولا يضرب فأمر من فعله - فإن كان ممن يتولى ذلك بنفسه لم يحنث.
وان كان ممن لا يتولاه كالسلطان، ففيه قولان.
وقال أحمد ومالك وأبو ثور ان حلف لا يفعل شيئا فوكل من فعله حنث الا أن ينوى مباشرته بنفسه.
(فرع)
ان حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه فقيل لنا فيه قولان، وقيل يحنث قولا واحدا.
وقال أصحاب الرأى ان حلف لا يبيع فوكل غيره لم يحنث وان حلف لا يضرب ولا يتزوج فوكل غيره حنث.
وقال أحمد: ان الفعل يطلق على من وكل فيه وأمر به فيحنث به كما لو كان ممن لا يتولاه بنفسه وكما لو حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه، أو لا يضرب فأمر من ضرب عند أبى حنيفة، وقد قال تعالى " وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ " وقال " محلقين رؤسكم ومقصرين " وكان هذا متناولا للاستنابة فيه ولان المحلوف عليه وجد نائبه فحنث به كما لو حلف لايدخل دارا فأمر من حمله إليها فإذا نوى بيمينه المباشرة للمحلوف عليه أو كان سبب يمينه يقتضيها أو قرينة حال تخصص بها لان اطلاقه يقيد بنيته.(18/106)
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا فأكله من الغدير في يمينه، لانه فعل ما حلف على فعله، وان ترك أكله في الغد حتى انقضى حنث لانه فوت المحلوف عليه باختياره، وان أكل نصفه في الغد حنث لانه قدر على أكل الجميع ولم يفعل، وان أكله في يومه حنث لانه فوت المحلوف عليه باختياره فحنث كما لو ترك أكله حتى انقضى الغد، وان حلف الرغيف في يومه أو في الغد قبل أن يتمكن من أكله ففيه قولان كالمكره، وان تلف من الغند بعد ما تمكن من أكله ففيه طريقان، من أصحابنا من قال يحنث قولا واحدا، لانه فوته باختياره.
ومنهم من قال فيه قولان لان جميع العند وقت للاكل فلم يكن تفويته بفعله فإن حلف ليقضينه حقه عند رأس الشهر مع رأس الشهر فقضاء قبل رؤية الهلال حنث لانه فوت القضاء باختياره، وإن رأى الهلال ومضى زمان أمكنه فيه القضاء فلم يقضه حنث، لانه فوت القضاء باختياره، وان أخذ عند رؤية الهلال في كيله وتأخر الفراغ منه لكثرته لم يحنث، لانه لم يترك القضاء، وان أخر عن أول ليلة الشك ثم بان أنه كان من الشهر ففيه قولان كالناسي والجاهل.
وان قال: والله لاقضين حقه إلى شهر رمضان فلم يقضه حتى دخل الشهر حنث، لانه ترك ما حلف على فعله من غير ضرر، وان قال والله لاقضين حقه إلى أول الشهر، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ حكمها حكم ما لو قال والله لاقضين حقه إلى رمضان، لان لفظ " إلى " للحد والغاية، وان أخر القضاء حتى دخل الشهر حنث.
وقال أبو إسحاق حكمها حكم ما لو قال والله لاقضين حقه عند رأس الشهر وهو ظاهر النص، وان قضاء قبل رؤية الهلال حنث، وان رأى الهلال ومضى وقت يمكن فيه القضاء ثم قضاه حنث، لان " إلى " قد تكون للغاية كقوله عز وجل " ثم أتموا الصيام إلى الليل " وقد تكون بمعنى " مع " كقوله تعالى " من
أنصارى إلى الله " والمراد به مع الله: وكقوله عز وجل " وأيديكم إلى المرافق "(18/107)
والمراد به مع المرافق، فلما احتمل أن تكون للغاية، واحتمل أن تكون للمقارنة لم يجز أن نحنثه بالشك، ويخالف قوله: والله لاقضين حقه إلى رمضان لانه لا يحتمل أن تكون للمقارنة، لانه لا يمكن أن يقارن القضاء في جميع شهر رمضان فجعلناه للغاية.
(الشرح) قوله وإن أكله في يومه حنث، وهذا صحيح كمن حلف أن يقضيه حقه في وقت فقضاه قبله فإنه يحنث، لانه ترك ما حلف عليه مختارا فحنث كما لو قضاه بعده، وقال أحمد وأبو حنيفة ومحمد وأبو ثور فيمن قضاه قبله لا يحنث، لان مقتضى هذا اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد، فإذا قضاه قبله فقد قضى قبل خروج الغد وزاد خيرا.
ولنا أنه لا يبرالا إذا قضاه من الغد فلا يبر بقضائه قبله كما لو حلف ليصومن شعبان فصام رجبا، وفرق ابن قدامة بين قضاء الحق وغيره كأكل شئ أو شربه أو بيع شئ أو شرائه أو ضرب خادم ونحوه فمتى عين وقته ولم ينو ما يقتضى تعجليه ولا كان سبب يمينه يقتضيه لم يبر الا بفعله في وقته.
(فرع)
إذا فعل بعض المحلوف عليه قبل وقته وبضعه في وقته لم يبر: لان اليمين في الاثباث لايبر فيها الا بفعل جميع المحلوف عليه فترك بعضه في وقته كترك جميعه الا أن يصرح ألا يجاوز ذلك الوقت أو يقتضى ذلك سببها.
(فرع)
إذا حلف ليقضيه دينه عند رأس الهلال أو مع رأسه أو عند رأس الشهر أو مع رأسه فقضاه عند غروب الشمس من ليلية الشهر بر في يمينه، وان أخر ذلك مع امكانه حنث، وان شرع في عده أو كيله أو وزنه فتأخر القضاء لكثرته لم يحنث، لانه لم يترك القضاء، وكذلك إذا حلف ليأكلن هذا الطعام في
هذا الوقت فشرع في أكله فيه فتأخر الفراغ لكثرته لم يحنث، لان أكله كله غير ممكن في هذا الوقت اليسير، فكانت يمينه على الشروع فيه في ذلك الوقت أو على مقارنة فعله لذلك الوقت للعلم بالعجز عن غير ذلك، ومذهب أحمد بن حنبل في هذا كله كمذهبنا.
وقوله " إلى الليل " إلى غاية فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل(18/108)
في حكمه، كقولك اشتريت المجموع من الاول إلى الثامن عشر، والمبيع أجزاء المجموع، فإن الثامن عشر داخل فيها، بخلاف قولك اشتريت الفدان إلى الدار، فالدار لا تدخل في المبيع المحدود، إذ ليست من جنسه، فشرط الله تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل كما جوز الاكل حتى يتبين النهار وقوله " إلى المرافق " فقد اختلف الناس في دخول المرافق في التحديد، فقال قوم تدخل لانها من نوع ما قبلها، قاله سيبويه وغيره.
وقيل لايدخل المرفقان في الغسل.
وهذا خطأ وقال بعضهم إن إلى بمعنى مع، كقولهم " الذود إلى الذود إبل " أي مع الذود وقال تعالى " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " فقالت طائفة من المتأخرين إن إلى هنا بمعنى مع، كقوله تعالى " من أنصارى إلى الله " وأنشد العتبى: يسدون أبواب القباب بضمر إلى عنن مستوثقات الاواصر وقال الحذاق: إلى على بابها وهى تتضمن بالاضافة، أي لا تضيفوا أموالهم وتضموها إلى أموالكم
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن كان له على رجل حق فقال له: والله لا فارقتك حتى أستوفى حقي، ففر منه الغريم لم يحنث الحالف، وقال أبو على بن هريرة ففيه قولان
كالقولين في المكره، وهذا خطأ، لانه حلف على فعل نفسه ولم يوجد ذلك منه ولو قال والله لا فارقتني حتى أستوفى حقي منك ففارقه الغريم مختارا ذاكرا لليمين حنث الحالف، وان فارقه مكرها أو ناسيا ففيه طريقان، من أصحابنا من قال هي على القولين في المكره والناسى.
ومنهم من قال يحنث الحالف قولا واحدا لان الاختيار والقصد يعتبر في فعل الحالف لا في فعل غيره، والصحيح هو الاول، وأنه يعتبر في فعل من حلف على فعله، وان كانت اليمين على فعل الحالف اعتبر الاختيار والقصد في فعله، وان كانت على فعل غيره أعتبر الاختيار والقصد في فعله، وان فارقه الحالف لم يحنث، لان اليمين على فعل الغريم ولم يوجد منه فعل.(18/109)
وإن حلف لا يفارقه غريمه حتى يستوفى حقه منه ثم أفلس وفارقه لما يعلم من وجوب إنظار المعسر حنث، لانه فعل المحلوف عليه مختارا ذاكرا لليمين فحنث، وإن وجب الفعل بالشرع، كما لو حلف لارددت عليك المغصوب فرده حنث، وإن وجب الرد بالشرع، فإن ألزمه الحاكم مفارقته فعلى قولين
(فصل)
وإن حلف لا يفارقه حتى يستوفى حقه منه فأحاله على غيره أو أبرأه من الدين أو دفع إليه عوضا عن حقه، حنث في اليمين، لانه لم يستوف حقه.
وإن كان حقه دنانير فدفع إليه شيئا على أنه دنانير فخرج نحاسا فعلى القولين في الجاهل.
وإن قال من عليه الحق والله لا فارقنك حتى أدفع اليك مالك وكان الحق عينا فوهبنا منه فقبله حنث، لانه فوت الدفع بقبوله، وإن كان دينا فأبرأه منه وقلنا إنه لا يحتاج الابراء إلى القبول على الصحيح من المذهب، فعلى الطريقين فيمن حلف لايدخل الدار فحمل إليها مكرها.
(الشرح) إذا قال والله لافارقنك حتى أستوفى حقى منك فهرب منه لم يحنث
وبه قال أحمد.
وقد ذهب الفقهاء في هذه الصورة إلى عشر مسائل: 1 - أن يفارقه الحالف مختارا فحينث بلا خلاف، سواء أبراه من الحق أو فارقه والحق عليه لانه فارقه قبل استيفاء حقه منه.
2 - فارقه مكرها فينظر - فإن حمل مكرها حتى فرق بينهما لم يحنث، وإن أكره بالضرب والتهديد ففيه طريقان، فمن أصحابنا من قال هي على القولين فيمن حلف لايدخل الدار، فلم يحمل وإنما ضرب حتى دخل على قدميه، وفصل بعض الحنابلة كأبى بكر فقال: يحنث بالضرب والتهديد، وفي الناسي تفصيل 3 - هرب منه العزيم بغير اختياره فإنه لا يحنث، وبهذا قال أحمد في احدى الروايتين عنه ومالك وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأى.
وقال أحمد في الرواية الثانية يحنث لان معنى يمينه ألا تحصل بينهما فرقة وقد حصلت دليلنا أنه حلف على فعل نفسه في الفرقة، وما فعل ولا فعل باختياره فلم يحنث كما لو حلف لاقمت فقام غيره(18/110)
4 - أذن الحالف له في الفرقة ففارقه لا يحنث.
وقال الخرقى يحنث.
وذلك كمفهوم ابن قدامة، وفهم القاضى من كلامه أنه لا يحنث لانه لم يفعل الفرقة التي حلف أنه لا يفعلها 5 - فارقه من غير اذن ولا هرب على وجه يمكنه ملازمته والمشي معه فلم يفعل فالحكم كالذي قبله.
6 - قضاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه وفاه فخرج رديئا أو بعضه فيخرج في الحنث قولان بناء على الناسي، ولاحمد روايتين كالقولين
(أحدهما)
يحنث وهو قول مالك، لانه فارقه قبل استيفاء حقه مختارا (والثاني) لا يحنث، وهو قول
أبى ثور وأصحاب الرأى إذا وجدها زيوفا.
وان وجد أكثرها نحاسا فإنه يحنث وان وجدها مستحقة فأخذها صاحبها خرج أيضا على القولين في الناسي لانه ظان أنه مستوف حقه فأشبه ما لو وجدها رديئة وقال أبو ثور وأصحاب الرأى: لا يحنث.
وإن علم بالحال ففارقه حنث، لانه لم يوفه حقه.
7 - فلفسه الحاكم ففارقه نظرت - فإن ألزمه الحاكم فهو كالمكره، وان لم يلزمه مفارقته لكنه فارقه لعلمه بوجوب مفارقته حنث، لانه فارقه من غير إكراه فحنث، كما لو حلف لا يصلى فوجبت عليه صلاة فصلاها 8 - أحاله الغريم بحقه ففارقه فإنه يحنث، وبهذا قال أحمد وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يحنث لانه قد برئ إليه منه، ووجه المذهب عندنا انه ما استوفى حقه منه بدليل أنه لم يصل إليه شئ، ولذلك يملك المطالبة به فحنث كما لو لم يحله، فإن ظن أنه قد بر بذلك ففارقه خرج على القولين، والصحيح أنه يحنث لان الجهل بحكم الشرع لا يسقط عنه الحنث: كما لو جهل كون هذه اليمين موجبة للكفارة فأما ان كانت يمينه لا فارقتك ولى قبلك حق فأحاله به ففارقه لم يحنث لانه لم يبق له قبله حق.
وان أخذ به ضمينا أو كفيلا أو رهنا ففارقه حنث بلا اشكال لانه يملك مطالبة الغريم.
9 - قضاه عن حقه عوضا عنه ثم فارقه فإنه يحنث لان يمينه على نفس(18/111)
الحق وهذا بدله، وقال أبو حنيفة وابن حامد: لا يحنث.
وإن كانت يمينه لا فارقتك حتى تبرأ من حقي: أولى قبلك حق لم يحنث وجها واحدا، لانه لم يبق له قبله حق.
وهذا أحد القولين عند أصحاب أحمد.
10 - وكل وكيلا يستوفى له حقه، فإن فارقه قبل استيفاء أو كيل حنث لانه فارقه قبل استيفاء حقه، وإن استوفى الوكيل ثم فارقه لم يحنث، لان استيفاء وكليه استيفاء له يبرأ به غريمه ويصير في ضمان الموكل (مسألة) إن قال: لا فارقتني حتى أستوفى حقى منك نظرت - فإن فارقه المحلوف عليه مختارا - حنث.
وإن أكره على فراقه لم يحنث، وإن فارقه الحالف مختارا لم يحنث كذا وقد مضى.
فإن حلف لا فارقتك حتى أوفيك حقك فأبرأه الغريم منه فهل يحنث؟ على قولين بناء على المكره بالضرب، وعند الحنابلة وجهان، وإن كان الحق عينا فوهبها له الغريم فقبلها حنث، لانه ترك إيفاءها له باختياره، وإن قبضها منه ثم وهبها إياه لم يحنث، وان كانت يمينه لا فارقتك ولك قبلى حق لم يحنث إذا أبرأه أو هب العين له.
والفرقة في هذا كله ما عده الناس فراقا في العادة، وقد مضى في البيوع وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
باب كفارة اليمين إذا حلف بالله تعالى وحنث وجبت عليه الكفارة، لما روى عبد الرحمن بن سمرة قَالَ، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عبد الرحمن بن سمرة لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مسألة وكلت إليها، وان أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وان حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك " وان حلف على فعل مرتين بأن قال والله لا دخلت الدار، والله لا دخلت الدار، نظرت فإن نوى بالثاني التأكيد لم يلزمه الا كفارة واحدة، وان نوى الاستئناف ففيه قولان، أحدهما يلزمه كفارتان لانهما يمينان بالله عزوجل،(18/112)
فتعلق بالحنث فيهما كفارتان، كما لو كانت على فعلين (والثاني) تجب كفارة واحدة وهو الصحيح.
لان الثانية لا تفيد الا ما أفادت الاولى فلم يجب أكثر من كفارة، كما لو قصد بها التأكيد.
وإن لم يكن له نية فإن قلنا انه إذا نوى الاستئناف لزمته كفارة واحدة فههنا أولى.
وان قلنا هناك تجب كفارتان ففي هذا قولان بناء على القولين فيمن كرر لفظ الطلاق ولم ينو.
(فصل)
والكفارة اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة.
وهو مخير بين الثلاثة.
والدليل عليه قوله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " فإن لم يقدر على الثلاثة لزمه صيام ثلاثة أيام لقوله عز وجل " فمن لم يجد فصيام ثلاثه أيام " فإن كان يكفر بالمال فالمستحب أن لا يكفر قبل الحنث لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يجيز تقديم الكفارة على الحنث.
وان أراد أن يكفر بالمال قبل الحنث نظرت - فإن كان الحنث بغير معصية - جاز تقديم الكفارة لانه حق مال يتعلق بسببين يختصانه.
فإذا وجد أحدهما جاز تقديمه على الآخر كالزكاة قبل الحول.
وان كان الحنث بمعصية ففيه وجهان أحدهما يجوز لما ذكرناه والثاني لا يجوز لانه يتوصل به إلى معصية واختلف أصحابنا في كفارة الظهار قبل العود.
وكفارة القتل بعد الجرح وقبل الموت.
فمنهم من قال فيه وجهان كما قلنا في اليمين على معصية.
ومنهم من قال يجوز لانه ليس فيه توصل إلى معصية.
وان كان يكفر بالصوم لم يجز قبل الحنث لانها عبادة تتعلق بالبدن لا حاجة به إلى تقديمها.
فلم يجز تقديمها على الوجوب كصوم رمضان.
(فصل)
ان أراد أن يكفر بالعتق لم يجز الا بما يجوز في الظهار وقد بيناه.
وان أراد أن يكفر بالاطعام أطعم كل مسكين مدا كما يطعم في الظهار وقد بيناه.(18/113)
(الشرح) حديث عبد الرحمن بن سمرة أخرجه البخاري في النذور عن أبى النعمان وفيه " ولا تحلفوا بالطواغى ولا بآبائكم " وفي الاحكام عن حجاج ابن منهال وعن أبى معمر.
وفي الكفارات عن محمد بن عبد الله.
وأخرجه مسلم في الايمان والنذور عن شيبان بن فروخ وعن أبى بكر بن أبى شيبة وفي المغازى عن شيبان.
وأخرجه أبو داود في الايمان والنذور عن محمد بن الصباح.
وأخرجه الترمذي في الايمان والنذور عن محمد بن عبد الاعلى.
وأخرجه النسائي في الايمان والنذور عن عمرو بن على وعن محمد بن عبد الاعلى وعن محمد بن يحيى وعن زياد بن أيوب.
وعن أحمد بن سليمان وعن محمد بن قدامة.
وأخرجه ابن ماجه في الكفارات عن أبى بكر بن أبي شيبة.
وللحديث طرق عن غير عبد الرحمن بن سمرة بمعناه عن عدى بن حاتم عند مسلم بلفظ " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير " وفي لفظ " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " رواه مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجه وعن أبى هريرة عند أحمد ومسلم والترمذي وصححه بلفظ " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذى هو خير وفي لفظ لمسلم " فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وعن أبى موسى مرفوعا عند أحمد البخاري ومسلم بلفظ " لاأحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذى هو خير وتحللتها " وفى لفظ " إلا كفرت عن يمينى وفعلت الذى هو خير وفي لفظ إلا أتيت الذى هوخيرو كفرت عن يمينى وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عند النسائي وأبى داود مرفوعا
" لا نذر ولا يمين فيما لا تملك ولا في معصية ولا في قطيعة رحم " وقال أبو داود.
الاحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم " وليكفر عن يمينه إلا ما لا يعبأ به " وقال الحافظ بن حجرفي الفتح.
ورواته - يعنى حديث عمرو بن شعيب - لا بأس بهم، لكن اختلف في سنده على عمرو، وفي بعض طرقه عند أبى داود " ولا في معصية "(18/114)
أما الاحكام فإن الاصل في كفارة اليمين الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقول الله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " وأما السنة فما مضى آنفا من أحاديث عبد الرحمن بن سمرة وغيره من الصحابة.
وقد أجمع المسلمون على مشروعية الكفارة في اليمين بالله تعالى، والاحاديث دالة على أن الحنث في اليمين أفضل من التمادي إذا كان في الحنث مصلحة، ويختلف باختلاف حكم المحلوف عليه.
فإن حلف على فعل واجب أو ترك حرام فيمينه طاعة والتمادى مستحب والحنث معصية، والعكس بالعكس وان حلف على فعل نفل فيمينه طاعة والتمادى مستحب والحنث مكروه وان حلف على ترك مندوب فبعكس الذى قبله.
وإن حلف على فعل مباح فإن كان يتجاذبه رجحان الفعل أو الترك، كما لو حلف لا يأكل طيبا ولا يلبس ناعما ففيه عندنا خلاف.
قال أبن الصباغ في الشامل - وصوبه المتأخرون - إن ذلك يختلف باختلاف الاحوال.
وإن كان مستوى الطرفين فالاصح أن التمادي أولى لانه قال " فليأت الذي هو خير " واختلف الائمة هل تتقدم الكفارة الحنث أم تأتى بعده؟ فاستدل
القائلون بوجوب الكفارة قبل الحنث بقوله صلى الله عليه وسلم " فكفر عن يمينك ثم أئت الذي هو خير " وهذا الرواية صححها الحافظ في بلوغ المرام، وأخرج نحوها أو عوانة في صحيحه.
وأخرج الحاكم عن عائشة نحوها وأخرج الطبراني من حديث أم سلمة بلفظ " فأت الذي هو خير وكفر " لان الواو لاتدل على الترتيب إنما هي لمطلق الجمع، على أن الواو لو كانت تفيد ذلك لكانت الرواية التي بعدها " فكفر يمينك وأئت الذي هو خير " تخالفها وكذلك بقية الروايات التي حرصنا على إثباتها هنا قال ابن المنذر.
رأى ربيعة والاوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الامصار غير أهل الرأى أن الكفارة تجزى قبل الحنث، إلا أن الشافعي استثنى الصيام فقال لا يجزى الا بعد الحنث وقال أصحاب الرأى " لاتجزى الكفارة قبل الحنث " وعن مالك روايتان.(18/115)
ووافق الحنفية أشهب المالكى وداود الظاهرى، وخالفه ابن حزم، واحتج الطحاوي لابي حنيفة بقوله تعالى (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) فإن المراد إذا حلفتم فحنثتم.
وقال القرطبى: اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث هل تجزى أم لا؟ - بعد إجماعهم على أن الحنث قبل الكفارة مباح حسن، وهو عندهم أولى - على ثلاثة أقوال (أحدها) يجزى مطلقا، وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزى بوجه، وهى رواية أشهب عن مالك.
ثم ذكر وجه الجواز فأتى بحديث أبى موسى، ثم ذكر وجه المنع فساق حديث عدي بن حاتم.
والقول الثالث وهو قول الشافعي " تجزى بالاطعام والكسوة ولا تجزئ الصوم، لان عمل البدن لا يقدم قبل وقته، ويجزئ في غير ذلك ككفارة الظاهر قبل العود، وكفارة القتل بعد الجرح وقبل الموت على أحد الوجهين عند أصحابنا.
وقال الحافظ بن حجر في الفتح وأولى من ذلك أن يقال التقدير أعم من ذلك فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر.
واحتجوا أيضا بأن ظاهر الآية أن الكفارة وجبت بنفس اليمين ورده من أجازها بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقا، واحتجوا أيضا بأن الكفارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبله تطوع، فلا يقوم التطوع مقام المفروض، هكذا أفاده الشوكاني في النيل.
وقال القاضي عياض، اتفقوا على الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث.
أه واستحب مالك والاوزاعي والثوري تأخيرها بعد الحنث، وهو مذهبا كما أثبته المصنف، وقال القاضى عياض ومنع بعض المالكية تقديم كفارة الحنث في المعصية لان فيه إعانة على المعصية، ورده الجمهور قال ابن المنذر، واحتج الجمهور بأن اختلاف ألفاظ الاحاديث لا يدل على تعين أحد الامرين، والذي يدل عليه أنه أمر الحالف بأمرين، فإذا أتى بهما(18/116)
جميعا فقد فعل ما أمر به، وإذا دل الخبر على المنع فلم يبق إلا طريق النظر.
فاحتج للجمهور بأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء وهو كلام، فلان تحله الكفارة وهى فعل مالى أو بدنى أولى، ويرجح قولهم أيضا بالكثره.
وذكر القاضى عياض أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة أربعة عشر صحابيا وتبعهم فقهاء الامصار إلا أبا حنيفة.
قال الشوكاني ان المتوجه للعمل برواية الترتيب المدلول عليه بلفظ ثم، ولولا الاجماع المحكى على جواز تأخير الكفارة عن الحنث لكان ظاهر الدليل أن تقديم الكفارة واجب.
وقال المازرى للكفارة ثلاث حالات، أحدها قبل الحلف فلا تجزئ اتفاقا، ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزئ اتفاقا.
ثالثها بعد الحلف وقبل الحنث ففيها الخلاف.
وقد وقع في حديث عدى بن حاتم عند مسلم ما يوهم أن فعل الذي هو خير كفارته، فإنه أخرجه بلفظ " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه " هكذا أخرجه من وجهين ولم يذكر الكفارة، ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ " فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير " ومداره في الطرق كلها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدى والذى أتى بالزيادة حافظ، وزيادة الحافظ معتمدة وقوله " من أوسط ما تطعمون " هو المتوسط ما بين قوت الشده والسعة وقد أخرج ابن ماجه عن سفيان بن عيينة عن سليمان بن أبى المغيرة عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال " كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة فنزلت (من أوسط ما تطعمون أهليكم) وقد ذكر الله تعالى في الكفارة الخلال الثلاث فخير فيها وعقب عند عدمها بالصيام، وبدأ بالطعام لانه كان الافضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم، ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير قال ابن عباس ما كان في كتات الله (أو) فهو مخير فيه، وما كان (فمن لم يجد) فالاول الاول.
هكذا ذكره الامام أحمد في التفسير.
قال القاضى ابن العربي، والذي عندي أنها تكون بحسب الحال، فإن علمت محتاجا فالطعام(18/117)
أفضل، لانك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجا حادى عشر إليهم.
وكذلك الكسوة تليه ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم.
اه وقوله تعالى (إطعام عشرة مساكين) الذي عندنا أنه يجب تمليك المساكين مايخرج لهم ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه، لقوله تعالى (وهو يطعم ولايطعم) وفي الحديث " أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد السدس " وقال أبو حنيفة: لو غداهم وعشاهم جاز.
وهو اختيار ابن الماجشون من المالكية الذي قال: إن التمكين من الاطعام إطعام.
قال تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتميا وأسيرا) فبأى وجه أطعمه دخل في الآية وفي قدر الاطعام خلاف، فعندنا وعند مالك وأهل المدينة مد لكل واحد من المساكين العشرة إن كان بمدينة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ سليمان ابن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الاصغر، ورأوا ذلك مجزئا عنهم، وهو قول ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت، وبه قال عطاء بن أبى رباح، واختلف إذا كان بغيرها.
وقد سبق لنا في كفارة الظهار بيان مقدار ما يعطى كل مسكين وجنسه فارجع إليه.
أما قوله تعالى (من أوسط ما تطعمون أهليكم) روى أحمد في كتاب التفسير بإسناده عن ابن عمر قال " الخبز واللبن " وفي رواية عنه قال " الخبز والتمر والخبز والزيت والسمن " وقال أبو رزين " خبز وزيت وخل " وقال الاسود بن يزيد " الخبز والتمر " وعن على " الخبز والتمر، الخبز والسمن، الخبز واللحم.
وعن ابن سيرين قال: كانوا يقولون أفضله الخبز واللحم.
وأوسطه الخبز والسمن وأخمسه الخبز والتمر (قلت) لا يجزئ عندنا شئ من هذا كما مضى في كفارة الظهار وكفارة الصوم، حيث لا يجزئ دقيق ولاخبز ولا سويق، لانه خرج عن حالة الكمال
والادخار ولا يجزئ في الزكاة فلم يجزئ في الكفارة كالقيمة، وقال ابن القاسم يجزئه المد بكل مكان وقال ابن المواز " أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف، وأشهب بمد وثلث " قال وان مدا وثلثا لوسط من عيش الامصار في الغداء والعشاء.(18/118)
وقال أبو حنيفة " يخرج من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعا على حديث عبد الله بن ثعلبة بن صغير عن أبيه قَالَ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خطيبا فأمر بصدقة الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شعير عن كل رأس أو صاع بر بين اثنين، وبه أخذ سفيان وابن المبارك وروى عن على وعمر وابن عمر وعائشة رضى الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب وهو قول فقهاء العراق كافة، لما رواه ابن عباس قال " كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف صاع من بر من أوسط ما تطعمون أهليكم " أخرجه ابن ماجه.
وقال القرطبى ويخرج الرجل مما يأكل قال ابن العربي وقد زلت هنا جماعة من العلماء، فقالوا انه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس، وهذا سهو بين، فإن المكفر إذا لم يستطيع في خاصة نفسه الا الشعير لم يكلف أن يعطى لغيره سواه، وقد قال صلى الله عليه وسلم " صاعا من طعام: صاعا من شعير " ففصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل، وهذا مما لاخفاء فيه وقال مالك إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه، وقال الشافعي لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة لانهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطى كل واحد مدا وروى عن علي عليه السلام " لا يجزى إطعام العشرة وجبة واحدة " يعنى غداء دون عشاء أو عشاء دون غداء، فإذا لم يجد إلا مسكينا واحدا ردد عليه في كل
يوم تتمة عشرة أيام، وبهذا قال أحمد وأبو ثور، وأجاز الاوزاعي دفعها إلى واحد، ويجوز دفعها لاهل بيت شديدي الحاجة عند أبى عبيد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أراد أن يكفر بالكسوة كسا كل مسكين ما يقع عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو رداء أو مقنعة أو خمار، لان الشرع ورد به مطلقا ولم يقدر فحمل على ما يسمى كسوة في العرف: وهل يجزى فيه القلنسوة؟ فيها وجهان
(أحدهما)
لا يجزئه لانه لا يطلق عليه اسم الكسوة (والثاني) أنه يجزئه(18/119)
وهو قول أبى إسحاق المروزى، لما روى أن رجلا سأل عمران بن الحصين عن قوله تعالى (أو كسوتهم) قال لو أن وفدا قدموا على أميركم هذا فكساهم قلنسوة قلنسوة، قلتم قد كسوا، ولا يجزئ الخف والنعل والمنطقة والتكة، لانه لا يقع عليه اسم الكسوة، ويجزى الكساء والطيلان لانه من الكسوات، ويجوز ما اتخذ من القطن والكتان والشعر والصرف والخز، وأما الحرير فإنه إن أعطاه للمرأة أجزأه، وهل يجوز أن يعطى رجلا؟ فيه وجهان أحدهما لا يجزئ لانه يحرم عليه لبسه والثاني يجزئه وهو الصحيح، لانه يجوز أن يعطى الرجال كسوة النساء، والنساء كسوة الرجال، ويجوز فيه الخام والمقصور والبياض والمصبوغ.
فأما الملبوس فإنه إن ذهبت قوته لم يجزه، وإن لم تذهب قوته أجزأه كما تجزئه الرقبة إذا لم تبطل منفعتها ولا تجزئه إذا بطلت منفعتها
(فصل)
وإن أراد أن يكفر بالصيام ففيه قولان
(أحدهما)
لا يجوز إلا متتابعا لانه كفارة جعل الصوم فيها بدلا عن العتق
فشرط في صومها التتابع ككفارة الظهار والقتل (والثاني) أنه يجوز متتابعا ومتفرقا، لانه صوم نزل به القرآن مطلقا فجاز متفرقا ومتتابعا كالصوم في فدية الاذى
(فصل)
وإن كان الحالف عبدا فكفارته الصوم، وإن كان الصوم يضر به لشدة الحر وطول النهار نظرت - فإن حلف بإذن المولى وحنث بإذنه - جاز له أن يصوم من غير إذنه لانه لزمه بإذنه، وإن حلف بغير إذنه وحنث بغير إذنه لم يجز أن يصوم إلا بأذنه، لانه لزمه بغير إذنه.
وإن حلف بغير إذنه وحنث بإذنه جاز أن يصوم بغير إذنه، لانه لزمه بإذنه، وان حلف بإذنه وحنث بغير إذنه ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز أن يصوم بغير إذنه لانه وجد أحد السببين بإذنه فصار كما لو حلف بغير إذنه وحنث بإذنه (والثاني) لا يجوز أن يصوم بغير إذنه وهو الصحيح، لانه إذا لم يجز أن يصوم ولم يمنعه من الحنث باليمين فلان لا يجوز وقد منعه من الحنث باليمين أولى(18/120)
فان كان الصوم لا يضر به كالصوم في الثناء ففيه وجهان
(أحدهما)
انه يجوز أن يصوم بغير إذنه لانه لاضرر عليه (والثاني) انه كالصوم الذي يضربه على ما ذكرناه لانه ينقص من نشاطه في خدمته، فإن صام في المواضع التي منعناه من الصوم فيها أجزأه لانه من أهل الصيام: وإنما منع منه لحق المولى، فإذا فعل بغير اذنه صح كصلاة الجمعة، فإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا وله مال لم يكفر بالعتق، لانه ليس من أهل الولاء ويلزمه أن يكفر بالطعام أو الكسوة.
ومن أصحابنا من قال فرضه الصوم، وهو قول المزني لانه ناقص بالرق وهو كالعبد، والمذهب الاول لانه يملك المال بنصفه الحر ملكا تاما فأشبه الحر
(الشرح) في قوله تعالى (أو كسوتهم) قرئ بكسر الكاف وضمها هما لغتان مثل إسوة وأسوة، وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني (أو كإسوتهم) يعنى كإسوة أهلك.
والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد أو كل ما يسمى كسوة عرفا أو أقل ما يقع عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو ازار أو رداء أو مقنعة أو عمامة، وفي القانسوة وجهان.
وذلك ثوب واحد.
وبه قال أبو حنيفة والثوري وقال أحمد: تتقدر الكسوة بما تجزئ الصلاة فيه، فإن كان رجلا فثوب تجزئة الصلاة فيه، وان كانت أمرأة فدرع وخمار، وبهذا قال مالك.
وممن قال لاتجزئه السراويل الاوزاعي وأبو يوسف.
وقال ابراهيم النخعي ثوب جامع.
وقال الحسن كل مسكين حلة: ازار ورداء قال ابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وأصحاب الرأى، يجزئه ثوب ثوب.
ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة.
وحكى عن الحسن قال تجزئ العمامة.
وقال سعيد بن المسيب عباءة وعمامة، والطليان فارسي معرب ثوب يعطى به الرأس والبدن يلبس فوق الثياب إذا ثبت هذا فإنه يجوز أن يكسوهم من جميع أصناف الكسوة من القطن والكتان والصوف والشعر والوبر والخز، لان الله تعالى أمر بكسوتهم ولم يعين فأى جنس كساهم منه خرج به عن العهدة لوجود الكسوة المأمور بها.(18/121)
ويجوز أن يكسو المرأة حريرا، ويجوز أن يكسوهم ثيابا مستعملة إلا أن تكون قد بليت وذهبت منفعتها لانها معيبة فلا تجزئ كالحب المعيب وسواء ما أعطاهم مصبوغا أو غير مصبوغ أو خاما أو مقصورا، لانه تحصل الكسوة المأمور بها والحكمة المقصودة منها.
وبهذا قال أحمد، إلا في ثوب الحرير فإنه يجوز أن
يعطى الرجل ثوبا من الحرير، وهو أحد الوجهين عندنا، وسواء كان ما أعطاهم مصبوغا أو غير مصبوغ، أو خاما غير مخيط، لانه تحصل الكسوة المأمور بها والحكمة المقصودة.
والذين تجزئ كسوتهم هم المساكين الذين يجزئ اطعامهم لان الله تعالى قال " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم " فينصرف الضمير إلى المساكين لا إلى أهليكم، وقد تقدم الكلام في المساكين وأصنافهم في كفارة الصوم (مسألة) قوله " وان أراد أن يكفر بالصيام الخ " فيؤخذ على المصنف قوله " وان أراد " بصيغة التخيير مع أن الآية صريحة بالتخيير بين الاطعام أو الكسوة أو التحرير فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وهذا لا خلاف فيه الا في اشتراط التتابع في الصوم ففيه قولان
(أحدهما)
اشتراطه وهو ظاهر المذهب عند أحمد، وبه قال النخعي والثوري واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأى.
وروى نحو ذلك عن على وبه قال عطاء ومجاهد وعكرمة.
والقول الثاني أنه يجوز متتابعا ومتفرقا، وهو رواية عن أحمد حكاها ابن أبى موسى، وبه قال مالك لان الامر بالصوم مطلق ولا يجوز تقييده الا بدليل ولانه صام الايام الثلاثة فلم يجب التتابع فيه كصيام المتمتع ثلاثة أيام في الحج ووجه القول الاول ما ورد في قراءة أبى وعبد الله بن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) كذلك ذكره الامام أحمد في التفسير عن جماعة.
وهذا ان كان قرآنا فهو حجة لانه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وان لم يكن قرآنا فهو رِوَايَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ يحتمل أن يكونا سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا فظنا قرآنا فثبتت له رتبة الخبر، ولا ينقص عن درجة تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للآية.(18/122)
فعلى هذا إن أفطرت المرأة لحيض أو مرض، أو الرجل لمرض لم ينقطع التتابع.
وفي أحد القولين عندنا ينقطع في المرض ولا ينقطع في الحيض، وقال أبو حنيفة ينقطع فيهما لان التتابع لم يوجد وفوات الشرط يبطل به المشروط.
وقال أحمد وأبو ثور إسحاق: كل عذر يبيح الفطر أشبه الحيض في كفارة القتل فلا يقطع التتابع.
(مسألة) من كانت له دابة يحتاج إلى ركوبها أو دار لا غنى له عن سكناها، أو خادم يحتاج إلى خدمته أجزاه الصيام في الكفارة.
ومن ثم فإن الكفارة انما تجب فيما يفضل عن حاجته الاصلية والسكنى من الحوائج الاصلية وكل ما ذكرنا وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة ومالك: من ملك رقبة تجزى في الكفارة ولا يجزئه الصيام وان كان محتاجا إليها لخدمته.
ومثل ذلك من له عقار يحتاج إلى أجرته لمؤنته وحوائجه الاصلية أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه بالتكفير منها أو سائمة يحتاج إلى نمائها حاجة أصلية أو أثاث يحتاج إليه أو كتب لا يتيسر له تحصليها مرة أخرى وأشباه هذا فله التكفير بالصيام، لان ذلك مستغرق لحاجته الاصلية، فأشبة المعدم (فرع)
لا يجزئه أن يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة لقوله تعالى (فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) فوجه الدلالة من وجهين
(أحدهما)
أنه جعل الكفارة احدى هذه الخصال الثلاث ولم يأت بواحدة منها (الثاني) أن اقتصاره على هذه الخصال الثلاث دليل على انحصار التكفير فيها.
وما ذكره القائلون بجواز المزج بينهما من أصحاب أحمد والثوري وأصحاب الرأى من أطعام خمسة وكسوة خمسة انما يشكل خصلة رابعة، وما
ذكروه انما هو تلفيق للكفارة من نوعين فأشبه ما لو أعتق نصف عبد وأطعم خمسة أو كساهم، ولانه نوع من التكفير فلم يجزئه تبعيضه (مسألة) إذا دخل في الصوم ثم أيسر، أي قدر على العتق أو الاطعام أو الكسوة بعد الشروع في الصوم لم يلزمه الرجوع إليها، روى ذلك عن الحسن وقتادة، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وابن المنذر.
وروى عن النخعي(18/123)
والحكم أنه يلزمه الرجوع إلى أحدها، وبه قال الثوري وأصحاب الرأى لانه قدر على المبدل قبل إتمام البدل فلزمه الرجوع كالمتيمم إذا قدر على الماء قبل إتمام صلاته.
دليلنا أنه بدل لا يبطل بالقدرة على المبدل فلم يلزمه الرجوع إلى المبدل بعد الشروع فيه، كما لو شرع المتمتع العاجز عن الهدى في صوم السبعة الايام فإنه لا يخرج بلا خلاف.
والدليل على أن البدل لا يبطل أن البدل الصوم وهو صحيح مع قدرته اتفاقا، وفارق التيمم فإنه يبطل بالقدرة على الماء بعد فراغه منه ولان الرجوع إلى طهارة الماء لا مشقة فيه ليسره، والكفارة يشق الجمع فيها بين خصلتين، وإيجاب يفضى إلى ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب العدد
إذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول والخلوة لم تجب العدة لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) ولان العدة تجب لبراءة الرحم، وقد تيقنا براءة رحمها، وإن طلقها بعد الدخول وجبت العدة لانه لما أسقط العدة في الآية قبل الدخول دل على وجوبها بعد الدخول، ولان بعد الدخول يشتغل الرحم بالماء فوجبت العدة لبراءة الرحم.
وإن طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول ففيه قولان
(أحدهما)
لا تجب العدة لما ذكرناه من الآية والمعنى (والثاني) تجب لان التمكين من استيفاء المنفعة جعل كالاستيفاء، ولهذا تستقر به الاجرة في الاجارة كما تستقر بالاستيفاء، فجعل كالاستيفاء في إيجاب العدة.
(فصل)
وان وجبت العدة على المطلقة لم تخل - إما أن تكون حرة أو أمة - فإن كانت حرة نظرت، فإن كانت حاملا من الزوج اعتدت بالحمل لقوله تعالى (وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن) ولان براءة الرحم لا تحصل في الحامل الا بوضع الحمل، فإن كان الحمل ولدا واحدا لم تنقض العدة حتى ينفصل(18/124)
جميعه، وإن كان ولدين أو أكثر لم تنقض حتى ينفصل الجميع، لان الحمل هو الجميع، ولان براءة الرحم لا تحصل الا بوضع الجميع.
وان وضعت ما بان فيه خلق آدمى انقضت به العدة، وان وضعت مضغة لم يظهر فيه خلق آدمى وشهد أربع نسوة من أهل المعرفة أنه خلق آدمى ففيه طريقان من أصحابنا من قال تنقضي به العدة قَوْلًا وَاحِدًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ وقد بيناه في عتق أم الولد، وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما روى أنه أتى عثمان رضى الله عنه بامرأة ولدت لستة أشهر فشاور القوم في رجمها، فقال ابن عباس رضى الله عنه: أنزل الله عز وجل (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وأنزل وفصاله في عامين فالفصال في عامين والحمل في ستة أشهر وذكر القتيبى في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، وأكثره أربع سنين، لما روى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حدثت جميلة بنت سعد عن عائشة رضى الله عنها: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل.
قال مالك: سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع
سنين قبل أن تلد.
وأقل ما تنقضي به عدة الحامل أن تضع بعد ثمانين يوما من بعد امكان الوطئ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ أحدكم ليخلق في بطن أمه نطفة أربعين يوما: ثم يكون علقة أربعين يوما، ثم يكون مضغة أربعين يوما.
ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن يكون بعد الثمانين (الشرح) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم الخ) خاطب الله المؤمنين بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، وبين ذلك الحكم للامة، فالمطلقة إذا لم تكن مسوسة لا عدة عليها بنص الكتاب واجماع الامة، وعلى هذا فإن النكاح في الآية هنا يطلق على العقد وان كان في الحقيقة يطلق على الوطئ، وسمى العقد نكاحا لملابسته له من حيث هو طريق إليه، ولم يرد النكاح في كتاب الله الا في معنى العقد لانه في معنى الوطئ، وهو من آداب القرآن، وقد كنى عن الوطئ بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتنشى والاتيان وفي قوله (ثم طلقتموهن) أحكام مضى ذكرها في الطلاق.
وقد استدل(18/125)
داود الظاهرى ومن قال بقوله أن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها أنه ليس له عليها أن تتم عدتها ولاعدة مستقبلة، لانها مطلقة قبل الدخول بها وقال عطاء بن أبي رباح وفرقة: تمضى في عدتها من طلاقها الاول، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لان طلاقه لها إذا لم يمسها في حكم من طلقها في عدتها قبل أن يراجعها، ومن طلق امرأته في كل طهر مرة بنت ولم تستأنف، وقال مالك إذا فارقها قبل أن يمسها انها لاتبنى على ما مضى من عدتها، وإنها تنشئ من يوم طلقها عدة مستقبلة، وقد ظلم زوجها نفسه وأخطا إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها، وعلى هذا أكثر أهل العلم، لانها في حكم الزوجات المدخول بهن في النفقة
والسكنى وغير ذلك، ولذلك تستأنف العدة من يوم طلقت، وهو قول جمهور فقها البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام وقال الثوري: أجمع الفقهاء عندنا على ذلك.
قال أبن قدامة: وأجمعوا على أن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها، لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم النساء ثم طلقتموهن) الآية (فرع)
هل تجب العدة على المطلقة إذا خلا بها ولم يمسها؟ فيه قولان:
(أحدهما)
وهو قوله في القديم: إن العدة تجب على كل من خلا بها زوجها ولم يصبها ثم طلقها.
وبهذا قال أحمد وروى عن الخلفاء الراشدين وزيد بن ثابت وابن عمر، وبه قال عروة وعلي ابن الحسين وعطاء والزهرى والثوري والاوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأى.
(الثاني) وهو قوله في الجديد: لا عدة عليها لقوله تعالى (ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) وهذا نص، ولانها مطلقة لم تمس فأشبهت من لم يخل بها ووجه القول الاول ماروى أحمد في مسنده عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب المهر ووجبت(18/126)
العدة، ولانه عقد على المنافع فالتمكين فيه يجرى مجرى الاستيفاء في الاحكام المتعلقة به كعقد الاجارة.
(مسألة) إذا كانت المطلقة حرة أو أمة وكانت حاملا من الزوج فقد أجمع أهل العلم في جميع الامصار والاعصار أنها تنقضي عدتها بوضع حملها، وكذلك كل مفارقة في الحياة، وأجمعوا أيضا على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا اجلها وضع حملها إلا ابن عباس، وسيأتى مزيد
وقد شرعت العدة لمعرفة براءتها من الحمل ووضعه أدل الاشياء على البراءة منه فوجب أن تنقضي العدة ولانه لا خلاف في بقاء العدة ببقاء الحمل فوجب أن تنقضي به.
فإذا كان الحمل واحدا انقضت العدة بوضعه وانفصال جميعه، وان ظهر بعضه فهى في عدتها حتى يفصل باقيه، لانها لا تكون واضعة لحملها ما لم يخرج كله، وان كان الحمل اثنين أو أكثر لم تنقض عدتها إلا بوضع الآخر لان الحمل هو الجميع، هذا قول عامة أهل العلم إلا أبا قلابة وعكرمة فإنهما قالا: تنقضي عدتها بوضع الاول ولا تتزوج حتى تضع الآخر وذكر ابن أبى شيبة عن قتادة عن عكرمة أنه قال: إذا وضعت أحدهما فقد انقضت عدتها، قيل له فتتزوج؟ قال لا.
قال قتادة خصم العبد وهذا قول شاد باتفاق جمهور العلماء، ويخالف ظاهر الكتاب، فإن العدة شرعت لمعرفة البراءة من الحمل.
فإذا علم وجود الحمل فقد تيقن وجود الموجب للعدة وانتفت البراءة الموجبة لانقضائها، ولانها لو انقضت عدتها بوضع الاول لابيح لها النكاح كما لو وضعت الآخر، فإن وضعت ولدا وشكت في وجود ثان لم تنقض عتدها حتى تزول الريبة: وتيقن أنها لم يبق معها حمل، لان الاصل بقاؤها فلا يزول بالشك (فرع)
الحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه شئ من خلق الانسان حرة كانت أو أمة، فإذا ألقت المرأة بعد فرقة زوجها شيئا لم يخل (1) أن يكون مابان فيه هو الشكل الآدمي من الرأس واليد والرجل، فهذا تنقضي به العدة بلا خلاف قال ابن المنذر: أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على أن عدة المرأة تنقضي بالسقط إذا علم أنه ولد وممن تحفظ عنه ذلك الحسن وابن سيرين وشريح والشعبى(18/127)
والنخعي والزهرى والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال أحمد بن
حنبل، إذا بان فيه شئ من خلق الآدمى علم بأنه حمل: فيدخل في عموم قوله تعالى (وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن) (2) أن تلقى نطفة أو دما لا تدري هل هو ما يخلق منه الآدمى أولا؟ فهذا لا يتعلق به شئ من الاحكام، لانه لم يثبت أنه ولد ولا بالمشاهدة ولا بالبينة (3) أن تلقى مضغة لم تبن فيها الخلقة، فشهد أربع ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية بان بها أنه خلقة آدمى، فهذا فيه طريقان، من أصحابنا من قال.
تنقضي به العدة كالحال الاولى قولا واحدا، لانه قد تبين بشهادة أهل المعرفة أنه ولد.
والثانى من أصحابنا من قال فيه قولان بنيهما المصنف في عتق أم الولد أحدهما أن عدتها لا تنقضي به ولا تصير أم ولد لانه لم يبين فيه خلق آدمى فأشبه الدم.
والثاني أن عدتها لا تنقضي به ولكن تصير أم ولد لانه مشكوك في كونه ولدا، فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة بأمر مشكوك فيه.
وعن أحمد روايتان، إحداهما نقلها الاثرم والاخرى نقلها حنبل كالقولين عندنا (4) إذا ألقت مضغة لاصورة فيها فشهد أربع من ثقات القوابل أنه مبتدأ خلق آدمى فهو كالذى قبله (5) أن تضع مضغة لاصورة فيها ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدمى فهذا لا تنقضي به العدة ولا تصير به أم ولد لانه لم يثبت كونه ولدا ببينة ولا مشاهدة، فأشبه العلقة، فلا تنقضي العدة بوضع ما قبل المضغة بحال، سواء كان نطفة أو علقة، وسواء قيل إنه مبتدأ خلق آدمى أو لم يقل، فإذا كان علقة فلا تنقضي به العدة بإجماع الفقهاء ما عدا الحسن البصري فإنه قال: إذا علم أنها حمل انقضت به العدة وفيه الغرة والاصح ما عليه الجمهور وأقل ما تنقضي به مدة الحمل ستة أشهر، لان الله تعالى يقول (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)
قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا.
وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا، وروى أن عثمان قد أتى بأمرأة قد ولدت سفاحا لستة أشهر فأراد أن يقضى عليها بالحد فقال له على:(18/128)
ليس ذلك عليها، قال تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وقال تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان ولم يحدها وقد روى الاثرم بإسناده عن أبى الاسود أنه رفع إلى عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فقال له على " ليس لك ذلك وتلا الآيتين، فخلى عمر سبيلها: وولدت مرة أخرى لذلك الحد، ورواه الاثرم أيضا عن عكرمة أن ابن عباس قال ذلك.
قال عاصم الاحول فقلت لعكرمة إنا بلغنا أن عليا قال هذا فقال عكرمة " لا " ما قال هذا الا ابن عباس وذكر ابن قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، وهذا قول أحمد ومالك وأصحاب الرأى وغيرهم.
وسيأتى في الرضاع مزيد ان شاء الله قال القرطبى لم يعد ثلاثة أشهر في أبتداء الحمل، لان الولد فيه نطفة وعلقة ومضغة، فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى (فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به) والفصال الفطام وروى أن الآية نزلت في أبى بكر الصديق: وكان حمله وفصاله ثلاثين شهرا حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا، وفي الكلام إضمار.
أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا، ولولا هذا الاضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى.
وقال أحمد أقل ما تنقضي به العدة من الحمل أن تضعه بعد ثمانين يوما منذ
أمكنه وطؤها، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنَّ خلق أحدكم ليجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن تكون بعد الثمانين، فأما بعد الاربعة اشهر فليس فيه إشكال، لانه منكس في الخلق الرابع (مسألة) خبر مالك ساقه الذهبي في الميزان عن ابراهيم بن موسى الفراء.
حدثنا الوليد بن مسلم قال، قلت لمالك أن حدثت عن عائشة انها قالت " لاتحمل المرأة فوق سنتين قدر ظل معتزل " فقال مالك سبحان الله من يقول هذا؟(18/129)
هذه امرأة ابن عجلان جارتنا امرأة صدق ولدت ثلاث أولاد في ثنتي عشرة سنة تحمل أربع سنين قبل أن تلد.
اه (قلت) من الغريب أن محمد بن عجلان نفسه حملت به أمه بأكثر من ثلاث سنين، ورى هذا الواقدي، سمعت عبد الله بن محمد بن عجلان يقول حمل بأبى بأكثر من ثلاث سنين.
وروى العباس بن نصر البغدادي عن صفوان بن عيسى قال " مكث ابن عجلان في بطن أمه ثلاث سنين، فشق بطنها لما ماتت فأخرج وقد نبتت أسنانه.
روى هذا المحدث أبو بكر بن شاذان عن عبد العزيز بن أحمد الغافقي المصرى عن العباس وكان محمد بن عجلان هذا رجلا صالحا تقيا، اختلف نقاد الرجال فيه، فقال الحاكم أخرج له مسلم في كتابه ثلاثة عشر حديثا كلها شواهد.
وقد تكلم المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه.
وقال الذهبي إمام صدوق مشهور.
روى عن أبيه والمقبرى وطائفة.
وعنه مالك وشعبة ويحيى القطان.
وثقة أحمد وابن معين وابن عيينة وأبو حاتم.
وروى عباس عن أبن معين قال ابن عجلان أوثق من محمد ابن عمر.
وما يشك أحد في هذا
وقال البخاري في ترجمة ابن عجلان في الضعفاء قال لى علي بن أبى الوزير عن عائشة إنه ذكر ابن عجلان فذكر خبرا، وقال يحيى القطان كان مضطربا في حديث نافع.
وقال البخاري، قال يحيى القطان لاأعلم إلا أنى سمعت ابن عجلان يقول كان سعيد المقبرى يحدث عن أبيه عن أبي هريرة وعن رجل عن أبى هريرة، فاختلط فجعلهما عن أبى هريرة.
كذا في نسختي بالضعفاء للبخاري.
وعندي في مكان آخر أن أبن عجلان كان يحدث عن سعيد عن أبيه عن أبى هريرة.
وعن رجل عن أبي هريرة، فاختلط عليه فجعلهما عن أبي هريرة
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
فإن كانت المعتدة غير حامل فإن كانت ممن تحيض اعتدت بثلاثة أقراء لقوله عز وجل (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) والاقراء هي الاطهار، والدليل عليه قوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) والمراد به في وقت(18/130)
عدتهن كما قال (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) والمراد به في يوم القيامة والطلاق المأمور به في الطهر، فدل على أنه وقت العدة، وان كان الطلاق في وقت الحيض كان أول الاقراء الطهر الذي بعده، فإن كان في حال الطهر نظرت فإن بقيت في الطهر بعد الطلاق لحظة ثم حاضت احتسبت تلك اللحظة قرءا، لان الطلاق انما جعل في الطهر ولم يجعل في الحيض حتى لا يؤدي إلى الاضرار بها في تطويل العدة، فلو لم تحسب بقية الطهر قرءا كان الطلاق في الطهر أضر بها من الطلاق في الحيض، لانه أطول للعدة، فإن لم يبق بعد الطلاق جزء من الطهر - بأن وافق آخر لفظ الاطلاق آخر الطهر، أو قال لها أنت طالق في آخر جزء من طهرك - كان أول الاقراء الطهر الذي بعد الحيض.
وخرج أبو العباس وجها آخر أنه يجعل الزمان الذي صادفه الطلاق من الطهر
قرءا، وهذا لا يصح لان العدد لا يكون إلا بعد وقوع الطلاق فلم يجز الاعتداد بما قبله.
وأما آخر العدة فقد روى المزني والربيع أنها إذا رأت الدم بعد الطهر الثالث انقضت العدة برؤية الدم.
وروى البويطى وحرملة أنها لا تنقضي حتى يمضى من الحيض يوم وليلة: فمن أصحابنا من قال هما قولان، أحدهما تنقضي العدة برؤية الدم، لان الظاهر أن ذلك حيض، والثاني لا تنقضي حتى يمضى يوم وليلة لجواز أن يكون دم فساد فلا يحكم بانقضاء العدة.
ومنهم من قال هي على اختلاف حالين.
فالدى رواه المزني والربيع فيمن رأت الدم لعادتها فيعلم بالعادة أن ذلك حيض، والذى رواه البويطى وحرملة فيمن رأت الدم لغير عادة، لانه لا يعلم انه حيض قبل يوم وليلة، وهل يكون ما رأته من الحيض من العدة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه من العدة لانه لابد من اعتباره، فعل هذا إذا راجعها فيه صحت الرجعة، وإن تزوجت فيه لم يصح النكاح (والثاني) ليس من العدة لانا لو جعلناه من العدة لزادت العدة على ثلاثة أقراء، فعلى هذا إذا راجعها لم تصح الرجعة، فإن تزوجت فيه صح النكاح (الشرح) قوله تعالى (يتربصن بأنفسن ثلاثة قروء) يتربصن ينتظرن والتربص الانتظار.
قال تعالى (فتربصوا فستعلمون) قال ابن بطال، واختلف(18/131)
أهل العلم في الاقراء، فذهب قوم إلى أنها الاطهار، وهو مذهب الشافعي رحمه الله، وذهب قوم إلى أنها الحيض وأهل اللعنة يقولون ان القرء يقع على الحيض وعلى الطهر جميعا وهو عندهم من الاضداد، وأصل القراء الجمع، يقال قريت الماء في الحوض جمعته، فكأن الدم يجتمع في الرحم ثم يخرج.
اه وقال في اللسان، قال أبو عبيد القرء يصلح للحيض والطهر، قال وأظنه
من أقرأت النجوم إذا غابت والجمع أقراء، وفي الحديث " دعى الصلاة أيام أقرائك " وقروء على فعول وأقرؤ الاخيرة عن اللحيانى في أدنى العدد، ولم يعرف سيبوية أقراءا ولا أقرؤا.
قال استغنوا عنه بفعول، وفي التنزيل " ثلاثة قروء " كما قالوا خمسة كلاب يراد خمسة من كلاب.
قال الاعشى مورثة مالا وفي الحى رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا وقد اختلف الرواية عن أحمد بن حنبل فروى أنها الحيض، وهو مروى عن أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وابن عباس وسعيد بن المسيب والثوري والاوزاعي والعنبري واسحاق وأبى عبيد وأصحاب الرأى، وروى عن أبى موسى وعبادة بن الصامت وأبى الدرداء والرواية الثانية عن أحمد أن القروء الاطهار، وهو قول زيد وابن عمر وعائشة وسليمان بن يسار وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وأبان بن عثمان وعمر ابن عبد العزيز والزهرى ومالك وأبى بكر بن عبد الرحمن الذي قال: ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك.
قال ابن عبد البر: رجع أحمد إلى إلى أن القروء الاطهار قال في رواية الاثرم: رأيت الاحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف: والاحاديث عمن قاله إنه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديثها صحاح وقوية.
واحتج من قال بقول الله (فطلقوهن لعدتهن) أي في عدتهن، كقوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أي في يوم القيامة، وإنما أمر بالاطلاق في الطهر لا في الحيض.(18/132)
(فرع)
لما كانت القروء هي الاطهار عندنا احتسبنا لها بالطهر الذي طلقها فيه، قرءا طلقها - وقد من طهرها لحظة - حسبها قرءا، وهذا قول
كل من قال: القروء الاطهار إلا الزهري وحده قال: تعتد بثلاثة قروء سوى الطهر الذي طلقها فيه.
وحكى عن أبي عبيد أنه إن كان جامعها في الطهر لم يحتسب ببقيته لانه زمن حرم فيه الطلاق فلم يحتسب به من العدة كزمن من الحيض.
وقال الحنابلة: القروء الحيض: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " ولان الاستبراء تعرف به براءة الرحم، وإنما يحصل بالحيضة لا بالطهر الذي قبلها، ولان العدة تتعلق بخروج خارج من الرحم فوجب أن تتعلق بالطهر كوضع الحمل يحققه أن العدة مقصودها معرفة براءة المرأة من الحمل، فتارة تحصل بوضعه وتارة تحصل بما ينافيه وهو الحيض الذي لا يتصور وجوده معه.
ووجه القول بأن المرأة تعتد بالطهر الذي طلقت فيه أن الطلاق حرم في زمن الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها، فلو لم يحتسب ببقية قرءا كان الطلاق في الطهر أضر بها وأطول عليها، وما ذكر عن أبى عبيد لا يصح، لان تحريم الطلاق في الحيض لكونها لا تحتسب ببقيته فلا يجوز أن نجعل العلة في عدم الاحتساب تحريم الطلاق فتصير العلة معلولا، وإنما تحريم الطلاق في الطهر الذي أصابها فيه لكونها مرتابة، ولكونه لا يأمن الندم بظهور حملها (فرع)
إذا انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر، أو قال لها: أنت طالق في آخر جزء من طهرك، كان أول الاقراء الطهر الذي بعد الحيض ويكون محرما ولا تحتسب بتلك الحيضة من عدتها، وتحتاج أن تعتد بثلاث حيضات في قول الربيع بن سليمان والمزنى عن الشافعي: إذا رأت الدم بعد الطهر الثالث انقضت العدة برؤية الدم، وفي قوله من رواية البويطى وحرملة أنها لا تنقضي حتى يمضى من الحيض يوم وليلة.
ووجه القول الاول ما رواه الشافعي أخبرنا مالك عن نافع زيد بن أسلم(18/133)
عن سليمان بن يسار أن الاحوص بن حكيم هلك بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها، ولا ترثه ولا يرثها.
ووجه الثاني ما أخرجه عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضى الله عنها أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة.
قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن فقالت: صدق عروة، وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا: ان الله تبارك اسمه يقول: ثلاثة قروء، فقالت عائشة رضى الله عنها: صدقتم، وهل تدرون ما الاقراء؟ الاقراء الاطهار.
وقال الشافعي: فإذا طلق الرجل امرأته طاهرا قبل جماع أو بعده أعتدت بالطهر الذي وقع عليها فيه الطلاق ولو كان ساعة من نهار وتعتد بطهرين تامين بين حيضتين، فإذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة حلت، ولا يؤخذ أبدا في القرء الاول الا أن يكون فيما بين أن يوقع الطلاق وبين أول حيض، ولو طلقها حائضا لم تعتد بتلك الحيضة، فإذا طهرت استقبلت القرء، ولو طلقها فلما أوقع الطلاق حاضت - فإن كانت على يقين من أنها كانت طاهرا حين تم الطلاق ثم حاضت بعد تمامه بطرفة عين فذلك قرء وان علمت أن الحيض وتمام الطلاق كانا معا استأنفت العدة في طهرها من الحيض ثلاثة قروء اه ومحصل هذا أنه إذا طلقها وهي طاهر انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الثالثة، وأن طلقها حائضا أنقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الرابعة، وهذا قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وأبان ابن عثمان ومالك وأبى ثور وأحمد وهو ظاهر أحد القولين للشافعي، والقول
الآخر لا تنقضي العدة حتى يمضى زمن الدم يوم وليلة، لجواز أن يكون الدم دم فساد فلا نحكم بانقضاء العدة حتى يزول الاحتمال.
وقال أصحاب أحمد ان الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء فالزيادة عليها مخالفة للنص فلا يعول عليه ولفظ حديث زيد بن ثابت " إذا دخلت في الدم من الحيضة(18/134)
الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها " والقول: إن الدم يكون دم فساد يقتضى الرد بكونه حيضا في ترك الصلاة وتحريمها على الزوج وسائر أحكام الحيض فكذلك في انقضاء العدة، ثم إن كان التوقف عن الحكم بانقضاء العدة للاحتمال، فإذا تبين أنه حيض علمنا أن العدة قد انقضت حين رأت الدم، كما لو قال لها: إن حضت فأنت طالق وقد اختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: اليوم والليلة من العدة، لانه دم تكمل به العدة فكان منها كالذي في أثناء الاطهار، ومنهم من قال: ليس منها إنما يتبين به انقضاؤها، ولاننا لو جعلناه منها أوجبنا الزيادة على ثلاثة قروء، ولكننا نمنعها من النكاح حتى يمضى يوم وليلة ولو راجعها زوجها لم تصح الرجعة
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وأقل ما يمكن أن تعتد فيه الحرة بالاقراء اثنان وثلاثون يوما وساعة وذلك بأن يطلقها في الطهر ويبقى من الطهر بعد الطلاق ساعة فتكون تلك الساعة قرءأ ثم تحيض يوما، ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثاني ثم تحيض يوما ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثالث، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها.
(فصل)
وان كانت من ذوات الاقراء فارتفع حيضها، فإن كان لعارض معروف كالمرض والرضاع تربصت إلى أن يعود الدم، فتعتد بالاقراء: لان
ارتفاع الدم بسبب يزول فانتظر زواله، فإن ارتفع بغير سبب معروف، ففيه قولان.
قال في القديم تمكث إلى أن تعلم براءة رحمها ثم تعتد عدة الآيسة، لان العدة تراد لبراءة الرحم.
وقال في الجديد تمكث إلى أن تيأس من الحيض ثم تعتد عدة الآيسة لان الاعتداد بالشهور جعل بعد الاياس فلم يجز قبله، فإن قلنا بالقول القديم ففي القدر الذي تمكث فيه قولان.
(أحدهما)
تسعة أشهر، لانه غالب عادة الحمل ويعلم به براءة الرحم في الظاهر(18/135)
(والثاني) تمكث أربع سنين، لانه لو جاز الاقتصار على براءة الرحم في الظاهر لجاز الاقتصار على حيضة واحدة، لانه يعلم بها براءة الرحم في الظاهر، فوجب أن يعتبر أكثر مدة الحمل ليعلم براءه الرحم بيقين.
فإذا علمت براءة الرحم بتسعة أشهر أو بأربع سنين اعتدت بعد ذلك بثلاثة أشهر، لما روى عن سعيد ابن المسيب رضى الله عنه " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قضى في المرأة إذا طلقت فارتفعت حيضتها أن عدتها تسعة أشهر لحملها وثلاثة أشهر لعدتها، ولان تربصها فيما تقدم ليس بعدة وانما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الاقراء فإذا علمت أعتدت بعدة الآيسات فان حاضت قبل العلم ببراءة رحمها أو قبل انقضاء العدة بالشهور لزمها الاعتداد بالاقراء لانها تبينا أنها من ذوات الاقراء، فإن اعتدت وتزوجت ثم حاضت لم يؤثر ذلك في العدة لانها انقضت العدة وتعلق بها حق الزوج فلم يبطل، فإن حاضت بعد العدة وقبل النكاح ففيه وجهان.
أحدهما لا يلزمها لا عتداد بالاقراء لانا حكمنا بانقضاء العدة فلم يبطل بما حدث بعده، والثاني يلزمها لانها صارت من ذوات الاقرار قبل تغلق حق الزوج بها
فلزمها الاعتداد بالاقراء، فإن قلنا بقوله الجديد أنها تقعد إلى الاياس ففي الاياس قولان
(أحدهما)
يعتبر اياس أقاربها لانها أقرب اليهن (والثاني) يعتبر اياس نساء العالم، وهو أن تبلغ اثنتين وستين سنة، لانه لا يتحقق الاياس فيما دونها فإذا تربصت قدر الاياس اعتد ت بعد ذلك بالاشهر لان ما قبلها لم يكن عدة، وانما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الاقراء.
(الشرح) قال النووي، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا تُؤْمَرُ فِي الْعِدَّةِ بِالْأَحْوَطِ والقعود إلى أن تَبَيُّنِ الْيَأْسِ، بَلْ إذَا طَلُقَتْ أَوْ فُسِخَ نِكَاحُهَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوَّلُهَا مِنْ حِينِ الْفِرْقَةِ فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٌ وَلَمْ يَكُنْ حَمْلٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحِيضُ وَتَطْهُرُ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَحُمِلَ أَمْرُهَا عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا وَلِأَنَّا لَوْ أَمَرْنَاهَا بِالْقُعُودِ إلَى الْيَأْسِ عَظُمَتْ الْمَشَقَّةُ وَطَالَ الضَّرَرُ لِاحْتِمَالٍ نَادِرٍ مُخَالِفٍ لِلظَّنِّ وَغَالِبِ عَادَةِ النِّسَاءِ بِخِلَافِ إلْزَامِهَا وَظَائِفَ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ سَهْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا، وَلِأَنَّ غَيْرَهَا يُشَارِكُهَا فِيهِ.(18/136)
وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هُنَا وَالْغَزَالِيُّ فِي الْعِدَدِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ أَنَّهُ حَكَى وَجْهًا أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الْقُعُودُ إلَى الْيَأْسِ ثُمَّ تَعْتَدُّ بثلاثة أشهر.
قَالَ الْإِمَامُ وَهَذَا الْوَجْهُ بَعِيدٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ الِاكْتِفَاءُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ فِي مُعْظَمِ الطُّرُقِ وَحَكَى الدَّارِمِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ.
قَالَ حَتَّى رَأَيْتُ لِلْمَحْمُودِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّهَا إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا لَمْ يُرَاجِعْهَا بَعْدَ مُضِيِّ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَاعَتَيْنِ، وَلَا تَتَزَوَّجُ إلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ احْتِيَاطًا لِأَمْرَيْنِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الدَّارِمِيُّ عَلَى الْأَصْحَابِ قَوْلَهُمْ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَغَلَّطَهُمْ فِي ذلك وبالغ في ابطال قولهم
قال الدرامى: يَنْبَغِي أَنْ نُبَيِّنَ عِدَّةَ غَيْرِهَا لِنَبْنِيَ عَلَيْهَا عِدَّتَهَا، فَعِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الْحَائِلِ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ كُلُّ قُرْءٍ طُهْرٌ إلَّا الْأَوَّلَ فَقَدْ يَكُونُ بَعْدَ طُهْرٍ، وَطَلَاقُهَا فِي الْحَيْضِ بِدْعَةٌ وَفِي الطُّهْرِ سُنَّةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ جَامَعَهَا فِيهِ فَبِدْعَةٌ أَخَفُّ مِنْ الْحَيْضِ، وَهَلْ يُحْسَبُ قُرْءًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فيه حسبت بقيته طهرا وَأَتَتْ بِطُهْرَيْنِ بَعْدَهُ، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَجَتْ مِنْ الْعِدَّةِ.
وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مُضِيُّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
وَقِيلَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ اُشْتُرِطَ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ فَإِنْ حَسِبْنَاهُ قُرْءًا فَكَمَا لَوْ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ وَإِلَّا وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ بَعْدَهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي حَيْضٍ وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ.
وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ مَعَ آخِرِ اللَّفْظِ أَمْ عَقِبَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَهَلْ تَشْرَعُ فِي الْعِدَّةِ مَعَ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالطَّلَاقِ أَمْ عَقِيبَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَلِلنَّاسِ خِلَافٌ فِي تُجْزِئُ الْقُرْءِ.
هَلْ هُوَ إلَى غَايَةٍ أَمْ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ؟ وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَقَلُّ زَمَانٍ يُمْكِنُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فِيهِ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَحْظَتَانِ، بِأَنْ يُطَلِّقَهَا وَقَدْ بقى شئ مِنْ الطُّهْرِ فَتَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا ثُمَّ تَحِيضُ يوما وليلة ثم تطهر خمسة عشر، ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر خمسة عشر وَهُوَ الْقُرْءُ الثَّالِثُ ثُمَّ تَرَى الدَّمَ لَحْظَةً، وينغبى أن تنبى العدة على ما سبق، فإن طَلَّقَهَا وَكَانَ جُزْءٌ مِنْ آخِرِ لَفْظِهِ أَوْ شئ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْجُزْءِ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ بِلَا خِلَافٍ وَتَعْتَدُّ بِالْأَطْهَارِ بَعْدَهُ.
وَإِنْ طَابَقَ الطلاق آخر(18/137)
الطُّهْرِ اعْتَدَّتْ بِهِ قُرْءًا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى آخِرِ لَفْظِهِ وَحُسِبَ مِنْ الْعِدَّةِ وَلَا يُحْسَبُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ.
وَلَوْ بقى بعد طلاقه شئ مِنْ آخِرِ الطُّهْرِ فَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْجُزْءِ تَعْتَدُّ بِهِ قُرْءًا، لِأَنَّهُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا وَتَعْتَدُّ بِالثَّانِي وَهُوَ أَغْلَظُ - إذَا قُلْنَا بِالطَّلَاقِ عَقِيبَ لَفْظِهِ وَبِالْعِدَّةِ
عَقِيبَ الطَّلَاقِ - وَإِنْ قُلْنَا غَيْرَ ذَلِكَ فَأَوْلَى، وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ بِالْجُزْءِ - إنْ كَانَ الثَّانِي جُزْءًا وَاحِدًا - فَإِنْ قُلْنَا الطَّلَاقُ عَقِيبَ لَفْظِهِ وَالْعِدَّةُ مُطَابِقَةٌ لِلطَّلَاقِ، أَوْ قُلْنَا الطَّلَاقُ بِآخِرِ لَفْظِهِ وَالْعِدَّةُ بَعْدَهُ حُسِبَ قرءا، لان ذلك الْجُزْءَ وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ وَطَابَقَتْهُ الْعِدَّةُ أَوْ صَادَفَتْهُ الْعِدَّةُ وَتَقَدَّمَهُ الطَّلَاقُ فِي آخِرِ لَفْظِهِ.
وَإِنْ قُلْنَا الطَّلَاقُ بِآخِرِ لَفْظِهِ وَالْعِدَّةُ تُطَابِقُهُ فأولى بذلك.
وإن قلنا الطلاق عقيب لفظه والعدة عقيبه قُرْءًا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ فِي هَذَا الْجُزْءِ ولا يبقى بعده شئ مِنْ الطُّهْرِ لِلْعِدَّةِ.
وَإِنْ كَانَ بَقِيَ جُزْءٌ اعتدت به قرءا على جميع المذاهب، فقد تكون العدة على بعض الْمَذَاهِبِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَجُزْءًا، وَهُوَ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ، وَذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَيُطَابِقُ آخِرُ طَلَاقِهِ آخِرَ الطُّهْرِ وَقُلْنَا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِآخِرِ اللفظ وطابقه أول العدة، فأقل العدة إذا نوبتان وزيادة، وأكثرها ثلاث نوب يوم وَلَيْلَةٌ وَجُزْءٌ، وَذَلِكَ إنْ يُطَلِّقَهَا وَقَدْ بَقِيَ جُزْءٌ مِنْ الطُّهْرِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِهِ وَلَا يُحْسَبُ قُرْءًا عِنْدَ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَقِيبَ لَفْظِهِ.
وَجَعَلَ أَوَّلَ الْعِدَّةِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ثُمَّ تَمْضِي نَوْبَةُ حَيْضٍ وَطُهْرٍ، فَيَكُونُ قُرْءًا ثُمَّ ثَانِيَةٌ يَكُونُ ثَانِيًا، ثُمَّ ثَالِثُهُ قُرْءًا ثَالِثًا، ثُمَّ يَمْضِي يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ شَرَطَ ذَلِكَ وَإِنْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ فَأَطْوَلُ الْعِدَّةِ عَلَى أَغْلَظِ المذاهب ثلاث نوب يوم وَلَيْلَةٌ وَطُهْرٌ إلَّا جُزْءًا.
وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ جامعها عاصيا في آخر الحيض وطلقها، فاتق آخِرُ لَفْظِهِ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ وَطَابَقَهُ فَنَقُولُ: الطَّلَاقُ بِآخِرِ لَفْظِهِ وَهُوَ أَوَّلُ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ وَفِيهِ جِمَاعٌ.
وَقُلْنَا لَا تَعْتَدُّ بِهِ وَذَلِكَ طُهْرٌ إلَّا جُزْءًا ثُمَّ تَمْضِي نَوْبَةٌ فَتَعْتَدُّ بِالطُّهْرِ قُرْءًا ثُمَّ نَوْبَةٌ ثَانِيَةٌ ثُمَّ ثَالِثَةٌ ثُمَّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، فَهَذَا أَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِدَّةً عَلَى أَشَدِّ مَذَاهِبِنَا، وَلَا يَخْفَى بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَفْرِيعُ مَا فِي الْمَذَاهِبِ وَإِنَّمَا قَصَدْنَا بَيَانَ أَقْصَى الْغَايَتَيْنِ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ عَلَى أَقْصَى الْمَذَاهِبِ إذا ثبت هذا فإن الرجل إذا طلق امرأته وهى من ذوات الاقراء فلم تر الحيض(18/138)
في عادتها ولم تدر ما رفعه؟ فإنها تعتد سنة تسعة أشهر منها تتربص فيها لتعلم براءة رحمها، لان هذه المدة هي غالب مدة الحمل، فإذا لم يبن الحمل فيها علم براءة الرحم ظاهرا فتعتد بعد ذلك عدة الآيسات ثلاثة أشهر، وهذا قول عمر رضى الله عنه قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والانصار لا ينكره منهم منكر علمناه: وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وروى ذلك عن الحسن، وقال الشافعي في قول آخر: تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد بثلاثة أشهر لان هذه المدة هي التي يتيقن بها براءة رحمها فوجب اعتبارها احتياطا وقال في الجديد تكون في عدة أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن الاياس تعتد حنيئذ بثلاثة أشهر.
وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وطاوس والشعبى والزهرى والنخعي وأبى الزناد والثوري وأبى عبيد وأهل العراق، لان الاعتداد بالاشهر جعل بعد الاياس فلم يجز قبله، وهذه ليست آيسة، ولانها ترجو عود الدم فلم تعتد بالشهور، كما لو تباعد حيضها لعارض أما إذا عرفت أن ارتفاع الحيض بعارض من مرض أو نفاس أو رضاع فإنها تنتظر زوال العارض وعود الدم.
وإن طال أن تصير في سن اليأس.
فعند ذلك تعتد عدة الآيسات على ما سنذكره وإن حاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه؟ لم تنقض عدتها إلا بعد سنة بعد انقطاع الحيض.
وذلك لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه؟ تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل تعتد بثلاثد أشهر فذلك سنة ولا نعرف له مخالفا.
قال ابن المنذر " قضى به عمر بين المهاجرين والانصار ولم ينكره منكر "
ونختم هذا البحث بما قال الشافعي رضى الله عنه.
وإذا كانت تحيض في كل شهر أو شهرين فطلقت فرفعتها حيضتها سنة.
أو حاضت حيضة ثم رفعتها حيضتها سنة أنها لا تحل للازواج الا بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة وان تباعد ذلك وطال.
وهى من أهل الحيض حتى تبلغ أن تيأس من المحيض وهي لا تيأس من المحيض حتى تبلغ السن التى من بلغتها من نسائها لم تحض بعدها.
فإذا بلغت ذلك(18/139)
خرجت من أهل الحيض وكانت من المؤيسات من المحيض اللاتي جعل الله عز وجل عددهن ثلاثة أشهر واستقبلت ثلاثة أشهر من يوم بلغت سن المؤيسات من المحيض لا تخلو إلا بكمال الثلاثة الاشهر، وهذا يشبه - والله أعلم - ظاهر القرآن، لان الله تعالى جعل على الحيض الاقراء وعلى المؤيسا ت وغير البوالغ الشهور فقال " واللاتي يئسن من المحيض من نسائكم ان أرتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر " قال والحيض يتباعد فعدة المرأة تنقضي بأقل من شهرين إذا حاضت ثلاثة حيض ولا تنقضي إلا بثلاث سنين وأكثر إن كان حيضها يتباعد، لانه إنما جعل عليهن الحيض فيعتددن به وإن تباعد.
وإن كان البراءة من الحمل تعرف بأقل من هذا فإن الله عز وجل حكم بالحيض فلا أحيله إلى غيره.
فهذا عدتها الحيض حتى تؤيس من المحيض بما وضعت من أن تصير إلى السن التي من بلغها من أكثر نسائها لم تحض.
وقد يروى عن ابن مسعود وغيره مثل هذا القول أخبرنا مالك عن محمد بن يحيى بن حبان أنه كان عند جده هاشمية وأنصارية، فطلق الانصارية وهى ترضع ابنته فمكث سبعة عشر شهرا لا تحيض يمنعها الرضاع أن تحيض، ثم مرض حبان بعد أن طلقها بسبعة أشهر أو ثمانية فقلت له إن امرأتك تريد أن ترث، فقال لاهله أحملوني إلى عثمان، فحملوه إليه فذكر له
شأن امرأته وعنده على بن أبى طالب زيد بن ثابت، فقال لهما عثمان ماتريان؟ فقالا نرى أنها ترثه ان مات ويرثها ان ماتت فإنها ليست من القواعد التي قد يئسن من المحيض، وليست من الابكار اللاتى لم يبلغن المحيض، ثم هي على عدة حيضها ما كان من قليل أو كثير، فرجع حبان إلى أهله فأخذ ابنته، فلما فقد الرضاع حاضت حيضة، ثم حاضت حيضة أخرى، ثم توفى حبان من قبل أن تحيض الثالثة فاعتدت عدة المتوفى عنها زوجها وورثته ثم روى طرق هذا الخبر إلى أن قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد ويزيد ابن عبد الله بن قسيط عن ابن المسيب أنه قال: قال عمر بن الخطاب " أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعها حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن بان بها حمل فذلك، والا اعتدت بعد التسعة أشهر ثم حلت اه(18/140)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كانت ممن لا تحيض ولا يحيض مثلها كالصغيرة والكبيرة الآيسة اعتدت بثلاثة أشهر، لقوله تعالى " واللائى يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائى لم يحضن " فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتدت بثلاثة أشهر بالاهلة، لان الاشهر في الشرع بالاهلة.
والدليل عليه قوله عز وجل " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج " وان كان الطلاق في أثناء الشهر اعتدت بقية الشهر ثم اعتدت بشهرين بالاهلة ثم تنظر عدد ما اعتدت من الشهر الاول، وتضيف إليه من الشهر الرابع ما يتم به ثلاثون يوما.
وقال أبو محمد عبد الرحمن ابن بنت الشافعي رحمه الله " إذا طلقت المرأة في أثناء الشهر اعتدت بثلاثة أشهر بالعدد كاملة، لانها إذا فانها الهلال في الشهر
الاول فاتها في كل شهر، فاعتبر العدد في الجميع، وهذا خطأ لانه لم يتعذر اعتبار الهلال الا في الشهر الاول فلم يسقط اعتباره فيما سواه
(فصل)
وان كانت ممن لا تحيض ولكنها في سن تحيض فيه النساء اعتدت بالشهور لقوله تعالى " واللائى يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائى لم يحضن " ولان الاعتبار بحال المعتدة لابعادة النساء، والدليل عليه أنها لو بلغت سنا لا تحيض فيه النساء وهى تحيض كانت عدتها بالاقراء اعتبارا بحالها، فذلك إذا لم تحض في سن تحيض فيه النساء وجب أن تتعد بالاشهر اعتبارا بحالها.
وان ولدت ولم تر حيضا قبله ولانفاسا بعده ففى عدتها وجهان
(أحدهما)
وهو قول الشيخ أبي حامد الاسفرايينى رحمه الله أنها تعتد بالشهور للآية (والثاني) أنها لا تعتد بالشهور، بل تكون كمن تباعد حيضها من ذوات الاقراء، لانه لا يجوز أن تكون من ذوات الاحمال، ولا تكون من ذوات الاقراء.
(فصل)
وإذا شرعت الصغيرة في العدة بالشهور ثم حاضت لزمها الانتقال(18/141)
إلى الاقراء لان الشهور بدل عن الاقراء فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها وهل يحسب ما مضى من الاشهر قرءا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يحتسب به - وهو قول أبى العباس - لانه طهر بعده حيض فاعتدت به قرءا، كما لو تقدمه حيض (والثاني) وهو قول أبى إسحاق انه لا يحتسب به، كما إذا اعتدت بقرأين ثم أيست لزمها الاستئناف ثلاثة أشهر ولم يحتسب ما مضى من زمان الاقراء شهرا وان انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت لم يلزمها الاستئناف للعدة بالاقراء، لان
هذا معنى حدث بعد انقضاء العدة.
وإن شرعت في العدة بالاقراء ثم ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم الاقراء إذا قلنا إن الحامل تحيض، لان الاقراء دليل على براءة الرحم من جهة الظاهر والحمل دليل على شغل الرحم من جهة القطع، والظاهر إذا عارضه قطع سقطت دلالته كالقياس إذا عارضه نص.
وإن اعتدت بالاقراء ثم ظهر حمل من الزوج لزمها الاعتداد بالحمل ويخالف إذا اعتدت بالشهور ثم حاضت، لان ما رأت من الحيض لم يكن موجودا في حال العدة وإنما حدث بعدها والحمل من الزوج كان موجودا في حال العدة بالاقراء فسقط معه حكم الاقراء (الشرح) قال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال أبى بن كعب يارسول الله إنا ناسا يقولون قد بقى من النساء من لم يذكر فيهن الصغار وذوات الحمل، فنزلت " واللائى يئسن من المحيض " الآية.
هكذا أخرجه ابن حرير وإسحاق بن راهويه والحاكم وغيرهم وقال السيوطي في اللباب: صحيح الاسناد.
وأخرج مقاتل بن سليمان في تفسيره أن خلاد بن عمرو بن الجموح سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عدة التي لا تحيض فنزلت، وساق القرطبى روايات أخرى، منها أن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست فنزلت الآية(18/142)
وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدرى دم حيض هو أو دم علة وقوله " ان ارتبتم " أي شككتم، وقيل تيقنتم، وهو من الاضداد يكون شكا ويقينا كالظن، واختيار الطبري أن يكون المعنى إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن.
وقال الزجاج إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها.
قال القشيرى وفي هذا نظر، لانا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر، والمعتبر في سن اليأس في قول: أقصى عادة أمرأة في العالم، وفي قول غالب نساء عشيرة المرأة على أن المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ من الريبة، وبارتفاع الريبة تنقضي عدتها.
وقد أجمع أهل العلم على أنها ان كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى " واللائى يسئن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائى لم يحضن " فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتبر ثلاثة أشهر بالاهلة لقوله تَعَالَى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ للناس والحج " وقال سبحانه " إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم " ولم يختلف الناس في أن الاشهر الحرم معتبرة بالاهلة.
وان وقع الطلاق في أثناء الشهر اعتدت بقيته ثم أعتدت شهرين بالاهلة ثم اعتدت من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوما.
وهذا مذهب مالك وأحمد وقال أبو حنيفة: تحتسب بقية الاول وتعتد من الرابع بقدر ما فاتها من الاول تاما كان أو ناقصا، لانه لو كان من أول الهلال كانت العدة بالاهلة، فإذا كان من بعض الشهر وجب قضاء ما فات منه.
وخرج أصحاب أحمد وجها ثانيا أن جمع الشهور محسوبة بالعدد.
وهو قول ابن بنت الشافعي، لانه إذا حسب الاول بالعدد كان ابتداء من بعض الشهر فيجب أن يحسب بالعدد وكذلك الثالث، وهذا خطأ لان الشهر يقع على مابين الهلالين وعلى الثلاثين ولذلك إذا غم الشهر كمل ثلاثين والاصل الهلال، فإذا أمكن اعتبار الهلال اعتبروا.
وإذا تعذر رجعوا إلى العدد.
وفي هذا انفصال(18/143)
عما ذكر لابي حنيفة.
وأما التخريج الذي ذكرناه فإنه لا يلزم إتمام الشهر الاول من الثاني ويجوز أن يكون تمامه من الرابع، ولهذا لم يسقط اعتبار الشهر الاول فيما سواه.
(فرع)
إذا بلغت سنا تحيض فيه النساء في الغالب فلم تحض كخمس عشرة سنة فعدتها ثلاثة أشهر، وهو مذهب أبى حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وضعف أبو بكر من أصحابه الرواية المخالفة لهذا، وقال رواها أبو طالب فخالف فيها أصحابه، وذلك ماروى أبو طالب عن أحمد أنها تعتد سنة، ووجه القول الاول قوله تعالى " واللائى لم يحضن " وهذه من اللائى لم يحضن، ولان الاعتبار بحال المعتدة لابحال غيرها ولهذا لو حاضت قبل بلوغ سن يحيض لمثله النساء في الغالب، مثل أن تحيض ولها عشر سنين اعتدت بالحيض، وفارق من ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه، فإنها من ذوات القروء وهذا لم تكن منهن.
وأقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين، لان المرجع فيه إلى الوجود وقد وجد من تحيض لتسع.
وقد روى الشافعي رضى الله عنه أنه قال: رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة، واختلف في السن التي تصير بها المرأة من الآيسات، فعن الشافعي قولان
(أحدهما)
يعتبر السن الذي يتيقن أنه إذا بلتغه لم تحض.
قال بعض أصحابنا هو إثنان وستون سنة.
(والثاني) يعتبر السن الذي ييأس فيه نساء عشريتها، لان الظاهر أن نشأها كنشئهن وطبعها كطبعهن.
واختلف عن أحمد في السن الذي تصير به المرأة من الآيسات، فعنه أوله خمسون سنة، لان عائشة قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد خمسين سنة،
وعنه إن كانت من نساء العجم فخمسون، وإن كانت من نساء العرب فستون " لانهن أقوى طبيعة، وقد ذكر الزبير بن بكار في كتاب النسب أن هندا بنت أبى عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولها ستون سنة، وقال يقال إنه لن تلد بعد خمسين سنة إلا عربية ولا تلد لستين إلا قرشية(18/144)
قال ابن قدامة: والصحيح أنه متى بلغت المرأة خمسين سنة فانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب فقد صارت آيسة، لان وجود الحيض في حق هذه نادر.
بدليل قول عائشة وقلة وجوده، فإذا انضم إلى هذه انقطاعه عن العادات مرات حصل اليأس من وجوده، فلها حينئذ أن تعتد بالاشهر، وان انقطع قبل ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، وإن رأت الدم بعد الخمسين على العادة التي كانت تراه فهو حيض في الصحيح: لان دليل الحيض الوجود في زمن الامكان.
وهذا يمكن وجود الحيض فيه وان كان نادرا، وان رأته بعد الستين فقد تيقن أنه ليس بحيض ذلك لا تعتد به وتعتد بالاشهر كالتي لا ترى دما.
(مسألة) إذا طلقها وهي من اللائى لم يحضن بأن كانت صغيرة أو كانت بالغا لم تحض إذا اعتدت بالشهور فحاضت قبل انقضاء عدتها ولو بساعة لزمها استئناف العدة في قول عامة الفقهاء.
منهم سعيد بن المسيب والحسن بن مجاهد وقتادة.
والشعبى والنخعي والزهرى والثوري ومالك وأحمد واسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأى وأهل المدينة وأهل البصرة.
وذلك لان الشهور بدل عن الحيض.
فإذا وجد المبدل بطل الحكم البدل كالتيمم مع الماء.
ويلزمها ان تعتد بثلاثة قروء.
وهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرءا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تعتد به
لانه طهر انتقلت منه إلى حيض فأشبه الطهر بين الحيضتين.
وهو قول أبى العباس لان القرء هو الطهر بين حيضتين.
وهذا لم يتقدمه حيض فلم يكن قرءا (والثاني) لا تعتد به كما إذا اعتدت بقرأين ثم أيست استأنفت ثلاثة أشهر وهو قول أبى اسحاق.
فأما إذا انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت بعدها ولو بلحظة لم يلزمها استئناف العدة، لانه معنى حدث بعد انقضاء العدة كالتي حاضت بعد انقضاء العدة بزمن طويل.
ولو حاضت حيضة أو حيضتين ثم صارت من الآيسات استأنفت العدة بثلاثة أشهر.
لان العدة لا تلفق من جنسين.
وقد تعذر اتمامها بالحيض فوجب تكميلها(18/145)
بالاشهر.
وان ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم ما مضى وتبين أن ما رأته من الدم لم يكن حيضا، لان الحامل لا تحيض ولو حاضت بثلاثة حيض ثم ظهر بها حمل يمكن أن يكون حادثا بعد قضاء العده بأن تأتى به لستة أشهر منذ فرغت من عدتها لم تحلق بالزوج وحكمنا بصحة الاعتداد، وكان هذا الولد حادثا، وان أتت به لدون ذلك تبينا أن الدم ليس بحيض، لانه لا يجوز وجوده في مدة الحمل ولهذا الصورة أحكام في العبادات مضت في الحيض.
فإذا رأت المعتدة أمارات الحمل من حركة أو نفحة أو نحوهما وشكت هل هو حمل أم لا؟ فإذا حدثت الريبة قبل انقضاء عدتها فإنما تبقى في حكم الاعتداد حتى تزول الريبة، فإن بان حملا انقضت عدتها بوضعه، فإن زالت وبان أنه ليس يحمل تبينا أن عدتها انقضت بالقروء أو الشهور، فإن زوجت قبل زوال الريبة فالنكاح باطل لانها تزوجت وهى في حكم المعتدات في الظاهر قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كانت المطلقة أمة نظرت فإن كانت حاملا اعتدت بالحمل لما ذكرناه في الحرة، وان كانت من ذوات الاقراء اعتدت بقرأين لما روى جابر عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الامة حيضتين، ولان القياس اقتضى أن تكون قرءا ونصفا كما كان حدها على النصف، إلا أن القرء لا يتبعض فكمل فصارت قرأين، ولهذا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لو استطعت أن أجعل عدة الامة حيضة ونصفا لفعلت، وإن كانت من ذوات الشهور ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنها تعتد بشهرين لان الشهور بدل من الاقراء فكانت بعددها كالشهور في عدة الحرة
(والثانى)
أنها تعتد بثلاثة أشهر لان براءة الحرم لا تحصل إلا بثلاثة أشهر لان الحمل يمكث أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة ثم يتحرك ويعلو جوف المرأة فيظهر الحمل (والثالث) أنها تعتد بشهر ونصف لان القياس يقتضى أن تكون على النصف من الحرة كما قلنا في الحمد، ولان القرء لا يتبعض فكمل والشهور تتبعض فتبعضت كما نقول في المحرم إذا وجب عليه نصف مد في جزءا الصيد وأراد أن يكفر بالصوم صام يوما لانه لا يتبعض، وان أراد أن يكفر بالاطعام أخرج نصف مد(18/146)
(فصل)
وان أعتقت الامة قبل الطلاق اعتدت بثلاثة أقراء لانه وجبت عليها العدة وهى حرة، وإن انقضت عدتها بقرأين ثم اعتقت لم يلزمها زيادة لانها اعتدت على حسب حالها فلم يلزمها زيادة، كما لو اعتدت من لم تحض بالشهور ثم حاضت أو اعتدت ذات الاقراء ثم صارت آيسة، فإن أعتقت في أثناء العدة ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) تتمم عدة أمة لانه عدد محصور يختلف بالرق والحرية فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد
(والثانى)
أنها ان كانت رجعية أتمت عدة حرة، وان كانت بائنا أتمت عدة أمة، كما نقول فيمن مات عنها زوجها انها ان
كانت رجعية انتقلت إلى عدة الوفاة، وان كانت بائنا لم تنتقل (والثالث) وهو الصحيح أنه يلزمها أن تتمم عدة حرة، لان الاعتبار في العدة بالانتهاء، ولهذا لو شرعت في الاعتداد بالشهور ثم حاضت انتقلت إلى الاقراء (الشرح) الاخبار في عدة الامة عند ابن ماجه من حديث عائشة قالت " أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض " وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خير بريرة فاختارت نفسها وأمرها أن تعتد عدة الحرة.
رواه أحمد والدارقطني.
وروى الترمذي وأبو داود عن عائشة مرفوعا " طلاق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان " وفي لفظ رواه الدارقطني " طلاق العبد اثنتان وقرء الامة حيضتان " ومثل ذلك روى عن ابن عمر عند ابن ماجه والدارقطني بإسنادين ضيعفين.
أما الاحكام في الفصلين فعلى وجهها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان وطئت امرأة بشبهة وجبت عليها العدة لان وطئ الشبهة كالوطئ في النكاح في النسب فكان كالوطئ في النكاح في إيجاب العدة، فإن زنى بامرأة لم تجب عليها العدة لان العدة لحفظ النسب والزانى لايلحقه نسب
(فصل)
ومن مات عنها زوجها وجبت عليها العدة دخل بها أو لم يدخل، لقوله عز وجل " والذين يتوفون منكم ويذورن أزوجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر، عشرا " فإن كانت حائلا وهى حرة اعتدت بأربعة أشهر عشر للآية،(18/147)
وان كانت أمة اعتدت بشهرين وخمس ليال، لانا دللنا على أن عدتها بالاقراء على النصف، إلا أنه لما لم يتبعض جعلناه قرأين، والشهور تتبعض فوجب عليها نصف ما يجب على الحرة.
وإن كانت حاملا بولد يلحق بالزوج اعتدت بوضعه لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قالت " ولدت سبيعة الاسلمية بعد وفاة زوجها بليال: فذكرت ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قد حللت فانكحى " وإن كانت حاملا بولد لا يحلق الزوج كامرأة الطفل لم تعتد بالحمل منه لانه لا يمكن أن يكون منه فلم تعتد به منه كامرأة الكبير إذا طلقها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين العقد، فإن كان الحمل لاحقا برجل وطئها بشبهة اعتدت به منه.
وإذا وضعت اعتدت عن الطفل بالشهور، لانه لا يجوز أن تعتد عن شخصين في وقت واحد.
وإن كان عن زنا احتسبت بما مضى من الشهور في حال الحمل عن عدة وفاة الطفل، لان الحمل عن الزنا لاحكم له فلا يمنع من الاعتداد بالشهور: وإن طلق امرأته طلاقا رجعيا ثم مات عنها وهي في العدة اعتدت بعدة الوفاة لانه توفى عنها وهى زوجته.
(الشرح) حديث أم سلمة أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا أبا داود وابن ماجه بلفظ " إن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها فتوفى عنها وهي حبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت أن تنكحه، فقال والله ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدى آخر الاجلين، فمكثت قريبا من عشر ليال ثم نفست ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال انكحي " وأخرجوه بمعناه من رواية سبيعة قالت " فأفتانى بأنى قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج ان بدا لى " وعن الزبير بن العوام " أن أم كلثوم بنت عقبة كانت عنده فقالت له وهى حامل: طيب نفسي بتطليقة، فطلقها تطليقة، ثم خرج إلى الطلاة، فرجع وقد وضعت، فقال مالها خدعتني خدعها الله، ثم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ(18/148)
" سبق الكتاب اجله، اخطبها إلى نفسها، قال القاضى عياض: والحديث - يعني حديث سبيعة - مبتور، نقص منه قولها " فنفست بعد ليال فخطبت " قال الحافظ بن حجر في الفتح: وقد ثبت المحذوف في رواية ابن ملحان عن يحيى ابن بكير شيخ البخاري ولفظه " فمكثت قريبا من عشرين ليلة ثم نفست " وقد وقع للبخاري اختصار المتن من طريق أخصر من هذه الطريق.
ووقع له في تفسير سورة الطلاق مطولا بلفظ " أن سبيعة بنت الحارث أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفى عنها في حجة الوداع وهى حامل فلم تنشب أن وضعت حملها، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليه أبو السنابل بن بعكك رجل من بنى عبد الدار، فقال مالي أراك تجملت للخطاب، فإنك والله وما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألته عن ذلك فأفتانى بأنى قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج " وقد ذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف إلى أن الحامل إذا مات عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن على بسند صحيح أنها تعتد بآخر الاجلين، ومعناه أنها إن وضعت قبل مضى أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها، وان انقضت المدة قبل الوضع تربصت إلى الوضع، وبه قال ابن عباس.
وروى عنه أنه رجع.
وروى عن ابن أبى ليلى أنه أنكر على ابن سيرين القول بانقضاء عدتها بالوضع، وأنكر أن يكون ابن مسعود قال بذلك، قال الشوكاني: وقد ثبت عن ابن مسعود من عدة طرق أنه كان يوافق الجمهور حتى كان يقول: من شاء لا عنته على ذلك.
أما الاحكام: فإن الموطوءة بشبهة تعتد عدة المطلقة، وكذلك الموطوءة في نكاح فاسد، لان كلا من وطئ الشبهة والنكاح الفاسد في لحوق النسب وشغل
الرحم كالوطئ الصحيح، فكانا مثله فيما تحصيل البراءة به، وإن وطئت المزوجة بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدتها كيلا يفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الانساب وله الاستمتاع منها بما دون الفرج في أحد الوجهين لانها زوجة(18/149)
حرم وطؤها لعارض مختص بالفرج فأبيح الاستمتاع منها بما دونه الحائض.
(مسألة) المزني بها لا عدة لها، وهذا قول أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما وبه قال الثوري وأصحاب الرأى، لان العدة لحفظ النسب ولا يلحقه نسب، وقد روى عن علي نحوه.
وقال أحمد تستبرأ كالمزوجة بشبهة لانه وطئ يقتضى شغل الرحم فوجبت العدة منه كوطئ الشبهة.
وأما وجوبها كعدة المطلقة فلانها حرة فوجب استبراؤها بعدة كاملة كالموطوءة بشبهة وبهذا قال الحسن والنخعي، وهو قول مالك.
وروى ابن أبى موس عن أحمد رواية أخرى أنها تستبرأ بحيضة واحدة.
(مسألة) أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة الحائل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر مدخولا بها أو غير مدخول بها، سواء كانت كبيرة بالغة أو صغيرة لم تبلغ.
وذلك لقوله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذورن أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " وما رواه الشيخان مرفوعا " لا يحل لا مرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " ولا تحمل الاية على المدخول بها كما في قوله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسن ثلاثة قروء " لان هذا مخصصة بقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات من أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها " ولم يرد تخصيص عدة الوفاة، ولا أمكن قياسها على المطلقة في التخصيص، لان النكاح عقد عمر، فإذا انتهى والشئ إذا انتهى تقررت أحكامه.
وكذلك فإن المطلقة إذا أتت بولد يمكن للزوج تكذيبها ونفيه باللعان الامر الذي يمتنع في حق المتوفى.
فلا يؤمن أن تأتى بولد فيلحق الميت نسبه وما له من ينفيه، فاحتطنا بإيجاب العدة عليها لحفظها عن التصرف والمبيت في غير منزلها حفظا لها.
فإذا تقرر هذا فانه لا يعتبر وجود الحيض في عدة الوفاة في قول عامة أهل العلم.
وحكى عن مالك أنها إذا كانت مدخولا بها وجب أربعة أشهر وعشر فيها.
واتباع الكتاب والسنة أولى.
ولانه لو اعتبر الحيض في حقها لاعتبر ثلاثة قروء كالمطلقة.
وهذا الخلاف يختص بذات القرء.
فأما الايسة والصغيرة(18/150)
فلا خلاف فيها.
وأما الامة المتوفى عنها زوجها فعدتها شهران وخمسة أيام في قول عامة أهل العلم منهم سعيد بن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثور واصحاب الرأى وغيرهم إلا ابن سيرين.
فإنه قال: ما أرى عدة الامه الا كعدة الحرة.
الا أن تكون قد مضت في ذلك سنه.
فإن السنة أحق أن تتبع وأخذ بظاهر النص وعمومه.
ولكن هذا لا ينهض أمام اتفاق الصحابة على أن عدة الامه المطلقة على النصف من عدة الحرة فكذلك عدة الوفاة.
(فرع)
إذا مات الصغير الذي لا يولد لمثله ولد عن زوجته، فأتت بولد لم يلحقه نسبه ولم تنقض العدة بوضعه.
وبهذا قال مالك والصحيح من مذهب أحمد وقال أبو حنيفة: أن مات وبها حمل ظاهر اعتدت عنه بالوضع.
فان ظهر الحمل بها بعد موته لم تعتد به.
وقد روى عن أحمد في الصبى مثل قول أبى حنيفة.
وهكذا خلاف فيما إذا تزوج بامرأة ودخل بها.
وان أتت بولد لدون ستة أشهر من حين عقد النكاح، فإنها لا تعتد بوضعه عندنا وعند أحمد، وتعتد به عند أبى حنيفة، واحتج بقوله تعالى " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن "
ولا يخفى أن الآية واردة في المطلقات ثم هي مخصوصة بالقياس الذي ذكرناه فإذا تقرر هذا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل من الوطئ الذي علقت به منه، سواء كان هذا الولد ملحقا بغير الصغير، مثل أن يكون من عقد فاسد أو وطئ شبهة، لان العدة تجب في هذه الاحوال، فإذا وضعته اعتدت من الصبى بأربعة أشهر وعشر، لان العدتين من رجلين لا يتداخلان ولو طلقها أو مات عنها فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها فرق بينهما وبنت على ما مضى من عدة الاول، ثم استقبلت العدة من الثاني، والاجماع منعقد على هذا.
ولان العدة انما اعتبرت لمعرفة براءة الرحم لئلا يفضى إلى اختلاط المياه وامتزاج الانساب، وإن تزوجت فالنكاح باطل لانها ممنوعة من النكاح لحق الزوج الاول، فكان نكاحا باطلا، كما لو تزوجت وهى في نكاحه ويجب أن يفرق بينه وبينها - فإن لم يدخل بها فالعدة بحالها ولا تقطع بالعقد(18/151)
الثاني، لانه باطل لا تصير به المرأة فراشا ولا يستحق عليه بالعقد شئ وتسقط سكناها ونفقتها عن الزوج الاول لانها ناشز، وإن وطئها انقطعت العدة، سواء علم التحريم أو جهله وقال أبو حنيفة لا تنقطع لان كونها فراشا لغير من له العدة لا يمنعها، كما لو وطئت بشبهة وهى زوجة فإنها تعتد وإن كانت فراشا للزوج.
إذا ثبت هذا فعليه فراقها، فإن لم يفعل فعليه التفريق بينهما، فإن فارقها أو فرق بينهما وجب عليها أن تكمل عدة الاول لان حقه أسبق وعدته وجبت عن وطئ في نكاح صحيح، فإذا أكملت عدة الاول وجب عليها أن تعتد من الثاني ولا تتداخل العدتان لانهما من رجلين، وهذا مذهب أحمد.
وقال أبو حنيفة: يتداخلان فتأتى بثلاثة قروء بعد مفارقة الثاني تكون عن
بقية عدة الاول وعدة الثاني لان القصد معرفة براءة الرحم وهذا تحصل به براءة الرحم منهما جميعا.
وهذا خطأ لما روى مالك عن أبن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار " أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفى فطلقها ونكحها غيره في عدتها، فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها ضربات بمخفقة وفرق بينهما ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الاول، وكان خاطبا من الخطاب، وان كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عتدها من الاول ثم اعتدت من الآخر ولا ينكحها أبدا.
وروى عن علي عليه السلام أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما أفسدت من عده الاول وتعتد من الآخر.
هذا ماقاله خليفتان من الراشدين لا نعلم لهما مخالفا من الصحابة (فرع)
إذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بلا خلاف.
قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك، وذلك لان الرجعية زوجة يلحقها وينالها وينالها ميراثه فاعتدت للوفاة كغير المطلقة، وإن مات مطلق البائن في عدتها بنت على عدة الطلاق لانه مات وليست زوجة له لانها بائن من النكاح فتكون غير منكوحة.
وبهذا قال مالك وأبو عبيد(18/152)
وأبو ثور وابن المنذر وقال أحمد تلزمها عدة الطلاق، إلا أن يطلقها في مرض موته فإنها تعتد أطول الاجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وبه قال الثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، لانها وارثة له فيجب عليها عدة الوفاة كالرجعية وتلزمها عدة الطلاق لما ذكروه في دليلهم، وإن مات المريض المطلق بعد انقضاء عدتها بالحيض أو بالشهور أو بوضع الحمل أو كان طلاقه قبل الدخول
فليس عليها عدة لموته
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن طلق إحدى امرأتيه بعينها ثلاثا ومات قبل أن يبين نظرت فان لم يدخل بهما اعتدت كل واحدة منهما أربعة أشهر وعشرا، لان كل واحدة منهما يجوز أن تكون هي الزوجة فوجبت العدة عليهما ليسقط الفرض بيقين، كمن نسى صلاة من صلاتين لايعرف عينها وإن دخل بهما - فان كانتا حاملتين - اعتدتا بوضع الحمل، لان عدة الطلاق والوفاة في الحمل واحدة، وان كانتا من ذوات الشهور اعتدتا بأربعة أشهر وعشر، لانها تجمع عدة الطلاق والوفاة، وان كانتا من ذوات الاقراء اعتدتا بأقصى الاجلين من أربعة أشهر وعشرا أو ثلاثة أقراء، وابتداء الاشهر من موت الزوج، وابتداء الاقراء من وقت الطلاق ليسقط الفرض بيقين.
وان اختلفت صفتهما في العدة كان حكم كل واحدة منهما على الانفراد كحكمها إذا اتفقت صفتهما، وقد بيناه.
وإن طلق أحداهما لا بعينها ومات قبل أن يعين فالحكم فيه على ما ذكرناه إذا كانت المطلقة معينه ومات قبل أن يبين الا في شئ واحد.
وهو أنا متى أمرناها بالاعتداد بالشهور أو الاقراء، فإن ابتداء الاشهر من حين الموت، فأما الاقراء، فان قلنا على أحد الوجهين إن ابتداء العدة من حين يلفظ بالطلاق كان ابتداء الاقراء من حين الطلاق، وان قلنا بالوجه الآخر ان ابتداء العدة من حين التعيين كان ابتداء الاقراء من حين الموت، لان بالموت وقع الاياس من بيانه وقبل الموت لم ييأس من بيانه(18/153)
(الشرح) إذا طلق واحدة من نسائه بعينها وأنسيها فإنه يحرم عليه الجميع،
فإن مات فعلى الجميع الاعتداد بأقصى الاجلين إذا كن من ذوات الاقراء من عدة الطلاق والوفاة، لان النكاح كان ثابتا بيقين وكل واحدة منهن يحتمل أن تكون هي المطلقة وأن تكون زوجة فوجب أقصى الاجلين إن كان الطلاق بائنا ليسقط الفرض بيقين، كمن نسى صلاة من يوم لا يعلم عينها لزمه أن يصلى خمس صلوات لكن ابتداء القروء من حين طلق.
وابتداء عدة الوفاة من حين الموت، وهذا هو مذهب أحمد بن حنبل.
وإن طلق الجميع ثلاثا بعد ذلك فعليهن كلهن تكميل عدة الطلاق من حين طلقهن ثلاثا، وإن طلق الجميع ثم أنسيهن فهو كما لو طلق واحدة، وإذا طلق واحدة لا بعينها من نسائه فعلى ما قلنا في التي قبلها وقال أصحاب أحمد: أخرجت بالقرعة وعينها العدة دون غيرها، وتحسب عدتها من حين طلق لا من حين القرعة قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا علمت المرأة يقين وفاة الزوج أو طلاقه ببينة تقوم لها على موته أو طلاقة أو أي علم صادق ثبت عندها اعتدت من يوم يكون الطلاق وتكون الوفاة، وإن لم تعتد حتى تمضى عدة الطلاق والوفاة لم يكن عليها عدة، لان العدة إنما هي مدة تمر عليها، فإذا مرت عليها فليس عليها مقام مثلها.
قال وإذا خفى ذلك عليها وقد استيقنت بالطلاق أو الوفاة اعتدت من يوم استيقنت أنها اعتدت منه.
وقد روى عن غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: تعتد من يوم يكون الطلاق أو الوفاة.
اه (فرع)
والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها، فتجب عشرة أيام مع الليالى، وبهذا قال مالك وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأى.
وقال الاوزاعي: يجب عشر ليالى وتسعة أيام، لان العشر تستعمل في الليالى دون الايام، وإنما دخلت الايام اللاتى في أثناء الليل تبعا
قلنا: العرب تغلب اسم التأنيث في العدد خاصه على المذكر فتطلق لفظ الليالى وتريد الليالى بأيامها، كما قال تعالى لزكريا " آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال(18/154)
سويا " يريد أيامها بدليل أنه قال في موضع آخر " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " يريد بلياليها.
ولو نذر اعتكاف العشر الاخير من رمضان لزم الليالى والايام، ويقول القائل (سرنا عشرا) يريد الليالى بأيامها، فلم يجز نقلها عن العدة إلى الاباحة بالشك.
وما في الفصل من اختلاف صفاتهن أو اتفاقها فعلى وجهه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
إذا فقدت المرأة زوجها وانقطع عنها خبره ففيه قولان
(أحدهما)
وهو قوله في القديم إن لها أن تنفسخ النكاح ثم تتزوج، لما روى عمرو بين دينار عن يحيى بن جعدة " أن رجلا استهوته الجن فغاب عن أمرأته، فأتت عمر بن الخطاب رضى الله عنه فأمرها أن تمكث أربع سنين، ثم أمرها أن تعتد ثم تتزوج " ولانه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطئ بالتعنين وتعذر النفقة بالاعسار، فلان يجوز ههنا - وقد تعذر الجميع - أولى
(والثانى)
وهو قوله في الجديد وهو الصحيح أنه ليس لها الفسخ، لانه إذا لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله لم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته، وقول عمر رضى الله عنه يعارضه قول علي عليه السلام " تصبر حتى يعلم موته " ويخالف فرقة التعنين والاعسار بالنفقة، لان هناك ثبت سبب الفرقة بالتعنين، وههنا لم يثبت سبب الفرقة وهو الموت فإن قلنا بقوله القديم قعدت أربع سنين ثم تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج، لما رويناه عن عمر رضى الله عنه، ولان بمضي أربع سنين يتحقق براءة رحمها ثم
تعتد: لان الظاهر أنه مات فوجب عليها عدة الوفاة قال أبو إسحق يعتبر ابتداء المدة حين أمرها الحاكم بالتربص.
ومن أصحابنا من قال يعتبر من حين انقطع خبره، والاول أظهر، لان هذه المدة ثبتت بالاجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم كمدة التعنين، وهل يفتقر بعد انقضاء العدة إلى الحكم بالفرقة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يفتقر، لان الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضائها(18/155)
(والثانى)
أنه يفتقر إلى الحكم لانه فرقة مجتهد فيها فافتقرت إلى الحاكم كفرقة التعنين، وهل تقع الفرقة ظاهرا وباطنا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تقع ظاهرا وباطنا، فإن قدم الزوج وقد تزوجت لم يجز أن ينتزعها من الزوج، لانه فسخ مختلف فيه، فنفذ فيه الحكم ظاهرا وباطنا كفرقة التعنين (والثانى ينفذ في الظاهر دون الباطن، لان عمر رضى الله عنه جعل للمفقود لما رجع أن يأخذ زوجته.
وإن قلنا بالقول الجديد إنها باقية على نكاح الزوج.
فإن تزوجت بعد مدة التربص وانقضاء العدة فالنكاح باطل، فإن قضى لها حاكم بالفرقة فهل يجوز نقضه على قوله الجديد؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لانه حكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد
(والثانى)
أنه يجوز لانه حكم مخالف لقياس جلى، وهو أنه لا يجوز أن يكون حيا في ماله ميتا في نكاح زوجته
(فصل)
وإن رجع المفقود، فإن قلنا بقوله الجديد سلمت الزوجة إليه، وإن قلنا بقوله القديم وقلنا إن حكم الحاكم لا ينفذ في الباطن سلمت إليه، وإن قلنا إنه ينفذ ظاهرا وباطنا لم تسلم إليه، وان فرق الحاكم بينهما وتزوجت ثم بان أن المفقود كان قد مات وقت الحكم بالفرقة - فإن قلنا بقوله القديم - صح النكاح، سواء قلنا إن الحكم ينفذ في الظاهر دون الباطن، أو قلنا إنه ينفذ في
الباطن دون الظاهر، لان الحكم أباح لها النكاح وقد بان أن الباطن كالظاهر.
وإن قلنا بقوله الجديد ففي صحة النكاح الثاني وجهان بناء على القولين فيمن وصى بمكاتبه ثم تبين أن الكتابة كانت فاسدة (الشرح) يحيى بن جعدة اختلف في صحبة أبيه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومى القرشى، فقد تزوج هبيرة بن أبى وهب بأم هانئ بنت أبى طالب فولدت أم هانئ ثلاثة بنين: جعدة وهانئ ويوسف.
وقال الزبير بن بكار: أربعة بنين أحدهم جعدة، وقد تولى جعدة على خراسان لعلي بن أبي طالب، وهو ابن أخته وهو القائل: أبى من مخزوم ان كنت سائلا ومن هاشم أمي لخير قبيل فمن الذي يبنأى (1) على بخاله كخالي على ذى الندى وعقيل
__________
(1) يبأى أي يفخر(18/156)
اما ولده يحيى فليس من رواته ولكنه ثقة، وقد أرسل عن ابن مسعود ونحوه وهو الطبقة الثالثة.
أما رواية يحيى هنا فقد أخرجها ابن أبى الدنيا قال " وحدثنا أبو مسلم عبد الرحمن ابن يوسف حدثنا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عن يحيى بن جعدة قال: انتسفت الجن رجلا على عهد عمر رضى الله عنه فلم يدروا أحيا هو أم ميتا؟ فأتت امرأته عمر رضى الله عنه فأمرها أن تتربص أربع سنين ثم أمر وليه أن يطلق ثم أمرها أن تعتد وتتزوج فإن جاء زوجها خير بينها وبين الصداق " ويحيى لم يعاصر عمر بن الخطاب ولم يره فيكون في الخبر انقطاع وقد أخرج ابن أبى الدنيا هذا الخبر بإسناد آخر: حدثنى اسماعيل بن اسحق حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن أبى نضرة عن
عبد الرحمن بن أبى ليلى أن رجلا من قومة خرج ليصلى مع قومه صلاة العشاء ففقد، فانطلقت أمراته إلى عمر بن الخطاب فحدثته بذلك، فسأل عن ذلك قومها فصدقوها، فأمرها أن تتربص أربع سنين فتربصت ثم أتت عمر فأخبرته بذلك فسأل عن ذلك قومها فصدقوها، فأمرها أن تتزوج، ثم أن زوجها الاول قدم فارتفعوا إلى عمر فقال عمر: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته، قال كان لي عذر؟ قال وما عذرك؟ قال خرجت أصلى مع قومي صلاة العشاء فسبتني أو قال أصابتني الجن فكنت فيهم زمنا طويلا، فعزاهم جن مؤمنون فقاتلوهم فظهروا عليهم فأصابوا لهم سبايا فكنت فيمن أصابوا، فقالوا ما دينك؟ قلت مسلم.
قالو أنت علي ديننا لا يحل لنا سبيك، فخيروني بين المقام وبين القفول فاخترت القفول، فأقبلوا معى بالليل بشرا يحدوني، وبالنهار اعصار وريح أتبعها، قال فما كان طعامك؟ قال كل ما لم يذكر اسم الله عليه.
قال فما كان شرابك؟ قال الجدف قال قتادة: الجدف ما لم يخمر من الشراب قال فخيره عمر رضى الله عنه بين المرأة وبين الصداق.
وفي إسناده أبو نضرة وليس كل أحد يحتج به.(18/157)
وأورد العقيلى في الضعفاء، وذكره صاحب الكامل ولم يذكر شيئا أكثر من أنه كان عريفا لقومه، قال الذهبي: ولكن احتج به البخاري.
وأخرجه الاثرم والجوزجاني بإسنادهما عن عبيد بن عمير وعبد الرزاق بسنده في الفقيد ومالك والشافعي مختصرا.
أما الاحكام: فإذا غاب الرجل عن امرأته غيبة غير منقطعة، يعرف فيها خبره ومكانه ويأتى كتابه، فهذا ليس لامرأته أن تتزوج في قول أهل العلم
أجمعين، إلا أن يعتذر الانفاق عليها من ماله، فلها أن تطلب فسخ النكاح فيفسخ نكاحه.
وأجمعوا على أن زوجة الاسير لا تنكح حت تعلم يقين وفاته، وهذا قول النخعي والزهرى ويحيى الانصاري ومكحول وأحمد بن حنبل وأبى عبيد وأبى ثور وإسحاق وأصحاب الرأى، وان أبق العبد فزوجته على الزوجية حتى تعلم موته أو ردته، وبه قال الاوزاعي والثوري وإسحاق.
وقال الحسن: اباقه طلاقه.
أما إذا غاب غيبة منقطعة بأن يفقد وينقطع خبره ولا يعلم مكانه فهذا ينقسم قسمين.
(أحدهما)
أن يكون ظاهر غيبته السلامة كسفر التجارة في غير مهلكة وطلب العلم والسياحة والاسر في حبس السلطان فلا تزوج الزوجية أيضا ما لم يثبت موته، هذا هو قوله في الجديد، وهو مروى عن علي وابن شبرمة وابن أبى ليلى الثوري وأبى حنيفة وأبى قلابة والنخعي وأبى عبيد.
وقال في القديم تتربص أربع سنين وتعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل للازواج لانه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطئ بالعنة، وتعذر النفقة بالاعسار فلان يجوز ههنا لتعذر الجميع أولى، واحتجوا بحديث عمر في المفقود مع موافقة الصحابة له وتركهم إنكاره ولم يقل بهذا من الفقهاء إلا مالك.
ونقل أحمد من أصرم عن أحمد بن حنبل إذا مضى عليه تسعون سنة قسم ماله، وهذا يقتضى أن زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج.
قال ابن قدامة، قال أصحابنا أنما اعتبر تسعين سنة من يوم ولادته، لان(18/158)
الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر، فإذا اقترن به انقطاع خبره وجب الحكم بموته، كما لو كان فقده بغيبة ظاهرها الهلاك، والمذهب الاول لان هذه
غيبة ظاهرها السلامة فلم يحكم بموته كما قيل في الاربع سنين أو كما قبل التسعين، ولان هذا التقدير بغير توقيف، والتقدير لا ينبغى أن يصار إليه الا بالتوقيف لان تقديرها بتسعين سنة من يوم ولادته يفضى إلى اختلاف العدة في حق المرأة باختلاف عمر الزوج ولا نظير لهذا، وخبر عمر ظاهر فيمن ظاهر غيبته الهلاك فلا يقاس على غيره.
(القسم الثاني) أن تكون غيبته ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله ليلا أو نهارا، أو يخرج إلى الصلاة فلا يرجع، أو يمضى إلى مكان قريب ليقضى حاجته فلا يظهر له أثر ولاخبر أو يفقد في حومة القتال بين الصفين أو تتحطم بهم باخرة فيغرق بعض رفقته أو يفقد في مهلكة كصحراء الفيوم ومنخفض القطارة من ديار مصر حرسها الله أو في صحراء الجزائر الكبرى من قطر الجزائر أيده الله، أو الربع الخالى من البلاد الحجازية أعلى الله رايتها.
فقال في القديم: تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل للازواج.
وقال أحمد: من ترك هذا القول فأى شئ يقول، وهو قول عمر وعثمان وعلى وابن عباس وابن الزبير.
وقال في الجديد تتربص حتى يتبين موته أو فراقه لما روى المغيرة بن شعبة إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " امرأة المفقود امرأته حتى يأتي زوجها ".
وروى الحكم وحماد عن علي: لا تتزوج امرأة المفقود حتى يأتي موته أو طلاقه، لانه شك في زوال الزوجية فلم نثبت به الفرقة كما لو كان ظاهر غيبته السلامه، وفي اعتبار ابتداء المدة من حين الغيبه أو من حين ضرب الحاكم المدة وجهان.
(أحدهما)
يعتبر ابتداؤهما من حين ضربها الحاكم لانها مدة مختلف فيها
فافتقرت إلى ضرب الحاكم كمدة العنه.(18/159)
(والثانى)
من حين انقطع خبره وبعد أثره لان هذا ظاهر في موته، فكان ابتداء المدة منه كما لو شهد به شاهدان، ولاحمد روايتان كالوجهين.
(فرع)
إذا قدم زوجها الاول قبل أن تتزوج فهى امرأته.
وقال بعض أصحابنا إذا ضربت لها المدة فانقضت بطل نكاح الاول، والحق أننا انما أبحنا لها التزويج، لان الظاهر موته، فإذا بان حيا انخرم ذلك الظاهر وكان النكاح بحاله كما لو شهدت البينة بموته ثم بان حيا.
والقياس الجلي أنه لا ينبغى أن نثبت له الحياة في ملكه ولانثبتها له في نكاحه والنكاح أحد الملكين فأشبه ملك المال، وهذا هو أحد الوجهين عندنا.
فأما ان قدم بعد أن تزوجت نظرنا، فإن كان قبل الدخول بالثاني فهى زوجة الاول ترد إليه.
أما بعد الدخول فإن قلنا: التفريق بينها وبين الزوج الاول بحكم الحاكم وأن الفرقة وقعت، فعلى قوله الجديد تسلم الزوجة إلى زوجها الاول ولا كلام.
وإن قنلا بقوله القديم: وقلنا إن حكم الحاكم يقتصر على الظاهر دون الباطن سلمت الزوجة إلى زوجها الاول.
وإن قلنا: إن حكمه ينفذ ظاهرا وباطنا لم تسلم إليه.
وقال أحمد: أما قبل الدخول فهى امرأته، وإنما التخيير بعد الدخول، وهو قول الحسن وعطاء وخلاس بن عمرو والنخعي وقتادة ومالك وإسحاق، وفي رواية لاحمد: إذا تزوجت امرأته فجاء خير بين الصداق وبين امرأته.
قال ابن قدامة: والصحيح أن عموم كلام أحمد يحمل على أنه لا تخيير إلا بعد الدخول، فتكون زوجة الاول رواية واحدة لان النكاح إنما صح في الظاهر
دون الباطن، فإذا قدم تبينا أن النكاح كان باطلا، لانه صادف امرأة ذات زوج فكان باطلا كما لو شهدت بينة بموته، وليس عليه صداق لانه نكاح فاسد لم يتصل به دخول، ويعود الزوج بالعقد الاول كما لو لم تتزوج.
(فرع)
إذا تزوجت امرأة المفقود في وقت ليس لها أن تتزوج فيه مثل أن(18/160)
تتزوج قبل مضى المدة التي يباح لها التزويج بعدها أو كانت غيبة زوجها ظاهرها السلامة أو ما أشبه هذا، فإن تبين أن زوجها قد مات وانقضت عدتها منه أو فارقها وانقضت عدتها ففي صحة نكاحها وجهان.
(أحدهما)
هو صحيح لانها ليست في نكاح ولاعدة فصح تزويجها كما لو علمت ذلك (والثاني) لا يصح لانها معتقدة تحريم نكاحها وبطلانه، وأصل هذا من باع عينا في يده يعتقدها لمورثه فبان موروثه ميتا والعين مملوكة له بالارث هل يصح البيع؟ فيه وجهان كذا ههنا، والله تعالى أعلم بالصواب.(18/161)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه)
إذا طلقت المرأة فإن كان الطلاق رجعيا كان سكناها حيث يختار الزوج من المواضع التى تصلح لسكني مثلها، لانها تجب لحق الزوجية، وإن كان الطلاق بائنا نظرت فإن كان في بيت يملك الزوج سكناه بملك أو إجارة أو إعارة، فإن كان الموضع يصلح لسكني مثلها لزمها أن تعتد فيه لقوله عز وجل " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم " فأوجب أن تسكن في الموضع الذي كان يسكن الزوج فيه، فإن كان الموضع يضيق عليهما انتقل الزوج وترك السكنى لها، لان سكناها تختص بالموضع الذي طلقها فيه.
وإن اتسع الموضع لهما وأراد أن يسكن معها
نظرت فإن كان في الدار موضع منفرد يصلح لسكني مثلها، كالحجرة أو علو الدار، أو سلفها وبينهما باب مغلق فسكنت فيه وسكن الزوج في الثاني جاز، لانهما كالدارين المتجاورتين، فإن لم يكن بينهما باب مغلق فإن كان لها موضع تستتبر فيه ومعها محرم لها تتحفظ به كره، لانه لا يؤمن النظر ولا يحرم، لان مع المحرم يؤمن الفساد، فإن لم يكن محرم لم يجز لقوله عليه السلام " لا يخلون رجل بأمراة ليست له بمحرم، فإن ثالثهما الشيطان "
(فصل)
وإن أراد الزوج بيع الدار التي تعتد فيها نظرت - فإن كانت مدة العدة غير معلومة، كالعدة بالحمل أو بالاقراء - فالبيع بالطل لان المنافع في مدة العدة مستثناة، فبصير كما لو باع الدار واستثنى منفعة مجهولة، فإن كانت مدة العدة معلومة كالعدة بالشهور ففيه طريقان
(أحدهما)
أنها على قولين كبيع الدار المستأجرة
(والثانى)
أنه يبطل قولا واحدا، والفرق بينهما أن منقعة الدار تنتقل إلى المستأجر، ولهذا إذا مات انتقل إلى وارثه فلا يكون في معنى من باع(18/162)
الدار واستثنى بعض المنفعة، والمرأة لا تنتقل المنفعة إليها في مدة العدة، ولهذا إذا ماتت رجعت منافع الدار إلى الزوج فيكون في معنى من باع الدار واستثنى منفعتها لنفسه.
(فصل)
وان حجر على الزوج بعد الطلاق لديون عليه لم يبع المسكن حتى تنقضي العدة، لان حقها يختص بالعين فقدمت كما يقدم المرتهن على سائر الغرماء وإن حجر عليه ثم طلق ضاربت المرأة الغرماء بحقها فان بيعت الدار أستؤجر لها بحقها مسكن تسكن فيه لان حقها وان ثبت بعد حقوق الغرماء الا أنه يستند إلى سبب متقدم وهو الوطئ في النكاح، فان كانت لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضاربت بالسكنى في تلك المدة فان انقضت العدة فيما دون ذلك ردت الفاضل على
الغرماء، فان زادت مدة العدة على العادة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنها ترجع على الغرماء بما بقى لها كما ردت الفاضل إذا انقضت عدتها فيما دون العادة.
(والثانى)
لا ترجع عليهم لان الذي استحقت الضرب به قدر عادتها (والثالث) إن كانت عدتها بالاقراء لم ترجع لان ذلك لا يعلم الا من جهتها وهى متهمة: وان كانت بوضع الحمل أقامت البينة على وضع الحمل ورجعت عليهم لانه لا يلحقها فيه تهمة، فان لم يكن لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضربت معهم بأجرة أقل مدة تنقضي به العدة لانه يقين فلا يجب ما زاد بالشك، فان زادت العدة على أقل ما تنقضي به العدة كان الحكم في الرجوع بالزيادة على ما ذكرناه إذا زادت على العادة
(فصل)
وان طلقت وهى في مسكن لها لزمها أن تعتد به لانه مسكن وجبت فيه العده، ولها أن تطالب الزوج بأجرة المسكن لان سكناها عليه في العدة (الشرح) الحديث أخرجه أحمد في مسنده من حيث عامر بن ربيعة بلفظ " لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له فان ثالثهما الشيطان الا محرم " وأخرجه من حديث جابر بلفظ " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فان ثالثهما الشيطان " وقد أخرج معناه الشيخان عن ابن عباس وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبى سعيد الخدرى وجرير بن عبد الله(18/163)
وبريدة وعقبه بن عامر.
أما الاحكام فقوله تعالى " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم " قال أبن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها.
(قلت) إن كانت المطلقة رجعية فإنها من نسائه ترثه ويرثها وتسكن حيث
يختار لها ما يصلح لسكني مثلها، ولا تخرج إلا بإذنه ما كانت في عدتها، ولم يؤمر الرجل بالسكنى لها، لان ذلك لازم لزوجها مع نفقتها وكسوتها، حاملا كانت أو حائلا، وإنما أمر الله بالسكنى للائى بن مع أزواجهن من نفقتهن، قال تعالى (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) فجعل عز وجل للحوامل اللائى بن من أزواجهن السكنى والنفقة، فالمطلقة ثلاثا إن كانت حاملا وجب لها السكنى قولا واحد لا نعلم بين أهل العلم خلافا فيه، فإن لم تكن حاملا فقد اختلف العلماء في ذلك فقال الشافعي يحب لها السكنى، وهو قول أبن مسعود وابن عمر وعائشة وسعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبى بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةَ بْنَ زَيْدِ وسليمان بن يسار ومالك والثوري وأصحاب الرأى وإحدى الروايتين عن أحمد لقول الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) وقوله تعالى (اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) فأوجب لهن السكنى مطلقا.
ثم خص الحامل بالانفاق عليها.
وقال أحمد في أظهر روايتيه لا يجب لها ذلك.
وهو قول ابن عباس وجابر وعطاء وطاوس والحسن وعمرو بن ميمون وعكرمة وإسحاق وأبى ثور وداود ابن على، لما روت فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته فقال، والله مالك علينا من شئ.
فجاءت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذلك له، فقال لها ليس لك عليه نفقة ولاسكنى، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: إن تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدى في بيت ابن أم مكتوم " أخرجه الشيخان.(18/164)
ولكنا إذا تأملنا صدى هذا الخبر لوجدنا أن عمر رضى الله عنه أنكر عليها
وقال " ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت " وقال عروة " لقد عابت عائشة ذلك أشد العيب، وقال إنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها " وقال سعيد بن المسيب " تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت لسنة، فوضعت على يدى ابن أم مكتوم الاعمى " ووجه القائلين بعدم وجوب السكنى لها ما قالت هي: بين وبينكم كتاب الله قال تعالى (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) فأى أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لانفقة لها إذا لم تكن حاملا؟ فعلام تحبسونها؟ فكيف تحبس أمرأة بغير نفقة؟
*
*
* وأما قول عمر لا ندع كتاب ربنا، فقال أحمد بن حنبل لا يصدر هذا عن عمر ولكنه قال لا نجيز في ديننا قول امرأة.
وهذا مجمع على خلافه، وقد أخذنا بخبر فريعة وهى امرأة، وبرواية عائشة وأزواج رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كثير من الاحكام، وصار أهل العلم إلى خبر فاطمة.
هذا في كثير من الاحكام مثل سقوط نفقة المبتوتة إذا لم تكن حاملا الخ ما قال فإن كان الموضع الذي طلقها فيه يناسبها للعيش بمفردها لزمها ذلك، كما يلزمه إقرارها لقوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) فإن لم يناسبها فعليه أن يختار لها مسكنا يناسب مثلها، فإن كان في مسكن يملكه الزوج أو يؤجره ويصلح لمثلها اعتدت فيه، فان ضاق عنهما انتقل عنها وتركها لها لانه يلزم أن تسكن في الموضع الذي كان الزوج يسكن فيه لقوله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم) وقد ذهب أحمد ومن ذكرنا انه لاسكنى للمبتوتة ولا نفقة(18/165)
وقالوا في الآية: انها للرجعية، ولان السكنى تابعة للنفقة، فلما لم تجب للمبتوتة نفقة لم يجب لها سكنى، وحجة أبى حنيفة أن للمبتوتة النفقة قول الله تعالى " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " وترك النفقة من أكبر الاضرار، وفي إنكار عمر على فاطمة قولها ما يبين هذا، ولانها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية، ولانها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة أما مذهبنا فإنه يلزمه أن يترك الموضع لها إن ضاق عليهما، فان اتسع لهما وفي الدار غرفة منفردة أو حجرة في علو الدار أو سفلها وبينهما باب مغلق سكنت فيه وسكن الزوج في الباقي، لانهما كالدارين المستقلتين المتجاورتين، وإن لم يكن بينهما باب مغلق لكن لها موضع تتستر فيه بحيث لا يراها، ومعها محرم تتحفظ به جاز، لان مع المحرم يؤمن الفساد ويكره في الجملة، لانه لا يؤمن النظر، وان لم يكن معها محرم لم يجز، لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يخلون رجل بإمرأة ليست له بمحرم، فإن ثالثهما الشيطان " وان امتنع من إسكانها أجبره الحاكم، وان كان الزوج حاضرا والمسكن لائقا فاكترت لنفسها موضعا أو سكنت في ملكها لم ترجع بالاجرة لانها تبرعت بذلك فلم ترجع به على أحد، وإن عجز الزوج عن إسكانها لعسرته أو غيبته أو امتنع من ذلك مع قدرته سكنت حيث شاءت، وكذلك الشأن في المتوفى عنها زوجها إذا لم يقم ورثته باسكانها، وهو إنما تلزمها السكنى في منزله لتحصين مائه، فإذا لم يفعل لم يلزمها ذلك وقال الشافعي في الام: بعد ذكر الآية " فذكر الله عز وجل المطلقات جملة لم يخصص منهن مطلقة دون مطلقه، فجعل على أزواجهن أن يسكنوهن من وجدهم، وحرم عليهم أن يخرجوهن وعليهن ألا يخرجن: الا أن يأتين بفاحشة مبينه فيحل إخراجهن
فكان من خوطب بهذه الآية من الازواج يحتمل أن اخراج الزوج امرأته المطلقة من بيتها منعها السكنى لان الساكن إذا قيل أخرج من مسكنه فانما قيل: منع مسكنه، وكما كان كذلك إخراجه إياها وكذلك خروجها بامتناعها من السكن فيه وسكنها في غيره، فكان هذا(18/166)
الخروج المحرم على الزوج والزوجه رضيا بالخروج معا أو سخطا معا أو رضى به أحدهما دون الآخر فليس للمرأة الخروج ولا للرجل إخراجها إلا في الموضع الذى استثنى الله عز ذكره من أن تأتى بفاحشة مبينه وفي العذر، فكان فيما أوجب الله تعالى على الزوج والمرأة من هذا تعبدا لهما، وقد يحتمل مع التعبد أن يكون لتحصين فرج المرأة في العدة، وولد إن كان بها ثم تكلم الشافعي عن خروج المرأة وأنها لا تخرج بحال ليلا ولا نهارا إلا من عذر قال: ولو فعلت هذا كان أحب إلى وكان احتياطا لا يبقى في القلب معه شئ وانما منعنا من ايجاب هذا عليها مع احتمال للآية لما ذهبنا إليه من ايجابه على ما قال ما وصفنا من احتمال الآيات قبل لما وصفنا.
إذا ثبت هذا: فانه إذا كانت في مسكن لزوجها فأخرجها الورثة منه وبذلوا لها سكنا لم تلزمها السكنى، وكذلك ان أخرجت من المسكن الذى هي به أو أخرجت لاى غارض كان لم تلزمها السكنى في موضع معين سواه، سواء بذله الورثة أو غيرهم لانها انما يلزمها الاعتداد في بيتها الذي كانت فيه لا في غيره.
وكذلك لو قلنا لها السكن فتعذر سكناها في مسكنها وبذل لها سواه، وان طلبت مسكنا سواه لزم الورثة تحصيله بالاجرة أو بغيرها ان خلف الميت تركة تفى بذلك ويقدم ذلك على الميراث، لانه حق على الميت فأشبه الدين، فان كان على الميت دين يستغرق ماله ضربت بأجرة المسكن مع الغرماء، لان حقها مساو
لحقوق الغرماء وتستأجر بما يصبيها موضعا لسكنه.
وكذلك الحكم في المطلقة إذا حجر على الزوج قبل أن يطلقها ثم طلقها: فانها تضرب بأجرة المسكن لمدة العدة مع الغرماء إذا كانت حاملا، فان قيل: فهلا قدمتم حق الغرماء لانه أسبق؟ قلنا: لان حقها ثبت عليه بغير اختيارها فشاركت الغرماء فيه كما لو أتلف المفلس مالا لانسان أو جنى عليه، وان مات وهى في مسكنه لم يجز اخراجها منه لان حقها تعلق بعين المسكن قبل تعلق حقوق الغرماء بعينه، فكان حقها مقدما كحق المرتهن، وان طلب الغرماء بيع هذا المسكن وتترك السكنى لها مدة العدة لم يجز لانها انما تستحق السكنى إذا كانت(18/167)
حاملا، ومدة الحمل مجهولة، فتصير كما لو باعها واستثنى نفعها مدة مجهولة، وان أراد الورثة قسمة مسكنها على وجه يضر بها في السكنى لم يكن لهم ذلك، وان أرادوا التعليم بخطوط من غير نقض ولا بناء جاز لانه لاضرر عليها فيه.
قال الشافعي رضى الله عنه: وإن كان على زوجها دين لم يسكنها فيما يباع من ماله حتى تنقضي عدتها، فأما إن كان أنزلها منزلا عارية أو بكراء لم يدفعه وأفلس فلاهل هذا كله أن يخرجوها منه وعليه أن يسكنها غيره إلا أن يفلس فإن أفلس ضربت مع الغرماء بأقل قيمة سكنى ما يكفيها بالغا ما بلغ، واتبعته بفضلة متى أيسر، قال: وهكذا تضرب مع الغرماء بنفقتها حاملا وفي العدة من طلاقه اه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان مات الزوج وهى في العدة قدمت على الورثة في السكنى لانه استحقتها في حال الحياة فلم تسقط بالموت كما لو أجر داره ثم مات فإن أراد الورثة قسمة الدار لم يكن لهم ذلك، لان فيها اضرارا بها في التضييق عليها،
وان أرادوا التمييز بأن يعلموا عليها بخطوط من غير نقض ولابناء، فان قلنا ان القسمة تمييز الحقين جاز لانه لاضرر عليها، وان قلنا انها بيع فعلى ما بيناه
(فصل)
وان توفى عنها زوجها وقلنا: انها تستحق السكنى فان كانت في مسكن الزوج لزمها أن تعتد فيه، لما روت فريعة بنت مالك " أن زوجها قتل فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امكثى حتى يبلغ الكتاب أجله " وان لم تكن في مسكن الزوج وجب من تركته أجرة مسكنها مقدمة على الميراث والوصية، لانه دين مستحق فقدم، وان زاحمها الغرماء ضاربتهم بقدر حقها، فان لم يكن له مسكن فعلى السلطان سكناها لما في عدتها من حق الله تعالى، وان قلنا: لا تجب لها السكنى اعتدت حيث شاءت، فإن تطوع الورثة بالسكنى من مالهم وجب عليها الاعتداد فيه.
(فصل)
وان أمر الزوج امرأته بالانتقال إلى دار أخرى فخرجت بنية(18/168)
الانتقال ثم مات أو طلقها وهي بين الدارين ففيه وجهان
(أحدهما)
أنها تخير بين الدارين في الاعتداد، لان الاولى خرجت عن أن تكون مسكنا لها بالخروج منها والثانية لم تصر مسكنا لها (والثاني) وهو الصحيح أنه يلزمها الاعتداد في الثانية، لانها مأمورة بالمقام فيها ممنوعة من الاولى
(فصل)
وإن أذن لها في السفر فخرجت من البيت بنية السفر ثم وجبت العدة قبل أن تفارق البنيان، ففيه وجهان
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ لها أن تعود ولها أن تمضى في سفرها، لان العدة وجبت بعد الانتقال من موضع العدة فصار كما لو فارقت البنيان
(والثانى)
وهو قول أبى إسحق أنه يلزمها أن تعود وتعتد لانه لم يثبت لها حكم السفر، فإن وجبت العدة وقد فارقت البنيان، فإن كان في سفر نقلة ففيه وجهان كما قلنا فيمن طلقت وهى بين
الدار التي كانت فيها وبين الدار التي أمرت بالانتقال إليها، فإن كانت في سفر حاجة فلها أن تمضى في سفرها ولها أن تعود، لان في قطعها عن السفر مشقة، وإن وجبت العدة وقد وصلت إلى المقصد، فإن كان للبقاء لزمها أن تقيم وتعتد لانه صار كالوطن الذي وجبت فيه العدة، فإن كان لقضاء حاجة فلها أن تقيم إلى أن تنقضي الحاجة، فان كان لزيارة أو نزهة فلها أن تقيم مقام مسافر وهو ثلاثة أيام لان ذلك ليس باقامة، فان قدر لها إقامة مدة شهر أو شهرين ففيه قولان
(أحدهما)
أن لها أن تقيم المدة، وهو اختيار المزني، لانه مأذون فيه (والثاني) أنها لا تقيم أكثر من إقامة المسافر وهو ثلاثة أيام، لانه لم يأذن في المقام على الدوام فلم تزد على ثلاثة أيام، فان انقضى ما جعل لها من المقام نظرت فان علمت أنها إذا عادت إلى البلد أمكن أن تقضى شيئا من عدتها ولم يمنعها خوف الطريق لزمها العود لتقضى العدة في مكانها، وان علمت أنها إذا عادت لم يبق منها شئ ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمها لانها لا تقدر على العدة في مكانها
(والثانى)
يلزمها لتكون أقرب إلى الموضع الذي وجبت فيه العدة.
(فصل)
إذا أحرمت بالحج ثم وجبت عليها العدة، فان لم يخش فوات الحج إذا قعدت للعدة لزمها أن تقعد للعدة ثم تحج، لانه يمكن الجمع بين الحقين فلم يجز(18/169)
إسقاط أحدهما بالآخر فإن خشيت فوات الحج وجب عليها المضى في الحج لانهما استويا في الوجوب وتضيق الوقت والحج أسبق فقدم.
وإن وجبت العدة ثم أحرمت بالحج لزمها القعود للعدة لانه لا يمكن الجمع بينهما والعدة أسبق فقدمت (الشرح) حديث فريعة بنت مالك أخرجه أبو داود في الطلاق عن القعنبى والترمذي في الطلاق عن إسحاق بن موسى والنسائي في الطلاق عن محمد بن العلاء
وعن قتبية وعن اسحاق بن منصور وان ماجه في الطلاق عن أبي بكر والطبراني في الطلاق عن سعد بن اسحاق وقد صححه الترمذي ولفظه " خرج زوجي في طلب أعلاج له فأدركهم في طرف القدوم فقتلوه، فأتاني نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلى ولم يدع نفقة ولا مالا ورثته وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلى واخوتي لكان أرفق لى في بعض شأني.
قال تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني أو أمر به فدعيت، فقال امكثى في بيتك الذي أتاك فيه نعى زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت وأرسل إلى عثمان فأخبرته فأخذ به " ولم يذكر النسائي وابن ماجه إرسال عثمان وأخرجه أيضا مالك في الموطأ والشافعي وابن حبان والحاكم وصححاه، وأعله ابن حزم بجهالة حال زينب بنت كعب بن عجزة الرواية له عن فريعة، ولكن زينب المذكورة وثقها الترمذي وغيره في الصحابة وأما ماروى عن علي بن المدينى بأنه لم يرو عنها غير سعد بن اسحاق فمردود بما في مسند أحمد من رواية سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة عن عمته زينب في فضل الامام علي عليه السلام، وقد أعل الحديث أيضا بأن في إسناده سعد بن إسحاق وتعقبه ابن القطان بأنه قد وثقه النسائي وابن حبان، ووثقه أيضا ابن معين والدارقطني وقال أبو حاتم صالح الحديث.
وروى عنه جماعة من أكابر الائمة ولم يتكلم فيه بجرح وغاية ماقاله فيه ابن حزم وعبد الحق أنه غير مشهور وهذه دعوى باطلة، فإن من يروى عنه مثل سفيان الثوري وحماد بن زيد ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد والدراوردى وابن جريج والزهرى مع كونه أكبر منه، وغير هؤلاء الائمة كيف يكون غير مشهور(18/170)
أما اللغات فإن فريعة - بضم الفاء وفتح الراء بعدها ياء ساكنة - ويقال
لها الفارعة، وهى بنت مالك بن سنان - أخت أبى سعيد الخدرى - وشهدن بيعة الرضوان.
وقد استدل بهذا الحديث على أن المتوفى عنها زوجها تعتد في المنزل الذي بلغها نعى زوجها وهي فيه ولا تخرج منه إلى غيره، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، واليه ذهب مالك وأبو حنيفة والاوزاعي واسحاق وأبو عبيد.
قال ابن عبد البر " وقد قال بحديث الفريعة جماعة من فقهاء الامصار بالحجاز والشام والعراق ومصر، ولم يطعن فيه أحد منهم قال الشافعي في الام، قال الله تبارك وتعالى في المطلقات " لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن الا أن يأتين بفاحشة مبينة " فكانت هذه الآية في المطلقات وكانت المعتدات من الوفاة معتدات كعدة المطلقة، فاحتملت أن تكون في فرض السكنى للمطلقات، ومنع إخراجهن تدل على أن في مثل معناهن في السكنى ومنع الاخراج المتوفى عنهن لانهن في معناهن في العدة.
قال ودلت سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أن المتوفى عنها أن تمكث في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله، واحتمل أن يكون ذلك على المطلقات دون المتوفى عنهن فيكون على زوج المطلقة أن يسكنها لانه مالك ماله، ولايكون على زوج المرأة المتوفى عنها سكنها لان ماله مملوك لغيره.
ثم ساق حديث الفريعة بنت مالك، ثم قال وإذا طلق الرجل امرأته فلها سكناها في منزله حتى تنقضي عدتها ما كانت العدة حملا أو شهورا كان الطلاق يملك فيه الرجعة أو لا يملكها: وان كان المنزل بكراء فالكراء على الزوج المطلق أو في مال الزوج الميت، ولايكون للزوج المطلق إخراج المرأة من مسكنها الذي كانت تسكن معه، كان له المسكن أو لم يكن
وقال الشافعي رضى الله عنه " ولو كانت تسكن في منزل لها معه فطلقها وطلبت أن تأخذ كراء مسكنها منه كان لها في ماله أن تأخذ كراء أقل ما يسعها من المسكن فقط.(18/171)
ولو كان نقلها إلى منزل غير منزله الذى كانت فيه ثم طلقها أو مات عنها بعد أن صارت في المنزل الذي نقلها إليه اعتدت في ذلك المنزل الذي نقلها إليه وأذن لها أن تنقل إليه.
ولو كان أذن لها في النقلة إلى منزل بعينه أو أمرها تنقل حيث شاءت فنقلت متاعها وخدمها ولم تنتقل بيدنها حتى مات أو طلقها أعتدت في بيتها الذى كانت فيه، ولا تكون متنقلة إلا ببدنها، فإذا ببدنها، فإذا انتقلت ببدنها وإن لم تنتقل بمتاعها ثم طلقها أو مات عنها اعتدت في الموضع الذي انتقلت إليه بإذنه (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو انتقلت بغير إذنه ثم لم يحدث لها إذنا حتى طلقها أو مات عنها رجعت فاعتدت في بيتها الذي كانت تسكن معه فيه وهكذا السفر يأذن لها به، فإن لم تخرج حتى يطلقها أو يتوفى عنها أقامت في منزلها ولم تخرج منه حتى تنقضي عدتها.
وإن أذن لها بالسفر فخرجت أو خرج معها مسافرا إلى حج أو بلد من البلدان فمات عنها أو طلقها طلاقا لا يملك فيه الرجعة فسواء ولها لخيار في أن تمضى في سفرها ذاهبة أو جائية، وليس عليها أن ترجع إلى بيته قبل أن ينقضى سفرها فلا تقيم في المصر الذي أذن لها في السفر إليه، الا أن يكون أذن لها في المقام فيه أو في النقلة إليه، فيكون ذلك عليها إذا بلغت ذلك المصر اه وجملة ذلك أن المعتدة لا تخرج من مسكنها لسفر ولا غيره بغير عذر الا بإذنه.
فإن كانت في عدة الوفاء فليس لها أن تخرج إلى الحج ولا إلى غيره من أنواع السفر.
روى ذلك عن عمر وعثمان وسعيد بن المسيب والقاسم ومالك وأحمد وأبو عبيد وأصحاب الرأى والثوري.
وإن خرجت فمات زوجها في الطريق رجعت ان كانت لم تفارق البنيان، فإن فارقت البنيان فها الخيار بين الرجوع والتمام لانها صارت في موضع أذن لها فيه وهو السفر، فأشبه ما لو كانت قد بعدت.
وقال أحمد وأصحابه: يجب عليها أن ترجع ان كانت قريبة لانها في حكم الاقامة وان تباعدت مضت.
ووجه هذا القول ماروى سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب قال: توفى أزواج نساؤهن حاجات أو معتمرات فردهن عمر من ذي الحليفة(18/172)
حتى يعتددن في بيوتهن، ولانه أمكن الاعتداد في منزلها قبل أن يبعد سفرها فلزمها، وقال مالك ترد ما لم تحرم.
وقال أبو حنيفة حد القريب بما لا تقصر فيه الصلاة، وحد البعيد بما تقصر فيه وهو مسيرة ثلاثة أيام.
وقال متى كان بينها وبين مسكنها دون ثلاثة أيام فعليها الرجوع إليه، وان كان فوق ذلك لزمها المضى إلى مقصدها والاعتداد فيه إذا كان بينها وبينه دون ثلاثة أيام، وان كان بينها وبينه ثلاثة أيام وفي موضعها الذي هي فيه موضع يمكنها الاقامة فيه لزمها الاقامة، وان لم يمكنها الاقامة مضت إلى مقصدها ولنا أنه يفرق بين السفر لحاجة والسفر لغير حاجة ووصلت إلى غايتها أو لم تصل على ما بينه المصنف هنا.
فإذا كان عليها حجة الاسلام فمات زوجها لزمتها العدة في منزلها، وإن فانها الحج، ولان العدة في المنزل تفوت ولابدل لها، والحج يمكن الاتيان به في غير هذا العام.
وان مات زوجها بعد احرامها بحج الفرض أو بحج أذن لها فيزوجها نظرت - فإن كان وقت الحج متسعا لا تخاف فوته ولا فوت الرفقة لزمها
الاعتداد في منزلها، لانه أمكن الجمع بين الحقين فلم يجز اسقاط أحدهما.
وان خشيت فوات الحج لزمها المضى فيه.
وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة يلزمها المقام وان فانها الحج لانها معتدة فلم يجز لها أن تنشئ سفرا كما لو أحرمت بعد وجوب العدة عليها.
دليلنا أنهما عبادتان استويا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الاسبق منهما، كما لو كانت العدة أسبق، ولان الحج آكذ لانه أحد أركان الاسلام والمشقة بتفويته تعظم، فوجب تقديمه كما لو مات زوجها بعد أن بعد سفرها إليه وان أحرمت بالحج بعد موت زوجها وخشيت فواته يجوز لها أن تمضى إليه لما في بقائها في الاحرام من المشقة، ويجوز أن تعتد في منزلها لما في العدة من السبق ولانها فرطت وغلظت على نفسها، فإذا قضت العدة وأمكنها السفر إلى الحج لزمها ذلك، فإن أدركته والا تحللت بعمل عمرة وحكمها حكم من فاته الحج في قضائه وان لم يمكنها السفر فحكمها حكم المحصر كالتي يمنعها زوجها من السفر وحكم الاحرام بالعمرة كذلك إذا خيف فوات الرفقة أو لم يخف(18/173)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولايجوز للمبتوتة ولا للمتوفى عنها زوجها الخروج من موضع العدة من غير عذر لقوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) وروت زينب بنت كعب بن عجرة عن فريعة بنت مالك قالت " قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنِّي في دار وحشة أفأنتقل إلى دار أهلى فأعتد عندهم؟ فقال اعتدى في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، أربعة أشهر وعشرآ "
(فصل)
وإن بذت على أهل زوجها نقلت عنهم لقوله تعالى (ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) قال ابن عباس رضى الله عنه: الفاحشة المبينة أن تبذو على أهل زوجها، فإذا بذت على الاهل حل إخراجها.
وأما إذا بذا عليها أهل زوجها نقلوا عنها، ولم تنتقل لان الاضرار منهم دونها، وإن خافت في الموضع ضررا من هدم أو غيره انتقلت، لانها إذا انتقلت للبذاء على أهل زوجها فلان تنتقل من خوف الهدم أولى، ولان القعود للعدة لدفع الضرر عن الزوج في حفظ نسب ولده والضرر لا يزال بالضرر فإن كانت العدة في موضع بالاعارة فرجع المعير أو بالاجارة فانقضت المدة وامتنع المؤجر من الاجارة أو طلب أكثر من أجرة المثل انتقلت إلى موضع آخر، لانه حال عذر، ولا تنتقل في هذه المواضع إلا إلى أقرب موضع من الموضع الذي وجبت فيه العدة، لانه أقرب إلى موضع الوجوب، كما قلنا فيمن وجبت عليه الزكاة في موضع لا يجد فيه أهل السهمان إنه ينقل الزكاة إلى أقرب موضع منه.
وإن وجب عليها حق لا يمكن الاستيفاء إلا بها كاليمين في دعوى أو حد - فإن كانت ذات خدر - بعث إليها السلطان من يستوفى الحق منها، وإن كانت برزة جاز إحضارها لانه موضع حاجة فإذا قضت ما عليها رجعت إلى مكانها، وان احتاجت إلى الخروج لحاجة كشراء القطن وبيع الغزل لم يجز أن تخرج لذلك بالليل، لما روى مجاهد قال " استشهد رجال يوم أحد فتأيم نساؤهم(18/174)
فجئن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يارسول الله انا نستوحش بالليل ونبيت عند احدانا حتى إذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحدثن عند احداكن مابدا لكن، حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة إلى بيتها: ولان الليل مظنة للفساد فلا يجوز لها الخروج من غير ضرورة.
وان
أرادت الخروج لذلك بالنهار نظرت - فإن كانت في عدة الوفاة - جاز لحديث مجاهد.
وان كانت في عدة المبتوتة فَفِيهِ قَوْلَانِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجُوزُ لقوله تعالى (ولا يخرجن الا أن يأتين بفاحشة مبينة) وقال في الجديد " يجوز " وهو الصحيح لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " طلقت خالتي ثلاثا، فخرجت تجد نخلا لها فلقيها رجل فنهاها: فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فقال لها: اخرجي فجدى نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا " ولانها معتدة بائن فجاز لها أن تخرج بالنهار لقضاء الحاجة كالمتوفى عنها زوجها.
(الشرح) في قوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) دليل على أنه ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح مادامت في العدة، ولايجوز لها الخروج الا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولاننقطع العدة، والمبتوتة في هذا كالرجعية - وهذا لصيانة ماء الرجل - وهذا معنى اضافة البيوت اليهن، كقوله تعالى (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) وقوله تعالى (وقرن في بيوتكن فهو اضافة اسكان لااضافة تمليك أما حديث فريعة فقد مضى تخريجه آنفا وقوله " دار وحشة " دار مضاف وحشة مضاف إليه، وأصله المكان القفر من الانيس.
وخبر ابن عباس قال ابن كثير في قوله تعالى (الا أن يأتين بفاحشة مبينة) والفاحشة المبينة تشمل الزنا، كما قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبى والحسن وابن سيرين ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو فلابة وأبو صالح وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والسدى وسعيد بن أبى هلال وغيرهم وغيرهم اه(18/175)
وقال القرطبى: وعن ابن عباس والشافعي أنه البذاء على أحمائها فيحل لهم إخراجها، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها عليه السلام أن تنقل.
وفي كتاب أبى داود، قال سعيد تلك امرأة فتنت الناس إنها كانت لسنه فوضعت على يدى ابن أم مكتوم الاعمى، قال عكرمة في مصحف أبى " إلا أن يفحشن عليكم " ويقوى هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روى أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقى الله فإنك تعليمن لم أخرجت؟ وعن ابن عباس الفاحشة كل معصية كالزنا والسرقة والبذاء على الاهل وعن ابن عمر أيضا والسدى: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة، وقال قتادة الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها فتتحول عن بيته.
قال ابن العربي أما من قال إنه الخروج للزنا فلا وجه له، لان ذلك الخروج هو خروج القتل والاعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام، وأما من قال انه البذاء فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس، وأما من قال انه كل معصية فوهم لان الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الاخراج ولا الخروج.
وأما من قال: إنه الخروج بغير حق فهو صحيح وتقدير الكلام لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا.
أه (قلت) قال الشافعي في الام: أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عمر وعن محمد بن إبراهيم عن ابن عباس أنه كان يقول الفاحشة المبينة أن تبذو على أهل زوجها، فإذا بذت فقد حل إخراجها، ثم ساق هذا الاسناد إلى عائشة رضى الله عنها كانت تقول اتقى الله يا فاطمة فقد علمت في أي شئ كان ذلك.
قال الشافعي أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه قال قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهلها فدفعت إلى سعيد بن المسيب فسألته عن
المبتونة فقال تعتد في بيت زوجها، فقلت فأين حديث فاطمة بنت قيس؟ فقال هاه وصف أنه تغيظ: وقال فتنت فاطمة الناس كانت للسانها ذرابة فاستطالت على أحمائها فأمرها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ تعتد في بيت أم مكتوم.(18/176)
وقال الشوكاني في نيل الاوطار وأما دعوى أن سبب خروجها كان لفحش في لسانها، كما قال مروان لما حدث بحديثها ان كان بكم شر فحسبكم مابين هذين من الشر، يعنى أن خروج فاطمة كان لشر في لسانها فمع كون مروان ليس من أهل الانتقاد على أجلاء الصحابة والطعن فيهم فقد أعاذ الله فاطمة عن ذلك الفحش الذي رماها به فإنها من خيرة نساء الصحابة فضلا وعلما، ومن المهاجرات الاولات ولهذا ارتضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبه وابن حبه أسامة، وممن لا يحملها رقة الدين على فحش اللسان الموجب لاخراجها من دارها، ولو صح شئ من ذلك لكان أحق الناس بانكار ذلك عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي هذا الكلام من الشوكاني نظر سنأتي عليه.
أما خبر مجاهد المرسل فقد أخرجه الشافعي وعبد الرزاق هكذا مرسلا بلفظ المصنف، وله شواهد متصلة موقوفه على ابن مسعود عند عبد الرزاق في نساء نعى اليهن أزواجهن وتشكين الوحشة فقال ابن مسعود يحتمعن بالنهار ثم ترجع كل امرأة منهن إلى بيتها بالليل.
وأخرج ابن أبي شيبه عن عمر رضى الله عنه أنه رخص للمتوفى عنها زوجها أن تأتى أهلها بياض يومها، وأن زيد بن ثابت رخص لها في بياض يوما.
وأخرج سعيد بن منصور عن علي رضى الله عنه أنه جوز للمسافرة الانتقال.
وروى الحجاج بن منهال أن أمرأة سألت أم سلمه بأن أباها مريض وأنها في عدة وفاة فأذنت لها وسط النهار.
أما حديث جابر فقد أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائي.
أما الاحكام فللمعتدة الخروج في حوائجها نهارا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها لحديث جابر " طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجد نخلها فلقيها رجل فنهاها فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أخرجي فجدى نخلك لعلك أن تتصدقى منه أن تفعلي خيرا ".
وحديث مجاهد المرسل وفيه " تحدثن عند أحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها " وليس لها المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلا(18/177)
إلا لضرورة، لان الليل مظنة الفساد بخلاف النهار فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه، وان وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه إلا بها كاليمين وكانت ذات خدر بعث إليها الحاكم من يستوفى الحق منها في منزلها، وان كانت برزة جاز إحضارها لاستفيائه، فإذا فرغت رجعت إلى منزلها.
وقال الشافعي رضى الله عنه: وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث فاطمة بنت قيس إذا بذت على أهل زوجها فأمرها أن تعتد في بيت ام مكتوم تدل على معنيين
(أحدهما)
أن ما تأول ابن عباس في قول الله عز وجل " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " هو البذاء على أهل زوجها كما أول إن شاء الله تعالى وقال وبين إنما أذن لها أن تخرج من بيت زوجها فلم يقل لها النبي صلى الله عليه وسلم: اعتدى حيث شئت، ولكنه حصنها حيث رضى إذ كان زوجها غائبا ولم يكن له وكيل بتحصينها، فإذا بذت المرأة على أهل زوجها فجاء من بذائها ما يخاف تساعر بذائه إلى تساعر الشر، فلزوجها إن كان حاضرا اخراج أهله عنها، فإن لم يخرجهم أخرجها إلى منزل غير منزله فحصنها فيه، وكان عليه كراؤه إذا كان له منها أن تعتد حيث شاءت كان عليه كراء المنزل.
وان كان غائبا كان لوكليه من ذلك ماله، وان لم يكن له وكيل كان السلطان ولى الغائب يفرض له منزلا فيحصنها فيه، فان تطوع السلطان به أو أهل المنزل فذلك ساقط عن الزوج، ولم نعلم فيما مضى أحدا بالمدينة أكرى أحدا منزلا انما كانوا يتطوعون بانزال منازلهم وبأموالهم مع منازلهم، وان لم يتطوع به السلطان ولاغيره فعلى زوجها كراء المنزل الذي تصير إليه، ولا يتكارى لها السلطان الا بأخف ذلك على الزوج وان كان بذاؤها حتى يخاف أن يتساعر ذلك بينها وبين أهل زوجها عذرا في الخروج من بيت زوجها كان كذلك كل ماكان في معناه وأكثر من أن يجب حد عليها فتخرج ليقام عليها أو حق فتخرج لحاكم فيه أو يخرجها أهل منزل فيه بكراء أو عارية ليس لزوجها أو ينهدم منزلها الذي كانت فيه أو تخاف في منزل هي فيه على نفسها أو مالها أو ما أشبه هذا من العذر، فللزوج في هذه الحالات(18/178)
أن يحصنها حيث صيرها أو اسكانها وكراء منزلها قال: وان أمرها أن تكارى منزلا بعينه فتكارته فكراؤه عليه متى قامت به عليه، وان لم يأمرها فتكارت منزلا فلم ينهها ولم يقل لها: أقيمي فيه، فان طلبت الكراء وهي في العدة استقبل كراء منزلها من يوم تطبه حتى تنقضي العدة.
وان لم تطلبه حتى تنقضي العدة فحق لها تركته وعصت بتركها أن يسكنها فلا يكون لها وهي عاصية سكنى وقد مضت العدة، وان أنزلها منزلا له بعد الطلاق أو طلقها في منزل له أو طلقها وهي زائرة فكان عليا أن تعود إلى منزل له قبل أن يفلس ثم فلس فهى أحق بالمنزل منه ومن غرمائه اه.
على أن محاولة اضعاف الخبر بكلام عمر ليست بذاك، لان كلام عمر رضى الله عنه دليل على صحته وصدوره عن فاطمة، وأما البذاء المنسوب لفاطمة، فانه
لم يكن موجها لزوجها بل كان لاحمائها، وهذا أمر غير مستبعد من أي امرأة مطلقة تحس بشخصيتها لا سيما إذا كان البذاء يحتمل أن يكون مجرد المخاشنة في القول والاستعلاء في اللجهة التى تتم عن ضيق ببقائها بين نساء مثلها.
ولو كان البذاء من طبيعتها بمعنى الفحش القبح لما دفع بها إلى ابن أم مكتوم لتبقى في بيته مدة العدة، ويفسر البذاء منها رواية " وكان في لسانها ذرابة " أي حدة، وليست فاطمة بنت قيس معصومه ولا يخل هذا بليقاتها لحب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ حبه، وفي بعض الناس صدق في اللهجه، وحدة في الصوت يمكن أن يوصف بالبذو والذرابه إذا تقرر هذا: فان الايه تقتضي الاخراج عن السكنى إذا طال لسانها على أحمائها، ولا يتوقف هذا الاخراج على ارتكاب الزنا إذا فسرت الفاحشة به على قول ابن مسعود والحسن، فان الاخراج في ذلك لا يكون الا لاقامة الحد، أما الاخراج عن السكنى في الاية فلا يتحقق بما فسرا به الاية فان الفاحشة اسم للزنا وغيره من الاقوال، يقال: أفحش فلان في مقاله، ولهذا روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قالت له عائشة " يارسول الله قلت لفلان: بئس أخو العشيرة فلما دخل ألفت له القول؟ فقال يا عائشة ان الله لا يحب الفحش ولا التفحش(18/179)
إذا ثبت هذا فإن الورثة يخرجونها عن ذلك المسكن إلى مسكن آخر من الدار إن كانت كبيرة تجمعهم، فإن كانت لا تجمعهم أو لم يمكن نقلها إلى غيره في الدار ولم يتخلصوا من أذاها فلهم نقلها.
وقال بعض الاصحاب ينتقلون هم عنها لان سكناها واجب في المكان وليس بواجب عليهم، والنص يدل على أنها تخرج فلا يعرج على ما خالفه، ولان الفاحشة منها فكان الاخراج لها.
وإن كان أحماؤها هم الذين يؤذونها ويفحشون عليها نقلوا هم دونها فإنها لم تأت بفاحشة فلا تخرج بمقتضى النص، ولان الذنب لهم فيخصون بالاخراج، وإن كان المسكن لغير الميت فتبرع صاحبه بإسكانها فيه لزمها الاعتداد به، وإن أبى أن يسكنها إلا بأجرة وجب بذلها من مال الميت، الا ان تبرع انسان ببذلها فيلزمها الاعتداد به.
فان حولها صاحب المكان أو طلب أكثر من أجرة المثل فعلى الورثة اسكانها ان كان الميت تركة يستأجر لها به مسكن، لانه حق لها يقدم على الميراث، فان اختارت النقلة عن هذا المسكن الذي ينقلونها إليه فلها ذلك لان سكناها به حق لها وليس بواجب عليها، فان المسكن الذي كان يجب عليها السكنى به هو الذي كانت تسكنه حين موت زوجها، وقد سقطت عندها السكنى به، وسواء كان المسكن الذي كانت به لابويها أو لاحدهما أو لغيرهم وان كانت تسكن في دارها فاختارت الاقامة فيها والسكنى بها متبرعة أو بأجرة تأخذها من التركة جاز ويلزم الورثة بذل الاجرة إذا طلبتها، وان طلبت أن تسكن غيرها وتنتقل عنها فلها ذلك، لانه ليس عليها أن تؤجر دارها ولا تعيرها وعليهم اسكانها.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ(18/180)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الإحداد
الاحداد ترك الزينة وما يدعو إلى المباشرة، ويجب ذلك في عدة الوفاة، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلى، ولا تختضب ولا تكتحل، ولا يجب ذلك على المعتدة الرجعية، لانها باقية على الزوجية، ولا يجب على أم
الولد إذا توفى عنها مولاها، ولا على الموصوءة بشبهة، لما روت أُمِّ حَبِيبَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على ميت فوق ثلاث، الا على زوج أربعة أشهر وعشرا " واختلف قوله في المعتدة المبتوتة فقال في القديم يجب عليها الاحداد، لانها معتدة بائن فلزمها الاحداد كالمتوفى عنها زوجها وقال في الجديد: لا يجب عليها الاحداد لانها معتدة من طلاق فلم يلزمها الاحداد كالرجعية.
(فصل)
ومن لزمها الاحداد حرم عليها أن تكتحل بالاثمد والصبر.
وقال أبو الحسن الماسرجسى: ان كانت سوداء لم يحرم عليها، والمذهب أنه يحرم لما ذكرناه من حديث أم سلمة ولانه يحسن الوجه.
ويجوز أن تكتحل بالابيض كالتوتيا لانه لا يحسن بل يزيد العين مرها، فان احتاجت إلى الاكتحال بالصبر والاثمد اكتحلت بالليل وغسلته بالنهار، لما روت أم سلمة قَالَتْ " دَخَلَ عَلَى " رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين توفى أبو سلمة وقد جعلت على عينى صبرا فقال ماهذا يا أم سلمة؟ قلت انما هو صبر ليس فيه طيب، فقال انه يشب الوجه لا تجعليه الا بالليل وتنزعيه بالنهار "
(فصل)
ويحرم عليها أن تختضب لحديث أم سلمة، ولانه يدعو إلى المباشرة ويحرم عليها أن تحمر وجهها بالدمام وهو الكلكون، وأن تبيضه بأسفيداج العرائس، لان ذلك أبلغ في الزينة من الخضاب، فهو بالتحريم أولى، ويحرم عليها ترجيل الشعر لانه يحسنها ويدعو إلى مباشرتها(18/181)
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الاول أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي.
قال البيهقى روى موقوفا: والمرفوع من رواية ابراهيم بن طهمان وهو
ثقة من رجال الصحيحين: وقد ضعفه ابن جزم.
قال الشوكاني ولا يلتفت إلى ذلك فإن الدارقطني قد جزم بأن تضعيف من ضعفه إنما هو من قبل الارجاء وقد قيل إنه رجع عن ذلك أما حديث أم حبيبة فقد أخرجه الشيخان عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة أنها أخبرته بهذه الاحاديث الثلاثة قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفى أبوها أبو سفيان فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت والله مالى بالطيب من حاجة غير إنِّي سَمِعْتُ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على المنبر " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا.
قالت زينب ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفى أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت والله ماى بالطيب من حاجة، غير إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، قالت زينب وسمعت أمي أم سلمة تقول جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت، يارسول الله ان ابنتى توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول لا.
ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول.
قال حميد فقلت لزينب وما ترى بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب كانت المرأة إذا توفى عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس لاشيئا حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتقتض به، فقلما تقتض بشئ الا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ثم تراجع شاءت من طيب أو غيره " أما حديث أم سلمة الثاني فقد أخرجه أبو داود والنسائي بلفظ " دَخَلَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين توفى أبو سلمة وقد جعلت على صبرا فقال ماهذا يا أم سلمة؟ فقلت انما هو صبر يارسول الله ليس فيه طيب.
قال انه(18/182)
يشب اوجه فلا تجلعيه الا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطى بالطيب ولا بالحناء فانه خضاب.
قالت قلت بأى شئ أمتشط يارسول الله؟ قال بالسدر تغلفين به رأسك " وقد أخرجه الشافعي أيضا وفي اسناده المغيرة بن الضحاك عن أم حكيم بنت أسيد عن أمها عن مولى لها عن أم سلمة، وقد أعله عبد الحق والمنذري بجهالة حال المغيرة ومن فوقه قال الحافظ بن حجر وأعل بما في الصحيحين زينب بنت أم سلمة الذي سقناه في تخريج حديث أم حبيبة قبل هذا، ولكن الحافظ بن حجر حسن اسناده في بلوغ المرام.
أما اللغات فان أصل الحد المنع ومنه للسجان حداد، والحد والحدود هي محارم الله وعقوباته التي قرنها بالذنوب، وأصل الحد المنع والفصل بين الشيئين، فكأن حدود الشرع فصلت بين الحلال والحرام، فمنها ما لا يقترب منه كالفواحش المحرمة " تلك حدود الله فلا تقربوها " ومنها ما لا يتعدى كالمواريث المعينة وتزويج الاربع " تلك حدود الله فلا تعتدوها " ومنه الحديث " انى أصبت حدا فأقمه على " أي أصبت ذنبا أوجب على حدا أي عقوبة، ومنه حديث أبى العالية " ان اللحم مابين الحدين، حد الدنيا وحد الآخرة " قال في النهاية وفيه " لا يحل لامرأة أن تحد على ميت أكثر من ثلاث " أحدت المرأة على زوجها تحد فهي.
وحدت تحد وتحد فهى حاد إذا حزنت عليه ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة وقال ابن بطال: وأحدت المرأة وجدت إذا أمتنعت من الزينة والخضاب
يقال حدت تحد حداد فهى حاد.
قوله " ولا الممشق " هو المصبوغ بالشق وهو المغرة الطين الاحمر، والتوتيا دواء يجعل في العين قوله " يزيد العين مرها " يقال مرهت العين مرها إذا فسدت لترك الكحل وهي عين مرهاء، وأمرأة مرهاء والرجل أمره.
قال رؤية بن العجاج لله در الغانيات المره سبحن واسترجعن من تألهى(18/183)
قوله " يشب الوجه " أي يحسنه ويظهر لونه، من شب النار إذا ألهبها وأقدها ويقال شعرها يشب لونها، أي يظهره ويحسنه، ويقال إنه لمشبوب.
قال ذو الرمة إذا الاروع المشبوب أضحى كأنه على الرجل مما مسه السير أحمق قوله " بالدمام وهو الكلكون " وروى بضم الكاف وسكون اللام.
قال الجوهرى الدمام بالكسر دواء يطلى به جبهة الصبى وظاهر عينيه، وكل شئ طلى به فهو دمام، وقد دممت الشئ أدمه بالضم، أي طليته بأى صبغ كان، والمدموم الاحمر.
قال الشاعر تجلو بقادمتى حمامة أيكة بردا تعل لثاته بدمام والكلكون فارسي، والاسفيذاج صبغ أبيض، وهو المسمى بلغة العامة اسبيداج ومثله المساحيق البيضاء والحمراء التي يستعملها النساء في عصرنا هذا أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه " فأما اللبس نفسه فلا بد منه.
قال فزينة البدن عليه المدخل عليه من غيره الدهن كله في الرأس فلا خير في شئ منه طيب ولاغيره زيت ولا شيرق ولا غيرهما، وذلك أن كل الادهان تقوم مقاما واحدا في ترجيل الشعر وإذهاب الشعث، وذلك هو الزينة، وإن كان بعضها أطيب من بعض.
وهكذا رأيت المحرم يفتدى بأن يدهن رأسه ولحيته
بزيت أو دهن طيب لما وصفت من الترحيل وإذهاب الشعث قال فأما بدنها فلا بأس أن تدهنه بالزيت وكل ما لاطيب فيه من الدهن كما لا يكون بذلك بأس للمحرم، وان كانت الحاد تخالف المحرم في بعض أمرها، لانه ليس بموضع زينة للبدن ولا طيب تظهر ريحه فيدعو إلى شهوتها.
فأما الدهن الطيب والبخور، فلا خير فيه لبدنها لما وصفت من أنه طيب يدعو إلى شهوتها وينبه بمكانها وأنها الحاد من الطيب شئ أذنت فيه الحاد، والحاد إذا مست الطيب لم يجب عليها فدية ولم يقتض احدادها وقد أساءت، وكل كحل كان زينة فلا خير فيه لها، مثل الاثمد وغيره مما يحسن موقعه في عينها فأما الكحل الفارسى وما أشبه إذا احتاجت إليه فلا بأس لانه ليس فيه زينة بل هو يزيد العين مرها وقبحا، وما اضطرت إليه مما فيه زينة من الكحل(18/184)
اكتحلت به بالليل ومسحته بالنهار، وكذلك الدمام وما أرادت به الدواء.
اه اما أحمد بن حنبل رضى الله عنه فقد اختلف الرواية عنه في وجوب الاحداد على المطلقة البائن، فعنه يجب عليها، وهو قول سعيد بن المسيب وأبى عبيد وأبى ثور وأصحاب الرأى، والثانية وهو مذهبنا أنه لا يجب على المطلقة، وهو قول عطاء وربيعة ومالك وابن المنذر لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا - وهذه عدة الوفاة - فيدل على أن الاحداد انما يجب في عدة الوفاة، ولانها معتدة عن غير وفاة فلم يجب عليها الاحداد كالرجعية والموطوءة بشبهة، ولان الاحداد في عدة الوفاة لاظهار الاسف على فراق زوجها وموته فأما الطلاق فإنه فارقها باختيار نفسه وقطع نكاحها فلا معنى لتكليفها الحزن عليه ولان المتوفى عنها لو أتت بولد لحق الزوج، وليس له من ينفيه، فاحتيط عليها
بالاحداد لئلا يلحق بالميت من ليس منه، بخلاف المطلقة فان زوجها باق، فهو يحتاط عليها بنفسه وينفى ولدها إذا كان من غيره أما احداد المتوفى عنها زوجها فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في وجوبه عليها الا عن الحسن فانه قال لا يجب عليها الاحداد، وهو قول شذ به عن أهل العلم، وخالف به السنة فلا يعرج عليه، ويستوى فيه الحرة والامة، والذمية والمسلمة والكبيرة والصغيرة، وبه قال أحمد.
وقال أصحاب الرأى لااحداد على ذمية ولا صغيرة لانهما غير مكلفتين والادلة في الاحداد عامة يتساوى فيها المكلفة وغير المكلفة، ولان حقوق الذمية في النكاح كحقوق المسلمة.
إذا ثبت هذا فانه يحرم عليها الطيب لما فيه من تحريك الشهوة والدعوة إلى المباشرة، ولايجوز لها استعمال الادهان المطيبة، كدهن الورد والياسمين والبنفسج والبان وما أشبهه لانه استعمال للطيب.
فأما الادهان بغير المطيب كالزيت والشيرج والسمن فلا بأس به لانه ليس بطيب، كما لا يجوز استعمال الزينة، واجتنابها واجب في قول عامة أهل العلم، منهم ابن عمر وابن عباس وعطاء وجماعة أهل العلم يكرهون ذلك وينهون عنه(18/185)
من ذلك الزينة في نفسها، فيحرم عليها أن تختضب وأن يحمر وجهها بالمساحيق والاصباغ، وأن تبيضه بالسبيداج وبودرة التلك وأن تجعل عليه صبرا يصفره وأن ينقش في وجهها ويديها، وأن تخفف وجهها وما أشبهه مما يحسنها، وأن تكتحل بالاثمد من غير ضرورة.
وحكى المصنف عن الماسرجسى أن للسوداء أن تكتحل.
وهذا مخالف للاحاديث التي سقناها، فإن اضطرت الحادة أن تكتحل للتداوي فلها أن تكتحل
ليلا وتمسحه نهارا، ورخص فيه عند الضرورة عطاء والنخعي ومالك وأصحاب الرأى لما أخرجه أبو داود والنسائي عن أم حكيم بنت أسد عن أمها أن زوجها توفى وكانت تشتكى عينيها فتكتحل بالجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء، فقالت لا تكتحلي بالتوتيا والعنزروت ونحوهما فلا بأس به لانه لا زينة فيه بل يقبح العين ويزيدها مرها: ولا تمنع من جعله على غير وجهها من بدنها، لانه إنما منع منه في الوجه لانه يصفره فيشبه الخضاب.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " إنه يشب الوجه " ولا تمنع من التنظيف بتقليم الاظفار ونتف الابط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به لحديث أم سلمة، ولانه يراد للتنظيف لا للطيب.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ويحرم عليها أن تطيب لما روت أم عطية إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاتحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تمس طيبا إلا عند طهرها من محيضها نبذة من قسط أو أظفار، ولان الطيب يحرك الشهوة ويدعو إلى المباشرة، ولا تأكل شيئا فيه طيب ظاهر ولا تستعمل الادهان المطيبة كالبان ودهن الورد ودهن البنفسج لانه طيب ولا تستعمل الزيت والشيرج في الرأس لانه يرجل الشعر، ويجوز لها أن تغسل رأسها بالسدر لما روت أُمِّ سَلَمَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لها امتشطي، فقلت بأى شى أمتشط يارسول الله؟(18/186)
قال بالسدر تغلفين به رأسك " ولان ذلك تنظيف لاتزيين فلم يمنع منه، ويجوز أن تقلم الاظفار وتحلق العانة لانه يراد للتنظيف لا للزينة.
(فصل)
ويحرم عليها لبس الحلى لحديث أم سلمة، ولانه يزيد في حسنها
ولهذا قال الشاعر: وما الحلى إلا زينة لنقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا فأما إذا كان الجمال موفرا كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
(فصل)
ويحرم عليها لبس ما صبغ من الثياب للزينة كالاحمر والاصفر والازرق الصافى والاخضر لحديث أم عطية، ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب، وأما ما صبغ غزله ثم نسج فقد قال أبو إسحاق: انه لا يحرم لحديث أم عطية، ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب، والعصب ما صبغ غزله ثم نسج، والمذهب أنه يحرم لان الشافعي رحمه الله نص على تحريم الوشى والديباج، وهذا كله صبغ غزله ثم نسج، ولان ما صبغ غزله ثم نسج أرفع وأحسن مما صبغ بعد النسج.
وأما ما صبغ لغير الزينة كالثوب المصبوغ بالسواد للمصيبة وما صبغ للوسخ كالازرق المشبع والاخضر المشبع فإنه لا يحرم، لانه لازينة فيه، ولا يحرم ما عمل من غزله من غير صبغ، كالمعمول من القطن والكتان والا بريسم والصوف والوبر، لانها وان كانت حسنة الا أن حسنها من أصل الخلقة لا لزينة أدخلت عليها، وان عمل على البياض طرز، فان كانت كبارا حرم عليها لبسه لانه زينة ظاهرة أدخلت عليه، وان كانت صغارا ففيه وجهان
(أحدهما)
يحرم كما يحرم قليل الحلى وكثيره
(والثانى)
لا يحرم لقلتها وخفائها.
(الشرح) حديث أم عطية الاسدية رضى الله عنها أخرجه الشيخان قالت " كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولانكتحل ولا نتطيب ولانلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار " وفي(18/187)
رواية عند أحمد والشيخين أيضا " قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تحد فوق ثلاث إلا على زوج فإنها لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار " وقال فيه أحمد ومسلم " لاتحد على ميت فوق ثلاث إلا المرأة فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا.
أما اللغات فقوله " الا ثوب عصب " هو بالاضافة برود اليمين يعصب غزلها أي يربط ثم يصبغ ثم ينسج مغصوبا فيخرج موشى لبقاء ما عصب منه أبيض لم يتصبغ وانما يتصبغ السدى دون اللحمة: وقال السهيلي: ان العصب نبات لا ينبت إلا باليمين، وهو غريب وأغرب منه قول الداودى ان المراد بالثوب العصب المعصفرة لا المصبغة الا ما صبغ بسواد فرخص فيه مالك والشافعي لكونه لا يتخذ للزينة، بل هو لباس الحزن.
وقال ابن الصباع في الشامل: العصب هو الغزل والعصاب هو الغزال الذي يبيع الغزل.
قوله " نبذة من قسط أو أظفار " النبذة فعلة، من نبذ أي طرح ورمى وكل شئ رميت به وطرحته نبذته، والقسط طيب معروف يؤتى به من أرض الحبشة، ويقال كسط بالكاف أيضا مثل قوله كشطت وقشطت، ويقال كست بالتاء أيضا، والاظفار تؤخذ من البحر تشبه بظفر الانسان، قوله " تغلفين به رأسك " أي تطلين وتمشطين، يقال تغلف بالغاليه وغلف بها لحيته غلفا، قوله " الحلى " بفتح الحاء واسكان اللام اسم لكل ما يتزين به من الذهب والفضه والجواهر وجمعه حلى بضم الحاء وكسرها " وقوله " لنقيصه " فعيلة من النقص وهو ضد التمام، والنقيصه أيضا العيب، وقصر أي لم يتم، يقال قصر في الامر إذا توانى والتقصير التوانى وترك المبالغة قوله " موفرا " من الوفر وهو الزيادة والكثرة أي يأتي تاما غير ناقص، قوله " لم يحتج إلى أن يزورا " زورت
الشئ إذا حسنته وقوله " الوشى والديباج " نوع من ثياب الحرير غليظ معروف قوله " الابريسم " وفيه ثلاث لغات.
قال ابن السكيت: هو الابريسم بكسر الهمزة والراء وفتح السين والثانية(18/188)
بكسر الهمزة وفتح الراء والسين جميعا والثالثة بكسر الجميع، وكذا الاهليلج مثله والصوف شعر الضأن والوبر شعر الابل أفاده ابن بطال.
أما الاحكام: فإن العصب الصحيح أنه نبت تصبغ به الثياب، قال صاحب الروض الانف: الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به، فأرخص النبي صلى الله عليه وسلم للحادة في لبس ما صبغ بالعصب، لانه في معنى ما صبغ لغير التحسين، وأما ما صبغ غزله للتحسين كالاحمر والاصفر فلا معنى لتجويز لبسه مع حصول الزينة بصبغه كحصولها بما صبغ بعد نسجه، ولا تمنع من حسان الثياب غير المصبوغة، وان كان رقيقا، سواء كان من قطن أو كتان أو إبريسم " لان حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغييره كما أن المرأة إذا كانت حسنة الخلقة لا يلزمها أن تغير لونها وتشوه نفسها.
(فرع)
ويحرم عليها لبس الحلى كله حتى الخاتم لحديث أم سلمة وفيه " ولا الحلى " وقال عطاء.
يباح حلى الفضة دون الذهب وليس بصحيح، لان النهى عام، وهذا يشمل أنواع الحلى التي تصنع في عصرنا هذا من الزجاج والكور والكريستال وغير ذلك من المعادن الخسيسة، ولان الحلى يزيد حسنها ويدعو إلى مباشرتها.
(فرع)
مما يحرم على المعتدة لبسه الملابس المطرزة بخيوط القطن إذا كان ملونا، وكذلك الملابس المحزقة للزينة، والشفافه التى تصف ما تحتها من حمالات وقمص مما تلبسه الحاداث من سواد وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(18/189)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب اجتماع العدتين
إذا طلق الرجل امرأته بعد الدخول وتزوجت في عدتها بآخر ووطئها جاهلا بتحريمها وجب عليها اتمام عدة الاول واستئناف عدة الثاني، ولا تدخل عدة أحدهما في عدة الاخر، لما روى سعيد بن المسيب وسليمان بن بشار " أن طليحه كانت تحت رشيد الثقفى فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر رضى الله عنه، وضرب زوجها بمخفقة ضربات، ثم قال أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الاول، وكان خاطبا من الخطاب " وان كان دخل بها فرق بنيهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الاول، ثم اعتدت من الاخر ولم ينكحها أبدا ولانهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين فان كانت حائلا انقطعت عدة الاول بوطئ الثاني إلى أن يفرق بينهما، لانها صارت فراشا للثاني فإذا فرق بينهما أتمت ما بقى من عدة الاول ثم أستأنفت العدة من الثاني، لانهما عدتان من جنس واحد فقدمت السابقة منهما.
وان كانت حاملا نظرت فان كان الحمل من الاول انقطعت عدتها منه بوضعه ثم استأنفت العدة من الثاني بالاقراء بعد الطهر من النفاس، وان كان الحمل من الثاني انقضت عدتها منه بوضعه ثم أتمت عدة الاول، وتقدم عدة الثاني ههنا على عدة الاول لانه لا يجوز أن يكون الحمل من الثاني وتعتد به من الاول، وان أمكن أن يكون من كل واحد منهما عرض على القافة، فان ألحقته بالاول انقضت به عدته، وان ألحقته بالثاني انقضت به عدته، وان ألحقته بهما أو نفته عنهما أو لم نعلم أو لم تكن قافة لزمها أن تعتد بعد الوضع بثلاثة أقراء، لانه
ان كان من الاول لزمها للثاني ثلاثة أقراء، وان كان من الثاني لزمها اكمال العدة من الاول فوجب أن تعتد بثلاثة أقراء ليسقط الفرض بيقين، وان لم يمكن أن يكون من واحد منهما ففيه وجهان.(18/190)
(أحدهما)
لا تعتد به عن أحدهما، لانه غير لاحق بواحد منهما، فعلى هذا إذا وضعت أكملت عدة الاول ثم تعتد من الثاني بثلاثة أقراء
(والثانى)
تعتد به عن أحدهما لا بعينه، لانه يمكن أن يكون من أحدهما، ولهذا لو أقر به لحقه فانقضت به العدة كالمنفى باللعان فعلى هذا يلزمها أن تعتد بثلاثة أقراء بعد الطهر من النفاس
(فصل)
إذا تزوج رجل امرأة في عدة غيره ووطئها ففيه قولان.
قال في القديم تحرم عليه على التأييد لما رويناه عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ثم لا ينكحها أبدا، وقال في الجديد لا تحرم عليه على التأييد، وإذا انقضت عدتها من الاول جاز له أن يتزوجها لانه وطئ شبهة فلا يوجب تحريم الموطوءة على الواطئ على التأييد الوطئ في النكاح بلا ولى، وما روى عن عمر رضى الله عنه فقد روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا انقضت عدتها فو خاطب من الخطاب، فخطب عمر رضى الله عنه وقال: ردوا الجهالات إلى السنة.
فرجع إلى قول علي كرم الله وجهه.
(فصل)
إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا ثم وطئها في العدة، وجبت عليها عدة بالوطئ لانه وطئ في نكاح قد تشعث فهو كوطئ الشبهة، فإن كانت من ذوات الاقراء أو من ذوات الشهور لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها البقية من عدة الطلاق لانهما من واحد وله أن يراجعها في البقية لانها من عدة الطلاق فإذا مضت البقية لم يجز أن يراجعها لانها في عدة وطئ شبهة، وان حملت من الوطئ وصارت
في عدة الوطئ حتى تضع، وهل تدخل فيها بقية عدة الطلاق؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تدخل لانهما لواحد فدخلت إحدهما في الاخرى، كما لو كانتا بالاقراء
(والثانى)
لا تدخل لانهما جنسان فلم تدخل إحداهما في الاخرى، فإن قلنا يتداخلان كانت في العدتين إلى أن تضع لان الحمل لا يتبعض، وله أن يراجعها إلى أن تضع، لانها في عدة الطلاق.
وان قلنا لا يتداخلان فإن لم ترد ما على الحمل أو رأت وقلنا انه ليس بحيض فهى معتدة بالحمل عن وطئ الشبهة إلى أن تضع، فإذا أتمت عدة الطلاق وله أن يراجعها في هذه البقية لانها في عدة الطلاق.
وهل له أن يراجعها قبل الوضع؟ فيه وجهان(18/191)
(أحدهما)
ليس له أن يراجعها لانها في عدة وطئ الشبهة
(والثانى)
له أن يراجعها لانها لم تكمل عدة الطلاق، فإذا رأت الدم على الحمل وقلنا انه حيض كانت عدتها من الوطئ بالحمل وعدتها من الطلاق بالاقراء التي على الحمل، لان عليها عدتين، إحداهما بالاقراء والاخرى بالحمل فجاز أن يجتمعا، فإذا مضت ثلاثة أقراء قبل وضع الحمل فقد انقضت عدة الطلاق، وان وضعت قبل انقضاء الاقراء فقد انقضت عدة الوطئ وعليها إتمام عدة الطلاق، فإذا راجعها في بقية عدة الطلاق صحت الرجعة، وان راجعها قبل الوضع ففي صحة الرجعة وجهان على ما ذكرناه.
فأما إذا كانت قد حبلت من الوطئ قبل الطلاق كانت عدة الطلاق بالحمل وعدة الوطئ بالاقراء.
فان قلنا إن عدة الاقراء تدخل في عدة الحمل كانت عدتها من الطلاق والوطئ بالحمل فإذا وضعت انقضت العدتان جميعا، وان قلنا لا تدخل عدة الاقراء في الحمل، فان كانت لا ترى الدم على الحمل أو تراه وقلنا انه ليس بحيض فان عدتها من الطلاق تنقضي بوضع الحمل وعليها استئنأف عدة الوطئ
بالاقراء.
وان كانت ترى الدم وقلنا انه حيض، فان سبق الوضع انقضت العدة الاولى وعليها إتمام العدة الثانية، فان سبق انقضاء الاقراء انقضت عدة الوطئ ولا تنقضي العدة الاولى الا بالوضع (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: أخبرنا مالك عن أبن شهاب عن سعيد ابن المسيب وسليمان أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفى فطلقها البتة فنكحت في عتدها، فضربها عمر بن الخطاب رضى الله عنه وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما، ثم قال عمر: أيما امرأة نكحت في عدتها فان كان الزوج الذي تزوج بها لم يدخل فرق بينهما ثم أعتدت بقية عدتها من زوجها الاول وكان خاطبا من الخطاب.
وان كان دخل بها فرق بينهما ثم أعتدت بقية عدتها من زوجها الاول، ثم أعتدت من زوجها الآخر ثم لم ينكحها أبدا قال الشافعي، قال سعيد ولها مهرها بما استحل منها، ثم قال: أخبرنا يحيى(18/192)
ابن حسان عن جرير عن عطاء بن السائب عن زاذان أبى عمر عن علي رضى الله عنه أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها وتكمل ما أفسدت من عدة الاول وتعتد من الآخر قال أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أخبرنا عطاء أن رجلا طلق امرأته فاعتدت منه حتى إذا بقي شئ من عدتها نكحها رجل في آخر عدتها جهلا ذلك وبنى بها، فأتى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنه في ذلك ففرق بينهما وأمرها أن تعتد ما بقى من عتدها الاولى ثم تعتد من هذا عدة مستقبلة، فإذا انقضت عدتها فهي بالخيار إن شاءت نكحت وإن شاءت فلا قال وبقول عمر وعلى نقول في المرأة تنكح في عدتها تأتى بعدتين معا، وبقول على نقول إنه يكون خاطبا من الخطاب ولم تحرم عليه، وذلك أنا إذا جعلنا النكاح
الفاسد يقوم مقام النكاح الصحيح في أن على المنكوحة نكاحا فاسدا إذا اصيبت عدة كعدتها في النكاح الصحيح فنكحت امرأه في عدتها فأصيبت فقد لزمتها عدة الزواج الصحيح ثم لزمها عدة من النكاح الفاسد فكان عليها حقان بسبب زوجين ولا يؤديهما عنها إلا بأن تأتى بهما معا.
وكذلك كل حقين لزماها من وجهين لا يؤديهما عن أحد لزماه أحدهما دون الآخر ولو أن امرأة طلقت أو ميت عنها فنكحت في عدتها ثم على ذلك فسخ نكاحها، فإن كان الزوج الآخر لم يصبها أكملت عدتها من الاول ولا يبطل عنها من عدتها شئ في الايام التي عقد عليها فيها النكاح الفاسد، لانها في عدتها ولم نصب، فإن أصابها أحصت ما مضى من عدتها قبل اصابة الزوج الآخر وأبطلت كل ما مضى منها بعد اصابته حتى يفرق بينه وبينها واستأنفت البنيان على عدتها التي كانت قبل اصابته من يوم فرق بينه وبينها حتى تكمل عدتها من الاول ثم تستأنف عدة أخرى من الآخر، فإذا أكملتها حلت منها والاخر خاطب من الخطاب إذا مضت عدتها من الاول: وبعد لا تحرم عليه لانه إذا كان يعقد عليها النكاح الفاسد فيكون خاطبا إذا لم يدخل بها، فلا يكون دخوله بها في النكاح الفاسد أكثر من زناه بها.
وهو لو زنى بها في العدة كان له أن ينحكها إذا انقضت(18/193)
عدتها من الاول فللآخر أن يخطبها في عدتها منه: وأحب إلى لو كف عنها حتى تنقضي عدتها من مائه الفاسد اه ولو كانت تحيض فاعتدت حيضة أو اثنتين ثم أصابها الزوج الاخر فحملت وفرق بينهما اعتدت بالحمل، فإذا وضعته لاقل من ستة أشهر من يوم نكحها فهو للاول.
وان كانت وضعته لستة أشهر من يوم نكحها الاخر فأكثر إلى أقل من أربع سنين من يوم فارقها الاول دعى له القافة.
وان كانت وضعته لاكثر من
أربع سنين ساعة من يوم فارقها الاول فكان طلاقه لا يملك الرجعة فهو للآخر وان كان طلاقه يملك الرجعة وتداعياه أو لم يتداعياه ولم ينكراه ولا واحد منهما أريه القافة فبأيهما ألحقوه به لحق، وان ألحقوه بالاول فقد انقضت عدتها من الاول وحل للآخر خطبتها، وتبتدئ عدة من الآخر، فإذا قضتها حلت خطبتها للاول وغيره، فان ألحقوه بالاخر فقد انقضت عدتها من الاخر وتبتدئ فتكمل على ما مضى من عدة الاول، وللاول عليها الرجعة في عدتها منه ان كان طلاقه يملك الرجعة وقد سبق لنا في فصول سابقة من كتاب العدد بيان أن أقصى مدة الحمل أربع سنين - وبه قال أحمد وهو المشهور عن مالك - وذكرنا الاوجه والاقوال في ذلك فارجع إليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
إذا خالع امرأته بعد الدخول فله أن يتزوجها في العدة.
وقال المزبى لا يجوز كما لا يجوز لغيره، وهذا خطأ لان نكاح غيره يؤدى إلى اختلاط الانساب ولا يوجد ذلك في نكاحه.
وان تزوجها انقطعت العدة.
وقال أبو العباس: لا تنقطع قبل أن يطأها، كما لا تنقطع إذا تزوجها أجنبي قبل أن يطأها - وهذا خطأ - لان المرأة تصير فراشا بالعقد، ولايجوز أن تبقى مع الفراش عدة، ولانه لا يجوز أن تكون زوجته وتعتد منه: ويخالف الأجنبي فان نكاحه في العدة فاسد فلم تصر فراشا الا بالوطئ، فان وطئها ثم طلقها لزمها عدة مستأنفة وتدخل فيها بقية الاولى.(18/194)
وإن طلقها قبل أن يطأها لم يلزمها استئناف عدة لانها مطلقة في نكاح قبل المسيس فلم تلزمها عدة كما لو نزوج امرأة وطلقها قبل الدخول، وعليها أن تتمم ما بقى
عليها من العدة الاولى، لانا لو أسقطنا البقية أدى ذلك إلى اختلاط المياه وفساد الانساب، لانه يتزوج امرأة ويطأها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر فيطأها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر، ويفعل مثل ذلك إلى أن يجتمع على وطئها في يوم واحد عشرون، وتختلط المياه وتفسد الانساب
(فصل)
إذا طلق امرأته بعد الدخول طلقة ثم راجعها نظرت، فإن وطئها بعد الرجعة ثم طلقها لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها بقية العدة الاولى، فان راجعها ثم طلقها قبل يطأها ففيه قولان
(أحدهما)
ترجع إلى العدة الاولى وتبنى عليها، كما لو خالعها ثم تزوجها في العدة ثم طلقها قبل أن يطأها
(والثانى)
أنها تستأنف العدة، وهو اختيار المزني، وهو الصحيح، لانه طلاق في نكاح وطئ فيه فأوجب عدة كاملة، كما لو لم يتقدمه طلاق ولا رجعة وتخالف المختلعة لان هناك عادة إليه بنكاح جديد ثم طلقها من غير وطئ، وههنا عادت إلى النكاح الذي طلقها فيه، فإذا طلقها استأنفت العدة، كما لو ارتدت بعد الدخول ثم أسلمت ثم طلقها وإن طلقها ثم مضى عليها قرء أو قرآن ثم طلقها من غير رجعة ففيه طريقان قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ بْنُ خيران رحمهما الله هي كالمسألة قبلها فتكون على قولين، وللشافعي رحمه الله ما يدل عليه، فإنه قال في تلك المسألة: ويلزم أن نقول ارتجع أو لم يرتجع سواء، والدليل عليه أن الطلاق معنى لو طرأ على الزوجية أوجب عدة، فإذا طرأ على الرجعية أوجب عدة كالوفاة في إيجاب عدة الوفاة.
وقال أبو إسحاق: تبنى على عدتها قولا واحدا لانهما طلاقان لم يتخللهما وطئ ولا رجعة فصار كما لو طلقها طلقتين في وقت واحد
(فصل)
وإن تزوج عبد أمة ودخل بها ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم أعتقت
الامة وفسخت النكاح ففيه طريقان(18/195)
(أحدهما)
أنها على قولين، أحدهما تستأنف العدة من حين الفسخ، والثانى لا تستأنف.
والطريق الثاني أنها تستأنف العدة من الفسخ قولا واحدا لان إحدى العدتين من طلاق والاخرى من فسخ فلا تبنى إحداهما على الاخرى.
(الشرح) إذا خالع الرجل أو فسخ نكاحه فله أن يتزوجها في عدتها في قول جمهور الفقهاء، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والزهرى والحسن وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأى: وشذ المزني وبعض أصحابنا فقال لا يجوز ولا يحل له نكاحها ولا خطبتها لانها معتدة ووجه كون هذا القول خطأ أن العدة لحفظ نسبه وصيانة مائه ولا يصان ماؤه عن مائه إذا كانا من نكاح صحيح، فإذا تزوجها انقطعت العدة، لان المرأة تصير فراشا له بعقده ولا يجوز أن تكون زوجة معتدة، فان وطئها ثم طلقها لزمتها عده مستأنفة، ولا شئ عليها من الاول لانها انقطعت وارتفعت.
وان طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف العدة أو تبنى على ما مضى؟ مذهبنا أنه لا يلزمها استئناف عدة، وبه قال محمد بن الحسن، وهو احدى الروايتين عن أحمد.
وقال أبو حنيفة " تستأنف " لانه طلاق لا يخلو من عدة، فأوجب عدة مستأنفة كالاول.
دليلنا أنه طلاق في نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة لعموم قوله تعالى " ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها " (فرع)
إذا طلقها طلاقا رجعيا ثم ارتجعها في عدتها ووطئها ثم طلقها انقطعت العدة الاولى برجعته، لانه زال حكم الطلاق وتستأنف عدة من الطلاق الثاني، لانه طلاق من نكاح اتصل به المسيس، وان طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف
عدة أو تبنى على العدة الاولى؟ فيه قولان ولاحمد روايتان كالقولين عندنا 1 - أن تستأنف لان الرجعة أزالت شعث الطلاق الاول وردتها إلى النكاح الاول، فصار الطلاق الثاني طلاقا من نكاح اتصل به المسيس 2 تبنى لان الرجعة لا تزيد على النكاح الجديد، ولو نكحها ثم طلقها قبل المسيس لم يلزمها لذلك الطلاق عدة فكذلك الرجعة، فان فسخ نكاحها(18/196)
قبل الرجعة بخلع أو غيره احتمل أن يكون حكمه حكم الطلاق، لان موجبه في العدة موجب الطلاق، وقد مضى في شرح الفصول قبله ما فيه من طرق وأوجه تداخل العدتين فلا داعى للتكرار
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا خلا الرجل بامرأته ثم اختلفا في الاصابة، فادعاه أحدهما وأنكر الآخر ففيه قولان.
قال في الجديد قول المنكر، لان الاصل عدم الاصابة.
وقال في القديم قول المدعى لان الخلوة تدل على الاصابة
(فصل)
وإن اختلفا في انقضاء العدة بالاقراء فادعت المرأة انقضاءها لزمان يمكن فيه انقضاء العدة وأنكر الزوج، فالقول قولها، وإن أختلفا في وضع ما تنقضي به العدة، فادعت المرأة أنها وضعت ما تنقضي به العدة وأنكر الزوج فالقول قولها لقوله عز وجل " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " فخرج النساء على كتمان ما في الارحام كما حرج الشهود على كتمان الشهادة فقال: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
ثم يجب قبول شهادة قول الشهود فوجب قبول قول النساء، ولان ذلك لا يعلم إلا من جهتها فوجب قبول قولها فيه كما يجب على التابعي قبول ما يخبره به الصحابي عن رسول الله صلى عليه وسلم حين لم يكن له سبيل إلى معرفته إلا من جهته.
وإن ادعت المرأة انقضاء العدة بالشهور وأنكر الزوج فالقول قوله، لان ذلك أختلاف في وقت الطلاق فكان القول فيه قوله.
(فصل)
وإن طلقها فقالت المرأة طلقني وقد بقى من الطهر ما يعتد به قرءا وقال الزوج طلقتك ولم يبق شئ من الطهر فالقول قول المرأة لان ذلك اختلاف قي وقت الحيض، وقد بينا أن القول في الحيض قولها.
(فصل)
وإن طلقها وولدت واتفقا على وقت الولادة واختلفا في وقت الطلاق، فقال الزوج طلقتك بعد الولادة فلى الرجعة، وقالت المرأة طلقتني قبل الولادة فلا رجعة لك فالقول قول الزوج، لانهما لو اختلفا في أصل الطلاق كان(18/197)
القول قوله فكذلك إذا اختلفا في وقته، ولان هذا اختلاف في قوله وهو أعلم به فرجع إليه.
وإن اتفقا في وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة، فقال الزوج ولدت قبل الطلاق فلى الرجعة، وقالت المرأة بل ولدت بعد الطلاق فلا رجعة لك فالقول قولها لانهما لو اختلفا في أصل الولادة كان القول قولها فكذلك إذا اختلفا في وقتها.
وان جهلا وقت الطلاق ووقت الولادة وتداعيا السبق فقال الرجل تأخر الطلاق وقالت المرأة تأخرت الولادة، فالقول قول الزوج لان الاصل وجوب العدة وبقاء الرجعة، فإن جهلا وقتهما، أو جهل السابق منهما لم يحكم بينهما لانهما لا يدعيان حقا.
وإن ادعت المرأة السبق وقال الزوج لا أعرف السابق قال له الحاكم ليس هذا بجواب، فإما أن تجيب جوابا صحيحا أو نجعلك ناكلا، فإن استفتى أفتيناه بما ذكرناه في المسألة قبلها، وأن للزوج الرجعة لان الاصل وجوب العدة وبقاء الرجعة، والورع أن لا يراجعها
(فصل)
فإن أذن لها في الخروج إلى بلد آخر ثم طلقها واختلفا، فقالت المرأة
نقلتني إلى البلد الآخر ففيه أعتد، وقال الزوج بل أذنت لك في الخروج لحاجة فعليك أن ترجعي فالقول قول الزوج لانه أعلم بقصده، وان مات واختلفت الزوجة والوارث فالقول قولها لانهما استويا في الجهل بقصد الزوج ومع الزوجة ظاهر، فان الامر بالخروج يقتضى خروجا من غير عود قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ: إذا اختلفا في الاصابة بعد الخلوة فالقول قول المدعى لان الخلوة تدل على الاصابة.
وقال في الجديد، قال الله تبارك وتعالى " إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها " فكان بينا في حكم الله عز وجل أن لا عدة على المطلقة قبل أن تمس، وأن المسيس هو الاصابة، ولم أعلم في هذا خلافا ثم اختلف بعض المفتين في المرأة يخلو بها زوجها فيغلق بابا ويرخى سترا وهى غير محرمة ولا صائمة، فقال ابن عباس وشريح وغيرهما لا عدة عليها الا بالاصابة نفسها، لان الله عز وجل هكذا قال(18/198)
أخبرنا مسلم عن أبن جريح عن ليس عن طاوس عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ولا يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق، لان الله عز وجل يقول " وإن طلتقموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم، قال الشافعي وبهذا أقول وهو ظاهر كتاب الله عز ذكره اه قلت، قال تعالى " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال عكرمة والزهرى والنخعي من الحيض.
وقال عمر وابن عباس الحمل، وقال مجاهد الحيض والحمل معا، وهذا على أن الحامل تحيض، والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العدة على الحيض والاطهار ولا اطلاع عليهما إلا من جهة النساء
جعل القول قولها إذا ادعت انقضاء العدة أو عدمها، وجعلهن مؤتمات على ذلك وهو مقتضى قوله تعالى " ولا يحل لهن أن يكتمن " الاية وقال سيلمان بن يسار: ولم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن، ولكن وكل ذلك اليهن إن كن مؤتمات.
ومعنى النهى عن الكتمان النهى عن الاضرار بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة حضت وهى لم تحض ذهت بحقه من الارتجاع.
وإذا قالت لم أحض وهى قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفى الحيض ألا ترتجع حتى تنقضي العدة ويقطع الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل لتقطع حقه من الارتجاع.
قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد، ففى ذلك نزلة الاية.
قال ابن المنذر: وقال كل من حفظت عنه من أهل العلم، إذا قالت المرأة في عشرة أيام قد حضت ثلاث حيض وانقضت عدتي إنها لاتصدق ولا يقبل ذلك منها إلا أن تقول قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه، واختلفوا في المدة التي تصدق بها المرأة.
فقال مالك " إذا قالت انقضت عدتي في أمد تنقضي في مثله العدة قبل قولها، فإن أخبرت بانقضاء العدة في مدة تقع نادرا فقولان، قال في المدونة إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر صدقت إذا صدقها النساء.
وبه قال شريح وقال له على بن أبي طالب " قالون " أي أصبت وأحسنت، وقال في كتاب(18/199)
محمد " لاتصدق إلا في شهر ونصف " ونحوه قول أبى ثور.
قال أبو ثور أقل ما يكون في ذلك سبعة وأربعين يوما، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يوما.
وأقل الحيض يوما وقال الشافعي لا تصدق في أقل من سنين يوما وقال به أبو حنيفة.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه " ولو طلق الرجل امرأته وولدت فلم تدر هي أوقع الطلاق عليها قبل ولادها أو بعده.
وقال هو وقع بعد ما ولدت فلى عليك الرجعة وكذبته، فالقول قوله وهو أحق بها، لان الرجعة حق له والخلو من العدة حق لها، فإذا لم تدع حقها فتكون أملك بنفسها لانه فيها دونه لم يزل حقه إنما يزول بأن تزعم هي أنه زال.
قال ولو لم يدر هو ولاهى أوقع الطلاق قبل الولاد أو بعده بأن كان عنها غائبا حين طلقها بناحية من مصرها أو خارج منه كانت عليها العدة، لان العدة تجب على المطلقة فلا نزيلها عنها إلا بيقين أن تأتى بها وكان الورع أن لا يرتجعها لانى لاأدرى لعلها قدحلت منه، ولو ارتجعها لم أمنعه لانه لا يجوز لى منعه رجعتها إلا بيقين أن قد حلت منه (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه، ولو قال لها اخرجي إلى مصر كذا أو موضع كذا فخرجت إليه، أو منزل كذا من مصر فخرجت إليه ولم يقل لها حجى ولا أقيمي ولا ترجعي منه ولا لاترجععى الا ان تشائى ولا تزورى فيه اهلك أو بعض معرفتك ولا تتنزهى إليه كانت هذه نقلة وعليها ان تعتد في ذلك الموضع من طلاقه ووفاته.
فإذا اختلفا فقالت نقلتني إلى البلد الآخر ففيه أعتد ونفى هو فعلى ما بينه المصنف.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(18/200)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب استبراء الامة وأم الولد)
من ملك أمة ببيع أو هبة أو ارث أو سبى أو غيرها من الاسباب لزمه أن يستبرئها لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عام أو طاس ان لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض حيضة.
فإن كانت حاملا استبرأها بوضع الحمل لحديث أبى سعيد الخدرى، وإن كانت حائلا نظرت فإن كانت مما تحيض استبرأها بقرء، وفي القرء قولان
(أحدهما)
أنه طهر لانه استبراء فكان القرء فيه الطهر كالعدة
(والثانى)
أن القرء حيض، وهو الصحيح، لحديث أبى سعيد، ولان براءة الرحم لا تحصل إلا بالحيض - فإن قلنا إن القرء هو الطهر - فإن كانت عند وجوب الاستبراء طاهرا كانت بقية الطهر قرءا، فإن طعنت في الحيض لم تحل حتى تحيض حيضة كاملة ليعلم براءة رحمها، فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن كانت حائضا لم تشرع في القرء حتى تطهر، فإذا طعنت في الحيض الثاني حلت.
وإن قلنا إن القرء هو الحيض، فإن كانت حال وجوب الاستبراء طاهرا لم تشرع في القرء حتى تحيض، فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت، وان كانت حائضا لم تشرع في القرء إلا في الحيضة الثانية لان بقية الحيض لاتعد قرءا فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت.
وإن وجب الاستبراء وهى ممن تحيض فارتفعت حيضتها كان حكمها في الانتظار حكم المطلقة إذا ارتفع حيضها، وإن وجب الاستبراء وهي ممن لا تحيض لصغر أو كبر ففيه قولان
(أحدهما)
تستبرأ بشهر لان كل شهر في مقابلة قرء
(والثانى)
تستبرأ بثلاثة أشهر - وهو الصحيح - لان ما دونها لم يجعل دليلا على براءة الرحم.
(فصل)
وإن ملكها وهى مجوسية أو مرتدة أو معتدة أو ذات زوج لم يصح استبراؤها في هذه الاحوال، لان الاستبراء يراد للاستباحة ولا توجد(18/201)
الاستباحة في هذه الاحوال، وان اشتراها فوضعت في مدة الخيار أو حاضت في مدة الخيار، فإن قلنا انها لا تملك قبل انقضاء الخيار لم يعتد بذلك عن الاستبراء
لانه استبراء قبل الملك، وإن قلنا إنها تملك ففيه وجهان، أحدهما لا يعتد به لان الملك غير تام لانه معرض للفسخ
(والثانى)
يعتد به لانه استبراء بعد الملك وجواز الفسخ لايمنع الاستبراء، كما لو استبرأها وبها عيب لم يعلم به، وان ملكها بالبيع أو الوصية فوضعت أو حاضت قبل القبض ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يعتد به لان الملك غير تام
(والثانى)
يعتد به لانه استبراء بعد الملك، وللشافعي رحمه الله ما يدل على كل واحد من الوجهين، وإن ملكها بالارث صح الاستبراء وان لم تقبص لان الموروث قبل القبض كالمقبوض في تمام الملك وجواز التصرف
(فصل)
وإن ملك أمة وهى زوجته لم يجب الاستبراء لان الاستبراء لبراءة الرحم من ماء غيره والمستحب أن يستبرئها لان الولد من النكاح مملوك ومن ملك اليمين حر فاستحب أن يميز بينهما
(فصل)
وان كانت أمته ثم رجعت إليه بالفسخ، أو باعها ثم رجعت إليه بالاقالة لزمه أن يستبرئها لانه زال ملكه عن استمتاعها بالعقد وعاد بالفسخ فصار كما لو باعها ثم استبرأها، فإن رهنها ثم فكها لم يجب الاستبراء لان بالرهن لم يزل ملكه عن استمتاعها لان له أن يقبلها وينظر إليها بالشهوة.
وإنما منع من وطئها لحق المرتهن وقد زال حقه بالفكاك فحلت له.
وان ارتد المولى ثم أسلم أو ارتدت الامة ثم أسلمت وجب استبراؤها لانه زال ملكه عن استمتاعها بالردة وعاد بالاسلام.
وإن زوجها ثم طلقت، فإن كان قبل الدخول لم تحل له حتى يستبرئها، لانه زال ملكه عن استمتاعها وعاد بالطلاق، وان كان بعد الدخول وانقضاء العدة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تحل له حتى يستبرئها لانه تجدد له الملك على استمتاعها فوجب استبراؤها، كما لو باعها ثم اشتراها
(والثانى)
تحل له وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لان الاستبراء يراد لبراءة الرحم وقد حصل ذلك بالعدة
(فصل)
ومن وجب استبراؤها حرم وطؤها، وهل يحرم التلذذ بها بالنظر والقبلة؟ ينظر فيه فإن ملكها ممن له حرمة لم يحل له، لانه لا يؤمن أن تكون(18/202)
أم ولد لمن ملكها من جهته، وان ملكها ممن لاحرمة له كالمسبية ففيه وجهان.
أحدهما لا تحل له لان من حرم وطئها بحكم الاستبراء حرم التلذذ بها، كما لو ملكها ممن له حرمة.
والثانى أنها تحل لما روى عن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال " خرجت في سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها ابريق فضة، فما ملكت نفسي أن قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون " ولان المسبية يملكها حاملا كانت أو حائلا فلا يكون التلذذ بها الا في ملكه، وانما منع من وطئها حتى لا يختلط ماؤه بماء مشرك، ولا يوجد هذا في التلذذ بالنظر والقبلة، وان وطئت زوجته بشبهة لم يحل له وطؤها قبل انقضاء العدة لانه يؤدى إلى اختلاط المياه وافساد النسب وهل له التلذذ بها في غير الوطئ على ما ذكرناه من الوجهين في المسبية لانها زوجته حاملا كانت أو حائلا
(فصل)
ومن ملك أمة جاز له بيعها قبل الاستبراء لانا قد دللنا على أنه يجب على المشترى الاستبراء فلم يجب على البائع لان براءة الرحم تحصل باستبراء المشترى، وان أراد تزويجها نظرت فإن لم يكن وطئها جاز تزويجها من غير استبراء لانها لم تصر فراشا له، وان وطئها لم يجز تزويجها قبل الاستبراء لانها صارت بالوطئ فراشا له.
(فصل)
وان أعتق أم ولده في حياته أو عتقت بموته لزمها الاستبراء لانها صارت بالوطئ فراشا له وتستبرأ كما تستبرأ المسبية لانه استبراء بحكم اليمين فصار كاستبراء المسبية، وان أعتقها أو مات عنها وهي مزوجة أو معتدة لم يلزمها الاستبراء لانه زال فراشه قبل وجوب الاستبراء فلم يلزمها الاستبراء، كما لو
طلق امرأته قبل الدخول ثم مات، ولانها صارت فراشا لغيره فلا يلزمها لاجله استبراء.
وان زوجها ثم مات ومات الزوج ولم يعلم السابق منهما لم يخل اما أن يكون بين موتهما شهران وخمسة أيام فما دون أو أكثر أو لا يعلم مقدار ما بينهما فإن كان بينهما شهران وخمسة أيام فما دون لم يلزمها الاستبراء عن المولى لانه ان كان المولى مات أولا فقد مات وهي زوجة فلا يجب عليها الاستبراء، وان مات الزوج أولا فقد مات المولى بعده وهى معتدة من الزوج فلا يلزمها الاستبراء وعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد موت أحدهما لانه يجوز أن يكون(18/203)
قد مات المولى أولا فعتقت ثم مات الزوج فيلزمها عدة حرة، وان كان بين موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال لزمها أن تعتد من بعد آخرهما موتا بأكثر الامرين من أربعة أشهر وعشر أو حيضة، لانه ان مات الزوج أولا فقد اعتدت عنه بشهرين وخمسة أيام وعادت فراشا للمولى، فإذا مات لزمها أن تستبرئ بحيضة، وان مات المولى أولا لم يلزمها استبراء فإذا مات الزوج لزمتها عدة حرة فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين، وان لم يعلم قدر مابين المدتين من الزمان وجب أن تأخذ بأغلط الحالين، وهو أن يكون بينهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فتعتد بأربعة أشهر وعشر أو حيضة ليسقط الفرض بيقين كما يلزم من نسى صلاة من صلاتين قضاء الصلاتين ليسقط الفرض بيقين ولا يوقف لها شئ من تركة الزوج لان الاصل فيها الرق فلم تورث مع الشك
(فصل)
وان كانت بين رجلين جارية فوطئاها ففيها وجهان، أحدهما يجب استبراء ان لانه يجب لحقهما فلم يدخل أحدهما في الآخر كالعدتين.
والثانى يجب استبراء واحد، لان القصد من الاستبراء معرفة براءة الرحم، ولهذا لا يجب الاستبراء بأكثر من حيضة وبراءة الرحم منهما تحصل باستبراء واحد
(فصل)
إذا استبرأ أمته ثم ظهر بها حمل فقال البائع هو منى وصدقه المشترى لحقه الولد والجارية أم ولد له والبيع باطل، وان كذبه المشترى نظرت، فإن لم يكن أقر بالوطئ حال البيع لم يقبل قوله لان الملك انتقل إلى المشترى في الظاهر فلم يقبل اقراره بما يبطل حقه، كما لو باعه عبدا ثم أقر أنه كان غصبه أو أعتقه.
هل يلحقه نسب الولد؟ فيه قولان قال في القديم والاملاء يلحقه لانه يجوز أن يكون ابنا لواحد ومملوكا لغيره وقال في البويطى لايلحقه لان فيه اضرارا بالمشترى لانه قد يعتقه فيثبت له عليه الولاء، وإذا كان ابنا لغيره لم يرثه، فإن كان قد أقر بوطئها عند البيع، فإن كان قد استبرأها ثم باعها نظرت فإن أتت بولد لدون ستة أشهر لحقه نسبه وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا، وان ولدته لستة أشهر فصاعدا لم يلحقه الولد، لانه لو استبرأها ثم أتت بولد وهي في ملكه لم يلحقه، فلان لايلحقه وهى في ملك غيره أولى، فإن لم يكن المشترى قد وطئها كنت الجارية(18/204)
والولد مملوكين له، وإن كان قد وطئها، فإن أتت بولد لدون ستة أشهر من حين لوطئ فهو كما لو لم يطأها، لانه لا يجوز أن يكون منه وتكون الجارية والولد مملوكين له، وإن أتت بولد لستة أشهر فصاعدا لحقه الولد وصارت الجارية أم ولد له لان الظاهر أنه منه، وإن لم يكن استبرأها البائع نظرت فإن ولدت لدون ستة أشهر من وقت البيع لحق البائع وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا، وإن ولدته لستة أشهر نظرت فإن لم يكن وطئها المشترى فهو كالقسم قبله لانها لم تصر فراشا له، وإن وطئها فولدت لستة أشهر من وطئه عرض الولد على القافة فإن ألحقته بالبائع لحق، به وإن ألحقته بالمشترى لحقه، وقد بينا معكم الجميع (الشرح) حديث أبى سعيد الخدرى أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم
وصححه وإسناده حسن، وهو عند الدارقطني من حديث ابن عباس وأعل بالارسال، وعند الطبراني من حديث أبى هريرة بإسناد ضعيف وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أتى على امرأة مجح على باب فسطاط فقال: لعله يريد أن يلم بها؟ فقالوا نعم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، وكيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له.
وفي مسند أبى داود الطيالسي: وقال " كيف يورثه وهو لا يحل له، وكيف يسترقه وهو لا يحل له " والمجح هي الحامل المقرب وأخرج ابن أبى شيبة من حديث على مرفوعا " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " وفي إسناده ضعف وانقطاع.
قوله " عام أو طاس " هو واد في ديار هوازن.
قال القاضى عياض: وهو موضع الحرب بحنين، وهو ظاهر كلام أصحاب السير.
قال الحافظ بن حجر: والظاهر أن وادى أوطاس غير وادى حنين (أما بعد:) هذا الباب من مفاخر الاسلام، الدالة على أعظم الحكم، وأسمى ضروب التربية على أكرم الفضائل وأطهر المثل، ذلك أن جيش الاسلام حين يظفرون(18/205)
بعدوهم فيقع في أسرهم النساء على اختلاف ألوانهن، من عذارى كواعب، إلى فنصف بضة تثير شبق الرجال، والرجل المسلم المقاتل قد بعد موضعه عن موطن أهله، وهو في فتوته وشدة بأسه بالمحل الذي يضاعف من شبقه وشهوته، تأتى الشريعة الغراء فنقول له: قف مكانك لاتقرب هذه السبية ولاتنزع عليها وتربص بها حيضة إن كانت حائلا، أو وضعا ان كانت حاملا.
إن لذلك من
الاثر البعيد في تهذيب النفوس وتنمية الارادة وتزكية السلوك المسلم ما يضفى على هذا الركب الورانى الذى يسمى بالجيش الفاتح من الجلال والروعة ما جعل الاسلام يسبقهم بنوره، فتنفتح بهم قلوب غلف.
وأعين عمى.
وآذان صم.
حتى لقد كسدت في أسواقهم تلك الاجساد النسائية المسبية.
وفي هذه الصورة يقول المتنبي في نساء الروم: يبكى عليهن البطاريق في الضحى وهن لدينا ملقيات كواسد بذا قضت الايام مابين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد ثم إن هذه المسبية على ضعفها وعزلائيتها وتجردها قد أحاطها الاسلام بدرعه المنيع وحمايتها من أن تسلب حرية العقدة فلم يبح إكراهها على الاسلام إن أرادت البقاء على دينها قال الامام الشوكاني: ولا يشترط في جواز وطئ المسبية الاسلام، ولو كان شرطا لبينه صلى الله عليه وسلم - ولم يبينه - ولايجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وذلك وقتها، ولا سيما وفي المسلمين يوم حنين وغيره من هو حديث عهد بالاسلام يخفى عليهم مثل هذا الحكم.
وتجويز حصول الاسلام من جميع السبايا وهي في غاية الكثرة بعيد جدا، فإن إسلام مثل عدد المسبيات في أوطاس دفعة واحدة من غير إكراه لا يقول بأنه يصح تجويزه عاقل.(18/206)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الرضاع
إذا ثار للمرأة لبن على ولد فارتضع منها طفل له دون الحولين خمس رضعات متفرقات صار الطفل ولدا لها في حكمين: في تحريم النكاح، وفي جواز الخلوة وأولاد أولادها، وصارت المرأة أما له وأمهاتها جداته، وآباؤها أجداده،
وأولادها أخوته وأخواته، وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته.
وإن كان الولد ثابت النسب من رجل صار الطفل ولداله وأولاده أولاده، وصار الرجل أبا له، وآباؤه أجداده وأمهاته جناته وأولاده اخوته واخوته وأخوانه أعمامه وعماته والدليل عليه قوله تعالى " وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة، فنص على الامهات والاخوات، فدل على ما سواه وروى ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة بن عبد المطلب فقال انها ابنة أخى من الرضاعة، وانه يحرم من الرضاع مثل ما يحرم من النسب " وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة " وروت عائشة رضى الله عنها " أن أفلح أخا أبى القعيس أستأذن عليها فأبت أن تأذن له، فذكرت ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أفلا أذنت لعمك؟ فقالت يارسول الله انما أرضعتني المرأة ولم يرضعنى الرجل، قال فاءذنى له فإنه عمك.
وكان أبوالقعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضى الله عنها " ولان اللبن حدث للولد، والولد ولدهما، فكان المرضع باللبن ولدهما.
(فصل)
وتنتشر حرمة الرضاع من الولد إلى أولاده وأولاد أولاده.
ذكورا كانوا أو اناثا.
ولا تنتشر إلى أمهاته وآبائه واخوته وأخواته.
ولا يحرم على المرضعة أن تتزوج بأبى الطفل ولا بأخيه.
ولا يحرم على زوج المرضعة الذي ثار اللبن على ولده أن يتزوج بأم الطفل ولا بأخته، لقوله صلى الله عليه وسلم(18/207)
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وحرمة النسب في الولد تنتشر إلى أولاده ولا تنتشر إلى أمهاته وآبائه، ولا إلى اخوته وأخواته فكذلك الرضاع.
(الشرح) قوله تعالى في سورة النساء " وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة " قرأ عبد الله " اللائى " بغير تاء، كقوله تعالى " واللائى يئسن من المحيض " أما حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أريد على ابنة حمزة فقال انها لا تحل لى.
انها ابنة أخى من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم " وفي لفظ " من النسب " أخرجه أحمد والبخاري ومسلم.
وحديث عائشة أخرجه أحمد والشيخان واصحاب السنن الاربعة والدارقطني.
أما حديث عائشة فأخرجه البخاري في الشهادات عن محمد بن أبي كثير وعن آدم.
وفي النكاح عن أبى الوليد ومسلم في النكاح عن هناد.
وعن عبد الله بن معاذ وعن قتببة والحلواني ومحمد بن رافع وابو داود فيه عن حفص بن عمرو عن محمد بن كثير والنسائي فيه عن هناد وعن قتيبة والربع بن سليمان واسحاق بن ابراهيم.
وأخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبى شيبة.
أما اللغات فالرضاع بكسر الراء وفتحها والرضاعة بالفتح لاغير.
وحكى المروى الكسر فيها أيضا - أفاده بن بطال - أما الفعل رضع فهو من تعب في لغة نجد ورضع رضعا من باب ضرب لغة لاهل تهامة.
وأهل مكة يتكلمون بها وبعضهم يقول أصل المصدر من هذه اللغة كسر الضاد.
وانما السكون تخفيف مثل الحلف والحلئف.
ورضع يرضع بفتحتين لغة ثالثة رضاعا.
ورضاعة بفتح الراء.
وأرضعته أمه فارتضع فهى مرضع ومرضعة أيضا.
وقال الفراء وجماعة ان قصد حقيقة الوصف بالارضاع فمرضع بغير هاء.
وان قصد مجاز الوصف بمعنى انها محل الارضاع فيما كان أو سيكون فبالهاء وعليه قوله تعالى " تذهل كل مرضعة عما ارضعت " ونساء مراضع ومراضيع.
وراضعته مراضعة ورضاعا.
ورضاعة بالكسر وهو رضيعى.
والراضعتان الثنيتان اللتان يشرب عليهما اللبن.
ويقال الراضعة الثنية إذا سقطت والجمع الرواضع.(18/208)
قال أبو زيد.
الراضعة كل من سن سقطت من مقادمه.
ويقال لؤم ورضع على الازدواج، وذلك إذا مص من الخلف مخافة أن يعلم به أحد إذا حلب فيطلب منه شيئا فهو راضع، ولو أفرد قيل رضع مثل تعب أو ضرب والجمع رضع قوله " أريد على ابنة حمزة " أي طلب وأصله من راد يرود إذا طلب المرعى وفي الخبر " ان الرائد لا يكذب أهله " وفي حديث " فليرتد لبوله " ومنه قوله " أنا راودته عن نفسه " والذي أراد مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يتزوجها هو علي رضى الله عنه كما في صحيح مسلم، وقد اختلف في اسم ابنة حمزة.
أمامة وسلمى وفاطمة وعائشة وأمة الله وعمارة ويعلى، وانما كانت ابنة أخى النبي صلى الله عليه لانه صلى الله عليه وسلم رضع من ثوبية وقد كان أرضعت حمزة.
وأفلح قال الشوكاني هو مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وليس بصحيح إذ أن افلح مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابن منده اراده هو الذى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ترب وجهك " قال ابن الاثير في اسد الغابة.
روى له أبو نعيم حديث ام سلمة قالت " رأى النبي صلى الله عليه وسلم علاما لنا يقال له افلح ينفخ إذا سجد، فقال له " ترب وجهك " وروى حبيب المكى عن أفلح مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال " اخاف على امتى من بعدى ضلالة الاهواء واتباع الشهوات والغفلة بعد المعرفة، اخرجه ثلاثتهم - يعنى ابن منده وأبا نعيم وابا عمر بن عبد البر - قلت واسم افلح هذا رباح.
اما افلح بن ابى القعيس أو أبو القعيس وقيل أخو أبى القعيس فقال ابن الاثير (1) صاحب الاصابة أخبرنا أبو المكارم فتيان الجوهرى بإسناده عن القعنبى عن مالك عن ابن شهاب
__________
(1) ابناء الاثير ثلاثة اخوة، الاكبر وهو مجد الدين أبو السعادات المبارك
ابن محمد صاحب النهاية في غريب الحديث واوسطهم عز الدين ابو الحسن صاحب اسد الغاية والكامل في التاريخ.
واصغرهم هو ضياء الدين ابو الفتح نصر الله صاحب " المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر " وكان احد وزراء الملك الافضل ابن صلاح الدين الايوبي.(18/209)
عن عروة عن عائشة وساق الحديث وقال.
ورواه سفيان بن عبينة ومعمر عن الزهري نحوه.
ورواه ابن نمير وحماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه فقال " إن أخا أبى القعيس، وكذلك رواه عطاء عن عروة، ورواه عباد بن منصور عن القاسم بن محمد قال، حدثنا أبوالقعيس أنه جاء إلى عائشة رضى الله عنها فذكر نحوه، والصحيح أنه أخو أبى القعيس أما الاحكام فإنه لا يقتضى التحريم من الرضاع إلا خمس رضعات معلومات والرضاع المقتضى للتحريم هو الواصل إلى الجوف مع الاشباع، فإذا أرضعت المرأة طفلا حرمت عليه لانها أمه، وبنتها لانها أخته، وأختها لانها خالته وأمها لانها جدته وبنت زوجها صاحب اللبن لانها أخته، وأخته لانها عمته وأمه لانها جدته وبنات بنيها وبناتها لانهن بنات إخوته وأخواته، ويشترط في الارضاع شرطان
(أحدهما)
خمس رضعات لحديث عائشة الذي سيأتي.
وفي حديث سهلة " أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن " الشرط الثاني أن يكون في الحولين، فإن كان خارجها عنهما لم يحرم كما سيأتي.
وقد استدل بقوله تعالى " وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم " من نفى لبن الفحل، وهو سعيد بن المسيب وابراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
وقالوا لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجل وقال الجمهور.
قوله تعالى " وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم " يدل على أن الفحل
أنب، لان اللبن منسوب إليه: فإنه در بسبب ولده - وهذا ضعيف - فإن الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا.
واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل وما كان من الرجل الاوطئ هو سبب لنزول الماء منه، وإذا فضل الولد خلق الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى الرجل بوجه ما.
ولذلك لم يكن الرجل حق في اللبن وإنما اللبن لها فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " يقتضى التحريم من الرضاع ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه والرضاع منها.
نعم.
الاصل فيه حد " أن أفلح أخا القيس جاء يستأذن عليها وهو عمها(18/210)
من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب قالت فأبست أن آذن له فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته فقال ليلج عليه فإنه عمك تربت يمينك " وكان أبوى القعيس زوج المرأة التى أرضعت عائشة رضى الله عنها قال القرطبى وهذا خبر واحد.
ويحتمل أن يكون أفلح مع أبى بكر رضيعى لبان فلذلك قال ليلج عليك عمك.
وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله ولكن العمل عليه.
والاحتياط في التحريم أولى مع أن قول الله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلك " يقوى قول المخالف اه وقوله تعالى " وأخواتكم من الرضاعة " وهي الاخت لاب وأم.
وهى التي أرضعتها أمك بلبان أبيك.
سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدك.
والاخت من الاب دون الام.
وهى التى أرضعتها زوجة أبيك.
والاخت من الام دون الاب وهى التى أرضعتها أمك بلبان رجل آخر، ثم ذكر التحريم بالمصاهرة فقال " وأمهات نسائكم " والصهر أربع: أم المرأة وابنتها وزوجة
الاب وزوجة الابن.
فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها إذا تقرر هذا فإن تحريم الام والاخت ثبت بنص الكتاب.
وتحريم البنت ثبت بالتنبيه.
فإنه إذا حرمت الاخت فالبنت أولى وسائر المحرمات ثبت تحريمهن بالسنة.
وتثبت المحرمية لانها فرع على التحريم إذا كان بسبب مباح
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يثبت تحريم الرضاع فيما يرتضع بعد الحولين لقوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة) فجعل تمام الرضاع في الحولين فدل على أنه لاحكم للرضاع بعد الحولين.
وروى يحى بن سعيد أن رجلا قال لابي موسى الاشعري " انى مصصت من ثدى امرأتي لبنا فذهب في بطني.
قال أبو موسى لا أراه إلا قد حرمت عليك.
فقال عبد الله بن مسعود: انظر ما تفتى به الرجل.
فقال أبو موسى فما تقول أنت فقال عبد الله: لارضاع إلا ما كان في الحولين.
قال أبو موسى لا تسألونى عن شئ مادام هذا الحبر بين أظهركم " وعن ابن عباس رضى الله عنه قال: لا رضاع إلا ماكان في الحولين(18/211)
(الشرح) انتزع الفقهاء من قوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) أن الرضاعة المحرمة - بكسر الراء المشددة - الجارية مجرى النسب إنما هن ماكان في الحولين، لانه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة.
وهو قول عمر وابن عباس.
وروى عن ابن مسعود كما حكاه المصنف.
وبه قال الزهري وقتادة والشعبى وسفيان الثوري ومالك وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وابن شبرمة وروى ابن عبد الحكم عن مالك: ان زاد شهرا جاز وروى شهران.
وقال
أبو حنيفة: يحرم الرضاع في ثلاثين شهرا، لقوله تعالى " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " ولم يرد بالحمل حمل الاحشاء، لانه يكون سنتين، فعلم أنه أراد الحمل في الفصال.
وقال زفر: مدة الرضاع ثلاث سنين، وكانت عائشة ترى رضاعة الكبيرة تحرم.
ويروى هذا عن عطاء والليث وداود لما روى أن سهلة بنت سهيل قالت " يارسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا فكان يأوى معى ومع أبى حذيفة في بيت واحد ويرانى فضلا.
وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرضعيه، فأرضعته خمس رضعات فكانت بمنزلة ولدها فبذلك كانت عائشة تأخذ بنات أخواتها وبنات إخواتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها - وان كان كبير خمس رضعات - وأبت ذلك أم سلمة وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدخل عليهن بتك الرضاعة حتى يكون قد وضع في المهد.
وقلن لعائشة والله ما ندرى لعلها رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس.
رواه أبو داود والنسائي دليلنا قوله تعالى " والولدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " فجعل تمام الرضاعة حولين فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما وعن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها وعندها رجل، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله إنه أخى من الرضاعة، فقال صلى الله عليه وسلم: انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة، متفق عليه.
وعن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يحرم من الرضاع(18/212)
إلا ما فتق الامعاء وكان قبل الفطام أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعند هذا يتعين حمل خبر أبى حذيفة على أنه خاص له دون غيره من الناس كما قال
سائر أزواجه صلى الله عليه وسلم قال ابن قدامة: وقول أبى حنيفة تحكم يخالف ظاهر الكتاب وقول الصحابة فقد روينا عن على وابن عباس أن المراد بالحمل حمل البطن، وبه استدل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وقد دل على هذا قول الله تعالى " وفصاله في عامين " فلو حمل على ماقاله أبو حنيفة لكان مخالفا لهذه الآية قال عبد الرزاق عن الثوري: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبى حصين عن أبى عطية الوادعى قال: جاء رجل إلى أبى موسى فقال " ان امرأتي ورم ثديها فمصصته فدخل حلقى شئ وسبقني؟ فشدد عليه أبو موسى فأتى عبد الله بن مسعود فقال سألت أحدا غيرى؟ قال نعم أبا موسى فشدد على، فأتى أبا موسى فقال، أرضيع هذا؟ فقال أبو موسى لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم إذا ثبت هذا فالاعتبار بالعامين لا بالفطام، فلو فطم قبل الحولين ثم ارتضع فيها لحصل التحريم، ولو لم يفطم حتى تجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل الفطام لم يثبت التحريم.
وقال ابن القاسم صاحب مالك " لو ارتضع بعد الفطام في الحولين لم تحرم عليه لقوله صلى الله عليه وسلم " وكان قبل الفطام " ويرد عليه قوله تعالى " والولدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " وقوله صلى الله عليه وسلم " لارضاع إلى ما كان في الحولين " والفطام معتبر بمدته لا بنفسه وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لارضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام " رواه الطيالسي في مسنده
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ولا يثبت تحريم الرضاع بما دون خمس رضعات، وقال أبو ثور يثبت بثلاث رضعات لما روت أم الفضل رضى الله عنها أن رسول الله (ص)(18/213)
قال " لا تحرم الا ملاجة ولا الا ملاجتان " فدل على أن الثلاث يحرمن، والدليل على أنه لا يحرم ما دون خمس الرضعات ماروت عائشة رضى الله عنها قالت " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن، وحديث أم الفضل يدل على أن الثلاث يحرمن من جهة دليل الخطاب، والنص يقدم على دليل الخطاب، وهو مارويناه، ولا يثبت إلا بخمس رضعات متفرقات، لان الشرع ورد بها مطلقا، فحمل على العرف، والعرف في الرضعات أن يرتضع ثم يقطعه باختياره من غير عارض ثم يعود إليه بعد زمان ثم يرتضع ثم يقطعه، وعلى هذا إلى أن يستوفي العدد، كما أن العاده في الاكلات أن تكون متفرقة في أوقات.
فأما إذا قطع الرضاع لضيق نفس أو لشئ يلهيه ثم رجع إليه أو انتقل من ثدى إلى ثدى كان الجميع رضعة، كما أن الاكل إذا قطعه لضيق نفس أو شرب ماء أو لانتقال من لون إلى لون كان الجميع أكلة، فإن قطعت المرضعة عليه ففيه وجهان
(أحدهما)
أن ذلك ليس برضعة، لانه قطع عليه بغير اختياره
(والثانى)
أنه رضعة، لان الرضاع يصح بكل واحد منهما.
ولهذا لو أوجرته وهو نائم ثبت التحريم كما يثبت إذا ارتضع منها وهى نائمة، فإذا تمت الرضعة بقطعه وجب أن تتم بقطعها.
فإن أرضعته امرأة أربع رضعات، ثم أرضعته أمرأة أخرى أربع رضعات ثم عاد إلى الاولى فارتضع منها وقطع، وعاد إلى الاخرى في الحال فارتضع منها ففيه وجهان:
(أحدهما)
لايتم عدد الخمس من واحدة منهما، لانه انتقل من إحدهما إلى الاخرى قبل تمام الرضعة فلم تكن كل واحدة منهما رضعة، كما لو انتقل من ثدى
إلى ثدى
(والثانى)
يتم العدد من كل واحدة منهما، لان الرضعة أن يرتضع القليل والكثير ثم يقطع ولا يعود إلى بعد زمان طويل، وقد وجد ذلك (الشرح) حديث أم الفضل " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أتحرم المصة؟ فقال لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان " وفي رواية " دخل(18/214)
أعرابي على نبي اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بيتى فقال يا نبي الله إني كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى فزعمت امرأتي الاولى أنها أرضعت الحدثى رضعة أو رضعتين، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تحرم الا ملاجة ولا الاملاجتان " أخرجه مسلم في النكاح عن يحيى بين يحيى وعمر والناقد وإسحاق بن ابراهيم.
وعن أبى بكر وعن أبى غسان المسمعى وعن أحمد بن سعيد الدارمي والنسائي في النكاح عن عبد الله بن الصباح وابن ماجه في النكاح عن أبى بكر بن أبى شيبة.
أما حديث عائشة قالت " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس " وفي رواية " الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " أخرجه البخاري في الشهادة.
وفي الخمس عن عبد الله بن يوسف، وفي النكاح عن اسماعيل، وأخرجه مسلم في النكاح عن يحيى بن يحيى.
وعنه القعنبى وعن أبى كريب وعن أبى معمر وأخرجه أبو داود في النكاح عن القعنبى وأخرجه الترمذي في الرضاع عن اسحاق بن موسى وعن محمد بن بشار وأخرجه النسائي في النكاح عن هرون بن عبد الله، وعن محمد بن عبيد الله، وعن عبيد الله بن سعيد، وعن عبد الوراث بن عبد الصمد أما اللغات فقوله " الاملاجة ولا الاملاجتان " وهو الزائد المهموز للفعل المجرد الثلاثي ملج، يقال ملج الصبى أمه ملجا من باب نصر وقتل وملج يملج من باب تعب لغة فيه أي رضعها، ويتعدى بالهمزة فيقال أملجته أمه، والمرة
من الثلاثي ملجة ومن الرباعي إملاجة، مثل الاكرامة والاخراجة ونحو ذلك وامتلج الفصيل ما في الضرع.
وقوله " ياوجور " وهو بفتح الواو وزان رسول الدواء يصب في الحلق وأجرت المريض إيجارا فعلت به ذلك، ووجرته أجره من باب وعد، وقال ابن بطال في شرح غريب المهدب " الوجور بضم الواو وبفتح الدواء نفسه " واللدود إدخال الدواء في شق الفم وجانبيه، والسعوط ادخاله في الانف والحقنة في الدبر.
وقوله " معلومات " فيه إشارة إلى أنه لا يثبت حكم الرضاع إلا بعد العلم بعدد الرضعات، وأنه لا يكفي الظن بل يرجع معه ومع الشك إلى الاصل وهو العدم.(18/215)
قوله " وهن فيما يقرأ " فيه إشارة إلى أنه تأخر إنزال الخمس الرضعات، فتوفى صلى الله عليه وسلم وهن قرآن يقرأ.
أما الاحكام فقد استدل بحديث عائشة على أن التحريم لا يتحقق إلا بخمس رضعات فما فوقها معلومات، والرضعة هي المرة، فمتى التقم الصبى الثدى فامتص منه ثم تركه باختياره لغير عارض كان ذلك رضعة فالرضعة الواحدة والرضعتان والثلاث والاربع، وقد استدل بحديث " لا تحرم المصة ولا المصتان " على أن الثلاث محرمة.
وهذا الاستدلال مأخوذ من دلالة مفهوم الخطاب، وهو مذهب زيد بن ثابت وأبى ثور وابن المنذر وأبى عبيدة وداود بن على وأحمد في رواية عنه، ولكن يعارض هذا المفهوم القاضى بأن ما فوق الاثنتين يقتضى التحريم ما ثبت من أن الرضاع المقتضى للتحريم خمس رضعات، وهو قول ابن مسعود وعائشة وعبد الله بن الزبير وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير والليث بن سعد وأحمد في ظاهر مذهبه وإسحاق وابن حزم وجماعة من أهل العلم
قال الشوكاني: وقد روى هذا المذهب عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
وحكى ابن القيم عن الليث بن سعد أنه لا يحرم إلا خمس رضعات.
وقد اعترض القائلون بقول أبى ثور الذي حكاه المصنف هنا باعتراضات، منها أن الحديث متضمن كون الخمس الرضعات قرآنا والقرآن شرطه التواتر، ولم يتواتر محل النزاع.
ثانيا لو كان هذا قرآنا لحفظ لقوله تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإن له لحافظون " ثالثا: قوله تعالى " وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم " وإطلاق الرضاع يشعر بأنه يقع بالقليل والكثير، ومثل ذلك حديث " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " رابعا: عن عقبة بن الحرث أنه تزوج أم يحيى بنت أبى إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما، قال فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعرض عنى فتنحيت فذكرت ذلك له فقال وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ فنهاه عنها، رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يستفصل عن الكيفية ولاسأل عن العدد(18/216)
خامسا، حديث " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الامعاء " يدل على عدم اعتبار الخمس، لان الفتق يحصل بدونها ونجيب عن الاعتراض الاول بأن كون التواتر شرطا ممنوع، والسند ما أسلفنا عن أئمة القراءات كحفص ونافع، وقد تكلم الجزرى وغيره في باب الحجة في الصلاة بقراءة ابن مسعود وأبى من أبواب صفة الصلاة، فإنه نقل هو وجماعة من أئمة القراءات الاجماع على مايخالف هذه الدعوى، ولم يعارض نقله ما يصلح لمعارضته.
وأيضا اشتراط التواتر فيما نسخ لفظه على رأى المشترطين ممنوع.
وكذلك انتفاء قرآنيته ولا يستلزم انتفاء حجيته على فرض شرطية التواتر
لان الحجة ثبتت بظنية الثبوت التي يجب عندها العمل، وقد قرأ الائمة بقراءة الآحاد في مسائل كثير منها قراءة ابن مسعود " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وقراءة أبى " وله أخ أو أخت من أم " والجواب على الثاني أن كونه غير محفوظ ممنوع، بل قد حفظه الله برواية عائشة له، والمعتبر حفظ الحكم، ولو سلم انتفاء قرآنيته على جميع التقادير لكان سنة لكون الصحابي روايا له عنه صلى الله عليه وسلم لو وصفه له بالقرآنية، وهو يستلزم صدوره عن لسانه وذلك كاف في الحجية لما تقرر في الاصول من أن المروى آحاد إذا انتفى عنه وصف القرآنية لم ينتف وجوب العمل به كما أسلفنا.
والجواب عن الثالث بأن مطلق الرضاع مقيد بأحاديث عدد الرضعات في حديث عائشة.
ويجاب عن الرابع بأن زيادة البيان على ذلك الذي قيل عنه من ترك الاستفصال يتعين الاخذ به، وزيادة الثقة حجة والمثبت حجة على النافي.
وقد يكون ترك الاستفصال مرده إلى سبق البيان منه صلى الله عليه وسلم للقدر المحرم ويجاب عن الخامس بما أجبنا به عن الثالث والرابع إذا ثبت هذا فإنه إذا كانت الرضعات المحرمة خمسا وكانت في خلال الحولين فلو رضع الخامسة على رأس الحولين فقد ثبت التحريم، وكذلك ينبغى أن تكون الرضعات متفرقات، وبهذا قال أحمد وحد الرضعة كما قلنا أن لا يقطعها إلا باختياره، فأما إن قطع لضيق نفس أو للانتقال من ثدى إلى ثدى، أو لشئ يلهيه، أو قطعت عنه المرضعة نظرت(18/217)
فإن لم يعد قريبا فهي رضعة وإن عاد في الحال ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الاولى رضعة فإذا عاد فهى رضعة أخرى.
وهذا ظاهر كلام أحمد رضى الله عنه في رواية حنبل فإنه قال: ألا ترى الصبى يرتضع من الثدى، فإذا أدركه النفس أمسك عن
الثدي ليتنفس أو يستريح فإذا فعل ذلك فهى رضعة: وذلك لان الاولى رضعة لو لم يعد فكانت رضعة وإن عاد كما لو قطع باختياره
(والثانى)
أن جميع ذلك رضعة واحدة إلا في حالة قطع المرضعة ففيه الوجهان لانه لو حلف لا أكلت اليوم إلا أكله فاستدام الاكل زمنا أو قطع لشرب الماء أو انتقال من لون إلى لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام، لم يعد إلا أكلة واحدة فكذا ههنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن شكت المرضعة هل أرضعته أم لا؟ أو هل أرضعته خمس رضعات أو أربع رضعات لم يثبت التحريم، كما لو شك الزوج هل طلق امرأته أم لا؟ وهل طلق ثلاثا أو طلقتين؟
(فصل)
ويثبت التحريم بالوجود لانه يصل اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع ويحصل به من إنبات اللحم وانتشار العظم ما يحصل من الرضاع، ويثبت بالسعوط لانه سبيل الفطر الصائم، فكان سبيلا لتحريم الرضاع كالفم، وهل يثبت بالحقنة فيه قولان
(أحدهما)
يثبت لما ذكرناه في السعوط
(والثانى)
لا يثبت لان الرضاع جعل لانبات اللحم وانتشار العظم، والحقنة جعلت للاسهال، فإن ارتضع مرتين وأوجر مرة وأوسعط مرة وحقن مرة.
وقلنا إن الحقنة تحرم يثبت التحريم، لاناجعلنا الجميع كالرضاع في التحريم وكذلك في اتمام العدد.
(فصل)
وان حلبت لبنا كثيرا في دفعة واحدة وسقته في خمسة أوقات فالمنصوص أنه رضعة.
وقال الربيع فيه قول آخر أنه خمس رضعات: فمن أصحابنا من قال هو من تخريج الربيع.
ومنهم من قال فيه قولان
(أحدهما)
أنه خمس رضعات، لانه يحصل به ما يحصل بخمس رضعات
(والثانى)
أنه رضعة - وهو الصحيح -(18/218)
لان الوجور فرع للرضاع، ثم العدد في الرضاع لا يحصل إلا بما ينفصل خمس مرات فكذلك في الوجور.
وإن حلبت خمس مرات وسقته دفعة واحدة فَفِيهِ طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ هُوَ على قولين كالمسألة قبلها، ومنهم من قال هو رضعة قولا واحدا لانه لم يشرب إلا مرة.
وفي المسألة قبلها شرب خمس مرات.
وإن حلبت خمس مرات وجعلتها في إناء ثم فرقته وسقته خمس مرات.
ففيه طريقان، من أصحابنا من قال يثبت التحريم قولا واحدا لانه تفرق في الحلب والسقى.
ومنهم قال هو على قولين لان التفريق الذي حصل من جهة المرضعة قد بطل حكمه بالجمع في إناء (الشرح) إذا وقع الشك في وجود الرضاع أو في عدد الرضعات المحرمة هل كملت أم لا؟ لم يثبت التحريم لان الاصل عدمه فلا تزول عن اليقين بالشك، كما لو شك في وجود الطلاق وعدده.
والسعوط والوجور كالرضاع، فإذا صب اللبن في أنفه من أناء أو غيره أو صب في حلقه صبا من غير الثدى فكلا الامرين الحكم فيهما حكم الرضاع.
وقد اختلفت الرواية في التحريم بهما عن أحمد، فأصح الروايتين أن التحريم يثبت، بهما كما أفاده ابن قدامة.
وهو قول الشعبى والثوري وأصحاب الرأى وبه قال مالك في الوجور، ولم يقل به في السعوط والرواية الثانية عن أحمد لا يثبت بهما التحريم، وهو اختيار أبى بكر من أصحاب أحمد وداود بن على وقول عطاء الخراساني في السعوط لان هذا ليس برضاع، وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع، ولانه حصل من غير ارتضاع فأشبه ما لو دخل من جرح في بدنه دليلنا على ما روى ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لارضاع الا
ما أنشز العظم وأنبت اللحم " رواه أبو داود، ولان هذا يصل به اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع ويحصل به من انبات اللحم وانشاز العظم ما يحصل من الارتضاع فيجب أن يساويه في التحريم، والانف سبيل الفطر للصائم فكان سبيلا للتحريم إذا تقرر هذا فإنه يحرم من ذلك مثل الذي يحرم بالرضاع، وهو خمس في(18/219)
الرواية المشهورة فإنه فرغ على الرضاع فيأخذ حكمه، فإن ارتضع وكمل الخمس بسعوط أو وجور كان كمن كمل الخمس برضاع وثبت التحريم بها لانا جعلناه كالرضاع في أصل التحريم، فكذلك في اكمال العدد، ولو حلبت في اناء دفعة واحدة ثم سقته غلاما في خمسة أوقات فالمنصوص أنه رضعة.
وقال الربيع فيه قول آخر أنه خمس فأختلف أصحابنا فمنهم من قال ليس هذا قولا للامام وانما هو من تخريج الربيع.
ومنهم من عدهما قولين
(أحدهما)
أنه خمس لانه يحصل به ما يحصل بالخمس.
وبهذا قال أحمد.
لان الاعتبار بشرب الصبي له لانه المحرم.
ولانه لو أكل خمس أكلات من طعام واحد متفرقات لكان قد أكل خمس أكلات.
دليلنا أن القدر المعتبر للرضعة الواحدة لو قسم إلى خمسة أجزاء لما زاد على كونه رضعة.
ولان الاعتبار بالرضاع والوجور فرعه.
وقد عكس الحنابلة في الصورتين.
فأما ان سقته اللبن المجموع من خمس رضعات اعتبارية جرعة بعد جرعة متتابعة ففيه طريقان.
فمن أصحابنا من جعلها كالتى قبلها في الوجور خمس مرات لرضعة واحدة.
وظاهر كلام الخرقى من أئمة الحنابلة أنه رضعة واحدة لان المعتبر خمس رضعات متفرقات وهذه غير متفرقات.
والتفريق الذى حصل من جهة المرضعة بطل حكمه بالجمع في اناء
فأما الحقنة فإن قلنا تحرم كالسعوط والجور كانت في حكم الرضاع بمعنى أنه إذا رضع من الثدى رضعتين وبالسعوط واحدة وباوجور واحدة وبالحقن واحدة كانت خمسا كاملة محرمة.
وبهذا قال ابن حامد من الحنابلة وابن أبى موسى والمنصوص عن أحمد أنها لا تحرم.
وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لان هذا ليس برضاع ولا يحصل به التغذى فلم ينشر الحرمة، كما لو قطر في احليله، ولانه ليس برضاع ولا في معناه فلم يجز اثبات حكمه فيه، ويفارق فطر الصائم فإنه لا يعتبر فيه انبات اللحم ولا انشاز العظم، ولانه وصل اللبن إلى الباطن من غير الحلق أشبه ما لو وصل من جرح(18/220)
وقد سألنا ولدنا التقى الدكتور أسامة أمين فراج فأجاب بأننالو أعطينا الطفل حقنة اللبن من الشرج فإنه لا يتغذى منه الجسم إلا بنسبة ضئيلة في حالة بقائه في جوفه مدة طويلة ولا تقاس بجانب ما يتعاطاه بفهم كيفا وكما.
أما إذا نزل منه في الحال فإنه لا يعود عليه منها ما يغذيه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن جبن اللبن وأطعم الصبي حرم لانه يحصل به ما يحصل باللبن من إنبات اللحم وانتشار العظم
(فصل)
فإن خلط بين اللبن بمائع أو جامد واطعم الصبى حرم وحكى عن المزني أنه قال إن كان اللبن غالبا حرم، وإن كان مغلوبا لم يحرم لان مع غلبة المخالطة يزول الاسم، والمعنى الذي يراد به، وهذا خطأ لان ما تعلق به التحريم إذا كان غالبا تعلق به إذا كان مغلوبا كالنجاسة في الماء القليل
(فصل)
فإن شرب لبن امرأة ميتة لم يحرم لانه معنى يوجب تحريما مؤيدا فبطل بالموت كالوطئ.
(فصل)
ولا يثبت التحريم بلبن البهيمة " فإن شرب طفلان من لبن شاة لم يثبت بينهما حرمة الرضاع لان التحريم بالشرع ولم يرد الشرع إلا في لبن الآدمية والبهيمة دون الآدمية في الحرمة ولبنها دون لبن الآدمية في إصلاح البدن فلم يلحق به في التحريم، ولان الاخوة فرع على الامومة، فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة فلان لا يثبت به الاخوه أولى ولا يثبت التحريم بلبن الرجل.
وقال الكرابيسى يثبت بلبن المرأة، وهذا خطأ لان لبنه لم يجعل غذاء للمولود فلم يثبت به التحريم كلبن البهيمة.
وإن ثار للخنثى لبن فارتضع منه صبى - فإن علم أنه رجل - لم يحرم، وان علم أنه أمراة حرم، فإن أشكل فقد قال أبو إسحاق: إن قال النساء إن هذا اللبن لا يكون على غزراته إلا لامراة حكم بأنه أمرأة وأن لبنه يحرم(18/221)
ومن أصحابنا من قال: لا يجعل اللبن دليلا لانه قد يثور اللبن للرجل، فعلى هذا يوقف أمر من يرضع بلبنه كما يوقف أمره.
(فصل)
فإن ثار للبكر لبن أو لثيب لازوج لها فأرضعت به طفلا ثبت بينهما حرمة الرضاع لان لبن النساء غذاء للاطفال، فإن ثار لبن للمرأة على ولد من الزنا فأرضعت به طفلا ثبت بينهما حرمة الرضاع، لان الرضاع تابع للنسب ثم النسب يثبت بينه وبينها، ولا يثبت بينه وبين الزانى، فكذلك حرمة الرضاع (الشرح) إذا عمل اللبن جبنا ثم أطمعه الصبي ثبت التحريم به، وبهذا قال أحمد، وقال أبو حنيفة لا يحرم به لزوال الاسم، وكذلك على الرواية لاحمد القائلة بعدم ثبوت التحريم باوجور لا يثبت هنا بطريق الاولى، دليلنا أنه واصل من الحلق، ويحصل به إنبات اللحم وانشاز العظم، فحصل به التحريم كما لو شربه.
(فرع)
إذا شيب اللبن بغيره فحكمه حكم المحض الخالص الذي لا يخالطه سواه، وبهذا قال الخرقى من الحنابلة، وقال أبو بكر قياس قول أحمد أنه لا يحرم لانه وجور، وحكى المصنف عن المزني: ان كان الغالب اللبن حرم والا فلا، وهو قول أبي ثور وأبن حامد، لان الحكم للاغلب، ولانه يزول بذلك الاسم والمعنى المراد به، ونحو هذا قول أصحاب الرأى وزادو فقالوا: ان كانت النار قد مست اللبن حتى أنضجت الطعام أو حتى تغير فليس برضاع، وهذا خطأ لان اللبن متى كان ظاهرا فقد حصل شربه، ويحصل منه انبات اللحم وانشاز العظم فحرم كما لو كان غالبا وقال ابن قدامة: ان صب في ماء كثير لم يتغير به - يعنى الماء - لم يثبت به التحريم، لان هذا ليس بلبن مشوب، ولا يحصل به التغذى ولا انبات اللحم ولا انشاز العظم، وهذا خطأ لان ما تعلق به التحريم ان كان غالبا تعلق به ان كان مغلوبا، ولانه لو وضع قليل من الخمر في الماء ولو لم يغيره حرم شربه، الا إذا استبحر وتلاشى أثر الخمر.
ولان أجزاء اللبن حصلت في بطنه فأشبه لو كان لونه ظاهرا(18/222)
(فرع)
إذا شرب لبن امرأة ميتة فإنه لا تنشر الحرمة، وبهذا قال الخلال.
لانه لبن ممن ليس بمحل للولادة، فلم يتعلق به التحريم كلبن الرجل، والمنصوص عن أحمد في رواية ابراهيم الحربى أنه ينتشر الحرمة، وهو قول أبى ثور والاوزاعي وابن القاسم وأصحاب الرأى وابن المنذر، وتوقف عنه أحمد في رواية منها.
ولو حلبت المرأة لبنها في وعاء ثم ماتت فشربه صبي نشر الحرمة في قول كل من جعل الوجور محرما، وبه قال أحمد في إحدى الروايتين وأبو ثور وأصحاب الرأى وغيرهم وذلك لانه لبن أمرأة في حياتها فأشبه مالو شربه في الحياة
(فرع)
ولا تنتشر الحرمة بغير لبن الآدمية بحال، فلو ارتضع اثنان من لبن بهيمة لم يصيرا أخوين في قول عامة أهل العلم، منهم أحمد وابن القاسم وأبو ثور وأصحاب الرأى، ولو ارتضعا من رجل لم يصيرا أخوين، ولم تنتشر الحرمة بينه وبينهما في قوله عامتهم.
وقال الكرابيسى يتعلق به التحريم لانه لبن آدمى أشبه لبن الآدمية.
وحكى عن بعض السلف أنهما لو ارتضعا من لبن بهيمة صار أخوين، وليس بصحيح، لان هذا لا يتعلق به تحريم الامومة، فلا يثبت به تحريم الاخوة، لان الاخوة فرع على الامومة، وكذلك لا يتعلق به تحريم الابوة لذلك، ولان هذا اللبن لم يخلق لغذاء المولود فلم يتعلق به التحريم كسائر الطعام، فإن ثار لخنثى مشكل لبن لم يثبت به التحريم، لانه لم يثبت كونه امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك.
وقال ابن حامد: يقف الامر حتى يثبت التحريم بانكشاف أمر الخنثى كونه رجلا وقال أبو إسحاق المروزى: أن قال النساء إن هذا اللبن لا يكون على غزارته إلا لامرأة حكم بأنه امرأة وأن لبنه يحرم وقال بعض أصحابنا: ليس اللبن دليلا على الرجولة والانوثة، لانه قد يثور للرجل لبن تتوفر فيه غزارة لبن المرأة وعناصره التى يتكون منها، وعلى ذلك نقول بقول ابن حامد وهو ما ذهب إليه المصنف هنا (فرع)
إذا ثار لامرأه ثيبا كانت أو بكرا لبن من غير وطئ فأرضعت به طفلا نشر الحرمة، وهو قول ابن حامد ومالك وأظهر الروايتين عن أحمد، وهو مذهب الثوري وأبى ثور وأصحاب الرأى وكل من يحفظ عنه ابن المنذر، لقول(18/223)
الله تعالى " وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم " ولانه لبن امرأة فتعلق به التحريم، كما لو ثان بوطئ، ولان ألبان النساء خلقت لغذاء الاطفال، فإن كان هذا نادرا
فجنسه معتاد.
(مسألة) يشترط في نشر الحرمة بين المرتضع وبين الرجل الذى ثار اللبن بوطئه أن يكون لبن حمل ينتسب إلى الواطئ، إما لكون الوطئ في نكاح أو ملك يمين أو نكاح شبهة.
فأما لبن الزانى أو النافي للولد باللعان فلا ينشر الحرمة بينهما هذا هو مذهبنا وبه قال أبو عبد الله بن حامد والخرقى من أصحاب أحمد، وقال أبو بكر بن عبد العزيز منهم: تنتشر الحرمة بين المرتضع وبين الزانى أو النافي باللعان لانه معنى ينتشر الحرمة، فاستوى في ذلك مباحه ومحظوره كاوطئ يحققه أو الواطئ حصل منه لبن وولد ثم ان الولد ينتشر الحرمة بينه وبين الواطئ كذلك اللبن، ولانه رضاع ينشر الحرمة إلى المرضعة بالاتفاق فنشرها إلى الواطئ كصورة الاجماع.
ودليلنا أن التحريم بينهما فرع لحرمة الابوة، فلما لم تثبت حرمة الابوة لم يثبت ما هو فرع لها.
فأما المرضعة فإن الطفل المرتضع محرم عليها ومنسوب إليها عند الجميع، وكذلك يحرم جميع أولادها وأقاربها الذين يحرمون على أولادها على هذا المرتضع كما في الرضاع باللبن المباح
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
إذا ثار لها لبن على ولد من زوج فطلقها وتزوجت بآخر، فاللبن للاول إلى أن تحبل من الثاني، وينتهى إلى حال ينزل اللبن على الحبل، فإن أرضعت طفلا كان ابنا للاول زاد اللبن أو لم يزد انقطع ثم عاد أو لم ينقطع، لانه لم يوجد سبب يوجب حدوث اللبن غير الاول، فإن بلغ الحمل من الثاني إلى حال ينزل فيه اللبن نظرت - فان لم يزد اللين - فهو للاول، فان أرضعت به طفلا كان ولداللاول، لانه لم يتغير اللبن: فان زاد فارتضع به طفل ففيه قولان(18/224)
قال في القديم هو ابنهما لان الظاهر أن الزيادة لاجل الحبل، والمرضع به لبنهما فكان ابنهما.
وقال في الجديد هو ابن الاول، لان اللبن للاول يقين، ويجوز أن تكون الزيادة لفضل الغذاء، ويجوز أن تكون للحمل، فلا يزال اليقين بالشك فإن انقطع اللبن ثم عاد في الوقت الذي ينزل اللبن على الحبل فأرضعت به طفلا ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه ابن الاول، لان اللبن خلق غذاء للولد دون الحمل، والولد للاول فكان المرضع به ابنه.
(والثانى)
أنه من الثاني، لان لبن الاول انقطع فالظاهر أنه حدث للحمل والحمل للثاني فكان المرضع باللبن أبنه (والثالث) أنه ابنهما، لان لكل واحد منهما أمارة تدل على أن اللبن له، فجعل المرضع باللبن ابنهما، فإن وضعت الحمل وأرضعت طفلا كان إبنا للثاني في الاحوال كلها، زاد اللبن أو لم يزد، اتصل أو انقطع ثم عاد، لان حاجة المولود إلى اللبن تمنع أن يكون اللبن لغيره (الشرح) إذا ثار لبن منها على ولده من زوج طلقها فتزوجت أخر لم يخل من خمسة أحوال: 1 - أن يبقى لبن الاول بحاله لم يزد ولم ينقص ولم تلد من الثاني فهو للاول سواء حملت من الثاني أو لم تحمل، لا نعلم فيه خلافا، لان اللبن كان للاول ولم يتجدد ما يجعله من الثاني فبقى للاول 2 - أن لاتحمل من الثاني فهو للاول، سواء زاد أو لم يزد، أو انقطع ثم عاد أو لم ينقطع.
3 - أن تلد من الثاني فاللبن له خاصة.
قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه، وهو قول أبى حنيفة وأحمد، سواء زاد لم يزد، انقطع أو
اتصل، لان لبن الاول ينقطع باولادة من الثاني، فان حاجة المولود إلى اللبن تمنع كونه لغيره.
4 - إذا انتهى الحمل إلى حال ينزل به اللبن فزاد به ففيه قولان، أحدهما قوله(18/225)
في القديم هو لهما وتنتشر الحرمة بينه وبينهما، لان زيادته عند حدوث الحمل ظاهر في أنها منه، وبقاء لبن الاول يقتضى كون أصله منه فجيب أن يضاف اليهما، وبهذا قال الحنابلة، الثاني هو للاول لان اللبن له بيقين، ويجوز أن تكون الزيادة بسبب التغذية أو استدرار الطفل للثدي فينشط الثدى نتيجة الاحساس بالامومة لدى المرضعة فيثور لبنها لاسباب نفسية من الرحمة يقذفها الله في قلب المرأة، وقد حدث لى وأنا رضيع فقد ماتت الام بعد ولادتي بستة أشهر وكانت جدتى لابي تبلغ من العمر زهاء الثمانين عاما فثار اللبن في ثدييها رحمة بى واشفاقا على من الهلاك: وهذا من الاسباب التي هيأها الله لى أن أعيش وقد حرمت على بنات أعمامي وبنات عمانى، وظل اللبن في ثدييها إلى ان أدركتها المية على رأس المائة، وإنما يخلق الله اللبن للولد عند وجوده سدا لحاجته وحفظا لحياته، وقال أبو حنيفة هو للاول ما لم تلد من الثاني 5 - انقطع اللبن من الاول ثم ثاب بالحمل من الثاني ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه ابن الاول وهو قول أبى حنيفة، لان الحمل لا يقتضى اللبن، وانما يخلقه الله تعالى للولد عند وجوده لحاجته إليه، وقد سبق عند الكلام على قوله في الجديد (الثاني) أنه ابن الثاني، وهو اختيار أبى الخطاب من الحنابله، لان لبن الاول انقطع فزال حكمه بانقطاعه وحدث بالحمل من الثاني، فكان له كما لو لم يكن لها لبن من الاول (والثالث) أنه ابنهما، وذلك لان اللبن كان للاول فلما عاد بحدوث الحمل، فالظاهر أن لبن الاول ثاب بسبب الحمل الثاني، فكان مضافا
اليهما كما لو لم ينقطع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وطئ رجلان امرأة وطئا يلحق به النسب فأتت بولد وأرضعت بلبنه طفلا، كان الطفل إبنا لمن يلحقه نسب الولد، لان اللبن تابع للولد، فإن مات الولد ولم يثبت نسبه بالقافة ولا بالانتساب إلى أحدهما - فإن كان له ولد - قام مقامه في الانتساب، فإذا انتسب إلى أحدهما صار المرضع ولد من انتسب إليه، وإن لم يكن له ولد ففي المرضع بلبنه قولان(18/226)
(أحدهما)
أنه إبنهما، لان اللبن قد يكون من الوطئ، وقد يكون من الولد (والقول الثاني) أنه لا يكون ابنهما، لان المرضع تابع للمناسب ولايجوز أن يكون المناسب إبنا لاثنين، فكذلك المرضع، فعلى هذا هل يخير المرضع في الانتساب إلى أحدهما؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يخير لانه لا يعرض على القافة فلا يخير بالانتساب
(والثانى)
يخير لان الولد قد يأخذ الشبه بالرضاع في الاخلاق ويميل طبعه إلى من ارتضع بلبنه، ولهذا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أنا أفصح العرب ولا فخر، بيد أنى من قريش ونشأت في بني سعد وارتضعت في بنى زهرة ولهذا يقال يحسن خلق الولد إذا حسن خل المرضعة، ويسوء خلقه إذا ساء خلقها فإذا قلنا إنه يخير فانتسب إلى أحدهما كان إبنه من الرضاعة، فإذا قلنا لا يخير فهل له أن يتزوج بنتيهما؟ فيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو الاصح، أنه لا يحل له نكاح بنت واحد منهما، لانا وإن جهلنا عين الاب منهما إلا أنا نحقق أن بنت أحدهما أخته وبنت الآخر أجنبية فلم يجز له نكاح واحدة منهما، كما لو اختلطت أخته بأجنبية
(والثانى)
أنه يجوز أن يتزوج بنت من شاء منهما، فإذا تزوجها حرمت عليه الاخرى، لان الاصل في بنت كل واحد منهما الاباحة وهو يشك في تحريمها واليقين لا يزال بالشك، فإذا تزوج إحدهما تعينت الاخوة في الاخرى فحرم نكاحها على التأييد، كما لو اشتبه ماء طاهر وماء نجس فتوضأ بأحدهما بالاجتهاد، فإن النجاسة تتعين في الآخر، ولايجوز أن يتوضأ به.
(والثالث) أنه يجوز ان يتزوج بنت كل واحد منهما ثم يطلقها ثم يتزوج الاخرى، لان الحظر لا يتعين في واحده منهما، كما يجوز أن يصلى بالاجتهاد إلى جهة ثم يصلى بالاجتهاد إلى جهة أخرى، ويحرم أن يجمع بينهما، لان الحظر يتعين في الجميع فصار كرجلين رأيا طائرا فقال أحدهما إن كان هذا الطائر غرابا فعبدي حر، وقال الآخر إن لم يكن غرابا فعبدي حر، فطار ولم يعلم أنه غراب ولا غيره، فإنه لا يعتق على واحد منهما لانفراده بملك مشكوك فيه، وإن اجتمع العبدان لواحد عتق أحدهما لاجتماعهما في ملكه(18/227)
(فصل)
وإن أتت امرأته بولد ونفاه باللعان فأرضعت بلبنه طفلا كان الطفل إبنا للمرأة ولايكون إبا للزوج، لان الطفل تابع للولد، والولد ثابت النسب من المرأة دون الزوج فكذلك الطفل، فإن أقر بالولد صار الطفل إبنا له لانه تابع للولد.
(فصل)
وإن كان لرجل خمس أمهات أولاد فثار لهن منه لبن فارتضع صبي من كل واحدة منهن رضعة ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس بن سريج وأبى القاسم الانماطى وأبى بكر ابن الخداد المصرى: إنه لا يصير المولى أبا للصبي لانه رضاع لم يثبت به الامومة فلم تثبت به الابوة
(والثانى)
وهو قول أبى إسحاق وأبى العباس بن القاص: إنه يصير المولى أبا للصبي، وهو الصحيح، لانه ارتضع من لبنه خمس رضعات فصار إبنا له، وإن كان لرجل خمس أخوات فارتضع طفل من كل واحده منهن رضعة فهل يصير خالا له؟ على الوجهين (الشرح) ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضع من ثويبة مولاة أبى لهب أرضعته أياما وأرضعت معه أبا سلمة عبد الله بن عبد الاشد المخزومى بلبن ابنها مسروح وأرضعت معهما حمزة بن عبد المطلب واختلف في اسلامهما - ثم أرضعته حلمية السعدية بلبن ابنها عبد الله أخى أنيسة وجذامة، وهى الشيماء أولاد الحرث بن عبد العزى بن رفاعة السعدى، واختلف في اسلام أبويه من الرضاعة، وأرضعت معه ابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وكان شديد العدواة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم عام الفتح وحسن اسلامه وكان عمه مسترضعا في بنى سعد بن بكر، فأرضعت أُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عند أمه حليمة، فكان حمزة رضيع رسول الله صلى وسلم من وجهين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية أما حواضنه صلى الله عليه وسلم فإن أمه هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب.
ومنهن ثويبة وحليمة والشيماء ابنتها - وهى أخته من(18/228)
الرضاعة كانت تحضنه مع أمها، وهى التى قدمت عليه في وفد هوازن فبسط لها رداءه، وأجلسها عليه رعاية لحقها.
أما بعد: فإن هذه الفصول الثلاثة على وجوهها الذى أوضحناه في الفصول التى قبلها فليراجع.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن كان لرجل زوجة صغيرة فشربت من لبن أمه خمس رضعات
انفسخ بينهما النكاح لانها صارت أخته، وإن كانت له زوجة كبيرة وزوجة صغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة خمس رضعات انفسخ نكاحهما، لانه لا يجوز أن يكون عنده امرأة وابنتها، فإن كان له زوجتان صغيرتان فجاءت امرأة فأرضعت إحداهما خمس رضعات، ثم أرضعت الاخرى خمس رضعات ففيه قولان
(أحدهما)
ينفسخ نكاحهما، وهو اختيار المزني لانهما صارتا أختين فانفسخ نكاحهما، كما لو أرضعتهما في وقت واحد
(والثانى)
أنه ينفسخ نكاح الثانية، لان سبب الفسخ حصل بالثانية فاختص نكاحها بالبطلان، كما لو تزوج إحدى الاختين بعد الاخرى.
(فصل)
ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع فالمنصوص أنه يلزمه نصف مهر المثل ونص في الشاهدين بالطلاق إذا رجعا على قولين
(أحدهما)
يلزمهما مهر المثل
(والثانى)
يلزمهما نصف مهر المثل.
واختلف أصحابنا فيه، فنقل أبو سعيد الاصطخرى جوابه من إحدى المسئلتين إلى الاخرى وجعلها على قولين
(أحدهما)
يجب مهر المثل لانه أتلف البضع فوجب ضمان جميعه
(والثانى)
يجب نصف مهر المثل لانه لم يغرم للصغيره إلا نصف بدل البضع فلم يجب له أكثر من نصف بدله وقال أبو إسحاق: يجب في الرضاع نصف المهر وفي الشهادة يجب الجميع، والفرق بينهما أن في الرضاع وقعت الفرقة ظاهرا وباطنا وتلب البضع عليه.
وقد رجع إليه بدل النصف فوجب له بدل النصف.
وفي الشهادة لم يتلف البضع في الحقيقة، وإنما حيل بينه وبين ملكه فوجب ضمان جميعه، والصحيح طريقة(18/229)
أبي اسحاق وعليها التفريغ.
وان كان لرجل زوجة صغيرة فجاء خمسة أنفس وأرضع كل واحد منهما الصغيرة من لبن أم الزوج أو أخته زضعة وجب على كل
واحد منهم خمس نصف المهر لتساويهم في الاتلاف، وإن كانوا ثلاثة فأرضعها أحدهم رضعة وأرضعها كل واحد من الآخرين رضعتين ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجب على كل واحد منهم ثلث النصف، لان كل واحد منهم وجد منه سبب الاتلاف فتساووا في الضمان كما لو طرح رجل في خل قدر دانق من نجاسة، وآخر قدر درهم
(والثانى)
يقسط على عدد الرضعات فيجب على من أرضع رضعة الخمس من نصف المهر، وعلى كل واحد من الآخرين الخمسان، لان الفسخ حصل بعدد الرضعات فيقسط الضمان عليه
(فصل)
إذا ارتضعت الصغيرة من أم زوجها خمس رضعات والام نائمة سقط مهرها لان الفرقة قد حصلت بفعلها فسقط مهرها ولا يرجع الزوج عليها بمهر مثلها ولا بنصفه، لان الاتلاف من جهة العاقد قبل التسليم لا يوجب غير المسمى، فإن ارتضعت من أم الزوج رضعتين والام نائمه وأرضعتها الام تمام الخمس والزوجه نائمه ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يسقط من نصف المسمى نصفه وهو الربع، ويجب الربع.
(والثانى)
يقسط على عدد الرضعات فيسقط من نصف المسمى خمسان ويجب ثلاثة أخماسه وجههما ما ذكرناه في المسألة قبلهاو بالله التوفيق (الشرح) إذا تزوج الرجل صغيرة فأرضعتها أمه أو أخته أو امرأة ينفسخ النكاح برضاعها خمس رضعات متفرقات، فإن كان قد سمى لها صداقا فاسدا وجب لها نصف مهر المثل، وإن سمى لها صداقا صحيحا وجب لها نصف المسمى ويرجع الزوج على المرضعة بضمان ما أتلفته من البضع، سواء تعمدت فسخ النكاح أو لم تتعمد، وقال مالك لا يرجع عليها بشئ وقال أبو حنيفة: ان تعمدت فسخ النكاح رجع عليها، وان لم تتعمد فسخ
النكاح لم يرجع عليها.(18/230)
دليلنا قوله تعالى " وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذى ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية على أن المرأة المسلمة إذا هاجرت ردها زوجها إليهم فنهاه الله عن ذلك وأمره برد مهورهن إلى أزواجهن لانه حال بينهن وبين أزواجهن، فدل على أن كل من حال بين الرجل وبين زوجته كان عليه ضمان البضع، وهذه المرضعة قد حالت بينها وبين زوجها فكان عليها الضمان.
وعند أبى حنيفة أن كل ما ضمن بالعهد ضمن بالخطأ كالاموال.
إذا ثبت هذا فحكم القدر الذي يرجع به على المرضعة نص الشافعي ههنا أنه يرجع عليها بنصف مهر المثل، ونص في الشاهدين إذا شهدا على رجل أنه طلق امرأته فبل الدخول وحكم بشادتهما ثم رجعا عن الشهادة فإنها لاترد إليه، وبماذا يرجع الزوج عليهما؟ فيه قولان.
أحدهما يرجع عليهما بنصف المثل.
والثانى يرجع عليهما بجميع مهر المثل، لانها أتلفت عليه البضع فرجع عليهما بقيمته.
(والثانى)
يرجع عليهما بنصف مهر المثل، لانه لم يغرم إلا نصف بدل البضع فلم يجب له أكثر من نصف بدله، وحملهما أبو إسحاق وأكثر أصحابنا على ظاهرهما فجعلوا في الشاهدين قولين، وفي المرضعة للزوج يرجع عليهما بنصف مهر المثل قولا واحدا، لان الفرقة في الرضاع وقعت ظاهرا وباطنا، والذى غرم الزوج نصف المهر فلم يرجع عليها بأكثر من بدله.
وفي الشاهدين لم تقع الفرقة ظاهرا وباطنا، وإنما وقعت في الظاهر وهما يقران أنها زوجته الآن، وإنما حالا بينه وبينها فرجع عليهما بقيمة جميع البضع.
وقال أبو حنيفة: يرجع على المرضعة بنصف المسمى.
دليلنا أن هذا تعلق بالاتلاف فلم يضمن بالمسمى، وإنما يضمن بقيمته كضمان الاموال، فإذا قلنا يرجع عليها بنصف مهر المثل - وهو الاصح وعليه التفريع - فجاء خمسة أنفس وأرضعوا الصغيرة من أم الزوج كل واحد منهم رضعة، فإن الزوج يرجع على كل واحد منهم بخمس نصف مهر المثل ليساويهم في الاتلاف.
وإن كانوا ثلاثة فأرضعها إثنان كل واحد منهما رضعة من لبن أم الزوج وأرضعها الثالث منها ثلاث رضعات ففيه وجهان(18/231)
(أحدهما)
يجب على كل واحد منهم ثلث نصف مهر المثل، لان كل واحد منهم وجد منه سبب الاتلاف فتساووا في الضمان، كما لو كان عبد بين ثلاثة لاحدهم النصف ولآخر السدس وللثالث الثلث، فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس نصيبهما في وقت واحد.
(والثانى)
يقسط النصف على عدد الرضعات فيجب على من أرضعه رضعة خمس نصف مهر المثل، وعلى من أرضع ثلاث رضعات ثلاثة أخماس نصف مهر المثل، لان الفسخ حصل بعدد الرضعات فقسط الضمان عليهن (فرع)
وإن كان للرجل ثلاث زوجات كبيرة، وللكبيرة ثلاث بنات من النسب أو الرضاع لهن لبن، فأرضعت كل واحدة من بنات الزوجة الكبيرة واحدة من الثلاث الزوجات الصغار نظرت - فإن وقع رضاعهن دفعة واحدة بأن اتفقن في الخامسة - انفسخ نكاح الكبيرة والصغائر، لانه لا يجوز الجمع بينهن وبين جدتهن، وإن كان الزوج لم يدخل بالكبيرة فإنهن يرجعن عليه بنصف المسمى، ويرجع الزوج على كل واحدة من بنات الكبيرة بنصف مهر الصغيرة التي أرضعت، ويرجع على الثلاث المرضعات بنصف مهر الكبيرة بينهن أثلاثا.
ومن أصحابنا من قال، يرجع بنصف مهر كل واحدة من الصغار على الثلاث
المرضعات بينهن بالسوية كنصف مهر الكبيرة، لانهن اشتركن في إفساد نكاح كل واحدة منهن، والاول أصح، وتحرم عليه الكبيرة على التأبيد.
وأما الصغار فلا يحرمن عليه بل يجوز له أبتداء عقد النكاح على كل واحدة منهن، ويجوز له الجمع بينهن لانهن بنات خالات، وإن كان قد دخل بالكبيرة حرمن جميعا على التأبيد، والكلام في مهور الصغائر ما مضى وأما مهر الكبيرة فإنه يرجع على الثلاث المرضعات بينهن أثلاثا وقال ابن الحداد: لا يرجع عليهن بمهر المثل لانه قد وطئها، فلو ثبت له الرجوع لكانت في معنى المرهونة، وهذا ليس بصحيح، لان المهر يرجع به على غيرها فلا تكون في معنى المرهونة وإن تقدم إرضاع بعضهن على بعض فإن الاولة من بنات الكبيرة لما أرضعت واحدة من الصغار انفسخ نكاح الصغيره والكبيرة ورجع الزوج على المرضعة(18/232)
بنصف مهر مثل الصغيرة وبنصف مهر الكبيرة إن لم يدخل بها، وبجميع مهرها إن دخل بها على الاصح وحرمت الكبيرة على التأييد، فلما أرضعت الثانية الصغيرة وأرضعت الثالثة الصغيرة الثالثة، فإن كان الزوج قد دخل بالكبيرة انفسخ نكاحهما لانهما بنتا أبنة أمرأته المدخول بها والكلام في مهرهما على ما مضى، وإن كان لم يدخل بالكبيرة لم ينفسخ نكاحهما لانهما بنتا ابنة امرأته التي لم يدخل بها.
(فرع)
إذا كان له ثلاث زوجات كبيرتان وصغيرة فأرضعتها كل واحدة من الكبيرتين أربع رضعات ثم حلبت كل واحدة منهما لبنا منها وخلطتاه وسقتاه الصغيرة معا انفسخ نكاح الكبيرتين والصغيرة وعلى الزوج للصغيرة نصف المسمى وللزوج على الكبيرتين نصف مهر مثل الصغيرة بينهما نصفين وأما مهر الكبيرتين فإن كان قد دخل بهما فلهما عليه المهر المسمى ويرجع
الزوج على كل واحدة منهما من مهر صاحبتها، لان كل واحدة منهما أتلف نصف بضع صاحبتها ونكاح كل واحدة منها انفسخ بفعل نفسها وفعل صاحبتها فلا تضمن كل واحدة منها من مهر صاحبتها إلا ما قابل فعلها، وإن كان لم يدخل بهما فلكل واحدة منهما ربع مهرها المسمى على الزوج، لانه لو لم يكن من جهتها سبب في فسخ النكاح لاستحقت نصف مهرها المسمى.
ولو انفسخ نكاحها بفعلها سقط جيمع مهرها، فإذا انفسخ نكاحها قبل الدخول لا مهر لها، وما قابل فعل صاحبتها لا يسقط، ويرجع الزوج على كل واحدة منهما بربع مهر مثل صاحبتها لانه قيمة ما أتلفته من بعض صاحبتها.
قال الشيخ أبو حامد: فإن كانت بحالها إلا أن إحدهما انفرد بإيجارها اللبن المخلوط منهما انفسخ نكاح الجميع وللصغيرة على الزوج نصف المسمى، ويرجع الزوج على المؤجرة بنصف مهر الصغيرة لانها هي انفردت بالاتلاف وأما مهر الكبيرتين - فإن كان الزوج لم يدخل بالتي لم توجر - كان لها على الزوج نصف المسمى ويرجع الزوج على المؤجرة بنصف مهر مثل التي لم توجر، وإن كان قد دخل بالتي لم توجر فلها على الزوج جيمع ما سمى ولها ويرجع الزوج على المؤجرة بجميع مهر مثل التي لم توجر وأما مهر المؤجرة - فإن كان ذلك قبل الدخول بها - فلا شئ لها.(18/233)
وإن كان بعد الدخول فلها عليه جميع المسمى ولا يسقط عنه شئ منه، وتحرم الكبيرتان عليه على التأييد بكل حال.
وأما الصغيرة - فإن دخل بالكبيرتين أو بإحداهما حرمت عليه على التأييد وإن لم يدخل بواحدة منهما جاز له ابتداء العقد على الصغيرة.
(فرع)
وإن تزوج صغيرة فارتضعت من أم الزوج خمس رضعات متفرقات
والام نائمة أنفسخ نكاحها وسقط مهرها، لان الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول فإن ارتضعت من الام رضعتين وهى نائمة، ثم أرضعتها الام ثلاث رضعات متفرقات انفسخ نكاحها.
قال الشيخ أبو إسحاق: وفي قدر ما يسقط عنه من نصف المسمى وجهان
(أحدهما)
يسقط نصفه وهو الربع ويجب عليه الربع
(والثانى)
يقسط على عدد الرضعات فيسقط من نصف المسمى الخمسان ويجب ثلاثة أخماسه، فإذا قلنا بالاول وجب على الام للزوج ربع مهر المثل، وإذا قلنا بالثاني وجب على الام ثلاثة أخماس نصف مهر المثل وإن تقاطر من لبن أمه في حلق زوجته الصغيرة فوصل إلى جوفها خمس رضعات انفسخ نكاحها فوجب عليه للصغيرة نصف المسمى ولا يرجع الزوج على الام بشئ لانه ليس من جهة أحدهما فعل (فرع)
وإن ارتضعت زوجته الصغيرة من زوجته الكبيرة خمس رضعات متفرقات والكبيرة نائمة أنفسخ نكاحهما وسقط مهر الصغيرة، وإن كان لم يدخل بالكبيرة رجعت على الزوج بنصف مهرها المسمى ورجع الزوج في مال الصغيرة بجميع مهر مثل الكبيرة على قول أكثر أصحابنا، ولا يرجع عليها بشئ على قول ابن الحداد.
(فرع)
وإن كان له زوجة صغيرة وزوجة كبيرة وللكبيرة ابن من غير هذا الزوج له زوجة لها لبن من ابن الكبيرة فأرضعت به الصغيرة انفسخ نكاح الكبيرة والصغيرة، لان الكبيرة صارت جدة الصغيرة، ولايجوز الجمع بين المرأة وجدتها، وتحرم الكبيرة على التأييد، وأما الصغيرة - فإن كان قد دخل بالكبيرة - حرمت عليه على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة لم تحرم عليه على التأييد،(18/234)
ويجب على الزوج للصغيرة نصف المسمى، ويرجع الزوج على زوجته الكبيرة بنصف مهر مثل الصغيرة.
وأما الكبيرة فإن لم يدخل بها وجب لها نصف مهرها المسمى ويرجع على زوجة الابن بنصف مهر مثل الكبيرة.
وان دخل بالكبيرة رجعت الكبيرة بجميع مهرها المسمى، ويرجع الزوج على زوجة ابنها بجميع مهر مثل الكبيرة على قول أكثر أصحابنا، ولا يرجع عليها بشئ ههنا على قول ابن الحداد وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
كتاب النفقات
(باب نفقة الزوجات)
إذا سلمت المرأة نفسها إلى زوجها وتمكن من الاستمتاع بها ونقلها إلى حيث يريد، وهما من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح، وجبت نفقتها، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ الناس فقال " اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وإن امتنعت من تسليم نفسها أو مكنت من استمتاع دون استمتاع أو في منزل دون منزل أو في بلد لم تجب النفقة لانه لم يوجد التمكين التام فلم تجب النفقة كما لا يجب ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع، أو سلم في موضع دون موضع، فإن عرضت عليه وبذلت له التمكين التام والنقل إلى حيث يريد وهو حاضر، وجبت عليه النفقة لانه وجد التمكين التام.
وإن عرضت عليه وهو غائب لم يجب حتى يقدم هو أو وكيله، أو يمضى زمان لو أراد المسير لكان يقدر على أخذها، لانه لا يوجد التمكين التام إلا بذلك وإن لم تسلم إليه ولم تعرض عليه حتى مضى على ذلك زمان لم تجب النفقة، لان
النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضى الله عنها ودخلت عليه بعد سنتين.(18/235)
لم ينفق إلا من حين دخلت عليه ولم يلتزم نفقتها لما مضى، ولانه لم يوجد التمكين التام فيما مضى فلم يجب بدله، كما لا يجب بدل ما كلف من المبيع في يد البائع قبل التسليم.
(فصل)
وإن سلمت إلى الزوج أو عرضت عليه وهي صغيرة لا يجامع مثلها ففيه قولان: أحدهما تجب النفقة لانها سلمت من غير منع.
والثانى لا يجب وهو الصحيح لانه لم يوجد التمكين التام من الاستمتاع، وإن كانت الكبيرة والزوج صغير ففيه قولان: أحدهما لا تجب لانه لم يوجد التمكين من الاستمتاع.
والثانى تجب وهو الصحيح لان التمكين وجد من جهتها وإئما تعذر الاستيفاء من جهته فوجبت النفقة، كما لو سلمت إلى الزوج وهو كبير فهرب منها، وإن سلمت وهى مريضة أو رتفاء أو نحيفة لا يمكن وطؤها أو الزوج مريض أو مجبوب أو حسيم لا يقدر على الوطئ وجبت النفقة لانه وجد التمكين من الاستمتاع، وما تعذر فهو بسبب لاتنسب فيه إلى التفريط (الشرح) حديث جابر جزء من حديث جابر الطويل في الحج، وقد ورد بمعناه عن عمرو بن الاحوص عند أصحاب السنن كلهم " أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال، استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبعنوا عليهن سبيلا إن لكم من نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا اليهن في كسوتهن وطعامهن "
أما خبر عائشة فقد أخرجه أحمد والبخاري ومسلم بلفظ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين وأدخلت عليه وهي بنت تسع سنين ومكثت عنده تسعا " وفي رواية لاحمد ومسلم " تزوجها وهى بنت سبع سنين وزفت إليه وهي بنت تسع سنين " أما الاحكام فإن الاصل في وجوب نفقة الزوجات من الكتاب قوله تعالى(18/236)
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " والمولود له هو الزوج، وانما نص على وجوب نفقة الزوجات حال الولادة ليدل على أن النفقة تجب لها حال اشتغالها عن الاستمتاع بالنفاس لئلا يتوهم متوهم أنه لا يجب لها وقوله تعالى " فإن خفتم أن لاتعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا " قال الشافعي: معناه أن لا يكثر عيالكم ومن تمونونه.
وقيل إن أكثر السلف قالوا معنى أن لا تعولوا أن لا تجوروا، يقال عالى يعولوا عولا إذا جار.
وعال يعيل إذا كثر عياله إلا زيد بن أسلم فإنه قال.
معناه أن لا يكثر عيالكم وقول النبي صلى الله عليه وسلم يشهد لذلك حيث قال " ابدا بنفسك ثم بمن تعول " ويدل على نفقة الزوجات قوله تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم " وقوله تعالى، لينفق ذو سعة من سعته.
ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا تكلف نفس إلا ما آتاها " ومعنى قوله تعالى " قدر عليه " أي ضيق عليه ومن السنة ما رواه حكيم بن معاوية القشيرى عن أبيه قال " قلت يارسول الله ماحق الزوجة؟ فقال أن تطعمها إذا طعمت وأن تكسوها إذا اكتسبت " أخرجه
النسائي وابن ماجه وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححاه، وعلق البخاري طرفا منه وصححه الدارقطني في العلل.
وما قيده المصنف هنا عن جابر، وقد وردت أحاديث منها حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تصدقوا قال رجل عندي دينار، قال تصدق به على نفسك.
قال عندي دينار آخر.
قال تصدق به على زوجتك.
قال عندي دينار آخر، قال تصدق به على ولدلك، قال عندي دينار آخر.
قال تصدق به على خادمك: قال عندي دينار آخر، قال أنت أبصر به " ورواه أحمد والنسائي، ورواه أبو داود بتقديم الولد على الزوجة.
واحتج به أبو عبيد بتحديد الغنى بخمسة دنانير ذهبا، تقوية بحديث ابن مسعود في الخمسين درهما،(18/237)
إذا ثبت هذا فلا يحلو حال الزوجين من أربعة أقسام (1) أن يكونا بالغين (2) أن يكون الزوج بالغا والزوجة صغيرة (3) أن يكون الزوج صغيرا والزوجة كبيرة (4) أن يكونا صغيرين فإن كانا بالغين وسلمت الزوجة نفسها إلى الزوج تسليما تاما بأن تقول: سلمت نفسي اليك وإن اخترت أن تصير إلى وتستمتع فذلك اليك.
وان اخترت جئت اليك حيث شئت فعلت، وجبت نفقتها لان النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع فإذا وجد ذلك منها فقد وجد منها التمكين منه، فوجب في مقابلته كالبائع إذا سلم المبيع وجب على المشترى تسليم الثمن.
فإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج وكان حاضرا فلم يتسلمها حتى مضت على ذلك مدة وجبت عليه نفقتها كالبائع إذا سلم المبيع وجب على المشترى تسليم الثمن.
فإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج وكان حاضرا فلم يتسلمها حتى مضت على ذلك مدة وجبت عليه نفقتها في تلك المدة.
وقال أبو حنيفة: لا تجب نفقة المدة الماضية إلا أن يحكم لها الحاكم، ولانه
مال يجب للزوجة بالزوجية فلم يفتقر استقراره إلى حكم الحاكم كالمهر.
وإن سلمت نفسها إلى الزوج تسليما غير تام بأن قالت سلمت نفسي في هذا البيت دون غيره، أو في هذه القرية دون غيرها لم تجب لها النفقة، لانه لم يوجد التسليم التام، فهو كما لو قال البائع: أسلم هذه السيارة في هذا الموضع دون غيره.
فإن عقد النكاح ولم تسلم المرأة نفسها ولا طالب الزوج بها وسكتا عن ذلك حتى مضى على ذلك سنة أو أكثر لم يجب لها النفقة، لان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهى بنت سبع، ودخل بها وهى ابنة تسع، ولم ينقل أنه أنفق عليها إلا من حين دخل بها وإن عرض الولى الزوجة على الزوج بغير إذنها وهى بالغة عاقلة فلم يتسلمها الزوج ومضى على ذلك مدة لم تجب على الزوج النفقة لانه لا ولاية له عليها في المال.
وإن غاب الزوج عن بلد الزوجة نظرت - فإن غاب عنها بعد أن سلمت نفسها إليه تسليما تاما وامتنع من تسليمها فقد وجبت نفقتها بتسليمها نفسها فلم يسقط ذلك بغيبته.
وان غاب عنها قبل ان تسلم نفسها إليه وأرادت تسليم نفسها إليه فإنها إذا أتت حاكم بلدها وقالت: أنا أسلم نفسي إليه وأخلى بين وبينه، فإن(18/238)
حاكم بلدها يكتب إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج ويعرفه ذلك، فإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه استدعى الزوج وعرض عليه الامر، فإن سار إليها وتسلمها أو وكل من يتسلمها، فتسلمها الوكيل وجب عليه نفقتها من حين تسلمها هو أو وكيله.
وان أمكنه السير فلم يسر ولا وكيله، فإنه إذا مضت عليه مدة لو أراد المسير إليها أمكنه ذلك، فإن الحاكم يفرض لها النفقة من حين مضى مدة السفر إليها لانه قد كان يمكنه التسليم.
فإذا لم يفعل ممتنعا من تسلمها فوجبت عليه النفقة وان لم يمكنه المسير إليها أمكنه ذلك، فأن الحاكم يفرض لها النفقة من حين مضى
مدة السفر إليها لانه قد كان يمكنه التسليم.
قإذا لم يفعل صار ممتتعا من تسلمها فوجب عليه النفقة وان لم يمكنه المسير لعدم الرفقة أو لخوف الطريق لم تجب عليه النفقة حتى يمكنه المسير لانه غير ممتنع من تسلمها.
وان كان الزوج بالغا والزوجة صغيرة نظرت - فإن كانت مراهقة تصلح للاستمتاع - فإن الذى يجب عليه تسليمها وليها.
فإن سلمها الولى تسليما تاما وجب على الزوج نفقتها.
وان لم يكن لها ولى أو كان غائبا أو امتنع من تسليمها أو سكت عن تسليمها فسلمت نفسها إلى الزوج وجبت النفقة على الزوج لان التسليم قد حصل وان كان ممن لا يصح تسليمه.
كما لو اشترى سلعة بثمن وسلم الثمن وقبضها المشتري بغير اذن البائع أو أقبضه اياها غلام البائع فان القبض يصح قال ابن الصباغ في الشامل: وينبغى أن لا تجب النفقة الا بعد أن يسلمها ولا يجب ببذلها لان بذلها لاحكم له.
وان كانت صغيرة لا يتأتى جماعها ففيه قولان
(أحدهما)
يجب لها النفقة.
لان تعذر وطئها عليه ليس بفعلها فلم تسقط بذلك نفقتها.
كما لو مرضت (الثاني) لا تجب لها النفقة.
وبه قال مالك وأبو حنيفة واختاره المزني، وهو الصحيح.
لان الاستمتاع متعذر عليه فلم تجب عليه النفقة، كما لو نشزت.
وان كان الزوج طفلا صغيرا والزوجة كبيرة ففيه قولان
(أحدهما)
لا تجب لها النفقة لان النفقة انما تجب بالتمكين والتسليم.
وانما(18/239)
يصح ذلك إذا كان هناك متمكن ومتسلم، والصبى لا يتمكن ولا يتسلم فلم تجب لها النفقة كما لو كان غائبا.
(والثانى)
يجب لها النفقة إذا سلمت نفسها - وهو الاصح - لان التمكين
والتسليم التام قد وجد منها وإنما تعذر من جهته فوجبت نفقتها، كما لو سلمت نفسها إلى البالغ ثم هرب.
وأما إذا كان صغيرين فسلمها الولى هل يجب لها النفقة فيه قولان، وجههما ما ذكرناه في التي قبلها إلا أن الاصح هنها أنه لا يجب لها النفقة، لان الاستمتاع متعذر من جهتها (فرع)
إذا تسلم الزوج وهى مريضة أو تسلمها صحيحة فمرضت عنده أو تسلمها وهى رتقاء (1) أو قرناء (2) أو أصابها ذلك بعد ان تسلمها، أو أصاب الزوج مرض أو جنون أو جشم (3) وجبت عليه النفقة، لان الاستمتاع بها ممكن مع ذلك.
قال الشافعي رضى الله عنه.
وإن كان في جماعها شدة ضرر منع من جماعها وأجبر بنفقتها.
وجملة ذلك أن الرجل إذا كاعظيم الخلق والزوجة نضوة الخلق وعليها في جماعة ضرر يخاف منه الانفضاء أو المشقة الشديدة أو كان بفرجها جرح يضر بها وطؤه، فإن وافقها الزوج على الضرر الذي يلحقها بوطئه لم يجز له وطؤها لقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعروف أن يمنع من وطئها فإن اختار طلاقها فطلقها فلا كلام.
وإن لم يختر طلاقها وجبت عليه نفقتها لانها محسوسة عليه، ويمكنه الاستمتاع بها بغير الوطئ.
وإن لم يصدقها الزوج بل ادعى أنه يمكنه جماعها، فإن ادعت تعذر الوطئ لعظم خلقته فقال العمرانى في البيان أمر الحاكم نساء ثقات يشاهدن ذلك بينهما حال الجماع من غير حائل.
__________
(1) الرتقاء التي انسد فرجها حتى لا يستطاع جماعها (2) القرناء التي نبت لها لحم في فرجها كالغدة الغليظة في مدخل الذكر.
وقد يكون عظما كالقرن (3) والحسم أن يستأصل ذكره أو لا يكون له ذكر وهو ضد الجسم وهو كبير الذكر جدا.
" المطيعي "(18/240)
فإن قلن إنه يلحقها مشقة شديدة أو يخاف عليها من ذلك منع من وطئها.
وإن قلنا إنه لا يلحقها مشقة شديدة ولا يخاف عليها منه أمرت بتمكينه من الوطئ.
وإن ادعت تعذر الوطئ بجراح في فرجها أمر الحاكم النساء ثقات ينظرن إلى فرجها لان هذا موضع ضرورة فجوز النظر إلى العورة واختلف أصحابنا في عدد النساء الاتى ينظرن إليها حال الجماع، أو ينظرن الجرح في فرجها، فقال أبو إسحاق يكفى واحدة لان طريق ذلك الاخبار والمشقة تلحقن بنظر الجماع منهما فجاز الاقتصار على واحدة ومن أصحابنا من قال: لا يكفي أقل من أربع نسوة في ذلك، لان هذه شهادة ينفرد بها النساء فلم يقبل فيه أقل من أربع كسائر الشهادات
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان سلمت إليه ومكن من الاستمتاع بها في نكاح فاسد لم تجب النفقة لان التمكين لا يصح مع فساد النكاح، ولا يستحق ما في مقابلته.
(فصل)
وان انتقلت المرأة من منزل الزوج إلى منزل آخر بغير اذنه أو سافرت بغير اذنه سقطت نفقتها، حاضرا كان الزوج أو غائبا لانها خرجت عن قبضته وطاعته فسقطت نفقتها كالناشزة.
وان سافرت بإذنه فان كان معها وجبت النفقة لانها ما خرجت عن قبضته ولا طاعته.
وان لم يكن معها ففيه قولان ذكرناهما في القسم.
(فصل)
وان أحرمت بالحج بغير اذنه سقطت نفقتها لانه ان كان تطوعا فقد منعت حق الزوج وهو واجب بما ليس بواجب، وان كان واجبا فقد منعت حق الزوج وهو على الفور بما هو على التراخي، وان أحرمت بإذنه فان خرجت معه لم تسقط نفقتها لانها لم تخرج عن طاعته وقبضته، وان خرجت وحدها فعلى القولين في سفرها باذنه
(فصل)
وان منعت نفسها باعتكاف تطوع أو نذر في الذمة سقطت نفقتها لما ذكرناه في الحج، وإن كان عن نذر معين أذن فيه الزوج لم تسقط نفقتها لان الزوج أذن فيه وأسقط حقه فلا يسقط حقها، وان كان عن نذر لم يأذن فيه:(18/241)
فإن كان بعد عقد النكاح سقطت نفقتها لانها منعت حق الزوج بعد وجوبه، وإن كان بعذر قبل النكاح لم تسقط نفقتها، لان ما استحق قبل النكاح لاحق للزوج في زمانه، كما لو أجرت نفسها ثم تزوجت، وإن اعتكفت بإذنه وهو معها لم تسقط نفقتها لانها في قبضته وطاعته وإن لم يكن معها فعلى القولين في الحج.
(فصل)
وإن منعت نفسها بالصوم فإن كان بتطوع ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تسقط نفقتها لانها في قبضته
(والثانى)
وهو الصحيح انها تسقط لانها منعت التمكين التام بما ليس بواجب فسقطت نفقتها كالناشزة، وان منعت نفسها بصوم رمضان أو بقضائه وقد ضاق وقته لم تسقط نفقتها، لان ما استحق بالشرع لا حق للزوج في زمانه.
وإن منعت نفسها بصوم القضاء قبل أن يضيق وقته، أو بصوم كفارة أو نذر في الذمة، سقطت نفقتها، لانها منعت حقه وهو على الفور بما هو ليس على الفور وإن كان بنذر معين - فإن كان النذر بإذن الزوج - لم تسقط نفقتها لانه لزمها برضاه، وان كان بغير اذنه - فإن كان بنذر بعد النكاح - سقطت نفقتها وان كان بنذر قبل النكاح لم تسقط لما ذكرناه في الاعتكاف
(فصل)
وان منعت نفسها بالصلاة - فإن كانت بالصلوات الخمس أو السنن الراتبة - لم تسقط نفقتها لان ما ترتب بالشرع لا حق للزوج في زمانه، وان كان بقضاء فوائت - فان قلنا انها على الفور - لم تسقط نفقتها، وان قلنا انها على التراخي سقط نفقتها لما قلنا في قضاء رمضان، وان كانت بالصلوات
المنذورة فعلى ما ذكرناه في الاعتكاف والصوم.
(الشرح) وان سلمت المرأة نفسها إلى الزوج ومكنته من الاستمتاع بها في نكاح فاسد لم تجب لها النفقة، لان التمكين لا يصح مع فساد النكاح فلم تستحق ما في مقابلته كما لا يستحق البائع الثمن في بيع فاسد (فرع)
إذا انتقلت الزوجة من منزل الزوج الذي أسكنها فيه إلى منزل غيره بغير أذنه وخرجت من البلد بغير اذنه فهى ناشزة وسقطت بذلك نفقتها، وبه قال أهل العلم كافة الا الحكم بن عينة فانه قال لا تسقط نفقتها، كما لو لم تسلم نفسها(18/242)
وان سافرت المرأه بغير اذن زوجها سقطت نفقتها لانها منعت استمتاعه بالسفر.
وان سافرت بإذنه نظرت، فان سافر الزوج معها لم تسقط نفقتها لانها في قبضته وطاعته.
وان سافرت وحدها، فان كانت في حاجة اللزوج وجبت عليه لانها سافرت في شغله ومراده.
وان سافرت بحاجة نفسها فقد قال الشافعي في النفقات لها النفقة، وقال في النكاح لانفقة لها، واختلف أصحابنا فيها، فقال أبو إسحاق: ليست على قولين وانما هي على اختلاف حالين، فحيث قال لها النفقة أراد إذا كان الزوج معها، وحيث قال لانفقة لها، أراد إذا لم يكن الزوج معها.
ومنهم من قال فيه قولان
(أحدهما)
لانفقة لها.
وبه قال أبو حنيفة وأحمد لانها غير ممكنة من نفسها فلم تجب لها النفقة، كما لو سافرت بغير اذنه
(والثانى)
تجب لها النفقة لانها سافرت باذنه فلم تسقط نفقتها، كما لو سافرت في حاجته.
(فرع)
وان أحرمت بالحج أو العمرة بغير أذنه سقطت نفقتها لانه ان كان تطوعا فقد منعت حق الزوج الواجب بالتطوع، وان كان واجبا عليها فقد منعت
حق الزوج وهو على الفور وحقها هي على التراخي.
أفاده صاحب البيان.
وان أحرمت باذنه وخرجت مع الزوج لم تسقط نفقتها لانها في قبضته، وان أحرمت باذنه وخرجت وحدها ففيه طريقان مضى ذكرهما في السفر وان اعتكفت فلا يصح عندها الا في المسجد، فان كان بغير اذن الزوج سقطت نفقتها لانها ناشزة بالخروج إلى المسجد بغير اذنه، وان كان باذن الزوج - فان كان الزوج معها في المسجد - لم تسقط نفقتها لانها في قبضته وطاعته وان لم يكن معها في المسجد فعلى الطريقين في السفر.
قال أبو إسحاق لانفقة لها قولا واحدا.
ومن أصحابنا من قال فيه قولان (فرع)
فان صامت المرأة بغير اذن زوجها نظرت - فان كان تطوعا - فللزوج منعها منه وله اجبارها على الفطر بالاكل والجماع، لقوله صلى الله عليه وسلم " لا تصومن المرأة التطوع وزوجها حاضر الا باذنه " فان امتنعت من الوطئ ولكنها لم تفارق المنزل ففيه وَجْهَانِ.
قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هي ناشزة(18/243)
فتسقط نفقتها لانها ممتنعة عليه، فلا فرق بين أن تمتنع بالفراش أو بمفارقة المنزل وقال المصنف: لا تسقط نفقتها، لانها ما لم تفارق المنزل فهي غير ناشزة.
وهذا قول الشيخ أبى حامد ومن أصحابنا من قال: إذا منعته الوطئ سقطت نفقتها وجها واحدا، وإنما الوجهان إذا صامت ولم تمنعه الوطئ.
وان كان الصوم واجبا نظرت - فان كان صوم رمضان - فليس له منعا منه ولا تسقط نفقتها به لانه مستحق بالشرع.
وإن كان قضاء رمضان قال صاحب البيان، فإن لم يضق وقت قضائه فله منعها منه وإن دخلت فيه بغير إذنه كان كما لو دخلت في صوم التطوع بغير إذنه، وان ضاق وقت قضائه - بأن لم يبق من شعبان إلا قدر أيام القضاء - لم يكن له منعها
منه.
وإن دخلت فيه بغير اذنه لم تسقط نفقتها بذلك، لانها لا يجوز لها تأخيره إلى دخول رمضان فصار مستحقا للصوم كأيام رمضان وان كان الصوم عن كفارة كان للزوج منعها منه، لانه على التراخي وحق الزوج على الفور.
وان الصوم نذرا - فإن كان في الذمة - كان له منعها منه لانه على التراخي وحق الزوج على الفور.
وان كان متعلقا بزمان بعينه، فان كان نذرته بإذن الزوج لم يكن له منعها منه لان زمانه قد استحق عليها صومه باذن الزوج فان دخلت فيه بغير اذنه لم تسقط بذلك نفقتها.
وان نذرته بغير اذن الزوج بعد النكاح كان للزوج منعها من الدخول فيه لانها فرطت بايجابه على نفسها بغير اذنه وان نذرت الصوم في زمان بعينه قبل عقد النكاح لم يكن للزوج منعها من الدخول فيه.
وان دخلت فيه بغير اذنه لم تسقط بذلك نفقتها، لان زمانه قد استحق صومه قبل عقد النكاح.
وكل موضغ قلنا للزوج منعها من الدخول فيه إذا دخلت فيه بغير اذن الزوج فهل تسقط نفقتها بذلك؟ فيه وجهان كما مضى في الصوم التطوع.
(فرع)
وان منعت نفسها بالصلوات الخمس في أوقاتها لم تسقط نفقتها بذلك لان وقتها مستحق للصلاة وليس للزوج منعها من الدخول فيها في أول الوقت.
لانها قد وجبت في أول وقتها، ولانه يفوت عليها فضيلة أول الوقت.
وأما قضاء الفائتة - فان قلنا انها تجب على الفور - لم يكن للزوج منعها منها.(18/244)
وان قلنا انها لا تجب على الفور كان للزوج منعها من الدخول فيها.
وأما الصلوات المنذورة فهى كالصوم المنذور على ما مضى وأما صلاة التطوع، فان كانت غير راتبة، كان للزوج منعها منها، لان حق الزوج واجب فلا يسقط بما لا يجب عليها - فان دخلت فيها بغير اذن الزوج احتمل أن يكون في سقوط
نفقتها في ذلك وجهان كما قلنا ذلك في الصوم التطوع، وان كانت سنة راتبة فقال الشيخ أبو إسحاق: لا تسقط نفقتها بها كما قلنا في الصلوات الخمس
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان الزوجان كافرين وأسلمت المرأة بعد الدخول ولم يسلم الزوج لم تسقط نفقتها لانه تعذر الاستمتاع بمعنى من جهته هو قادر على إزالته فلم تسقط نفقتها كالمسلم إذا غاب عن زوجته وقال أبو على بن خيران: فيه قول آخر إنها تسقط لانه امتنع الاستمتاع لمعنى من جهتها فسقطت نفقتها، كما لو أحرمت المسلمة من غير اذن الزوج، والصحيح هو الاول، لان الحج فرض موسع الوقت، والاسلام فرض مضيق الوقت فلا تسقط النفقة كصوم رمضان وإن أسلم الزوج بعد الدخول وهى مجوسية أو وثنية وتخلفت في الشرك سقطت نفقتها لانها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة، وان أسلمت قبل انقضاء العدة فهل تستحق النفقة للمدة التي تخلفت في الشرك؟ فيه قولان: أحدهما تستحق لان بالاسلام زال ما تشعث من النكاح، فصار كأن لم يكن.
والقول الثاني أنها لا تستحق لانه تعذر التمكين من الاستمتاع فيما مضى فلم تستحق النفقة كالناشزة إذا رجعت إلى الطاعة وان ارتد الزوج بعد الدخول لم تسقط نفقتها لان امتناع الوطئ بسبب من جهته وهو قادر على ازالته فلم تسقط النفقة، وان ارتدت المرأة سقطت نفقتها لانها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة، فان عادت إلى الاسلام قبل انقضاء العدة فهل تجب نفقة ما مضى في الردة؟ فِيهِ طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قولانه كالكافرة إذا تخلفت في الشرك ثم أسلمت.
ومنهم من قال(18/245)
لا تجب قولا واحدا، والفرق بينهما وبين الكافرة أن الكافرة لم يحدث من جهتها منع بل أقامت على دينها، والمرتدة أحدثت منعا بالردة فغلط عليها.
وإن ارتدت الزوجة وعادت إلى الاسلام والزوج غائب استحقت النفقة من حيث عادت إلى الاسلام، وإن نشزت الزوجة وعادت إلى الطاعة والزوج غائب لم تستحق النفقة حتى يمضى زمان لو سافر فيه لقدر على استمتاعها، والفرق بينهما أن المرتدة سقطت نفقتها بالردة وقد زالت بالاسلام، والناشزة سقطت نفقتها بالمنع من التمكين وذلك لا يزول بالعود إلى الطاعة
(فصل)
وإن كانت الزوجة أمة فسلمها المولى بالليل والنهار وجبت لها النفقة لوجود التمكين التام.
وإن سلمها بالليل دون النهار ففيه وجهان.
أحدهما وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يجب لها نصف النفقة اعتبارا بما سلمت.
والثانى وهو قول أبى اسحاق، وظاهر المذهب أنه لا تجب لانه لم يوجد التمكين التام.
فلم يجب لها شئ من النفقة كالحرة إذا سلمت نفسها بالليل دون النهار.
والله أعلم (الشرح) إذا أسلمت الزوجة والزوج كافر - فان كان قبل الدخول - فلا نفقة لها لان الفرقة وقعت بينهما، وان كان بعد الدخول فان النكاح موقوف على اسلام الزوج في عدتها، ولها النفقة عليه مدة عدتها، لان تعذر الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج وهو امتناعه من الاسلام، ويمكنه تلافى ذلك فلم تسقط نفقتها كما لو غاب عن زوجته.
وحكى ابن خيران قولا آخر أن نفقتها تسقط لان الاستمتاع سقط بمعنى من جهتها فسقطت به نفقتها، كما لو أحرمت بالحج بغير اذن الزوج، والمشهور هو الاول، لان الحج فرض موسع الوقت، والاسلام فرض مضيق الوقت فلم تسقط به نفقتها كصوم رمضان، فان انقضت عدتها قبل أن يسلم الزوج بانت وسقطت نفقتها
(فرع)
وان أسلم الزوج والزوجة وثنية أو مجوسية - فان كان قبل الدخول - وقعت الفرقة بينهما ولا نفقة لها، وان كان بعد الدخول وقف النكاح على اسلامها قبل انقضاء عدتها فلا نفقة لها مدة عدتها ما لم تسلم، لانها منعت(18/246)
الاستمتاع بمعصية، وهو اقامتها على الكفر.
فهي كالناشزة فان انقضت عدتها قبل أن تسلم فقد بانت باختلاف الدين ولا نفقة لها.
وان أسلمت قبل انقضاء عدتها وجبت لها النفقة من حين أسلمت لانهما قد اجتمعا على الزوجية، وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها في الكفر؟ فيه قولان.
قال في القديم: تجب لها النفقة لان اسلام الزوج شعث النكاح، فإذا أسلمت قبل انقضاء عدتها زال ذلك التشعث فصار كما لو لم يتشعث.
وقال في الجديد: لا تجب لها النفقة لما مضى من عدتها وهو الاصح، لان اقامتها على الكفر كنشوزها، ومعلوم أنها لو نشزت وأقامت مدة في النشوز ثم عادت إلى طاعته لم تجب نفقتها مدة اقامتها في النشوز فكذلك هذا مثله (فرع)
وان كان الزوجان مسلمين فارتد الزوج بعد الدخول وجبت عليه نفقتها مدة عدتها، لان امتناع الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج فلم تسقط نفقتها بذلك كما لو غاب.
وان ارتدت الزوجة بعد الدخول فأمر النكاح موقوف على اسلامها قبل انقضاء عدتها ولا تجب لها النفقة مدة عدتها لانها منعت الاستمتاع بمعصية من جهتها فو كما لو نشزت فان انقضت عدتها قبل أن تسلم فلا كلام.
وان أسلمت قبل انقضاء عدتها وجبت نفقتها من حين أسلمت لانهما قد اجتمعا على الزوجية.
وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها قبل الاسلام؟ من أصحابنا من قال فيه قولان، كما قلنا في المشركة إذا تخلفت عن الاسلام ثم أسلمت قبل انقضاء عدتها.
ومنهم من قال لا تجب لها النفقة قولا واحدا، لان في التي قبلها دخلا على الكفر، وانما الزوج شعث النكاح بإسلامه، وههنا دخلا على الاسلام، وانما شعثت هي النكاح بردتها فغلظ عليها.
وان ارتدت الزوجة والزوج غائب، أو غاب بعد ردتها فرجعت إلى الاسلام والزوج غائب وجبت لها النفقة من حين رجعت إلى الاسلام، وكذلك لو أسلم الزوج والزوجة وثنية أو مجوسية وتخلفت في الشرك وكان الزوج غائبا فأسلمت قبل انقضاء عدتها وجبت لها النفقة من حين أسلمت ولو نشزت الزوجة من منزلها والزوج غائب أو غاب بعد نشوزها فعادت(18/247)
إلى منزلها لم تجب نفقتها حتى يكون الزوج حاضرا فيتسلمها أو تجئ إلى الحاكم وتقول: أنا أعود إلى طاعته، ثم يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج فيستدعيه المكتوب إليه ويقول له: إما أن تسير إليها لتتسلمها أو توكل من يتسلمها فإن لم يسر ولم يوكل مع قدرته على ذلك ومضى زمان يمكنه الوصول إليها وجبت النفقة لها من حينئذ، والفرق بينهما أن نفقتها سقطت عنه بالنشوز لخروجها عن قبضته فلا يرجع إلى نفقتها إلا برجوعها إلى قبضته، وكذلك لا يحصل إلا بتسليمه لها أو بتمكينه من ذلك، وليس كذلك المرتدة والمشركة، فإن نفقتها انما سقطت بالردة أو بالاقامة على الشرك، فإذا أسلمت زال المعنى الذي أوجب سقوطها فزال سقوطها.
(فرع)
وان دفع الوثني إلى امرأته الوثنية أو المجوسى إلى امرأته المجوسية نفقته شهر بعد الدخول ثم أسلم الزوج ولم تسلم هي حتى انقضت عدتها وأراد الرجوع فيما دفع إليها من النفقة نظرت، فإن دفعه إليها مطلقا، قال الشافعي: لم يرجع عليها بشئ، لان الظاهر أنه تطوع بدفعها إليها
وان قال هذه النفقة مدة مستقبلة كان له الرجوع فيها لانه بان أنها لا تستحق عليه نفقة.
قال ابن الصباغ في الشامل: وهذا يقتضى أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ الايجاب والقبول، لانه جعله تطوعا مع الاطلاق.
قال فان قيل: يحتمل أن يريد أنه إباحة فليس بصحيح، لانه لو كان اباحة بشرط أن يكون قد أتلفته حتى يسقط حقه منها، والله تعالى أعلم بالصواب(18/248)
قال المصنف رحمه الله تعالى
باب قدر (1) نفقة الزوجات إذا كان الزوج موسرا، وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه، لزمه في كل يوم مدان، وإن كان معسرا وهو الذي لا يقدر على النفقة بمال ولا كسب لزمه في كل يوم مد لقوله عز وجل " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينق مما آتاه الله " ففرق بين الموسر والمعسر، وأوجب على كل واحد منهما على قدر حاله ولم يبن المقدار، فوجب تقديره بالاجتهاد، وأشبه ما تقاس عليه النفقة الطعام في الكفارة، لانه طعام يجب بالشرع لسد الجوعة، وأكثر ما يجب في الكفارة للمسكين مدان في فدية الاذى، وأقل ما يجب مد.
وهو في كفارة الجماع في رمضان.
فإن كان متوسطا لزمه مد ونصف، لانه لا يمكن إلحاقه بالموسر وهو دونه، ولا بالمعسر ولا هو فوقه، فجعل عليه مد ونصف.
وإن كان الزوج عبدا أو مكاتبا وجب عليه مد، لانه ليس بأحسن حالا من الحر المعسر، فلا يجب عليه أكثر من مد.
وَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا وَنِصْفُهُ عَبْدًا وَجَبَ عليه نفقة المعسر.
وقال المزني، إن كان موسرا بما فيه من الحرية وجب عليه مد ونصف، لانه
اجتمع فيه الرق والحرية فوجب عليه نصف نفقة الموسر وهو مد ونصف نفقة المعسر وهو نصف مد، وهذا خطأ.
لانه ناقص بالرق فلزمه نفقة المعسر كالعبد
(فصل)
وتجب النفقة عليه من قوت البلد لقوله عز وجل " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ولقوله صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " والمعروف ما يقتاته الناس في البلد، ويجب لها الحب،
__________
(1) في النسخة المطبوعة من المهذب ترجم الباب هكذا، " باب قدر النفقة " وقد تحققنا أن الصحيح ما أثبتناه مما ذكره قدامى الاصحاب ممن تناولوا المهذب بالشرح والتعليق.
" المطيعي "(18/249)
فإن دفع إليها سويقا أو دقيقا أو خبزا لم يلزمها قبوله، لانه طعام وجب بالشرع فكان الواجب فيه هو الحب كالطعام في الكفارة، وإن اتفقا على دفع العوض ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لانه طعام وجب في الذمة بالشرع فلم يجز أخذ العوض فيه كالطعام في الكفارة.
والثانى: يجوز وهو الصحيح لانه طعام يستقر في الذمة للآدمي، فجاز أخذ العوض فيه كالطعام في القرض، ويخالف الطعام في الكفارة فإن ذلك يجب لحق الله تعالى، ولم يأذن في أخذ العوض عنه، والنفقة تجب لحقها وقد رضيت بأخذ العوض.
(الشرح) الاحكام: نفقة الزوجة معتبرة بحال الزوج لا بحال الزوجة فيجب لابنة الوزير أو رئيس الدولة ما يجب لابنة الحارس، وهى مقدرة غير معتبرة بكفايتها.
وقال مالك: نفقتها تجب على قدر كفايتها وسعتها، فإن كانت ضعيفة الاكل فلها قدر ما تأكل.
وإن كانت أكولة فلها ما يكفيها
وقال أبو حنيفة: إن كانت معسرة فلها في الشهر من أربعة دراهم إلى خمسة.
وان كانت موسرة فمن سبعة دراهم إلى ثمانية، فإذا حولنا هذه المقادير إلى نقدنا المعاصر في مصر حرمها لله كان الدرهم يساوى خمسين قرشا.
وقال أصحاب أبى حنيفة: انما قال هذا حيث كان الرخص في وقته، فأما في وقتنا فيزاد على ذلك.
ويعتبرون كفايتها كقول مالك.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ لهند " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف " ودليلنا قوله تعالى " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله " وأراد أن الغنى ينفق على حسب حاله، والفقير على حسب حاله، ولقوله تعالى، " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وأراد بالمعروف عند الناس، والعرف والعادة عند الناس أن نفقة الغنى والفقير تختلف، ولانا لو قلنا ان نفقتها معتبرة بكفايتها لادى ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة بينهما ولا يصل الحاكم إلى قدر كفايتها فكانت مقدرة(18/250)
وأما خبر هند فهو حجة لنا لانه قال " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف " والمعروف عند الناس يختلف بيسار الزوج وإعساره، ولم يقل خذى ما يكفيك ويطلق، وعلى أنا نحمله على أنه علم من حاله أن كفايتها لا تزيد على نفقة الموسر وكان أبو سفيان موسرا.
إذا ثبت هذا فإن نفقتها معتبرة بحال الزوج، فإن كان الزوج موسرا - وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه - وجب لها كل يوم مدان، وان كان معسرا، وهو الذي لا يقدر على النفقة بماله ولا كسبه وجب كل يوم مد وهو رطل وثلث وهو نحو ستمائة جرام من الحنطة تقريبا، لان أكثر ما أوجب الله تعالى في الكفارات للواحد مدان.
وهو في كفارة الاذى.
وأقل ما أوجب
للواحد في الكفارة مد، فقسنا نفقة الزوجات على الكفارة، لان الله تعالى شبه الكفارة بنفقة الاهل في الجنس بقوله تعالى " من أوسط ما تطعمون أهليكم " فاعتبرنا الاكثر والاقل في الواجب للواحد في الكفارة.
وأما المتوسط فإنه يجب عليه كل يوم مد ونصف مد، لانه أعلى حالا من المعسر وأدنى حالا من الموسر فوجب عليها من نفقة كل واحد منهما نصفها (فرع)
وان كان الزوج عبدا أو مكاتبا أو مدبرا أو معتقا نصف وجب عليه نفقة زوجته لقوله " وعلى المولود له رزقهن " الخ الآية.
وهذا مولود له ولا تجب عليه الا نفقة المعسر لانه أسوأ جللا من الحر المعسر قوله " وتجب النفقة عليه من قوت البلد " وهذا صحيح فإنه يجب عليه أن يدفع إليه من غالب قوت البلد.
فإذا كان غالب قوت البلد من البر أنفق منه.
وان كان من الارز أنفق منه.
وان كان من التمر أنفق منه.
ولانه طعام يجب على وجه الاتساع والكفاية فوجب من غالب قوت البلد كالكفارة.
ويجب أن يدفع إليها الحب.
فإن دفع إليها الدقيق أو السويق أو الخبز، قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ لم يجز وذكر صاحب المهذب أنه لا يجوز وجها واحدا لقوله تعالى " فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " فجعل الكفارة فرعا للشفقة ومحمولا عليها.(18/251)
فلما كانت الكفارة الواجبة هي الحب نفسه، فإنه لا يجزئ الدقيق والسويق والخبز فكذلك النفقة، وإن أعطاها قيمة الحب لم تجبر على قبولها، لان الواجب لها هو الحب فلا تجبر على أخذ قيمته، كما لو كان لها طعام قرض، وإن سألته أن يعطيها قيمته لم يجبر الزوج على دفع القيمة، لان الواجب عليه هو الحب فلا يجبر
على دفع قيمته، فإن تراضيا على القيمة فهل يصح؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح لانه طعام وجب في الذمة بالشرع فلم يصح أخذ العوض عنه كالكفارة.
(والثانى)
يصح وهو الصحيح لانه طعام وجب على وجه الرفق فصخ أخذ العوض عنه كالقرض.
قال الصيمري والمسعودي: وتلزمه مؤنة طحنه وخبزه حتى يكون مهيئا لانه هو العرف.
ولا نرى أن الحب أمر يطرد في جميع البلاد والمجتمعات، بل إن في بعض المدن كالقاهرة والاسكندرية وغيرهما ما يكون الحب كالحصى والتراب لا منفعة فيه ولا فائدة، ويتعين أن يعطى الزوج النفقة بما يمكنها من الطعام وييسر لها أسباب العيش أسوة بغيرها من النساء ولا يتحقق هذا بالحب، وإنما يتحقق بالقيمة، ويكون إعطاء القيمة منه أمرا لازما لااختيار فيه لزوم النفقة نفسها.
قال الشافعي رضى الله عنه: وجماع المعروف إعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه وأداؤه إليه بطيب النفس لا بضرورته إلى طلبه ولا تأديته بإظهار الكراهية لتأديته وأيهما ترك فظلم، لان مطل الغنى ظلم ومطله تأخيره الحق.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب لها الادم بقدر ما يحتاج إليه من أدم البلد من الزيت والشيرج والسمن واللحم، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم.
الخبز والزيت وعن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال " الخبز والزيت والخبز والسمن والخبز والتمر.
ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم " ولان ذلك من النفقة بالمعروف.(18/252)
(فصل)
ويجب لها ما تحتاج إليه من المس والسدر والدهن للرأس وأجرة الحمام، ان كان عادتها دخول الحمام، لان ذلك يراد للتنظيف فوجب عليه كما يجب على المستأجر كنس والدار وتنظيفها.
وأما الخضاب فإنه إن لم يطلبه الزوج لم يلزمه، وإن طلبه منها لزمه ثمه لانه للزينة.
وأما الادوية وأجرة الطبيب والحجام فلا تجب عليه، لانه ليس من النفقة الثابتة، وإنما يحتاج إليه لعارض وأنه يراد لاصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر إصلاح ما انهدم من الدار وأما الطبيب فإنه إن كان يراد لقطع السهوكة لزمه لانه يراد للتنظيف، وان كان يراد للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه، لان الاستمتاع حق له فلا يجبر عليه.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه " وأقل ما يعولها به وخادمها ما لا يقوم بدن أحد على أقل منه، وذلك مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لها في كل يوم من طعام البلد الذي يقتاتون، حنطة كان أو شعيرا، أو ذرة أو أرزا أو سلتا، ولخادمها مثله ومكيلة من أدم بلادها زيتا كان أو سمنا بقدر ما يكفى ما وصفت من ثلاثين مدا في الشهر، ولخادمها شبيه به، ويفرض لها في دهن ومشط أقل ما يكفيها، ولا يكون ذلك لخادمها لانه ليس بالمعروف قال: وان كانت ببلد يقتاتون فيه أصنافا من الحبوب كان لها الاغلب من قوت مثلها في ذلك البلد.
وقد قيل لها في الشهر أربعة أرطال في كل جمعة رطل وذلك المعروف لها.
اه قلت: وجملة ذلك أنه يجب للزوجة الادام لقوله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ومن المعروف أن المرأة لا تأكل خبزها إلا بأدم وروى عكرمة " أن امرأة سألت أبن عباس وقالت له " ما الذي لى من مال زوجي؟ فقال الخبز والادم.
قالت أفآخذ من دراهمه شيئا؟ فقال أتحبين أن يأخذ من مالك فيتصدق به؟ قالت لا، فقال كذلك لا تأخذى من دراهمه شيئا
بغير أمره " ويرجع في جنسه وقدره إلى العرف فيجب في كل بلد من غالب أدمها وقال أصحابنا ان كان بالشام فالادم الزيت، وان كان العراق فالشيرج.
وان كان بخراسان فالسمن، وإنما أوجب الشافعي الادهان من بين سائر الادام لانها(18/253)
أصلح للابدان وهى مع البر تعطى طاقة حرارية للبدن عالية قال في الادهان من البروتين، قال في البيان وهي أخف مئونة لانه لا يحتاج في التأدم بها إلى طبخ ويرجع في قدره إلى العرف، فإن كان العرف أن يؤيدم على المد أو قية دهن وجب لامرأة الموسر كل يوم أو قيتادهن ولامرأة المعسر أو قية ولامرأة المتوسط أو قية ونصف، لانه ليس للادم أصل يرجع إليه في تقديره فرجع في تقديره إلى العرف بخلاف النفقة.
قال وعندي أنها إذا كانت في بلد غالب أدم أهله اللبن كأهل اليمن فإنه يجب أدمها من اللبن.
اه (فرع)
إذا كانت في بلد يتأدم أهله اللحم فإنه يجب عليه أن يدفع إليها في كل جمعة لحما لان العرف والعادة أن الناس يطبخون اللحم كل جمعة قال أصحابنا وإنما فرض الشافعي في كل جمعة رطل لحم لانه كان بمصر واللحم فيها يقل، فأما إذا كانت في موضع يكثر فيه اللحم، فإن الحاكم يفرض لها على ما يراه من رطلين أو أكثر.
وهذا لامرأة المعسر، فأما امرأة الموسر فيجب لها من ذلك ضعفه ما يجب لامرأة المعسر قوله " الخضاب " وهو ما يخضب به من حناء وكتم ومساحيق الشفاه الحمراء وسوائل الاظافر.
قال الاعشى أرى رجلا منكم أسييفا كأنما يضم إلى كشحيه كفا مخضبا وخضب الرجل شيبه يخضبه والخضاب الاسم، قال السهيلي، عبد المطلب أول من خضب بالسواد من العرب.
وفي الحديث بكى حتى خضب دمعه الحصى
أي بلها من طريق الاستعارة قال ابن الاثير.
والاشبه أن يكون أراد المبالغة في البكاء حتى أحمر دمعه فخضب الحصا.
وأما السهوكة فهي من السهك.
قال في اللسان " ريح كريهة تجدها من الانسان إذا عرق تقول أنه لسهك الريح، وقد سهك سهكا وهو سهك.
قال النابغة: سهكين من صدإ الحديد كأنهم تحت النور جنة البقار(18/254)
ولولا لبسهم الدروع التي قد صدأت ما وصفهم بالسهك، والسهك والسهكة قبح رائحة اللحم إذا خبز وقال ابن بطال وأصله ريح السمك وصدأ الحديد أما ما في هذه الفصل من الاحكام فهو أنه يجب لها ما تحتاج إليه من الدهن والمشط، لان ذلك تحتاج إليه لزينة شعرها فوجب عليه كنفقة بدنها، ولان فيه تنظيفا فوجب عليه، كما يجب على المكنرى كنس الدار المستأجرة، هكذا أفاده العمرانى في البيان.
ويجب عليه ما تحتاج إليه من الصابون وأجرة الحمام، أو توفير أسباب الاستحمام في مسكنها لما ذكرناه في الدهن والمشط.
قال الشيخ أبو إسحاق هنا فأما الخضاب فإن لم يطلب الزوج منها لم يلزمه، وان طلبه منها لزمه ثمنه، وأما الطيب، فإن كان يراد لقطع السهوكة لزمه لانه يراد للتنظيف، وان كان راد للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه، لان الاستمتاع حق له فلا يلزمه، ولا يلزمه أجرة الحجامة والفصادة، ولا ثمن الادوية ولا أجرة الطبيب ان احتاجت إليه لان ذلك يراد لحفظ بدنها لعارض
ولنا وفقة عند هذا الامر الذي ينبغى النظر إليه من خلال ما طرأ على حياة الناس من تغير، وليس هذا الفرع بالشئ الثابت الذي لا يتأثر بالعوامل الانسانية السائدة، فإنه إذا كان الزوجان في مجمتع أو بيئة أو دولة تكفل للعامل والشغال قدرا من الرعاية الصحية تحت اسم اصابة العمل أو المرض أثناء الخدمة فيتكفل صاحب العمل ببعض نفقات العلاج أو كلها، فإنه ليس من العروف أن لضرب المثل هنا بإجارة الدار مع الفارق بين الزوجة والدار، والاقرب إلى التشبيه أن يكون المثل إنسانيا فيضرب المثل بالعامل فإنه أولى على أن الفصل في ذلك أن المرء فيها أمير نفسه، فإن كان يحس في وجدانه بقوله تعالى " والله خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " فإنه لن يشح عليها بما يزيل وصبها وعطبها في كتفه، وهو أمر مستحب يدخل في فضائل المروءة وحسن المعاشرة والايثار(18/255)
وإذا كانت أجرة الحمام لتنظيف البدن.
وكذلك فرض مقادير اللحم والادم لحفظ بدنها، وأصحابنا يقولون بأن هذه كلها لحفظ البدن على الدوام فنحن قد أستحببنا قياس ثمن الدواء لحفظ البدن مما يطرأ عليه على نفقة البدن الاخرى، وفيما يأتي من مسائل ما يؤيد قياسنا هذا.
وقد ذهبنا إلى استحبابه للاجماع على عدم وجوبه بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
(فصل)
ويجب لها الكسوة لقوله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ولحديث جابر " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ولانه يحتاج إليه لحفظ البدن على الدوام فلزمه كالنفقة، ويجب لامرأة الموسر من مرتفع ما يلبس في البلد من القطن والكتان والخز والابريسم، ولامرأة المعسر من غليظ
القطن والكتان، ولامرأة المتوسط ما بينهما، وأقل ما يجب قميص وسراويل ومقنعة ومداس للرجل، وإن كان في الشتاء أضاف إليه جبة، لان ذلك من الكسوة بالمعروف.
(فصل)
ويجب لها ملحفة أو كساء ووسادة ومضربة محشوة للنوم، وزلية أو لبد أو حصير للنهار، ويكون ذلك لامرأة الموسر من المرتفع، ولامرأة المعسر من غير المرتفع، ولامرأة المتوسط ما بينهما لان ذلك من المعروف
(فصل)
ويجب لها مسكن لقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعروف أن يسكنها في مسكن، ولانها لاتستغنى عن المسكن للاستتار عن العيون والتصرف والاستمتاع، ويكون المسكن على قدر يساره وإعساره وتوسطه كما قلنا في النفقة.
(فصل)
وإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها بأن تكون من ذوات الاقدار أو مريضة وجب لها خادم لقوله عز وجل " وعاشروهن بالمعروف " ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها من يخدمها، ولا يجب لها أكثر من خادم واحد لان المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد، ولايجوز أن يكون(18/256)
الخادم الا امرأة أو ذا رحم محرم، وهل يجوز أن يكون من اليهود والنصارى؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز لانهم يصلحون للخدمة
(والثانى)
لا يجوز لان النفس تعاف من استخدامهم وإن قالت المرأة: أنا أخدم نفسي وآخذ أجرة الخادم لم يجبر الزوج عليه لان القصد بالخدمة ترفيهها وتوفيرها على حقه، وذلك لا يحصل بخدمتها.
وإن قال الزوج أنا أخدمها بنفسى فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه يلزمها الرضا به، لانه تقع الكفاية
بخدمته
(والثانى)
لا يلزمها الرضا به لانها تحتشمه ولا تستوفى حقها من الخدمة
(فصل)
وان كان الخادم مملوكا لها واتفقا على خدمته لزمه نفقته، فإن كان موسرا لزمه للخادم مد وثلث من قوت البلد، وان كان متوسطا أو معسرا لزمه مد لانه لا تقع الكفاية بما دونه، وفي أدمه وجهان
(أحدهما)
أنه يجب من نوع أدمها كما يجب الطعام من جنس طعامها.
(والثانى)
أنه يجب من دون أدمها وهو المنصوص، لان العرف في الادم أن يكون من دون أدمها، وفي الطعام العرف أن يكون من جنس طعامها، ويجب الخادم كل زوجة من الكسوة والفراش والدثار دون ما يجب للزوجة، ولا يجب له السراويل ولا يجب له المشط والسدر والدهن للرأس، لان ذلك يراد للزينة والخادم لايراد للزينة، وان كانت خادمة تخرج للحاجات وجب لها خف لحاجتها إلى الخروج (الشرح) قوله " الزلية " بساط عراقى نحو الطنفسة، والدثار والثوب الذي يتدفأ به.
قال الشافعي رضى الله عنه: وفرض لها من الكسوة ما يكسى مثلها ببلدها عند المقتر، وذلك من القطن الكوفى والبصرى وما أشبههما، ولخادمها كرباس وتبان وما أشبهه، وفرض لها في البلاد الباردة أقل ما يكفى من البرد من جبه محشوة وقطيفة أو لحاف وسراويل وقميص وخمار أو مقنعة، ولخادمها جبة صوف وكساء تلحفه يدفئ مثلها، وقميص ومقنعة وخف ومالا غنى بها عنه، وفرض لها للصيف قيمصا وملحفة ومقنعة.
قال وتكفيها القطيفة سنين ونحو ذلك الجبة المحشوة.
اه(18/257)
وجملة ذلك أن كسوة الزوجة تجب على الزوج لقوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ولقوله صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف " ولان الكسوة تحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام، فوجبت على الزوج كالنفقة.
إذا ثبت هذا فإن المرجع في عدد الكسوة وقدرها وجنسها لى العرف والعادة لان الشرع ورد بإيجاب الكسوة غير مقدرة، وليس لها أصل يرد إليه، فرجع في عددها وقدرها إلى العرف بخلاف النفقة، فإن في الشرع لها أصلا، وهو الاطعام في الكفارة فردت النفقة إليها فإن قيل فقد ورد الشرع بإيجاب الكسوة في الكفارة فهلا ردت كسوة الزوجة إلى ذلك؟ فالجواب أن في الكسوة الواجبة في كفارة اليمين ما يقع عليه اسم الكسوة، وأجمعت الامة على أنه لا يجب للزوجة من الكسوة ما يقع عليه اسم الكسوة، فإذا منع الاجماع من قياس كسوتها على الكسوة في الكفارة لم يبق هناك أصل يرد إليه، فرجع في ذلك إلى العرف.
فأما عدد الكسوة قال الشافعي: فيجب للمرأة قميص وسراويل وخمار أو مقنعة قال أصحابنا: ويجب لها شئ تلبسه في رجلها من نعل ونحوه.
وأما قدرها فإنه يقطع لها ما يكفيها على قدر طولها وقصرها، لان عليه كفايتها في الكسوة ولا تحصل كفايتها إلا بقدرها.
وأما جنسها فإن الشافعي قال أجعل لامرأة الموسر من لين البصري والكوفي والبغدادي، ولامرأة المعسر من غليظ البصري والكوفي - قال الشيخ أبو حامد إنما فرض الشافعي هذه الكسوة على عادة أهل زمانه.
لان العرف في وقته على ما ذكر.
فأما في وقتنا فإن العرف قد اتسع فإن العرف أن امرأة الموسر تلبس الحرير والخز والكتان، فيدفع إليها مما جرت عادة نساء بلدها بلبسه.
وان كان في الشتاء أضاف إلى ذلك جبة محشوة تتدفأ بها.
انتهى وعندي أنها إذا كانت في بلد لا يكتفي نساؤهم إلا بثياب داخلية وثياب
خارجية وثياب للنوم وجب كسوتها من ذلك، ويجب لها نطاق وخمار، فيجب لامرأة الموسر من مرتفع ذلك، وتسمى في زماننا بالطرحة أو الايشارب.(18/258)
ولامرأة المعسر من خشن ذلك، ولامرأة المتوسط مما بينهما.
وإن كانت في بلد لا تختلف كسوة أهلها في زمان الحر والبرد لم تجب لها الملابس المحشوة كالباطو للشتاء، لان ذلك هو العرف والعادة في حق أهل بلدها فلم يجب لها أكثر منه قال اشافعى " وإن كانت بدوية فما يأكل أهل البادية ومن الكسوة بقدر ما يكتسبون - قال الشافعي " ولامرأته فراش ووسادة من غليظ متاع البصرة، وجملة ذلك أنه يجب لها عليه فراش، لانها تحتاج إلى ذلك كما تحتاج إلى الكسوة فيجب لامرأة الموسر مضربه محشوة بالقطن ووسادة.
وإن كان في الشتاء وجب لها لحاف أو قطيفة للدفء.
وان كان في الصيف وجب لها ملحفة.
وهل يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجب لها غير الفراش الذي تنام عليه لانها تكتفى بذلك
(والثانى)
- وهو المذهب - أنه يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه كالحشية (الشلته) أو كرسى أو سجادة أو ما أشبه ذلك لان العرف في أمرأة الموسر أنها تجلس في النهار على غير الفراش الذي تنام عليه، وقد يحدد العرف مكانا لجلوسها كمكان الاستقبال (الانزيه أو الصالون) فعلى الموسر أن يوفر لها مثل أحد هذه المكانين لاستراحتها (مسألة) ويجب لها مسكن لقوله تعالى " أسكنونهن من حيث سكنتم من وجدكم " وقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعروف أن يسكنها بمسكن ولانها تحتاج إليه للاستتار عن العيون عند الاستمتاع، ويقيها من الحر والبرد، فوجب عليه كالكسوة ويعتبر ذلك بيساره وإعساره وتوسطه
(مسألة) وإن كان المرأة ممن لا تخدم نفسها لمرض بها أو كانت من ذوات الاقدار - قال ابن الصباغ فإن كانت لا تخدم نفسها في بيت أبيها وجب على الزوج أن يقيم لها من يخدمها وقال داود " لا يجب عليه لها خادم " دليلنا قوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعاشرة بالمعروف أن يقيم لها من يخدمها: ولان الزوج لما وجبت عليه نفقة الزوجة وجب عليه إخدامها كالاب لما وجبت عليه نفقة الابن وجبت عليه أجرة من يخدمه وهو من يحضنه.
إذا ثبت هذا فإنه لا يلزمه لها إلا خادم واحد، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ(18/259)
وقال مالك: إذا كانت تخدم في بيت أبيها بخادمين أو أكثر، أو كانت تحتاج إلى أكثر من خادم وجب عليه ذلك.
وقال أبو ثور: إذا احتمل الزوج ذلك فرض لخادمين، ودليلنا أن الزوج إنما يلزمه أن يقيم لها من يخدمها بنفسها دون مالها، وما من امرأة إلا ويكفيها خادم واحد فلم يجب لها أكثر منه (فرع)
ولا يكون الخادم إلا امرأة أو رجلا من ذوى محارمها لانها تحتاج إلى نطر الخادم، وقد تخلو به فلم يجز أن يكون رجلا أجنبيا.
وهل تجبر المرأة على أن يكون من اليهود والنصارى؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تجبر على خدمتهم لانهم يصلحون للخدمة
(والثانى)
لا تجبر على أحد منهم لان النفس تعاف من استخدامهم، فإن أخدمها خادما يملكه، أو اكثري لها خادما يخدمها، أو كان لها خادم واتفقا أن يخدمها وينفق عليه أو خدمها الزوج بنفسه ورضيت الزوجة بذلك جاز، لان المقصود خدمتها وذلك يحصل بجميع ذلك وعند أصحاب أحمد في إخدام اليهود والنصارى وجهان كالوجهين عندنا
الصحيح منهما جوازه لان استخدامهم مباح، وقد ذكر في المغنى لابن قدامة أن الصحيح إباحة النظر لهم.
وإن أراد الزوج أن يقيم لها خادما واختارت المرأة أن تقيم لها خادما غيره ففيه وجهان حكاهما القاضى أبو الطيب
(أحدهما)
يقدم اختيار الزوجة لان الخدمة حق لها، وربما كان من تختاره أقوم بخدمتها
(والثانى)
يقدم اختيار الزوج، لان الخدمة حق عليه لها فقدمت جهة اختياره كالنفقة، ولانه قد يتهم من تختاره الزوجة فقدم اختيار الزوج قال المسعودي وإن كان لها خادم فأراد الزوج إبداله بغيره فإن كان بالخادم عيب، أو كان سارقا، فله ذلك وإلا فلا، وان أراد الزوج أن يخدمها بنفسه وامتنعت من ذلك فهل تجبر؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تجبر عليه، وهو اختيار أبى إسحاق المروزى والشيخ أبى حامد لان المقصود إخدامها فكان له إخدامها بغيره وبنفسه، كما يجوز أن يوصل إليها النفقة بوكيله أو بنفسه.(18/260)
(والثانى)
لا تجبر على قبول خدمته لانها تحتشم أن تستخدمه في جميع حوائجها، ولان عليها عارا في ذلك وغضاضة فلم تجبر عليه هذا نقل أصحابنا البغدادين، لانها لا ترضى أن يكون لها زوجها خادما ولو كان خادما لها، وبهذين الوجهين قال الحنابلة وقال المسعودي ان كانت خدمته مما لا تحتشم منه في مثلها، مثل كنس البيت والطبخ ونحوه أجبرت على قبول ذلك منه، وان كانت خدمته تحتشم منه في مثلها كحمل الماء معها إلى المستحم ونحوه لم يجبر على قبول ذلك منه، بل يجب عليه أن يأتيها بخادم يتولى ذلك لها (فرع)
وأما نفقة من يخدمها، فإن أخدمها بمملوك له فعليه نفقته وكسوته
على الكفاية لحق الملك لا لخدمتها، وإن استأجر من يخدمها فله أن يستأجره بالقليل والكثير، وان وجد من يتطوع بخدمتها من غير عوض جاز، لان حقها في الخدمة وقد حصل ذلك، وإن كان لها خادم مملوك لها واتفقا على أن يخدمها وجب على الزوج نفقة خادمها وكسوته وزكاة فطره، وتكون نفقته مقدرة، وقد أوهم المرنى أن في وجوب نفقة خادمها قولين.
قال أصحابنا وليس بشئ إذا ثبت هذا فإنه يجب لخادم امرأة الموسر والمتوسط ثلثا ما يجب لها من النفقة، فيجب لخادم امرأة الموسر كل يوم مد وثلث لخادم امرأة المتوسط كل يوم مد، لان العرف أن نفقة خادم المرأة الموسر أكثر من نفقة خادم امرأة المعسر، وأما نفقة خادم امرأة المعسر فيجب له كل يوم مد، لان البدن لا يقوم بدون، ذلك ويجب ذلك من غالب قوت البلد، لان البدن لا يقوم بغير قوت البلد ويجب له الادم لان العرف أن الطعام لا يؤكل إلا بأدم، وهل يكون من مثل أدمها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يكون من مثل أمها كما يجب الطعام من مثل طعامها
(والثانى)
لا يجب له من مثل أدمها لان العرف أن أدم الخادم دون أدم المخدوم فلم يسو بينهما، كما لا يسوى بينهما في قدر النفقة، فعلى هذا يكون أدمها كما يقول العمرانى وغيره من أصحابنا من الزيت الجيد، ويكون أدم خادمها من(18/261)
الذي دونه، ولا يعدل بأدم الخادم عن جنس غالب أدم البلد، لان البدن لا يقوم إلا به.
وهل يجب لخادمها اللحم؟ إن قلنا يجب له الادم من مثل أدمها وجب له اللحم.
ولا يجب له الدهن والمشط لان ذلك يراد للزينة والخادم لايراد للزينة.
قال الشافعي: ويجب لخادمها قميص ومقنعة وخف، وأوجب لها الخف لانها
تحتاج إليه عند الخروج لقضاء الحاجات، وإن كان في الشتاء وجب له جبة صوف أو كساء ليدفأ به من البرد، قال: ولخادمها فروة ووسادة وما أشبههما من عباءة أو كساء.
قال أصحابنا، أما الفراش فلا يجب لخادمها، وإنما يجب له وسادة: ويجب لخادم امرأة الموسر كساء، ولخادم امرأة المعسر عباءة لان ذلك هو العرف في حقهم: فإن مات خادمها فهل يجب عليه كفنه ومؤنة تجهيزه؟ فيه وجهان كما قلنا في كفن الزوجة ومؤنة تجهيزها.
وإن خدمت المرأة نفسها لم يجب لها أجرة، لان المقصود بإخدامها ترفيهها، فإذا حملت المشقة على نفسهما لم تستحق الاجرة كالعامل في الفراض إذا تولى من العمل ما له أن يستأجر عليه من مال القراض.
(فرع)
فإذا كانت ممن لا تخدم بأن كانت تخدم نفسها في بيت أبيها وهى صحيحة تقدر على خدمة نفسها لم يجب على الزوج أن يقيم لها من يخدمها، لان العرف في حقها أن تخدم نفسها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب أن يدفع إليها نفقة كل يوم إذا طلعت الشمس، لانه أول وقت الحاجة، ويجب أن يدفع إليها الكسوة في كل ستة أشهر لان العرف في الكسوة أن تبدل في هذه المدة، فإن دفع إليها الكسوة فبليت في أقل من هذا القدر لم يجب عليه بدلها كمالايجب عليه بدل طعام اليوم إذا نفذ قبل انقضاء پاليوم، وإن انقضت المدة والكسوة باقية ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه تجديدها لان الكسوة مقدرة بالكفاية، وهي مكفية
(والثانى)
يلزمه تجديدها وهو الصحيح، كما يلزمه الطعام في كل يوم.
وإن بقى(18/262)
عندها طعام اليوم الذي قبله، ولان الاعتبار بالمدة لا بالكفاية، بدليل أنها
لو تلفت قبل انقضاء المدة لم يلزمه تجديدها والمدة قد انقضت فوجب التجديد.
وأما ما يبقى سنة فأكثر كالبسط والفراش وجبة الخز والابريسم فلا يجب تجديدها في كل فصل لان العادة أن لا تجدد في كل فصل
(فصل)
وإن دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه لم يرجع بما بقى لانه دفع ما يتسحق دفعه، وان سلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها فله أن يرجع في نفقة ما بعد اليوم الذي بانت فيه، لانه غير مستحق، وإن دفع إليها كسوة الشتاء أو الصيف فبانت قبل انقضائه ففيه وجهان
(أحدهما)
له أن يرجع لانه ذفع لزمان مستقبل فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق ثبت له الرجوع كما لو أسلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها
(والثانى)
لا يرجع لانه دفع ما يستحق دفعه لم يرجع به، كما لو دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه.
(فصل)
وإن قبضت كسوة فصل وأرادت بيعها لم تمنع منه، وقال أبو بكر ابن الحداد المصرى لا يجوز.
وقال أبو الحسن الماوردى البصري إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال لم يجز، لان للزوج حظا في جمالها وعليه ضررا في نقصان جمالها، والاول أظهر، لانه عوض مستحق فلم تمنع من التصرف فيه كالمهر.
وان قبضت النفقة وأرادت أن تبيعها أو تبدلها بغيرها لم تمنع منه، ومن أصحابنا من قال ان أبدلتها بما يستضر بأكله كان للزوج منعها لما عليه من الضرر في الاستمتاع بمرضها، والمذهب الاول لما ذكرناه في الكسوة والضرر في الاكل لا يتحقق فلا يجوز المنع منه (الشرح) في متي يجب نفقة الزوجة قولان.
قال في القديم يجب جميعها بالعقد.
ولكن لا يجب عليه تسليم الجميع، وبه قال أبو حنيفة لانه مال يجب للزوجة بالزوجة فوجب بالعقد كالمهر، ولان النفقة يجب في مقابلة الاستمتاع
فلما ملك الاستمتاع بها بالعقد وجب بأن تملك عليه بالعقد ما في مقابلته وهو النفقة كالثمن والمثمن(18/263)
وقال في الجديد: لا تجب بالعقد وإنما تجب يوما بيوم وهو الاصح.
لانها لو وجبت بالعقد لوجب عليه تسليم جميعها إذا سلمت نفسها، كما يجب على المستأجر تسليم جميع الاجرة إذا قبض العين المستأجرة، فلما لم يجب عليه تسليم جميعها ثبت أن الجميع لم يجب، وقول الاول أنها وجبت في مقابلة ملك الاستمتاع غير صحيح وإنما وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع، فإذا قلنا بقوله القديم صح أن يضمن عن الزوج بعقد زمان مستقبل، ولكن لا يضمن عنه إلا نفقة المعسر وإن كان موسرا، لان ذلك هو الواجب عليه بيقين.
وإن قلنا بقوله الجديد لم يصح أن يضمن عليه الا نفقة اليوم بعد طلوع الفجر.
وأما وجوب التسليم فلا خلاف أنه لا يجب عليه إلا تسليم نفقة يوم بيوم، لانها إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع وذلك لا يوجد الا بوجود التمكين في اليوم، فإذا جاء أول اليوم وهي ممكنة له من نفسها وجب عليه تسليم نفقة اليوم في أوله لان الذي يجب لها هو الحب، والحب يحتاج إلى طحن وعجن وخبز.
وتحتاج إلى الغداء والعشاء.
فلوقلنا لا يجب عليه تسليم ذلك الا في وقتت الغداء والعشاء أضر بها الجوع إلى وقت فراغه..قال الشيخ أبو حامد: فإن سلم لها خبزا فارغا فأخذته وأكلته كان ذلك قبضا فاسدا، لان الذى تستحقه عليه الحب، فيكون لها مطالبته بالحب وله مطالبتها بقيمة الخبز (فرع)
فإن دفع إليها نفقة شهر مستقبل فمات أحدهما أو بانت منه بالطلاق
قبل انقضاء الشهر لم يسترجع منها لانه دفع إليها ما وجب عليه لها، فلم يتغير بما طرأ بعده كما لو دفع الزكاة إلى فقير فمات أو استغنى.
وان دفع إليها نفقة شهر مستقبل فمات أحدهما أو بانت منه في أثناء الشهر استرجع منها نفقة ما بعد اليوم الذى مات أحدهما فيه أو بانت فيه.
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة وأبو يوسف لا يسترجع منها لانه ملكته بالقبض ودليلنا أنه دفع ذلك إليها عما سيجب لها بالزوجية في المستقبل، فإذا بان أنه لم يجب لها شئ استرجع منها، كما لو قدم زكاة ماله قبل الحول إلى فقير فاستغنى الفقير من غير ما دفع إليه أو مات(18/264)
(فرع)
وان دفع إليها الكسوة أو النعل فبليت نظرت، فإن بليت في الوقت الذي يبلى فيه مثلها، مثل أن يقال: مثل هذا يبقى ستة أشهر، فأبلته بأربعة أشهر أو دونها لم يلزمه أن يدفع إليها بدله، لانه قد دفع إليها ما تستحقه عليه، فإذا بلى قبل ذلك لم يلزمه ابداله، كما لو سرقت كسوتها أو احترقت، وكما لو دفع إليها نفقة يوم فأكلتها قبل اليوم.
وان مضى الزمان الذي تبلى فيه مثل تلك الكسوة بالاستعمال المعتاد ولم تبل تلك الكسوة بل يمكن لباسها، فهل يلزمه أن يكسوها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه لانها غير محتاجة إلى الكسوة
(والثانى)
يلزمه أن يكسوها قال الشيخان أبو إسحاق وأبو حامد: وهو الاصح لان الاعتبار بالكسوة بالمدة لا بالبلاء.
ألا ترى أن كسوتها لو بليت قبل وقت بلائها لم يلزمه ابدالها، فإذا بقيت بعد مدة بلائها لم يلزمه ابدالها، ولانه لو دفع إليها نفقة يوم فلم تأكلها حتى جاء اليوم الثاني لزمه نفقة لليوم الثاني، وان كانت مستغنية فيه بنفقة اليوم الاول فكذلك في الكسوة مثله
وان دفع إليها كسوة مدة فمات أحدهما أو بانت منه قبل انقضائها والكسوة لم تبل، فهل يسترجع من وارثها أو منها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يسترجع منها، كما لو دفع إليها نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة
(والثانى)
لا يسترجع لانه دفع الكسوة إليها بعد وجوبها عليه فلم يسترجع منها كما لو دفع إليها نفقة يوم فمات أحدهما أو بانت قبل انقضائه، ويخالف إذا دفع إليها نفقة الشهر، فإنها لا تستحق عليه نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة.
فلذلك استرجعت منها (فرع)
قال ابن الحداد " إذا دفع إلى امرأته كسوة فأرادت بيعها لم يكن لها ذلك لانها لا تملكها، ألا ترى أن له ان يأخذها منها ويبدلها بغيرها، ولو دفع إليها طعاما فباعته كان لها ذلك واختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من وافق ابن الحداد وقال، لا يصح لها بيع ما يدفع إليها من الكسوة لانها تستحق عليه الانتفاع بالكسوة وهو استتارها بها فلا تملكها بالقبض كالمسكن.
وان أتلفت كسوتها لزمها قيمتها له ولزمه أن(18/265)
يكسوها.
ومنهم من خطأ ابن الحداد وقال: تملك الكسوة إذا قبضتها ويصح بيعها، لانه يجب عليه دفع الكسوة إليها، فإذا قبضتها ملكتها وصح بيعها لها كالنفقة ويخالف المسكن فإنه لا يلزمه أن يسلم إليها المسكن وإنما له أن يسكن معها وقال أبو الحسن الماوردى صاحب الحاوى: إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال لم يجز، لان للزوج حظأ في جمالها، وعليه ضرر في نقصان جمالها، وإن أرادت بيعها بمثلها أو أعلى منها كان لها ذلك لانها ملكتها ولا ضرر على الزوج في ذلك قال ابن الصباغ: وعندي أنه لو أراد أن يكترى لها ثيابا تلبسها لم يلزمها أن تستجيب إلى ذلك، ولو أراد أن يكترى لها مسكنا لزمها الاستجابة إلى ذلك.
هذا نقل أصحابنا البغداديين أن الذي يستحق عليه دفع النفقة والكسوة ولم يذكر أحد منهم أنه يجب عليه أن يملكها وأما المسعودي فقال: يجب عليه أن يملكها الحب، فلو رضيت أن يملكها الخبز فالظاهر أنه يصح، وفيه وجه آخر أنه لا يصح، لانه إبدال قبل القبض.
وأيضا فإنه بيع الحب بالخبز.
وذلك ربا.
وأما الكسوة فتجب عليه على طريق الكفاية ولا يجب عليه التمليك، فلو سرقت أو تحرقت في الحال وجب عليه الابدال، وفيه وجه أخر أنه يجب عليه التمليك تخريجا من النفقة.
(فرع)
وإن دفع إليها نفقتها وأرادت بيعها أو ابدالها بغيرها لم تمنع منها.
ومن أصحابنا من قال: إنه إذا أرادت إبدالها بما تستضر بأكلها كان للزوج منعها لان عليه ضررا في الاستمتاع بها مريضة، والمذهب الاول، لان الضرر بأكلها لغيرها لا يتحقق.
فإن تحقق الضرر بذلك منعت منه، لئلا تقتل نفسها، كما لو أرادت قتل نفسها.
قال الشافعي: وليس على الزوج أن يضحى عن امرأته لانه لا يجب عليه أن يضحى عن نفسه، فلان لا يجب عليه أن يضحى عنها أولى.
والله أعلم(18/266)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب الاعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها)
إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر فلها أن تفسخ النكاح.
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: يفرق بينهما " ولانه إذا ثبت لها الفسخ بالعجز عن الوطئ - والضرر فيه أقل - فلان يثبت بالعجز عن النفقة والضرر فيه أكثر أولى.
وإن أعسر ببعض
نفقة المعسر ثبت لها الخيار، لان البدن لا يقوم بما دون المد، وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر لم يثبت لها الفسخ، لان ما زاد غير مستحق مع الاعسار.
وإن أعسر بالادم لم يثبت لها الفسخ، لان البدن يقوم بالطعام من غير أدم.
وإن أعسر بالكسوة ثبت لها الفسخ، لان البدن لا يقوم بغير الكسوة، كما لا يقوم بغير القوت.
وإن أعسر بنفقة الخادم لم يثبت لها الفسخ لان النفس تقوم بغير خادم.
وان أعسر بالمسكن ففيه وجهان
(أحدهما)
يثبت لها الفسخ لانه يلحقها الضرر لعدم المسكن
(والثانى)
لا يثبت لانها لاتعدم موضعا تسكن فيه
(فصل)
وان لم يجد الا نفقة يوم بيوم لم يثبت لها الفسخ، لانه لا يلزمه في كل يوم أكثر من نفقة يوم، وان وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعشيها ففيه وجهان
(أحدهما)
لها الفسخ لان نفقة اليوم لاتتبعض.
(والثانى)
ليس لها الفسخ لانها تصل إلى كفايتها وان كان يجد يوما قدر الكفاية ولا يجد يوما ثبت لها الفسخ لانه لا يحصل لها في كل يوم إلا بعض النفقة.
وان كان نساجا ينسج في كل أسبوع ثوبا تكفيه أجرته الاسبوع، أو صانعا يعمل في كل ثلاثة أيام تكة يكفيه ثمنها ثلاثة أيام لم يثبت لها الفسخ لانه يقدر أن يستقرض لهذ المدة ما ينفقه فلا تنقطع به النفقة.
وإن كانت نفقته في عمل فعجز عن العمل بمرض نظرت.
فإن كان مريضا يرجى زواله في اليومين والثلاثة(18/267)
لم يثبت لها الفسخ، لانه يمكنها أن تستقرض ما نفقته ثم تقضيه.
وإن كان مريضا مما يطول زمانه ثبت لها الفسخ لانه يلحقها الضرر لعدم النفقة، وإن كان له مال غائب - فإن كان في مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يجز لها الفسخ.
وإن كان في
مساقة تقصر فيها الصلاة ثبت لها الفسخ لما ذكرناه في المرض، وإن كان له دين على موسر لم يثبت لها الفسخ.
وإن كان على معسر ثبت لها الفسخ، لان يسار الغريم كيساره، وإعساره كإعساره في تيسير النفقة وتعسيرها (الشرح) حديث أبى هريرة أخرجه الدارقطني والبيهقي في السنن الكبرى من طريق عاصم القارى عن أبى صالح عن أبى هريرة وأعله أبو حاتم، ولكن للحديث شواهد عن سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور والشافعي وعبد الرزاق في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله قال " يفرق بينهما " قال أبو الزناد: قلت لسعيد سنة؟ قال سنة.
وهذا مرسل قوى وعن عمر بن عند عبد الرزاق والمنذري والشافعي " أنه كتب إلى أمراء الاجناد في رجال غابوا عن نسائهم إما أن ينفقوا وإما أن يطلقوا ويبعثوا نفقة ما حبسوا " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " خير الصدقة ماكان من ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السلفي وابدأ بمن تعول.
فقيل من أعول يارسول الله؟ قال امرأتك ممن تعول، تقول أطعمني وإلا فارقني، جاريتك تقول أطعمني واستعملني، ولدك يقول إلى من تتركني؟ " ورواه أحمد والدارقطني بإسناد صحيح وأخرجه الشيخان في الصحيحين وأحمد من طريق آخر، وجعلوا الزيادة المفسرة فيه من قول أبى هريرة.
وقد حسن إسناده الحافظ بن حجر مع كونه من رواية عاصم عن أبى صالح، وفي حفظ عاصم مقال والحديث الذي أخرجه البخاري عن أبى هريرة لفظه قَالَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول.
تقول المرأة: اما أن تطعمني واما أن تطلقني، ويقول العبد أطعمني واستعملني.
ويقول الابن أطعمني والى من تدعني؟ قالو أبا هريرة سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ لا، هذا من كيس أبى هريرة "(18/268)
أما الاحكام: فإنه إذا كان الزوج موسرا فصار معسرا فإنه ينفق على زوجته نفقة المعسر، ولا يثبت لها الخيار في فسخ النكاح، لان بدنهايقوم بنفقة المعسر وان أعسر بنفقة المعسر كانت بالخيار بين أن تصبر وبين أن تفسخ النكاح، وبه قال عمر وعلي وأبو هريرة وابن المسيب والحسن البصري وحماد بن أبى سلمة وربيعة ومالك وأحمد وقال عطاء والزهرى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا يثبت لها الفسخ، بل يرفع يده عنها لتكتسب.
وحكاه المسعودي قولا آخر لنا.
وليس بمشهور.
دليلنا قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " فخير الله الزوج بين الامساك بالمعروف، وهو أن يمسكها وينفق عليها، وبين التسريح بإحسان.
فإذا تعذر عليه الامساك بمعروف تعين عليه التسريح وروى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته يفرق بينهما " ولانه روى ذلك عن عمر وعلي وأبى هريره ولا مخالف لهم في الصحابة الا ما رواه صاحب الفتح عن الكوفيين من أنه يلزم المرأة الصبر وتتعلق النفقة بذمة الزوج.
وحكاه في البحر من كتب العترة عن عطاء والزهرى والثوري والقاسمية.
وقالوا عن الاحاديث انها معتلة وأما ما ورد في الصحيحين من حديث أبى هريره فقالوا هو من قول أبى هريره كما وقع التصريح به منه حيث قال " انه من كيسه " أي من استنباطة من المرفوع وقد وقع في رواية الاصيلى بفتح الكاف أي من فطنته ونجيب عن ذلك بأن الاحاديث المذكورة يقوي بعضها بعضا مع أنه لم يكن فيها قدح يوجب الضعف فضلا عن السقوط.
والآية " لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا الا وسعها ما آتاها " وكذا
قولهم " وإذا أعسر ولم يجد سببا يمكنه به تحصيل النفقة فلا تكليف عليه بدلالة الآية فيجاب عنه بأنا لم نكلفه النفقه حال اعساره، بل دفعنا الضرر عن امرأته وخلصناها من حباله لتكتسب لنفسها أو يتزوجها رجل آخر.
واحتجوا بما في صحيح مسلم من حديث جابر " أنه دخل أبو بكر وعمر على النبي صلى الله عليه وسلم فوجداه حوله نساؤه واجما ساكنا وهن يسألنه النفقه،(18/269)
فقام كل منهما إلى ابنته أبو بكر إلى عائشة وعمر إلى حفصة فوجا أعناقهما فاعتزلهن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذلك شهرا " فضربهما لابنتيهما في حضرته صلى الله عليه وسلم لاجل مطالبتهما بالنفقة التي لا يجدها يدل على عدم التفرقة لمجرد الاعسار عنها.
قالوا ولم يزل الصحابة فيهم الموسر والمعسر ومعسورهم أكثر ويجاب عن هذا بأن زجرهما عن المطالبة بما ليس عِنْدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يدل على عدم جواز الفسخ لاجل الاعسار، ولم يرو أنهن طلبنه ولم يجبن إليه، كيف؟ وقد خيرهن صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فاخترنه.
ومحل النزاع هل يجوز الفسخ عند الاعسار أم لا؟ وقد أجيب عن هذا الحديث بأن أزواجه صلى الله عليه وسلم لم يعد من النفقة بالكلية، لانه صلى الله عليه وسلم قد استعاذ من الفقر المدقع، ولعل ذلك إنما كان فيما زاد على قوام البدن.
قال الشوكاني في نيل الاوطار: وظاهر الادلة؟ أنه يثبت الفسخ للمرأة بمجرد عدم وجدان الزوج لنفقتها بحيث يحصل عليها ضرر من ذلك.
أه إذا ثبت هذا فإن كان لا يجد إلى نفقة يوم بيوم لم يثبت لها الخيار في الفسخ لانه قادر على الواجب عليه، وإن كان لا يجد في أول النهار إلا ما يغديها ووجد في آخره ما يعشيها فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان حكاهما المصنف
(أحدهما)
يثبت لها الفسخ لان نفقة اليوم لاتتبعض
(والثانى)
لا يثبت لها الفسخ لانها تصل إلى كفايتها.
وإن كان يجد نفقة يوم ولا يجد نفقة يوم ثبت لها الفسخ لانها لايمكتها الصبر على ذلك.
فهو كما لم يجد كل يوم الانصف مد (فرع)
وإن كان نساجا ينسج في كل أسبوع ثوبا تكفيه أجرته الاسبوع لم يثبت لها الفسخ، لانه يستطيع أن يستقرض لهذه الايام ما تقضتيه لنفقتها فلا تنقطع به النفقة عليها، لان الاجر إذا كان يكفيه وحده بدونها فإنه يستطيع أن يقترض كما قررنا فلا يثبت لها الفسخ وان كانت نفقته بالعمل فعجز عنه بمرض - فإن كان مرضا يرجى زواله بالومين والثلاثة لم يثبت لها الفسخ لانه لم يلحقها الضرر.
وإن كان له مال غائب - فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة - لم يجز لها الفسخ ولا ثبت لها(18/270)
الفسخ لما ذكرناه في المرض وان كان له دين على ملئ لم يثبت لها الفسخ كما قلنا في الزكاة إذا كان بعض النصاب دين على ملئ وجب على الدائن الزكاة فيه، لان يسار الغريم كيساره، واعساره كإعساره في تيسير النفقة واعسارها (فرع)
وان علمت المرأة بإعسار الرجل بالنفقة فتزوجته ثبت لها الفسخ.
لانه قد يكتسب بعد العقد أو يقترض أو يتهب، فلما جاز أن يعتبر حاله لم يلزمها حكم علمها به، وان تزوجته مع علمها به بإعساره بالمهر فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يثبت لها الفسخ كالنفقة
(والثانى)
لا يثبت لها الفسخ لانها رضيت بتأخيره لانه معسر به بخلاف النفقة فإنها تجب بعد العقد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان الزوج موسرا وامتنع من الانفاق لم يثبت لها الفسخ لانه يمكن الاستيفاء بالحاكم.
وان غاب وانقطع خبره لم يثبت لها الفسخ، لان
الفسخ يثبت بالعيب بالاعسار، ولم يثبت الاعسار.
ومن أصحابنا من ذكر فيه وجها آخر أنه يثبت لها بالفسخ لان تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالاعسار
(فصل)
إذا ثبت لها الفسخ بالاعسار واختارت المقام معه ثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر من الطعام والادم والكسوة ونفقة الخادم، فإذا أيسر طولب بها لانها حقوق واجبة عجز عن أدائها، فإذا قدر طولب بها كسائر الديون، ولا يثبت لها في الذمة ما لا يجب على المعسر من الزيادة على نفقة المعسر لانه غير مستحق.
(فصل)
وان اختارت المقام بعد الاعسار لم يلزمها التمكين من الاستمتاع ولها أن تخرج من منزله، لان التمكين في مقابلة النفقة، فلا يجب مع عدمها.
وان اختارت المقام معه على الاعسار ثم عن لها أن تنفسخ فلها أن تنفسخ، لان النفقة يتجدد وجوبها في كل يوم فتجدد حق الفسخ.
وان تزوجت بفقير مع العلم بحاله ثم أعسر بالنفقة فلها أن تنفسخ، لان حق الفسخ يتجدد بالاعسار بتجدد النفقة.
(فصل)
وان اختارت الفسخ لم يجز الفسخ الا بالحاكم لانه فسخ مختلف(18/271)
فيه فلم يصح بغير الحاكم كالفسخ بالنعنين، وفي وقت الفسخ قولان، أحدهما أن لها الفسخ في الحال، لانه فسخ لتعذر العوض فثبت في الحال كفسخ البيع بإفلاس المشتري بالثمن.
الثاني أنه يمهل ثلاثة أيام لانه قد لا يقدر في اليوم ويقدر في غد ولا يمكن إمهاله أبدا لانه يؤدى إلى الاضرار بالمرأة والثلاث في حد القلة فوجب إمهاله.
وعلى هذا لها أن تخرج في هذه الايام من منزل الزوج، لانها لا يلزمها التمكين من غير نفقة.
(الشرح) الاحكام: إذا كان الزوج موسرا حاضرا، فطالبته بنفقتها فمنعها
إياها لم يثبت لها الفسخ، لانه يمكنها التوصل إلى استيفاء حقها بالحكم.
وفيه وجه آخر حكاه المسعودي أنه يثبت لها الفسخ، لان الضرر يلحقها بمنعه النفقة فهو كالمعسر، وليس بشئ لان العسرة عيب وإن غاب عنها الزوج وانقطع خبره ولا مال له ينفق عليها منه فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يثبت كتعذرها بالاعسار
(والثانى)
وهو قول الشيخ أبى حامد أنه لا يثبت لها الفسخ، لان الفسخ إنما يثبت بالاعسار بالنفقة ولم يثبت إعساره (فرع)
إذا ثبت اعسار الزوج وخيرت بين ثلاثة أشياء: بين أن تفسخ النكاح وبين أن تقيم معه وتمكنه من الاستمتاع بها ويثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر من النفقة والادم والكسوة ونفقة الخادم إلى أن يوسر، وبين أن يقيم على النكاح ولكن لا يلزمها أن تمكنه من نفسها، بل تخرج من منزله، لان التمكين انما يجب عليها ببذل النفقة، ولا نفقة هناك، ولا تستحق في ذمته نفقة في وقت انفرادها عنه، لان النفقة انما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاء ولا تمكين منها له.
فإن اختارت المقام معه ثم عن لها أن تفسخ النكاح كان لها ذلك، لان وجوب النفقة لها يتجدد ساعة بساعة ويوما بيوم، فإذا عفت عن الفسخ وجوب نفقة وقتها ورضيت به تجدد لها الوجوب فيما بعد فثبت لها الفسخ بخالف الصداق إذا أعسر به فرضيت بالمقام معه، فإن خيارها يسقط لانه يجب دفعة واحدة ولا يتجدد وجوبه(18/272)
وإن اختارت الفسخ قال الطبري في العدة: قولان.
أحدهما قال: ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره: إنها لا تفسخ بنفسها، بل ترفع الامر إلى الحاكم حتى يأمره بالطلاق أو يطلق عليه - لانه موضع اجتهاد واختلاف - فكان إلى
الحاكم كالفسخ بالعنة، والثانى أنها تفسخ بنفسها كالمعتقة تحت عبد.
وهل يؤجل؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يؤجل لان الفسخ للاعسار وقد وجد الاعسار فثبت الفسخ في الحال كالعيب في الزوجين
(والثانى)
يؤجل ثلاثة أيام لان المكتسب قد ينقطع كسبه ثم يعود والثلاث في حد القلة فوجب إنظاره ثلاثا ولا يلزمها المقام معه في هذه الثلاث في منزله، لانه لا يلزمها التمكين من غير نفقة، فإذا قلنا بهذا فوجد في اليوم الثالث نفقتها وتعسرت عليه النفقة في اليوم الرابع فهل يجب أن يستأنف لها إمهال ثلاثة أيام؟ فيها وجهان
(أحدهما)
يجب لان العجز الاول ارتفع
(والثانى)
لا يجب لانها تستضر بذلك.
(فرع)
وإن كانت الزوجة صغيرة أو مجنونة فأعسر زوجها بالنفقة لم يكن لوليها أن يفسخ النكاح، لان ذلك يتعلق بشهوتها واختيارها، والولى لا ينوب عنها في ذلك، وان زوج الرجل أمته من رجل فأعسر الزوج بنفقتها.
فإن كانت الزوجة معتوهة أو مجنونة قال ابن الحداد فلا يثبت الفسخ للسيد، لان الخيار إليها وليست من أهل الخيار فلا ينوب عنها السيد في الفسخ كما لو عن الزوج عنها ويلزم السيد أن ينفق عليها ان كان موسرا بحكم الملك، وتكون نفقتها في ذمة زوجها إلى أن يوسر، فإذا أيسر قال القاضى أبو الطيب: فإنها تطالب زوجها بها فإذا قبضتها أخذها السيد منها لانها لا تملك المال، وحاجتها قد زالت بإنفاق السيد عليها، قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لان الامة إذا كانت لا تملك العين فكذلك الدين، فيجب أن يكون ما ثبت من الدين للسيد وله المطالبة به دونها.(18/273)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا وجد التمكين الموجب للنفقة ولم ينفق حتى مضت مدة صارت النفقة دينا في ذمته ولا تسقط بمضي الزمان، لانه مال يجب على سبيل البدل في عقد معاوضة فلا يسقط بمضي الزمان كالثمن والاجرة والمهر، ويصح ضمان ما استقر منها بمضي الزمان، كما يصح ضمان سائر الديون وهل يصح ضمانها قبل استقرارها بمضي الزمان؟ فيه قولان على القولين في النفقة هل تجب بالعقد أو بالتمكين؟ فيه قولان.
قال في الجديد تجب بالتمكين وهو الصحيح، لانها لو وجبت بالعقد لملكت المطالبة بالجميع كالمهر والاجرة.
وعلى هذا لا يصح ضمانها لانه ضمان ما لم يجب وقال في القديم: تجب بالعقد لانها في مقابلة الاستمتاع والاستمتاع يجب بالعقد فكذلك النفقة، وعلى هذا يضمن منها نفقة موصوفة لمدة معلومة
(فصل)
إذا اختلف الزوجان في قبض النفقة فادعى الزوج أنها قبضت وأنكرت الزوجة فالقول قولها مع يمنها لقوله عليه السلام " اليمين على المدعى عليه " ولان الاصل عدم القبض.
وان مضت مدة لم ينفق فيها وادعت الزوجة أنه كان موسرا فيلزمه نفقة الموسر، وادعى الزوج أنه كان معسرا فلا يلزمه الا نفقة المعسر نظرت - فإن عرف لها مال - فالقول قولها - لان الاصل بقاؤه، وان لم يعرف له مال قبل ذلك القول قوله لان الاصل عدم المال.
وان اختلفا في التمكين فادعت المرأة أنها مكنت وأنكر الزوج فالقول قوله لان الاصل عدم التمكين وبراءة الذمة من النفقة، وان طلق زوجته طلقة رجعية وهي حامل فوضعت واتفقا على وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة
فقال الزوج طلقتك قبل الوضع فانقضت العدة فلا رجعة لى عليك ولا نفقة لك على.
وقالت المرأة بل طلقتني بعد الوضع فلك على الرجعة ولى عليك النفقة، فالقول قول الزوج أنه لا رجعة لى عليك، لانه حق له فقبل اقراره فيه.
والقول قول المرأة في وجوب العدة لانه حق عليها فكان القول قولها، والقول قولها مع يمينها في وجوب النفقة، لان الاصل بقاؤها.
والله أعلم(18/274)
(الشرح) الاحكام: نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، فإذا مكنت المرأة الزوج من نفسها زمانا ولم ينفق عليها وجبت لها نفقة ذلك الزمان، سواء فرضها الحاكم أو لم يفرضها، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يسقط عنه إلا أن يفرضها الحاكم.
دليلنا أنه حق يجب مع اليسار والاعسار فلا يسقط بمضي الزمان كالدين.
وفيه احتراز من نفقة الاقارب - فإن أعسر الزوج بنفقة ما مضى - لم يثبت لها الفسخ، لان الفسخ جعل ليرجع إليها ما في مقابلة بالنفقة، والنفقة للزمان الماضي في مقابلة تمكين قد مضى.
فلو فسخت النكاح لاجلها لم يرجع إليها ما في مقابلتها، فهو كما لو أفلس المشترى والمبيع بألف، فإنه لا يثبت للبائع الرجوع إلى المبيع.
وإن أبرأت الزوج عنها صحت براءتها، لانه دين معلوم فصحت البراءة منه كسائر الديون.
(فرع)
إذا تزوج الرجل امرأة ومكنته من نفسها زمانا ثم اختلفا في النفقة فادعى الزوج أنه قد أنفق عليها، وقالت لم ينفق على ولا بينة للزوج فالقول قول الزوجة مع يمينها، سواء كان الزوج معها أو غائبا عنها، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَقَالَ مَالِكٌ إن كان الزوج غائبا عنها فالقول قولها، وإن كان حاضرا معها فالقول قول الزوج مع يمينه، لان الظاهر أنها لاتسلم نفسها إليه إلا بعد أن تتسلم النفقة وهكذا قال في الصداق
ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " البينه على المدعى واليمين على من أنكر " والزوجة تنكر القبض فكان القول قولها، ولانهما زوجان اختلفا في قبض النفقه فكان القول قولها، كما لو سلمت نفسها والزوج غائب وإن سلمت نفسها إليه زمانا ولم ينفق عليها فيه أو أنفق عليها فيه نفقة معسر وادعت أنه كان موسرا فيه، وادعى أنه كان معسرا ولا بينة لها على يساره ذلك الوقت فإن عرف لها مال قبل ذلك فالقول قولها مع يمينها، لان الاصل بقاء المال، وان لم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه لان الاصل عدم اليسار (فرع)
إن ادعت الزوجه أنها مكنت الزوج من نفسها وأنكر فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم التمكين وإن طلق امرأته طلقة رجعيه وولدت واتفقا على وقت الطلاق واختلفا في(18/275)
الولادة فقال الزوج ولدت بعد الطلاق فلا رجعة لى ولا نفقه لك، وقالت المرأة بل ولدت قبل الطلاق فلى العدة ولك الرجعة ولى عليك النفقة فلا رجعة للزوج لانه أقر بسقوط حقه منها وله أن يتزوج بأختها وبأربع سواها، وعلى الزوجه العدة لانها مقرة بوجوبها عليها، وتحلف المرأة أنها ولدت قبل أن يطلقها وتستحق النفقه لانهما اختلفا في وقت ولادتها وهي أعلم بها، ولانهما اختلفا في سقوط النفقه والاصل بقاؤها حتى يعلم سقوطها، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
باب نفقة المعتدة إذا طلق امرأته بعد الدخول طلاقا رجعيا وجب لها السكنى والنفقه في العدة لان الزوجية باقيه التمكين من الاستمتاع موجود، فإن طلقها طلاقا بائنا وجب لها السكنى في العدة، حائلا كانت أو حاملا، لقوله عز وجل " أسكنوهن
من حيث سكنتم من وجدكم، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " وأما النفقه فإنها إن كانت حائلا لم تجب، وان كانت حاملا وجبت لقوله عز وجل " وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " فأوجب النفقه مع الحمل، فدل على أنها لا تجب مع عدم الحمل، وهل تجب النفقه للحمل؟ أو للحامل بسبب الحمل؟ فيه قولان قال في القديم تجب للحمل لانها تجب بوجوده وتسقط بعدمه وقال في الام تجب للحامل بسبب الحمل وهو الصحيح - لانها لو وجبت للحمل لتقدرت بكفايته، وذلك يحصل بما دون المد فإن قلنا تجب للحمل لم تجب إلى على من تجب عليه نفقة الولد، فإن كانت الزوجه أمة والزوج حرا وجبت نفقتها على مولاها، لان الولد مملوك له، وان قلنا تجب النفقه للحامل وجبت على الزوج، لان نفقتها تجب عليه وان كان الزوج عبدا وقلنا ان النفقة للحامل وجبت عليه.
وان قلنا تجب للحمل لم تجب لان العبد لا يلزمه نفقة ولده(18/276)
(فصل)
إذا وجبت النفقة للحمل أو للحامل بسبب الحمل ففي وجوب الدفع قولان
(أحدهما)
لا يجب الدفع حتى تضع الحمل لجواز أن يكون ريحا فانفش، فلا يجب الدفع مع الشك
(والثانى)
يجب الدفع يوما بيوم، لان الظاهر وجود الحمل، ولانه جعل كالمتحقق في منع النكاح وفسخ البيع في الجارية المبيعة والمنع من الاخذ في الزكاة ووجوب الدفع في الدية فجعل كالمتحقق في دفع النفقه فإن دفع إليها ثم بان أنه لم يكن بها حمل - فإن قلنا تجب يوما بيوم - فله أن يرجع عليها لانه دفعها على أنها واجبه، وقد بان أنها لم تجب فثبت له الرجوع.
وان قلنا انها لا تجب الا باوضع، فإن دفعها بأمر الحاكم فله أن يرجع
لانه إذا أمره الحاكم لزمه الدفع فثبت له الرجوع، وان دفع من غيره أمره فإن شرط أن ذلك عن نفقتها ان كانت حاملا فله أن يرجع لانه دفع عما يجب وقد بان أنه لم يجب.
وان لم يشرط لم يرجع لان الظاهر أنه متبرع (الشرح) الاحكام: إذا طلق امرأته بعد الدخول طلاقا رجعيا فإنها تستحق على الزوج جميع ما تستحق الزوجة إلا القسم إلى أن تنقضي عدتها، وهو إجماع وإن كان الطلاق بائنا وجب لها السكنى حائلا كانت أو حاملا.
وأما النفقة فإن كانت حائلا لم يجب لها.
وان كانت حاملا وجبت.
وقال ابن عباس وجابر: لاسكنى للبائن وبه قال أحمد وإسحاق.
وقال أبو حنيفة تجب النفقة للبائن سواء كانت حاملا أو حائلا.
ودليلنا قوله تعالى " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن، وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن، فأوجب السكنى للمطلقات بكل حال، وأوجب لهن النفقة بشرط ان كن أولات حمل.
فدل على أنهن إذا لم يكن أولات حمل لانفقة لهن.
وروى أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثا وهو غائب بالشام فحمل إليها وكيله كفا من شعير فسخطته، فقال لها لانفقة لك إلا أن تكوني حاملا، إنما هو متطوع عليك، فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ لها لانفقة لك الا أن تكوني حاملا، واعتدى عند أم شريك(18/277)
إذا ثبت هذا فهل تجب النفقة للحمل أو للحامل لاجل الحمل؟ فيه قولان.
(أحدهما)
أنها تجب للحمل لانها تجب عليه بوجوده ولا تجب عليها مع عدمه فدل على أنها تجب له.
(والثانى)
أنها تجب للحامل لاجل الحمل وهو الاصح، لانه تجب عليه نفقة
الزوجة مقدرة.
ولو وجبت للحمل لتقدرت بقدر كفايته كنفقة الاقارب.
والجنين يكتفي بدون المد.
وان تزوج الحر أمة فطلقها طلاقا بأئنا وهى حامل، فإن قلنا ان النفقة تجب للحمل لم تجب عليه النفقة لان ولده منها مملوك لسيدها، ونفقة المملوك على سيده، وان قلنا ان النفقة للحامل وجب على الزوج نفقتها، وان تزوج العبد بحرة أو أمة فأبانها وهى حامل - فإن قلنا ان النفقة للحمل - لم يجب عليه النفقة، لان ولده من الامة مملوك لسيد الامة، وولده من الحرة لا تجب عليه نفقته لان العبد لا يجب عليه نفقة ولده ولا والده، وان قلنا ان النفقة للحامل وجبت عليه النفقة.
وان كان الحامل غنيا وقلنا ان النفقة للحمل فهل تجب على أبيه؟ فيه وجهان حكاهما القاضى في كتاب الخناثى قال الشاشى من أصحابنا: ويصح ابراء الزوجة عنها على القولين.
وان طلق امرأة طلاقا بائنا وهى حامل فأرتدت الزوجة فقد قال ابن الحداد تسقط نفقتها، فمن أصحابنا من وافقه وقال تسقط نفقتها قولا واحدا لانها تتعلق بمصلحتها وهى المستحقة لها فسقطت بردتها.
ومنهم من خالفه وقال: إذا قلنا ان النفقه للحامل سقطت بردتها، وان قلنا ان النفقه للحمل فلا تسقط بردتها لان الحمل محكوم بإسلامه فلا يسقط حقه بردتها وان أسلمت الزوجة وتخلف الزوج في الشرك فعليه نفقتها إلى أن تنقضي عدتها حائلا كانت أو حاملا، فمن أصحابنا من وافقه ومنهم من خالفه وقال: هذا إذا قلنا ان النفقة للحامل.
فأما إذا قلنا ان النفقة للحمل وجبت له النفقة، لانه محكوم بإسلامه.
وان مات الزوج قبل وضع الحمل وخلف أبا فقد قال أبو إسحاق المروزى تسقط النفقة لانه محكوم بإسلامه، وان مات الزوج قبل وضع الحمل وخلف أبا(18/278)
فقد قال أبو حامد إذا قلنا ان النفقة تجب للحمل أوجبت على جده، لانه تجب عليه نفقة ولده.
(مسألة) إذا طلق امرأته وهى حامل فهل يحب عليه أن يدفع إليها النفقة يوما بيوم أو لا يجب عليه الدفع حتى تضع؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يجب عليه دفع النفقة حتى تضع، فإذا وضعت الولد وجب عليه دفع نفقتها لما مضى لانه لا يجب عليه الدفع بالشك والحمل غير متحقق الوجود قبل الوضع، بل يجوز أن يكون ريحا فينفش.
والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة يوم بيوم وهو الاصح، لقوله تعالى " وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " فأمرنا بالانفاق عليهن حتى يضعن حملهن، وهذا يقضتى وجوب الدفع، ولان للحمل أمارات وعلامات، فإذا وجدت تعلق الحكم بها في وجوب فدفع النفقة، كما تعلق الحكم بها في منع أخد الحمل في الزكاة، وفي جواز رد الجارية المبيعة، وفي منع وطئ الجارية المسبية والمشتراة وفي جواز أخذ الخلفة في الدية فإذا قلنا لا يجب الدفع حتى تضع لم تحتج إلى علامة وأمارة بل تعتد، فإذا وضعت ولدا يجوز أن يكون منه لزمه أن يدفع إليها النفقة من حين الطلاق إلى حين الوضع، فإن ادعت أنها وضعت وصدقها فلا كلام.
وان كذبها فعليها أن تقيم البينة على الوضع شاهدين أو شاهدا وامرأتين أو أربع نسوة، لانه يمكنها اقامة البينة على ذلك.
وان قلنا يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيوم فادعت أنها حامل فان صدقها الزوج جب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم من وقت الطلاق إلى حين الحكم بقولهن أنها حامل دفعة واحدة، ووجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم
بيوم من حين الحكم بقولهن إلى حين الوضع ولو سألته أن يحلف لها ما يعلم أنها حامل: فالذي يقتضى المذهب أنه يلزمه أن يحلف لجواز أن يخاف من اليمين فيقر أنها حامل أو ينكل عن اليمين فيرد عليها فإذا حلفت وجب عليه الدفع لان يمينها مع نكوله كإقراره في أحد القولين، وكبينة يقيمها في القول الآخر.
والجميع يجب به الدفع(18/279)
(فرع)
فإن طلقها طلاقا بائنا فقال القوابل إن بها حملا فأنفق عليها فبان أنه لاحمل، أو ولدت ولدا لا يجوز أن يكون منه - فان قلنا إنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيوم كان له أن يرجع عليها بما دفع إليها من النفقة سواء دفعه بأمر الحاكم أو بغيره أمره، وسواء شرط أنه نفقة أو أطلق، لانه دفع إليها النفقة على أنها واجبة عليه، وقد بان أنه لانفقة عليه لها وإن قلنا إنه لا يجب عليه الدفع إلا بعد الوضع نظرت - فان كان قد دفع إليها بحكم الحاكم - كان له الرجوع، لان الحاكم أوجب عليه الدفع وقد بان أنها لم تكن واجبة عليه، وإن دفعها بغير حكم الحاكم، فان كان قد شرط أن ذلك عن نفقتها ان كانت حاملا، فله أن يرجع عليها لانه بان أنها ليست بحامل ولا نفقة عليه.
وإن دفعها من غير شرط لم يرجع عليها بشئ، لان الظاهر أنه تطوع بالانفاق عليها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان تزوج امرأة ودخل بها ثم انفسخ النكاح برضاع أو عيب، وجب لها السكنى في العدة.
وأما النفقة فانها - إن كانت حائلا - لم تجب: وإن كانت حاملا وجبت، لانها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فكان حكمها في النفقة والسكنى ما ذكرناه كالمطلقة.
وإن لاعنها بعد الدخول - فان لم ينف الحمل - وجبت النفقة، وان نفى
الحمل لم تجب النفقة، لان النفقة تجب في أحد القولين للحمل.
والثانى تجب لها بسبب الحمل والحمل منتف عنه فلم تجب بسببه نفقة.
وأما السكنى ففيها وجهان
(أحدهما)
تجب لانها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فوجب لها السكنى كالمطلقة
(والثانى)
لا تجب لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قضى أن لا تثبت لها " من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها زوجها.
ولانها لم تحصن ماءه فلم يلزمه سكناها(18/280)
(الشرح) حديث ابن عباس رواه البزار " أن رجلا طلق امرأته فجاءت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لا نفقة لك ولاسكنى " قال الهيثمى في مجمع الزوائد: وفيه ابراهيم بن اسماعيل بن أبى حبيبة وهو متروك أما الاحكام فقد قال الشافعي: وان كان يملك رجعتها فلم تعتد بثلاث حيض أو كان حيضها مختلفا فيطول ويقصر لم أجعل لها إلا الاقصر.
اه واختلف أصحابنا في تأويلها، فقال أبو إسحاق تأويلها هو أن يطلق امرأته طلاقا رجعيا فأنفق عليها وظهر بها حمل في العدة، ووضعت لاكثر من أربع سنين من وقت الطلاق - فان قلنا انه يلحقه - فعليه نفقتها إلى أن وضعت فلا كلام.
وان قلنا انه لايلحقه وينتفى عنه بغير لعان فانها لا تكون معتدة به عنه ولا نفقة عليه لها مدة حملها، وانما عدتها بالاقراء، وتسأل من أين الحمل؟ فان قالت هو من غير بشبهة أو زنا قلنا لها أي وقت حملت به؟ فان قالت بعد انقضاء عدتي بالاقراء على الاول فعلى الاول نفقتها مدة عدتها بالاقراء لا غير.
وان قالت حملت به بعد أن مضى من عدته قرء ان كان على الزوج نفقتها مدة عدتها في القرءين قبل الحمل، ومدة عدتها بالقرء الثالث بعد الحمل وان قالت هذا الولد من هذا الزوج وطئني في عدتي، أو راجعني ثم وطئني
فان أنكرها جاب، لان الاصل عدم ذلك، فإذا حلف بطل أن تعتد بالحمل منه وقلنا له فسر أنت كيف اعتدت منك، فان قال حملت به قبل أن يمضى لها شئ من الاقراء فانها تعتد بثلاثة أقراء عنه بعد الوضع ولها نفقة ذلك الوقت.
وان قال انقضت عدتها منى بالاقراء ثم حملت به بعد ذلك فقد اعترف أنها اعتدت عنه بالاقراء، فان كان حيضها لا يختلف فلا نفقة مدة ثلاثة أقراء، وان كان حيضها يختلف فتارة تمضى أقراء في سنة وتارة في ستة أشهر وتارة في ثلاثة أشهر واختلفا في عدتها كان لها نفقة ثلاثة أشهر لانه اليقين ومن أصحابنا من قال: تأويلها أن يطلقها طلاقا رجعيا، وأتت بولد لاكثر من أربع سنين من وقت الطلاق وقلنا لا يلحقه - فان عدتها بالاقراء عنه، فيرجع إليها كيف الاعتداد منها بالاقراء، فإذا ذكرت - فان كان حيضها(18/281)
لا يختلف - كانت لها نفقة ثلاثة أقراء، وإن كان يختلف فيطول ويقصر لم يكن لها إلا نفقة الا قصر لانه اليقين.
وبهذا قال أحمد ومن أصحابنا من قال: تأويلها إذا طلقها طلاقا رجعيا وحكمنا لها بالنفقة وأتت بولد لاكثر من أربع سنين من وقت الطلاق - وقلنا لايلحقه وكانت تحيض على الحمل، وقلنا إنه حيض - فانها تعتد عنه بالاقراء الموجودة على الحمل، فان كان حيضها لا يختلف فلها نفقة ثلاثة أقراء.
وإن كان يختلف لم يكن لها إلا نفقة الاقصر لانه اليقين.
قال العمرانى في البيان: وهذا ضعيف جدا وعلل ذلك بأنها على هذا القول يكون لها نفقة الاقراء على الحمل طالت أو قصرت ومن أصحابنا من قال: تأويلها إذا طلقها طلاقا رجعيا فذكرت أن حيضها ارتفع بغير عارض، فانها تتربص على ما مضى، فإذا زعمت أن حيضها ارتفع
بغير عارض فقد اعترفت تحقيق حق لها وهو العدة والرجعة فيقبل قولها فيه، وحق لها وهو النفقة فلا يقبل قولها فيه بل يجعل لها نفقة الا قصر لانه اليقين والتأويل الاول أصح فأما إذا طلقها طلاقا بها أمارت الحمل فأنفق عليها ثم بان أنه لم يكن حملا وإنما كان ريحا فأنفش فانه يسترجع نفقة ما زاد على ثلاثة أقراء، فيقال لها كم كانت مدة أقرائك - فان أخبرت بذلك - كان القول قولها مع يمينها وإن قالت: لا أعلم في كم انقضت عدتي إلا أن عادتي في الحيض كذا وعادتي في الطهر كذا حسبنا ذلك ورجع الزوج بنفقة ما بعد ذلك.
وإن قالت: حيضى يختلف ولا أعلم قدر الثلاثة الاقراء نظرنا إلى أقل ما تذكره من الحيض والطهر فحسبنا لها ثلاثة أقراء ورجع عليها بما زاد على ذلك وان قالت لاأعلم قدر حيضى وطهري، فحكى ابن الصباغ أن الشافعي قال، جعلنا الاقراء ثلاثة أشهر لان ذلك هو الغالب في النساء ورجع بالباقي (فرع)
قال أبو إسحاق المروزى " ولا يجب للبائن الكسوة، وان وجبت لها النفقة " والله أعلم(18/282)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن نكح امرأة نكاحا فاسدا ودخل بها وفرق بينهما لم تجب لها السكنى، لانها إذا لم تجب مع قيام الفراش واجتماعهما على النكاح، فلان لا تجب مع زوال الفراش والافتراق أولى، وأما النفقة فانها إن كانت حائلا لم تجب لانها إذا لم تجب في العدة عن نكاح صحيح فلان لا تجب في العدة عن النكاح الفاسد أولى وإن كانت حاملا فعلى القولين، إن قلنا ان النفقة للحامل لم تجب، لان حرمتها في النكاح الفاسد غير كاملة، وان قلنا انها تجب الحمل وجبت، لان الجماع في النكاح الفساد كالحمل في النكاح الصحيح
(فصل)
وان كانت الزوجة معتدة عن الوفاة لم تجب لها النفقة، لان النفقة انما تجب للمتمكن من الاستمتاع، وقد زال التمكين بالموت أو بسبب الحمل، والميت لا يستحق عليه حق لاجل الولد، وهل تجب له السكنى؟ فيه قولان.
(أحدهما)
لا تجب، وهو اختيار المزني، لانه حق يجب يوما بيوم فلم تجب في عدة الوفاة كالنفقة
(والثانى)
تجب، لما روت فريعة بنت مَالِكٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " اعتدى في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا " ولانها معتدة عن نكاح صحيح فوجب لها السكنى كالمطلقة.
(الشرح) حديث فريعة بنت مالك مضى في العدد تخريجه.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبى سعيد الخدرى، كان يقال لها الفارعة شهدت بيعة الرضوان: وأمها أم حبيبة بنت عبد الله بن أبى بن سلول.
روت عن الفريعة هذه زينب بنت كعب بن عجرة حديثها في سكنى المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله.
استعمله أكثر فقهاء الامصار اه أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه وكل ما وصفنا من متعة أو نفقة أو سكنى فليست إلى في نكاح صحيح وجملة ذلك أنه إذا تزوج امرأة تزويجا فاسدا، كالنكاح بلا ولى ولا شهود(18/283)
أو في عدتها فانه يفرق بينهما، فان كان قبل الدخول فانه لا يتعلق بالنكاح حكم وان كان بعد الدخول فلها مهر المثل، وعليها العدة ولا سكنى لها: لان السكنى تجب عن نكاح صحيح ولا نكاح ههنا.
وأما النفقة فان كانت حائلا فلا نفقة لها، لانه إذا لم تجب النفقة للبائن الحائل في النكاح الصحيح فلان لا تجب لها في النكاح الفاسد أولى.
وان كانت
حاملا - فان قلنا ان النفقة تجب للحامل - لم تجب لها ههنا نفقة لان النفقة انما تجب عن نكاح صحيح له حرمة، وهذا النكاح لا حرمة له.
وان قلنا ان النفقة للحمل وجب لها النفقة، لان هذا الولد لاحق به، فهو كما لو حملت منه في نكاح صحيح.
وأما إذا وقع النكاح صحيحا ثم انفسخ برضاع أو عيب بعد الدخول فانه يجب عليها العدة.
قال الشيخ أبو إسحاق ويجب لها السكنى في العدة وأما النفقة - فان كانت حائلا - لم تجب وان كانت حاملا وجبت لانها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فكان حكمها ما ذكرناه كالطلاق.
وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ " حكمها في السكنى والنفقة حكم النكاح الفاسد، لان حكم النكاح الذي ينفسخ بعد الدخول حكم النكاح الذي يقع فاسدا (فرع)
وان قذف امرأته وهي حامل ونفى حملها فلا عنها انفسخ النكاح بينهما فاعتدت بوضع الحمل ولا نفقة لها في حال العدة، لان النفقة للحمل في أحد القولين ولها لاجل الزوجية في الثاني والحمل غير لاحق به فلم تجب لها النفقة، وهل تجب لها السكنى؟ حكم القاضي ابو الطيب والشيخ أبو إسحاق فيه وجهين
(أحدهما)
لا يجب لها السكنى لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في المتلاعنين أن يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا ولا نفقة لها ولابيت لانهما يفترقان بغير طلاق (والثاني) أن لها السكنى.
قال ابن الصباغ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، لانها معتدة عن فرقة في حال الحياة فهي كالمطلقة.
قال ابن الصباغ: وقد ذكرنا فيما مضى أن الفسخ الطارئ بمنزلة النكاح الفاسد، وهذا فسخ، وايجاب السكنى يناقضه، غير أنه تعلق بقول الزوج، فجرى مجرى قطع النكاح بغير الطلاق.(18/284)
وكما قلنا في الخلع إذا قلنا إنه فسخ.
وإن لاعنها ولم ينف الحمل قال الشيخ أبو إسحاق هنا وجبت لها النفقة.
وإن أبان زوجته بالثلاث وبالخلع وظهر بها حمل فنفاه - وقلنا يصح لعانه قبل الوضع فلا عن - سقطت عنه النفقة، وهل يسقط عنه السكنى - ان قلنا للملاعنة السكنى في التي قبلها - فههنا أولى.
وإن قلنا في التي قبلها: لا سكنى لها قال القاضى أبو الطيب: احتمل ههنا وجهين.
(أحدهما)
لها سكنى لانها اعتدت عن الطلاق
(والثانى)
لاسكنى لها لان نفقتها سقطت لاجل اللعان فكذلك السكنى.
فإن أكذب الزوج بعد اللعان لحقه نسب الولد وكان عليه النفقة لها لما مضى وإلى أن تضع فان قيل فهلا قلتم إنه لا نفقة لها لما مضى على القول الذي يقول إن النفقة للحمل، لان نفقة الاقارب تسقط بمضي الزمان؟ قلنا إنما نقول ذلك إذا كان القريب هو المستوفى لنفقته، وهنها المستوفى لها هي الزوجة فصارت كنفقة الزوجة، فلا تسقط بمضي الزمان.
وأما المعتدة المتوفى عنها زوجها فلا يجب لها النفقة حائلا كانت أو حاملا، وبه قال ابن عباس وجابر.
وروى أنهما قالا لا نفقة لها.
حسبها الميراث.
وذهب بعض الصحابة إلى أنها إذا كانت حاملا فلها النفقة.
وعند أحمد أن المعتدة من الوفاة ان كانت حائلا فلا نفقة لها ولا سكنى.
وان كانت حاملا ففيها روايتان (احداهما) لها السكنى والنفقة لانها حامل من زوجها فكانت لها السكنى والنفقة كالمفارقة في الحياة (والثانية) لا سكنى لها ولا نفقة لان المال قد صار للورثة ونفقة الحامل وسكناها انما هو للحمل أو من أجله ولا يلزم ذلك الورثة، لانه ان كان الميت ميراث فنفقة الحمل من نصيبه، وان لم يكن له ميراث لم يلزم وارث الميت الانفاق على حمل امرأته كما بعد الولادة
قال القاضى وهذه الرواية أصح عند ابن قدامة وغيره.
ودليلنا أنه لا يخلو اما أن يقال هذه النفقة للحامل أو للحمل فبطل أن يقال أنها للحامل لانها لا تستحق النفقة إذا كانت حائلا، وبطل أن يقال انها للحمل(18/285)
لان الميت لا يستحق عليه نفقة الاقارب فلم تجب، وهل تجب لها السكنى؟ فيه قولان مضى بيانهما في العدد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا حبست زوجة المفقود أربع سنين فلها النفقة لانها محبوسة عليه في بيته، فإن طلبت الفرقة بعد أربع سنين ففرق الحاكم بينهما، فإن قلنا بقوله القديم إن التفريق صحيح فهى كالمتوفى عنها زوجها لانها معتدة عن وفاة فلا تجب لها النفقة، وفي السكنى قولان، فإن رجع الزوج فان قلنا تسلم إليه عادت إلى نفقته في المستقبل، وإن قلنا لاتسلم إليه لم يكن لها عليه نفقة، فان قلنا بقوله الجديد وأن التفريق باطل، فلها النفقة في مدة التربص ومدة العدة لانها محبوسة عليه في بيته، وإن تزوجت سقطت نفقتها لانها صارت كالناشزة، وان لم يرجع الزوج ورجعت إلى بيتها وقعدت فيه، - فان قلنا بقوله القديم - لم تعد النفقة، وان قلنا بقوله الجديد، فهل تعود نفقتها بعودها إلى البيت؟ فيه وجهان: أحدهما: تعود لانها سقطت بنشوزها، فعادت بعودها
(والثانى)
لاتعود لان التسليم الاول قد بطل فلا تعود إلى بتسلم مستأنف كما أن الوديعة إذا تعدى فيها ثم ردها إلى المكان لم تعد الامانة.
ومن أصحابنا من قال: ان كان الحاكم فرق بينهما وأمرها بالاعتداد، وأعتدت وفارقت البيت، ثم عادت إليه لم تعد نفقتها لان التسليم الاول قد بطل لحكم الحاكم.
وان كانت
تربصت فاعتدت ثم فارقت البيت ثم عادت النفقة لان التسليم الاول لم يبطل من غير حكم الحاكم.
والله أعلم (الشرح) الاحكام: إذ غاب الرجل عن امرأته وهي في مسكنه الذي أسكنها فيه وانقطع خبره عنها، فان اختارت المقام على حالتها فالنفقة واجبة على الزوج لانها مسلمة لنفسها، وان رفعت الامر إلى الحاكم وأمرها بالتربص أربع سنين فلها النفقة على زوجها، لان النفقة انما تسقط بالنشوز أو بالبينونة ولم(18/286)
يوجد واحد منهما، فإن حكم الحاكم بالفرقة بينهما بعد أربع سنين واعتدت أربعة أشهر وعشرا، فإن قلنا بقوله القديم وأن الفرقة قد وقعت ظاهرا وباطنا، أو ظاهرا فانها كالمعتدة عن الوفاة فلا يجب لها النفقة فيها، وهل يجب لها السكنى؟ فيه قولان، فإن رجع زوجها، فإن قلنا: ان الفرقة وقعت ظاهرا وباطنا فهي أجنبية منه ولا تجب لها عليه نفقة ولا سكنى.
وان قلنا ان الفرقة وقعت في الظاهر دون الباطن ردت إليه ووجبت لها النفقة من حين ردت إليه.
وان قلنا بقوله وأن حكم الحاكم لا ينفذ، فإنهاما لم تتزوج فنفقتها على الاول لانها محبوسة عليه، وإنما تعتقد هي أن الفرقة قد وقعت، وهذا الاعتقاد لا يؤثر في سقوط نفقتها، فان تزوجت بعد أربعة أشهر وعشر سقطت نفقتها عن الاول لانها كالناشزة عن الاول فسقطت نفقتها عنه، فإن دخل الثاني بها وفرق بينهما فعليها أن تعتد عنه ولا نفقة لها على الاول لانها معتدة عن الثاني، فان رجعت إلى منزل الاول بعد انقضاء عدة الثاني أو قبل أن يدخل بها الثاني، فهل تستحق النفقة على الاول؟ قال الشافعي في المختصر: لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة.
وهذا يقتضى أن لها النفقة بعد انقضاء العدة
وقال في الام: لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة ولا بعدها واختلف أصحابنا فيها على طريقين.
قال العمرانى من أصحابنا من قال فيها قولان وحكاهما الشيخ أبو إسحاق (يعنى الشيرازي) وجهين
(أحدهما)
تجب لها النفقة من حين عادت إلى منزله، لان النقفة سقطت بنشوزها، وقد زال النشوز فعادت نفقتها
(والثانى)
لا يجب لها النفقة لان التسليم الاول قد سقط بنشوزها فلم تعد الا بتسليم ثان، وليس ههنا من يتسلمها، فعلى هذا الطريق إذا خرجت امرأة الحاضر من منزلها ناشزة ثم عادت إليه، فهل تعود نفقتها من غير أن يتسلمها الزوج فيه وجهان بناء على هذين الوجهين ومن أصحابنا من قال ليست على قولين، وانما هي على اختلاف حالين فالموضع الذي دل عليه مفهوم كلامه أن النفقة لها أراد إذا تزوجت بالثاني من غير أن(18/287)
يحكم لها الحاكم بالفرقة فإذا عادت إلى منزل الزوج عادت نفقتها، لان نفقتها سقطت بأمرضعيف وهو نشوز فعادت برجوعها، وحيث قال في الام لانفقة لها، أراد إذا حكم لها الحاكم بالفرقة وتزوجت بآخر، لان نفقتها سقطت بأمر قوي وهو حكم الحاكم فلا تعود إلا بأمر قوى، وهوأن يتسلمها الزوج، فعلى هذا الطريق إذا نشزت امرأة الحاضر من منزلها وعادت إليه وجبت لها النفقة، وإن لم يتسلمها الزوج.
وأما وجوب نفقتها على الثاني، فإن قلنا بقوله القديم، فإن التفريق صحيح فانها تستحق عليه النفقة بنفس العقد في قوله القديم، ونفقة كل يوم بيومه في قوله الجديد لان نكاحه صحيح.
وإن قلنا بقوله الجديد وان التفريق غير صحيح فإنها لا تستحق عليه النفقة
ولا السكنى في حال الزوجية، لانه لازوجية بينهما، فإذا فرق بينهما بعد الدخول فلا سكنى لها في حال العدة.
وأما النفقة فإن كانت حائلا لم تجب لها، وان كانت حاملا - فإن قلنا النفقة للحمل - وجبت، وإن قلنا للحامل لم تجب (فرع)
إذا تربصت امرأة المفقود وتزوجت بآخر بعد قضاء عدتها فرجع الاول - فإن قلنا بقوله الجديد - لا تقع الفرقة، أو قلنا تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن فأتت بولد يمكن أن يكون من الثاني ولا يمكن أن يكون من الاول فإن عدتها تنقضي من الثاني بوضعه، وترد إلى الاول بعد وضع الولد.
وإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما - فإن قلنا بقوله القديم وأن الفرقة تقع ظاهرا وباطنا فاولد للثاني.
وان قلنا بقوله الجديد وقلنا الفرقة تقع في الظاهر دون الباطن، فإن لم يدعه الاول فهو للثاني، لانها قد استبرأت رحمهما يفينا عن الاول.
وإن أدعاه الاول سئل عن وجه دعواه، فإن قال هذا الولد منى لانها زوجتى وغبت عنها والزوجية لم تنقطع فهو ولدى، لانها أتت به على فراشي، لم يتلفت إلى هذه الدعوي ولحق بالثاني، لانا قد تيقنا براءة رحمها من ماء الاول فلا يمكن أن يكون منه.
وإن قال: كنت عدت إليها في الخفية ووطئتها وهذا الولد منى وأمكن أن(18/288)
يكون صادقا عرض الولد على القافة، فإذا ألحقوه بأحدهما لحقه.
وكل موضع الحق الولد بالثاني، فليس للزوج الاول أن يمنعها من أن تسقيه اللبا لانه لا يعيش الا بذلك.
فذا سقته اللبا - فان لم توجد امرأة ترضعه وتكفله - لم يكن له منعها من ذلك لان يؤدى إلى اتلافه.
وان وجد له امرأة ترضعه وتكفله كان له منعها لانها متطوعة بارضاعه، وللزوج منع زوجته من فعل التطوع كالصلاة والصوم فلان يمنعها من الرضاع أولى
فان أرضعته في موضع منعناها من ارضاعه فيه، فان أرضعته في بيت زوجها فلها النفقة عليه، لانها في قبضته.
وان أخرجت من منزله إلى غيره بغير اذنه وأرضعته سقطت نفقتها لانها ناشزة، وان خرجت إلى غيره باذن زوجها وأرضعته - فان كان زوجها معها لم تسقط نفقتها - وان لم يكن معها ففيه وجهان بناء على القولين في السفر باذنه (فرع)
وان تربصت امرأة المفقود وفرق الحاكم بينهما وتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها، ودخل بها ثم مات الثاني، وبان أن زوجها الاول كان حيا عند نكاحها للثاني وأن الاول مات بعد ذلك - فان قلنا بقوله القديم، وأن الحكم بالفرقة صحيح ظاهرا وباطنا - فقد بانت من الاول، ونكاح الثاني صحيح، وقد بانت عنه بموته واعتدت عنه، ولا تأثير لحياة الاول وان قلنا بقوله الجديد ان الحكم بالفرقة لا يصح أو قلنا تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن، فعلى هذا نكاح الثاني باطل وعليها العدة بموت الاول أربعة أشهر وعشرا.
وعليها عدة وطئ الشبهة للثاني ثلاثة أقراء، ولا يصح أن تعتد من أحدهما الا بعد أن يفرق بينها وبين الثاني، وفيه ثلاث مسائل (احداهن) أن يعلم موت كل واحد من الزوجين في وقت بعينه، ويعلم غير ذلك الزوج.
(الثانية) أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه ولم يعلم وقت موت الآخر (الثالثة) أن لا يعلم موت كل واحد منهما بعينه (فأما الاولة) وهو إذا علم موت كل واحد منهما في وقت بعينه ففيه مسألتان احداهما أن يعلم أن الاول مات في أول شهر رمضان، والثانى مات في أول شوال(18/289)
فيجب عليها أن تعتد ههنا عن الاول أربعة أشهر وعشرا، وابتداؤها من أول
شوال بعد زوال فراش الثاني، لانه لا يمكن أن تكون فراشا للثاني معتدة عن الاول، فإذا انقضت عدتها عن الاول اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء لان عدة الاول أسبق فقدمت، ولانها أقوى لانها وجبت بسبب مباح والثانية وجبت بسبب محظور.
وإن مات الثاني في أول رمضان والاول في أول شوال، فإن الثاني لما مات شرعت في عدته، وان كانت زوجة الاول، لان النكاح يتأبد فراشه فلا يمكن قطعه لاجل العدة، بخلاف الفراش في النكاح الثاني فإنه لا يتأبد، فلذلك وجب قطعه للعدة ولم تصبح العدة مع وجوده فإن مات الاول في أثناء عدة الثاني انتقلت إلى عدة الاول لانها آكد، فإذا أكملت عدة الاول أربعة أشهر وعشرا أكملت عدة الثاني بالاقراء (المسألة الثانية) أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه ولم يعلم وقت موت الآخر: مثل أن يعلم أن الثاني مات في أول شوال، ثم جاء الخبر أن الاول حى في بلد كذا ومات فلم يعلم وقت موته، فانه يقال أقل وقت يمكن أن يصل فيه الخبر من الموضع الذي كان فيه كم هو؟ فان قيل مثلا عشرة أيام، جعل في التقدير كأنه مات قبل مجئ خبره بعشرة أيام، فان وافق ذلك وقت موت الثاني بأن كان الخبر ورد لعشر خلون من شوال فقد اتفق موتهما في وقت واحد، فتعتد عن الاول بأربعة أشهر وعشر، وتعتد بعد ذلك عن الثاني بثلاثة أقراء، وإن تقدم موت الثاني أو تأخر عنه فالحكم فيه على ما ذكرناه في المسألة الاولة (المسألة الثالثة) أن لا يعلم وقت موت كل واحد منهما بعينه، مثل أن يعلم أن أحدهما مات في أول شهر رمضان، والآخر مات في أول شوال ولا يعلم أيهما مات أولا، فيجب عليها بيقين، هذا إذا لم تحبل من الثاني، فإذا حبلت
من الثاني ثم ظهر موت الاول فان الولد لاحق بالثاني، لانها قد اعتدت عن الاول واستبرأت رحمها منه.
وقد مات الاول قبل أن يدعيه فلم يلحق به،(18/290)
فتعتد بوضع الحمل عن الثاني، فإذا وضعته اعتدت عن الاول بأربعة أشهر وعشر، ومتى تبتدئ بها؟ فيها وجهان
(أحدهما)
من حين انقطاع دم النفاس، لان دم النفاس تابع للحمل من الاول فهو كمدة الحمل.
(والثانى)
وهو المذهب أن ابتداءها من بعد وضع الحمل، لان هذا عدة من وفاة، وعدة الوفاة لا يراعى فها الدم وزواله، ولان وقت دم النفاس ليس من عدة الثاني فاحتسب به من عدة الاول وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(باب نفقة الاقارب والرقيق والبهائم)
والقرابة التى تستحق بها النفقة قرابة الوالدين وإن علوا، وقرابة الاولاد وإن سفلوا، فتجب على الولد نفقة الاب والام، والدليل عليه قوله تعالى " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " ومن الاحسان أن ينفق عليهما.
وروث عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ان أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه " ويجب عليه نفقة الاجداد والجدات، لان اسم الوالدين يقع على الجميع.
والدليل عليه قوله تعالى " ملة أبيكم إبراهيم " فسمى الله تعالى ابراهيم أبا وهو جد، ولان الجد كالاب، والجدة كالام في أحكام الولادة، من رد الشهادة وغيرها، وكذلك في إيجاب النفقة ويجب على الاب نفقة الولد لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يارسول الله عندي دينار؟ فقال انفقه على
نفسك.
قال عندي آخر؟ فقال أنفقه على ولدك، قال عندي آخر، فقال أنفقه على أهلك.
قال عندي آخر، قال أنفقه على خادمك.
قال عندي آخر.
قال أنت أعلم به " ويجب عليه نفقة ولد الولد وان سفل، لان اسم الولد يقع عليه، والدليل عليه قوله عز وجل " يا بنى آدم " وتجب على الام نفقة الولد لقوله تعالى " لاتضار والدة بولدها " ولانه إذا وجبت على الاب وولادته من جهة الظاهر(18/291)
فلان تجب على الام وولادتها من جهة القطع أولى وتجب عليها نفقة ولد الولد لما ذكرناه في الاب، ولا تجب نفقة من عدا الولدين والمولودين من الاقارب كالاخوة والاعمام وغيرهما، لان الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولودين ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكام الولادة، فلم يلحق بهم في وجوب النفقة.
(الشرح) نبدأ بأشرف ما في الفصل من كلام ربنا تبارك وتعالى، فقوله تعالى " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وباوالدين إحسانا " أي أمر وألزم وأوجب.
قال ابن عباس والحسن وقتادة: ليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء أمر.
وقال ابن تيمية: القضاء قضاءان، قضاء كونى وقضاء شرعى، والقضاء الشرعي كقوله تعالى " وقضى ربك " وفي مصحف ابن مسعود " ووصى " وهى قراءة، وقرأه ابن عباس وأبى قال ابن عباس إنما هو " ووصى " فالنصف إحدى الواوين فقرئت " وقضى " إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد.
وأنكر أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك وقال: لو قلنا ذلك لطعن الزنادقة في مصبحفنا قلت: بخ بخ لابي حاتم، إذ كيف تلتصق الواو في جميع المصاحف بالصاد فتتحول من ووصى إلى وقضى.
قال علماء الكلام: القضاء يستعمل في اللغة على وجوه، فالقضاء بمعنى الامر كقوله تعالى " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " والقضاء بمعنى الخلق كقوله تعالى " فقضاهن سبع سموات في يومين " والقضاء بمعنى الحكم كقوله تعالى " فاقض ما أنت قاض " والقضاء بمعنى الفراغ كقوله قضي الامر الذي فيه تستفتيان " وقوله تعالى " فإذا قضيتم مناسككم " وقوله فإذا قضيت الصلاة " والقضاء بمعنى الارادة: كقوله تعالى " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " والقضاء بمعنى العد كقوله تعالى " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر " وأما قوله تعالى " ملة أبيكم ابراهيم " قال القرطبى: وابراهيم هو أبو العرب قاطبة.
وقيل الخطاب لجميع المسلمين وإن لم يكن الكل من ولده، لان حرمة(18/292)
ابراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد.
يدل على ذلك قوله " هو سماعكم المسلمين من قبل " قال ابن زيد، وهو معنى قوله " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " قال ابن زيد والحسن " هو " راجع إلى ابراهيم.
والمعنى هو سماكم المسلمين من قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
قال النحاس وهذا القول مخالف لقول عظماء الامة.
وروى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: سماكم الله تعالى المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن وأما قوله تعالى " يا بنى آدم " قال القرطبى هو خطاب لجميع العالم.
وأما قوله تعالى " لاتضار والدة بولدها " قال ابن بطال يجوز أن يكون معناه لاتضار على تقاعل، وهو أن ينزع ولدها منها ويدفع إلى مرضعة أخرى، ويجوز أن يكون معناه لاتضار الام الاب فلا ترضعه.
أي لا تأبى الام أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي " تضار " بفتح الراء المشددة، وموضعه الجزم على النهى.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان عن عاصم وجماعة " تضار " بالرفع عطفا على قوله " تكلف نفس " وهو خبر والمراد به الامر وروى عن عمر بن الخطاب أنه قرأ " لاتضار " براءين من الاولى مفتوحة.
وروى عن أبن عباس " لاتضار ر " بكسر ما قبل آخره وهى الراء الاولى وأما حديث عائشة فقد مضى في الفرائض، وقد ساقه الذهبي في سير أعلام النبلاء وفيه " إن أطيب ما أكل الرجل من كسب يمينه " وقد أخرجه أبو داود والحاكم بلفظ " ولد الرجل من أصيب كسبه، فكلوا من أموالهم " وإسناده صحيح وأما حديث أبى هريرة فقد أخرجه الشافعي وأبو داود واللفظ له وأخرجه النسائي والحاكم بتقديم الزوجة على الولد، وفي صحيح مسلم من رواية جابر تقديم الزوجة على الولد من غير تردد.
وقال الحافظ بن حجر: اختلف على يحيى القطان والثوري، وفقدم يحيى الزوجة على الولد.
وقدم سفيان الولد على الزوجة، فينبغي ان لا يقدم أحدهما على(18/293)
الآخر بل يكونا سواء، لانه قد صح عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا تكلم تكلم ثلاثا، فيحتمل أن يكون في إعادته قدم الولد مرة، ومرة قدم الزوجة، فصارا سواء.
قال الصنعانى في سبيل السلام: هذا حمل بعيد، فليس تكريره لما يقوله ثلاثا بمطرد، بل عدم التكرير غالب، وإنما يكرر إذا لم يفهم عنه.
ومثل هذا الحديث جواب سؤال لا يجرى فيه التكرير لعدم الحاجة إليه لفهم السائل للجواب، ثم رواية جابر التى لا تردد فيها تقوى رواية تقديم الاهل اه
أما الاحكام فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي كِتَابِ الله وسنة رسوله عليه السلام بيان أن على الاب أن يقوم بالمنونة في إصلاح صغار ولده من رضاع ونفقة وكسوة وخدمة اه وجملة ذلك أنه يجب على الاب أن ينفق على ولده، والاصل فيه قوله تعالى (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) فمنع الله قتل الاولاد خشية الاملاق وهو الفقر، فلولا أن نفقة الاولاد عليهم لما خافوا الفقر.
وقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فأوجب أجرة رضاع الولد على الاب، فدل على أن نفقته تجب عليه وحديث أبى هريرة عن الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندي دينار والرسول يجبيه فيقول عندي آخر وأخذ يردد الاسئلة، وقد خرجناه آنفا وكذلك حديث هند بنت عتبة أن أبا سفيان رجل شحيح.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لها " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف " ولان الولد بعض من الاب فكما يلزمه أن ينفق على نفسه فكذلك يلزمه أن ينفق على ولده، فإن لم يكن هناك أب أو كان ولكنه معسر وهناك جد موسر وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تجب نفقة ولد الولد على الجد.
دليلنا قوله تعالى " يا بنى آدم " فسمى الناس بنى آدم، وإنما هو جدهم.
وكذلك قوله تعالى " واتبعت ملة آبائى ابراهيم واسماعيل وإسحاق " فسماهم آباء، وإنما هم أجداد، أو لان بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة وجبت النققة على الام، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ،(18/294)
وقال مالك " لا تجب النفقة على الام " وقال أبو يوسف ومحمد " تجب على الام ولكن ترجع بها على الاب إذا أيسر
دليلنا على مالك أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأوجبت النفقة كالابوة، ولان النفقة إذا وجبت على الجد وولادته من طريق الظاهر، فلان تجب على الام وولادتها من طريق القطع أولى فلم ترجع ودليلنا على أبى يوسف ومحمد أنها نفقة واجبة على من تيقن نسبه فلم يرجع بها كالجد لا يرجع بما أنفق على الاب، وقولنا على من تيقن نسبه احتراز ممن ولد على فراشين وأشكل الاب منهما، فإن لم يكن هناك أم وهناك أبو أم أو أم أم وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل، فتجب نفقة الولد على من يقع عليه اسم الاب أو الام حقيقة أو مجازا، سواء كان من قبل الاب أو الام، ويشترك في وجوبها العصبات وذووا الارحام، لانها تتعلق بالقرابة من جهة الولادة، فاستوى العصبات وذوو الارحام، لانها تتعلق بالقرابة من جهة الولادة، فاستوى للعصبات وذوو الارحام من جهة الوالدين، كما قلنا في منع الشهادة والقصاص والعتق.*
*
* قوله: فتجب على الولد الخ، فجملة ذلك أنه يجب على الولد نفقة الاب لقوله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " وقوله تعالى " وصاحبهما في الدينا معروفا " ومن الاحسان والمعروف أن ينفق عليه وروى ابن المنكدر " أن رجلا قال: يارسول الله إن لى مالا وعيالا ولابي مال وعيال ويريد أن يأخذ من مالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك لابيك " وروت عَائِشَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ان أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه " وروت عَائِشَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إن أولادكم هبه من الله لكم يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها "(18/295)
وساق العمرانى رواية نسوقها لطرافتها، ولنا عليها نظر (1) .
قال روى عن جابر أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقال: يارسول الله إن أبى يأخذ مالى فينفقه فقال الاب: إنما أنفقه يارسول الله على إحدى عمله أو إحدى خالاته، فهبط جبريل وقال: يارسول الله سل الاب عن شعر قاله، فسأله النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فقال الاب إن الله وله الحمد يزيدنا بك بيانا يارسول الله كل يوم لقد قلت هذا الشعر في نفسي فلم تسمعه أذناى ثم أنشأ يقول: غدوتك مولودا وعلتك يافعا تعل بما أدنى اليك وتنهل إذا ليلة نابتك بالشكوى لم أبت لشكوك إلا ساهرا أتملل كأنى أن المطروق دونك بالذي طرقت به دوني وعينى تهمل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ماكنت فيك أؤمل جعلت جزائي منك جبها وغلظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتى فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه يرد على أهل الصواب موكل اه (فرع)
ويجب على الولد نفقة الام.
وقال مالك لا يجب.
دليلنا ما ذكرناه من القرآن والسنة آنفا.
وما روياه أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقال يارسول الله من أبر؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، إلى أن قال في الرابعة ثم أباك.
ومن البر أن تتفق عليها.
ولانها تعتق عليه إذا ملكها، ولا يجب عليها القصاص بجنايتها عليه، ولا تقبل شهادته لها.
فوجبت لها النفقة عليه كالاب، وتجب على الولد نفقه الاجداد والجدات وإن علوا من قبل الاب والام.
وبهذا قال أحمد والثوري وأصحاب الرأى
__________
(1) ذلك أن أبا القاسم الطبراني قد رواها بإسناد فيه نظر.
وقد روى هذه الابيات أبو تمام في ديوان الحماسة عزاها لامية بن أبي الصلت في ابنه.
وقال
بعضهم هي لغيره.
وقال أبو رياش هي لابي العباس الاعمى، وقال التبريزي: وتروى لابن عبد الاعلى - قال أبو هلال " أوردها أبو عبيدة في أخبار العققة والبررة ".(18/296)
وقال مالك: لا تجب النفقة عليهم ولا لهم، لان الجد ليس بأب حقيقي.
دليلنا أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأوجبت النفقة كالابوه.
(فرع)
نفقة القرابة تجب مع اتفاق الدين ومع اختلافه، فإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا لم يمنع ذلك من وجوب النفقة، لانه حق يتعلق بالولادة فوجب مع اتفاق الدين واختلافه كالعتق بالملك، ولا تجب النفقة لغير الوالدين والمولودين من القرابة كالاخ وابن الاخ والعم وابن العم وقال أبو حنيفة تجب لكل ذي رحم محرم، فتجب عليه نفقة الاخ وأولاده والعم والعمة والخال والخالة، ولا تجب عليه نفقة أولاد العم ولا أولاد الخال ولا أولاد الخالة.
وتفصيل قول أحمد أنه تجب عليه نفقة كل من كان وارثا كالاخ وابن الاخ والعم وابن العم ولا تجب عليه نفقة ابنة الاخ والعمة وابنة العمة وابنة العم.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تجب عليه نفقة كل قريب معروق النسب منه ودليلنا حديث أبى هريرة في الرجل الذى معه دينار وآخر حتى قال أنت أعلم، ولم يأمره أن ينفقه على أقاربه، فدل على أنها لا تجب عليه نفقه أقاربه، فإن قيل فلم يذكر الولد ومع ذلك فنفقته واجبه.
قلنا قد نص على نفقة الولد فنبه بذلك على نفقة الوالد، لانه أكد حرمة من الولد، ولان من سوى الوالدين والمولودين من القرابة لا يلحق بهم في الحرمه فلم يلحق بهم بوجوب نفقتهم، ولانها قرابة لا تستحق بها نفقه مع اختلاف الدين فلم يستحق بها نفقة مع
اتفاق الدين كابن العم مع أبى حنيفه وكغير الوارث مع أحمد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تجب نفقة القريب إلا على موسر أو مكتسب يفضل عن حاجته ما ينفق على قريبه، وأما من لا يفضل عن نفقته شئ فلا تجب عَلَيْهِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إذَا كَانَ أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته " فإن لم يكن فضل غير ما ينفق على زوجته لم يلزمه نفقة القريب، لحديث جابر رضى الله(18/297)
عنه، ولان نفقة القريب مواساة ونفقة الزوجة عوض، فقدمت على المواساة، ولان نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القريب كنفقة نفسه
(فصل)
ولا يستحق القريب النفقة على قريبه من غير حاجة، فإن كان موسرا لم يستحق لانها تجب على سبيل المواساة، والموسر مستغن عن المواساة، وإن كان معسرا عاجزا عن الكسب لعدم البلوغ أو الكبر أو الجنون أو الزمانة استحق النفقة على قريبه: لانه محتاج لعدم المال وعدم الكسب.
وإن كان قادرا على الكسب بالصحة والقوة - فإن كان من الوالدين - ففيه قولان
(أحدهما)
يستحق لانه محتاج فاستحق النفقة على القريب كالزمن.
(والثانى)
لا يستحق لان القوة كاليسار، ولهذا سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في تحريم الزكاة فقال " لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة قومي " وإن كان من المولودين ففيه طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ كالوالدين ومنهم من قال لا يستحق قولا واحدا لان حرمة الوالد آكد فاستحق بها مع القوة وحرمة الولد أضعف فلم يستحق بها مع القوة (الشرح) حديث جابر أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي بلفظ " إنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شئ فلاهلك، فإن فضل عن أهلك شئ فلذى قرابتك، فإن فضل عن ذى قرابتك شئ فهكذا وهكذا " أما حديث " لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة قوى " فقد أخرجه النسائي عن أبى هريرة في الزكاة عن هناد بن السرى وابن ماجه فيه أيضا عن محمد بن الصباح، وأخرجه أبو داود عن عباس بن موسى الختلى في الزكاة من حديث عبد الله بن عمرو والترمذي في الزكاة عن محمد بن بشار من حديث عبد الله بن عمرو أيضا وحسنه، وذكر أن شعبة لم يرفعه، وفي إسناده ريحان بن يزيد وثقه يحيى بن معين.
وقال أبو حاتم الرازي شيخ مجهول، وقال بعضهم: لم يصح إسناد هذا الحديث، وإنما هو موقوف على عبد الله بن عمرو وقال أبو داود: الاحاديث الاخر عن النبي صلى الله عليه وسلم بعضها " لذى(18/298)
مرة سوى، وبعضها " لذى مرة قومي " (أما اللغات: فالمره القوة والشدة.
قال تعالى " ذو مرة فاستوى " والسوى الصحيح الاعضاء.
وأخرجه أحمد من طريق أبى هريرة ومن طريق ابن عمر أما الاحكام فإنه لا يستحق القريب على قريبه حتى يكون المنفق منهما موسرا بنفقة قريه، وهو أن يفضل عن قوت نفسه وقوت زوجته في يومه وليلته، لحديث جابر الذي ساقه المصنف.
وإنما قدمت نفقة الزوجة على نفقة القريب، لانها تجب لحاجته إليها، ونفقة القريب مواساة، فقدمت نفقتها عليها كما تقدم نفسه، ولان نفقة الزوجة تجب بحكم المعاوضة فقدمت على نفقة القريب كما يقدم الدين، فإن كان مكتسبا ما ينفق على نفسه وزوجته ويفضل عن قوت يومه وليلته لزمه أن ينفق على قرابته، لان الكسب في الانفاق يجرى مجرى الغنى.
ولهذا روى أن رجلين سألا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهما من الصدقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أعطيكما بعد أن أعلمكما أنه لاحظ فيها لغنى قوى ولا لقوى مكتسب " فجعل الاكتساب بمنزلة الغنى والمال.
وان كان للمنفق عقار وجب بيعه للانفاق على قريبه.
دليلنا أن نفقة القريب تجب فيما فضل عن قوت المنفق في يومه وليلته، والعقار يفضل عن قوت يومه وليلته فوجب بيعه للانفاق على القريب كالاب.
ولا يستحق القريب النفقة على قريبه حتى يكون المنفق عليه معسرا غير قادر على الكسب لصغر أو جنون أو زمانة أو كبر - فإن كان له مال يكفيه - لم تجب نفقته على قريبه، لان ايجاب نفقة القريب على قريه مواساة، والغنى بماله لا يستحق المواساة.
وإن كان له كسب وهو قادر على أن يكتسب ما يكفيه لم تجب له نفقة على قريبة، لان الكسب في باب الانفاق يجرى مجرى الغنى بالمال.
وان كان صحيحا إلا أنه غير مكتسب - فإن كان من الوالدين ففيه قولان: أحدهما: تجب نفقته على الولد الموسر، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، لانه محتاج الا الانفاق فأشبه الزمن.
والثانى: لا تجب نفقته على الولد لانه قادر على الاكتساب فأشبه المكتسب.(18/299)
وإن كان الولد بالغا صحيحا محتاجا غير مكتسب ففيه طَرِيقَانِ.
مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ كالوالدين.
ومنهم من قال لا تجب نفقته قولا واحدا، لان حرمة الوالد آكد فاستحق مع الصحة، والولد أضعف حرمة فلا يستحق مع الصحة.
هذا مذهبنا وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الابنة لم تسقط نفقتها حتى تزوج لانه لا يمكنها
الاكتساب فهى كالصغيرة.
ودليلنا إن كان معنى أسقط نفقة الابن أسقط نفقة الابنة كاليسار، وما ذكره فلا يصح لانه يمكنها أن تعمل كاتبة أو حائكة أو عاملة في مصانع الدواء أو مدرسة أطفال أو ما إلى ذلك من أعمال مع التصون والتحشم وطلب الرزق الحلال، وقد كانت المرأة على عهد أبى حنيفة تشتغل بالغزل وتبيعه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فإن كان للذي يستحق النفقة أب وجد أو جد وأبوجد وهما موسران، كانت النفقة على الاقرب منهما، لانه أحق بالمواساة من الابعد، وإن كان له أب وابن موسران ففيه وجهان
(أحدهما)
أن النفقة على الاب لان وجوب النفقة عليه منصوص عليه.
وهو قوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ووجوبها على الولد ثبت بالاجتهاد.
(والثانى)
أنهما سواء لتساويهما في القرب والذكورية، وإن كان له أب وأم موسران كانت النفقة على الاب لقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن) فجعل أجرة الرضاغ على الاب.
وروت عائشة رضى الله عنها " أن هندا أم معاوية جاءت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يارسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطينى ما يكفيني وولدى إلا ما أخذت منه سرا وهو لا يعلم فهل على في ذلك من شئ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف، ولان الاب ساوى الام في الولادة وانفرد بالتعصيب فقدم.(18/300)
وإن كان له أم وجد أبو الأب وهما موسران فالنفقة على الجد لان له ولادة
وتعصيبا فقدم على الام كالاب، وان كانت له بنت وابن بنت ففيه قولان
(أحدهما)
أن النفقة على البنت لانها أقرب
(والثانى)
أنها على ابن البنت لانه أقوى وأقدر على النفقة بالذكورية، وإن كانت له بنت وابن ابن فالنفقة على ابن الابن، لان له ولادة وتعصيبا، فقدم كما قدم الجد على الام.
وان كان له أم وبنت كانت النفقة على البنت، لان للبنت تعصيبا وليس للام تعصيب، وان كان له أم أم وأبو أم فهما سواء، لانهما يتساويان في القرب وعدم التعصيب، وإن كان له أم أم وأم أب ففيه وجهان
(أحدهما)
أنهما سواء لتساويهما في الدرجة
(والثانى)
أن النفقة على أم الاب لانها تدلى بالعصبة (الشرح) حديث عائشة أن هندا بنت عتبة ألخ أخرجه البخاري في النفقات عن محمد بن مقاتل وعن محمد بن يوسف، وفي الايمان والنذور عن يحيى بن بكير وفي الاحكام عن محمد بن كثير، وفي المظالم عن أبى اليمان، وفي البيوع عن أبى نعيم وفي صحيح مسلم في الاحكام عن على بن حجر وعن عبد بن حميد، وفي الاقضية عن زهير بن حرب، وأخرجه أبو داود في البيوع عن خشيش بن أصرم وعن أحمد بن يونس.
وأخرجه النسائي في القضاء عن إسحاق بن ابراهيم وابن ماجه في التجارات عن أبى بكر وعلى بن محمد وأبى عمر الضرير أما الاحكام فإن كان هناك قريب يستحق النفقة واجتمع قريبان موسران كانت نفقته عليهما أو على الاقرب منهما على ما سنوضحه، فإن كان هناك ولد صغير فقير وله أبوان موسران كانت نفقته على الاب لقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) فجعل أجرة الرضاع على الاب، ولقوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبى سفيان " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ولانهما تساويا في الولادة وانفرد الاب بالتعصيب فقدم على الام، فإن اجتمع الاب والجد وهما موسران واجمتعت الام وأمها أو الام وأم الاب وهما
موسرتان قدم الاب على الجد، وقدمت الام على أمها وأم الاب لانها أقرب.(18/301)
وإن اجتمعت الام والجد أبو الأب وهما موسران كانت النفقة على الجد دون الام، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حنيفة: ينفقان عليه على قدر ميراثهما، فيكون على الام ثلث النفقة وعلى الجد الثلثان.
دليلنا أنه أجتمع عصبة مع ذات رحم بنفق كل واحد منهما على الانفراد، فقدم العصبة كالاب إذا اجتمع مع الام، فإن اجتمع الجد أبو الأب وإن علا مع الجد أبى الام وهما موسران وحيث النفقة على الجد أبى الاب، لان الجد يقدم على الام، فلان يقدم على أبى الام أولى.
وان اجمتعت أم الام وأبوالام وهما موسران كانت النفقة عليهما نصفين لانهما متساويان في الدرجة ولا مزية لاحدهما على الآخر في التعصيب فاستويا في الانفاق.
وإن اجتمعت أم الام وأم الاب وهما موسرتان ففيه وجهان
(أحدهما)
تجب النفقة عليهما نصفين وهو الاصح لانهما مستويتان في الدرجة ولا مزية لاحداهما على الاخرى بالتعصيب
(والثانى)
تجب النفقة على أم الاب لانها تدلى بعصبة، ولان الاب لو اجمتع هو والام لقدم الاب في إيجاب النفقة فقدم من يدلى بها على من يدلى بها وهكذا الوجهان إذا اجتمعت أم الاب وأبوالام، فإن اجتمعت الام وأم الاب وهما موسرتان، قال الشيخ أبو حامد - فإن قلنا - إن أم الام وأم الاب إذا اجتمعتا - تقدم أم الاب لانها تدلى بعصبة قدمت ههنا أم الاب على الام لانها كالعصبة، وإن قلنا هناك: إنهما سواء، قدمت الام على أم الاب لانها أقرب منها.
(فرع)
وإن كان الرجل فقيرا زمنا وله أب وابن موسران ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) تجب نفقته على الاب لان وجوب النفقة على الاب منصوص عليها في القرآن، ووجوب النفقة على الابن مجتهد فيها
(والثانى)
أن نفقته على الابن لانه أقوى تعصيبا من الاب (والثالث) تجب نفقته عليهما لانهما متساويان بالدرجة منه والتعصيب.
فإذا قلنا بهذا فهل يجب عليهما نصفين أو تعتبر بميراثهما منه؟ فيه وجهان.
قال العمرانى " الاصح أنهما عليهما نصفان "(18/302)
وان اجتمع ابن وجد فمن أصحابنا من قال: هو كما لو اجتمع الابن والاب.
ومنهم من قال تجب على الابن وجها واحدا لانه أقرب، وان كان فقيرا زمنا وله إبنان موسران وبنتان موسرتان وجبت نفقته بينهما نصفين، لانه لامزية لاحدهما على الآخر.
وإن كان له ابن وابنة موسرة فقال الماوردى، قال أصحابنا البغداديون تجب جميع النفقة على الابن، لانهما متساويان في الدرجة، وللابن مزية بالتعصيب فقدم في وجوب النفقة عليه كالاب إذا اجتمع مع الام.
وقال الخراسانيون من أصحابنا تجب النفقة عليهما؟ فيه وجهان
(أحدهما)
قال المسعودي وهو الاصح تجب عليهما نصفين، وبه قال أبو حنيفة
(والثانى)
تجب عليهما على قدر ميراثهما، فيجب على الابن ثلثا النفقة وعلى الابنة ثلثها، وبه قال أحمد إذا ثبت هذا فذكر ابن الصباغ إذا كان له ابن ذكر وخنثى مشكل موسران فإن النفقة على الابن لان الخنثى يجوز أن تكون أنثى فلا تجب عليه النفقة.
فإن بان الخنثى رجلا رجع عليه ابن بنصف ما أنفق، لانه بان أنه كان مستحقا عليه وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين.
فأما على طريقة الخراسانيين فكم يجب على الخنثى؟ فيه وجهان
أحدهما النصف وهو الاصح، فعلى هذا لافرق بين أن يبين أنه رجل أو امرأة والثانى يجب عليه بمقدار ميراثه، فعلى هذا يجب عليه الثلث وعلى الذكر النصف ويبقى سدس النفقة.
فإن قال أحدهما أدفع السدس لارجع به على من بان أنه عليه: جاز.
وان يدفعه أحدهما برضاه دفعاه بينهما نصفين، فإذا حال الخنثى رجع من بان أنه غير مستحق عليه بما دفع منه.
قال ابن الصباغ، وان كان له بنت وخنثى مشكل ففيه وجهان.
أحدهما تجب النفقة على الخنثى لجواز ان يكون رجلا، فإذا أنفق ثم بان أنه رجل لم يرجع على أخته بشئ، وان بان أنه أنثى رجعت على أختها بنصف ما أنفقت.
والثانى ان النفقة بينهما نصفان، قال وهو الاقيس، لانا لا نعلم كونه رجلا فإن بان أنه ذكر رجعت عليه البنت بما أنفقت، وان بان أنه أنثى لم ترجع عليها(18/303)
أختها بشئ.
وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين.
وأما على طريقة الخراسانيين فعلى أصح الوجهين تجب النفقة عليهما نصفين، ولا يرجع الخنثى بما أنفق على أخته بشى، سواء بان رجلا أو امرأة، وعلى الوجه الذي يقول يجب النفقة عليهما على قدر ميراثهما يجب على كل منهما ثلث النفقة ويبقى الثلث.
فإن اختار أحدهما أن ينفقه ليرجع به على من بان عليه جاز، وان لم يختر أحدهما دفعه دفعاه بينهما، فيدفع كل منهما نصف النفقة، فإن بان الخنثى امرأة لم ترجع إحداهما على الاخرى بشى، وإن بان رجلا رجعت عليه المرأة بثلث ما دفعت (فرع)
وإن كان له ثلاثة أولاد: ذكر وخنثيان، فعلى طريقة أصحابنا البغداديين تجب النفقة على الذكر، فإن بان الخنثيان امرأتين لم يرجع عليهما بشئ وإن بانا رجلين رجع على كل واحد منهما بثلث ما أنفق، وإن بان أحدهما
رجلا والآخر امرأة رجع على الرجل بنصف ما أنفق، وعلى طريقة الخراسانيين تجب النفقة على الجميع، وكيف تجب عليه.
فيه وجهان أحدهما - وهو الاصح عندهم - تجب بينهم بالسوية، فعلى هذا لا تراجع بينهم بحال.
والثانى تجب بينهم على قدر مواريثهم، فعلى هذا يجب على الرجل ثلث النفقة، وعلى كل واحد من الخنثيين خمس النفقة لان ذلك هو اليقين.
قال القاضى أبو الفتوح من أصحابنا ونقله صاحب البيان: ويبقى من الفقة ربعها تفريض عليهم، قال وهذا غلط بل تبقى من النفقة أربعة أسهم من خمسة عشر سهما.
فإن قال أحدهم: أدفعها على أن أرجع بها على من بانت عطيه عنده ودفعها، كان له الرجوع على من بانت عنده: وإن لم يرض أحدهم بدفعها قسمت عليهم أثلاثا فتقسم النفقة على خمسة وأربعين سهما فيدفع الذكر منها سبعة عشر سهما ويدفع كل خنثى ثلاثة عشر سهما.
فإن بانا امرأتين رجعا على الذكر بتمام النصف، فترجع عليه كل واحدة منهما بسهم وثلاثة أرباع سهم مما دفعت، وان بانا رجلين رجع الذكر على كل واحد منهما بسهمين وهو تمام الثلث.
وإن بان أحدهما ذكرا والآخر امرأة رجعت المرأة على الذي بان رجلا بأربعة أسهم ورجع الذكر عليه بسهم(18/304)
(فرع)
فإن كان لرجل بنت وولدان خنثيان مشكلان فعلى طريقة أصحابنا البغداديين في النفقة وجهان.
(أحدهما)
أن جميع النفقة على الخنثيين، فإن بانا رجلين فلا رجوع لهما وإن بانا امرأتين رجعتا كل واحدة منهما على أختها التي لم تنفق معها ثلث ما أنفقت.
وإن بان أحدهما رجلا والآخر امرأة رجعت التي بانت امرأة على الذي بان رجلا بجميع ما أنفقت
والوجه الثاني: أن النفقة تجب عليهم أثلاثا - فإن بانا امرأتين فلا تراجع وإن بانا رجلين رجعت البنت بما أنفقت عليهما نصفين، وإن بان أحدهما رجلا والآخر امرأة رجع المرأتان على الذي بان رجلا بجميع ما أنفقاه.
وعلى طريقة الخراسانيين يقول العمرانى في البيان والماوردي في الحاوى وابن الصباغ في الشامل يكون في النفقة أيضا وجهان.
أحدهما - وهو الاصح عندهم - أن النفقة تجب على الجميع بالسوية.
فعلى هذا لا تراجع بينهم بحال
(والثانى)
تجب بينهم على قدر مواريثهم، فعلى هذا تجب على البنت خمس النفقه وهي أربعة من عشرين، وعلى كل واحد من الخنثيين ربع النفقه وهو خمسة من عشرين، لان هذا هو اليقين وتبقى ستة أسهم إن دفعها أحدهم ليرجع بها على من بانت عنده جاز والا قسمت عليهم أثلاثا، فإن بانا امرأتين رجع كل واحد من الخنثيين على البنت بثلث سهم.
وإن بانا رجلين رجعت البنت على كل واحد منهما بسهم وإن بان أحدهما رجلا والآخر أمرأة رجعت البنت الاصلية عليه بسهم ورجعت عليه البنت الخنثى بسهمين، والمشهور طريقة البغداديين (فرع)
وان كان له بنت وابن بنت موسران فحكى الشيخ المصنف هنا أن فيه قولين، وحكاهما ابن الصباغ عن القاضى أبى حامد وجهين
(أحدهما)
تجب النفقه على البنت لانهما يستويان في عدم التعصيب والبنت أقرب فكانت أولى بالايجاب عليها.
(والثانى)
تجب على ابن البنت لانه أقدر على النفقه بالذكوريه، وان كان له بنت ابن وابن بنت ففيه ثلاثة أوجه حكاها ابن الصباغ (أحدها) تجب النفقه على بنت الابن لانها تدلى بعصبة وقد تكون عصبه مع أختها(18/305)
(والثانى)
تجب النفقة على ابن البنت لانه أقوى على النفقة بالذكورية
(والثالث) تجب النفقة عليهما بالسوية لانهما متساويان في الدرجة وعدم التعصيب.
وإن كان له أم وبنت موسرتان كانت النفقة عليهما بالسوية لانهما متساويان في الدرجة وعدم التعصيب، وإن كان له أم وبنت موسرتان كانت النفقة على البنت.
وقال أبو حنيفة وأحمد: يكون على الام ربع النفقة والباقى على البنت.
(فرع)
وإن كان له قريبان موسران أحدهما أبعد من الآخر فحضر الابعد وغاب الاقرب - قال المسعودي - وجب على الحاضر أن ينفق، فإذا حضر الاقرب فهل يرجع عليه بما أنفق؟ فيه وجهان الاصح له أن يرجع عليه، وهذا إذا لم يوجد للغائب مال ينفق عليه منه.
وإن كان له مال حاضر أنفق عليه منه، وإن لم يكن له مال - وأمكن أن يقترض الحاكم عليه من بيت المال أو من إنسان - اقترض عليه ووجب عليه القضاء إذا حضر، وإن لم يمكن كان على الحاضر أن ينفق فإن بان أن الغائب كان معسرا أو ميتا وقت النفقة لم يرجع عليه بشئ بل تكون نفقته على الحاضر.
وهكذا إن كان له ابنان موسران فحضر أحدهما وغاب الآخر كان على الحاضر نصف الفقة، فإن كان للغائب مال أنفق منه نصف النفقة، وإن لم يكن له مال وأمكن أن يفترض عليه من بيت المال أو من إنسان افترض عليه الحاكم.
وإن لم يمكن ذلك قال ابن الصباغ لزم الحاضر أن يفترض لان نفقته عليه إذا انفرد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان الذي تجب عليه النفقة يقدر على نفقة قريب واحد وله أب وأم يستحقان النفقة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن الام أحق لما روى " أن رجلا قال يارسول الله من أبر؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أباك "
ولانها تساوى الاب في الولادة وتنفرد بالحمل والوضع والرضاع والتربية (والثاني) أن الاب أحق لانه يساويها في الولادة وينفرد بالتعصيب.(18/306)
ولانهما لو كانا موسرين والابن معسرا قدم الاب في وجوب النفقة عليها فقدم في النفقة له.
(والثالث) أنهما سواء، لان النفقة بالقرابه لا بالتعصيب، وهما في القرابة سواء، وإن كان له أب وابن ففيه وجهان، أحدهما أن الابن أحق لان نفقته ثبتت بنص الكتاب.
والثانى أن الاب أحق لان حرمته آكد، ولهذا لايقاد بالابن ويقاد به الابن، وإن كان له ابن وابن ابن أو أب وجد، ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الابن أحق من ابن الابن والاب أحق من الجد لانهما أقرب، ولانهما لو كانا موسرين وهو معسر كانت نفقته على أقربهما، فكذلك في نفقته عليهما
(والثانى)
أنهما سواء لان النفقة بالقرابه، ولهذا لا يسقط أحدهما بالآخر إذا قدر على نفقتهما.
(فصل)
ومن وجبت عليه نفقته بالقرابه وجبت نفقته على قدر الكفايه لانها تجب للحاجة فقدرت بالكفاية، وان احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقه خادمه، وان كانت له زوجة وجبت نفقة زوجته، لان ذلك من تمام الكفايه وان مضت مدة ولم ينفق على من تلزمه نفقته من الاقارب لم يصر دينا عليه، لانها وجبت عليه لنزجية الوقت ودفع الحاجه، وقد زالت الحاجة لما مضى فسقطت.
(الشرح) الحديث أخرجه أحمد والبخاري ومسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بلفظ " قال رجل: يارسول الله أي الناس أحق منى بحسن الصحبه؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك: قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال
أبوك " ولمسلم في روايه " من أبر؟ قال أمك " وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن بَهْزَ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قال " قلت يارسول الله من أبر؟ قال أمك قال قلت ثم من؟ قال أمك: قال قلت يارسول الله ثم من؟ قال أمك: قال قلت ثم من؟ قال أباك ثم الاقرب فالاقرب " وأخرجه أيضا الحاكم وحسنه أبو داود عن بهز أيضا، ويؤخذ على المصنف قوله " لما روى " لما لم يسم فاعله وهي صيغة(18/307)
التمريض التي أخذها عليه النووي وأخذناها عليه اتباعا للنووي في غير ما موضع من المجموع لان الحديث متفق عليه ولا يسوغ التعبير عنه يروى أما الاحكام فإن كان من تجب عليه النفقة له قريبان معسران فإن فضل عن قوت يومه وليلته وما يكفيهما لزمه أن ينفق عليهما، وإن لم يفضل عن قوته إلا ما يكفى أحدهما بأن كان له أبوان معسران ولا يجد إلا نفقة أحدهما ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) تقدم الام لحديث أبى هريرة وبهز بن حكم الذي ساقه المصنف في الفصل وقد كرر الام ثلاثا وقال في الرابعة أباك، ولان الام عورة ليس لها بطش والاب ليس بعورة فكان تقديم الام أولى
(والثانى)
أن الاب يقدم لانهما متساويان في الولادة وانفرد الاب بالتعصيب فكان أولى، كما لو تقدم بدرجة، ولانهما لو كانا موسرين وهو معسر لكانت نفقته على الاب فوجب أن يقدم الاب في وجوب تقديم نفقته، كما يقدم في وجوب نفقة الابن عليه (والثالث) أنهما سواء فيسقط ذلك بينهما لاسوائهما في الولادة والادلاء (فرع)
وإن كان له أب وابن معسران ولا يقدر على نفقة أحدهما، فاختلف أصحابنا، فقال الشيخ أبو حامد: إن كان الابن طفلا أولى بالتقديم لانه ناقص الخلقة والاحكام، والاب إما أن يكون زمنا أو مجنونا فيكون ناقص
الخلقة أو ناقص الاحكام دون الخلقة، فإن تساويا بأن يكون بالغا زمنا فيكون ناقص الخلقة دون الاحكام أو مراهقا صحيحا فيكون ناقص الخلقة والاب زمن أو مجنون ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الابن أحق بالتقديم، لان وجوب نفقة الابن ثبت بنص القرآن، ووجوب نفقة الاب على الابن مجتهد فيه
(والثانى)
أن الاب مقدم لان حرمته آكد من حرمة الابن، بدليل أن الاب لايقاد من ابنه والابن يقاد بالاب، قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان من غير تفصيل.
أحدهما الابن أولا.
والثانى الاب أولا.
وذكر العمرانى وجها ثالثا أنهما سواء فقسم بينهما لاستوائهما في الدرجة (فرع)
وان كان له أب وجد معسران ولا يقدر على نفقة أحدهما ففيه وجهان(18/308)
(أحدهما)
يقدم الاب لانه أقرب، ولانه يقدم في وجوب النفقة عليه فقدم في وجوب النفقة له
(والثانى)
أنهما سواء فيقسم بينهما لان الاب لايمنع وجوب نفقة الجد وضاق ما في يد الجد عن نفقتها فيقسم ما بينهما كالدينين، وهكذا إذا اجتمع ابن وابن ابن أو أم وأم أم ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما فعلى وجهين (مسألة) قوله: ومن وجبت عليه نفقته بالقرابة الخ - فجملة ذلك أنه إذا وجبت عليه نفقة القريب فإنها تجب غير مقدرة، بل يجب له ما يكفيه لانها تجب للحاجة فتقدرت بالكفاية، وان احتاج القريب إلى من يخدمه وجبت عليه نفقة خادمه، وإن كانت له زوجة وجبت عليه نفقتها، لان ذلك من تمام الكفاية.
ويجب عليه الكسوة لان كل من وجبت عليه نفقة شخص وجبت عليه كسوته كالزوجة، وإن احتاج إلى مسكن وجب عليه سكناه لانه عليه كفايته، وذلك من
كفايته، وإن مضت مدة ولم ينفق فيها على قريبه سقطت بمضي الزمان لانها تجب للحاجة وقد زالت الحاجة.
(فرع)
وإن وجبت عليه نفقة زوجته أو قريبه فامتنع من إخراجها أو هرب فإن الحاكم ينظر في ماله - فإن كان فيه من جنس النفقة - دفع النفقة منه.
وان كان من غير جنس النفقه - فإن كانت الدراهم والدنانير اشترى منها الحاكم الطعام والادام وصرفه إلى من وجبت نفقته، وان وجد له متاعا باعه عليه.
وقال أبو حنيفة: لا يباع عليها المتاع والعقار الا في موضع واحد.
وهو إذا جاء الرجل إلى الحاكم وقال: ان لفلان الغائب عندي سلعة أو عقارا وهذه زوجته لم ينفق عليها - فإن الحاكم يبيع عليه السلعة والعقار وينفق على زوجته من ثمن ذلك.
دليلنا أن ما جاز بيع الناض فيه بغير اذن من عليه الحق جاز بيع المتاع والعقار فيه بغير اذنه كنفقة الزوجه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان له أب فقيرا مجنونا أو فقيرا زمنا، واحتاج إلى(18/309)
الاعفاف وجب على الولد إعفافه على المنصوص، وخرج أبو علي بن خيران قولا آخر أنه لا يجب لانه قريب يستحق النفقة، فلا يتسحق الاعفاف كالابن والمذهب الاول، لانه معنى يحتاج الاب إليه ويلحقه الضرر بفقده، فوجب كالنفقة، وإن كان صحيحا قويا وقلنا إنه تجب نفقه وجب إعفائه وإن قلنا لا تجب نفقته ففي إعفافه وجهان
(أحدهما)
لا يجب، لانه لا تجب نفقه فلا يجب إعفافه
(والثانى)
وهو قول أبى إسحاق أنه يجب إعفافه، لان نفقته ان لم تجب
على القريب أنفق عليه من بيت المال، والاعفاف لا يجب في بيت المال فوجب على القريب.
ومن وجب عليه الاعفاف فهو بالخيار بين أن يزوجه بحرة وبين أن يسريه بجارية، ولايجوز أن يزوجه بأمة لانه بالاعفاف يستغنى عن نكاح الامة، ولا يعفه بعجوز ولا بقبيحة، لان الاصل من العفة هو الاستمتاع، ولا يحصل ذلك بالعجوز ولا القبحة، فإن زوجه بحرة أو سراه بجارية ثم استغنى لم يلزمه مفارقة الحرة، ولا رد الجارية، لان ما استحق للحاجة لم يجب رده بزوال الحاجة، كما لو قبض نفقة يوم ثم أيسر وإن أعفه بحرة فطلقها أو سراه بجارية فأعتقها لم يجب عليه بدلها، لان ذلك مواساة لدفع الضرر، فلو أوجبا البدل خرج من حد المواساة وأدى إلى الضرر والضرر لا يزال بالضرر.
إن ماتت عنده ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجب البدل لانه يخرج عن حد المواساة
(والثانى)
يجب لانه زال ملكه عنها بغير تفريط فوجب بدله، كما لو دفع إليه نفقة يوم فسرقت منه
(فصل)
وان احتاج الولد إلى الرضاع وجب على القريب ارضاعه، لان الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير، ولا يجب الا في حولين كاملين، لقول تعالى " والولدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " فإن كان الولد من زوجته وامتنعت من الارضاع لم تجبر.
وقال أبو ثور: تجبر لقوله تعالى " والولدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " وهذا خطأ لانها إذا لم تجبر على نفقة الولد مع وجود الاب لم تجبر على الرضاع، وإن أرادت ارضاعه كره للزوج منعها، لان لبنها(18/310)
أوفق له، وان أراد منعها منه كان له ذلك، لانه يستحق الاستمتاع بها في كل وقت الا في وقت العبادة، فلا يجوز لها تقويته عليه بالرضاع وان رضيا بإرضاعه
فهل تلزمه زيادة على نفقتها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
تلزمه، وهو قول أبى سعيد وأبى اسحاق، لانها تحتاج في حال الرضاع إلى أكثر مما تحتاج في غيره
(والثانى)
لا تلزمه الزيادة على نفقتها في النفقة، لان نفقتها مقدرة فلا تجب الزيادة لحاجتها، كما لا تجب الزيادة في نفقة الاكولة لحاجتها، وان أرادت ارضاعه بأجرة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفرايبنى رحمة الله عليه، لان أوقات الرضاع مستحقة لاستتمتاع الزوج ببدل وهو النفقة، فلا يجوز أن تأخذ بدلا آخر
(والثانى)
أنه يجوز، لانه عمل يجوز أخذ الاجرة عليه بعد البينونة، فجاز أخذ الاجرة عليه قبل البينونة كالنسج وان بانت لم يملك اجارها على ارضاعه كما لا يملك قبل البينونة، فان طلبت أجرة المثل على الرضاع ولم يكن للاب من يرضع بدون الاجرة كانت الام أحق به، لقوله تعالى " فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " وان طلبت أكثر من أجرة المثل جاز انتزاعه منها.
وتسليمه إلى غيرها لقوله تعالى " وان تعاسرتم فسترضع له أخرى " ولان ما يوجد بأكثر من عوض المثل كالمعدوم، ولهذا لو وجد الماء بأكثر من ثمن المثل جعل كالعدوم في الانتقال إلى التيمم فكذلك ههنا وان طلبت أجرة المثل وللاب من يرضعه بغير عوض أو بدون أجرة المثل، ففيه قولان: أحدهما: أن الام أحق بأجرة المثل، لان الرضاع لحق الولد، ولان لبن الام أصلح له وأنفع، وقد رضيت بعوض المثل فكان أحق والثانى: أن الاب أحق، لان الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير ولو وجد الكبير من يتبرع بنفقته لم يستحق على الاب النفقة، فكذلك إذا وجد من يتبرع بإرضاعه لم تستحق على الاب أجرة الرضاع، وان ادعت المرأة
أن الاب لا يجد غيرها فالقول قول الاب: لانها تدعي استحقاق أجرة المثل والاصل عدمه.(18/311)
(الشرح) الاحكام: إذا وجبت على الولد نفقة الاب والجد قبل الاب أو من قبل الام واحتاج الاب أو الجد إلى الاعفاف بزوجة وجب على الولد أن يعفقه بذلك إذا قدر على ذلك.
قال ابن خيران: وفيها قول آخر أنه لا يجب عليه ذلك، وبه قال أبو حنيفة لانه قريب فلم يستحق الاعفاف كالابن، والاول أصح لانه معنى يحتاج إليه، ويستضر بفقده فلزمه كالنفقة والكسوة، ويخالف الابن فإن الاب آكد حرمة منه فوجب له مالا يجب له، وإن كان الوالد معسرا صحيحا غير مكتسب - فإن قلنا تجب نفقته على الولد - وجب عليه إعفافه، وإن قلنا لا تجب نفقته عليه ففي إعفائه وجهان
(أحدهما)
لا يجب عليه إعفافه لانه لا يجب عليه نفقته فلم يجب عليه إعفافه كالموسر.
(والثانى)
يجب عليه إعفافه لان نفقته يمكن إيجابها في بيت المال بخلاف الاعفاف، وإذا وجب على الولد الاعفاف فهو بالخيار بين أن يملكه جارية يحل له وطؤها أو يدفع إليه مالا يشترى به جارية أو يشتريها له بإذنه، وفي عصرنا هذا لم يبق الا وجه واحد وهو أن يدفع إليه مالا ليتزوج به أو يتزوج له بإذنه، ولايجوز أن يزوجه أمة لانه صار مستغنيا به، ولا يعفه بقبيحة ولا بعجوز لااستمتاع بها، لانه لا يحصل المقصود بذلك، فإن ملكه جارية أو دفع إليه مالا فتزوج به أمرأة ثم أيسر الاب لم يلزمه رد ذلك، لانه قبض ذلك وهو يستحقه، فإن طلق الزوجة أو أعتق الامة لم يلزم الولد أن يعفه ثانيا، لانه
فوت ذلك على نفسه، وان ماتت الزوجة أو الامة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه اعفافه ثانيا، لانه انما يجب عليه اعفافه مرة وقد فعل
(والثانى)
يلزمه وهو الاصح لانه لاصنع له في تفويت ذلك (مسألة) قوله: وإن احتاج الولد إلى الرضاع الخ، فجملة ذلك أنها إذا ولدت ولدا وجب عليها أن تسقيه اللبا حتى يروى، لانه لا يعيش الا بذلك، فإن كان للطفل مال وجبت أجرة رضاعة في ماله كما تجب نفقته إذا كان كبيرا في ماله، وان لم يكن له مال وجبت ارضاعه على من تجب عليه نفقته لو كان كبير لقوله تعالى(18/312)
فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " ولا يجب ارضاعه الا في حولين، لقوله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " وان كان الولد من زوجته والاب ممن يجب عليه نفقته لم تجبر الام على ارضاعه وبه قال أبو حنيفة واحمد.
وقال أبو ثور: تجبر على ارضاعه، وعن مالك روايتين احداهما كقول أبى ثور، والثانية وهى المشهورة عنه ان كانت شريفة لم تجبر على ارضاعه وان كانت دنية أجبرت على ارضاعه.
دليلنا قوله تعالى " فان تعاسرتم فسترضع له أخرى " وإذا امتنعت فقد تعاسرت، ولانها لا تجبر على نفقة الولد مع وجود الاب فكذلك الرضاع.
إذا ثبت - فان تطوعت بإرضاعه - فالاولى للاب ألا يمنعها من ذلك، لان الرضاع حق للولد، والام أشفق عليه، ولبنها اصلح له، وهل يلزمه أن يزيدها على نفقتها؟ ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه لان نفقة الزوجة مقدرة بحال الزوج، فلو قلنا يجب عليه الزيادة لاجل الرضاع لكانت نفقتها مقدرة بحالها فلم يلزمه ذلك، كما لو كانت
رغبية في الاكل فانه لا تلزمه الزيادة في نفقتها
(والثانى)
تلزمه الزيادة على نفقتها - وهو قول أبى سعيد الاصطخرى وأبى اسحاق المروزى لقوله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " فحص حال الولادة بذكر أيجاب النفقة ولا فائدة بذكر وجوبها في الولادة الا وجوب الزيادة، ولان العادة جرت أن المرضعة تحتاج من الطعام أكثر من غيرها فعلى هذا يبحث الحاكم في قدر الزيادة على ما يراه وان استأجر أمراته على الرضاع فهل يصح عقد الاجارة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يصح، وبه قال أحمد، لان كل عقد صح أن يعقده الزوج مع غير الزوجة صح أن يعقده مع الزوجة كالبيع
(والثانى)
لا يصح وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره، وكذلك لو استأجرها لخدمة نفسه، لان الزوج يملك الاستمتاع بها في جميع الاوقات الا في الاوقات المستحقة للعبادات.
وإذا أجرت نفسها لم تتمكن(18/313)
من إيفاء حقه إلا بتعطيل حقه من الاستمتاع فلم يصح، كما لو أجر العبد نفسه من سيده، فإذا قلنا بهذا واستأجرها على إرضاعه بعوض فأرضعته، فهل تستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما)
لا تستحق ذلك لانها لو استحقت أجرة في ذلك لجاز لها عقد الاجارة لذلك
(والثانى)
تستحق أجرة المثل، لان هذه منفعة لا يجب عليها بدلها، فإذا بذلتها بعوض ولم يحصل لها العوض وجب لها عوض المثل كسائر منافعها (فرع)
وإن أبان الرجل امرأته وله منها ولد يرضع لم يملك إجبارها على ارضاعه لانه إذا لم يملك إجبارها على إرضاعه حال الزوجية لم يملك إجبارها
بعد الزوجية، فإن تطوعت بإرضاعه لم يجز للاب انتزاعه منها، لانه لاحق له في استمتاعها، وإن استأجرها على إرضاعه صح ذلك لقوله تعالى " فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " ولانه لا يملك الاستمتاع بها بخلاف ما لو استأجرها في حال الزوجية، فإن طلبت منه أجرة المثل ولا يجد الاب من يرضعه بغير أجرة أو بدون أجرة المثل وجب عليه بذل ذلك لها.
ولم يجز له انتزاعه منها لان الارضاع حق للولد، ولبن الام أنفع له من لبن غيرها، وإن طلبت منه أكثر من أجرة المثل كان له انتزاعه منها لقوله تعالى " وإن تعاسرتم فترضع له أخرى " وإذا طلبت منه أكثر من أجرة المثل فقد تعاسرت.
وان طلبت أجرة المثل ووجد الاب من يرضعه بدون أجرة المثل أو من ترضعه بغير أجرة فاختلف أصحابنا، فمنهم من قال فيه قولان
(أحدهما)
أن الام أحق برضا به بأجرة المثل لقوله تعالى " فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " ولم يفرق، ولانه روى في الحديث " الام أحق بكفالة ولدها ما لم تتزوج " ولان الرضاع حق للولد ولبن الام أنفع له وأصلح فكانت أولى
(والثانى)
أن للاب أن ينتزعه لقوله تعالى، فان تعاسرتم فسترضع له أخرى " والتعاسر هو الشدة والتضايق قال القرطبى " وإن تعاسرتم " أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطى الام رضاعها وأبت الام أن ترضعه فليس له إكراهها، وليستأجر مرضعة غير(18/314)
أمه.
وقيل معناه وان تضايقتم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها، وهو خبر في معنى الامر.
وقال الضحاك: ان أبت الام أن ترضع استأجر لولده أخرى، فان لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالاجر.
وذكر اختلاف الفقهاء على ثلاثة أقوال: فأورد قول علمائهم من المالكية أن رضاع الولد على الزوجة مادامت الزوجية - الا لشرفها وموضعها - فعلى الاب أن رضاعه يومئذ في ماله.
والثانى قال أبو حنيفة: لا يجب على الام بحال الثالث: يجب عليها في كل حال اه قال القاضى العمرانى من أصحابنا: وإذا وجد الرجل من يرضعه بدون أجرة المثل أو بغيره أجرة وطلبت الام أجرة المثل فقد تعاسرت فكان له نزعه منها، ولان نفقة ارضاع الطفل كنفقة المراهق، ولو وجد من يتطوع بالانفاق على المراهق لم يجب على الاب نفقته، فكذلك إذا وجد من يتطوع بارضاع الطفل لا يجب عليه أجرة المثل.
وقال أبو اسحاق المروزى: للاب انتزاعه قولا واحدا، والقول الآخر لا يعرف في شئ من كتب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: للاب انتزاعه ولكن لا يسقط حق الام من الحضانة، فتأتى المرضعة وترضعه عند الام.
دليلنا أن الحضانة تابعة للرضاع، فإذا سقط حقها من الرضاع سقط حقها من الحضانه.
إذا ثبت هذا فان ادعى الاب أنه يجد من يرضعه بغير أجرة أو بدون أجرة المثل - وقلنا له انتزاعه، فإن صدقته الام أنه يجد ذلك كان له انتزاعه منها، وان كذبته فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف انتزعه من يد الام ويسلم إلى المرضعة ولا يمنع الام من زيارته لقوله صلى الله عليه وسلم " لاتوله والدة بولدها "
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب على المولى نفقة عبده وأمته وكسوتهما لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: للملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل الا ما يطيق " ويجب عليه نفقته من قوت البلد لانه هو المتعارف(18/315)
فإن تولى طعامه استحب أن يطعمه منه لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قال أبو القاسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ خادمه بطعام فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين، فإنه تولى علاجه وحره " فإن كانت له جارية للتسرى أستحب أن تكون كسوتها أعلى من كسوة جارية الخدمة، لان العرف أن تكون كسوتها أعلى فوق كسوة جارية الخدمة.
(فصل)
ولا يكلف عبده وأمته من الخدمة ما لا يطيقان لقوله صلى الله عليه وسلم " ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق ولا يسترضع الجارية إلا ما فضل عن ولدها، لان في ذلك إضرارا بولدها، وإن كان لعبده زوجة أذن له في الاستمتاع بالليل، لان إذنه بالنكاح يتضمن الاذن في الاستتماع بالليل، وإن مرض العبد أو الامة أو عميا أو زمنا لزمه نفقتهما، لان نفقتهما بالملك، ولهذا تجب مع الصغر فوجبت مع العمى والزمانة، ولايجوز أن يجبر عبده على المخارجة لانه معاوضة فلم يملك إجباره عليها كالكتابة.
وإن طلبت العبد ذلك لم يجبر المولى كما لا يجبر إذا طلب الكتابة، فإن اتفقا عليها وله كسب جَازَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره، وسأل مواليه أن يخففوا من خراجه، وإن لم يكن له كسب لم يجز لانه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة تحل فلم يجز.
(الشرح) حديث أبى هريرة الاول أخرجه أحمد في المسند ومسلم في العتق عن حجاج، وفي الاطعمة عن حفص بن عمر، وقال " ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " وحديث أبى هريرة الثاني أخرجه البخاري ومسلم في النذور والاطعمة وأبو داود في الاطعمة عن عبد الله بن مسلمة الفعنبى، وكذا أخرجه أحمد في مسنده وبقية أصحاب السنن بلفظ " إذا أتى أحدكم خادمة بطعامه - فإن لم يجلسه
معه - فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلفة أو أكلتين، فانه ولى حره وعلاجه.
وحديث أبى طيبة الحجام واسمه دينار وهو مولى بنى حارثة، وحديثه هذا أخرجة البخاري في البيوع عن عبد الله بن يوسف، وفي الاجازة عن محمد بن(18/316)
يوسف وعن آدم، وفي الطب عن محمد بن مقاتل، وأخرجه مسلم في البيوع عن أحمد بن الحسن وعن يحيى بن أيوب وقتبية على بن حجر، وعن محمد بن يحيى بن أبى عمر وأخرجه أبو داود في البيوع عن القعنبى، وأخرجه الترمذي عن علي بن حجر والطبراني في الجامع عن حميد الطويل أما اللغات فقوله " إذا أتى أحدكم خادمه " بنصب أخذكم على المفعولية ونصب خادمه على الفاعلية، والخادم يطلق على الذكر والانثى والحر والمملوك.
وقوله " علاجه " أي مزاولته لما استعصى من أموره، ويقال لجبال الرمل علاج، والحر جمع الحرة وهو الارض ذات الحجارة النخرة السواداء، وهى أثر من آثار البراكين، وهو كناية عن تحمله أموره الشاقة في أبلغ تعبير لانه يعالج له إعداد الطعام ويعالجه له ويتحمل حرارة النار في إنضاجه أما الاحكام فانه يجب على المرء نفقة خادمه وكسوته لحديث أبى هريرة في الرجل الذي قال معي دينار، قال انفقه على نفسك، قال أنفقه على نفسك، قال معي آخر، قال انفقه على ولدك قال معي آخر، قال أنفقه على أهلك، قال معى آخر، قال انفقه على خادمك.
ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " للملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " وهو اجماع لا خلاف فيه فان كان الخادم غير مكتسب، بأن كان صغيرا أو مريضا أو كبيرا أو زمنا فنفقته على سيده.
ويجب أن يكون طعامه من قوت أهل البلد لقوله صلى الله عليه وسلم " أطعموهم
مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون " وإن كان الخادم يقدم الطعام لسيده يلي إعداده واصلاحه، فيستحب للسيد أن يجلسه معه ويطعمه معه منه لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " فليجلسه معه أو يطعمه منه لقمة أو لقميتن " ولان الانسان إذا تولى طعاما اشتهى أن يأكل منه فاستحب أن يطعم منه كما يستحب لمن قسم الميراث أن يرزق من حضر القسمة منها، وأيهما أفضل؟
(أحدهما)
أن الافضل ان يجلسه معه ليأكل، لان النبي صلى الله عليه وسلم بدأ به، لانه إذا أكل معه أكل قدر كفايته ومنهم من قال: ليس أحدهما(18/317)
أفضل من الآخر، بل إن شاء أجلسه معه وإن شاء أطعمه، لان النبي صلى الله عليه وسلم خيره بين أن يجلسه معه وبين أن يغمس له لقمة أو لقمتين في الادم، والاول أصح.
هكذا أفاده أصحابنا في كتبهم، وما بقى من الفصل فعلى وجهه، وينبغى ألا يكلفه إلا ما يطيق الدوام عليه لا ما يطيق يوما أو يومين أو ثلاثة ثم يعجز هكذا قال الشافعي في الام وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ومن ملك بهيمة لزمه القيام بعلفها لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال " عذبت امرأة في هرة، حبستها حتى ماتت جوعا فدخلت فيها النار - فقيل لها والله أعلم - لا أنت أطعمتها وسقيتها حين حبستها، ولا أنت أرسلتها حتى تأكل من خشاش الارض حتى ماتت جوعا " ولايجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق، لان النبي صلى الله عليه وسلم منع أن يكلف العبد ما لا يطيق فوجب أن تكون البهيمة مثله، ولا يجلب من لبنها إلا ما يفضل عن ولدها لانه غذاء للولد فلا يجوز منعه
(فصل)
وان امتنع من الانفاق على رقيقه أو على بهيمته أجبر عليه كما يخبر على نفقة زوجته، وان لم يكن له مال أكرى عليه أن أمكن اكراؤه، فان لم يمكن بيع عليه كما يزال الملك عنه في أمرأته إذا أعسر بنفقتهما والله أعلم (الشرح) الحديث الاول أخرجه مسلم في صحيحه عن أبى كريب في الحيوان من حديث أبى هريرة، وأخرجه أيضا في التوبة عن محمد بن رافع وعبد بن حميد من حديث أبى هريرة بلفظ المصنف مضى في الفصل قبله.
أما اللغات فقوله " من خشاش الارض " أي من حشراتها ووزغها ومادته خش، وخش في الشئ دخل فيه.
قال زهير: فخششت بها خلال الفدفد وفي حديث عبد الله بن أنيس، فخرج يمشى حتى خش فيهم، ومنه يقال لما يدخل في أنف البعير خشاش، وقال ابن شميل الخشاش حية صغيرة سمراء أصغر(18/318)
من الارقم.
وقال أبو خيرة، الخشاش حية بيضا قلما تؤذى، وقال أبو عبيد في حديث " أن امرأة ربطت هرة فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الارض " قال يعنى من هو ام الارض وحشراتها ودوابها وما أشبهها.
قال في النهاية في الحديث، أي هو امها وحشراتها الواحدة خشاشة، وفي رواية من خشيشها.
وهى بمعناه، ويروى بالحاء المهملة وهو يابس النبات وهو وهم.
وقيل انما هو خشيش بضم الخاء المعجمة تصغير خشاش على الحذف وخشيش من غير حذف ومنه حديث العصفور " لم ينتفع بى ولم يدعنى أخنش من الارض " أي آكل من خشاشها.
أما الاحكام فان من ملك بهيمة لزمه القيام بعلفها سواء كانت مما تؤكل أو مما لا تؤكل، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " اطلعت في النار ليلة أسرى
بى فرأيت امرأة فيها، فسألت عنها فقيل انها ربطت هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم تدعها تأكل من خشاش الارض حتى ماتت فعذبها الله بذلك، واطلعت في الجنة فرأيت امرأة مومسة (يعنى زانية) فسألت عنها فقيل انها مرت بكلب يلهث من العطش فأرسلت ازارها في بئر ثم عصرته في حلقه فغفر الله بذلك، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تعذيب الحيوان.
وقال " في كل كبد حرى أجر " فلو قلنا لا يجب الانفاق عليها أسقطنا حرمتها، فان كانت في المصر لزمه الانفاق عليها، وان كان في الصحراء - فان كان بها من الكلا ما يقوم بكفايتها فخلاها للرعى - لم يجب عليه العلف لانها تجترئ على عادة أهل مصر، لان صحاريها يقل فيها العلف.
وقال الخراسانيون: ان كانت البهيمة مشقوقة الشفة العليا فإنها تجتزئ بالكلا عن العلف، وان كانت غير مشقوقة الشفة العليا فلا تجتزئ بالرعى ولا يد من علفها، وان لم يكن بها من الكلا ما يقوم بها لزمه من العلب ما يقوم بها فان لم يعلفها - فان كانت مما يؤكل - كان له أن يذبحها وله أن يبيعها، وان كانت مما لا يؤكل كان له بيعها - فان امتنع من ذلك أجبره السلطان على علفها أو بيعها أو ذبحها ان كانت مما يؤكل، ولولى الامر أن يخصص مراحا يعلفها فيه ويدواى(18/319)
مرضاها على نفقة صاحبها، وله أن يخصص من البياطرة من ينزعون الدواب من أيدي المقصرين في حقها وردها إليهم بعد شفائها عليهم أو أجبره على بيعها.
وقال أبو حنيفة لا يجبره على ذلك بل يأمره به كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ودليلنا أنها نفقة واجبة فإذا امتنع منها أجبره ولى الامر على أدائها كنفقة العبد وإن كانت للبهيمة ولد لم يجلب من لبنها إلا ما فضل من ولدها، لان لبنها غذاء
للولد فلا يجوز منعه منه كما قلنا في الجارية.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
باب الحضانة
إذا افترق الزوجان ولهما ولد بالغ رشيد فله أن ينفرد عن أبويه لانه مستغن عن الحضانة والكفالة، والمستحب أن لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما.
وان كانت جارية كره لها أن تنفرد، لانها إذا انفردت لم يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها، وإن كان لهما ولد مجنون أو صغير لا يميز، وهو الذي له دون سبع سنين، وجبت حضانته، لانه إن ترك حضانته ضاع وهلك
(فصل)
ولا تثبت الحضانة لرقيق لانه لا يقدر على القيام بالحضانة مع خدمة المولى، ولا تثبت لمعتوه لانه لايمكل للحضانة ولا تثبت لفاسق، لانه لايوفى الحضانة حقها، ولان الحضانة إنما جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد في حضانة الفاسق، لانه ينشأ على طريقته، ولا تثبت لكافر على مسلم.
وقال أبو سعيد الاصطخرى: تثبت للكافر على المسلم: لما روى عبد الحميد ابن سلمة (1) عن أبيه أنه قال: أسلم أبي وأبت أمي أن تسلم وأنا غلام، فاختصما
__________
(1) هكذا بالمتن المطبوع، والصواب عبد الحميد بن جعفر، وهو ما اعتمدناه في الشرح، وقد وجدنا كثيرا من الفقهاء يتابعون أبا إسحاق في كونه ابن سلمة كالعمراني في البيان، وهذا خطأ، والصواب ما اعتمدناه هنا.
أما عبد الحميد بن سلمة الانصاري فيقال هو ابن يزيد بن سلمة وهو مجهول.
" المطيعي "(18/320)
إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا غلام اذهب إلى أيهما شئت، إن شئت إلى أبيك، وإن شئت إلى أمك، فتوجهت إلى أمي، فلما رأني النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول اللهم اهده فلمت إلى أبى فقعدت في حجره " والمذهب الاول،
لان الحضانة جعلت الحظ الولد ولا حظ للولد المسلم في حضانة الكافر، لانه يفتنه عن دينه وذلك من أعظم الضرر، والحديث منسوخ، لان الامة أجمعت على أنه لا يسلم الصبي المسلم إلى الكافر، ولاحضانة للمرأة إذا تزوجت، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ " أَنَّ امرأة قالت يارسول الله ان إبنى هذا كان بطني له وعاء، وثديى له سقاء، وحجرى له حواء، وان أباه طلقني وأراد أن ينزعه مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنت أحق به ما لم تنكحي " ولانها إذا تزوجت اشتغلت باستمتاع الزوج عن الحضانة.
فإن أعتق الرقيق وعقل المعتوه وعدل الفاسق، وأسلم الكافر عاد حقهم من الحضانة، لانها زالت لعلة فعادت بزوال العلة، وإذا طلقت المرأة عاد حقها من الحضانة وقال المزني أن كان الطلاق رجعيا لم يعد لان النكاح باق، وهذا خطأ لانه انما سقط حقها بالنكاح لاستغالها باستمتاع الزوج، وبالطلاق الرجعي يحرم الاستمتاع كما يحرم بالطلاق البائن، فعادت الحضانة
(فصل)
ولاحضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوى الارحام وهم ابن البنت وابن الاخت وابن الاخ من الام وأبوالام والخال والعم من الام لان الحضانة انما تثبت للنساء لمعرفتهن بالحضانة أو لمن له قوة قرابة بالميراث من الرجال وهذا لا يوجد في ذوى الارحام من الرجال ولا يثبت لمن أدلى بهم من الذكور والاناث، لانه إذا لم يثبت لهم الضعف قرابتهم فلان لا يثبت لمن يدلى بهم أولى (الشرح) حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع بن سنان، وهو أبو الحكم الانصاري الاوسي، أخرجه أبو داود في الطلاق عن ابراهيم بن موسى الرازي والنسائي في الطلاق أيضا عن محمود بن غيلان.
ورواه أحمد بلفظ " قال أخبرني أبى عن جدى رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتى وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع ابنتى، فقال(18/321)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقعد ناحية، وقال لها اقعدي ناحية، فأقعد الصبية بينهما ثم قال ادعوها فمالت إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها " ووقعت هذه الصيغة في رواية عند أبى داود، كما وردت بلفظ " فجاء بابن له صغير " وأخرجه بلفظ الانثى النسائي وابن ماجه والدارقطني وفي إسناده اختلاف كثير وألفاظه مختلفة مضطربة، وقد رجح ابن القطان رواية الابن.
وقال ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل وفي إسناده مقال.
قلت: قد صححه الحاكم وذكر الدارقطني أن البنت المخيرة اسهما عميرة.
وقال ابن الجوزى: رواية من روى أنه كان غلاما أصح.
وقال ابن القطان: لو صحت رواية من روى أنها بنت لاحتمل أنهما قصتان لاختلاف المخرجين وقد اختلف انقاد في عبد الحميد بن جعفر، فقال ابن حجر في التقريب صدوق رمى بالقدر وربما وهم.
وقال الذهبي في الميزان: عبد الحميد بن جعفر عن أبيه ونافع ومحمد بن عمرو بن عطاء وعنه يحيى القطان وأبو عاصم وعدة.
قال النسائي ليس به بأس، وكذا قال أحمد.
وقال ابن معين ثقة، وقد نقم عليه الثوري خروجه مع محمد بن عبد الله.
وقال أبو حاتم لا يحتج به، وقيل كان يرى القدر والله أعلم، نعم قال على بن المدينى: كان يقول بالقدر، وهو عندنا ثقة، وكان سفيان يضعفه.
اه أما حديث عبد الله بن عمرو فقد رواه أحمد بلفظ " أن امرأة قالت يارسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجرى له حواء وثديى له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه منى، فقال أنت أحق به ما لم تنكحي " وأخرجه أبو داود في الطلاق عن محمد بن خالد ولكن في لفظه " وأن أباه طلقني وزعم أنه يتنزعه منى "
وأخرجه البيهقى والحاكم وصححه، وهو من حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
أما اللغات فإن الحضانة مشتقة من الحضن وهو ما دون الابط إلى الكشح.
وقيل هو الصدر والعضدان وما بينهما، والجمع أحضان ومنه الاحتضان، وهو احتمالك الشئ وجعله في حضنك، كما تحتضن المرأة ولدها فتحتمله في أحد شقيها(18/322)
وفي الحديث أنه خرج محتضنا أحد ابني ابنته، أي حاملا له في حضنه، والحضن الجنب وهما حضنان.
وفي حديث أسيد بن الحضير أنه قال لعامر بن الطفيل أخرج بذمتك لئلا أنفذ حضنيك، والمحتضن الحضن.
قال الكميت كما خامرت في حضنها أم عامر لدى الحبل حتى غال أوس عيالها وحضنا الليل جانباه، وحضن الجبل ما يطيف به، وفي حديث علي كرم الله وجهه " عليكم بالحضنين " يريد يجنتبى العسكر، وحضن الطائر بيضه وعلى بيضه يحضن حضنا وحضانة وحضانا وحضونا رجن عليه للتفريخ.
قال الجوهرى حضن الطائر بيضه إذا ضمنه إلى نفسه تحت جناحيه، وكذلك المرأة إذا حضنت ولدها، وحمامة حاضن بغير هاء، واسم المكان المحضن، والمحضنة المعمولة للحمامة كالقصعة الروحاء من الطين.
وحضن الصبى يحضنه حضنا رباه، والحاضن والحاضنة الموكلان بالصبى يحفظانه ويربيانه.
وفي حديث عروة بن الزبير " عجبت لقوم طلبوا العلم حتى إذا ناوا منه صاروا حضانا لاباء الملوك " أي مربين وكافلين، وحضان جمع حضان، لان المربى والكافل يضم الطفل إلى حضنه وبه سميت الحاضنة، وهى التي تربى الطفل، والحاضنة بالفتح فعلها، والحجر بمعنى وحواء أي يحويه ويحيط به.
أما الاحكام فإذا بانت الزوجة وبينهما ولد - فإن كان بالغا رشيدا لم يجبر
على الكون مع أحدهما، بل يجوز له أن ينفرد عنهما، إلا أن المستحب له أن لا ينفرد عنهما لئلا ينفطع بره وخدمته عنهما، وهل يكره له الانفراد عنهما؟ ينظر فيه - فإن كان رحلا - لم يكره له الانفراد عنهما وان كانت امرأة، فإن كانت بكرا، كره لها الانفصال عنهما لانها لم تجرب الرجال ولا يؤمن أن تخدع وإن كانت ثيبا فارقها زوجها لم يكره لها الانفراد عنهما لانها قد جربت الرجال ولا يخشى عليها أن تخدع وقال مالك يجب على الابنة أن لا تفارق أمها حتى تتزوج ويدخل بها الزوج دليلنا أنها إذا بلغت رشيدة فقد ارتفع الحجر عنها: فكان لها أن تنفرد بنفسها ولا اعتراض عليها، كما لو تزوجت ثم بانت عنه، وان كان الولد صغيرا لا يميز(18/323)
وهو الذي له دون سبع سنين أو كبيرا إلا أنه مجنون أو ضعيف العقل وجبت حضانته، لانه إذا ترك منفردا ضاع.
ولا تثبت الحضانة لمعتوه - وهو ناقص العقل - ولا لمجنون لانه لا يصلح للحضانة، ولا تثبت الحضانة لفاسق لانه لا يؤمن أن ينشأ الطفل على منزعه، وإن كان أحد الابوين مسلما فالولد ولا تثبت عليه الحضانة للكافر.
وقال أبو سعيد الاصطخرى تثبت الحضانة للكافر على المسلم لحديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، وقد أوردنا طرقه آنفا، وقد قال المصنف إنه منسوخ، ونقول: إن هذا الحديث استدل به القائلون بثوبت الحضانة للام الكافرة كأبى حنيفة وأصحابه وابن القاسم المالكى وأبو ثور، وذهب إلى الجمهور إلى أنه لا حضانة للكافرة على ولدها المسلم.
وأجابوا عن الحديث بما تقدم من المقال فيه وبما فيه من الاضطراب، ولكن الحديث بأسانيده وطرقه يصلح للاحتجاج به، والاضطراب ممنوع باعتبار محل
الحجة، وهو كفر الام وثبوت التخيير.
وهذا العنصران هما ما يدور حولهما الحكم.
ولعل المصنف يحتج في النسخ بأدلة عامة، كقوله تَعَالَى " وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سبيلا " وبنحو " الاسلام يعلو " وقد استدل ابن القيم بقوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نارا " على أن المراعى أولا في التخيير أو الاستهام بالقرعة ما هو أصلح للصغير، وأن أيا ما كان الامر من التخيير أو التعيين أو الاقتراع، فإن أولئك مقيد بقوله تعالى " قوا أنفسكم وأهليكم نارا " وحكى عن شيخه ابن تيمية أنه قال: تنازع أبوان صبيا عند الحاكم فخير الولد بينهما فاختار أباه، فقالت أمه سله لاى شئ يختاره؟ فسأله فقال: أمي تبعثني كل يوم للكاتب والفقيه يضرباني وأبى يتركني ألعب مع الصبيان فقضى به للام.
ورجح هذا ابن تيمية فإذا كانت روح الشرع تقضى بمراعاة صالح الصغير.
فإن مما لا شك فيه أن إلقاءه في أحضان قضاء على صلاحه دنيا وأخرى.
ومن ثم يتعين خطا أبى سعيد الاصطخرى وأبى حنيفة وأصحابه وابن القاسم وأبى ثور(18/324)
وقال العمرانى ان الحضانة لحظ الولد ولاحظ له في حضانة الكافر، لانه لا يؤمن أن يفتن عن دينه.
ثم قال: أما الحديث فغير معروف عند أهل النقل وإن صح فيحتمل أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم أنه يختار أباه، فلهذا خيره، فيكون ذلك خاصا لذلك الولد دون غيره اه (فرع)
وإذا تزوجت المرأة سقطت حقها من الحضانة، وبه قال مالك وابو حنيفة وقال الحسن البصري لا يسقط حقها لقولها تعالى " وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم " ولان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة ومعها بنتها زينب
فكانت عندها.
وروى ابن عباس أن عليا وجعفر ابني أبى طالب وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة بن عبد المطلب، واختصموا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ جعفر أنا أحق بها أنا ابن عمها وخالتها تحتي، وقال على أنا أحق بها أنا ابن عمها وإبنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتي - يعنى إبنة ابن عمها.
وقال زيد أنا أحق بها لانها إبنة أخى - وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخى بين زيد بن حارثة - فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال الخالة أم.
فقضى بها للخالة وهى مزوجة ودليلنا ماروى عبد الله بن عمرو " أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وقالت يارسول الله ان ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجرى له حواء، وثديى له سقاء، وإن أباه طلقني ويرد أن ينزعه منى، فقال صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي " وروى أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم قال " الام أحق بولدها ما لم تتزوج " ولانها إذا تزوجت استحق الزوج الاستمتاع بها إلا في وقت العبادة، فلا تقوم بحضانة الولد.
وأما الآية فالمراد بها إذا لم يكن هناك أب أو كان ورضى وأما زينب وابنة حمزة فلانه لم يكن هناك من النساء من تستحق الحضانة خالية من الازواج.
إذا ثبت هذا فإن طلقت الزوجة طلاقا بائنا أو رجعيا عاد حقها من الحضانة وقال مالك لا يعود حقها من الحضانة بحال(18/325)
وقال أبو حنيفة والمزنى: ان كان الطلاق بائنا عاد حقها، وإن كان رجعيا لم يعد حقها، لان الزوجية باقية بينهما، ودليلنا أن حقها إنما سقط لاشتغالها عن
الحضانة باستمتاع الزوج، ولا يملك الزوج الاستمتاع بها بعد الطلاق البائن والرجعى، فعاد حقها من الحضانة.
وإن أعتق الرقيق، أو عقل المجنون والمعتوه، أو عدل الفاسق، أو أسلم الكافر عاد حقهم من الحضانة، لان الحضانة زالت بمعنى، وقد زال المعنى فعادت الحضانة.
(مسألة) قوله " ولاحضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوى الارحام " وهذا صحيح مثل ابن الاخت وابن الاخ للام وأبى الام والخال وابن العم لانه ذكر لا يرث فأشبه الأجنبي.
وقال المصنف هنا: ولا تثبت الحضانة لابن البنت وهذا الذى قال لا يتصور في حضانة الصغير، وإنما يتصور في الكبير والمجنون لانا قد قلنا يجب حضانتة الصغير، ولا تثبت الحضانة لمن أدلى من النساء والرجال بهولاء الرجال، لان الحضانة إذا لم تثبت لهم بأنفسهم لم تثبت لمن أدلى بهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن اجتمع النساء دون الرجال وهن من أهل الحضانة فالام أحق من غيرها، لما روى عبد الله بن عمر بْنِ الْعَاصِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أنت أحق به ما لم تنكحي " ولانها أقرب إليه وأشفق عليه، ثم تنتقل إلى من يرث من أمهاتها، لمشاركتهن الام في الولادة والارث، ويقدم الاقرب فالاقرب، ويقدمن على أمهات الاب، وإن قربن لتحقق ولادتهن، ولانهن أقوى في الميراث من أمهات الاب، لانهن لا يسقطن بالاب، وتسقط أمهات الاب بالام، فإذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الام ففيه قولان.
قال في القديم تنتق إلى الاخت والخالة، ويقدمان على أم الاب، لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في بنت حمزة لخالتها وقال
الخالة بمنزلة الام " ولان الخالة تدلى بالام، وأم الاب تدلى بالاب، والام تقدم(18/326)
على الاب فقدم من يدلى بها على من يدلى به، ولان الاخت ركضت مع الولد في الرحم، ولم تركض أم الاب معه في الرحم، فقدمت عليها، فعلى هذا تكون الحضانة للاخت من الاب والام، ثم الاخت من الام ثم الخالة ثم لام الاب ثم للاخت من الاب ثم للعمة وقال في الجديد: إذا عدمت أمهات الام انتقلت الحضانة إلى أم الاب وهو الصحيح، لانها جدة وارثة فقدمت على الاخت والخالة كأم الام.
فعلى هذا تكون الحضانة لام الاب ثم لامهاتها وان علون، الاقرب فالاقرب، ويقدمن على أم الجد كما يقدم الاب على الجد، فإن عدمت أمهات الاب انتقلت إلى أمهات الجد ثم إلى أمهاتها وان علون، ثم تنتقل إلى أمهات أب الجد، فإذا عدم أمهات الابوين انتقلت إلى الاخوات ويقدمن على الخالات والعمات، لانهن راكضن الولد في الرحم وشاركنه في النسب، وتقدم الاخت من الاب والام ثم الاخت للاب ثم الاخت للام.
وقال أبو العباس ابن سريج، تقدم الاخت للام على الاخت للاب، لان إحداهما تدلى بالام والاخرى تدلى بالاب، فقدم المدلى بالام على المدلى بالاب كما قدمت الام على الاب، وهذا خطأ لان الاخت من الاب أقوى من الاخت من الام في الميراث والتعصيب مع البنات، ولان الاخت من الاب تقوم مقام الاخت من الاب والام في الميراث، فقامت مقامها في الحضانة.
فإن عدمت الاخوات انتقلت إلى الخالات، ويقدمن على العمات، لان الخالة تساوى العمة في الدرجة وعدم الارث وتدلى بالام والعمة تدلى بالاب: والام تقدم على الاب فقدم من يدلى بها، وتقدم الخالة من الاب والام على الخالة من الاب، ثم الخالة
من الاب ثم الخالة من الام، ثم تنتقل إلى العمات لانهن يدلين بالاب، وتقدم العمة من الاب والام ثم العمة من الاب ثم العمة من الام، وعلى قياس قول المزني وأبى العباس تقدم الخالة والعمة من الام على الخالة والعمة من الاب (الشرح) حديث عبد الله بن عمرو مضى تخريجه آنفا.
أما حديث البراء بن عازب فقد أخرجه البخاري في الحج وفيه " اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في(18/327)
ذى القعدة قبل أن يحج وفيه قوله لجعفر " أشبهت خلقي وخلقي " وفيه صلح المشركين يوم الحديبية، وأخرجه في الجزية عن أحمد بن عثمان بن حكيم، وفي الصلح عن عبيد الله بن موسى وعن محمد بن بشار.
وأخرجه مسلم في المغازى عن محمد بن المثنى ومنمد بن بشار وعن عبيد الله بن معاذ وعن إسحاق بن ابراهيم وأحمد ابن خباب وأبو داود في الحج عن أحمد بن حنبل والترمذي في الحج عن عباس ابن محمد الدوري وفي البر عن سفيان بن وكيع وعن محمد بن أحمد بن بدوية وفي المناقب عن محمد بن.
اسماعيل البخاري.
ورواه أحمد من حديث على وفيه " والجارية عند خالتها فإن الخالة والدة " وأخرجه عن على أبو داود والحاكم والبيهقي بمعناه واللفظ المتفق عليه في رواية أحمد والبخاري ومسلم " أن إبنة حمزة اختصم فيها على وجعفر وزيد، فقال على أنا أحق بها هي إبنة عمى، وقال جعفر بنت عمى وخالتها تحتي، وقال زيد إبنه أخى، فقضى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها وقال " الخالة بمنزلة الام " قوله " وخالتها تحتي " يعنى أسماء بنت عميس وقد طعن ابن حزم في حديث البراء في كتابه وقال في إسناده اسرائيل وقد ضعفه على بن المدينى، وقد رد عليه بأنه قد وثقه سائر أهل الحديث، ولا يضره أن ينفرد ابن المدينى بتضعيفه وقد تعجب أحمد بن حنبل من حفظه وقال ثقة
وقال أبو حاتم هو أتقن أصحاب أبى إسحاق، وكفى باتفاق الشيخين على إخراج هذا الحديث دليلا أما الاحكام فإذا اجتمع النساء من القرابة وهن يصلحن للحضانة، أو لا رجل معهن وتنازعن في حضانة المولود قدمت الام على غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم " الام أحق بولدها ما لم تتزوج " ولانها أقرب إليه وأشفق عليها، فإن عدمت الام انتقلت الحضانة إلى أمها ثم إلى أم أمها وإن علت، فأما أمهات أبيها فلا مدخل لهن في الحضانة، فإن عدمت الجدات من قبل الام ففيه قولان قال في القديم تنتقل الحضانة إلى الاخوات والخالات وتقدمن على أمهات الاب لانهن يدلين بالام، وأمهات الاب يدلين بالاب، والام تقدم على الاب فقدم من يدلى بها على من يدلى بالاب، فعلى هذا تكون الحضانة للاخت للاب(18/328)
والام ويقدمان على الخالة لانهما أقرب لكونهما ركضا مع الولد في رحم واحد ثم ينتقل إلى الخالة لقوله صلى الله عليه وسلم الخالة أم، فتكون الحضانة للخالة للاب والام ثم للخالة للاب، فإذا عدمت الاخوات للاب والام أو للام والخالات انتقلت الحاضنة إلى أم الاب ثم إلى أمهاتها ثم تنتقل إلى الاخت للاب ثم إلى العمة، ويقدمان على أمهات الجد، لان الاب أقرب من الجد فتقدم من يدلى به على من يدلى بالجد.
ثم تنتقل إلى أمهات الجد الوارثات الاقرب فالاقرب وكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق هنا.
قال الشوكاني في النيل، واستشكل كثير من الفقهاء وقوع القضاء منه صلى الله عليه وسلم لجعفر وقالوا ان كان القضاء له فليس بمحرم لها، وهو وعلى سواء في قرابتها، وان كان القضاء للخالة فهي مزوجة والزواج مسقط لحقها من الحضانة فسقوط حق الخالة بالزواج أولى.
وأجيب عن ذلك بأن القضاء للخالة والزواج لا يسقط حقها من الحضانة مع رضا الزوج كما ذهب إليه أحمد والحسن البصري والامام يحيى وابن حزم.
وقيل ان النكاح إنما يسقط حضانة الام وحدها حيث كان المنازع لها الاب.
ولا يسقط حق غيرها ولاحق الام حيث كان المنازع لها غير الاب.
وبهذا يجمع بين حديث البراء وحديث عبد الله بن عمرو.
اه قال ابن الصباغ والطبري تقدم الاخت للاب على الاخت للام على هذا أيضا وقال في الجديد إذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الام انتقلت الحضانة إلى أمهات الاب الوارثات.
فإن عدم من يصلح لها من أمهات الاب انتقلت إلى أمهات الجد ثم إلى أمهات أبى الجد، فإن عدم من يصلح لها من والجدات من قبل الاب انتقلت إلى الاخوات.
وبه قال أبو حنيفة - وهو الاصح - لانهن جدات وارثات فقدمن على الاخوات كالجدات من قبل الام، ويقدم الاخوات على الخالات والعمات لانهن أقرب فتكون الحضانة للاخت للاب والام ثم الاخت للاب ثم للاخت للام لانهن أقرب وقال أبو حنيفة والمزنى وأبو العباس بن سريج تقدم الاخت للام على الاخت للاب لانها تدلى بالام، والاخت للاب تدلى بالاب، فقدم من تدلى بالام على(18/329)
من تدلى بالاب، كما تقدم الام على الاب والمذهب الاول، لان الاخت للاب تقوم مقام الاخت للاب والام في التعصيب فقامت مقامها في الحضانة، ثم تنتقل إلى الخالات ويقدمن على العمات لانهن يدلين بالام فتكون الحضانة للخالة للاب والام ثم للخالة للاب ثم للخالة للام ثم للعمة للاب والام ثم للعمة للاب ثم للعمة للام.
وعلى قول من قدم الاخت للام على الاخت للاب تقدم الخالة والعمة للام على الخالة والعمة للاب.
والذى يقتضى المذهب أن الحضانة لا تنتقل إلى
الخالات إلا بعد عدم بنات الاخ وبنات الاخت لانهن أقرب، ولا تنتقل الحضانة إلى العمات إلا بعد عدم بنات الخالات
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن اجتمع الرجال وهم من أهل الحضانة وليس معهم نساء قدم الاب، لان له ولادة وفضل شفقة، ثم تنتقل إلى آبائه الاقرب فالاقرب لمشاركتهم الاب في الولادة والتعصيب، فإن عدم الاجداد انتقلت إلى من بعدهم من العصبات.
ومن أصحابنا من قال لا يثبت لغير الآباء والاجداد من العصبات لانه لا معرفة لهم في الحضانة ولا لهم ولاية بأنفسهم فلم تكن لهم حضانة كالاجانب والمنصوص هو الاول.
والدليل عليه ماروى البراء بن عازب رضى الله عنه " أنه اختصم في بنت حمزه على وجعفر وزيد بن حارثة رضى الله عنهم، فقال على عليه السلام أنا أحق بها وهى بنت عمى.
وقال جعفر ابنة عمى وخالتها عندي وقال زيد بنت أخى، فقضى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها، وقال الخالة بمنزلة الام " ولو لم يكن ابن العم من أهل الحضانة لانكر النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر، وعلى على رضى الله عنهما ادعاءهما الحضانة بالعمومة، ولان له تعصيبا بالقرابة فثبتت له الحضانة كالاب والجد، فعلى هذا تنتقل إلى الاخ من الاب والام، ثم إلى الاخ من الاب، ثم إلى ابن الاخ من الاب والام، ثم إلى ابن الاخ من الاب، ثم إلى العم من الاب والام، ثم إلى العم من الاب ثم إلى ابن العم من الاب والام، ثم إلى ابن العم من الاب، لان الحضانة تثبت لهم قوة قرابتهم بالارث فقدم من تقدم في الارث(18/330)
(الشرح) الاحكام إذا اجتمع الرجال ولانساء معهم وهم من أهل الحضانة قدم الاب على غيره من الرجال لان له ولاية عليه ثم تنتقل إلى آبائه الوارثين
الاقرب فالاقرب: لانهم يلون عليه بأنفسهم فقاموا مقام الاب، وهل تثبت الحضانة لغيرهم من العمات؟ فيه وجهان.
من أصحابنا من قال لا تثبت لهم الحضانة لانه لا معرفة لهم في الحضانة ولا يلون عن ماله بأنفسهم فلم يكن لهم حق الحضانة كالاجانب إلا أن لهم تأديب الولد وتعليمه.
ومنهم من قال تثبت لهم الحضانة وهو المنصوص، لان عليا وجعفر ادعيا حضانة ابنة حمزة بكونهما ابني عم بحضرة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ النبي عليه السلام عليهما دعواهما بذلك وروى عمارة الجرمى قال " خيرنى علي رضى الله عنه بين عمى وأمى " ولان له تعصيبا بالقرابة فثبتت له الحضانة كالاب والجد، فعلى هذا إذا عدم الاجداد - قال المصنف - انتقلت الحضانة إلى الاخ للاب والام ثم إلى الاخ للاب ثم إلى ابن الاخ للاب والام ثم إلى ابن الاخ للاب ثم إلى العم للاب والام ثم إلى العم للاب ثم إلى ابني العم وقال الصباغ: تنتقل إلى الاخ للاب والام ثم إلى الاخ للاب ثم إلى الاخ للام.
قال وعلى قول أبى العباس حيث قدم الاخت للام على الاخت للاب يكون ههنا وجهان: أحدهما لا يقدم الاخ للام على الاخ للاب لانه ليس من أهل الحضانة بنفسه وإنما يستحق بقرابته بالام والاخ للاب أقوى فقدم عليه والثاني يقدم لادلائه بالام وهى أقرب من الاب فقدم من يدلى به على من يدلى بالاب ثم بنوه الاخوة وإن سفلوا ثم العم ثم بنو العم ثم عم الاب ثم بنوه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن اجتمع الرجال والنساء والجميع من أهل الحضانة نظرت: فإن اجمتع الاب مع الام كانت الحضانة للام، لان ولادتها متحققة وولادة
الاب مظنونة، ولان لها فضلا بالحمل والوضع ولها معرفة بالحضانة فقدمت على(18/331)
الاب، فإن اجتمع مع أم الام وان علت كان الحضانة لام الام لانها كالام في تحقق الولادة والميراث ومعرفة الحضانة، وان اجتمع مع أم نفسه أو مع الاخت من الاب أو مع العمة قدم عليهن لانهن يدلين به فقدم عليهن، وان اجمتع الاب مع الاخت من الام أو الخالة ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الاب أحق، وهو ظاهر النص، لان الاب له ولادة وارث فقدم على الاخت والخالة كالام.
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه يقدم الاخت والخالة على الاب لانهما من أهل الحضانة والتربية ويدليان بالام فقدمتا على الاب كأمهات الام.
وان اجتمع الاب وأم الاب والاخت من الام أو الخالة بنينا على القولين في الاخت من الام والخالة إذا اجتمعا مع أم الاب، فإن قلنا بقوله القديم ان الاخت والخالة يقدمان على أم الاب، قدمت الاخت والخالة على الاب وأم الاب، وان قلنا بقوله الجديد ان أم الاب تقدم على الاخت والخالة، بنينا على الوجهين في الاب إذا اجتمع مع الاخت من الام أو الخالة، فإن قلنا بظاهر النص أن الاب يقدم عليهما كانت الحضانه للاب لانه يسقط الاخت والخالة وأم نفسه فانفرد بالحضانة، وإن قلنا با وجه الآخر ان الحضانة للاخت والخالة ففي هذه المسألة وجهان.
(أحدهما)
أن الحضانة للاخت والخالة، لان أم الاب تسقط بالاب، والاب يسقط بالاخت والخالة
(والثانى)
أن الحضانة للاب، وهو قول أبى سعيد الاصطخرى رحمة الله عليه لان الاخت والخالة يسقطان بأم الاب ثم تسقط أم الاب بالاب فتصير
الحضانة للاب، ويجوز أن يمنع الشخص غيره من حق ثم لا يحصل له ما منع منه غيره كالاخوين مع الابوين فإنهما يحجبان الام من الثلث إلى السدس ثم لا يحصل لهما ما منعاه بل يصير الجميع للاب وإن اجتمع الجد أب الاب مع الام أو مع الام وإن علت قدمت عليه كما تقدم على الاب، وإن اجتمع مع أم الاب قدمت عليه لانها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما قدمت الام على الاب(18/332)
وان اجتمع مع الخالة أو مع الاخت من الام ففيه وجهان، كما لو اجمتعنا مع الاب، وإن اجتمع مع الاخت من الاب ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الجد أحق لانه كالاب في الولادة والتعصيب، فكذلك في التقدم على الاخت
(والثانى)
أن الاخت أحق لانها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولاحق لاحد مع الاب غير الام وأمهاتها.
وجملة ذلك أنه إذا اجتمع الرجال والنساء وهم من أهل الحضانة نظرت - فان اجتمع الاب والام - قدمنا الام على الاب لما روى عبد الله بن عمرو " أن امرأة قالت يارسول الله إن إبنى هذا كان بطني له وعاء وحجرى له حواء وثديى له سقاء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه منى، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به ما لم تنكحي " ولان الام أشفق عليه، وولادتها له من طريق القطع فقدمت عليه، وان اجتمع الاب مع أم الام وان علت قدمن على الاب لانهن يقمن مقام الام في تحقق الولادة ومعرفة الحضانة فقدمن على الاب كالام، فإن امتنعت الام من الحضانة ولها أم ففيه وجهان أحدهما - وهو قول ابن الحداد - أن الحضانة تنتقل إلى الاب ولا تنتقل
إلى أم الام، لانه لا حق لام الام مع بقاء الام، فلم تنتقل إليها، كالولي إذا عضل عن النكاح فإن الولاية لا تنتقل إلى من دونه من الاولياء
(والثانى)
أن الحضانة تكون لام الام، وهو اختيار القاضى أبى الطيب وابن الصباغ، لانه لاحق للاب في الحضانة مع وجود أم الام، فإذا امتنعت الام من الحضانه انتقلت إلى أمها كما لو ماتت أو فسقت أو جنت، ويخالف ولاية النكاح فإن الحاكم يقوم مقام العاضل، وههنا لامدخل للحاكم في الحضانة بنفسه فلم يقم مقام غيره.
وان اجتمع الاب وأم نفسه قدم الاب.
ومن أصحابنا من قال: تقدم أم الاب وأمهاتها عليه (أفاده في البيان) لان حضانة النساء أصلح للصغير وأوفق له وقال القاضى أبو الطيب: وهذا يقتضى أن تكون حضانة الاخوات والخالات(18/333)
والعمات أولى من الاب، وهو خلاف النص، لان الشافعي قال: ولا حق لاحد من الاب غير الام وأمها، ولانها تدلى به فلم تقدم عليه.
وإن اجتمع للاب مع الاخت للام أو مع الخالة ففيه وجهان
(أحدهما)
يقدمان على الاب، وهو قول أبى العباس بين سريج وأبى سعيد الاصطخرى وأبى حنيفة، لان لها معرفة بالحضانة ويدليان بالام فقدمتا على الاب كأمهات الام
(والثانى)
وهو المنصوص، أن الاب يقدم عليهما، لان له ولادة وإذنا فقدم عليهما كالام.
(فرع)
وان اجتمع الاب وأم الاب والاخت للام أو الخالة - فإن قلنا بقوله القديم إن أمر الاب يسقط بالاخوات أو الخالات بنينا ههنا على الوجهين في الاب هل يسقط الاخت للام والخالة؟ فإن قلنا إنه يسقطها كانت الحضانة
للاب.
وان قلنا إنهما يتقدمان عليه كانت الحضانة للاخت للام ثم للخالة ثم للاب ثم لامه وان قلنا بقوله الجديد وأن أم الاب تسقط الاخوات والخالات بينا على الوجهين أيضا في الاب إذا اجتمع مع الاخت للام أو الخالة.
فإن قلنا بالمنصوص أن الاب يسقطها كانت الحضانة للاب لانه يسقطهما ويسقط أم نفسه فكانت الحضانة له.
وإن قلنا بقول أبى العباس وأبى سعيد أنهما يسقطان الاب فههنا وجهان.
قال أبو سعيد الاصطخرى، تكون الحضانة للاب، لان الاخت والخالة تسقطان بأم الاب، وأم الاب تسقط بالاب، فصارت الحضانة له، وقد يحجب الشخص غيره من شئ ثم يحصل ذلك الشئ لغير الشخص الحاجب، كما يحجب الاخوان الام من الثلث إلى السدس ويكون للاب وقال أبو العباس تكون الحضانة للاخت أو للخالة، لان الاب يسقط أم نفسه والاب يسقط بالاخت أو بالخالة فبقيت الحضانة لها.
وان اجتمع الاب والاخت للاب والام - فإن قلنا ان الاب يقدم على الخالة - قدم الاب على الاخت للاب والام.
وان قلنا ان الخالة تقدم على الاب فههنا وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد عن أبى سعيد الاصطخرى(18/334)
(أحدهما)
أن الاخت أحق لان الاخت تسقط الخالة، والخالة تسقط الاب فإذا سقط الاب مع من تسقطه الاخت فلان لا يسقط معها أولى.
(والثانى)
وهو الاصح أن الاب أحق، لان الاخت تدلى به فلا يجوز أن يكون المدلى به (1) ، وان اجتمع أب وأخت لاب وخالة، فان قلنا إن الاب يسقط الخالة، كان الحضانة للاب، وإن قلنا: إن الخالة تسقط الاب ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أن الحضانة للاخت، لان الاخت تسقط الخالة، والاب يسقط بالخالة، فإذا أسقطت الخالة، فلان يسقطه من يسقط الخالة أولى.
(والثانى)
أن الحضانة للاب لان الاخت تسقط الخالة والاخت تسقط بالاب لانها تدلى به فتصير الحضانة للاب، ويمتنع أن يسقط الشخص غيره من شئ ثم يحصل ذلك الشئ بغيره، كما قلنا في حجب الاخوين للام عن الثلث إلى السدس.
(والثالث) أن الحضانة للخاله، لان الخاله تسقط الاب والاب يسقط الاخت، وإذا سقطا بقيت الحضانة للخاله، فإن لم يكن أب واجتمع الجد والام وأم الام وان علت قد من على الجد كما يقد من على الاب، وإن اجتمع الجد وأم الاب قدمت عليه لانها تساويه في الدرجة، ولها ولادة، فقدمت كما قدمت الام على الاب، وان اجتمع الجد والاخت للام أو الخالة فيه وجهان كما لو اجتمع مع الاب، وان اجتمع الجد والاخت للام أو الخالة ففيه وجهان كما لو اجتمع مع الاب، وان اجتمع الجد والاخت للاب ففيه وجهان
(أحدهما)
يقدم عليها، لان له ولادة وتعصيبا فقدم عليها كالاب
(والثانى)
تقدم عليه لانها تساويه في الولادة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما تقدم الام على الاب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن عدم الامهات والآباء ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن النساء أحق بالحضانة من العصبات، فتكون الاخوات والخالات ومن أدلى
__________
(1) المدلى الاولى بصيغة الفاعل والثانية بصيغة المفعول(18/335)
بهن من البنات أحق من الاخوة وبينهم، والاعمام وبنيهم لاختصاصهن بمعرفة الحضانة والتربية.
(والثانى)
أن العصبات أحق من الاخوات والخالات والعمات ومن يدلى بهن لاخصتاصهم بالنسب، والقيام بتأديب الولد (والثالث) أنه إن كان العصبات أقرب قدموا، وإن كان النساء أقرب قدمن وإن استويا في القرب قدمت النساء لاختصاصهن بالتربية.
وإن استوى إثنان في القرابة والادلاء كالاخوين أو الاختين أو الخالتين أو العمتين أقرع بينهما لانه لا يمكن اجتماعهما على الحضانة، ولا مزية لاحداهما على الاخرى فوجب التقديم بالقرعة.
وإن عدم أهل الحضانة من العصبات والنساء وله أقارب من رجال ذوى الارحام ومن يدلى بهم ففيه وجهان
(أحدهما)
أنهم أحق من السلطان لان لهم رحما فكانوا أحق من السلطان كالعصبات
(والثانى)
أن السلطان أحق بالحضانة لانه لاحق لهم مع وجود غيرهم فكان السلطان أحق منهم كما قلنا في الميراث.
وإن كان للطفل أبوان فتثبت الحضانة للام فامتنعت منها فقد ذكر أبو سعيد الاصطخرى فيه وجهين
(أحدهما)
أن الحضانة تنتقل إلى أم الام كما تنتقل إليها بموت الام أو جنونها أو فسقها أو كفرها
(والثانى)
أنها تكون للاب، لان الام لم يبطل حقها من الحضانة، لانها لو طالبت بها كانت أحق فلم تنتقل إلى من يدلى بها (الشرح) الاحكام: ان اجتمع رجل من العصبات غير لاب والجد مع من يساويه في الدرجة من النساء، كالاخ والاخت والعم والعمة وابن العم وابنة العمة، وقلنا إن لهم حقا في الحضانة فأيهما أحق بالتقديم؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أن الرجل أحق بالحضانة لانه أحق بتأديبه وتعليمه، فكان أحق بحضانته
(والثانى)
أن المرأة أحق بالحضانة، لانها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما قدمت الام على الاب، وان اجتمع شخصان في درجة واحدة كالاختين أقرع بينهما لانه لا مزية لاحداهما على الاخرى(18/336)
والرجال من ذوى الارحام كالخال والاخ من الام وأبى الام وابن الاخت لا حضانة لهم مع وجود أحد من أهل الحضانة سواهم، لانه ليس بامرأة يتولى الحضانة وليس له قوة قرابة كالعصبات، ولاحضانة إلا بمن يدلى بهم كأم أبى الام وإبنة الاخال وإبنة الاخ من الام لانهن يدلين بمن لاحضانة له، فإذا لم تثبت للمدى فللمدلين به أولى، فإن لم يكن هناك غيرهم فعلى وجهين
(أحدهما)
هم أولى لان لهم رحما وقرابة يرثون بها عند عدم من هو أدنى منهم كذلك الحضانة تكون لهم عند عدم من هو أولى بها منهم
(والثانى)
لاحق لهم في الحضانة وينتقل الامر إلى الحاكم.
وقد رحج أصحاب أحمد بن حنبل الوجه الاول وان كان الوجهان محتملين عندهم، وإن كان فيمن عليه النفقة خنثى مشكل فالنفقة عليه بقدر ميراثه، فإن انكشف بعد ذلك حاله فبان أنه أنفق أكثر من الواجب عليه رجع بالزيادة على شريكه في الانفاق: وان بان أنه أنفق أقل رجع عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان افترق الزوجان ولهما ولد له سبع سنين أو ثمان سنين وهو مميز وتنازعا كفالته خير بينهما لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يارسول الله ان زوجي يريد أن يذهب بابنى، وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت به " فإن اختارهما أقرع بينهما، لانه لا يمكن اجمتاعهما على كفالته، ولا مزية لاحدهما على الآخر فوجب التقديم بالقرعة، وان لم يختر واحدا منهما أقرع بينهما لانه لا يمكن تركه وحده ما لم يبلغ لانه يضيع، ولا مزية لاحدهما على
الآخر فوجبت القرعه، وإن اختار أحدهما نظرت - فإن كان ابنا فاختار الام كان عندها بالليل، ويأخذه الاب بالنهار ويسلمه في مكتب أو صنعة لان القصد حظ الولد، وحظ الولد فيما ذكرناه، وان اختار الاب كان عنده بالليل والنهار ولا يمنعه من زيارة أمه لان المنع من ذلك إغراء بالعقوق وقطع الرحم.
فإن(18/337)
مرض كانت الام أحق بتمريضه، لان المرض صار كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره، فكانت الام أحق به، وإن كانت جارية فاختارت أحدهما كانت عنده بالليل والنهار ولا يمنع الاخر من زيارتها من غير إطالة وتبسط، لان الفرقة بين الزوجين تمنع من تبسط أحدهما في دار الاخر، وإن مرضت كانت الام أحق بتمريضها في بيتها.
وإن مرض أحد الابوين والولد عند الاخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته لما ذكرناه، وإن اختار أحدهما فسلم إليه ثم اختار الاخر حول إليه، وإن عاد فاختار الاول أعيد إليه لان الاختيار إلى شهوته وقد يشتهى المقام عند أحدهما في وقت وعند الاخر في وقت فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه من مأكول ومشروب.
وإن لم يكن له أب وله أم وجد خير بينهما، لان الجد كالاب في الحضانة في حق الصغير فكان كالاب في التخيير في الكفالة، فإن لم يكن له أب ولا جد - فإن قلنا إنه لاحق لغير الاب والجد في الحضانة - ترك مع الام إلى أن يبلغ، وإن قلنا بالمنصوص إن الحضانة تثبت للعصبة، فإن كانت العصبة محرما كالعم والاخ وابن الاخ خير بينهم وبين الام، لما روى عامر ابن عبد الله قال " خاصم عمى أمي وأراد أن يأخذني فأختصما إلى علي بن أبى طالب كرم الله وجهه، فخيرني على ثلاث مرات فاخترت أمي، فدفعني إليها " فإن كان العصبة ابن عم.
فإن كان الولد إبنا خير بينه وبين الام، وإن كانت بنتا كانت عند الام إلى أن تبلغ، ولاتخير بينهما، لان ابن العم ليس بمحرم لها ولايجوز
أن تسلم إليه.
(الشرح) حديث أبى هريرة باللفظ الذي ساقه المصنف رواه النسائي وأخرجه أبو داود بلفظ فيه زياده فقال استهما عليه " ولاحمد معناه لكنها قال فيه " جاءت امرأة قد طلقها زوجها " ولم يذكر فيه قولها " قد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعني " ورواه أحمد وأبن ماجه والترمذي وصححه مختصرا بلفظ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ غلاما بين أبيه وأمه، ورواه بلفظ المصنف أيضا بقية أهل السنن وابن أبى شيبة وصححه الترمذي وابن حبان وأما خبر عامر بن عبد الله فقد أخرجه الشافعي في الام في باب أي الوالدين(18/338)
أحق بالولد " أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا ابن عيينة عن يونس بن عبد الله الجرمى عن عمارة قال: خيرنى علي بين أمي وعمى، ثم قال لاخ لى أصغر منى: وهذا أيضا لو قد بلغ مبلغ هذا خيرته " وأخرجه من طريق ابراهيم بن محمد عن يونس بن عبد الله عن عمارة " خيرنى علي بين أمي وعمى وقال لاخ لى أصغر منى وهذا لو بلغ مبلغ هذا خيرته " قال ابراهيم: وفي الحديث " وكنت ابن سبع أو ثمان سنين " ومن ثم تدرك أن الرواية ليست عن عامر بن عبد الله وإنما هي عن عمارة، وقد أخرجه البيهقى في السنن الكبرى وقال: عمارة الجذامي، والصواب ما في الام.
أما اللغات، فبئر أبى عنبة على ميل من المدينة.
قال ابن الجوزى: أبو عنبة عبد الله بن عنبه من الصحابة ليس فيهم أبو عنبة غيره.
قال في المؤتلف والمختلف: أبو عنبة الخولانى له صحبة.
وفي الاستيعاب: قيل انه ممن صلى القبلتين، قديم الاسلام، وقيل إنه ممن أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصحبه، وانه صحب معاذ بن جبل وسكن الشام، روى
عنه محمد بن زياد الالهانى وبكر بن زرعة وشريح بن مسروق وقوله " في مكتب أو صنعة " قال الجوهرى: الكتاب والمكتب واحد، والجمع الكتاتيب والمكاتب وهو موضع تعليم الكتابة.
وقوله " أغراء بالعقوق " من غرى غرى من باب تعب أولع به من حيث لا يحمله عليه فإذا تعدى بالهمز فقيل أغريته به اغراء فأغرى به بالبناء للمفعول والاسم الغراء بالفتح والمد والغراء مثل كتاب ما يلصق به، فكأنه يقول أغراه بالعقوق كأنه لصقه بالغراء فجعله سببا لوقوع العقوق ولصوقا به.
وقوله " وتبسط " التبسط والانبساط ترك الاحتشام، وتبسط في البلاد سافر فيها طولا وعرضا، وأصله السعة وذلك محرم على من طلق أما الاحكام.
فإن الشافعي رضى الله عنه يقول: فإذا افترق الابوان وهما في قرية واحدة فالام أحق بولدها ما لم تتزوج وما كانوا صغارا، فإذا بلغ أحدهم سمعا أو ثمانى سنين وهو يعقل خير بين أبيه وأمه وكان عند أيهما اختار، فإن اختار أمه فعلى أبيه نفقته ولا يمنع من تأديبه، قال وسواء في ذلك الذكر والانثى(18/339)
ويخرج الغلام إلى الكتاب والصناعة إن كان من أهلها ويأوى عند أمه وعلى أبيه نفقته، وإن اختار أباه لم يكن لابيه منعه من أن يأتي أمه وتأتيه في الايام وإن كانت جارية لم تمنع أمها من أن تأتيها، ولا أعلم على أبيها إخراجها إليها إلا من مرض فيؤمر بإخراجها عائدة.
قال وإن ماتت البنت لم تمنع الام من أن تليها حتى تدفن، ولا تمنع في مرضها من أن تلى تمريضها في منزل أبيها.
قال وإن كان الولد مخبولا فهو كالصغير، وكذلك إن كان غير مخبول ثم خبل فهو كالصغير الام أحق به ولا يخير أبدا.
قال وإنما أخير الولد بين أبيه وأمه إذا كانا معا ثقة للولد، فإن كان أحدهما ثقة
والآخر غير ثقة فالثقة أولاهما به بغير تخيير.
قال وإذا خبر الولد فاختار أن يكون عند أحد الابوين ثم عاد فاختار الاخر حول إلى الذي اختار بعد اختياره الاول، قال وإذا نكحت المرأة فلا حق لها في كينونة ولدها عندها صغيرا كان أو كبيرا، ولو اختارها ما كانت ناكحا، فإذا طلقت طلاقا يملك فيه الزوج الرجعة أو لا يملكها رجعت على حقها فيهم اه إذا ثبت هذا فإن الغلام إذا بلغ سبعا وليس بمعتوه خير بين أبويه إذا تنازعا فيه، فمن اختاره منهما فهو أولى به، قضى بذلك عمر وعلى شريح، وهو مذهب أحمد، وقال مالك وابو حنيفة: إذا استقل بنفسه، فأكل بنفسه ولبس بنفسه فالاب أحق به.
ومالك يقول الام أحق به.
قالا وأما التخيير فلا يصح لان الغلام لا قول له ولا يعرف حظه، وربما اختار من يلعب عنده ويترك تأديبه ويمكنه من شهواته فيؤدى إلى فساده، ولانه دون البلوغ فلم يخير كمن دون السبع وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه " وفي لفظ " جاءت امرأة إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يارسول الله ان زوجي يريد أن يذهب بابنى وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعني، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت به " ولانه اجماع الصحابة كما أوضحنا ذلك عن علي وعمر ولا معارض فإذا بلغ الغلام حدا يعرب عن نفسه ويميز بين الاكرام وضده فمال إلى أحد(18/340)
الابوين، دل على أنه أرفق به وأشفق عليه، فقدم بذلك، وقيدناه بالسبع لانها أول حال أمر الشرع فيها بمخاطبته بالامر بالصلاة.
ومتى اختار أحدهما فسلم إليه ثم أختار الاخر رد إليه، فإن عاد فاختار الاول أعيد إليه هكذا أبدا كلما اختار
أحدهما صار إليه، لانه اختيار شهوة لحظ نفسه فاتبع ما يشتهيه، وان خيرناه فلم يختر واحدا منهما أو اختارهما معا قدم أحدهما بالقرعة، لانه لا مزية لاحدهما على صاحبه، ولا يمكن اجتماعهما على حضانته فقد أحدهما بالقرعة (فرع)
فإن كان الاب معدوما أو من غير أهل الحضانة وحضر غيره من العصبات كالاخ والعم وابنه قام مقام الاب، فيخير الغلام بين أمه وعصبته فأشبه الاب، وكذلك ان كانت أمه معدومه أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى الجدة، خير الغلام بينها وبين أبيه أو من يقوم مقامه من العصبات، فإن كان الابوان معدومين أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى امرأة كأخته وعمته أو خالته قامت مقام أمه في التخيير بينهما وبين عصيانه للمعنى الذي ذكرناه في الابوين (فرع)
وان كان عند الاب كان عنده ليلا ونهارا ولا يمنع من زيارة أمه لان منعه من ذلك اغراء له بالعقوق وقطيعة الرحم، وان مرض كانت الام أحق بتمريضه في بيتها، لانه صار بالمرض كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره فكانت الام أحق به كالصغير، وان مرض أحد الابوين والولد عن الاخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته، سواء كان ذكرا أو أنثى لان المرض يمنع المريض من المشى إلى ولده، فمشى ولده إليه أولى، فأما في حال الصحة فإن الغلام يزور أمه لانها عورة فسترها أولى، والام تزور ابنتها، لان كل واحدة منهما عورة تحتاج إلى صيانة - وستر الجارية أولى - لان الام قد تخرجت وعقلت بخلاف الجارية.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان افترق الزوجان ولهما ولد فأراد أحدهما أن يسافر بالولد - فإن كان السفر مخوفا أو البلد الذي يسافر إليه مخوفا - فالمقيم أحق به، فإن كان مميزا لم يخير بينهما، لان في السفر تغريرا بالولد، وان كان السفر مسافة(18/341)
لا تقصر فيها الصلاة كانا كالمقيمين في حضانة الصغير ويخير المميز بينهما، لانهما يستويان في انتفاء أحكام السفر من القصر والفطر والمسح، فصارا كالمقيمين في محلتين في بلد واحد، وإن كان السفر لحاجة لا لنقلة كان المقيم أحق بالولد، لانه لاحظ للولد في حمله ورده، وإن كان السفر للنقلة إلى موضع يقصر فيه الصلاة من غير خوف فالاب أحق به، سواء كان هو المقيم أو المسافر.
لان في الكون مع الام حضانة، وفي الكون مع الاب حفظ النسب والتأديب، وفي الحضانة يقوم غير الام مقامها، وفي حفظ النسب لا يقوم غير الاب مقامه فكان الاب أحق.
وإن كان المسافر هو الاب، فقالت الام يسافر لحاجة فأنا أحق، وقال الاب أسافر للنقلة فأنا أحق، فالقول قول الاب لانه أعرف بيته.
وبالله التوفيق (الشرح) إذا أراد أحد الابوين السفر مسافة تقصر فيها الصلاة لحاجة ثم يعود، والآخر مقيم، فالمقيم أولى بالحضانة، لان في المسافرة بالولد إضرارا به، وإن كان منتقلا إلى بلد ليقيم به وكان الطريق مخوفا، أو البلد الذي ينتقل إليه مخوفا فالمقيم أولى بالحضانة، لان في السفر به خطرا عليه، ولو اختار الولد السفر في هذه الحالة لم يجب إليه لان فيه تعزيرا به.
وإن كان البلد الذي ينتقل إليه آمنا وطريقه أمنا فالاب أحق به، سواء كان هو المقيم أو المنتقل، لان في كون الولد مع الاب حفظ النسب والتأديب.
وإن كان السفر دون مسافة قصر الصلاة كانا كالمقيمين.
وبهذا قال بعض أصحاب أحمد، والمنصوص عن أحمد سريان ما قررنا من الحكم على اطلاق السفر، سواء كان دون القصر أم لا.
لان البعد الذي يمنعه من رؤيته يمنعه من تأديبه وتعليمه ومراعاة حاله.
فأشبه مسافة القصر، وبما ذكرناه من تقديم الاب عند افتراق الدار بهما.
قال شريح ومالك وأحمد.
وقال أصحاب الرأى: إن انتقل الاب فالام أحق به، وإن انتقلت
الام إلى البلد الذي كان فيه أصل النكاح فهى أحق، وإن انتقلت إلى غيره فالاب أحق.
وحكى عن أبى حنيفة إن انتقلت من بلد إلى قرية فالاب أحق، وإن انتقلت إلى بلد آخر فهي أحق، لان في المدينة يمكن تعليمه وتخريجه(18/342)
(فرع)
إذا اختلف الاب والام في أمر السفر فقالت الام: يسافر مشغولا بمصالحه وحاجياته فلن يلتفت إلى رعاية الولد فأنا أحق به، وقال الاب: أسافر للنقلة والاستيطان فأنا أحق كان القول قول الاب لانه أعلم بقصده والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبي ونعم الوكيل
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الجنايات
(الشرح) الجنايات جمع جناية.
وفي القاموس: جنى الذنب عليه يجنيه جناية جره طلبه إليه، والثمرة اجتنها كتجناها وهو جان والجمع جناة وجنتاه وأجناء " نادر " اه.
وفي اللسان قال أبو حية النميري: وان دما لو تعلمين جنيته على الحى جانى مثله غير سالم فأما قولهم في المثل " أبناؤها أجناؤها " فزعم أبو عبيد أن أبناء جمع بان وأجناء جمع جان كشاهد وأشهاد وصاحب وأصحاب.
قال ابن سيده في المخصص وأراهم لم يكسروا بانيا على أبناء ولا جانيا على أجناء الا في هذا المثل، المعنى أن الذي جنى وهدم الدار هده هو الذي بناها.
قال الجوهرى وأنا أظن أن المثل جنانها بناتها، لان فاعل لاتجمع على أفعال، ثم أستطرد خطأ فقال: ان اشهادا وأصحابا جمع شهد وصحب وهو خطأ فإن فعل لاتجمع على أفعال الا إذا كانت عينها واوا ياء كقول وشيخ تجمع على أقوال وأشياخ الا جمعا شاذا، وقد
رأيتهم في كتب الفقه والحديث والتفسير واللغة يجمعون بحث على أبحاث فإذا جاز فهو شاذ وصوابه بحوث.
وهذا المثل يضرب لمن عمل شيئا بغير روية فأخطأ فيه ثم استدركه فنقبض ما عمله.
وأصله أن بعض ملوك اليمن غزا واستخلف ابنته فبنت بمشورة قوم بنيانا كرهة أبوها، فلما قدم أمر المشيرين ببنائه أن يهدموه، والمعنى أن الذين جنوا عليه هذه الدار بالهدم هم الذين بنوها، والمدينة التي هدمت اسمها براقش، ومن ثم قيل " على نفسها جنت براقش " وفي الحديث " لا يجنى جان الا على نفسه "(18/343)
والجناية الذنب والجرم، وما يفعله الانسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا والاخرة، والمعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا جنى أحدهم جناية لا يطالب بها الاخر لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وجنى فلان على نفسه إذا جر جريرة يجئ جناية على قومه، وتجنى فلان على فلان ذنبا إذا تقوله عليه وهو برئ، وتجنى عليه وجانى ادعى جناية.
قال شمر: حنيت لك وعليك ومنه قوله: جانيك من يجنى عليك وقد تعدى الصحاح - فتجرب - الجرب وجنيت الثمرة أجنيها جنى، واجتنيتها بمعنى.
قال ابن سيده: جنى الثمرة ونحوها وتجناها كل ذلك تناولها من شجرتها.
قال الشاعر إذا دعيت بما في البيت قالت تجن من الجذال وما جنيت قال أبو حنيفة، هذا شاعر نزل بقوم فقرؤه صمغا ولم يأتوه به ولكن دلوه على موضعه وقالوا اذهب فاجنه، فقال هذا البيت يذم به أم مثواه واستعاره أبو ذؤيب للشرف فقال وكلاهما قد عاش عيشة ماجد وجنى العلاء لو أن شيئا ينفع
وفي الحديث إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام دخل بيت المال فقال يا حمراء ويابيضاء احمرى وابيضى وغرى غيرى هذا جناى وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه وأراد على أن يتمثل بهذا البيت الذي قاله في الجاهلية عمرو بن عدي اللحمى ابن أخت جذيمة.
أي أنه لم يتلطخ بشئ من فئ المسلمين بل وضعه مواضعه.
والجنى الثمر المجتنى مادام طريا، وفي التنزيل العزيز (تساقط عليك رطبا جنيا) وقال القائل " إنك لا تجنى من الشوك العنب " وفي حديث أبى بكر رضى الله عنه أنه رأى أبا ذر رضى الله عنه فدعاه فجنى عليه فساره.
جنى عليه أكب عليه والاصل فيه من جنأ يجنا إذا مال عليه وعطف، ثم خفف.
هذا بعض ما ألمت به من مادة " جناية " لغة واستعمالا، وشواهد وأمثالا، وآثارا وقرآنا تضفى على البحث كمالا، والله الموفق حالا ومآلا(18/344)
قال المصنف رحمه لله تعالى
(باب تحريم القتل)
ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب عليه القتل بغير حق حرام وهو من الكبائر العظام، والدليل عليه قوله عز وجل (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال " لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " وروى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَوْ أَنَّ أهل السموات والارض اشتركوا في قتل مؤمن لعذبهم الله عز وجل الا أن لا يشاء ذلك " (الشرح) قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها)
الاية.
في صحيح البخاري عن أبن جبير قال، اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال نزلت هذه الآية (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) هي آخر ما نزل وما نسخها شئ، وكذا رواه مسلم والنسائي من طرق عن شبعة به ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في الاية فقال ما نسخها شئ وقال ابن جرير بإسناده عن يحيى الجابري عن سالم بن أبى الجعد قال " كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه يا عبد الله ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال جزاؤه جهنم خالدا فيها الخ آخر الاية، قال أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس " ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله.
تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله، وبيده الاخرى رأسه يقول يا رب سل هذا فيم قتلني؟ " وايم الذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الاية فما نسخها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم وما نزل بعدها من برهان.
وقد رواه(18/345)
أحمد في مسنده.
أما حديث " لزوال الدينا أهون على الله من قتل رجل مسلم " فإنى لم أعثر عليه من حديث أبى هريرة، ولا اتهم المصنف بالخطأ في عزوه إليه فلست أهلا لذاك، وإنما وجدت الحديث في سنن النسائي من حديث بريدة رضى الله عنه.
وعنده أيضا من حديث ابن عمر ولفظه " لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " وكذلك الترمذي وعند ابن ماجه من حديث البراء.
أما حديث ابن عباس فقد أخرجه الترمذي من حديث أبى سعيد وأبى هريرة بلفظ " لو أن أهل السماء والارض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله في النار "
في الديات.
أما الاحكام فإن القتل بغير حق حرام، والاصل فيه الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقوله تعالى " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " وقوله تعالى " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطا " فأخبر أنه ليس للمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ولم يرد بقوله " الا خطأ " أن قتله خطأ يجوز، وإنما أراد لكن إذا قتله خطأ فعليه الدية والكفارة.
وقوله " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " الآية، أما السنة فعلى ما مضى من الاحاديث، وما سيأتي بما يجاوز الحصر.
وأما الاجماع فإنه لا خلاف بين الامة في تحريم القتل بغير حق.
إذا ثبت هذا فمن قتل مؤمنا متعمدا بغير حق فسق واستوجب النار، الا أن يتوب.
وحكى عن ابن عباس قوله " لاتقبل توبة القاتل ".
ودليلنا قوله تعالى (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق - إلى قوله تعالى - الا من تاب) الآية ولقوله صلى الله عليه وسلم " التوبة تحت ما قبلها " ولان التوبة إذا صحت من الكفر فلان تصح من القتل أولى.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ويجب القصاص بجناية العبد، وهو أن يقصد الاصابة بما يقتل غالبا فيقتله، والدليل عليه قوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس(18/346)
والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) وقوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) الايه.
وقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولى الالباب)
وروى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مسلم الا بإحدى ثلاث: الزانى المحصن والمرتد عن دينه وقاتل النفس، ولانه لو لم يجب القصاص أدى ذلك إلى سفك الدماء وهلاك الناس ولا يجب بجناية الخطأ، وهو أن يقصد غيره، فيصبيه فيقتله، لقوله عليه السلام " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ولان القصاص عقوبة مغلظة فلا يستحق مع الخطأ ولا يجب في عمد الخطأ، وهو أن يقصد الاصابة بما لا يقتل غالبا فيموت منه، لانه لم يقصد القتل فلا يجب عليه عقوبة القتل، كما لا يجب حد الزنا في وطئ الشبهة حيث لم يقصد الزنا.
(الشرح) قوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الخ الايات.
أخرج أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أبيه عن عبد الله بن عبد الله ابن عباس عن أبيه قال ان الله أنزل ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وأولئك هم الظالمون وأولئك هم الفاسقون.
أنزلها الله في الطائفتين من اليهود، وكانت احدهما قد قهرت الاخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتله الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة تطلب مائة وسق، فقالت الذليلة وهو لكان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد دية بعضهم نصف دية بعض؟ انما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم.
فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم، فكادت الحرب تهيج بينهما (وهما قريظه والنضير) ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ثم ذكرت العزيزة فقالت والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا ما أعطونا هذا الا ضيما منا وقهرا لهم ; فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه أن أعطاكم ما تريدون(18/347)
حكمتموه وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه.
فدسوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناسا من المنافقين ليخيروا لهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله تعالى (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون - إلى قوله تعالى - وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله تعالى - ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) وروى الامام أحمد بإسناده عن الزهري عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأها (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) نصب النفس ورفع العين، وكذا رواه أبو داود والتزمذى والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله ابن المبارك.
وقال الترمذي حسن غريب.
وقال البخاري تفرد ابن المبارك بهذا الحديث.
وقد استدل كثير ممن ذهب من الاصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكى مقررا ولم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الاسفرايينى عن نص الشافعي وأكثر الاصحاب بهذه الآية حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات.
وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة.
رواه ابن أبى حاتم، وقد حكى الامام النووي في كتاب الصوم من المجموع في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها: أن شرع أبراهيم حجة دون غيره وصحح منها عدم الحجية.
ونقلها الشيخ أبو إسحاق الاسفراييني أقولا عن الشافعي وأكثر الاصحاب.
ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا.
وقد حكى الامام أبو قصر بن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الاية على مادلت عليه.
أما حديث عثمان رضى الله عنه فقد أخرجه أبو داود في الديات عن سليمان
ابن حرب والترمذي في الفتن عن أحمد بن الضبى والنسائي في المحاربة عن ابراهيم ابن يعقوب وعن مؤمل بن إهاب وعن أبى الازهر أحمد بن الازهر وابن ماجه في الحدود عن أحمد بن عبدة، ولفظه " أن عثمان أشرف يوم الدار فقال أنشدكم الله أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بإحدى ثلاث، زنا بعد إحصان، أو ارتداد بعد اسلام، أو قتل نفسا بغير حق(18/348)
فقتل به، فو الله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا ارتدت منذ بَايَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا قتلت النفس التي حرم الله.
فيم تقتلوني؟ " قال الترمذي ورواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه وروى يحيى بن سعيد القطان وغير واحد عن يحيى بن سعيد هذا الحديث فأوقفوه ولم يرفعوه، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عُثْمَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرفوعا ورواه الشيخان وأصحاب السنن وأحمد عن ابن مسعود بلفظ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يحل دم امرئ مسلم يشهد أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله الا بإحدى ثلاث، الثيب الزانى، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " وروى أحمد والنسائي عن عائشة مرفوعا " لا يحل دم امرئ مسلم الا من ثلاثة إلا من زنى بعد ما أحصن، أو كفر بعد ما أسلم، أو قتل نفسا فقتل بها " ورواه مسلم عنهما بمعناه.
وفي لفظ رواه النسائي عنها " لا يحل قتل مسلم الا في إحدى ثلاث خصال زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلما متعمدا، ورجل يخرج من الاسلام فيحارب الله عز وجل فيقتل أو يصلب أو ينفى من الارض " وأخرجه بهذا اللفظ أبو داود والحاكم وصححه.
أما الاحكام فإنه إذا قتل من يكأفئه عامدا - وهو أن يقصد قتله بما يقتل غالبا فيموت منه - وجب عليه القصاص لقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية.
وهذه الآية حجه لنا بلا خلاف، لان من أصحابنا يقول شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يتصل به نكير.
ومن قال منهم ليس بشرع لنا، فإن الشرع قد ورد به ثبوت حكم هذه الاية في حقنا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للربيع بنت معوذ حين كسرت سن جارية من الانصار " كتاب الله القصاص " وليس للسن ذكر في القصاص إلا في هذه الاية.
وقوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد) الاية.
وقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) ومعنى ذلك أن الانسان إذا علم أنه يقتل إذا قتل لم يقتل، فكان في ذلك(18/349)
حياة لهما، وكانت العرب تقول في الجاهلية القتل أنفى (1) للقتل، وكان ما ورد به القرآن أحسن لفظا وأشمل معنى.
وقوله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) والسلطان ههنا القصاص.
وروى عثمان رضى الله عنه وأرضاه إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثلاث إلخ " وقد خرجناه آنفا، ولا يجب القصاص للقتل الخطأ، وهو أن يقصد غيره فيصبيه فيقتله، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ولا يجب القصاص في عمد الخطأ وهو أن يقصد إصابته بما لا يقبل غالبا فيموت منه، لانه لم يقصد القتل فلم تجب عليه عقوبة القتل.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ولا يجب القصاص على صبى ولا مجنون لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يفيق " ولانه عقوبة مغلظة فلم يجب على الصبي والمجنون كالحدود والقتل بالكفر.
وفي السكران طريقان، ومن أصحابنا من قال يجب عليه القصاص قَوْلًا وَاحِدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ، وقد بيناه في كتاب الطلاق
(فصل)
ويقتل المسلم بالمسلم، والذمى بالذمي، والحر بالحر، والعبد بالعبد، والذكر بالذكر، والانثى بالانثى، لقوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى) ويقتل الذمي بالمسلم، والعبد بالحر، والانثى بالذكر، لانه إذا قتل كل واحد منهم بمن هو مثله فلان يقتل بمن هو أفضل منه أولى، ويقتل الذكر بالانثى لما روى أبو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عن أبيه عن جد " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن أن الرجل يقتل بالمرأة " ولان المرأة كالرجل في حد القذف فكانت كالرجل في القصاص.
__________
(1) ورد هذا المثل بد دخول الترقيم في الحروف بصيغ مختلفة، مثل القتل القى القتل، والقتل أبقى للقتل.
والقتل أنقى للقتل(18/350)
(الشرح) قوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) الآية.
ذكر سبب نزولها العلامة ابن كثير في تفسيره فنقل ما رواه ابن أبي حاتم بالاسناد عن سعيد ابن جبير قال يعنى إذا كان عمدا الحر بالحر.
وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الاسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والاموال فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم (الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى)
منها منسوخة نسختها " النفس بالنفس " أه أما حديث " رفع القلم عن ثلاثة " فقد أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم في المستدرك عن على وعمر رضى الله عنهما، وقد مضى في غير ما موضع.
وأما حديث أَبِي بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عن أبيه عن جده فقد أخرجه مالك في الموطأ والشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن أن الذكر يقتل بالانثى.
وهو عندهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن الذكر يقتل بالانثى.
ووصله نعيم بن حماد عن أبن المبارك عن معمر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أبيه عن جده، وجده محمد بن عمر بن حزم ولد فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن لم يسمع منه.
وكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر ومن طريقه الدارقطني.
ورواه أبو داود والنسائي من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري مرسلا.
ورواه أبو داود في المراسيل عن ابن شهاب قال قرأت فِي كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وكان الكتاب عند أبى بكر بن حزم.
ورواه النسائي وابن حبان والحاكم البيهقى موصولا مطولا من حديث الحكم ابن موسى عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود حدثنى الزهري عن أبى بكر عن أبيه عن جده، وفرقه الدرامى في مسنده عن الحكم مقطعا قال الحافظ بن حجر ; وقد اختلف أهل الحديث في صحة هذا الحديث فقال أبو داود في المراسيل.
قد أسند هذا الحديث ولا يصح، والذي في اسناد سليمان(18/351)
ابن داود وهم إنما هو سليمان بن أرقم، وقال في موضع آخر لا أحدث به، وقد وهم الحكم بن موسى في قوله سليمان بن داود، وقد حدثنى محمد بن الوليد الدمشقي
أنه قرأ في أصل يحيى بن حمزة بن سليمان بن أرقم، وهكذا قال أبو زرعة الدمشقي أنه الصواب وتبعه صالح جزرة وأبو الحسن الهروي وغيرهما وقال صالح جزرة حدثنا دحيم، قال قرأت في كتاب يحيى بن حمزة حديث عمرو بن حزم فإذا هو عن سليمان بن أرقم، قال صالح كتب عني هذه الحكاية مسلم بن الحجاج.
قال الحافظ: ويؤيد هذه الحكاية ما رواه النسائي عن الهيثم بن مروان عن محمد بن بكار عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري وقال هذا أشبه بالصواب.
وقال ابن حزم في المحلى صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا تقوم بها حجة وسليمان بن داود متفق على تركه.
وقال عبد الحق، سليمان بن داود الذي يروى هذه النسخة عن الزهري ضعيف، ويقال انه سليمان بن أرقم وتعقبه ابن عدى فقال، هذا خطأ إنما هو سليمان بن داود وقد جوده الحكم بن موسى.
وقال أبو زرعة عرضت على أحمد فقال سليمان بن داود اليمامى ضعيف، وسليمان بن داود الخولانى ثقة، وكلاهما يروى عن الزهري ; والذي روى حديث الصدقات هو الخولانى، فمن ضعفه فإنما ظن أنه اليمامى، وقد أثنى على سليمان بن داود الخولانى هذا أبو زرعة وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ، وصححه من حيث الشهرة لا من حيث الاسناد الامام الشافعي في رسالته حيث قال لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم يستغنى بشهرته عن الاسناد لانه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقى الناس له بالقبول والمعرفة.
وقال يعقوب بن أبى سفيان لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من
كتاب عمرو بن حزم فإن الصحابة والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم.(18/352)
قال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإما عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب.
أما الاحكام فإنه لا يجب على الصبى والمجنون قصاص لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يفيق " ولان القصاص من حقوق الابدان، وحقوق الابدان لا تجب على الصبي والمجنون كما قلنا في الصلاة والصوم، وإن قتل السكران من يكافئه عمدا فهل يجب عليه القصاص؟ فِيهِ طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يجب فيه القصاص قولا واحدا، وقد مضى ذكر ذلك في الطلاق.
وان قتل رجلا وهو عاقل ثم جن أو سكر لم يسقط عنه القصاص، لان القصاص قد وجب عليه فلا يسقط بالجنون والسكر كما لا يسقط عنه ذلك بالنوم وقال الحنابلة في القصاص على السكران إذا قتل حال سكره بناء على وقوع طلاقه وفيه روايتان فيكون في وجوب القصاص عليه وجهان
(أحدهما)
أنه أشبه بالمجنون لزوال عقله، ولانه غير مكلف أشبه الصبى والمجنون.
ورجح ابن قدامة منهم القصاص، لان الصحابة رضى الله عنهم أقاموا سكره مقام قذفه فأوجبوا عليه حد القاذف فلولا أن قذفه موجب للحد عليه لما وجب الحد بخطيئته.
وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمى أولى، ولانه حكم لو لم يجب القصاص والحد لافضى إلى أن من أراد أن يعصي الله تعالى شرب ما يسكره ثم يقتل ويزنى ويسرق، ولا يلزمه عقوبة ولا مأتم، ويصير عصيانه سببا لسقوط عقوبة الدنيا والآخره عنه، ولاوجه لهذا، وفارق هذا الطلاق، ولانه قول يمكن الغاؤه بخلاف القتل.
فأما أن شرب أو أكل ما يزيل عقله غير الخمر على وجه محرم - فإن زال عقله بالكلية بحيث صار مجنونا فلا قصاص عليه ; وان كان يزول قريبا ويعود من غير تداو فهو كالسكر على ما فصل فيه.
(مسألة) وان كان الجاني والمجني ممن يجد أحدهما بقذف الآخر فقد ذكرنا أنه يجب القصاص على الجاني فإن قتل المسلم مسلما والكافر كافرا، سواء كانا على دين واحد أو على دينين، أو قتل الرجل رجلا أو المرأة امرأة، وقتل الحر حرا(18/353)
أو العبد عبدا وجب القصاص على القاتل لقوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) الخ الاية.
ولان كل واحد منهما مساو لصحابه فقتل به، ويقتل الكافر بالمسلم والعبد بالحر والانثى بالذكر لقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ولانه إذا قتل بمن يساويه فلان يقتل بمن هو أعلا منه أولى، ويقتل الذكر بالانثى، وهو قول أكثر العلماء.
وقال ابن عباس رضى الله عنهما لا يقتل بها، وقال عطاء يكون ولى المرأة بالخيار بين أن يأخذ ديتها وبين أن يقتل الرجل بها ويدفع إلى وليه نصف الدية.
وروى ذلك عن على رضى الله عنه، ودليلنا قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) وقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وهذا عام الا فيما خصه الدليل، ولحديث أَبِي بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بقتل الرجل بالمرأة " ولانهما شخصان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فجرى القصاص بينهما كالرجلين والمرأتين، ويقتل الخنثى بالرجل والمرأة، ويقتل الرجل والمرأة بالخنثى لقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجب القصاص على المسلم بقتل الكافر، ولا على الحر بقتل العبد، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أنه قال: من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر ومن السنة أن لا يقتل حر بعبد.
فإن جرح ذمى ذميا ثم أسلم الجاني أو جرح عبد عبدا ثم أعتق الجاني اقتص منه لانهما متكافئان منه حال الوجوب والاعتبار بحال الوجوب لان القصاص كالحد، والحد يعتبر بحال الوجوب، بدليل أنه إذا زنى وهو بكر ثم أحصن أقيم عليه حد البكر ولو زنى وهو عبد ثم أعتق أقيم عليه حد العبد، فوجب أن يعتبر القصاص أيضا بحال الوجوب.
وإن قطع مسلم يد ذمى ثم أسلم ثم مات، أو قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم مات، لم يجب القصاص، لان التكافؤ معدوم عند وجود الجناية، فإن جرح(18/354)
مسلم مسلما ثم ارتد المجروح ثم أسلم ثم مات، فإن أقام في الردة زمانا يسرى الجرح في مثله لم يجب القصاص، لان الجناية في الاسلام توجب القصاص، والسراية في الردة تسقط القصاص، فغلب الاسقاط، كما لو جرح جرحا عمدا وجرحا خطئا، فإن لم يقم في الردة زمانا يسرى فيه الجرح ففيه قولان أحدهما: لا يجب فيه القصاص، لانه أتى عليه زمان لو مات فيه لم يجب القصاص فسقط، والثانى: يجب القصاص وهو الصحيح، لان الجناية والموت وجدا في حال الاسلام، وزمان الردة لم يسر فيه الجرح، فكان وجوده كعدمه وان قطع يده ثم ارتد ثم مات ففيه قولان:
(أحدهما)
يسقط القصاص في الطرف، لانه تابع للنفس، فإذا لم يجب القصاص في النفس لم يجب في الطرف
(والثانى)
وهو الصحيح أنه يجب، لان القصاص في الطرف يجب مستقرا
فلا يسقط بسقوطه في النفس، والدليل عليه أنه لو قلع طرف إنسان ثم قتله من لاقصاص عليه لم يسقط القصاص في الطرف وان سقط في النفس
(فصل)
وان قتل مرتد ذميا ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يجب القصاص، وهو اختيار المزني لانهما كافران، فجرى القصاص بينهما كالذميين
(والثانى)
أنه لا يجب لان حرمة الاسلام باقية في المرتد بدليل أنه يجب عليه قضاء العبادات، ويحرم استرقاقه، وان كانت امرأة لم يجز للذمي نكاحها، فلا يجوز قتله بالذمي، وان جرح مسلم ذميا ثم ارتد الجاني ثم مات المجني عليه لم يجب القصاص قولا واحدا لانه عدم التكافؤ في حال الجناية فلم يجب القصاص وإن وجد التكافؤ بعد ذلك، كما لو جرح حر عبدا ثم أعتق العبد وان قتل ذمى مرتدا فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يجب عليه القصاص إن كان القتل عمدا، والدية ان كان خطأ لان الذمي لا يقتل المرتد تدينا.
وانما يقتله عنادا، فأشبه إذا قتل مسلما وقال أبو إسحاق لا يلزمه قصاص ولا دية، وهو الصحيح، لانه مباح الدم فلم يضمن بالقتل، كما لو قتله مسلم.
وقال أبو سعيد الاصطخرى: ان قتله عمدا وجب القصاص لانه قتله عنادا ; وان قتله خطأ لم تلزمه الدية لانه لا حرمة له(18/355)
(فصل)
وإن حبس السلطان مرتدا فأسلم وخلاه فقتله مسلم لم يعلم بإسلامه ففيه قولان
(أحدهما)
لا قصاص عليه لانه لم يقصد قتل من يكافئه
(والثانى)
يجب عليه القصاص، لان المرتد لا يخلى إلا بعد الاسلام، فالظاهر أنه مسلم فوجب القصاص بقتله.
وإن قتل المسلم الزانى المحصن ففيه وجهان
(أحدهما)
يجب عليه القصاص، لان قتله لغيره فوجب عليه القصاص بقتله، كما لو قتل رجل رجلا فقتله غير ولى الدم
(والثانى)
لا يجب، وهو المنصوص، لانه مباح الدم فلا
يجب القصاص بقتله كالمرتد.
(الشرح) حديث علي كرم الله وجهه رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود والترمذي عن أبي جحيفة قال " قلت لعلى هل عندكم شئ من الوحي ما ليس في القرآن؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الاسير وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وأخرج أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم وصححه عَنْ عَلَى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: المؤمنون تتكافا دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده.
أما الاحكام فقد قال الشافعي في الام: وخطبته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح كانت بسبب القتيل الذي قتله خزاعة وكان له عهد، فخظب النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوْ قتلت مسلما بكافر لقتلته به.
وقال: لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده.
إذا ثبت هذا فإنه لا يقتل المسلم بالكافر، سواء كان الكافر ذميا أو مستأمنا أو معاهدا، وروى ذلك عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت ومعاوية، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز والزهري والثوري وابن شبرمة وأحمد وإسحاق وعطاء وعكرمة والاوزاعي ومالك، وقال الشعبي والنخعي وأبو حنيفة يقتل المسلم بالذمي ولا يقتل بالمستأمن، وهو المشهور عن أبى يوسف، وروى عن أبي يوسف أنه قال يقتل بالمتسأمن(18/356)
وقال أحمد، الشعبى والنخعي قالا: دية المجوسى واليهودى كدية المسلم وان قتله يقتل به، هذا عجب: يصير اليهودي مثل المسلم؟ سبحان الله! ماهذا
القول؟ واسبشعه.
ودليلنا على أصحاب الرأى ماروى أبو جحيفة قال، قلت لعلى رضى الله عنه يا أمير المؤمنين هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله؟ قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما علمته، إلا فهما يعطيه الله رجالا للقرآن وما في هذه الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال فيها العقل وفكاك الاسير وألا يقتل مسلم بكافر.
وَعَنْ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده.
ومعنى قوله لا يقتل ذون عهد في عهده.
أي لا يجوز قتل أهل الذمة، ولانه مسلم قتل كافرا فلم يقتل به كالمستأمن.
(فرع)
وإن قتل الكافر كافرا ثم أسلم القاتل، أو جرح الكافر كافرا فمات المجروح وأسلم الجارح قتل به.
وقال الاوزاعي لا يقتل به.
ودليلنا ماروى البيهقى من حديث عبد الرحمن بن اليلمانى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل مسلما بمعاهد وقال أنا أكرم من وفي بذمته.
وتأويله أنه قتله كافرا ثم أسلم، ولان القصاص حد والاعتبار بالحد حال الوجوب دون حال الاستيفاء، بدليل أنه لوزنى وهو بكر فلم يحد حتى أحصن، أو زنى وهو عبد فلم يحد حتى أعتق اعتبر حال الوجوب، وهذا كان مكافئا له حال الوجوب فلم يتغير بما طرأ بعده وإن جرح الكافر كافرا فأسلم الجارح ثم مات المجروح ففيه وجهان
(أحدهما)
لاقصاص عليه لانه قد أتت عليه حالة لو قتله فيها لم يجب عليه القصاص
(والثانى)
يجب عليه القصاص وهو المشهور اعتبارا بحالة الاصابة، كما لو مات المجروح ثم أسلم الجارح (مسألة) ان قتل حرا عبدا لم يقتل به، سواء كان عبده أو عبد غيره.
وروى ذلك عن أبى بكر وعمر وعلى وزيد بن ثابت وابن الزبير، وبه قال مالك وأحمد، والنخعي يقتل به، سواء كان عبده أم عبد غيره.(18/357)
وقال أبو حنيفة، يقتل بعبد غيره ولا يقتل بعبد نفسه، فإن قتل حر كافر عبدا مسلما لم يقتل به، لان الحر لا يقتل بالعبد، وإن قتل عبد مسلم حرا كافرا لم يقتل به، لان المسلم لا يقتل بالكافر، وإن قتل عبد عبدا ثم أعتق القاتل وجرح عبد عبد فمات المجروح ثم أعتق الجارح قتل به لانه كان مساويا له حال الجناية، وإن أعتق الجارح ثم مات المجروح فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان كما قلنا في الكافر إذا جرح كافرا فأسلم الجارح ثم مات المجروح.
وإن قتل ذمى عبدا ثم لحق الذمي بدار الحرب وأخذه المسلمون واسترقوه لم يقتل به، لانه كان حين وجوب القصاص حرا فلم يتغير حكمه.
(فرع)
وإن قطع مسلم يد ذمى ثم أسلم ثم مات فلا قصاص على المسلم وكذلك إذا قطع حر يد عبد ثم أعتق العبد ثم مات فلا قصاص على الحر، لان القصاص لما سقط في القطع سقط في سرايته، ولان القصاص - معتبرا بحال الجناية - هو غير كاف له، فلم يجب عليه القصاص كما قلنا في الكافر إذا قطع يد الكافر ثم مات المقطوع وأسلم القاطع، وإن قطع مسلم يد مرتد أو يد حربى ثم أسلم المقطوع ثم مات لم يجب على القطاع قود ولا دية، لانه لم يكن مضمونا حال الجناية.
ومن أصحابنا من قال يجب فيه دية مسلم لانه مسلم حال استقرار الجناية، والاول أصح وإن رمى مسلم إلى ذمى سهما فأسلم ثم وقع به السهم فمات لم يجب به القود ووجب فيه دية مسلم، وفارق جزاء الصيد لانه مال.
فاعتبر فيه حال الاصابة لانه حال الاستقرار والقود ليس بمال فاعتبر فيه حال الارسال.
فإذا أوجبنا
الدية في المرتد والحربي إذا اسلما قبل الاصابة وبعد الارسال، فإن أبا إسحاق المروزي قال لا تجب الدية في الحربى وتجب في المرتد، لان الحربى كان له رميه والمرتد ليس له قتله وإنما قتله إلى الامام.
ومن أصحابنا من قال لادية فيهما، والاول هو المنصوص.
وإن قطع مسلم يد مسلم ثم ارتد المجروح ثم أسلم ثم مات من الجراحة فهل يجب على الجارح القود؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال ينظر فيه فإن أقام في الردة زمانا تسرى فيه الجراحة لم تجب وعليه القود في النفس قولا واحدا لان(18/358)
الجناية في الاسلام توجب القصاص والسراية في حال الردة لا توجب القصاص وقد خرجت الروح منهما فلم يجب القصاص كما لو جرحه جراحة عمدا وجراحة خطأ ومات منهما وإن أقام في الردة زمانا لاتسرى فيه الجراحة فهل يجب عليه القصاص في النفس؟ فيه قولان: أحدهما: يجب القصاص لان الجناية والسراية في حال الاسلام وزمان الردة لا تأثير له.
والثانى: لا يجب القصاص لانه كما لو طلق امرأته ثلاثا في مرض موته ثم ارتدت ثم مات فإنها لا ترثه.
ومن أصحابنا من قال القولان في الحالين، لان الشافعي رحمه الله قال في الام: لو قطع ذمى يد مستأمن فنقض العهد في عهد المستأمن ولحق بدار الحرب ثم عاد بأمان ثم سرت إلى نفسه، فهل على القاطع القود؟ فيه قولان، ونقض المستأمن العهدة كالردة للمسلم (مسألة) وإن قتل المرتد ذميا فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان: أحدهما: يجب عليه القود، وهو اختيار الشافعي والمزنى لانهما كافران فجرى القصاص بينهما كالذميين، ولان الذمي أحسن حالا من المرتد، لانه مقر
على دينه والمرتد غير مقر على دينه، فعلى هذا يجب عليه القصاص سواء رجع إلى الاسلام أو لم يرجع، لان القصاص قد وجب عليه حال الجناية فلم يسقط بالاسلام كالذمي إذا جرح ثم أسلم الجارج ثم مات.
(والثانى)
لا يجب عليه القصاص، لانه شخص يجب في ماله الزكاة فلم يقتل بالذمي كالمسلم، فعلى هذا يجب عليه الدية، فإن رجع إلى الاسلام تعلقت الدية بذمته.
وان مات أو قتل على الردة تعلقت بماله.
وإن جرح المسلم ذميا ثم ارتد الجارح ثم مات المجروح لم يجب القصاص قولا واحدا، وان قتل الذمي مرتدا فهل يجب عليه القود؟ قال الخراسانيون من أصحابنا يبنى على القولين في المرتد إذا قتل الذمي.
وقال البغداديون من أصحابنا فيه ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ (أَحَدُهَا) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ ابن أبى هريرة - أنه يجب عليه القود، فإن عفا عنه أو كانت الجناية خطأ وجبت فيه الدية، لان قتله بالردة بالمسلمين، فإذا قتله غيرهم وجب عليه الضمان(18/359)
كما لو قتل رجل رجلا فقتله غير ولى الدم
(والثانى)
وهو قول أبى الطيب وأبى سعيد الاصطخرى أنه يجب عليه القود، فإن عفا عنه أو كانت الجناية خطأ لم يجب عليه الدية، لان القود إنما يجب عليه لاعتقاد الذمي أنه مثله وأنه مكافئ له ولا يجب عليه الديه، لانه لا قيمة لديته (والثالث) وهو قول أبى اسحاق - وهو الاصح - أنه لا يجب عليه القود ولا الدية، لان كل من لا يضمنه المسلم بقود ولادية لم يضمنه الذمي كالحربي.
وإن قتل المرتد مرتدا فهل يجب عليه القصاص فيه وجهان حكاهما الصيمري، أحدهما يجب عليه القصاص لانه ربما يسلم القاتل (مسألة) إذا حبس السلطان مرتدا فأسلم وخلاه فقتله رجل قبل أن يعلم بإسلامه فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يجب عليه القود لانه لم يقصد قتل من يكافئه، فعلى هذا يجب عليه دية مسلم.
(والثانى)
يجب عليه القود، لان الظاهر من المرتد أنه لا يخلى من حبس السلطان وفي دار الاسلام إلا بعد إسلامه، وقال الطبري: وإن اسلم الذمي وقتله المسلم قبل أن يعلم بإسلامه أو أعتق العبد فقتله حر قبل أن يعلم بعتقه فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان كالتي قبلها.
وأما الزانى المحصن إذا قتله رجل بغير إذن الامام ففيه وجهان:
(أحدهما)
أن عليه القود لان قتل المحصن إلى الامام، فإذا قتله غيره بغير إذنه وجب عليه القود كما لو قتل رجل رجلا فقتله غير ولى الدم
(والثانى)
لا يجب عليه القود - وهو المنصوص - لما روى أن رجلا قال " يارسول الله وجدت مع امرأتي رجلا أفأمهله حتى أقيم البينة؟ قال نعم " فدل على أنه إذا أقام البينة لا يمهله بل له أن يقتله وروى ابن المسيب أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله فأشكل فيه الامر على معاوية رضى الله عنه فكتب في ذلك إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فسأله أن يسأل عليا رضى الله عنه عن ذلك فقال علي رضى الله عنه: ما هذا شئ وقع بأرضنا عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال له: كتب إلى بذلك معاوية،(18/360)
فقال علي: أنا أبو الحسن لها، إن أقام البينة وإلا أعطى بزمته (والزمة الحبل الذي يربط به الرجل إذا قدم للقتل) ويروى العمرانى في البيان أن رجلا على عهد عمر رضى الله عنه خرج في غزوة وترك يهوديا في بيته يخدم أمراته فلما كان في بعض الليالى خرج رجل من المسلمين في سحر فسمع اليهودي يقول:
وأشعث غره الاسلام من خلوت بعرسه ليل التمام أبيت على ترائبها ويمسى على حرد ... الخ ما قال فدخل عليه رجل وقتله، فأخبر بذلك عمر رضى الله عنه فأهدر دم اليهودي ولم تثبت عندي هذه الواقعة لامور كثيرة، لانه في حاجة إلى إثبات إحصان اليهودي وإن أربعة شهود على الاقرار بالشعر إذا قلنا بصحة الشهادة على الاقرار وقلنا بصحة كونه شعرا، وقلنا بعدم الرجوع إلى الامام هل يصح، وسيأتى في الحدود، وأخيرا صحة إسناد الرواية
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجب القصاص على الاب يقتل ولده، ولا على الام بقتل ولدها، لما روى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لايقاد الاب من أبيه " فإذا ثبت هذا في الاب ثبت في الام، لانها كالاب في الولادة، ولا يجب على الجد وان علا، ولا على الجدة وان علت بقتل ولد الولد وان سفل لمشاركتهم الاب والام في الولادة وأحكامها وإن ادعى رجلان نسب لقيط ثم قتلاه قبل أن يلحق نسبة بأحدهما لم يجب القصاص لان كل واحد منهما يجوز أن يكون هو الاب، وإن رجعا في الدعوى لم يقبل رجوعهما، لان النسب حق وجب عليهما، فلا يقبل رجوعهما فيه بعد الاقرار.
وإن رجع أحدهما وجب عليه القصاص، لانه ثبت الابوة للآخر وانقطع نسبه من الراجع.
وان اشترك رجلان في وطئ امرأة وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما وقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما لم يجب القصاص، وإن أنكر أحدهما النسب(18/361)
لم يقبل إنكاره ولم يجب عليه القصاص، لان بإنكاره لا ينقطع النسب عنه ولا
يلحق بالآخر بخلاف المسألة قبلها، فإن هناك الحق النسب بالاخر وانقطع عن الراجع، وإن قتل زوجته وله منها ابن لم يجب عليه القصاص، لانه إذا لم يجب له عليه بجنايته عليه فلا يجب له عليه بجنايته على أمه، وإن كان له إبنان أحدهما منه والآخر من غيره لم يجب عليه القصاص، لان القصاص لا يتبعض، فإذا سقط نصيب إبنه سقط نصيب الآخر، كما لو وجب لرجلين على رجل قصاص فعفا أحدهما عن حقه، وإن اشترى المكاتب أباه وعنده عبد فقتل أبوه العبد لم يجز للمكاتب أن يقتص منه، لانه إذا لم يجب له القصاص عليه بجنايته عليه لم يجب بجنايته على عبده.
(فصل)
ويقتل الابن بالاب لانه إذا قتل بمن يساويه فلان يقتل بمن هو أفضل منه أولى، وإن جنى المكاتب على أبيه وهو في ملكه ففيه وجهان.
(أحدهما)
لايقتص منه، لان المولى لايقتص منه لعبده
(والثانى)
يقتص منه، واليه أو ما الشافعي رحمه الله في بعض كتبه، لان المكاتب ثبت له حق الحرية بالكتابة، وأبوه ثبت له حق الحرية بالابن، ولهذا لا يملك بيعه فصار كالابن الحر إذا جنى على أبيه الحر
(فصل)
وإن قتل مسلم ذميا أو قتل حر عبدا أو قتل الاب ابنه في المحاربة ففيه قولان
(أحدهما)
لا يجب عليه القصاص لما ذكرناه من الاخبار، ولان من لا يقتل بغيره إذا قتله في غير المحاربة لم يقتل به إذا قتله في المحاربة كالمخطئ
(والثانى)
أنه يجب لان القتل في المحاربة تأكد لحق الله تعالى، حتى لا يجوز فيه عفو الولى، فلم يعتبر فيه التكافؤ كحد الزنا.
(الشرح) حديث عمر بن الخطاب نازع في صحته ابن نافع وابن عبد الحكم وابن المنذور وقالوا - واللفظ لابن المنذر - قد رووا في هذه أخبارا قلت، والحديث أخرجه الترمذي في الديات عن أبى سعيد الاشج وابن ماجه
في الديات عن أبى بكر بن أبى شيبة، كما أخرجه الترمذي فيه عن ابن بشار من حديث ابن عباس ولفظه لاتقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بالولد " وأخرجه(18/362)
ابن ماجه عن أبن عباس أيضا في الحدود عن هرون بن محمد بن بكار.
وزعم ابن قدامة في المغنى (1) رواية النسائي له عن عمر ولم أجده هناك.
وقد ذكر الحديثين (أعنى حديث عمر وحديث ابن عباس) ابن عبد البر وقال هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم يستغنى بشهرته عن الاسناد فيه، حتى يكون الاسناد في مثله مع شهرته تكلفا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " أنت ومالك لابيك " وقضية هذه الاضافة تمليكه اياه، فإذا لم تثبت حقيقة الملكية بقيت الاضافة شبهة في درء القصاص لانه يدرأ بالشبهات، ولانه سبب ايجاده فلا ينبغى أن يتسلط بسببه على اعدامه.
وما ذكرناه يخص العمومات ويفارق الاب سائر الناس أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولا يقتل والد بولد لانه اجماع ولاحد من قبل أم ولا أب.
وجملة ذلك أن الاب إذا قتل ولده لم يجب عليه القصاص، وبه قال عمر وابن عباس من الصحابة، ومن الفقهاء ربيعة والاوزاعي أبو حنيفة وأحمد واسحاق.
وقال ابن نافع وابن عبد الحكم وابن المنذر: يقتل به لظاهر الكتاب والاخبار الموجبة للقصاص، ولانهما حران مسلمان من أهل القصاص فوجب أن يقتل كل واحد منهما بصاحبه كالاجنبيين وقال مالك: ان رماه بالسيف فقتله لم يقتل لانه قد يريد بذلك التأديب.
وان أضجعه وذبحه قتل به.
دليلنا ماروى عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لايقاد والد بولده " ولان كل من لا يقتل به إذا
رماه بالسيف لم يقتل به، وان أضجعه وذبحه كالمسلم إذا ذبح الكافر فإن قيل، ما معنى قول الشافعي لانه اجماع، ومالك يخالف.
فله تأويلان أحدهما أنه أراد به اجماع الصحابة، لانه روى عن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما في الصحابة، والثانى أنه أراد إذا رماه بالسيف فإنه اجماع، ولا تقتل الام
__________
(1) من أمهات الكتب في الشريعة على مذهب أحمد ولم يعن أحد بتحقيق أحاديثه وتحرير أقواله في هوامش دقيقة مدروسسة؟، وقد حاولنا ذلك في هامش نسختنا " المطيعي "(18/363)
ولا أحد من الجدات من قبل الام أو الاب، ولا أحد من الاجداد من قبل الاب والام بالولد وان سفل قال الطبري: وذكر صاحب التلخيص قولا آخر أن غير الاب من الامهات والاجداد يقتلون بالولد.
قال أصحابنا ولا يعرف هذا للشافعي، ولعله قاس على رجوعهم في هبتهم له فإن فيه قولين عند الخراسانيين.
والدليل عليه الحديث " لايقاد والد بولده والوالد يقع على الجميع، ولان ذلك حكم يتعلق باولادة فشاركوا فيه الاب كالعتق بالملك ووجوب النفقة (فرع)
وإن ادعى رجلان نسب لقيط ولابنة لاحدهما عرض على القافة - فإن قتلاه قبل أن يلحق بأحدهما - لم يجب على أحدهما قود لان كل واحد منهما يجوز أن يكون أباه، فإن رجعا عن الاقرار بنسبه لم يسقط نسبه عن أحدهما، لان معنى من أقر بنسب احتمل صدقه لم يجز إسقاطه برجوعه، فإن رجع أحدهما وأقام الآخر بينة على دعواه انتفى نسبه عن الراجع ولحق بالاخر لان رجوع الراجع لا يسقط نسبه، ويسقط القصاص عن الذي لحق نسبه به، ويجب القصاص على الراجع، لانه شارك الاب، ولايكون القصاص للاب
لانه قاتل، بل يكون لورثة القتيل، ويجب على الاب لهم نصف الدية وان تزوج رجل أمرأة في عدتها من غيره ووطئها جاهلا بالتحريم وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما فقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما لم يجب على أحدهما قود لجواز أن يكون كل واحد منهما أباه، فإن رجعا لم يقبل رجوعهما فإن رجع أحدهما وأقدم الاخر على الدعوى لم يسقط نسبه عن الراجع ولم يجب عليه القود، ويفارق التي قبلها لان الابوة هناك ثبتت بالاعتراف فقبل رجوعه مع إقامة الاخر على الدعوى، وهنها الابوة ثبتت بالفراش فلم تسقط بالرجوع (فرع)
وان قتل رجل زوجته وله منها ابن لم يجب له على الاب القود، لانه إذا لم يقد به إذا قتله لم يجب عليه القود بالارث من أمه، وان كان لها ابنان أحدهما من زوجها القاتل لها والثانى من آخر لم يجب على الزوج القود، لان القود يكون مشتركا بين الاثنين، والابن لا يثبت له القود على أبيه، فإذا سقط حقه من القود سقط حق شريكه، كما لو ثبت القود على رجلين فعفى أحدهما(18/364)
(مسألة) قوله " ويقتل الابن بالاب إخ " فجملة ذلك أن الولد يقتل بالوالد لان الوالد أكمل منه فقتل به، كما يقتل الكافر بالمسلم والعبد بالحر والمرأة بالرجل وذلك كله إجماع، فإن كان هناك رجل له زوجة وهما متوارثان وبينهما إبنان فقتل أحد الاثنين أباهما عمدا ثم قتل الابن الاخر أمهما عمدا فإن القصاص يجب على قاتل الام ويسقط عن قاتل الاب، لانه لم قتل الابن الاب لم يرثه، وإنما ترث الزوجة الثمن وقاتل الام الباقي وملكا عليه القود، فلما قتل الابن الاخر الام لم يرثها وإنما يرثها قاتل الاب وقد كانت تملك عليه ثمن القود وانتقل ذلك إليه، فإذا ملك بعض ما عليه من القود سقط عنه القود لانه لا يتبعض فسقط الجميع، وكان القاتل الاب القود على قاتل الام، لانه لا وراث لها سواه، ولقاتل الام
على قاتل الاب سبعة أثمان دية الاب، فإن عفا قاتل الاب عن قاتل الام وجب له عليه دية الام، وهل يسقط عن كل واحد منهما ما يساوى ماله على الاخر؟ على الاقوال الاربعة في المقاصصة.
فإذا قلنا يسقط بقى على قاتل الاب ثلاثة أثمان دية الاب، فإذا قلنا لا يسقط أدى كل واحد منهما ما عليه للآخر، وان اقتضى قاتل الاب من قاتل الام، فان كان لقاتل الام ورثة غير قاتل الاب طالبوه بسبعة أثمان دية الاب، وإن لم يكن له وراث غيره فهل يرثه؟ فيه وجهان في القاتل بالقصاص هل يرث؟ الصحيح أنه لا يرثه، فأما إذا لم يرث الزوجة من الزوج - فان كانت بائنا منه أو كانت غير بائن منه إلا أن أحدهما جرح أباه وجرح الاخر أمه ثم خرجت روحاهما في حالة واحدة، فإن كل واحد من الاثنين لا يرث ممن قتله، ولكنه يرث الابن لاخر.
واختلف أصحابنا هل يثبت القود في ذلك؟ فقال أكثرهما يجب لكل واحد منهما القود على أخيه، لان كل واحد منهما ورث من قتله أخوة فوجب له على أخيه القود، فعلى هذا إن كان قاتل الاب قتله أولا أقتص منه قاتل الام، فان كان لقاتل الاب وراث غير قاتل الام اقتص من قاتل الام، وإن لم يكن له وارث غير قاتل الام، فان قلنا ان القتل بالقصاص لايمنع الميراث - ورث القود على نفسه وسقط.
وإن قلنا وإن القتل بالقصاص يمنع الميراث انتقل القصاص إلى من بعده من العصبات، فإن لم تكن عصبة كان القصاص إلى الامام، وإن قتلاهما(18/365)
حالة واحدة أو جرحاهما وخرجت روحهما في حالة واحدة ثبت لكل واحد منهما القصاص على صاحبه ولا يقدم أحدهما على الاخر بل إن تشاحا في البادئ منهما أقرع بينهما.
فإذا خرجت القرعة لاحدهما فاقتص، أو بادر أحدهما فقتل الاخر من غير قرعة فقد استوفى حقه ولوارث المقتول أن يقتل الابن المقتص،
وان كان المقتص من ورثته فهل يرثه، على الوجهين، الصحيح لا يرثه.
وقال ابن اللبان: القصاص لا يثبت ههنا لانه لاسبيل إلى أن يستوفى كل واحد منهما القصاص من صاحبه، فلو بدأ أحدهما فاقتص من أخيه بطل حق المقتص منه من القصاص، لان حقه ينتقل إلى وارثه ان شاء قتل وان شاء ترك.
وأما القرعة فلا تستعمل في إثبات القصاص، فعلى هذا يكون على قاتل الاب دية الام لقاتل الاب قال ابن اللبان: فان مات أحد القاتلين قبل أن يتحاكما كان لورثة الميت أن يقتلوا الاخر، ويرجع الاخر أو وارثه في تركة الميت بدية الذي قتله الميت من الابوين، ولايقال إن القصاص سقط ثم وجب لانه لم يثبت لا لانه لم يجب ولكن لم يثبت لتعذر الاستيفاء، وإذا أمكن الاستيفاء ثبت والاول هو المشهور بقى أن تعرف أن الشريعة السمحة جعلت لولى الدم الحق في استيفاء حقه أو العفو عن القصاص اكتفاء بالدية أو العفو عنهما، وما جر إلى انتشار جرائم الثأر في ديارنا المصرية لاسيما في الصعيد الا إغفال القوانين الوضعية هذا الجانب الاصلى في استقرار الامن في البلاد، فان ركون المرء إلى من يتولى الحكم في قضيته بما أنزل الله يجعله قابلا كل حكم يصدر، وقد ينشر التسامح والعفو بينهم (فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) ومن ثم تتلاشئ أسباب الغمر والسخائم والاحقاد التي تنمو بنمو الثأر.
وقد نبه على هذا المستشار أحمد موافى النائب العام الاسبق وفي كتابه بحث مقارن بين الشريعة والقوانين الوضعية ولا شك أن مراعاة شعور ولي الدم له أثره في امتصاص غضبه وتهدئة ثائرته.
وحرص الشرع على ألا يهدر دم في الاسلام يطفئ الاحن بين الناس ويحسم ما بينهم من نزاع وأضغان (ومن أصدق من الله حكما لقوم يوقنون) (فرع)
إذا كان هناك أربعة أخوة يرث بعضهم بعضا فقتل الكبير الذي يليه(18/366)
وقتل الثالث الصغير، وجب القصاص على الثالث وعلى الكبير نصف الدية لان الكبير لما قتل الثاني وجب عليه القصاص للثالث والرابع، فلما قتل الثالث الرابع وجب القاصص على الثالث للكبير وسقط القصاص على الكبير لانه وارث بعض دم نفسه عن الرابع فسقط عنه القصاص ووجب عليه للثالث نصف دية الثاني.
وإن قتل رجل ابن أخيه وورث المقتول أبوه ثم مات أبو المقتول ولم يخلف وارثا غير القاتل فإنه يرثه ويسقط عنه القصاص لانه ملك جميع ما ملكه أبو المقتول فكأنه ملك دم نفسه فسقط عنه القصاص
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتقتل الجماعة باواحد إذا اشتركوا في قتله، وهو أن يجنى كل واحد منهم جناية لو انفرد بها ومات أضيف القتل إليه ووجب القصاص عليه، والدليل عليه ماروى سعيد بن المسيب " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قتل سبعة أنفس من أهل صنعاء قتلوا رجلا، وقال لو تمالا فيه أهل صنعاء لقتلتهم " ولانا لو لم نوجب القصاص عليهم جعل الاشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص وسفك الدماء.
فإن اشترك جماعة في القتل وجناية بعضهم عمدا وجناية البعض خطأ لم يجب القصاص على واحد منهم لانه لم يتمحض قتل العمد فلم يجب القصاص وإن اشترك الاب والاجنبى في قتل الابن وجب القصاص على الأجنبي، لان مشاركة الاب لم تغير صفة العمد في القتل فلم يسقط القود عن شريكه.
كمشاركة غير الاب وإن اشترك صبي وبالغ في القتل - فإن قلنا إن عمد الصبى خطأ - لم يجب القصاص على البالغ لان شريكه مخطئ.
وإن قلنا إن عمده عمد وجب، لان
شريكه عامد فهو كشريك الاب وإن جرح رجل نفسه وجرحه آخر أو جرحه سبع وجرحه آخر ومات.
ففيه قولان:
(أحدهما)
يجب القصاص على الجارح لانه شاركه في القتل عامدا فوجب(18/367)
عليه القصاص كشريك الاب
(والثانى)
لا يجب لانه إذا لم يجب على شريك المخطئ وجنايته مضمونة فلان لا يجب على شريك الجارح نفسه السبع وجنايتهما غير مضمونة أولى.
وإن جرحه رجل جراحة وجرحه آخر مائة جراحة وجب القصاص عليهما، لان الجرح له سراية في البدن وقد يموت من جرح واحد ولا يموت من جراحات لم تمكن إضافة القتل إلى واحد بعينه ولا يمكن إسقاط القصاص فوجب على الجميع.
وإن قطع أحدهما يده وحز الاخر رقبته أو قطع حلقومه ومرئيه أو شق بطنه فأخرج حشوته، فالاول قاطع يجب عليه ما يجب على القاطع والثانى قاتل لان الثاني قطع سراية القطع فصار كما لو اندمل الجرح ثم قتله الاخر.
وان قطع أحدهما حلقومه مريئه أو شق بطنه وأخرج حشوته ثم حز الاخر رقبته فالقاتل هو الاول لانه لا تبقى بعد جنايته حياة مستقرة وانما يتحرك حركة مذبوح ولهذا يسقط كلامه في الاقرار والوصيه والاسلام والتوبة.
وان أجافه جائفة يتحقق الموت منها الا أن الحياة فيه مستقرة ثم قتله الاخر كان القاتل هو الثاني، لان حكم الحياة باق.
ولهذا أوصى عمر رضى الله عنه بعد ما سقى اللبن وخرج من الجرح ووقع الاياس منه فعمل وصيته فجرى مجرى المريض المأيوس منه إذا قتل وإن جرحه رجل فداوى جرحه بسم غير موح الا أنه يقتل في الغالب، أو خاط جرحه في لحم حى أو خاف التآكل فقطعه فمات ففى وجوب القتل على الجاني طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ، أحدهما يجب عليه القتل.
والثانى لا يجب لانه
شاركه في القتل من لا ضمان عليه فكان في قتله قولان، كالجارح إذا شاركه المجروح أو السبع في الجرح ومنهم من قال لا يجب عليه القتل قولا واحدا لان المجروح ههنا لم يقصد الجناية وانما قصد المداواة فكان فعله عمد خطأ فلم يجب القتل على شريكه والمجروح هناك والسبع وقصدا الجناية فوجب القتل على شريكهما، وان كان على رأس مولى عليه سلعة فقطعها وليه أو جرحه رجل فداواه الولى بسم غير موح أو خاط جرحه في لحم حى ومات ففيه قولان، أحدهما يجب على الولى القصاص لانه جرح جرحا مخوفا فوجب عليه القصاص كما وفعله غير الولى والثانى لا قصاص عليه لانه لم يقصد الجناية وانما قصد المداواة وله في نظر مداواته فلم يجب عليه القصاص، فإن قلنا يجب عليه القصاص(18/368)
وجب على الجارح لانهما شريكان في القتل، وان قلنا لا قصاص عليه لم يجب على الجارح لانه شارك من فعله عمد خطأ (الشرح) في هذا الفصل لغات، فقوله حشوته هي يقال حشوة بالكسر والضم.
وحلقومه مجرى النفس، وهو القصبة والمرئ مدخل الطعام والشراب وقوله " غير موح " أي غير مسرع، والوحا السرعة ; وقوله عليه سلعة، فالسلعة بالكسر زيادة في البدن كالجوزة وتكون في مقدار حمصة إلى بطيخة، والسلعة بالفتح الجراحة، والجائفة الطعنة التي تبلغ الجوف، وجافه الدواء فهو مجوف إذا دخل جوفه، وفي الحديث في الجائفة ثلث الدية " أما الاحكام فإن الجماعة تقتل باواحد، وهو أن يجنى عليه كل واحد منهم جناية لو انفرد بها مات منها وجب عليه القصاص، وبه قال من الصحابة عمر وعلى وابن عباس والمغيرة بن شعبة.
ومن التابعين ابن المسيب وعطاء والحسن وأبو سلمة.
ومن الفقهاء الاوزاعي والثوري ومالك وأحمد وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور.
وقال محمد بن الحسن ليس هذا بقياس إنما صرنا إليه من طريق الاثر والسنة.
وقال ابن الزبير ومعاذ بن جبل والزهرى وابن سيرين: لا يقتل الجماعة بالواحد بل للولى أن يختار واحدا منهم فيقتله ويأخذ من الباقين حصتهم من الدية وقال ربيعة وداود: يسقط القصاص، وبه قال حبيب بن أبى ثابت وعبد الملك وابن المنذر، وحكاه ابن أبى موسى عن ابن عباس ووجه قول ابن الزبير ومن قال مثله أن كل واحد منهم مكافئ له فلا تستوفى أبدال بمدل واحد كما لا تجب ديات لمقتول واحد، ولان الله تعالى قال (الحر بالحر) وقال (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) فمقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة، ولان التفاوت في الاوصاف يمنع، بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد، والتفاوت في العدد أولى.
قال ابن المنذر: لاحجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد.
دليلنا قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) فأوجب القصاص لاستيفاء الحياة، وذلك أنه متى علم الانسان أنه إذا قتل غيره قتل به لم يقدم على القتل، فلو قلنا لا تقتل الجماعة بالواحد لكان الاشتراك يسقط القصاص، وسقط هذا(18/369)
المعنى.
وقوله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) والسلطان القصاص، ولم يفرق بين أن يقتله واحد أو جماعة.
وَرُوِيَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ثم أنتم يا خزاعة قد قلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " وقد أخرج مالك في الموطأ أن عمر رضى الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا، وقال لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا " وموضع الدليل " فمن " ومن يستغرق الجماعة والواحد (فرع)
وإن اشترك اثنان في قتل رجل وأحدهما يجب عليه القود، ولو
انفرد دون الآخر نظرت - فإن كان سقوط القود عن أحدهما لمعنى في فعله، مثل أن كان أحدهما مخطئا والآخر عامدا - لم يجب القصاص على واحد منهما، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ مَالِكٌ يجب القصاص على العامد منهما.
دليلنا أن الروح لم يخرج عن عمد الاثنين فلم يجب عليه القصاص، كما لو جرحه خطأ فمات منه.
وان شارك الصبى والمجنون - وهما عامدان - في الجناية بنى ذلك على عمدها، وفيه قولان أحدهما أن عمدهما في حكم الخطأ، وبه قال مالك وأبو حنيفة لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يحتلم، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يفيق " فأخبر أن القلم مرفوع عنهما فدل على أن عمدهما في حكم الخطأ، ولان عمدهما لو كان في حكم العمد لوجب عليهما القصاص، فعلى هذا لا يجب على من شاركهما في الجناية، وانما سقط القصاص عنهما لمعنى في أنفسهما كشريك الاب، ولان الصبى لو أكل في الصوم عامدا لبطل صومه، فلو أن لعمده حكما لما بطل صومه.
هكذا ذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ.
وقال المسعودي: المجنون الذي لا يميز، والطفل الذي لا يعقل مثله عمدهما خطأ قولا واحدا، فلا يجب على شريكهما القصاص، وان شارك من لا ضمان عليه مثل أن جرح نفسه وجرح نفسه وجرحه، آخر أو جرحه سبع وجرحه آخر أو قطعت يده بقصاص أو سرقة وجرحه آخر ومات فهل يجب القصاص على الشريك الذي عليه الضمان؟ فيه قولان
(أحدهما)
يجب على القصاص،(18/370)
لانه شارك في القتل عامدا فوجب عليه القصاص كشريك الاب
(والثانى)
لا يجب عليه القصاص إذا شارك من لا ضمان عليه أولا (فرع)
وإن جرحه رجل جراحة يقتل منها عامدا فداوى نفسه بسم فمات
نظرت - فإن كان سما موحيا يقتل في الحال لم يجب على الجارح قصاص في النفس لانه قطع سراية جرحه بالسم، فصار كما لو جرحه رجل ثم ذبح نفسه وإن كان السم قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب أنه لا يقتل لم يجب على الجارح قصاص في النفس لانه مات من فعلين، وأحدهما عمد خطأ، فهو كما لو شارك العامد مخطئا، وإن كان السم قد يقتل وقد لا يقتل والغالب أنه يقتل بأن وضع سيانيد البوتاسيوم على الجرح فهل يجب القصاص على الجارح في النفس؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان، لانه شارك قاصدا إلى الجناية ولا يجب عليه الضمان، فهو كما لو جرح نفسه وجرحه آخر، أو جرحه سبع وجرحه آخر، ومنهم من قال لا يجب عليه القصاص قولا واحدا، لانه لم يقصد الجناية على نفسه وإنما قصد المداواة فصار فعله عمد خطأ بخلاف شريك السبع وشريك من جرح نفسه وأنهما قصدا الجناية (فرع)
وان جرحه رجل فخيط جرحه فمات نظرت - فإن خيط في لحم ميت كاللحم إذا قطعه السيف فإن القود يجب على الجارح لانه لاسراية للخياطة في اللحم الميت، وان خيط في اللحم الحى نظرت - فإن خاطه المجروح بنفسه أو خاطه غيره بأمره - فهل يجب القود على الجارح في النفس؟ فيه طريقان كما قلنا فيه إذا داوى جرحه بسم قد يقتل وقد لا يقتل، إلا أنه يقتل في الغالب، وان خاطه أجنبي بغير اذنه أو أكرهه على ذلك وجب القود على الجارح والذي خاط الجراحة لانهما قاتلان، وان خاطه السلطان وأكرهه على ذلك، فإن كان لا ولاية له عليه كان كغيره من الرعية فيجب عليه القود في النفس مع الجارح وان كان له على المجروح ولاية بأن كان صغيرا أو مجنونا أو خاطها الولى عليه غير السلطان أو كان على المولى عليه سلعة فقطعها وليه فمات، فهل يجب عليه القود فيه قولان:
(أحدهما)
يجب عليه القود لانه جرح جرحا مخوفا فوجب عليه القود،(18/371)
فعلى هذا يجب على شريكه وهو الجارح القود
(والثانى)
لا يجب عليه القود لانه لم يقصد الجناية وانما قصد المداواة فصار فعله عمد خطأ، فعلى هذا لا يجب عليه أو على شريكه القود في النفس.
ويجب على كل واحد منهما نصف ديته مغلظة وهل يكون ما وجب على الامام من ذلك في ماله أو في بيت المال؟ فيه قولان يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى (فرع)
وإن جرح رجل رجلا جرحا وجرحه آخر مائة جرح ثم مات فهما شريكان في القتل، فيجب عليهما القود، لانه يجوز أن يموت من الجرح الواحد كما يجوز أن يموت من المائة، وإذا تساوى الجميع في الجواز فالظاهر أنه مات من الجميع فصارا قاتلين فيجب عليهما القود وان عفا عنهما وجبت الدية عليهما نصفين ولا تقسط الدية على عدد الجراحات كما قلنا في الجلاد إذا زاد جلده على ما أمر به في أحد القولين، لان الاسواط متماثلة والجراحات لها مور في البدن أي قطع.
وقد يجوز الواحدة منهما هي القاتلة وحدها دون غيرها، وان أجافه رجل جائفة وجرحه آخر جراحة غير جائفة ثم مات منهما فهما سواء، وكون احداهما أعمق من الاخرى لايمنع من تساويهما كما لايمنع زيادة جراحات أحدهما في العدد التساوى بينهما (فرع)
إذا قطع رجل حلقوم رجل أو ضربه ثم جاء آخر فقطعه نصفين أو خرق بطنه وقطع أمعاءه وأبانها معه ثم جاء آخر فذبحه فالاول قاتل يجب عليه القود ولا يجب على الثاني الا التعزيز، لان بعد جناية الاول لا يبقى فيه حياة مستقرة، وانما يتحرك كما يتحرك المذبوح، ولانه قد صار في حكم الموتى بدليل أنه لا يصح اسلامه ولا توتبه، ولا يصح بيعه ولاشراؤه ولا وصيته ولا يرث
وان جنى لم يجب عليه شئ فصار كما لو جنى على ميت وان قطع الاول يده أو رجله ثم حز الاخر رقتبه أو اجافه الاول ثم قطع الثاني رقبته فالاول جارح يجب عليه ما يجب على الجارح والثانى قاتل، لان بعد جناية الاول فيه حياة مستقرة، لانه قد يعيش اليوم واليومين وقد لا يموت من هذه الجناية، بدليل أنه يصح اسلامه وتوبته وبيعه وشراؤه ووصيته:(18/372)
ولهذا لما طعن أبو لؤلوة المجوسى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بطنه فجاءه الطبيب وسقاه لبنا فخرج اللبن من بطنه، فقال له اعهد إلى الناس، فعهد عمر رضى الله عنه ثم مات فعملت الصحابة رضوان الله عليهم بعهده فصار كالصحيح، والله تعالى أعلم بالصواب
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(بَابُ مَا يجب به القصاص من الجنايات)
إذا جرحه بما يقطع الجلد واللحم كالسيف والسكين والسنان، أو بما حدد من الخشب والحجر والزجاج وغيرها أو بما له مور وبعد غور كالمسلة والنشاب وما حدد من الخشب والقصب ومات منه وجب عليه القود، لانه قتله بما يقتل غالبا، وإن غرز فيه إبرة - فإن كان في مقتل كالصدر والخاصرة والعين وأصول الاذن فمات منه - وجب عليه القود، لان الاصابة بها في المقتل، كالاصابة بالسكين والمسلة في الخوف عليه، وإن كان في غير مقتل كالالية والفخذ نظرت - فإن بقى منه ضمنا إلى أن مات - وجب عليه القود، لان الظاهر أنه مات منه وان مات في الحال فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه يجب عليه القود لان له غورا وسراية في البدن.
وفي البدن مقاتل خفية
(والثانى)
وهو قول أبى العباس وأبى سعيد الاصطخرى أنه لا يجب لانه لا يقتل في الغالب فلا بجب به القود، كما لو ضربه بمثقل صغير، ولان في المثقل فرقا بين الصغير والكبير، فكذلك في المحدد (الشرح) اللغات: المور الموج والاضطراب والجريان، ومار الدم يمور مورا جرى، وأماره أساله، ومار السنان في المطعون إذا قطعه ودخل فيه.
قال الشاعر: وأنتم أناس تغمضون من القنا إذا مار في أكتافكم وتأطرا ويقولون: فلان لا يدرى ما سائر من مائر، فالمائر السيف القاطع الذي يمور(18/373)
في الضربية مورا، والسائر بيت الشعر المروى المشهور.
أما الغور فهو قعر كل شئ وقوله " ضمنا " هو الذي به الزمانة في جسده من بلاء أو كسر أو غيره.
أما الاحكام فإنه إذا جرح رجل رجلا بما يجرح بحده كالسيف والسكين أو بما حده من الرصاص والقصب والذهب والخشب أو بالليطة وهي القصبة المشقوقة أو بما له مور في البدن كالسنان والسهم والمغراز الذي يثقب به الاسكافي النعل والمسلة - وهي المخيط - فمات منها - وجب على الجارح القود، سواء كان الجراح صغيرا أو كبيرا أو سواء مات في الحال أو بقى متألما إلى أن مات، وسواء كان في مقتل أو في غير مقتل، لان جميع ذلك يشق اللحم ويبضعه ويقتل غالبا وأما إذا غرز فيه إبرة فمات نظرت - فإن غرزها في مقتل مثل أصول الاذنين والعين والقلب والانثيين وجب عليه القود لانها تقتل غالبا إذا غرزت في هذه المواضع، وان غرزت في غير مقتل كالالية والفخذ، قال ابن الصباغ فإن بالغ في ادخلها فيها وجب عليه القود، وان لم يبالغ في ادخلها بل غرزها فاختلف أصحابنا فيه فقال الشيخان أبو حامد الاسفرايينى وأبو إسحاق المروزى: ان بقى من ذلك
متألما إلى أن مات فعليه القود، لان الظاهر أنه مات منه وان مات في الحال ففيه وجهان.
قال أبو إسحاق يجب عليه القود لان الشافعي رحمه الله قال سواء صغر الجرح أو كبر فمات المجروح فإن القود يجب فيه.
ولانه جرحه بحديدة لها مورة في البدن فوجب فيها القود كالمسلة وقال أبو العباس بن سريج وأبو سعيد الاصطخرى: لا يجب به القود لان الغالب أن الانسان لا يموت من غرز أبرة، فإذا مات علمنا أن موته وافق غرزها فهو كما لو رماه ببعرة أو ثوب فمات، كالذي يموت بالسكتة القلبية في اللحظة التي يضربه آخر بعصا لا يموت من مثلها، وقد دخل علم الطب الشرعي والتشريح الدارس لاسباب الجناية في مثل الحالات فحدد أسباب الوفاة بطريق قطعية أو شبيهة بالقطعية هي أقرب الوسائل للوصول إلى ما هو الحق، إذا تولى ذلك اثنان من الاطباء الشرعيين الثقات العدول، لانا نقول فيهما ما سبق أن قلناه في القافة في اتفاقهما واختلافهما وتطابقهما وتناقضهما(18/374)
واعترض ابن الصباغ على هذا فقال لا وجه لهذا التفصيل عندي، لانه إذا كانت العلة لا تقتل غالبا فلا وصل بين أن يبقى ضمنا منه أو يموت في الحال، فإن قيل لانه إذا لم يزل ضمنا منه فقد مات منه، وإذا مات في الحال فلا يعلم أنه مات منه، قال فكان ينبغى أن يكون الوجهان في وجوب الضمان دون القود " فيراعى في الفعل أن يكون بحيث يقتل في الغالب، ألا ترى أن الناس يحتجمون ويقتصدون؟ أفترى ذلك يقتل في الغالب وهم يقدمون عليه؟ وقال المسعودي: هل يجب عليه القود؟ فيه وجهان من غير تفصيل
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان ضربه بمثقل نظرت فإن كان كبيرا من حديد أو خشب أو
حجر فمات منه وجب عليه القود لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حجرين، ولانه يقتل غالبا فول لم يجب فيه القود جعل طريقا إلى اسقاط القصاص وسفك الدماء.
وان قتله بمثقل صغير لا يقتل مثله كالحصاة والقلم فمات لم يجب القود ولا الدية، لانا نعلم أنه لم يمت من ذلك، وان كان بمثقل قد يموت منه وقد لا يموت كالعصا.
فإن كان في مقتل وفي مريض أو في صغيرا أو في حر شديد أو في برد شديد أو والى عليه الضرب فمات وجب عليه القود، لان ذلك يقتل غالبا فوجب القود فيه.
وان رماه من شاهق أو رمى عليه حائطا فمات وجب القود فيه، لان ذلك يقتل في الغالب، وان خنقه خنقا شديدا أو عصر خصيتيه عصرا شديدا أو غمه بمخدة أو وضع يده على فيه ومنعه التنفس إلى أن مات وجب القود لان ذلك يقتل في الغالب، وان خنقه ثم خلاه وبقى منه متألما إلى أن مات وجب القود، لانه مات من سراية جنايته، فهو كما لو جرحه وتألم منه إلى أن مات، وان تنفس وصح ثم مات لم يجب القود، لان الظاهر أنه لم يمت منه فلم يجب القود، كما لو جرحه واندمل الجرح ثم مات
(فصل)
وان طرحه في نار أو ماء ولا يمكنه التخلص منه لكثرة الماء(18/375)
والنار أو لعجزه عن التخلص بالضعف، أو بأن كتفه وألقاه فيه ومات وجب القود لانه يقتل غالبا، وان ألقاه في ماء يمكنه التخلص منه فالتقمه حوت لم يجب القود، لان الذي فعله لا يقتل غالبا، وان كان في لجة لا يتخلص منها فالتقمه حوت قبل أن يصل إلى الماء ففيه قولان
(أحدهما)
يجب القود لانه ألقاه في مهلكه فهلك
(والثانى)
لا يجب لان هلاكه لم يكن بفعله
(الشرح) حديث أنس أخرجه البخاري في الديات عن محمد وعن حجاج ابن منهال وعن اسحاق وعن مسدد وعن محمد بن بشار، وفي الطلاق وفي الوصايا عن حسان بن أبى عباد وفي الاشخاص عن موسى بن اسماعيل وأخرجه مسلم في الديات عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار وعن هداب وعن عبد بن حميد وأخرجه أبو داود في الديات عن عثمان بن أبى شيبة وأحمد بن صالح ومحمد بن كثير وأخرجه الترمذي في الديات عن علي بن حجر والنسائي في القود عن علي بن حجر وعن اسحاق بن ابراهيم، وعن محمد بن عبد الله وعن اسماعيل بن مسعود، وفي المحاربة عن أحمد بن عمرو بن السرح والحارث بن مسكين وابن ماجه في الديات عن علي بن محمد وعن محمد بن بشار وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني " أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان حتى سمى اليهودي، فأومأت برأسها، فجئ به فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بحجرين " وفي رواية لمسلم " فقتلها بحجر فجئ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق " وفي رواية أخرى " قتل جارية من الانصار على حلى لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات " أما اللغات فالمثقل بضم الميم وفتح الثاء المثلثة وتشد القاف المفتوح بصيغة المفعول والمثقلة بالتأنيث كلاهما رخامة ونحوها يثقل بها البساط أما الاوضاح فهي جمع وضح، يقال درهم وضح، نقى أبيض على النسب، والوضح الدرهم الصحيح والاوضاح حلى من الدراهم الصحاح.
وحكى ابن الاعرابي أعطيته دراهم أوضاحا كأنها ألبان شوك رعت بد كداك مالك: مالك رمل بعينه(18/376)
وقلما ترعى الابل هنالك الا الحلى وهو أبيض، فشبه الدراهم في بياضها بألبان
الابل التي لا ترعى إلا الحلى وضح القدم بياض أخمصه وقوله " غمة بمخدة " غممته غطيته فانغم.
أما الاحكام فإن إن ضربه بمثل فمات منه - فإن كان يقتل مثل الحجر الكبير أو الخشبة أو الدبوس أو رمى عليه حائطا أو سقفا وما أشبهه - وجب عليه القود.
وبه قال مالك وابن أبى ليلى وأبو يوسف ومحمد.
وقال النخغى والشعبى والحسن البصري وأبو حنيفة: لا يجب القصاص بالمثقل دلينا ماروى طَاوُسٍ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " العمد قود إلا أن يعفو ولى المقتول " والخطأ دية لاقود فيه ولم يفرق وروى أنس الحديث الذي ساقه المصنف في الفصل وخرجناه آنفا، قال العمرانى وفي هذا الخبر فوائد إحداها أن القود يجب بالقتل بالمثقل.
الثانية أنه يستفاد به.
الثالثة أن اليهودي يقتل بالمسلم.
الرابع أن الرجل يقتل بالمرأة.
الخامس أن الاشارة حكم لانه لو لم يكن لها حكم لانكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم (قلت) مذهبنا ومذهب الجمهور.
وحكى ابن المنذر الاجماع عليه إلا رواية عن علي، وعن الحسن وعطاء أن الرجل يقتل بالمرأة، ورواه البخاري عن أهل العلم.
قال الشوكاني في النيل: وروى في البحر عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعكرمة وعطاء ومالك وأحد قولى الشافعي أنه لا يقتل الرجل بالمرأة، وإنما تجب الدية، وقد رواه عن الحسن البصري أبو الوليد الباجى والخطابى.
وحكى هذا القول صاحب الكشاف عن الجماعة الذين حكاه صاحب البحر عنهم، ولكنه قال: وهو مذهب مالك والشافعي، ولم يقل وهو أحد قولى الشافعي، كقول صاحب البحر، وقد أشار السعد في حاشيته على الكشاف إلى أن الرواية
التى ذكرها الزمخشري وهم محض.
قال ولا يوجد في كتب المذهبين - يعنى مذهب مالك والشافعي - تردد في قتل الذكر بالانثى وأخرج البيهقى عن أبى الزناد أنه قال: كان من أدركته مِنْ فُقَهَائِنَا الَّذِينَ يُنْتَهَى(18/377)
إلى قولهم، منهم سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمَ بن محمد وأبو بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَخَارِجَةَ بْنَ زَيْدِ بن ثابت وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وسليمان بن يسار في جلة من سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل أن المرأة تقاد من الرجل عينا بعين وأذنا بأذن وكل شئ من الحراج على ذلك، وإن قلتها قتل بها، ورويناه عن الزهري وغيره وعن النخعي والشعبى وعمر بن عبد العزيز قال البيهقى وروينا عن الشعبى وإبراهيم خلافه فيما دون النفس وعن حمل بن مالك (وهو ابن النابغة الهذلى وهو يعد في بصريى الصحابة، وحديثه الآتى مخرج عند المدينين والبصريين) قال رضى الله عنه " كنت بين امرأتين فضربت إحدهما الاخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل بها " رواه أبو داود في الديات والنسائي في القود وابن ماجه في الديات والدارقطني، وليس لحمل حديث سواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمسطح الخشبة الكبيرة تركز في وسط الخيمة.
وإن ضرب بمثقل لا يقتل مثله غالبا كالقلم والحصى فمات لم يجب عليه القود ولا الدية ولا الكفارة، لانا نعلم أنه لا يموت منه، وإنما وافق موته ضربته، وإن ضربه بمثقل قد يقتل وقد لا يقتل كالسوط والعصا الخفيف فمات، فإن والى عليه الضرب إلى أن بلغ عددا يقتل مثله في الغالب على حسب حال المضروب، أو رمى به بأن يضربه خمسمائة أو ألفا، فإن ذلك يقتل في الغالب، وكذلك إذا كان المضروب نضو الخلق أو في حر شديد أو في برد شديد فضربه دون ذلك
فمات لم يجب عليه القود لانه عمد خطأ ويجب عليه الدية (فرع)
وإن خنقه بيده أو بحبل أو طرح على وجهه مخدة أو منديلا واتكأ عليه حتى مات - فإن فعل ذلك مدة يموت المخنوق من مثلها غالبا وجب على قاتلها القود، لانه تعمد قتله بما يقتل مثله غالبا.
وإن كان في مدة يجوز أن يموت مثله من مثلها، وبجوز أن لا يموت لم يجب عليه القود وعليه دية مغلظة، لان فعله عمد خطأ.
وإن خنقه يموت مثله من مثله ثم أرسله حيا ثم مات - فإن كان قد أورثه الخنق شيئا حتى لا يخرج نفسه، أو بقى متألما إلى أن مات، وجب على الخانق القود(18/378)
لانه مات بسراية فعله.
وإن جعل في رقبته خراطة حبل وتحت رجليه كرسيا وشد الحبل إلى سقف بيت وما أشبهه ونزع الكرسي من تحته فاختنق ومات وجب عليه القود لانه أوحى الخنق (مسألة) وإن طرحه في نار في حفير فلم يمكنه الخروج منها حتى مات وجب عليه القود لانه قتله بما يقتل غالبا.
وإن كانت النار في بسيط من الارض، فإن كان لا يمكنه الخروج منها لكثرتها أو لشدة التهابها، أو بأن كتفه وألقاه فيها، أو بأن كان ضعيفا لا يقدر على الخروج وجب عليه القود لانه قتله بما يقتل غالبا، وان أمكنه الخروج منها فلم يخرج حتى مات، ويعلم إمكان الخروج بأن يقول أنا أقدر على الخروج ولا أخرج لم يجب القود، وهل يجب عليه الدية فيه قولان:
(أحدهما)
يجب عليه الدية، لانه ضمنه بطرحه في النار، فلم تسقط عنه الضمان بتركه الخروج مع قدرته عليه، كما لو جرحه جراحة وأمكنه مداواتها فلم يداوها حتى مات.
(والثانى)
لا يجب عليه الدية لان النفس لم يخرج بالطرح بالنار، وإنما خرجت ببقائه فيها باختياره، فهو كما لو خرج منها ثم عاد إليها، ويفارق ترك المداواة لانه لم يحدث أمرا كان به التلف بخلاف بقائه في النار فإنه أحدث أمرا حصل به التلف، ولان البرء في الدواء أمر مظنون فلم تسقط به الدية، والسلامة بالخروج أمر متحقق فسقط بتركه الضمان، فإذا قلنا بهذا وجب على الطارح أرش ما عملت فيه النار من حين طرحه فيها إلى أن أمكنه الخروج فلم يخرج (فرع)
قال الشافعي رحمه الله: لو طرحه في لجة بحر وهو يحسن العوم أو لا يحسن العوم فغرق فيها فعليه القود.
وجملة ذلك أنه إذا طرحه في لجة البحر فهلك فعليه القود، سواء كان يحسن السباحة أو لا يحسن، لان لجة البحر مهلكة وان طرحه بقرب الساحل فغرق فمات - فإن كان مكتوفا أو غير مكتوف وهو لا يحسن السباحة - فعليه القود، وان كان يحسن السباحة وأمكنه أن يخرج فلم يخرج حتى غرق ومات أو طرحه فيما يمكنه الخروج منه فلم يخرج منه حتى مات فلا يجب عليه القود، وهل تجب عليه الدية؟ فِيهِ طَرِيقَانِ.
مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ(18/379)
فيه قولان كما لو طرحه في نار يمكنه الخروج منها فلم يخرج منها حتى مات، ومنهم من قال لا يجب عليه الدية قولا واحدا، لان العادة لم تجر بأن يخوض النار في النار، والعادة بأن الناس يخوضون في الماء.
وإن طرحه في البحر بقرب الساحل وهو ممن يمكنه الخروج منه فابتلعه حوت فلا قود عليه لانه كان يمكنه الخروج لو لم يبلعه الحوت، قيل عليه القود لانه لو لم يبتعله الحوت لما كان يتخلص.
والثانى لا يجب عليه القود بل عليه الدية، لان الهلاك لم يكن بفعله، والاول أصح وإن طرحه في ساحل بحر قد يزيد إليه الماء وقد لا يزيد فزاد الماء وأغرقه
لم يجب عليه القود لانه لا يقصد قتله، وبجب عليه دية مغلظة لانه عمد خطأ وإن كان الموضع لا يزيد الماء إليها فزاد وغرق لم يجب عليه القود، وتجب عليه دية مخففة لانه خطأ عمد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها من غير طعام ولا شراب فمات وجب عليه القود، لانه يقتل غالبا، وإن أمسكه على رجل ليقتله فقتله وجب القود على القاتل دون الممسك، لما روى أبو شريح الخزاعى " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إن من أعتى الناس على الله عز وجل من قتل غير قاتله أو طلب بدم الجاهلية في الاسلام أو بصر عينيه في النوم ما لم تبصره " وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال " ليقتل القاتل ويصبر الصابر " ولانه سبب غير ملجئ ضامه مباشرة فتعلق الضمان بالمباشرة دون السبب كما لو حفر بئرا فدفع فيها آخر رجلا فمات.
(فصل)
وإن كتف رجلا وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدى سبع فقتله لم يجب القود لانه سبب غير ملجئ فصار كمن أمسكه على من يقتله فقتله.
وان جمع بينه وبين السبع في زبية أو بيت صغير ضيق فقتله وجب عليه القود لان السبع يقتل إذا اجتمع مع الادمى في موضع ضيق وإن كتفه وتركه في موضع فيه حيات فنهسته فمات لم يجب القود، ضيقا كان(18/380)
المكان أو واسعا، لان الحية تهرب من الآدمى فلم يكن تركه معها ملجئا إلى قتله وان أنهشه سبعا أو حية يقتل مثلها غالبا فمات منه وجب عليه القود لانه ألجأه إلى قتله، وإن كانت حية لا يقتل مثلها غالبا ففيه قولان
(أحدهما)
يجب القود لان جنس الحيات يقتل غالبا
(والثانى)
لا يحب لان الذى السعة لا يقتل غالبا (الشرح) حديث أبى شريح الخزاعى رواه أحمد وأخرجه الدارقطني والطبراني
والحاكم، ورواه الطبراني والحاكم من حديث عائشة بمعناه، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مرفوعا " أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرام، ومتبع في الاسلام سنة جاهلية، ومطلب دم بغير حق ليهريق دمه " وأخرجه أحمد أيضا عن عبد الله بن عمر.
وكذلك ابن حبان في صحيحه بلفظ " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إن أعدى الناس على الله عز وجل من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية " وأخرج عمر بن أبى شبة عن عطاء بن يزيد قال " قتل رجل بالمزدلفة - يعنى في غزوة الفتح - فذكر القصة وفيها إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وما أعلم أحدا أعتى على الله من ثلاثة: رجل قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحل الجاهلية " وأبو شريح الخزاعى اسمه خويلد بن عمرو، وقيل عمرو بن خويلد، وقيل كعب بن عمرو، وقيل هانئ بن عمرو وأصحها خويلد بن عمرو، أسلم قبل فتح مكة وكان يحمل أحد ألوية بنى كعب بن خزاعة يوم الفتح، وكانت وفاته بالمدينة سنة ثمان وستين يعد في أهل الحجاز.
روى عنه عطاء بن يزيد الليثى وأبو سعيد المقبري وسفيان بن أبى العوجاء.
وقال مصعب: سمعت الواقدي يقول: كان أبو شريح الخزاعى من عقلاء أهل المدينة فكان يقول: إذا رأيتموني أبلغ من أنكحته أو نكحت إليه إلى السلطان فاعلموا إني مجنون فاكوونى، وإذا رأيتموني أمنع جارى أن يضع خشبته في حائطي فاعلموا أنى مجنون فاكوونى، ومن وجد لابي شريح سمنا أو لبنا أو جداية فهو له حل فليأكله ويشربه.
اتفق له الشيخان على حديثين.(18/381)
وروى له الترمذي ثلاثة أحاديث وأبو داود ثلاثة أحاديث وابن ماجه حديثان
وقوله " ان أعتى " وفي رواية: إن أعدى الناس وهما تفضيل، أي الزائد في التعدي أو العتو على غيره، والعتو التكبر والتجبر وقد أخرج البيهقى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده أنه قال: وجد في قائم سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاب: إن أعدى الناس على الله.
الحديث قال تعالى " وعتوا عتوا كبيرا " أي تجبروا وعصوا أما حديث " ليقتل القاتل ويصير الصابر " فقد رواه ابن المبارك عن معمر عن سفيان عن اسماعيل يرفعه قال " اقتلوا القاتل واصبروا الصابر " ورواه الدارقطني عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك " ورواه الشافعي من فعل علي رضى الله عنه " أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا وأمسكه آخر: قال يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى يموت " وأخرجه الدارقطني من طريق الثوري عن اسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر، ورواه معمر وغيره عن اسماعيل.
قال الدارقطني والارسال أكثر.
وأخرجه أيضا البيهقى ورجح المرسل وقال إنه موصول غير محفوظ وقال في بلوغ المرام ورجاله ثقات وصححه ابن القطان وقد روى أيضا عن اسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعا، والصواب عن اسماعيل قَالَ " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الحديث وقوله " ويصبر الصابر " معناه يحبس الحابس.
وفي أسماء الله تعالى الصبور وهو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام وهو من أبنية المبالغة، ومعناه قريب من معنى الحليم، والفرق بينهما أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم وصبره عن الشئ حبسه.
قال الخطئية: قلت لها أصبرها جاهدا ويحك أمثال طريف قليل
والصبر نصب نفس الانسان للقتل وقد مضى في كتاب الايمان معنى اليمين الصبر ومعان في كلمة الصبر، ومنه صبر النفس أي حبسها عند الجزع.
قال تعالى(18/382)
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) وقوله " أرض مسبعة " بالاضافة وفتح الميم أي ذات سباع، والزبية حفرة تحفر لينشب فيها السبع وجمعها زبا.
قال ابن بطال فيها لغتان الضم والكسر، ونهسته بالسين المهملة، أي أخذته بمقدم أسنانها، ونهس الحية عضها.
قال الراجز: وذات قرنين طحون الضرس تنهس لو تمكنت من نهس ويقال نهسته بالشين.
قال الزمخشري في الاساس: الفرق أن النهس بأطراف الاسنان والنهش بالاضراس.
أما الاحكام فإنه إذا حبس حرا وأطعمه وسقاه فمات وهو في الحبس فلا قود عليه ولا دية، سواء مات حتف أنفه أو بسبب كلدغ الحية وسقوط الحائط وما أشبهه.
وقال أبو حنيفة ان كان صغيرا فمات حتف أنفه فلا شئ عليه، وان مات بسبب كلدغ الحية وسقوط الحائط فعليه الديه.
دليلنا أنه حر فلا يضمنه باليد كما لو مات حتف أنفه، وأما إذا حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما حتى مات نظرت - فإن حبسه عن ذلك مدة يموت مثله في مثلها غالبا - وجب عليه القود لانه قتله بما يقتل غالبا، فهو كما لو قتله بالسيف، وإن كان مدة لا يموت مثله في مثلها بمنع الطعام والشراب فلا قود عليه ولا دية لانا نعلم أنه مات بسبب آخر، ويعتبر حال المجوس: فإن حبسه وهو جائع فإنه لا يصبر عن الطعام إلا المدة القليلة، وإن كان شبعان فإن يصبر أكثر من مدة الجائع ويعتبر الطعام على انفراده والشراب على انفراده لان الانسان يصبر عن الطعام أكثر مما يصبر عن الشراب.
وإن أمكنه الخروج إلى الطعام والشراب فلم يخرج حتى مات قال الطبري فلا قود.
أما إذا أمسك رجل رجلا فجاء آخر فقتله وجب القود على القاتل دون المسمك إلا أن الممسك إن كان أمسكه مداعبة أو ليضربه فلا إثم عليه ولا تعزير وإن أمسكه ليقتله الآخر أثم بذلك وعزر.
هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ.
وقال ربيعة يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت.
وقال مالك إن حبسه ليضربه الآخر أو أمسكه ليضربه أو أمسكه مداعبة فجاء الآخر فقتله فلا قود عليه ولا دية، وان أمسكه ليقتله الآخر فعليه القود، ومذهب أحمد أنه(18/383)
لا خلاف في أن القاتل يقتل، لانه قتل من يكافئه عمدا بغير حق.
وأما الممسك فإن يعلم أن القاتل يقتله فلا شئ عليه لانه متسبب والقاتل مباشر فسقط حكم المتسبب به، وان أمسكه له ليقتله مثل أن ضبطه له حتى ذبحه له، فأختلف الرواية عن أحمد، فروى عنه أنه يحبس حتى يموت، وهو قول عطاء وربيعة، وروى ذلك عن علي، وروى عن أحمد أنه يقتل أيضا، وهو قول مالك.
قال سليمان بن موسى الاجتماع فينا أنه يقتل لانه لو لم يمسكه ما قدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله، فالقتل حاصل بفعلهما فكان شريكين فوجب عليهما القصاص كما لو جرحاه.
دَلِيلُنَا حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إذا أمسك الرجل وقتله الاخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك " ولانه حبسه حتى الموت فيحبس حتى الموت، كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى يموت.
وقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) فلو أوجبنا على الممسك القود كنا قد اعتدينا عليه بأكثر مما اعتدى، وهذا يدخل
تحت طائلة وعيده صلى الله عليه وسلم حيث يقول " ان من أعتى الناس على الله من قتل غير قاتله، أو طالب بدم الجاهلية في الاسلام، أو بصر عينه في النوم ما لم تبصره " فلو قتل الولى الممسك لكان قتل غير قاتله، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم بصبر الصابر التعزيز بالحبس، لانه سبب غير ملجئ اجمتع مع المباشرة فتعلق الضمان بالمباشرة دون السبب، كما لو حفر بئرا أو نصب سكينا فدفع آخر عليها رجلا فمات، ولانه لو كان بالامساك شريكا لكان إذا أمسك الرجل امرأة وزنى بها آخر أنه يجب عليهما الحد، فلما لم يجب الحد على الممسك لم يجب القود على الممسك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان سقاه سما مكرها فمات وجب عليه القود لانه سبب يقتل(18/384)
غالبا فهو كما لوجرجه جرحا يقتل غالبا، وان خالطه بطعام وتركه في بيته فدخل رجل فأكله ومات لم يجب عليه القود كما لو حفر بئرا في داره فدخل رجل بغير اذنه فوقع فيها ومات، وان قدمه إليه أو خلطه بطعام الرجل فأكله فمات ففيه قولان
(أحدهما)
لا يجب عليه القود لانه أكله باختياره فصار كما لو قتل نفسه بسكين
(والثانى)
يجب لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، فأهدت إليه يهودية بخبير شاة مصلية فأكل منها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، ثم قال ارفعوا أيديكم فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة، فأرسل إلى اليهودية فقال ما حملك على ما صنعت قالت قلت: ان تكن نبيا لم يضرك الذي صنعت، وان كانت ملكا أرحت الناس منك، فأكل منها بشر بن البراء بن معرور فمات، فأرسل إليها فقتلها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما زلت أجد من الاكلة التي أكلت بخيبر،
فهذا أو ان انقطاع أبهرى " ولانه سبب يفضى إلى القتل غالبا فصار كالقتل بالسلاح وإن سقاه سما وادعى أنه لم يعلم أنه قاتل ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يجب عليه القود لان السم يقتل غالبا
(والثانى)
لا يجب لانه يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل وذلك شبهة فسقط بها القود
(فصل)
وان قتله بسحر يقتل غالبا وجب عليه القود لانه قتله بما يقتل غالبا فأشبه إذا قتله بسكين، وان كان مما يقتل ولا يقتل لم يجب القود لانه عمد خطأ فهو كما لو ضربه بعصا فمات.
(الشرح) حديث أبى هريرة أخرجه أبو داود حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبى سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدت له يهودية بخيبر.
الحديث هكذا جاء مرسلا.
ورواه حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة متصلا.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن زينب بنت الحرث اليهودية امرأة سلام بن مشكم أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مشوية قد سمتها وسألت أي اللحم أحب إليه؟ فقالوا الذارع، فأكثرت من السم في الذراع، فما انتهش من ذراعها(18/385)
أخبره الذراع بأنه مسموم فلفظ الاكلة، ثم قال: اجمعوا لى من هنها من اليهود فجمعوا له فقال لهم: إني سائلكم عن شئ فهل أنتم صادقي فيه؟ قالوا نعم يا أبا القاسم فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أبوكم؟ قالوا أبونا فلان، قال كذبتم أبوكم فلان، قالوا صدقت وبررت.
قال هل أنتم صادقي عن شئ إن سألتكم عنه قالوا نعم يا أبا القاسم وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أهل النار؟ فقالوا نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخسئوا فيها فو الله لانخلفكم فيها أبدا
ثم قال، هل أنتم صادقي عن شئ إن سألتكم عنه؟ قالوا نعم: قال أجعلتم في هذه الشاة سما؟ قالوا نعم، قال فما حملكم على ذلك؟ قالوا أردنا إن كنت كاذبا نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك، وجئ بالمرأة إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: أردت قتلك، فقال ماكان الله ليسلطك على.
قالوا ألا نقتلها؟ قال لا، ولم يتعرض لها ولم يعاقبها، واحتجم على الكاهل، وأمر من أكل منها فاحتجم، فمات بعضهم.
واختلف في قبل المرأة، فقال الزهري أسلمت فتركها، ثم قال معمر: والناس تقول قتلها النبي صلى الله عليه وسلم، إلا رواية حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة أنه قتلها لما مات بشر بن البراء، ويمكن التوفيق بين الروايتين بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقتلها أولا فلما مات بشر بن البراء قتلها.
وقد اختلف الروايات في هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منها أم لا؟ فأكثر الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أكل منها وبقى بعد ذلك ثلاث سنين، حتى قال في وجعه الذي مات فيه مازلت أجد من الاكله التي أكلت من الشاة يوم خيبر، فهذا أوان انقطاع الابهر منى.
قال الزهري: فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا.
أما اللغات فالمصلية هي المشوية، والصلا والصلاء، بتفح الصاد مقصورا وكسرها ممدودا، ومنه قوله تعالى " سيصلى نارا ذات لهب " وقوله " جهنم يصلونها فبئس القرار " وقوله " مازلت أجد من الاكلة " أي أشتكى، والاكلة بضم الهمزة هي اللقمة(18/386)
والابهر عرق إذا انقطع مات صاحبه وهو أبهران يخرجان من القلب ثم تتشعب منهما سائر الشرايين.
هكذا يقول ابن ابطال، وبالرجوع إلى علم التشريح
بحد أن القلب بمتد من أحد جانبيه من أعلاه شريان رئوى يدفع الدم إلى الرئتين لاحداث عملية تبادل الغازات وهو يمتد من البطين الايمن إلى الرئتين، والعرق الآخر وهو يمسى الاورطى، ويمتد من البطين الايسر إلى أجزاء الجسم ويمتد منهما الشرايين والاوردة التي هي مجار للدم.
أما الاحكام فإن كتف رجلا أو قيده فأكله السبع ففيه ثلاث مسائل ذكرها الشيخ أبو حامد.
إحداهن إذا قيده وكتفه وطرحه في أرض مسبعة فجاء السبع فأكلة فإنه لا قود على الطارح له ولا دية، لان السبع أكله باختياره، ولان له اختيارا، كما لو مسكه فقتله آخر (الثانية) إذا قيده في صحراء ثم رمى بالسبع عليه أو رمى به فأكله فلا قود عليه ولادية، لان من طبع السبع إذا رمى به على انسان أو رمى انسان عليه أن ينفر عنه، فإذا لم ينفر عنه كان أكله له باختياره (الثالثة) إذا كان السبع في مضيق أو بيت أو بئر أو زنية فرمى بالانسان عليه، أو كان الانسان في المضيق أو في البيت أو في البئر أو في الزبية فرمى بالسبع عليه فضربه السبع فمات - فإن ضربه السبع ضربا يقتل مثله في الغالب - وجب على الرامى القود لانه قد اضطر السبع إلى قتله، وان ضربه ضربا لا يقتل مثله في الغالب فمات لم يجب على الرامى القود لان الغالب منه السلامة، ويجب عليه الدية في ماله.
وكذلك حكم النمر وما في معناه.
وان أمسك السبع أو النمر وأفرسه اياه فأكله فعليه القود، لانه قد اضطره إلى ذلك (مسألة) إذا قيد رجلا وطرحه في أرض ذات حيات فنهسته حية منها فمات فلا قود عليه ولا دية، سواء كان في موضع واسع أو ضيق، وكذلك إذا رمى به على الحية أو رمى بالحية عليه، لان الحيات والعقارب من طبعها النفور من الانسان.
وان أخذ الحية أو العقرب بيده وأنهشها انسانا.
قال الشافعي رحمه الله ضغطها أو لم يضغطها فنهشه ومات - فإن كان من(18/387)
الحيات التي تقتل في الغالب كحيات الكوبر أو الحيات السامة ذات الرأس المدببة وجب عليه القود، لانه توصل إلى قتله بما يقتل غالبا، فهو كما لو قتله بالسيف.
وإن كان مما لا يقتل غالبا كثعابين مكة والحجاز وأفاعي مصر التي تبتلع الدواجن أو التي تعيش تحتت قضبان السكك الحديدة وتعيش على ابتلاع العظاء (1) والضفدع ففيه قولان:
(أحدهما)
لا يجب عليه القود لانه لا يقتل غالبا، ويجب عليه دية مغلطة لانه شبه عمد.
(والثانى)
يجب عليه القود لان حبسها يقتل غالبا فهو بمنزلة الجراح (فائدة) الحيات منها السا وتعرف بدقة رأسها وغلظ عنقها وغير السام وتعرف بدقة عنقها وفرطحة رأسها أشبه بالابهام، ونصف السام وهى ما يكون شكلها وسطا بين السام وغير السام، وبعض من يدعى التصوف يأكلون الثعابين وهي من النوع غير السام لادعاء الكرامة، وهي لعمر الله مخرقة وإلحاد لانهم يجعلون من أكل الخبائث المحرمة مظهرا من مظاهر الرضوان والاكرام (مسألة) إذا سقى رجلا سما فمات المسقي فلا يخلو إما أن يكرهه أو لا يكرهه فإن أكرهه على شربه بأن صبه في حلقه مكرها له على ذلك نظرت - فإن أقر الساقى أنه سم يقتل مثله غالبا - وجب عليه القود، لان قتله بما يقتل غالبا، فهو كما لو قتله بالسيف.
وان ادعى ولى المقتول أنه يقتل غالبا وأنكر الساقى أنه يقتل غالبا - فإن أقام ولى المقتول بينة أنه يقتل غالبا - وجب القود على الساقى لانه ثبت أنه يقتل غالبا وان أقام ولى المقتول بينة أنه يقتل نحيف الخلق ولا يقتل قوى الخلق لم يجب
عليه القود وإنما يجب عليه دية مغلظة، وإن لم تكن هناك بينة فالقول قول الساقى مع يمينه أنه لم يكن يقتل غالبا، لان الاصل عدم القود، فإذا حلف لم يجب عليه القود وعليه دية مغلظة.
__________
(1) وهي ما يسمى بالسحال عند العامة(18/388)
وإن قامت البينة أنه كان يقتل غالبا أو اعترف الساقى بذلك إلا أنه أدعى أنه لم يعلم أنه يقتل غالبا وقت السقى، فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يجب عليه القود لان ما ادعاه محتمل، وذلك شبهة توجب سقوط القود عنه.
(والثانى)
يجب عليه لانه قتله بما يقتل غالبا فلا يصدق في دعواه كما لو جرحه وان خلط السم بطعام أو شراب وأكرهه فأوقره في حلقه فمات، فإن كان الطعام أو الشراب قد كسر حدة السم تلقائيا، فإن لم يكرهه على ذلك وإنما ناوله اياه فشربه، نظرت فإن كان الشارب صبيا لا يميز أو كبيرا مجنونا أو أعجميا يعتقد وجوب طاعة الامر، فعلى الرافع إليه الضمان، لانه كالآلة حيث اعتقد طاعته فيه، وان كان عاقلا مميزا فلاضمان على الرافع لانه قتل نفسه باختياره وتفريطه وان خلطه به ولم يكسر الطعام حدة السم فأكله انسان ومات نظرت - فإن كان الطعام الذي خلط فيه السم وقدمه إلى انسان وقال كله فأكله، فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
(أحدهما)
يجب على القود لما روى أبى هريرة " أن يهودية بخيبر أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية فأكل منها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رضى الله عنهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع تخبرني أن بها سما، فأرسل إلى اليهودية وقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت ان
كنت نبيا لم يضرك الذي صنعت، وان كنت ملكا أرحت الناس منك، فأكل منها بشر بن البراء بن مغرور فمات، فأرسل الني صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فقتلها، فقال صلى الله عليه وسلم مازالت أكلة خبير تعاودني، فهذا أو أن قطعت أبهرى " ولان العادة جرت أن من قدم إليه طعام فانه يأكل منه، فصار كأنه ألجأه إلى أكله فوجب عليه القود، كما لو أكرهه عليه
(والثانى)
لا يجب عليه القود لانه أكله باختياره، فصار كما لو قتل نفسه بسكين، فإذا قلنا بهذا فهل تجب عليه الدية؟ اختلف أصحابنا فيه، فقال القاضى أبو الطيب فيه قولان، أحدهما لا يجب عليه الدية لانه هو الجاني على نفسه.
والثانى تجب عليه الدية لان التلف حصل بسبب منه فصار كما لو حفر بئرا في(18/389)
طريق الناس فهلك به انسان.
وقال الشيخ أبو حامد: تجب عليه الدية قولا واحدا لما ذكرناه ولا يعرف ههنا قولان، وإن خلظ السم بطعامه وقدمه إلى رجل قال فيه سم يقتل غالبا فأكله فمات فلا قود عليه ولا دية لانه قتل نفسه.
وإن خلط السم بطعام وقدمه إلى صبى لا يميز أو إلى بالغ مجنون أو على أعجمى لا يعقل ولا يميز وقال: كله فإن فيه سما قاتلا فأكله فمات وجب عليه القود لانه بمنزلة ما لو قتله بيده.
وإن خلط سما بطعام له في بيته فدخل بيته رجل وأكل الطعام ومات لم يجب عليه قود ولا دية.
لان الآكل فرط وتعدى بأكل طعام غيره بغير إذنه.
وان خلط السم بطعام الغيره فجاء صاحب الطعام فأكل طعامه ولم يعلم بالسم ومات، وجب على الذي خلط السم قيمة الطعام لانه أفسده، وهل يجب عليه القود في الذي أكله؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان، كما لو خلطه بطعام نفسه وقدمه إلى من أكله، لان الانسان يأكل الطعام بحكم العادة والحاجة، فصار كما
لو خلطه بطعام ودعاه إلى أكله.
ومنهم من قال لا يجب عليه قولا واحدا لانه لم يوجد منه أكثر من افساد الطعام (فرع)
إذا سحر رجل رجز فمات المسحور سئل الساحر عن سحره، فإن قال سحر يقتل غالبا وقد قلت به وجب عليه القود.
وقال أبو حنيفة لا يحب عليه القود.
دليلنا أنه قتل بما يقتل به غالبا.
قال العمرانى هو كما لو قتله بالسيف وان قال سحر لا يقتل وجب عليه دية مخففة لانه أخطأ.
وان قال قد يقتل وقد لا يقتل والغالب منه السلامة، وجبت عليه دية مغلظة في ماله.
وان قال الساحر قتلت بسحري جماعة ولم يعنين من قتل لم يقتل.
وقال أبو حنيفة يقتل جدا، لانه سعى في الارض بالفساد هو اظهار السلاح واخافة الطريق.
وأما القتل فليس منه وللحرابة حكمها على ما سيأتي ان شاء الله وأعان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أكره رجل على قتل رجل بغير حق فقتله، وجوب القود على المكره، لانه تسبب إلى قتله بمعنى يفضى إلى القتل غالبا، فأشبه إذا رماه(18/390)
بسهم فتله وأما المكره ففيه قولان
(أحدهما)
لا يجب عليه القود، لانه قتله للدفع عن نفسه فلم يجب عليه القود كما لو قصده رجل ليقتله فقتله للدفع عن نفسه
(والثانى)
أنه يجب عليه القود وهو الصحيح، لانه قتله ظلما لاستبقاء نفسه، فأشبه إذا اضطر إلى الاكل فقتله ليأكله.
وأن أمر الامام بقتل رجل بغير حق - فإن كان المأمور لا يعلم أن قتله بغير حق - وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص والدية على الامام، لان المأمور معذور في قتله، لان الظاهر أن الامام لا يأمر الا بالحق.
وان كان يعلم أنه يقتله بغير وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص أو الدية على المأمور
لانه لا يجوز طاعته فيما لا يحل، والدليل عليه ماروى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " وقد روى الشافعي رحمه الله إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه " فصار كما لو قتله من غير أمره، وأن أمره بعض الرعية بالقتل فقتل وجب على المأمور القود، على أنه يقتله بغير حق أو لم يعلم، لانه لا تلزمه طاعته، فليس الظاهر أنه يأمره بحق فلم يكن له عذر في قتله، فوجب عليه القود.
وان أمر بالقتل صبيا لا يميز أو أعجميا لا يعلم أن طاعته لا تجوز في القتل بغير حق فقتل وجب القصاص على الآمر، لان المأمور ههنا كالآلة للآمر، ولو أمره بسرقة مال فسرقه لم يجب الحد على الآمر، لان الحد لا يجب الا بالمباشرة والقصاص يجب بالتسبب والمباشرة
(فصل)
وان شهد شاهدان على رجل بما يوجب القتل فقتل بشهادتهما بغير حق، ثم رجعا عن شهادتهما، وجب القود على الشهود، لما روى القاسم بن عبد الرحمن " أن رجلين شهدا عند على كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما، فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما " وأغرمهما دية ديه، ولانهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فوجب عليهما القود، كما لو جرحاه فمات.(18/391)
(الشرح) الحديث الاول أخرجه أحمد " عن عبد الله بن الصامت قال: أراد زياد أن يبعث عمران بن حصين على خراسان فأبى عليه فقال له أصحابه، أتركت خراسان أن تكون عليها؟ قال فقال إنى والله ما يسرني أن أصلى بحرها ويصلون ببردها، إنى أخاف إذا كنت في نحر العدو أن يأتيني بكتاب من زياد فإن أنا
مضيت هلكت، وإن رجعت ضربت عنقي، قال فأراد الحكم بن عمرو الغفاري عليها، قال فانقاد لامره، قال فقال عمران: ألا أحد يدعو إلى الحكم؟ قال فانطلق الرسول، قال فأقبل الحكم إليه فدخل عليه فقال عمران للحكم " أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاطاعة لاحد في معصية الله تبارك وتعالى؟ قال نعم، فقال عمران الحمد لله أو الله أكبر " وفي رواية عن الحسن أن زيادا استعمل الحكم الغفاري على جيش، فأتاه عمران بن حصين فلقيه بين الناس، فقال أتدر لم جئتك؟ فقال له لم؟ فقال أتذكر قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل الذي قال له أميره ارم نفسك في النار فأدرك فاحتبس، فأخبر بذلك رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لو وقع فيها لدخلا النار جميعا، لاطاعة في معصية الله تبارك وتعالى، قال نعم، قال انما أردت أن أذكرك هذا الحديث.
رواه أحمد بألفاظ، والطبراني باختصار وفي بعض طرقه " لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الهيثمى، ورجال أحمد رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن عمران والحكم الغفاري أيضا.
قال السيوطي وإسناده حسن.
وأخرجه أحمد وأبو يعلى عن أنس " أن معاذ بن جبل قال يارسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك ولا يأخذون بأمرك، فما تأمرنا في أمرهم؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لاطاعة لمن لم يطع الله عز وجل " وفيه عمرو بن زينب ولا يعرف وبقية رجاله رجال الصحيح.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم من حديث على رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الانصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شئ فقال اجمعوا لى حطبا، فجمعوا، ثم قال أوقدوا نارا فأوقدوا، ثم قال ألم يأمركم رسول الله أن تسمعوا وتطيعوا؟ قالوا بلى(18/392)
قال فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنما فررنا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا " وقال " لاطاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف " وفي حديث معاذ بن جبل عند أحمد " لاطاعة لمن لم يطع الله " وفي حديث عبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني " لاطاعة لمن عصى الله " ولفظ البخاري " فإذا أمر بمعصية فلا سمع بمعصية فلا سمع ولاطاعة " وخبر القاسم بن عبد الرحمن مضى في الايمان أما الاحكام فإذا أمر الامام رجلا أن يقتل رجلا بغير حق فقتله فلا يخلو إما أن يكرهه على قتله أو لا يكرهه، فإن لم يكرهه بل قال له اقتله، فان كان المأمور يعلم أنه أمر بقتله بغير حق لم يحل له قتله، لقوله صلى الله عليه وسلم " لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق " وقال صلى الله عليه وسلم " من أمركم من الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه " فان خالف وقتله المأمور بذلك وجب عليه العقود والكفارة لانه قتله بغير حق، لا يلحق الامام الاثم لقول صلى الله عليه وسلم " من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى " هذا نقل البغدادين، وقال الخراسانيون هل يكون مجرد الامر من الامام أو السلطان إكراها؟ فيه وجهان.
وأما إذا كان المأمور لا يعلم أنه أمر بقتله بغير حق وجب على الامام القود والكفارة، لان الامام لا يباشر القتل بنفسه، وانما يأمر به غيره، فإذا أمر غيره وقتله بغير حق تعلق الحكم بالامام كما لو قتله بيده.
وأما المأمور فلا يجب عليه
اثم ولاقود ولا كفارة لان اتباع أمر الامام واجب عليه، لان الظاهر أنه لا يأمر الا بحق.
قال الشافعي رضى الله عنه وأرضاه وأحب له لو كفر، وأما أذا أمره أو أكرهه الامام على القتل وعلم المأمور أنه يقتل بغير حق فلا يجوز للمأمور القتل لما ذكرناه إذ لم يكره، فان قتل فانه يأثم بذلك ويفسق، ويجب على الامام القود(18/393)
والكفارة في ماله، وأما المكره المأمور فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يجب عليه القود، وهو قول أبى حنيفة لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " وَلِأَنَّهُ قتله لاستبقاء نفسه فلم يجب عليه القود كما لو قصد رجل نفسه فلم يمكنه دفعه إلا بقتله
(والثانى)
يجب عليه القود، وبه قال مالك وأحمد رضى الله عنهما وَهُوَ الْأَصَحُّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فمن قتل بعمده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا اقتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " وهذا قاتل، ولانه قصد قتل من يكافئه لاستبقاء نفسه فوجب عليه القود كما لو جاع وقتله ليأكله، ولانه لو كان رجلا في مضيق أو بيت فدخل عليهما أسد أو سبع فدفع أحدهما صاحبه إليه خوفا على نفسه فأكله السبع أو الاسد لوجب القصاص على الدافع، وكذلك لو كان جماعة في البحر فخافوا الغرق فدفعوا واحدا منهم في البحر لتخف السفينة وغرق ومات وجب عليهم القود، وإن كان ذلك لاستبقاء أنفسهم.
وكذلك هذا مثله.
فإذا قلنا يجب على المأمور القود كان الولى بالخيار بين أن يقتل المكره والمكره وبين أن يعفو عنهما ويأخذ منهما الدية.
وإن قلنا لا يجب على المأمور المكره القود فعليه نصف الدية لانه قد باشر القتل، ويجب على كل واحد منهما كفارة على القولين معا.
هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون إذا قلنا لا يجب على المأمور القود فهل يجب عليه نصف الدية؟ فيه وجهان.
فإن قلنا عليه نصف الدية كان عليه الكفارة وإن قلنا لا تجب عليه وعليه نصف الدية فهل تجب عليه الكفارة فيه وجهان.
إذا ثبت هذا فإنه لافرق بين الامام وبين النائب عنه في ذلك، لان طاعته تجب كما يجب طاعة الامام، وكذلك إذا تغلب رجل على بلد أو اقليم بتأويل.
وادعى أنه الامام كالامام الذي نصبه الخوارج، فحكمه حكم الامام في ذلك، لان الشافعي رضى الله عنه لايرد من أفعاله الا ما يرد من أفعال امام العدل وكذلك قاضيهم، فإذا ثغلت رجل على بلد بغير تأويل بل باللصوص وأمر رجلا بقتل رجل بغير حق، أو أمره رجل من الرعية بقتل رجل بغير حق فان لم يكرهه(18/394)
الآمر على القتل فقتله وجب على المأمور القاتل القود والكفارة سواء علم أنه أمره بقتله بحق أو بغير حق، لانه لا يجب عليه طاعته بخلاف الامام، ولا يلحق الآخر الا الاثم للمشاركة بالقول.
وأما القود والكفارة والدية فلا تجب عليه، لانه لم يلجئه إلى قتله.
وأما إذا أكرهه على قتله وجب على الآمر القود والكفارة لانه توصل إلى قتله بالاكراه، فهو كما لو قتله بيده، وأما المأمور فان كان يمكنه أن يدفع الامر بنفسه أو بعشيرته أو بمن يستعين به فلا يجوز له أن يقتل، وان قتله فعليه القود والكفارة، وان لم يمكنه أن يدفع الامر بنفسه أو بعشيرته أو بمن يستعين به فلا يجوز له أن يقتل، وان قتل فعليه القود والكفارة، وان لم يمكنه أن يدفع الامر فقتل فهل يجب عليه القود؟ فاختلف أصحابنا فيه، فقال أكثرهم فيه قولان كما قلنا في الذي أكرهه الامام.
ومنهم من قال يجب عليه القود قولا واحدا، لان الذي أكرهه الامام له شبهة في أمر
الامام لجواز أن يكون الامام قد علم بأمر يوجب القتل على المقتول، وان لم يعلم به المأمور.
وطاعة الامام تجب بخلاف المتغلب باللصوصية وآحاد الرعية - فانه لا يجوز له ذلك، ولا يجب على المأمور طاعته ومن أصحابنا الخراسانيين من قال لا يجب القود على من أكرهه الامام قولا واحدا، ويجب القود على من أكرهه غير الامام قولا واحدا لما ذكرناه من الفرق بينهما، والطريق الاول أصح إذا ثبت هذا فان الشافعي رحمه الله قال في الام، ولو أمر الامام رجلا يقتل رجل ظلما ففعل المأمور ذلك كان عليهما القود واختلف أصحابنا في تأويله فقال أبو إسحاق أراد إذا أكرهه وأجاب على أحد القولين.
ومنهم من قال لم يرد بذلك إذا أكرهه لانه ذكر الاكراه بعد ذلك، وانما تأويله أن يقتل مسلما بكافر والامام والمأمور يعتقدان أنه لا يقتل به الا أن المأمور أعتقد أن الامام قد أداه اجتهاده إلى ذلك فيجب عليهما القود أما الامام فلانه ألجأه إلى قتله بأمر لان طاعته أمر واجب، وأما المأمور فلان القتل إذا كان محرما لم يجز له أن يفعله، وان كان الامام يرى إباحته فليزمهما القود(18/395)
(فرع)
واختلف أصحابنا في كيفية الاكراه على القتل، فقال ابن الصباغ لا يكون الاكراه عليه إلا بالقتل أو بجرح يخاف منه التلف، فأما إذا أكرهه بضرب لا يموت منه أو بأخذ مال فلا يكون إكراها، لان ذلك لا يكون عذرا في إتلاف النفس بحرمتها، ولهذا يجب عليه الدفع عن نفسه في أحد الوجهين، ولا يجب عليه الدفع عن ماله، بل يجب عليه بذله لاحياء نفس غيره وقال الشيخ أبو حامد في التعليق: إذا أكرهه بأخذ المال على القتل كان
إكراها كما قلنا في الاكراه على الطلاق وقال الطبري: إذا أكرهه على القتل بما لا تحتمله نفسه كان اكراها، كما قلنا في الطلاق.
(فرع)
وان أمر خادمه الصغير الذي لا يميز، أو كان أعجميا لا يميز ويعتقد طاعته في كل ما يأمره به بقتل رجل بغير حق فتقله وجب القود والكفارة على الآمر ولا يجب على المأمور شئ: لان المأمور كالآلة فصار كما لو قتله بيده.
وكذلك إذا كان المأمور يعتقد طاعته كل من أمره فالحكم فيه وفيما سبقه واحد.
ولو أمر بسرقة نصاب لغيره من حرز مثله فسرقه لم يجب على الامر القطع، لان وجوب القصاص أكد من وجوب القطع في السرقة، ولهذا يجب القصاص في السبب ولا يجب القطع في السبب.
وان قال للصغير الذي لا يميز أو الاعجمي الذي يعتقد طاعته في كل ما يأمره به اقتلني فقتله، كان دمه هدرا لانه آلة له فهو كما لو قتل نفسه، وتجب عليه الكفارة وان أمر الصغير الذي لا يميز أو البالغ المجنون أن يذبح نفسه فذبحها أو يخرج مقتلا من نفسه فأخرجه فمات - فإن كان عبده - لم يجب عليه ضمانه لانه ملكه، ولكنه يأثم وتجب عليه الكفارة، وان كان عبدا لغيره وجبت عليه قيمته والكفارة ويجب عليه القود.
وان قال للاعجمي الذي يعتقد طاعة كل من يأمره اذبح نفسك فذبحها لم يجب على الامر الضمان، لانه لا يجوز أن يخفى عليه بأن قتل نفسه لا يجوز، وان جاز أن يخفى عليه أن قتل غيره يجوز.
وان أمره أن يخرج مقتلا من نفسه فجرحه ومات فإن الشيخ أبا حامد ذكر أن حكمه حكم ما لو أمر بقتل نفسه.
وذكر(18/396)
ابن الصباغ في الشامل أنه يجب على الامر الضمان لانه يجوز أن يخفى عليه أنه
يقتله بخلاف أمره له بقتله لنفسه وان أكره رجلا على اتلاف مال لغيره فإن الضمان ينفرد على الامر، وهل على المالك أن يطالب المأمور؟ فيه وجهان حكاهما الطبري
(أحدهما)
له أن يطالبه لانه باشر الاتلاف، فعلى هذا يرجع المأمور على الامر
(والثانى)
ليس للمالك مطالبة المأمور لانه آلة للآمر (مسألة) قوله " وان شهد شاهدان الخ " فجملة ذلك أنه إذا شهد شاهدان على رجل بما يوجب القتل بغير حق فقتل بشهادتهما وعمد الشهادة عليه وعلما أنه يقتل بشهادتهما وجب عليهما القود، لما روى أن رجلين شهدا عند علي رضى الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما، فقال لو أعلم أنكما تعمدتما الشهادة عليه لقطعت أيديكما، وغرمهما الدية في اليد، ولانهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فهو كما لو جرحاه فمات (فرع)
لو قال الرجل اقطع يدى فقطع يده فلا قود على القاطع ولا دية، لانه أذن له في اتلافها، فهو كما لو أذن له في أتلاف ماله فأتلفه، وان قال له اقتلني أو أذن له في قطع يده فقطعها فسرى القطع إلى نفسه فمات لم يجب عليه القود.
وأما الدية فقال أكثر أصحابنا يبنى على القولين متى تجب دية المقتول فإن قلنا تجب في آخر جزء من أجزاء حياته لم تجب ههنا.
وان قلنا انها تجب بعد موته وجبت ديته لورثته.
قال ابن الصباغ.
وعندي في هذا نظر لان هذا الاذن ليس بإسقاط لما يجب بالجناية، ولو كان اسقاطا لما سقط، كما لا يصح أن يقول له أسقطت عنك ما يجب لي بالجناية أو اتلاف المال، وانما سقط لوجود الاذن فيه، ولافرق بين النفس فيه والاطراف، وهذا يدل أن الدية تسقط عنده قولا واحدا، وان قصده فمات - فان كان بغيره أمره - وجب عليه القود، وان كان بأمره لم يجب
عليه قود ولا دية واحدا لان القصد مباح بخلاف القتل.
والله أعلم(18/397)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب القصاص في الجروح والاعضاء)
يجب القصاص فيما دون النفس من الجروح والاعضاء، والدليل عليه قوله تعالى وكتبنا عليهما فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالاتف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص) وروى أنس رضى الله عنه " أن الربيع بنت النضر بن أنس كسر ثينه جارية فعرضوا عليهم الارش فأبوا، وطلبوا العفو فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يارسول الله أتكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كتاب الله القصاص " قال فعفا القوم ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لابر قسمه " ولان ما دون النفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوب القصاص
(فصل)
ومن لا يفاد بغيره في النفس لا يقاد به فيما دون النفس، ومن اقتيد بغيره في النفس اقتيد به فيما دون النفس لانه لما كان ما دون النفس كالنفس في وجوب القصاص كان كالنفس فيما ذكرناه
(فصل)
وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة وجب عليهم القصاص، لانه أحد نوعي القصاص، فجاز أن يجب على الجماعة بالجناية ما يجب على واحد كالقصاص في النفس وإن تفرقت جناياتهم بأن قطع بعض العضو وأبانه الآخر لم يجب القصاص على واحد منهما، لان جناية كل واحد منهما في بعض العضو، فلا
يحرز أن يقتص منه في جميع العضو (الشرح) حديث أنس رضى الله عنه أخرجه البخاري في التفسير عن عبد الله ابن منير وفي الصلح وفي الديات عن الانصاري وعن محمد بن سلام أخرجه مسلم في الحنود عن أبى بكر واخرجه أبو داود في الديات عن مسدد وأخرجه النسائي(18/398)
في القود عن محمد بن المثنى وعن أحمد بن سليمان وعن حميد بن مسعدة واسماعيل ابن مسعود: وأخرجه ابن ماجه في الديات عن محمد بن المثنى وعن ابن أبى عدى والربيع مضى ضبطها في الربيع بنت معوذ وهو بالتصغير وهى أم حارية بنت سراقة المستشهد بين يدى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ صاحبة حديث: أخبرني عن حارثة إن كان في الجنة صبرت الخ الحديث أما الاحكام فقد قال الشافعي رحمه الله: والقصاص فيما دون النفس سار.
جرح يستوفى، وطرف يقطع وقال العمرانى أن القصاص يجب فيما دون النفس من الجروح والاعضاء، لقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله تعالى - والجروح قصاص) أه.
ولما روت الربيع أنها كسرت ثنية جارية من الانصار فعرضوا عليهم الارث فلم يقبلوا، فطلبوا العفو فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص، فقال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق لا يكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله القصاص فعفا القوم فقال صلى الله عليه وسلم: ان من عباد الله من لو قسم على الله لابره " ولان القصاص في النفس انما جعل لحفظ النفس، وهذا موجود فيما دون النفس إذا ثبت هذا فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما فيما دون النفس، فتقطع يد الحر المسلم بيد الحر المسلم ويد الكافر بيد الكافر
ويد المرأة بيد المرأة، وهذا اجماع وتقطع يد المرأة بيد الرجل ويد الرجل بيد المرأة، ويد العبد بيد الحر والعبد عِنْدَنَا.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ " إذا اختلف الشخصان في الدية لم يجر القصاص بينهما فيما دونهما كالحرين المسلمين.
وان اشترك جماعة في ابانة عضو أو جراحة يثبت بها القصاص ولم يتميز فعل بعضهم عن بعض، مثل أن أجرى جماعة سيفا في أيديهم على يد رجل أو رجله فقطعوها أو على رأسه فأوضحوه (1) قطعت يد كل واحد منهم وأوضح كل واحد منهم
__________
(1) أوضحوه أي أوضحوا بياض العظم(18/399)
وبه قال ربيعة ومالك وأحمد.
وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يقتص منهم بل ينتقل حق المجني عليه إلى الدية.
دليلنا ماروى أن رجلين شهدا عند علي رضى الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ثم أتيا برجل أخر وقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا في ذلك، فلم يقبل شهادتهما على الثاني وغرمهما دية ويد وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما، وروى لقطعتكما، ولا مخالف له في الصحابة، ولان كل جناية وجب بها القصاص على الواحد وجب بها على الجماعة كالنفس، وإن قطع أحدهما بعض العضو وأبانه الثاني، أو وضع أحدهما السكين على المفصل ووضع الاخر عليه السكين من الجانب الاخر ثم قطعاه وأباناه لم يجب على أحدهما قصاص في إبانة العضو، لان جناية كل واحد منهما قطعة مميزة في بعض العضو فلا يقتص منه في جميعه.
(فرع)
ويعتبر في المجني به على ما دون النفس ما يعتبر في النفس، فإن رماه بحجر كبير يوضحه مثله في الغالب فأوضحه وجب عليه القود، وإن لطمه وورم
وانتفخ فصار موضحة فلا قود فيها وفيها الدية.
وإن رماه بحجر صغير لا يوضح مثله في الغالب فأوضحه لم يجب عليه القود ووجب عليه الدية كما قلنا في النفس.
وحكى ابن الصباغ في الشامل أن الشيخ أبا حامد قال إذا كان الحجر مما يوضح غالبا فإنه يجب القصاص في الموضحة، فإذا مات لم يجب القصاص.
قال ابن الصباغ وهذا فيه نظر لان من أوضح غيره بحديدة فمات منها وجب عليه القود، فإذا كانت هذه الالة توضح في الغالب كانت كالحديد.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
والقصاص فيما دون النفس في شيئين في الجروح وفي الاطراف، فأما الجروح فينظر فيها فان كانت لا تنتهى إلى عظم كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج، أو كانت الجناية على عظم ككسر الساعد والعضد والهاشمة والمنقلة، لم يجب فيها القصاص، لانه لاتمكن المماثلة فيه ولا يؤمن أن يستوفى أكثر من الحق فسقط، فان كانت الجناية تنتهى إلى عظم - فان كانت موضحة في الرأس أو(18/400)
الوجه - وجب فيها القصاص، لانه تمكن المماثلة فيه، ويؤمن أن يستوفى أكثر من حقه، وان كانت فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والساق والفخذ وجب فيها القصاص.
ومن أصحابنا من قال لا يجب لانه لما خالف موضحة الرأس والوجه في تقدير الارش خالفهما في وجوب القصاص والمنصوص هو الاول، لانه يمكن استيفاء القصاص فيها من غير حيف لانتهائها إلى العظم، فوجب فيها القصاص كالموضحة في الرأس والوجه.
(فصل)
وان كان الجناية موضحة وجب القصاص بقدرها طولا وعرضا لقوله عز وجل " والجروح قصاص " والقصاص هو المماثلة، ولاتمكن المماثلة
في الموضحة الا بالمساحة في الطول والعرض، فان كانت في الرأس حلق موضعها من رأس الجاني وعلم على القدر المستحق بسواد أو غيره، ويقتص منها، فان كانت الموضحة في مقدم الرأس أو مؤخره أو في قزعته وأمكن أن يستوفى قدرها في موضعها من رأس الجاني لم يستوف في غيرها، وان كان قدرها يزيد على مثل موضعها من رأس الجاني أستوفى بقدرها، وان جاوز الموضع الذي شجه في مثله لان الجميع رأس.
وان كان قدرها يزيد على رأس الجاني لم يجز أن ينزل إلى الوجه والقفا لانه قصاص في غير العضو الذي جنى عليه ويجب فيما بقى الارش لانه تعذر فيه القصاص فوجب البدل، فان أوضح جميع رأس ورأسه ورأس الجاني أكبر فللمجنى عليه أن يتدئ بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني، لان الجميع محل للجناية.
وأن أراد أن يستوفى بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره فقد قال بعض أصحابنا انه لا يجوز، لانه يأخذ موضحتين بموضحة.
قال الشيخ الامام ويحتمل عندي أنه يجوز لانه لا يجاوز موضع الجناية ولاقدرها الا أن يقول أهل الخبرة أن في ذلك زيادة ضرر أو زيادة شين فيمنع لذلك.
وان كانت الموضحة في غير الوجه والرأس وقلنا بالنصوص أنه يجب فيها القصاص اقتص فيها على ما ذكرناه في الرأس، فان كانت في الساعد فزاد قدرها على ساعد الجاني لم ينزل إلى الكف ولم يصعد إلى العضد، وان كانت في الساق(18/401)
فزادت على قدر ساق الجاني لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ كما لا ينزل في موضحة الرأس إلى الوجه والقفا
(فصل)
وإن كانت الجناية هاشمة أو منقبلة أو مأمومة فله أن يقتص في الموضحة لانها داخلة في الجناية يمكن القصاص فيها، ويأخذ الارش في الباقي،
لانه تعذر فيه القصاص فانتقل إلى البدل.
(الشرح) الاحكام: يجب القصاص فيها دون النفس في شيئين: الجروح والاعضاء، والجروح ضربان، جرح في الرأس والوجه وجرح فيما سواهما من البدن، فأما الجروح في الرأس والوجه ويسمى الشجاج.
قال الشافعي رضى الله عنه وهي عشرة.
(أولها) الحارصة وهى التي تقشط الجلد قشطا لا يدمى، ومنه يقال حرص القصار الثوب إذا قشط درنه ووسخه (1) وبعدها الدامية وهى التي قشطت الجلد وخرج منها الدم، وبعدها الباضعة وهى التي تبضع اللحم، أي تشقه بعد الجلد وبعدها المتلاحمة وهى التي تنزل في اللحم ولا تصدع العظم، وبعدها السمحاق وهى التي وصلت إلى جلدة رقيقة بين اللحم والعظم وتسمى تلك الجلدة السمحاق وبعدها الموضحة وهى التي أوضحت عن العظم وكشفت عنه، وبعدها الهاشمة وهى التي هشمت العظم، وبعد المنقلة - قال الشيخ أبو حامد ولها تأويلان
(أحدهما)
أن ينقل العظم من موضع إلى موضع
(والثانى)
أنه في تداويه لابد من إخراج شئ من العظم منه، وبعدها المأمومة وتسمى الآمة بالمداسم فاعل والمأمومة اسم مفعول، وجمع الآمة أوام، مثل دابة ودواب، وجمع المأمومة على لفظها مأمومات وهى التي تصل إلى أم الدماغ وقال في البيان: وهى التي قطعت العظم وبلغت إلى قشرة رقيقة فوق الدماغ وبعده الدامغة وهى التي بلغت الدماغ.
وحكى عن أبى العباس بن سريج أنه زاد الدامغة بعد الدامية وقال الدامية التي يخرج منها
__________
(1) في المصباح: حرص القصار الثوب شقه، ومنه قيل للشجة تشق الجلد حارصة.(18/402)
الدم ولا يجرى، والدامغة مايخرج منها الدم ويجرى.
قال الازهرى، الدامغة قبل الدامية، وهى التي يخرج منها الدم بقطعه والدامية هي التي يخرج منها أكثر إذا ثبت هذا فان الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي الْأُمِّ لا قصاص فيما دون الموضحة من الشجاج ونقل المزني لو جرحه فلم يوضحه اقتضى منه بقدر عاشق من الموضحة.
واختلف أصحابنا فيه فقال الخراسانيون هل يجب القصاص فيما دون الموضحة من الشجاج؟ فيه قولان، قال أكثر أصحابنا البغداديين، لا يجب القصاص فيما دون الموضحة، وما نقله المزني فيه سهو، لان القصاص هو المماثلة ولا يمكن المماثلة فيما دون الموضحة، فلو أوجبنا فيها القصاص لم يأمن أن تؤخذ موضحة بمتلاحمة، لانه قد يكون رأس المجني عليه غليظ الجلد كثير اللحم، ويكون رأس الجاني رقيق الجلد قليل اللحم، فإذا قدرنا العمق في المتلاحمتين ورأس المجني عليه وأوجنا قدره في رأس الجاني فربما بلغت إلى العظم وذلك لا يجوز وقال الشيخ أبو حامد يمكن عندي القصاص فيما دون الموضحة من الشجاج على ما نقله المزني بأن يكون في رأس المجني عليه موضحة وفي رأس الجاني موضحة فينظر إلى المتلاحمة التي في رأس المجني عليه، وينظركم قدرها من الموضحة، فإن كان قدر نصفها نظر كم قدر الموضحة التي في قدر رأس الجاني فنقص منه نصف موضحته التي في رأسه، والمشهور أنه لا قصاص في ذلك، وأما الموضحة فيجب فيها القصاص لان المماثلة فيها ممكنة من غير حيف، فيقدر الموضحة بالطول والعرض ويعلم عليه بخيط أو سواد ولا يعتبر العمق، لانه يأخذ إلى العظم.
وان كانت الشجة في الرأس وعلى موضعها في رأس الجاني شعر فالمتسحب أن يحلق ذلك الشعر لانه أسهل في الاستيفاء، وإن اقتص ولم يحلق الشعر جاز، لانه لا يأخذ إلا قدر حقه.
(فرع)
إذا شج رجل رجلا في رأسه شجة فلا يخلو إما أن يستوى رأساهما في الصغر والكبر أو يختلفا - فإن استوى رأسهما في الصغر أو الكبر - فإنه يستوفى مثل موضحته بالطول والعرض في موضعتها إما في مقدم الرأس أو مؤخره(18/403)
أو بين قرنيه، وان اختلفا نظرت - فإن كان رأس الجاني أكبر ورأس المجني عليه أصغر فجنى عليه موضحة إلى منبت الشعر فوق الاذن وكان قدر طولها وعرضها في رأس الجاني ينتهى إلى أعلا من ذلك الموضع لسعته، فليس للمجني عليه أن يأخذ الا قدر موضحته طولا وعرضا لا يزيد عليه، ولكن له أن يبتدئ بالقصاص من أي الجانبين شاء.
وإن أوضح جميع رأسه فللمجنى عليه أن يقتص قدر موضحته طولا وعرضا في أي وقت شاء من رأس الجاني لانه قد جنى عليه في ذلك الموضع في رأسه فإن أراد أن يقتص بعضها في مقدم رأس الجاني وبعضها في مؤخر رأس الجاني ويكون بينهما فاصل ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز له ذلك لانه يأخذ موضحتين بموضحة
(والثانى)
وهو قول المصنف أنه يجوز لانه لا يأخذ إلا قدر حقه إلا أن قال أهل الخبرة ان في ذلك زيادة ضرر أو زيادة شين فيمنع من ذلك، وإن كان رأس المجني عليه أكبر من رأس الجاني فأوضحه موضحة في مقدم رأسه وكان قدر طولها وعرضها في رأس الجاني يزيد على ذلك الموضع ففيه وجهان
(أحدهما)
أن للمجني عليه أن يقتص في مقدم رأس الجاني ويستكمل قدر طول موضحته وعرضها مما يلى ذلك من مؤخر رأس الجاني لانه عوض واحد فإن زادت موضحته على قدر الرأس لم يكن له أن يستوفى باقيها في الوجه ولا في القفا وهو ما نزل عن منبت شعر الرأس من العين لانهما موضعان آخران
والوجه الثاني أنه لا يجوز له أن يتجاوز عن سمت موضع الشجة لانه غير موضع الشجة فلم يتجاوزه، كما لا يجوز أن يتجاوز عن موضع الرأس إلى الوجه والقفا فعلى هذا ان كانت الموضحة في مقدم الرأس وزاد قدرها على مقدم رأس الجاني لم ينزل إلى مؤخره، وان كانت بين قرنى الرأس وهما جانباه وزاد قدرها على مابين قرنى رأس الجاني فللمجنى عليه أن يقتص إلى ما فوق الاذنين لانه في سمتها وليس له أن يستوفى في مقدم الرأس ولا في موخره لانه في غير سمته (فرع)
وأما الهاشمة والمنقلة والمأمومة فله أن يقتص في الموضحة وليس له أن يقتص فيما زاد عليها لان كسر العظم لا يمكن المماثلة فيه لانه يخاف فيه الحيف(18/404)
وإتلاف النفس، وأما الجراحة في غير الرأس والوجه فيظر فيها - فإن وصلت إلى عظم وجب فيه القصاص.
ومن أصحابنا من قال لا يجب فيها القصاص لانها لما خالفت موضحة الرأس والوجه في تقدير الارش خالفتها في وجوب القصاص والمنصوص هو الاول، لانه يمكن القصاص فيها من غير حيف فهي كالموضحة في الرأس والوجه.
فعلى هذا إن كانت في موضع عليه شعر كثير، فالمستحب أن يحلق موضعها ويعلم على موضعها سواد أو غيره، ويقدر الطول والعرض على ما ذكرناه في موضحة الرأس.
وإن كانت الجراحه في العضد فزيد قدرها على عضد الجاني لم ينزل في الزيادة على عالى الساعد، وإن كانت في الفخذ وزاد قدرها على فخذ الجاني لم ينزل في الزيادة إلى الساق، وإن كانت في الساق وزاد قدرها على ساق الجاني لم ينزل في الزيادة إلى القدم كما لا ينزل في موضحة الرأس إلى الوجه والقفا، وإن كانت فيما دون الموضحة لم يجب فيها القصاص على المشهور من المذهب، لانه لا يمكن المماثلة فيه
وعلى ما اعتبره الشيخ أبو حامد وحكاه الخراسانيون فيما دون الموضحة من الجراحات على الرأس في الوجه يكون ههنا مثله وإن كانت الجراحة جائفة أو كسر عظم لم يجب القصاص فيها، لانه لا يمكن المماثلة فيها ويخاف فيها الحيف، بل إن كانت في موضع وصلت إلى عظم ثم كسرت أو أجافت وجب القصاص فيها إلى العظم ووجب الارش فيما زاد
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وأما الاطراف فيجب فيه القصاص في كل ما ينتهى منها إلى مفصل فتؤخذ العين بالعين لقوله تعالى " وكتبنا عليهم فيه أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص " ولانه يمكن المماثلة فيها لانتهائها إلى مفصل فوجب فيها القصاص، ولايجوز أن يأخذ صحيحة بقائمة لانه يأخذ أكثر من حقه، ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة لانه يأخذ دون حقه.
وان أوضج رأسه فذهب ضوء عينه، فالمنصوص أنه يجب فيه القصاص،(18/405)
وقال فيمن قطع أصبح رجل فتأكل كفه إنه لا قصاص في الكف، فنقل أبو إسحاق قوله في الكف إلى العين ولم ينقل قوله في العين إلى الكف فقال في ضوء العين قولان
(أحدهما)
لا يجب فيه القصاص لانه سراية فيما دون النفس فلم يجب فيه القصاص كما لو قطع أصبعه فتأكل الكف
(والثانى)
يجب لانه لا يمكن إتلافه بالمباشرة فوجب القصاص فيه بالسراية كالنفس ومن أصحابنا من حمل المسئلتين على ظاهرها فقال يجب القصاص في الضوء قولا واحدا ولا يجب في الكف، لان الكف يمكن إتلافه بالمباشرة فلم يجب القصاص فيه بالسراية بخلاف الضوء.
(فصل)
ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولانه يمكن
القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل فوجب فيه القصاص ويوخذ جفن البصير بجفن الضرير وجفن الضرير يجفن البصير لانهما متساويان في السلامة من النقص وعدم البصر نقص في غيره.
(فصل)
ويؤخذ الانف بالانف لقوله تعالى " والانف بالانف " ولا يجب القصاص فيه إلا في المارن لانه يتنهى إلى مفصل، ويؤخذ الشام بالاخشم، والاخشم بالشام لانهما متساويان في السلامة من النقص، وعدم الشم نقص في غيره، ويوخذ البعض بالبعض، وهو أن يقدر ما قطعه بالجزء كالنصف والثلث ثم يقتض بالنصف والثلث من مارن الجاني، ولا يؤخذ قدره بالمساحة لانه قد يكون أنف الجاني صغيرا وأنف المجني عليه كبيرا، فإذا اعتبرت المماثلة بالمساحة قطعنا جميع المارن بالبعض، وهذا لا يجوز.
ويؤخذ المنخر بالمنخر والحاجز بين المنخرين بالحاجز، لانه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل، ولا يؤخذ مارن صحيح بمارن سقط بعضه بجذام أو انخرام لانه يأخذ أكثر من حقه، فإن قطع من سقط بعض مارته مارفا صحيحا فللمجنى عليه أن يأخذ الموجود وينتقل في الباقي إلى البدل لانه وجد بعض حقه وعدم البعض، فأخذ الموجود وانتقل في الباقي إلى البدل وان قطع الانف من أصله اقتص من المارن لانه داخل في الجناية يمكن القصاص فيه، وينتقل في الباقي إلى الحكومة لانه لا يمكن القصاص فيه فانتقل فيه إلى البدل(18/406)
(الشرح) قوله " بقائمة " وهي التي بياضها وسوادها صحيحان غير أن صاحبها لا يبصر ولعلها الواقفة، من قولهم.
قام زيد إذا وقف وقوله " المارن " أي ما لان من الانف وموصل إلى القضيب، والاخشم من الخشم، أي أصيب بداء في أنفه منعه الشم
أما الاحكام فإن الاطراف يجب فيها القصاص في كل ما ينتهى منها إلى مفصل فتؤخذ العين بالعين لقوله تعالى (والعين بالعين) الآية.
ولانها تنتهى إلى مفصل إذا ثبت هذا فإنه تؤخذ العين الصحيحة بالعين الصحيحة والقائمة بالقائمة، وهى التي ذهب ضوؤها وبقيت حدقتها - وهي التي انفصلت شبكتيها - وهو الطبقة المبطنة لكرة العين من أسفل أو التي انفصل أو ضمر العصب البصري لها وهو الذي يتلقى المرئيات من الشبكية لنقلها إلى المخ، أو المياه الزرقاء التي تتكون في العدسة الداخلية للعين، أو ما شابه ذلك مما لا يظهر على شكل العين فتبدو كأنها مبصرة وليس فيها ابصار، فإنه لا تؤخذ صحيحة بقائمة، وهي التي وصفناها طبقا لعلم التشريح البصري ان شاء الله، وذلك لانه يأخذ أكثر من حقه، ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة لانه يأخذ أقل من حقه باختياره (فرع)
إذا أوضح رأسه فذهب ضوء العين، أي انفصلت الشبيكة أو نهتك عصب الابصار، فالمنصوص أنه يجب القصاص في الضوء.
وقال الشافعي رضى الله عنه فيمن قطع أصبع رجل فتأكل الكف وسقط انه لا يجب عليه القصاص في الكف.
واختلف أصحابنا في ضوء العين، فنقل أبو إسحاق جوابه في الكف إلى العين، وجعل في ضوء العين قولين
(أحدهما)
أنه لا يجب فيه القصاص لانه سراية فيما دون النفس فلم يجب فيه القصاص كالكف.
(والثانى)
يجب فيه القصاص بالسراية كالنفس، وقال أكثر أصحابنا لا يجب القصاص في الكف بالسراية قولا واحدا، والفرق بينهما أن الكف يمكن اتلافه بالمباشرة فلم يجب فيه القصاص بالسراية، والضوء لا يمكن إتلافه بالمباشرة بالجناية، وانما يتلف بالجناية على غيره فوجب القصاص فيه بالسراية كالنفس.
(فرع)
قال المصنف ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى " والجروح قصاص "(18/407)
وهذا صحيح لانه ينتهى إلى مفصل فيوخذ جفن البصير بجفن الضرير وجفن الضرير بجفن البصير لانهما متساويان في السلامة، وعدم البصر نقص في غيره (مسألة) قوله تعالى " والعين بالعين والانف بالانف " قرأ نافع وعاصم والاعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطب، ويجوز تخفيف (أن) ورفع الكل بالابتداء والعطف، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح، وكان الكسائي وأبو عبيد يقرءان " والعين بالعين " وهكذا بالرفع فيها كلها.
قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هرون عن عباد بن كثير عن عقيل عن الزهري عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص " والرفع من ثلاث جهات بالابتداء والخبر وعلى معنى على موضع " أن النفس " لان المعنى قلنا لهم " النفس بالنفس " والوجه الثالث قاله الزجاج يكون عطفا على المضمر في النفس، لان الضمير في النفس في موضع رفع لان التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس، فالاسماء معطوفة على هي.
قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام حكم في المسلمين، وهذا أصح القولين عند القرطبى في جامعه، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخطاب للمسلمين أمروا بهذا.
ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع مما قبلها والاستناف بها، كأن المسلمين أمروا بهذا خاصة، وما قبله لم يواجهوا به إذا ثبت هذا فإن الانف الكبير يؤخذ بالصغير والغليظ بالرقيق والاقنى بالافطس لان الاطراف يجب القصاص فيها وان اختلفت بالصغر والكبر.
ولا يجب
القصاص في المارن وهو اللبن.
وأما القصبة فلا يجب فيها القصاص لانها عظم، ويؤخذ أنف الشام بأنف الاخشم وأنف الاخشم بأنف الشام، لان الخشم ليس بنقص في الانف، وإنما هو لعلة في الدماغ والانفان يتساويان في السلامة، ويؤخذ الانف الصحيح بالانف المجذوم ما لم يسقط بالجذام شئ منه، لان الطرف الصحيح يؤخذ(18/408)
بالطرف العليل، فإن سقط من الانف شئ لم يؤخذ به الصحيح لانه يأخذ أكثر من حقه، فإن قطع من سقط بعض مارنه مارنا صحيحا قطع جميع ما بقى من مارن الجاني وأخذ منه من الدية بقدر ماكان ذهب من مارنه، فإن قطع بعض مارن غيره نظركم القدر التي قطع - فإن كان نصف المارن أو ثلثه أو ربعه أقتص من مارنه نصفه أو ثلثه أو ربعه، ولا يقدر بالمساحة بالطول والعرض كما قلنا في الموضحة، لانه قد يكون أنف الجاني صغيرا وأنف المجني عليه كبيرا، فلو قلنا يقطع من أنف الجاني قدر ما قطع من أنف المجني عليه بالمساحة طولا وعرضا لم يأمن أن يقطع جميع أنفه ببعض أنف المجني عليه، ويؤخذ المتحد بالمتحد، والحاجز بينهما بالحاجز، فإى قطع المارن والقصبة اقتص من المارن وأخذ الحكومة في القصبة لانه لا يمكن القصاص فيها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتؤخذ الاذن بالاذن لقوله عز وجل " والاذن بالاذن " ولانه يمكن استيقاء القصاص فيه لانتهائه إلى حد فاصل، وتؤخذ أذن السميع بأذن الاصم، وأذن الاصم بأذن السميع، لانهما متساويان في السلامة من النقص، وعدم السمع نقص في غيره.
ويؤخذ الصحيح بالمثقوب، والمثقوب بالصحيح، لان الثقب ليس بنقص، وإنما تثقب للزينة، ويؤخذ البعض بالبعض على
ما ذكرناه في الانف، ولا يؤخذ صحيح بمخزوم، لانه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ المخزوم بالصحيح، ويؤخذ معه من الدية بقدر ما سقط منه لما ذكرناه في الانف.
وهل يؤخذ غير المستحشف بالمستحشف؟ فيه قولان
(أحدهما)
أنه لا يؤخذ كما لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء
(والثانى)
يؤخذ لانهما متساويان في المنفعة، بخلاف اليد الشلاء فإنها لا تساوى الصحيحة في المنفعة، فإن قطع بعض أذنه وألصقه المقطوع فالتصق لم يجب القصاص، لانه لا يمكن المماثلة فيما قطع منه، وإن قطع أذنه حتى جعلها معلقة على خده وجب القصاص، لان المماثلة فيه ممكنة بأن يقطع أذنه حيت تصير(18/409)
معلقة على خده، وإن أبان أذنه أبان أذنه فأخذه المقطوع وألصقه فالتصق لم يسقط القصاص لان القصاص يجب بالابانة، وما حصل من الالصاق لا حكم له لانه يجب إزالته ولا تجوز الصلاة معه.
وإن قطع أذنه فاقتص منه وأخذ الجاني اذنه فألصقه فالتصق لم يكن للمجني عليه أن يطالبه بقطعه، لانه أقتض منه بالابانة، وما فعله من الالصاق لا حكم له لانه يستحق إزالته للصلاة، وذلك إلى السلطان وإن قطع أذنه فقطع المجني عليه بعض أذن الجاني فألصقه الجاني فالتصق فللمجنى عليه أن يعود فيقطعه لانه يستحق الابانة ولم يوجد ذلك.
وإن جنى على رأسه فذهب عقله أو على أنفه فذهب شمه أو على أذنه فذهب سمعه لم يجب القصاص في العقل والشم والسمع، لان هذه المعاني في غير محل الجناية فلم يمكن القصاص فيها.
(فصل)
وتؤخذ الشفة بالشفة وهو مابين جلد الذقن والخدين علوا وسفلا ومن أصحابنا من قال لا يجب فيه القصاص لانه قطع لحم لا ينتهى إلى عظم فلم
يجب فيه القصاص كالباضعة والمتلاحمة والضجيج والاول لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولانه ينتهى إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص (الشرح) الصمم فقدان السمع بسبب من الاسباب الآتية، 1 - انسداد القناة السمعية وهى المدخل الظاهرى في فتحة الاذن 2 - تهتك الغشاء الرقيق المسمى (الطلبة) وهو الذي يستقبل الذبذبات الصوتية الداخلة من القناة السمعية فينقلها بدوره إلى ثلاثة عظيمات في الصماخ وهذه العظيمات (بالتصغير لصغرها ودقتها) تكبر الصوت بالذبذبات التي تحدث عن طريق تحرك هذه العظيمات عند اصطدام الذبذبات الصوتية بها 3 - توقف العظيمات عن الحركة 4 - انفصال العصب السمعى أو تيبسه أو تهتكه، وهو الذي يأخذ الصوت من مكبر الصوت (العظيمات) لينلقه إلى المخ.
والاخرم المثقوب الاذن، وقد انخرم ثقبه أي انشق، والمستحشف المنقبض اليابس، مأخوذ من حشف التمر وأول الشجاج الحارصة، سميت حارصة لانها تشق الجلد، يقال حرص القطار الثوب(18/410)
إذا شقه، وحرص المطر الارض إذا قشرها، والباضعة التي تقطع الجلد وتشق اللحم وتدمى: من بضعت اللحم إذا قطعته قطعا صغارا، والبضعة القطعة وقد سقناها آنفا في عشرة أنواع وفيها المتلاحمة والسمحاق والهاشمة.
أما الاندمال فهو برء الجرح.
يقال اندمل الجرح إذا تماثل، وأصله الاصلاح، ودملت بين القوم أصلحت، ودملت الارض بالسرحين أصلحتها أما الاحكام فإنه يجب القصاص في الاذن لقوله تعالى " والاذن بالاذن " ويؤخذ منها الكبير بالصغير والعكس لما ذكرناه في الانف، ويوخذ المثقوب بالصحيح وبالعكس، والاصم بالسميع وبالعكس، وإن قطع من أذنه مخرومة
أذنا صحيحة اقتص منه المجني عليه في المخرومة وأخذ من دية أذنه بقدر ما أنخرم من أذن الجاني، وتؤخذ الاذن المستحشفة وهي الاذن اليابسة بالاذن الصحيحة لانه ياخذ أنقص من حقه باختياره، وهل تؤخذ الاذن الصحيحة بالاذن المستحشفة؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يؤخذ بها كما لا يجوز أخذ اليد الصحيحة باليد الشلاء.
(والثانى)
تؤخذ بها لان الاذن المستحشفة تساوى الاذن الصحيحة في المنفعة فأخذت الصحيحة بها بخلاف اليد الشلاء فإنها لاتساوى الصحيحة في المنفعة (فرع)
وإن قطع بعض أذنه اقتص منه، ويقدر ذلك بالجزء كالنصف والثلث والربع، ولا يقدر بالمساحة بالطول والعرض لما ذكرناه في الانف.
وحكى ابن الصباغ عن القاضى أبى الطيب أنه لا يثبت القصاص في بعض الاذن والاول أصح لانه يمكنه القصاص فيها وقول المصنف هنا: إذا قطع بعض أذنه وألصقه فالتصق لم يجب القصاص لانه لا يمكن المماثلة فيما قطع منه.
ولعله أراد إذا اندمل القطع بنحو خياطة طبية فاختفى القطع.
وإن قطع أذنه حتى جعلها معلقة فله أن يقطع كذلك لان المماثلة ممكنة.
وان قطع أذنه وأبانها فأخذها المجني عليه فألصقها فالتصقت لم يكن للمجني عليه أن يطالبه بإزالتها، لانه قد استوفى حقه، والازالة إلى السلطان، وإن قطع أذنه وأبانها وقطع المجني عليه بعض أذن الجاني فألصقه الجاني فالتصق فللمجنى عليه أن(18/411)
يعود ويقطعه، لان حقه الابانة ولم يوجد.
وإن جنى على رأسه فذهب عقله أو شمه أو سمعه أو ذوقه أو نكاحه أو إنزاله لم يجب القصاص، لان هذه الاشياء ليست في موضع الجناية فيمكن القصاص فيها.
(مسألة) يجب في الشفتين القصاص، ومن أصحابنا من قال: لا قصاص فيهما لانه قطع لحما من لحم غير منفصل، والاول هو المنصوص لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولان الشفتين هما اللحم الجافي من لحم الذقن والشدق، مستدير على الفم طولا وعرضا، وطولهما ما تجافى عن لحم الذقن ألى أصل الانف وذلك من لحم له حد معلوم فوجب القصاص فيه واختلف أصحابنا في القصاص في اللسان، فمنهم من قال يجب القصاص في جميعها وفي بعضها، لان له حدا ينتهى إليه فهو كالانف والاذن.
وقال أبو إسحاق لاقصاص فيه، واليه ذهب بعض أصحاب أبى حنيفة، واختاره ابن الصباغ وأما المصنف فذكر أن القصاص يثبت في جميعها على وجهين
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويؤخذ السن بالسن لقوله تعالى (والسن بالسن) ولما رويناه في أول الباب في حديث الربيع بنت النضر بن أنس، ولانه محدود في نفسه يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص، ولا يؤخذ سن صحيح بسن مكسور لانه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ المكسور بالصحيح، ويؤخذ معه من الدية بقدر ما انكسر منه لما ذكرناه في الانف والاذن، ويؤخذ الزائد إذا اتفق محلهما لانهما متساويان، وان قلع سنا زائدة وليس للجاني مثلها وجبت عليه الحكومة لانه تعذر المثل فوجب البدل، وإن كان له مثلها في غير موضع المقلوع لم يؤخذ كما لا يؤخذ سن أصلى بسن أخرى.
وان كسر نصف سنه وأمكن أن يقتص منه نصف سنه اقتص منه، فإن لم يمكن وجب بقدره من دية السن، وان وجب له القصاص في السن فاقتص ثم نبت له مكانه سن آخر ففيه قولان
(أحدهما)
أن النابت هو المقلوع من جهة الحكم لانه مثله في محله فصار كما(18/412)
لو قلع سن صغير ثم نبت فعلى هذا يجب على المجني عليه دية سن الجاني لانه قلع سنه بغير سن.
والقول الثاني: إن النابت هبة مجددة لان الغالب أنه لا يستخلف فعلى هذا وقع القصاص موقعه ولا يجب عليه شئ للجاني، وإن قلع سن رجل فاقتص منه ثم نبت للجاني سن في مكان السن الذي اقتص منه.
فإن قلنا إن النابت هبة مجددة لم يكن للمجني عليه قلعه لانه استوفى ماكان له.
وإن قلنا إن النابت هو المقلوع من جهة الحكم فهل يجوز للمجني عليه قلعه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أن له أن يقلعه ولو نبت ألف مرة، لانه أعدمه السن فاستحق أن يعدم سنه.
(والثانى)
ليس له قلعه لانه يجوز أن يكون هبة مجددة ويجوز أن يكون هو المقلوع فلم يجز قلعه مع الشك
(فصل)
ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولان له حدا ينتهى إليه فاقتص فيه فلا يؤخذ لسان الناطق بلسان الاخرس لانه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ لسان الاخرس بلسان الناطق لانه يأخذ بعض حقه وان قطع نصف لسانه أو ثلثه أقتص من لسان الجاني في نصفه أو ثلثه وقال أبو إسحاق لايقتص منه لانه لا يأمن أن يجاوز القدر المستحق، والمذهب أنه يقتص منه للآية ولانه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه (الشرح) حديث الربع بنت النضر مضى تخريجه في فصل قبله، أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: وإن قلع سن من أثغر قلع سنه، وإن كان المقلوع سن لم يثغر أوقف حتى يثغر وجملة ذلك أن القصاص يجب في السن لقوله تعالى " والسن بالسن " ولما روى أن الربيع كسر سن جارية فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكسر سنها، فقال
أنس بن النضر أتكسر سن الربيع؟ لا والله لا تكسر، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القصاص فعفا الانصاري فقال رسول الله إن من عاد الله من لو أقسم على الله لابوه " إذا ثبت هذا فإنه يقال للصبى إذا سقطت رواضعه، وهي الاسنان التي تنبت له(18/413)
وقت رضاعه ثغر فهو مثغور، فإذا نبت له مكانها قيل له أثغر واتغر لغتان.
هكذا أفاده العمرانى وقال الفيومى: والثغر المبسم ثم أطلق على الثنايا، وإذا كسر ثغر الصبى قيل: ثغر ثغورا بالبناء للمفعول، وثغرته أثغرته من باب نفع كسرته، وإذا نبتت بعد السقوط قيل أثغر أثغار مثل أكرم إكراما، وإذا ألقى أسنانه قيل الثغر على افتعل.
وقال في كفاية المتحفظ: إذا سقطت أسنان الصبى قبل ثغر، فإذا نبتت قيل اثغر واتغر بالتاء والثاء مع التشديد.
فإذا قلع سن غيره فلا يخلو المقلوع إما أن يكون لم يثغر أو كان قد ثغر، فإن كان لم يثغر فإن القصاص لا يجب على الجاني في الحال، لان العادة جرت أن سن من لم يثغر تعود إذا قلعت، وما كان يعود إذا قلع لا يجب فيه القصاص كالشعر ويسأل الاطباء كم المدة التي تعود هذه السنة في مثلها، وينتظر إلى تلك المدة، فإذا جاءت تلك المدة ولم يعد السن وجب على الجاني القصاص، لانه قد أيس من عودها، فإن نبتت للمجني عليه سن مكانها في تلك المدة أو أقل منها - فإن كانت الثانية مثل الاولة من غير زيادة ولا نقصان لم يجب على الجاني قصاص ولا دية.
وهل يجب عليه حكومة الجراح الذي جعل بقلعه؟ ينظر فيه، فإن جرح موضعا آخر غير الموضع الذي فبه السن بالقلع وجبت عليه فيه الحكومة، وإن لم يجرح إلا الموضع الذي قلع منه السن ففيه وجهان
(أحدهما)
يجب عليه الحكومة: لانه لما قلع السن أدمى، فإذا أدمى وجبت فيه الحكومة.
(والثانى)
لا تجب الحكومة، لان الحكومة انما تجب إذا جرح وأدمى فأما إذا أدمى من غير جرح فلا حكومة عليه، كما لو لطمه فرعف، فإنه لا تجب عليه لخروج الدم بالرعاف حكومة.
وان كانت السن التي نبتت مكانه المقلوعة أنقص من التي تليها، وجب على الجاني من ديتها بقدر ما نقص منها لان الظاهر أنها نقصت لجنايته.
وان كانت السن التي نبتت أزيد من التي قبلها ففيه وجهان: من أصحابنا من قال(18/414)
لا يجب على الجاني شين، لان الزيادة لا تكون من الجناية.
وقال المصنف يلزمه حكومة الشين الحاصل بالزيادة كما يلزمه الشين الحاصل بالنقصان، لان الظاهر أن ذلك من جنايته.
وإن كانت النابتة خارجة من صف الاسنان، فإن كانت بحيث لا ينتفع بها وجبت عليه حكومة بالشين الحاصل بها، وإن نبت له سن صغير أو خضراء أو سوادء - وكانت المقلوعة بيضاء - وجب على الجاني للشين الحاصل باللون، وإن مات المجني عليه بعد مضى المدة التي يرجى فيها عود السن قبل أن يعود، فلوليه أن يقتص من الجاني، لانه مات بعد استقرار القصاص.
وهل تجب له دية سن؟ حكى الشيخ أبو إسحاق فيها قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وجهين:
(أحدهما)
تجب دية السن، لانه قلع سنا لم تعد، والاصل عدم العود.
(والثانى)
لا يجب لان الغالب أنها قد كانت تعود، وإنما قطعها الموت، وأما إذا قلع سن من ثغر - فإن قال الاطباء انها لا تعود - وجب له القصاص في
الحال، وإن قالوا انها تعود إلى مدة فهل له القصاص قبل مضى تلك المدة؟ فيه وجهان بناء على أنه هل يسقط القصاص أو الدية إذا عاد سنه فيه قولان، فإن قلنا يسقط ينتظر والا فلا.
وقال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يقتص قبل مضي تلك المدة كما قلنا فيمن قلع سن صبى لم يثغر.
وقال ابن الصباغ: له أن يقتص بكل حال، أو اقص منه بعد الاياس من عودها ثم نبتت للمجني عليه سن في موضع السن المقلوع ففيه قولان
(أحدهما)
أن هذا السن من نبات السن المقلوع من هذا الموضع، لان مثله في موضعه فصار كما لو نتف شعره ثم نبت، كما لو قلع سن صبى لم يثغر ثم نبت مكانه سن، وكما لو لطم عينه فذهب ضوؤها ثم عاد، فعلى هذا لا يجب على المجني عليه القصاص للجاني في السن التي اقتص منه بها لانه قلعها، وكان يجوز له قلعها، وانما يجب عليه دية سن الجاني.
وان كان المجني عليه عفا عن القصاص وأخذ دية سنه وجب عليه رد الدية إلى الجاني.
والقول الثالث أن السن النابت هبة مجددة من الله تعالى للمجني عليه، لان(18/415)
العادة أن سن من ثغر إذا قلعت لا تعود، فإذا عادت علمنا أن ذلك هبة من الله له، فعلى هذا ان كان المجني عليه قد اقتضى من الجاني أو أخذ منه الارش فقد وقع ما فعله موقعه ولا شئ عليه للجاني.
وان قلع سن رجل فقلع المجني عليه سن الجاني ثم نبت للجاني سن مكان سنه الذي اقتص منه ولم تعد للمجني عليه مثلها - فإن قلنا ان النابت هبة من الله مجددة - فلا شئ للمجني عليه، وان قلنا إن النابت هو من الاول ففيه وجهان
(أحدهما)
أن للمجني عليه أن يقلعه، ولو نبت مرارا، لانه أعدم سنه فاستحق أن يعدم سنه.
(والثانى)
ليس له أن يقلع سنه لانه يجوز أن يكون من المقلوع، ويجوز أن يكون هبة مجددة، وذلك شبهة فسقط بها القصاص، فعلى هذا للمجني عليه دية سن على الجاني، فإن خالف المجني عليه وقلع هذا السن للجاني وجب عليه ديتها ويتقاصان، وان قلع سنه فاقتص منه فعاد للمجني عليه سن مكان سنه ولم يعد للجاني ثم عاد الجاني فقلعها وجب عليه ديتها لانه ليس لها مثله، فإن قلنا انه من الاول فقد قلنا ان على المجني عليه دية سن الجاني فيتقاصان.
وان قلنا ان النابت هبة مجددة فلا شئ على المجني عليه للجاني هذا ويؤخذ السن الكبير بالصغير والصغير بالكبير كما قلنا في الانف والاذن ولا يؤخذ سن صحيح بمكسور لانه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ المكسور بالصحيح، لانه أنقص منه، ويأخذ من دية سنه بقدر ما ذهب من سن الجاني وان كسر بعض سنه من نصفها أو ربعها فهل يجب بها القصاص؟ اختلف الشيخان، فقال الشيخ أبو إسحاق ان أمكن أن يقتص اقتص، وان لم يمكن لم يقتص وقال الشيخ أبو حامد لايقتص منه لان القصاص بالكسر لا يجب باتفاق الامة وما روى في خبر الربيع أنها كسرت ثنية جارية فعال النبي صلى الله عليه وسلم: تكسر ثنيتها، أراد بالكسر القلع لا الكسر من بعضها (فرع)
وان قلع لرجل سنا زائدا وللجاني سن زائد في ذلك الموضع يساوى السن الذي قلع وجب فيها القصاص لانهما متساويان، وإن لم يكن للجاني سن(18/416)
زائد لم يجب عليه القصاص، لانه ليس له مثلها، وإن كان له سن زائد في غير ذلك الموضع لم يجب فيه القصاص لانه ليس له مثلها، وإن كان له سن زائد في ذلك الموضع إلا أنه أكبر من سن المجني عليه ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أكثر أصحابنا لا يجب فيها القصاص، لان القصاص
في العضو الزائد إنما يجب بالاجتهاد، فإذا كانت سن الجاني أزيد كانت حكومتها أكثر فلم يجب قلعها بالتي هي أنقص منها، بخلاف السن الاصلية فإن القصاص يثبت بالنص فلا يعتبر فيها التساوى، والثانى حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبى حامد واختاره أنه يجب فيها القصاص، لان ما ثبت بالاجتهاد يجب اعتباره بما ثبت بالنص، والاول هو المنصوص (مسألة) ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولان له حدا ينتهى إليه فاقتص منه كالعين، ولا نعلم في هذا خلافا، ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس لانه أفضل منه، ويؤخذ الاخرس بالناطق لانه بعض حقه ويؤخذ بعض اللسان ببعض لانه أمكن القصاص في جميعه فأمكن في بعضه كالسن ويقدر ذلك بالاجزاء ويؤخذ منه بالحساب.
هذا وتؤخذ الشفة بالشفة، وهى ما جاوز الذقن والخدين علوا وسفلا، لقول الله تعالى " والجروح قصاص " ولان له حدا ينتهى إليه يمكن القصاص منه فوجب كاليدين
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتؤخذ إليه باليد والرجل بالرجل والاصابع بالاصابع والانامل بالانامل لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولان لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف فوجب فيها القصاص، وإن قطع يده من الكوع اقتص منه لانه مفصل، وإن قطع من نصب الساعد فله أن يقتص من الكوع لانه داخل في جناية يمكن القصاص فيها ويأخذ الحكومة في الباقي لانه كسر عظم لا تمكن المماثلة فيه فانتقل فيه إلى البدل.
وإن قطع من المرفق فله أن يقتص منه لانه مفصل، وإن أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لم يكن له ذلك لانه يمكنه أن يتسوفى جميع حقه بالقصاص في محل الجناية فلا يجوز أن يأخذ القصاص(18/417)
في غيره، وان قطع يده من نصف العضد فله أن يقتص من المرفق ويأخذ الحكومة في الباقي وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لان الجميع مفصل داخل في الجناية ويخالف إذا قطعها من المرفق وأراد أن يقتص من الكوع لان هناك يمكنه أن يقتص في اجميع في محل الجناية وههنا لا يمكنه أن يقتص في موضع الجناية.
وان قطع يده من الكتف وقال أهل الخبرة أنه يمكنه أن يقتص منه من غير جائفة اقتص منه لانه مفصل يمكن القصاص فيه من غير حيف، وان أراد أن يقتص من المرفق أو الكوع لم يجز لانه يمكنه أن يقتص من محل الجناية فلا يجوز أن يقتص في غيره.
وان قال أهل الخبرة انه يخاف أن يحصل به جائفة لم يجز أن يقتص فيه، لانه لا يأمن أن يأخذ زيادة على حقه، وله أن يقتص في المرفق ويأخذ الحكومة في الباقي، وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لما ذكرناه، وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها من القدم والركبة والورك، وما يجب فيما بينهما من الحكومات حكم اليد وقد بيناه
(فصل)
ولا تؤخذ يد صحيحه بيد شلاء، ولا رجل صحيحه برجل شلاء لانه يأخذ فوق حقه، وان أراد المجني عليه أن ياخذ الشلاء بالصحيحة نظرت فإن قال أهل الخبرة أنه ان قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن وخيف عليه لم يجز أن يقتص منه، لانه يأخذ نفسا بطرف وان قالوا لا يخاف عليه فله أن يقتص لانه يأخذ دون حقه، فإن طلب مع القصاص الارض لنقص الشلل لم يكن له، لان الشلاء كالصحيحة في الخلقة، وانما تنقص عنها في الصفة فلم يؤخذ الارش للنقص مع القصاص، كما لا يأخذ ولى المسلم من الذمي مع القصاص ارشا لنقص الكفر.
وفي أخذ الاشل بالاشل وجهان: أحدهما: انه يجوز لانهما متساويان والثانى: لا يجوز، وهو قول أبى اسحاق، لان الشلل علة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما(18/418)
(الشرح) تقطع اليد باليد والرجل بالرجل والاصابع بالاصابع والانامل بالانامل لقول تعالى (والجروح قصاص) ولان لها مفاصل يمكن القصاص فيها من غير حيف.
إذا ثبت هذا فإن قطع أصابعه من مفاصلها فله أن يقتص، وإن قطع يده من وسط الكف فليس له أن يقتص من وسط الكف لان كسر العظم لا يثبت فيه القصاص لاجماع الامة، فإن أراد أن يقتص من الاصابع من أصولها كان له ذلك، لان الاصابع يمكن القصاص فيها.
فإن قيل فكيف يضع السكين في غير الموضع الذي وضعه الجاني عليه؟ قلنا لانه لا يمكن وضعها في الموضع الذي وضعها الجاني فيه، فإذا اقتص من الاصابع فهل له أن يأخذ حكومة فيما زاد على الاصابع من الكف؟ فيه وجهان يأتي بيانهما وإن قطع يده من الكوع كان له أن يقتص من ذلك الموضع لانه مفصل، وان قطع يده من بعض الذراع فليس له أن يقتص من بعض الذراع لانه كسر عظم وإن أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة فيما زاد عليه كان له ذلك لانه داخل في الجناية يمكن القصاص فيه، وان قطع يده من المرفق فله أن يقتص من المرفق فإن أراد أن يقتص من المرفق ويأخذ الحكومة فيما زاد كان له ذلك.
وان أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة فيما زاد فقد اختلف أصحابنا فيه، وقال الشيخ أبو إسحاق له ذلك لان الجميع مفصل داخل في الجناية
وقال ابن الصباغ في الشامل والطبري في العدة: ليس له ذلك لانه يمكنه أن يقطع من المرفق، ومتى أمكنه استيفاء حقه قصاصا لم يكن له أن يستوفى بعضه قصاصا وبعضه أرشا، كما لو قطع يده من الكوع وأراد أن يقتص من الاصابع ويأخذ الحكومة فيما زاد فليس له ذلك لانه يمكنه استيفاء حقه قصاصا وإن قالا أنه يخاف من الاقتصاص الجائفة (1) لم يكن له أن يقتص من
__________
(1) قال في اللسان.
وفي الحديث " في الجائفة ثلث الدية " هي الطعنة التي تنفذ إلى الجوف، يقال جفته إذا أصبت جوفه وأجفته الطعنة وجفته بها وقال ابن الاثير: والمراد بالجوف ههنا كل ماله قوة محيلة كالبطن والدماغ(18/419)
الكتف لانه لا يؤمن أن يأخذ زيادة على حقه، فإن أراد أن يقتص من المرفق ويأخذ الحكومة فيما زاد كان له ذلك وإن أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة فيما زاد على ذلك فقال الشيخ أبو إسحاق له ذلك.
وعلى ما قال ابن الصباغ إذا قطع يده من بعض العضو وأراد أن يقتص من المرفق ليس له أن يقتص ههنا من الكوع لانه يمكن استيفاء حقه قصاصا من المرفق، ومتى أمكنه أن يأخذ حقه قصاصا فليس له أن يستوفى بعضه قصاصا وبعضه أرشا، وحكم الرجل إذا قطعت أصابعها أو من مفصل القدم أو الركبة أو الورك أو مابين ذلك حكم اليد في القصاص على ما مضى.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: إذا قطع يده من المفصل فتعلقت بالجلد وجب القصاص فتقطع إلى أن تبقى معلقة بمثل ذلك.
ويسئل أهل الطب، فإن قالوا المصلحة في قطعها قطعناها، وإن قالوا المصلحة في تركه تركناها (مسألة) إذا قطع من له يد صحيحة يدا شلاء لم يكن للمجني عليه أن يقتص بل له الحكومة.
وقال داود بن علي له أن يقتص.
دليلنا أن اليد الشلاء لا منفعة فيها، وإنما فيها مجرد جمال فلا يأخذ بها يدا فيها منفعة، وإن قطع من له يد شلاء يدا صحيحة فاختار المجني عليه أن يقطع الشلاء بالصحيحة.
قال الشافعي رضى الله عنه القصاص قال أصحابنا يرجع إلى عدلين من المسلمين من أهل الخبرة، فإن قالا: إذا قطعت هذه الشلاء لم يخف أكثر مما يخاف عليه إذا قطعت لو كانت صحيحة فللمجنى عليه أن يقتص، وإن قالا يخاف عليه أكثر من ذلك بأن تبقى أفواه العروق منتفخة فتتخللها الجراثيم فيحدث من جراء ذلك تسمم كامل فتتلف النفس لم يكن له أن يقتص لانه أخذ نفس بيد، وهذا لا يجوز، وهل يجوز أخذ اليد الشلاء باليد الشلاء؟ والرجل الشلاء بالرجل الشلاء؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانهما متماثلان
(والثانى)
لا يجوز لان الشلل علة، والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما ولا يتصور الوجهان إلا إذا قال أهل الخبرة إنه لا يخاف على الجاني، واتخذ الاطباء أسباب الوقاية من(18/420)
تلوث الدم أو حدوث نزيف فيه يفضى إلى وقت وقف القلب عن النبض، فإذا لم يمكن الاحتياط وخيف على الجاني فلا يجوز القصاص وجها واحدا على ما مضى في أخذ الشلاء بالصحيحة
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ولا تؤخذ يد كاملة الاصابع بيد ناقصة الاصابع، فان قطع من له خمس أصابع كف من له أربع أصابع، أو قطع من له ست أصابع كف من له خمس أصابع، لم يكن للمجني عليه أن يقتص منه لانه يأخذ أكثر من حقه وله أن يقطع من أصابع الجاني مثل أصابعه لانها داخلة في الجناية ويمكن استيفاء القصاص فيها، وهل يدخل أرش ما تحت الاصابع من الكف في القصاص؟ فيه
وجهان
(أحدهما)
يدخل كما يدخل في ديتها
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق انه لا يدخل بها بل يأخذ مع القصاص الحكومة لما تحتها " والفرق بين القصاص والدية أن الكف يتبع الاصابع في الدية ولا يتبعها في القصاص، ولهذا لو قطع أصابعه وتآكل منها الكف واختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الاصابع، ولو طلب القصاص قطع الاصابع وأخذ الحكومة في الكف، وتؤخذ يد ناقصة الاصابع بيد كاملة الاصابع، فان قطع من له أربع أصابع كف من له خمس أصابع، أو قطع من له خمس أصابع كف من له ست أصابع للمجني عليه أن يقتص من الكف ويأخذ دية الاصبع الخامسة أو الحكومة في الاصبع السادسة لانه وجد بعض حقه وعدم البعض، فأخذ الموجود وانتقل في المعدوم إلى البدل، كما لو قطع عضوين ووجد أحدهما
(فصل)
ولا يؤخذ أصلى بزائد، فان قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وأصبع زائدة لم يكن للمجني عليه أن يقتص من الكف لانه يأخذ أكثر من حقه، ويجوز أن يقتص من الاصابع الاصلية لانها داخلة في الجناية، ويأخذ الحكومة في الاصبع الزائدة وما تحت الزائدة من الكف يدخل في حكومتها.
وهل يدخل ما تحت الاصابع التي اقتص منها في قصاصها؟ على الوجهين، ويجوز أن يأخذ الزائد بالأصلي، فان قطع من له أربع أصابع أصلية(18/421)
وأصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية، فاللمجنى عليه أن يقتص من الكف لانه دونه حقه ولا شئ له لنقصان الاصبع الزائدة، لان الزائدة كالاصلية في الخلقة.
وإن كان لكل واحد منهما أصبع زائدة نظرت فإن لم يختلف محلهما أخذ إحداهما بالاخرى لانهما متساويان.
وان اختلف محلهما لم تؤخذ إحداهما بالاخرى لانهما مختلفان في أصل الخلقة.
(الشرح) إذا كان لرجل يد لها ستة أصابع فقطع كف رجل لها خمس أصابع نظرت في الاصبع الزائدة للجاني، فإن كانت خارجة عن عظم الكف كان للمجني أن يقتص من كف الجاني، لانه يمكنه أن يأخذ مثل كفه من غير أن يتناول الزائدة وإن كانت ثابتة على الكلب أو ملتزقة بإحدى الاصابع أو على أصابع اليد لم يكن لة أن يقتص من الكف لانه يأخذ أكثر من حقه فيكون المجني بالخيار بين أن يأخذ دية يده وبين أن يقتص من الاصابع الخمس إذا كانت الزائدة على سن الاصابع غير ملتزقة بواحدة منهن ولا نابتة على إحداهن، فإذا اقتص منها فهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يتبعها كما يتبعها في ديتها
(والثانى)
لا يتبعها، بل يأخذ مع القصاص الحكومة، لان الكف تتبع الاصابع في الدية، ولا تتبعها في القصاص، ولهذا لو قطع أصابعه فتأكل منها الكف واختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الاصابع.
ولو طلب القصاص قطعت الاصابع وأخذ الحكومة في الكف.
وان كانت الاصبع الزائدة نابتة على أنملة من الاصابع الخمس، فليس للمجني عليه أن يقتص من الكف، وله أن يقتص من الاصابع التي ليس عليها الزائدة وأما الاصبع التي عليها الزائدة - فإن كانت على الانملة العليا لم يكن له أن يقتص منها، وان كانت على الوسطى فله أن يقتص من الانملة العليا، ويجب له ثلثا دية أصبع، وان كانت على الانملة السفلى فله أن يقتص من الانملتين العلويتين وله ثلث دية أصبع ويتبعها ما تحتها من الكف، وهل يتبع ما تحت الاصابع الاربع ما تحتها من الكف في القصاص؟ على الوجهين(18/422)
وان قطع من له خمس أصابع كف يد لها أربع أصابع لم يكن لها أن يقتص
من الكف لانه يأخذ أكثر من حقه، وله أن يقتص من أصابع الجاني الاربع المماثلة لاصابعه المقطوعة، وهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص؟ أو يجب له مع ذلك حكومة؟ على الوجهين.
(فرع)
إذا كان لرجل كف فيه خمس أصابع أصلية فقطع كف يد فيه أربع أصابع أصلية وأصبع زائدة، وانما يحكم بأنها زائدة إذا كانت مائلة عن بقية الاصابع ضعيفة، فليس للمجني عليه أن يقتص من كف الجاني لانه ليس له أن يأخذ أكمل من يده، فإن اختار الارش كان له دية الاربع الاصابع الاصلية وحكومة في الزائدة وان أراد أن يقتص من الاربع الاصابع الاصلية كان له ذلك ويأخذ مع ذلك حكومة في الزائدة يتبعها ما تحته من الكف في الحكومة، وهل يتبع ما تحت الاصابع الاصلية ما تحتها من الكف في القصاص؟ أو يجب له فيه حكومة على الوجهين.
وان قطع كفا له خمس أصابع أصلية ويد القاطع لها أربع أصابع أصلية وأصبع زائدة فإن اختار المجني عليه أن يقطع كف الجاني كان له ذلك، لانه أنقص من كفه.
قال المزني في جامعه.
انما يجوز له ذلك إذا كانت الزائدة في محل الاصلية.
فأما إذا كانت في غير محلها فليس له أخذها وهذا صحيح وكذلك إذا كانت الزائدة أكثر أنامل لم يؤخذ بالاصليه.
وان قطع يدا وعليها أصبع زائد وللقاطع يد عليها أصبع زائدة فإن اتفق محل الزائدتين وقدرهما كان للمجني عليه أن يقتص من الكف لتساويهما، وان اختلفا في المحل لم يكن له أن يقتص من الكف لانه يأخذ أكثر من حقه، وان كانت أقل أنامل كان له أن يقتص ويأخذ في الزيادة الحكومة وبكل ما قلنا قال العلماء كافة إلا ما ذكرناه من خلاف داود بن علي
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قطع من له يد صحيحة كف رجل له أصبعان شلا وان
لم يقتص منه في الكف لانه يأخذ كاملا بناقص ويجوز أن يقتص في الاصابع الثلاث الصحيحة لانها مساوية لاصابعه ويأخذ الحكومة في الشلاوين لانه(18/423)
لا يجد ما يأخذ به ويدخل في حكومة الشلاوين أرش ما تحتهما من الكف وهل يدخل أرش ما تحت الثلاثة في قصاصها على الوجهين
(فصل)
ولا تؤخذ يد ذات أظفار بيد لا أظفار لها لان اليد بلا أظفار ناقصة فلا تؤخذ بها يد كاملة وتؤخذ يد لا أظفار لها بيد لها أظفار لانه يأخذ بعض حقه.
(فصل)
فإن قطع أصبع رجل فتأكل منه الكف وجب القصاص في الاصبع، لانه أتلفه بجناية عمد، ولا يجب في الكف، لانه لم يتلفه بجناية عمد لان العمد فيه أن يباشره بالاتلاف ولم يوجد ذلك ويجب عليه دية كل أصبع من الاصابع لانها تلفت بسبب جنايته ويدخل في دية كل أصبع أرش ما تحته من الكف لان الكف تابع للاصابع في الدية وهل يدخل ما تحت الاصابع التي اقتص منها في قصاصها على الوجهين (الشرح) إذا قطع كفا له ثلاث أصابع صحيحة وأصبعان شلا وان كان كف القاطع صحيحة الاصابع فليس للمجني عليه أن يقتص من الكف لانه يأخذ أكمل من يده، وان رضى الجاني بذلك لم يجز لان القصاص لم يجب فيها فلم يجز بالبدل كما لو قتل حر عبدا ورضى أن يقتل به، وللمجنى عليه أن يقتص من الاصابع الثلاث الصحيحة، فإذا اقتص منها فهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص؟ أو تجب فيها الحكومة؟ فيه وجهان.
وأما الاصبعان الشلاوان فله فيهما حكومة، وان كانت كف المقطوع صحيحة الاصابع وكف للقاطع فيها أصبعان شلاوان فالمجني عليه بالخيار بين أن يأخذ
دية يده وبين أن يقتص من كف الجاني، لانها أنقص من كفه، ولا شئ للمجني عليه لنقصان كف الجاني بالشلل، أما إذا اختار الدية فله دية يده لا نعلم فيه خلافا لانه عجز عن أستيفاء حقه على الكمال بالقصاص فكانت له الدية كما لو لم يكن للقاطع يد، وهذا قول أبى حنيفة ومالك وأحمد.
وان قطع كفا له خمس أصابع وكف القاطع فيها ثلاث أصابع لا غير وأصبعان مفقودتان فللمجنى عليه أن يقتص من كف الجاني ويأخذ منه دية الاصبعين،(18/424)
وقال أبو حنيفة: هو بالخيار بين أن يأخذ دية يده وبين أن يقتص من يد الجاني ولا شئ له.
دليلنا قوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) ويد الجاني ليست مثل يد المجني عليه، ولانه استوفى بعض حقه فكان له أرش ما لم يستوفه كما لو قطع له أصبعين ولم يجد له إلا واحدة (فرع)
وإن قطع ذو يد لها أظفار يد من لا أظفار له لم يجز القصاص لان الكاملة لا تؤخذ بالناقصة، فإن سقطت أظافره قطعت ولو لم يكن لواحد منهما أظافر حالة القطع يقتص منه، فلو ثبت للقاطع أظافر قبل أن يقتص منه لايقتص لطروء الزيادة، ويجوز أن يأخذ اليد التي لاأظفار لها باليد التي لها أظفار، لانها أنقص من يده (فرع)
وإن قطع أنملة لها طرفان - فإن كانت أنملة القاطع لها طرفان من تلك الاصبع بتلك اليد فللمجنى عليه قطعها لانها مثل حقه، وإن كانت أنملة القاطع لها طرف واحد فللمجنى عليه أرش الانملة، فإن قال المجني عليه أنا أصبر على القصاص إلا أن تسقط الانملة الزائدة وأقتص في الاصلية - كان له ذلك، لان له تأخير القصاص، هذا ترتيب البغداديين كما أفاده صاحب البيان وقال المسعودي: إن علمت الاصلية منهما قطعت إحداهما ويغرم الجاني
التفاوت ما بين سدس دية أصبع وثلثها (فرع)
وإن قطع أنملة من سبابة رجل وقطع الانملة الوسطى من تلك الاصبع من رجل آخر - فإن جاء المجني عليهما - قطعت العليا لصاحب العليا وقطعت الوسطى لصاحب الوسطى، وإن جاء صاحب الوسطى أولا وطلب القصاص لم يكن له ذلك، لانه لا يمكن قطعها من غير قطع العليا، ويكون بالخيار بين أن يأخذ دية الانملة وبين أن يصير إلى أن يقتص صاحب العليا لو سقط بأكلة - وهى ما تسمى الغنغرينة - وهكذا إن عفا صاحب العليا عن القود ولم يقطع الانملة العليا من إنسان لكن قطع الانملة الوسطى من رجل جاء صاحب الوسطى يطلب النقصان وللجاني الانملة العليا والوسطى، فلمجنى عليه أن يصبر إلى أن تقطع العليا أو تسقط ثم يقتص من الوسطى.
وقال أبو حنيفة لا قصاص له لانه حين قطعها لم يجب القصاص عليه فيها(18/425)
لتعذر استيفائها، فإذا لم تجب حال الجناية لم تجب بعد ذلك.
دليلنا أن القصاص إنما تعذر لمتصل به، فإذا زال ذلك المتصل كان له استيفاء القصاص، كما لو قتلت حامل غيرها ثم ولدت - فإن لم يصبر صاحب الوسطى وقطع الوسطى والعليا فقد فعل مال لا يجوز له على المقتص منه فيجب عليه ديتها، وقد استوفى القصاص في الوسطى، فإن قطع العليا من أصبع زيد، وقطع العليا والوسطى من تلك الاصبع من عمرو، فإن حضرا معا وطلبا القصاص اقتص زيد من العليا لانه اسبق واقتص عمرو من الوسطى وأخذ دية العليا.
وكذلك إن حضر زيد وحده فله أن يقتص من العليا، وإن حضر عمرو فليس له أن يقتص لان حق زيد تعلق في العليا قبله، وإن خالف واقتض من العليا والوسطى فقد أساء بذلك، ولكنه يصير مستوفيا لحقه، ويكون لزيد دية الانملة العليا على الجاني.
(فرع)
ذكر الطبري في العدة: لو كان المجني عليه أربع أنامل في أصبع فله أربعة أحوال: أحدها: أن يقطع من له ثلاث أنامل أنملة من الاربع فلا قصاص عليه.
وان قطع أنملتين من الاربع قطع من الجاني أنملة ويغرم الجاني التفاوت فيما بين النصف والثلث من دية الاصبع، وان قطع له ثلاث أنامل قطع منه أنملتين ويغرم ما بين ثلثى دية أصبع وبين ثلاثة أرباع ديتها، وإن قطع له أربع أنامل قطعت أنامل القاطع الثلاث ووجب عليه مع ذلك زيادة حكومة، فأما إذا كان للقاطع أربع أنامل وللمقطوع ثلاث أنامل فله ثلاثة أحوال، أن قطعت أنملة منه قطعت أنملة منه ويغرم الجاني ما بين ثلث دية أصبع وبين ربعها، وهو خمسة أسداس بغير، وان قطع أنملتين قطع منه أنملتين ويغرم التفاوت بين نصف دية الاصبع وثلثيها.
وإن قطع جميع أنامله قطع منه ثلاث أنامل ويغرم التفاوت بين ثلاثة أرباع دية الاصبع وجميع ديتها - وهو بعيران ونصف - فعل هذا لو بادر فقطع أصبعه عزر ولا شئ عليه من الدية.
وفيه وجه أن له قطع أصبعه بخلاف اليد التي لها ست أصابع، لان تلك الزيادة ظاهرة في منفصلات كاليدين.(18/426)
(مسألة) إذا قطع أصبع رجل فتأكل منها الكف وسقط فللمجنى عليه القصاص للاصبع المقطوعة وله دية الاصابع الاربع وما تحت الاصابع الاربع من الكف يتبعها في الدية وما تحت الاصبع التي اقتص فيها، هل يتبعها في القصاص أو يجب له حكومة؟ فيه وجهان.
هذا مذهبنا وقال أبو حنيفة: لا يجب له القصاص في الاصبع المقطوعة دليلنا قوله تعالى (والجروح قصاص) وقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وقد اعتدى بقطع الاصبع فوجب أن يقطع منه.
ولانها جناية لو لم يستوجب فيها القصاص فوجب إذا سرت إلى الاقتصاص فيه أن لا يسقط القصاص كالمرأة إذا قطعت يد المرأة فأسقطت جنينا فلا يسقط القصاص في اليد.
(فرع)
قال القفال: لو كان له قدمان على ساق واحد يمشى عليها أو يمشى على إحداهما والاخرى زائلة عن سنن منبت القدم فقطعها رجل له قدم قطعت رجله وطولب بحكومة للزيادة، وإن قطع إحداهما - فإن قطع الزائدة - فعليه حكومة، وإن استويا في المنبت وكان يمشى عليها ففي المقطوعة ربع الدية وزيادة حكومة، وإن كان الجاني هو صاحب القدمين - فإن عرفنا الزائدة من الاصلية وأمكن قطعها من غير أن تتلف الزائدة - قطعت وان لم تعرف أو عرفت: ولا يمكن قطعها الا بإتلاف الاخرى لم تقطع وعليه دية الرجل المقطوعة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتؤخذ الاليتان بالاليتين وهما النائتان بين الظهر والفخذ.
وقال بعض أصحابنا لا تؤخذ، وهو قول المزني رحمة الله عليه لانه لحم متصل بلحم فأشبه لحم الفخذ، والمذهب الاول لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولانهما ينتهيان إلى حد فاصل فوجب فيهما القصاص كاليدين
(فصل)
ويقطع الذكر بالذكر لقوله تعالى والجروح قصاص، ولانه ينتهى إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص ويؤخذ بعضه ببعضه.(18/427)
وقال أبو إسحاق: لا يؤخذ بعضه ببعض كما قال في اللسان والمذهب الاول لانه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه، ويؤخذ ذكر الفحل بذكر
الخصى لانه كذكر الفحل في الجماع وعدم الانزال لمعنى في غيره، ويقطع الاغلف بالمختون لانه يزيد على المختون بجلدة يستحق إزلاتها بالختان، ولا يؤخذ صحيح بأشل لان الاشل ناقص بالشلل فلا يؤخذ به كامل
(فصل)
ويقطع الانثيان بالانثيين لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولانه ينتهى إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص.
فإن قطع إحدى الانثيين وقال أهل الخبرة إنه يمكن أخذها من غير إتلاف الاخرى اقتص منه، وإن قالوا انه يؤدى قطعها إلى اتلاف الاخرى لم يقتص منه، لانه يقتص من أنثيين بواحدة (الشرح) قول المصنف رضى الله عنه " وتؤخذ الاليتان بالاليتين " وهما اللحمان النائتان بين الظهر والفخذين وقد صنعهما الله تعالى كالمخدتين لحماية ما تحتهما من مفاصل الفخذ والحقو وفتحة الدبر وعجب الذنب ومنبت الفقرات الظهرية، وهما كالمقعد يعتمد عليهما الانسان في قعوده فتبارك الله أحسن الخالقين، فكان على من حرم أخاه هذه النعمة أن يحرم منها قصاصا.
هذا ومن أصحابنا من قال لا تؤخذ، وهو قول المزني لانه لحم متصل بلحم فأشبه لحم الفخذين، والمذهب الاول لانهما ينتهيان إلى حد فاصل فهما كاليدين (مسألة) يقطع الذكر بالذكر لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولانه عضو ينتهى إلى مفصل فوجب فيه القصاص كاليد إذا ثبت هذا فيقطع ذكر الرجل بذكر الصبى، ويقطع ذكر الشاب بذكر الشيخ لان كل عضو جرى القصاص فيه بين الرجل والرجل جرى فيه القصاص بين الصبى والرجل كاليد والرجل، ويقطع ذكر الفحل بذكر الخصى والعنين.
وقال مالك وأحمد رضى الله عنهما لا يقطع به ولنا أنهما متساويان في السلامة، وانما عدم الانزال والجماع لمعنى في غيره
فلم يمنع القصاص، كأذن السميع بأذن الاصم، ولا يقطع الذكر الصحيح(18/428)
بالذكر الاشل لانه لا يساويه، مثل أن كان لا ينمو بنمو صاحبه فبقى كما هو، فلو شل وصاحبه في العاشرة من عمره لوقف نموه ولا ينتصب ولا يجامع وقد تنسد فتحته فلا يبول ويعمل له الاطباء فتحة أخرى يبول منها فمثل هذا لا يقطع به ذكر سليم، وان قطع بعض ذكره انتقض منه وقال أبو إسحاق لايقتص منه كما قال في اللسان، والاول أصح، لانه إذا أمكن في جميعه أمكن في بعضه: فعلى هذا يعتبر المقطوع بالحد كالنصف والثلث والربع كما قلنا في الاذن والانف.
قال الشافعي: ويقاد ذكر الا غلف بذكر المختون، كما تقطع اليد السمينة بالمهزولة، ولان تلك الجلدة مستحقة بالقطع فلا يمنع من القصاص (فرع)
وان قطع أنثييه اقتص منه لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولانه طرف يمكن اعتبار المماثلة في أخذ القصاص به فشابه سائر الاطراف، فإن قطع احدى أنثييه قال الشافعي رضى الله عنه: سألت أهل الخبرة - فإن قالوا يمكن أن يقتص من أحدى البيضتين من القاطع ولا تتلف الاخرى - اقتص منه، وان قيل تتلف الاخرى لم يقتص منه - لانه لا يجوز أخذ اثنتين بواحدة - ويجب له نصف الدية.
وهل يبتعها جلدتها أو تفرد بحكم؟ فيه وجهان حكاهما في الفروع.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلف أصحابنا في الشفرين، فمنهم من قال لاقصاص فيهما.
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله لانه لحم وليس له مفصل ينتهى إليه فلم يجب فيه القصاص كلحم الفخذ.
ومنهم من قال يجب فيه القصاص، وهو
المنصوص في الام، لانهما لحمان محيطان بالفرج من الجانبين يعرف انتهاؤهما فوجب فيهما القصاص.
(فصل)
وان قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه وطلب حقه قبل أن يتبين حالة أنه ذكر أو أنثى نظرت فان طلب القصاص لم يكن له لجواز أن يكون امرأة فلا يجب لها عليه في شئ من ذلك قصاص، وان طلب المال(18/429)
نظرت فإن عفا عن القصاص أعطى أقل حقيه وهو حق امرأة، فيعطى دية عن الشفرين وحكومة في الذكر والانثيين، فإن بان أنه امرأة فقد استوفت حقها وإن بان أنه رجل تمم له الباقي من دية الذكر والانثيين وحكومة عن الشفرين، فإن لم يعف عن القصاص وقف القصاص إلى أن يتبين لانه يجوز أن يكون امرأة فلا يجب عليه القصاص.
وأما المال ففيه وجهان
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه لا يعطى لان دفع المال لا يجب مع القود وهو مطالب بالقود فسقطت المطالبة بالمال.
والوجه الثاني وهو قول أكثر أصحابنا بأنه يعطى أقل ما يستحق مع القود لانه يستحق القود في عضو والمال في غيره فلم يكن دفع المال عفوا عن القود فيعطى حكومة في الشفرين ويوقف القود في الذكر والانثيين وقال القاضى أبو حامد المروروذى في جامعه: يعطي دية الشفرين.
وهذا خطأ، لانه ربما بان أنه رجل فيجب القود في الذكر والانثيين، والحكومة في الشفرين.
(الشرح) هذا البحث قائم على سؤال: هل يجب القصاص في الشفرين؟ وهما اللحم المحيط بالفرج، فيه وجهان
(أحدهما)
يجب.
لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولانهما لحمان محيطان بالفرج من الجنين يعرف انتهاؤهما فوجب فيهما
القصاص
(والثانى)
لا يجب، وهو قول الشيخ أبى حامد لانه لحم وليس له مفصل ينتهى إليه فلم يجب فيه القصاص كلحم الفخذ، والاول هو المنصوص في الام.
(فرع)
إذا قطع ذكر خنصى مشكل وأنثييه وشفريه فلا يخلو القاطع إما أن يكون رجلا أو امرأة أو خنثى مشكلا - فإن كان القاطع رجلا - لم يجب عليه القصاص في الحال لجواز أن يكون الخنثى امرأة بالذكر والانثيان فيه زائدات، فلا تؤخذ الاصليان بالزائدين.
وقيل له أنت بالخيار بين أن تصبر إلى أن يبين حالك فيجب لك القصاص إن بان أنك رجل، وبين أن تعفو وتأخذ المال.
فإن قال أعطوني ما وجب لى من المال نطرت - فإن عفا عن القصاص(18/430)
في الذكر والانثيين، أو لم يكن للجاني ذكر ولا أنثيين إن كان قد قطعا.
قال أصحابنا البغداديون: فإنه يعطى دية الشفرين، وحكم الذكر والانثيين لا يبلغ ديتها لانه يستحق ذلك بيقين ويشك في الزيادة.
وإن قال: لاأقف ولا أعفو عن القصاص وطلب المال فهل يعطى شيئا؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
لَا يعطى لانه مطالب بالقود، ولا يجوز أن يأخذ المال وهو مطالب بالقود.
وقال أكثر أصحابنا يعطى، وهو الاصح لانه يستحقه بيقين، فإذا قلنا بهذا فكم القدر الذي يعطى؟ اختلف أصحابنا فيه فقال القفال يعطى حكومة في الشفرين لانه يستحق ذات بيقين وقال القاضى أبو حامد: يعطى دية الشفرين: لانا لانتوهم وجوب القصاص فيهما.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال أو آلة النساء لان ذلك هو اليقين.
ومن أصحابنا من قال: يعطي الحكومة في الذي قطعه آخر.
والاول أصح.
وان كان القاطع امرأة - فإن قلنا بقول الشيخ أبى حامد وأنه لاقصاص في الشفرين - فإنا لانتوهم وجب القصاص، فيعطى حكومة في آله الرجل وحكومة في آلة النساء، فإن بان رجلا تمم له دية الذكر والانثيين وحكومة الشفرين، وإن بان امرأة تمم له دية الشفرين وحكومة للذكر والانثيين.
وان قلنا بالمنصوص وأنه يجب القصاص فيهما فإنه لا يجب للخنثى القصاص في الحال لجواز ان يكون رجلا فلا يجب القصاص على المراة في الفرج الزائد، فإن طلب المال نظرت - فإن عفا عن القصاص أو لم يعف ولكن ليس للقاطعة شفراوان فعلى قول البغداديين من أصحابنا يعطى دية الشفرين وحكومة عن الذكر والانثيين فإن بان امرأة فقد استوفت حقها وان بان امرأة فقد استوفت حقها وان بان رجلا تمم له دية الذكر ودية الانثيين وحكومة الشفرين، وعلى قول الخراسانيين يعطى حكومة للشفرين وحكومة للذكر والانثيين.
وان لم يعف عن القصاص وكان للقاطعة شفرتان فعلى قول أبى علي بن هريرة لا يعطى وعلى قول أكثر أصحابنا يعطى، فإذا قلنا بهذا فكم يعطى؟ وعلى قول القفال يعطى حكومة في الذكر والانثيين وعلى قول القاضى أبى حامد يعطى دية الذكر(18/431)
والانثيين، وعلى قول بعض أصحابنا الخراسانيين يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال وآلة النساء، وإن كان القاطع خنثى مشكلا فإنه لا يجب القصاص في الحال لانا لا نتيقن عين الزائد من الاليتين فيهما ولا عين الاصلى، فلو أوجبنا القصاص في الحال لم نأمن أن يأخذ أصليا بزائد وذلك لا يجوز، فإن طلب حقه من المال نظرت - فإن عفا عن القصاص - قال أصحابنا البغداديون: أعطى دية الشفرين وحكومة للذكر والاليتين لانه يستحق ذلك بيقين وقال الخراسانيون: يعطى الحكومة في الذكر والانثيين والشفرين، وان
لم يعف عن القصاص فهل يعطى شيئا؟ إن قلنا بقول علي بن أبى هريرة لا يعطى شيئا إذا كان القاطع رجلا أو أمرأة فههنا أولى أن لا يعطى.
وإن قلنا هناك يعطى فها هنا وجهان:
(أحدهما)
لا يعطى وهو قول القفال لان القصاص متوهم في جميع الآلات
(والثانى)
يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال والنساء، والصحيح أنه لا يعطى شيئا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وما وجب فيه القصاص من الاعضاء وجب فيه القصاص، وان اختلف العضوان في الصغر والكبر والطول والقصر والصحة والمرض، لانا لو أعتبرنا المساواة في هذه المعاني سقط القصاص في الاعضاء، لانه لا يكاد أن يتفق العضوان في هذه الصفات فسقط اعتبارها
(فصل)
وما انقسم من الاعضاء إلى يمين ويسار كالعين واليد وغيرهما لم تؤخذ اليمين فيه باليسار ولا اليسار باليمين، وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالشفة والجفن لم يؤخذ الاعلى بالاسفل ولا الاسفل بالاعلى، ولا يؤخذ سن بسن غيرها ولا أصبع بأصبع غيرها ولا أنملة بأنملة غيرها لانها جوارح مختلفة المنافع والاماكن فلم يؤخذ بعضها ببعض، كالعين بالانف واليد بالرجل وما لا يؤخذ(18/432)
بعضه ببعض ما ذكرناه لا يؤخذ: وان رضى الجاني والمجني عليه، وكذلك ما لا يوخذ من الاعضاء الكاملة بالاعضاء الناقصة، كالعين الصحيحة بالقائمة، واليد الصحيحة بالشلاء، لا يؤخذ وإن رضى الجاني والمجني عليه بأخذها، لان الدماء لاتستباح بالاباحة.
(فصل)
وإن جنى على رجل جناية يجب فيها القصاص ثم قتله وجب القصاص
فيهما لانهما جنايتان يجب القصاص في كل واحدة منهما، فوجب القصاص فيهما عند الاجتماع كقطع اليد والرجل (الشرح) كل عضو وجب فيه القصاص فإنه يجب فيه، وان اختلف العضوان في الصغر والكبر، والصحة والمرض، والسمن والهزال، لقوله تعالى (والعين بالعين والاذن بالاذن والسن بالسن) ولم يفرق، ولانا لو اعتبرنا هذه الاشياء لشق وضاق فسقط اعتباره كما سقط اعتبار ذلك في النفس، وما كان من الاعضاء منقسما إلى يمين ويسار كالعينين والاذنين واليدين والرجلين لا يجوز أخذ اليمنى منه باليسرى ولا اليسرى منه باليمنى.
وقال ابن شبرمة يجوز.
ولنا أن كل واحد منهما يختص باسم ينفرد به فلا يوخذ بغيره، كما لا يؤخذ اليد بالرجل، وكذا لا يؤخذ الجفن الاعلى بالجفن الاسفل، ولا العكس، وكذلك الشفتان مثله، ولا يؤخذ سن بسن غيرها، ولا أصبع بأصبع غيرها، ولا أنملة بأنملة غيرها، كما لا تؤخذ نفس بجنايتة نفس غيرها ولا يؤخذ أي شئ من ذلك وإن رضى كل من الجاني والمجني عليه، وكذلك إذا رضى الجاني بأن يؤخذ العضو الكامل بالناقص، والصحيح بالاشل، لم يجز لان الدماء لاتستباح بالاباحة (مسألة) إذا قطع يد رجل ثم عاد فقتله كان له أن يقطع يده ثم يقتله، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: ليس له إلا القتل.
دليلنا قوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وهذا قد اعتدى بقطع اليد فلم يمنع من قطع يده، ولانهما جنايتان يجب القصاص في كل واحدة منهما إذا انفردت فوجب القصاص فيهما عند الاجتماع كقطع اليد والرجل(18/433)
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن قتل واحد جماعة أو قطع عضوا من جماعة لم تتداخل حقوقهم لانها حقوق مقصودة لآدميين فلم تتداخل كالديون، فإن قتل أو قطع واحدا بعد واحد اقتص منه للاول، لان له مزية بالسبق، وإن سقط حق الاول بالعفو اقتص للثاني، وان سقط حق الثاني اقتص للثالث، وعلى هذا.
وإذا اقتص منه لواحد بعينه تعين حق الباقين في الدية، لانه فاتهم القود بغير رضاهم، فانتقل حقهم إلى الدية، كما لو مات القاتل أو زال طرفه، وإن قتلهم أو قطعهم دفعة واحدة أو أشكل الحال أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة اقتص له لانه لامزية لبعضهم على بعض فقدم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض نسائه، فإن خرجت القرعة لواحد فعفا عن حقه أعيدت القرعة للباقين لتساويهم وإن ثبت القصاص لواحد منهم بالسبق أو بالقرعة فبدر غيره واقتص صار مستوفيا لحقه.
وإن أساء في التقدم على من هو أحق منه، كما قلنا فيمن قتل مرتدا بغير إذن الامام أنه يصير مستوفيا لقتل الردة، وإن أساء في الافتيات على الامام.
وإن قتل رجل جماعة في المحاربة ففيه وجهان
(أحدهما)
أن حكمه حكم ما لو قتلهم في غير المحاربة (والثاني) أنه يقتل بالجميع لان قتل المحاربة لحق الله تعالى، ولهذا لا يسقط بالعفو فتداخل كحدود الله تعالى
(فصل)
وإن قطع يد رجل وقتل آخر قطع للمقطوع ثم قتل للمقتول تقدم القطع أو تأخر، لانا إذا قدمنا القتل سقط حق المقطوع، وإذا قدمنا القطع لم يسقط حق المقتول، وإذا أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص لم يجز إسقاط أحدهما، ويخالف إذا قتل اثنين لانه لا يمكن إيفاء الحقين فقدم السابق، وإن قطع أصبعا من يمين رجل ثم قطع يمين آخر قطع الاصبع للاول ثم قطعت اليد للثاني ويدفع إليه أرش الاصبع، ويخالف إذا قطع ثم قتل حيث قلنا إنه يقطع للاول ويقتل للثاني ولا يلزمه لنقصان اليد شئ لان النفس لا تنقص بنقصان
اليد، ولهذا يقتل صحيح اليد بمقطوع اليد، واليد تنقص بنقصان الاصبع، ولهذا لا تقطع اليد الصحيحة بيد ناقصة الاصابع.(18/434)
وان قطع يمين رجل ثم قطع أصبعا من يد رجل آخر قطعت يمينه للأول لان حقه سابق، ويخالف إذا قتل رجل ثم قطع يد آخر حيث أخرنا القتل، وإن كان سابقا، لان هناك يمكن إيفاء الحقين من غير نقص يدخل على ولى المقتول بقطع اليد، وههنا يدخل النقص على صاحب اليد بنقصان الاصبع.
(فصل)
وإن قتل رجلا وارتد، أو قطع يمين رجل وسرق، قدم حق الآدمى من القتل والقطع، وسقط حق الله تعالى، لان حق الآدمي مبنى على التشديد، فقدم على حق الله تعالى (الشرح) إذا قتل واحد جماعة قتل بواحد وأخذ الباقون الدية، وقال أبو حنيفة ومالك يقتل بالجماعة - فإن بادر واحد وقتله - سقط حق الباقين، وبه قال أصحابنا الخراسانيون.
وقال أحمد رحمه الله: إن طلبوا القصاص قتل لجماعتهم، وان طلب بعضهم القصاص وبعضهم الدية قتل لمن طلب القصاص وأعطى الدية من طلبها.
وقال عثمان البتي: يقتل بجماعتهم ثم يعطون الدية في باقيهم فيقسمونها بينهم، مثل أن يقتل عشرة، فإنه يقتل ويعطون تسع دياث ويقسمونها بين العشرة.
ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية " ولانها حقوق مقصودة لآدميين يمكن استيفاؤها فوجب أن لا يتداخل كالديون وقولنا مقصودة إحتراز من آجال الدين.
وقولنا لآدميين احتراز من حقوق الله تعالى وهي الحدود في الزنا وشرب الخمر
إذا ثبت هذا فإن قتل واحدا بعد واحد اقتص للاول، فإن عفا الاول اقتص للثاني، وإن عفا الثاني اقتص للثالث.
وان كان ولى الاول غائبا أو صغيرا انتظر قدوم الغائب وبلوغ الصغير.
وان قتلهم دفعة واحدة بأن هدم عليهم بيتا أو جرحهم فماتوا معا أقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة قتل به وكان للباقين الدية.
وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: يقتل بالجيمع ويرجع كل واحد من الاولياء بحصته من الدية.
وإن قتلهم واحدا بعد واحد إلا أنه أشكل الاول منهم(18/435)
فإن أقر القاتل لاحدهم أنه الاول قبل إقراره وقتل به، وان لم يقر أقرعنا بينهم لاستواء حقوقهم، فإن بادر أحدهم وقتله فقد استوفى حقه وانتقل حق الباقين إلى الدية.
وحكى الخراسانيون من أصحابنا أنه إذا قتل واحدا بعد واحد، وكان ولى الاول غائبا أو مجنونا أو صغيرا قولين: أحدهما يستوفى ولى الثاني والثاني لا يستوفي بل ينتظر حضور الغائب وإفاقة المجنون وبلوغ الصغير.
وإن قتل جماعة في قطع الطريق وقلنا بالمشهور من المذهب انه يقتل بواحد في غير قطع الطريق فهاهنا وجهان.
وحكاهما الخراسانيون قولين
(أحدهما)
حكمه حكم ما لو قتلهم في غير قطع الطريق لما ذكرناه هناك (والثاني) يقتل بالجميع ولا شئ للباقين لانه يقتل حدا، بدليل أنه لا يصح العفو فيه، وان قطع عضوا من جماعة فحكمه حكم ما لو قتل جماعة على ما مضى (مسألة) وان قطع يد رجل وقتل آخر، قطعت يده للمقطوع ثم قتل للمقتول سواء تقدم قطع اليد أو تأخر، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ يقتل للمقتول ولا تقطع يده للمقطوع، دليلنا قوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) الاية.
فأخبر أن النفس تؤخذ بالنفس والطرف بالطرف، فمن قال غير هذا فقد خالف الاية، ولانهما جنايتان على شخصين فلا يتداخلان كما لو قطع يدى رجلين، وانما قدمنا القطع ههنا، وان كان متأخرا لانه يمكن إيفاء الحقين من غير نقص على أحدهما، ومتى أمكن إيفاء الحقين لم يجز إسقاط أحدهما.
وان قطع أصبعا من يمين رجل ثم قطع يمين آخر قطعت أصبعه للاول، ثم قطعت يده للثاني ولزمه أن يغرم للثاني دية أصبعه التي لم يقتص منها، ويخالف إذا قتل رجل مقطوع اليد لرجل غير مقطوع اليد - فإنه لا يغرم شيئا له - لان اليد تنقص بنقصان الاصبع، ولهذا لا تؤخذ يد كاملة الاصابع بيد ناقصة الاصابع والنفس لا تنقص بنقصان اليد، ولهذا يقتل من له يدان بمن له يدان بمن له يد واحدة، وان قطع يمين رجل ثم قطع أصبعا من يمين آخر قطعت يمينه للاول، وأخذ الاخر دية أصبعه المقطوعة، ويخالف إذا قطع يمين رجل ثم قتل آخر حيث قلنا(18/436)
يقدم القطع، وان كان متأخرا، لان اليد ينقص بنقصان الاصبع: والنفس لا تنقص بنقصان اليد (فرع)
إذا قتل رجلا وارتد أو قطع يمين رجل وسرق، قدم حق الادمي من القتل والقطع لانه مبنى على التشديد، وحق الله مبنى على المسامحة.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(باب استيفاء القصاص)
من ورث المال ورث الدية، لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر رضى الله عنه يقول: لا ترث المرأة من دية زوجها، حتى قال له الضحاك ابن قيس: كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ورث امرأة أشيم الضبابي
من دية زوجها، فرجع عمر رضى الله عنه عن ذلك " ويقضي من الدية دينه وينفذ منها وصيته.
وقال أبو ثور.
لا يقضى منها الدين ولا ينفذ منها الوصية، لانها تجب بعد الموت، والمذهب الاول، لانه مال يملكه الوارث من جهة فقضى منه دينه، ونفذت منه وصيته كسائر أمواله.
ومن ورث المال ورث القصاص، والدليل عليه ماروى أبو شريح الكعبي " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ثم أنتم يا خراعة قد قلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " وإن قطع مسلم طرف مسلم ثم ارتد ومات في الردة، وقلنا بأصح القولين انه يحب القصاص في طرفه، فقد نقل المزني أنه قال يقتص وليه المسلم، وقال المزني رحمه الله: لايقتص غير الامام لان المسلم لا يرثه، فمن أصحابنا من قال لايقتص غير الامام كما قال المزني، وحمل قول الشافعي رحمة الله عليه على الامام وقال عامة أصحابنا يقتص المناسب، لان القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ والذي يتشفى هو المناسب، ويجوز أن يثبت القصاص لمن لا يرث شيئا،(18/437)
كما لو قتل من له وارث وعليه دين محيط بالتركة، فإن القصاص للوارث وان لم يرث شيئا، وإن كان الوراث صغيرا أو مجنونا لم يستوف له الولى، لان القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ، وذلك لا يحصل باستيفاء الولى، ويحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير أو يعقل المجنون، لان فيه حظا للقاتل بأن لا يقتل، وفيه حظا للمولى عليه ليحصل له التشفي، فإن أقام القاتل كفيلا ليخلى لم يجز تخليته لان فيه تغريرا بحق المولى عليه بأن يهرب فيضيع الحق.
وإن وثب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله ففيه وجهان: أحدهما أنه يصير
مستوفيا لحقه، كما لو كانت له وديعة عند رجل فأتلفها.
والثانى لا يصير مستوفيا لحقه وهو الصحيح، لانه ليس من أهل استيفاء الحقوق ويخالف الوديعة، فإنها لو تلف من غير فعل برئ منها المودع.
ولو هلك الجاني من غير فعل لم يبرأ من الجناية.
وان كان القصاص بين صغير وكبير لم يجز للكبير أن يستوفى، وان كان بين عاقل ومجنون لم يجز للعاقل أن يستوفي لانه مشترك بينهما فلا يجوز لاحدهما أن ينفرد به، فإن قتل من لا وارث له كان القصاص للمسلمين واستيفاوه إلى السلطان، وان كان له من يرث منه بعض القصاص كان استيفاؤه إلى الوارث والسلطان، ولايجوز لاحدهما أن ينفرد به لما ذكرناه (الشرح) خبر الضحاك بن قيس أسنده المصنف لم يرو أن الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو الضحاك بن قيس لانه ولد قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسبع سنين.
فهو الضحاك بن قيس بن خالد الاكبر أبن وهب بن ثعلبة يكنى أبا أنيس، وقيل أبو عبد الرحمن، والاول أفاده الواقدي، وهو أخو فاطمة بنت قيس وكان أصغر سنا منها، ويرجح أنه لم يَسْمَعْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضلا عن أن يوليه ويكتب إليه.
وقد كان الضحاك بن قيس على شرطة معاوية ثم صار عاملا على الكوفة بعد زياد، وقد قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط لانه كان يأخذ البيعة لابن الزبير قتله جنود يزيد.
أما الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم وكتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابى فهو الضحاك بن سفيان الكلابي، فهو الذي ولاه النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(18/438)
أمر من اسلم من قومه، وقد ثبت أن الرسول أمره على سرية فذكره العباس ابن مرداس في شعره فقال: ان الذين وفوا بما عاهدتهم جيش بعثت عليهم الضحاكا
أمرته ذرب السنان كأنه لما تكنفه العدو يراكا طورا يعانق باليدين وتارة يفرى الجماجم صارما بتاكا وكان رضى الله عنه أحد الابطال، وكان يقوم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحا سيفه، وكان يعد بمائة فارس قال ابن عبد البر، وله خبر عجيب مع بنى سليم ذكره أهل الاخبار: روى الزبير بن بكار: حدثتني ظيماء بنت عبد العزيز حدثنى أبى عن جدى موألة بن كثيف أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان سياف رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ بنو سليم في تسعمائة، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم: هل لكم في رجل يعدل مائة يوفيكم ألفا؟ فوافاهم بالضحاك بن سفيان وكان رئسيهم.
ولابن مرداس: عشية ضحاك بن سفيان معتص لسيف رسول الله والموت واقع روى عنه سعيد بن المسيب والحسن البصري، فإذا ثبت هذا فإن الحديث أخرجه أبو داود في الفرائض عن أحمد بن صالح والترمذي عنه في الفرائض، وعن قتيبة وأحمد بن منيع وغير واحد، وفي الديات عن قتيبة وأبى عمار بن الحسين بن حريث وابن ماجه في الديات عن أبى بكر بن أبى شيبة ومالك في الموطأ في العقول عن أبن شهاب والضبابي وهو بطن من كلاب منهم شمر بن ذى الجوشن قاتل الحسين عليه السلام وأما حديث أبى شريح الكعبي فقد أخرجه أبو داود في الديات عن مسدد، والترمذي في الديات عن محمد بن بشار، وقد أخرجه بمعناه أحمد والشيخان وابن ماجه والدارمى.
وأبو شريح اسمه خويلد بن عمرو، وقد مضى تحقيق نسبه وشئ من مناقبه آنفا.
وقوله " بين خيرتين " الخيرة وزان عنبة الاسم من قولك: اختاره الله تعالى
وخيرة بالتسكين أيضا، والاهل يقع على الذكر والانثى.(18/439)
أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولم يختلفوا في أن العقل موروث كالمال.
وجملة ذلك أنه إذا قتل رجل رجلا خطأ أو عمدا وعفى عنه على المال، فإن الدية تكون لجميع ورثة المقتول لقوله تَعَالَى " وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله " ولقوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا أقتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " لافرق بين الذكران والاناث إجماعا لا خلاف فيه.
وقد رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لم يورث المرأة من دية زوجها، فقال له الضحاك بن سفيان: كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أورث امرأة أشيم الضبابى من دية زوجها، فرجع عمر رضى الله عنه وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يتوارث ملتان شتى، وترث المرأة من دية زوجها " قال المصنف: ويقضى من الدية دينه وتنفذ منه وصاياه.
وقال أبو ثور: لا يقضى منها دينه ولا تنفذ وصاياه، والذي يقتضى المذهب أن يبنى على القولين متى تجب الدية؟ فإن قلنا بآخر جزء من أجزاء حياة المقتول قضى منها دينه ونفذت منها وصاياه.
وإن قلنا يجب بعد موته لم يقض منها دينه ولم تنفذ منها وصاياه ولعله ذكر ذلك على الاصح عنده وأما إذا كان القتل يقتضى القصاص فإن القصاص موروث وفيمن يرثه من الورثة ثلاثة أوجه حكاها ابن الصباغ أحدها أنه لا يرثه إلا العصبة من الرجال، وبه قال مالك والزهرى، لان القصاص يدفع العار عن النسب فاختص به العصبات كولاية النكاح.
فإن اقتصوا فلا كلام، وإن عفوا على مال كان لجميع الورثة
(والثانى)
أنه يرثه من يرث بنسب دون سبب، فيخرج بذلك من يرث بالزوجية، به قال ابن شبرمة، لان القصاص يراد للتشفي، والزوجية تزول بالموت.
(والثالث) وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخان أبو إسحاق الاسفرايينى وأبو حامد المرور وذي غيره أنه يرثه جميع الورثة من يرث بنسب ومن يرث بسبب وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد لقوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعد قتيلا(18/440)
فأهله بين خيريتن إن أحبوا قتلوا وان أحبوأ أخذو الدية " والاهل لغة يقع على الرجال والنساء، ولانه يجعل القود لمن جعل له الدية، ولا خلاف أن الدية لجميع الورثة فكذلك القود، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاهل القتيل أن ينحجزوا الاول فالاول، وان كانت أمرأة " رواه أبو داود والنسائي.
قال أبو عبيد.
معنى أن ينحجزوا يكفوا عن القصاص، ولو لم يكن للمرأة حق في القصاص لما جعل لها الكف عنه.
وروى أن رجلا قتل رجلا، فأراد أولياء الدم القود، فقالت أخت المقتول - وكانت زوجة القاتل - عفوت عن نصبيى من القود، فقال عمر رضى الله عنه الله أكبر عتق من القتل (فرع)
إذا قطع طرف مسلم فارتد المقطوع ثم مات على الردة - وقلنا يجب القصاص في الطرف - فمن الذي يتسوفيه؟ قال الشافعي رضى الله عنه.
لوليه المسلم أن يقتص، واعترض المزني عليه فقال كيف يجوز لوليه أن يقتص وهو لا يرثه.
واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال لايقتص وليه المسلم كما قال المزني، لانه لا يرثه - ولم يرد الشافعي الولى ههنا المناسب، وإنما أراد الامام.
وقال أكثرهم بل يجوز لوليه المناسب أن يقتص لان القصاص للتشفي وذلك إلى المناسب
لا إلى الامام.
وقول الاول غير صحيح لانه قد يثبت القصاص لمن لا يرث، وهو إذا قتل رجل وعليه دين يحيط بتركته - فإذا قلنا إن الامام هو الذي يقتص كان بالخيار بين أن يقتص وبين أن يعفو على مال.
فإذا عفا على مال كان بها، وإذا قلنا يقتص الولى المناسب - فإن اقتص - فلا كلام، وان عفا على مال فهل يثبت؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد
(أحدهما)
لا يثبت لان أرش الطرف يدخل في أرش النفس فلما لم يجب أرش النفس لم يجب أرش الطرف
(والثانى)
يجب الارش وهو الاصح لان الجناية وقعت في حال مضمونة فلم يسقط حكمها بسقوط حكم السراية، فإذا قلنا بهذا فكم الارش الذي يجب؟ فيه وجهان، قال عامة أصحابنا يجب أقل الامرين من أرش الطرف أو دية النفس لان دية النفس إذا كانت أكثر من أرش الطرف لم تجب الزيادة على أرش الطرف(18/441)
لان الزيادة وجبت بالسراية، وإن كان أرش الطرف أكثر لم يجب ما زاد على دية النفس، لانه لو مات وهو مسلم لم يجب عليه أكثر من دية مسلم فكذلك هاهنا مثله.
وقال أبو سعيد الاصطخرى: يجب أرش الطرف بالغا ما بلغ، لان الدية إنما تجب في النفس في الموضع الذي لو كان دون الدية وصار نفسا وجبت الدية وهاهنا لاحكم للسراية في الزيادة فكذلك في النقصان.
والاول أصح (فرع)
إذا كان القصاص لصغير أو مجنون أو لغير رشيد لم يستوف الولى له، وبه قال أحمد وأبو يوسف وقال مالك وأبو حنيفة ومحمد يجوز للاب والجد أن يستوفى له القصاص في النفس والطرف، ويجوز للوصي والحاكم أن يستوفى إلا في الطرف دون النفس.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " فأهله بين خيرتين
إن أحبوا اقتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " فجعل الخيرة للاهل، فلو جعلنا للولى استيفاءه لفوتنا ما خير فيه، ولانه لا يملك إيقاع طلاق زوجته فلا يملك استيفاء القصاص في النفس كالوصي.
فإذا ثبت هذا فإن القاتل يحبس إلى أن يبلغ الصبى ويفيق المجنون ويصلح المفسد - لان في ذلك مصلحة للقاتل بأن يعيش إلى مدة ويتأخر قتله - وفيه مصلحة لولى المقتول لئلا يهرب القاتل ويفوت القصاص، فإن أراد الولى أن يعفو عن القود على مال، فإن كان المولى عليه له كفاية لم يجز، وإن كان محتاجا إلى ذلك المال للنفقة ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه محتاج إلى ذلك
(والثانى)
لا يجوز لانه لا يملك استيفاء حقه من القصاص، ونفقته في بيت المال.
وإن وثب الصبي أو المجنون فاقتص فهل يصير مستوفيا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يصير مستوفيا كما لو كانت له وديعة فأتلفها
(والثانى)
لا يصير مستوفيا وهو الاصح، لانه ليس من أهل الاستيفاء، وان كان القصاص لغائب حبس القاتل إلى أن يقدم كما قلنا فيه إذا كان لصغير أو مجنون.
فإن قتل فهلا قلتم لا يحبس للغائب لانه لا ولاية للحاكم على الغائب، كما لو كان لغائب مال مغصوب فليس للحاكم أن يحبسپ الغائب وينزع ماله المغصوب؟ فالجواب أن القود ثبت للميت(18/442)
وللحاكم على الميت ولاية، وليس كذلك الغالب إذا غصب ماله لانه لا ولاية له عليه وهو رشيد، فوزانه أن يموت رجل ويخلف مالا وله وارث غائب، فجاء رجل وغصب ماله فللام حبس الغاصب إلى أن يقدم الغائب (فرع)
فإن كان القصاص لجماعة وبعضهم حاضر وبعضهم غائب لم يجز للحاضر أن يستوفى بغير إذن الغائب بلا خلاف، وإن كان الخلاف بين صغير
وكبير أو بين عاقل ومجنون لم يجز للكبير والعاقل أن يستوفى القصاص حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون، ويأذن في الاستيفاء.
وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو يوسف وأحمد.
وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز للكبير والعاقل أن يستوفى قبل بلوغ الصغير وإفاقة المجنون، إلا أن أصحاب أبى حنيفة أختلفوا فيما يستوفيه، فمنهم من قال يستوفى حقه وحق الصغير والمجنون، ومنهم من قال يستوفى حقه ويسقط حق الصغير والمجنون، دليلنا أنه قصاص موروث فوجب أن لا يختص باستيفائه بعض ورثته، كما لو كان لحاضر وغائب وإذا ثبت هذا فإن القاتل يحبس إلى أن يبلغ الصغير ويفيق المجنون، وقد حبس معاوية هدبة بن خشرم في قصاص حتى يبلغ ابن القتيل، وذلك في عصر الصحابة رضوان الله عليهم فلم ينكر ذلك.
وبذل الحسن والحسين وسعيد بن العاص لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها فإن قيل لم لا يخلى سبيله كالمعسر بالدين.
قلنا لان تخليته تضييع فإنه لا يؤمن هربه، والفرق بينه وبين المعسر من وجوه 1 - أن قضاء الدين لا يجب مع الاعسار فلا يحبس بما لا يجب، والقصاص ههنا واجب وانما تعذر المستوفى 2 - ان المعسر إذا حبسناه تعذر الكسب لقضاء الدين فلا يفيد بل يضر من الجانبين.
وهاهنا الحق نفسه يفوت بالتخلية لا بالحبس 3 - انه قد استحق قتله، وفيه تفويت نفسه ونفعه، فإذا تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لامكانه، فإن قيل فلم يحبس من أجل الغائب وليس للحاكم عليه ولاية إذا كان مكلفا رشيدا، ولذلك لو وجد بعض ماله مغصوبا لم يملك(18/443)
انتزاعه؟ قلنا لان في القصاص حقا للميت، وللحاكم عليه ولاية، ولهذا تنفذ وصاياه من الدية وتقضى ديونه منها، فنظيره أن يجد الحاكم من تركة الميت في يد إنسان شيئا غصبا والوارث غائب فإنه يأخذه، ولو كان القصاص لحى في طرفه لم يتعرض لمن هو عليه، فإن أقام القاتل كفيلا بنفسه ليخلى سبيله لم يجز لان الكفالة لا تصح في القصاص فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إن تعذر إحضار المكفول به، ولا يمكن استفياؤه من غير القاتل، فلم تصح الكفالة به كالحد، ولان فيه تغريرا بحق المولى عليه، فإنه ربما خلى سبيه فهرب فضاع الحق فإن وجب القصاص في قتل من لا وارث له غير المسلمين كان القصاص إلى الامام لانه نائب عنهم، وان كان هناك من يرث البعض ويرث المسلمون الباقي كان استيفاء القصاص إلى الامام والى الوارث
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قتل رجل وله اثنان من أهل الاستيفاء فبدر أحدهما وقتل القاتل من غير اذن أخيه ففيه قولان
(أحدهما)
لا يجب عليه القصاص، وهو الصحيح، لان له في قتله حقا فلا يجب عليه القصاص بقتله، كما لا يجب الحد على أحد الشريكين في وطئ الجارية المشتركة
(والثانى)
يجب عليه القصاص لانه اقتص في أكثر من حقه فوجب عليه القصاص، كما لو وجب له القصاص في طرفه فقتله، ولان القصاص يجب بقتل بعض النفس إذا عرى عن الشبهة، ولهذا يجب على كل واحد من الشريكين في القتل.
وان كان قاتلا لبعض النفس والنصف الذي لاخيه لا شبهة فيه فوجب القصاص عليه بقتله وان عفا أحدهما عن حقه من القصاص ثم قتله الاخر بعد العلم بالعفو نظرت فإن كان بعد حكم الحاكم بسقوط القود عنه وجب عليه القصاص، لانه لم يبق له شبهة، وان كان قبل حكم الحاكم بسقوط القود عنه فإن قلنا يجب عليه القود إذا
قتله قبل العفو فلان يجب عليه إذا قتله بعد العفو أولى، وان قلنا لا يجب عليه قبل العفو ففيما بعد العفو قولان
(أحدهما)
يجب عليه لانه لاحق له في قتله كما لو عفوا ثم قتله أحدهما(18/444)
(والثانى)
لا يجب، لان على مذهب مالك رحمة الله عليه يجب له القود بعد عفو الشريك، فيصير ذلك شبهة في سقوط القود، فإذا قلنا أنه يجب القصاص على الابن القاتل وجب دية الاب في تركة قاتله، نصفها للاخ الذي لم يقتل، ونصفها للاخ القاتل ولورثته بعده، وإذا قلنا لا يجب القصاص على الابن القاتل وجب عليه نصف دية المقتول، لانه قتله وهو يستحق نصف النفس وللاخ الذي لم يقتل نصف الدية، وفيمن يجب عليه قولان
(أحدهما)
يجب على الابن القاتل، لان نفس القاتل كانت مستحقة لهما، فإذا أتلفها أحدهما لزمه ضمان حق الاخر كما لو كانت لهما وديعة عند رجل فأتلفها أحدهما، فعلى هذا ان أبرا الابن الذي لم يقتل ورثة قاتل أبيه من نصفه لم يصح ابراؤه، لانه أبرأ من لاحق له عليه.
وان أبرأ أخاه صح ابراؤه لانه أبرا من عليه الحق.
والقول الاخر أنه يجب ذلك في تركة قاتل أبيه لانه قود سقط إلى مال فوجب في تركة القاتل كما لو قتله أجنبي، ويخالف الوديعة، فانه لو أتلفها أجنبي وجب حقه عليه، والقاتل لو قتله أجني لم يجب حقه عليه، فعلى هذا لو أبرأ أخاه لم يصح ابراؤه، وان أبرأ ورثة قاتل أبيه صح ابراؤه ولورثة قاتل الاب مطالبة الابن القاتل بنصف الدية، لان ذلك حق لهم عليه فلا يسقط ببرأتهم عن الابن الاخر.
(الشرح) إذا قتل رجل وله أخوان وابنان من أهل استيفاء القصاص لم
يكن لهما أن يستوفيا القصاص جيمعا، لان في ذلك تعذيبا للقاتل، فإما أن يوكلا رجلا ليستوفى لها القصاص، واما أن يوكل أحدهما الاخر في الاستيفاء، فإن طلب كل واحد منهما أن يوكله الاخر أقرع بينهما، لانه لا مزية لاحدهما على الاخر، فإذا خرجت القرعة لاحدهما أمر الاخر أن يوكله، وان بادر أحدهما وقتل القاتل بغير اذن أخيه نظرت - فإن كان الذي لم يقتل لم يعف عن حقه من القصاص - فهل يجب على القاتل منهما القود؟ فيه قولان
(أحدهما)
يجب عليه القود لانه ممنوع من قتله وقد يجب القتل بإتلاف(18/445)
بعض النفس كما إذا قتل جماعة واحدا
(والثانى)
لا يجب عليه القود، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وهو الاصح، لان له في قتله حقا فلم يجب عليه القود، كما لو وطئ أحد الشريكن الجارية المشتركة، وإن قتله بعد أن عفا أخوه عن القود نظرت - فإن كان قد حكم الحاكم بسقوط القود - وجب القود على القاتل قولا واحدا.
قال ابن الصباغ سواء علم القاتل بذلك أو لم يعلم، لان بحكم الحاكم زالت الشبهة وحرم عليه قتله، فهو كما لو قتل غير القاتل، وإن كان بعد عفو أخيه وقبل حكم الحاكم بسقوط القود نظرت - فإن لم يعلم بعفو أخيه - فهل يجب القود على القاتل؟ فيه قولان، كما لو لم يعف أخوه قال الشيخ الامام أبو حامد: إلا أن الاصح هناك لا يجب عليه القود، والاصح هاهنا أن عليه القود، وإن قتله بعد أن علم بعفو أخيه - فإن قلنا يجب عليه القود إذا لم يعف أخوه فها هنا أولى، وإن كان قلنا هناك لا يجب عليه القود لانه على قول مالك لا يسقط القود هكذا صور المصنف المسألة، ولكنا تنازعه في عدم سقوط القود عند مالك، لان أهل العلم أجمعوا على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل، بالكتاب والسنة لقوله تعالى " فمن عفى له من أخيه
شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " وقوله تعالى " فمن تصدق به فهو كفارة له " قيل في التفسير: فهو كفارة للجاني يعفو صاحب الحق عنه.
وقيل هو كفارة للعافي بصدقته.
وأما السنة ففي سنن أبى داود عن أنس قَالَ " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رفع إليه شئ فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو " فالقصاص فحق لجميع الورثة من ذوى الانساب والاسباب والرجال والنساء والصغار والكبار فمن عفا منهم صح عفوه وسقط القصاص، ولم يبق لاحد إليه سبيل، بهذا قال عطاء والنخغى والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد.
وروى ذلك عن عمر وطاوس والشعبى.
وقال الحسن وقتادة والزهرى وابن شبرمة والليث والاوزاعي: ليس للنساء عفو.
والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة، وهو وجه لاصحابنا لانه ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح ولنا وجه ثالث أنه لذوى الانساب دون الزوجين لحديث أبى شريح الكعبي(18/446)
" فأهله بنى خيرتين الخ " وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص لا يسقط بعفو بعض الشركاء، وقيل هو رواية عن مالك لان حق غير العافى لا يرضى بإسقاطه، وقد تؤخذ ببعض النفس بدليل قتل الجماعة بالواحد.
وبعد أن تحررت المسألة على هذا النحو نقول: انه على قول بعض أهل المدينة لا يسقط القود بعفو أحد الشريكين فصار ذلك شبهة في سقوط القود عنه.
وهذا ترتيب الشيخ أبى حامد.
وقال المسعودي إذا قتله قبل عفو أخيه فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان فإذا قلنا لا يجب فله معنيان
(أحدهما)
لا ختلاف العلماء في استيفاء أحدهم
(والثانى)
لاجل حقه في القصاص، وان قتله بعد عفو أخيه، وهو عالم بعفوه
فإن قلنا هناك لا يجب فهاهنا قولان - ان قلنا العلة هناك اختلاف العلماء فلا قودها هنا، لان الاختلاف موجود.
وان قلنا العلة هناك حقه في القصاص وجب عليه هاهنا القود.
وان قتله جاهلا بعفو أخيه، فإن قلنا لا يجب عليه القود إذا كان عالما بعفو أخيه فهاهنا أولى، وان قلنا هناك لا يجب فها هنا قولان، ان قلنا العلة هناك اختلاف العلماء فلا قودها هنا، لان لاختلاف موجود.
وان قلنا العلة هناك حقه في القصاص وجب عليه هاهنا القود، وان قتله جاهلا بعفو أخيه، فإن قلنا لا يجب عليه القود إذا كان عالما بعفو أخيه فهاهنا أولى أن لا يجب.
وان قلنا هناك القود على القاتل فلوليه أن يقتص منه، فإذا قتله وجب دية المقتول الاول في تركة القاتل الاول، نصفها للاخ الذي لم يقتل ونصفها لورثة أخيه المقتول وان قلنا لا يجب القود على الاخ القاتل فقد استوفى حقه وبقى حق أخيه، وقد تعذر استيفاء حقه من القصاص فتكون له نصف دية أبيه، وعلى من يرجع بها؟ فيه قولان
(أحدهما)
يرجع بها على أخيه القاتل، لان نفس قاتل أبيه كانت لهما وديعة فأتلفها أحدهما، فعلى هذا ان أبرأ أخاه صح ابرأوه، وان أبرأ قاتل أبيه لم يصح ابراؤه.(18/447)
والقول الثاني انه يرجع بها في تركة قاتل أبيه لانه قود سقط إلى مال فوجب المال في تركة قاتل الاب كما لو قتله أجنبي، ويخالف الوديعة فإنه لو أتلفها أجنبي لرجعا عليه بضمانها، وههنا لو قتله أجبني لم رجعا عليه بشئ فعلى هذا إن أبرأ أخاه لم يصح إبراؤه، وإن أبرأ قاتل أبيه صح إبراؤه ويكون لورثة قاتل الاب أن يرجعوا على القاتل بنصف دية موروثهم لانه لا يستحق إلا
نصف نفسه، ومن أصحابنا من قال: لا يطالبون الاخ القاتل بشئ، لانهم ما غرموا، وليس بشئ، لان الحق قد لزمهم في الاصل ولزم القاتل له في الاصل فإذا سقط عنهم لم يسقط عنه على الوارث في تركته.
ولوجه آخر أن الدية لمن له القصاص، كما لو قتل المرهون كانت الدية مرهونة، ولو عفا وارثه عن القصاص على الدية فالدية للوارث على الصحيح من المذهب وحق من له القصاص، ولو وجب القصاص على رجل فقتله أجنبي عنه عليه القصاص لانه ترك القبض للورثة.
وإن عفا الاخوان جميعا عنه ثم عادا فقتلاه أو عفا عنه أحدهما ثم عاد فقتله وجب القود قولا واحدا، لانه لم يبن للعاقل حق بعد عفوه، فصار كما لو قتل أجنبيا، فإن كان القصاص لجماعة واختلفوا فيمن يقتص منهم أقرع بينهم.
وهل يدخل في القرعة من لا يحسن؟ فيه وجهان حكاهما في العدة، أحدهما لايدخل لانه لا فائدة فيه.
والثانى يدخل لانه يستنيب من شاء، ومتى خرجت القرعة لاحدهم لم يستوف القصاص إلا بتوكيل الباقين له
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولايجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان لانه يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف مع قصد التشفي، فإن استوفاه من غير حضرة السلطان عزره على ذلك.
ومن أصحابنا من قال لا يعزر لانه استوفى حقه والمنصوص أنه يعزر لانه افتيات على السلطان، والمستحب أن يكون بحضرة شاهدين حتى لا ينكر المجني(18/448)
عليه الاستيفاء، وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها القصاص، فإن كانت كالة منع من الاستيفاء بها لما روى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنَّ الله كتب الاحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليجد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " وان كانت مسمومة منع من الاستيفاء بها لانه يفسد البدن ويمنع من غسله، فإن عجل واستوفى بآلة كآلة أو بآلة مسمومة عزر، فإن طلب من له القصاص أن يستوفى بنفسه، فإن كان في الطرف لم يمكن منه لانه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يجنى عليه بما لا يمكن تلافيه، وان كان في النفس فإن كان يكمل للاستيفاء بالقوة والمعرفة مكن منه لقوله تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا " ولقوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وان أحبوا أخذوا الدية " ولان القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ فمكن منه، وان لم يكمل للاستيفاء أمر بالتوكيل، فإن لم يكن من يستوفى بغير عوض استؤجر من خمس المصالح من يستوفى، لان ذلك من المصالح، وان لم يكن خمس أو كان ولكنه يحتاج إليه لما هو أهم منه وجبت الاجرة على الجاني، لان الحق عليه فكانت أجرة الاستيفاء عليه كالبائع في كيل الطعام المبيع فإن قال الجاني أنا أقتص لك بنفسى ولا أؤدى الاجرة لم يجب تمكينه منه، لان القصاص أن يؤخذ منه مثل ما أخذ، ولان من لزمه ايفاء حق لغيره لم يجز أن يكون هو المستوفى كالبائع في كيل الطعام المبيع، فإن كان القصاص لجماعة وهم من أهل الاستيفاء وتشاحوا أقرع بينهم، لانه لا يجوز اجتماعهم على القصاص، لان في ذلك تعذيبا للجاني، ولا مزية لبعضهم على بعض فوجب التقديم بالقرعة.
(فصل)
وإن كان القصاص على امرأة حامل لم يقتص منها حتى تضع، لقوله تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل "
وفي قتل الحامل إسراف في القتل، لانه يقتل من قتل ومن لم يقتل.
وروى عمران بن الحصين رضى الله عنه " أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم(18/449)
وقالت إنها زنت وهي حبلى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال له: أحسن إليها فإذا وضعت فجئ بها فلما أن وضعت جاء بها، فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجمت، ثم أمرهم فصلوا عليها " وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقى الولد اللبا لانه لا يعيش إلا به، وإن لم يكن من يرضعه لم يجز قتلها حتى ترضعه حولين كاملين لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للعامرية " اذهبي حتى ترضعيه " ولانه لما أخر القتل لحفظه وهو حمل فلان يؤخر لحفظه وهو مولود أولى، وإن وجد له مرضعة راتبة جاز أن يقتص لانه يستغنى بها عن الام.
وإن وجد مرضعات غير رواتب أو وجدت بهيمة يسقى من لبنها، فالمستحب لولى الدم أن لايقتص حتى ترضعه، لان اختلاف اللبن عليه والتربية بلبن البهيمة يفسد طبعه، فإن لم يصبر اقتص منها لان الولد يعيش بالالبان المختلفة وبلبن البهيمة.
وإن ادعت الحمل قال الشافعي رحمه الله تحبس حتى يتبين أمرها.
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الاصطخرى رحمة الله عليه: لا تحبس حتى يشهد أربع نسوة بالحمل، لان القصاص وجب فلا يؤخر بقولها.
وقال أكثر أصحابنا تحبس بقولها.
لان الحمل وما يدل عليه من الدم وغيره يتعذر اقامة البينة عليه فقبل قولها فيه.
(الشرح) حديث شداد بن أوس أخرجه مسلم في الذبائح عن أبى بكر بن أبى شيبة، وأبو داود في الاضاحي عن مسلم بن أبراهيم والترمذي في الديات عن أحمد بن منيع، والنسائي في الضحايا عن علي بن حجر، وعن الحسين بن حريب وعن محمد بن عبد الله بن بزيع وعن محمد بن رافع وعن ابراهيم بن يعقوب وابن
ماجه في الذبائح وعن محمد بن المثنى، وأحمد في مسنده ج 2 ص 108، ومسند أبى داود الطيالسي الحديث 1119، وحديث عمران بن الحصين أخرجه مسلم في الحدود عن أبى غسان مالك بن عبد الواحد المسمعى، وأبو داود فيه عن مسلم ابن ابراهيم، والترمذي فيه عن الحسن بن علي، والنسائي في الجنائز عن اسماعيل ابن مسعود، وابن ماجه في الحدود عن العباس بن عثمان، وحديث العامرية مضى في الرضاع.(18/450)
أما اللغات: فالقبتلة بكسر القاف هي الهيئة وكذا الذبحة، والآلة الكالة التي لاحد لها ماض في والسيب الكليل منه.
أما الاحكام فمن وجب له القصاص لم يجز أن يقتص بغير اذن السلطان وبغير حضوره لاختلاف العلماء في وجوب القصاص في مواضع، فلو قلنا لة أن يستوفيه من غير اذن السلطان لم يؤمن أن يقتص ممن لا يستحق فيه القصاص، فإن خالف واقتص بغير اذن السلطان فقد استوفى حقه قال الشافعي رضى الله عنه: ويعزر ولا شئ عليه.
وهو مذهب أحمد.
ومن أصحابنا من قال لا يعزر لانه استوفى حقه، والاول أصح، لانه افتات على السلطان، والمستحب أن يكون ذلك بحضرة شاهدين لئلا ينكر المقتص الاستيفاء، فإن اقتص بغير حضور شاهدين جاز لانه استيفاء حق، فلم يكن من شرطه حضور الشهود كالدين، ويتفقد السلطان الالة التي يستوفى بها القصاص فإن كانت كالة منع من الاستيفاء بها لقوله صلى الله عليه " إذا قلتلتم فأحسنوا القتلة " فإن استوفى فقد أساء ولا تعزير عليه.
وان أراد الاستيفاء بآلة مسمومة.
قال الشيخ أبو حامد: منع من ذلك سواء كان في الطرف أو في النفس، لانه إذا كان في الطرف سرى إلى نفسه، وان كان في النفس هرى بدنه ومنع من غسله
فإن خالف واقتص بآلة مسمومة عزر وقال القفال: ان كان الاستيفاء في الطرف منع منه، وان كان في النفس لم يمنع منه، فإن اقتص في الطرف بآلة مسمومة وسرى ذلك إلى نفسه وجب على المقتص نصف الدية، لانه مات من مباح ومحظور (فرع)
إذا طلب من له القصاص أن يقتص بنفسه - فان كان القصاص في النفس، وكان يصلح للاستيفاء - مكنه السلطان من الاستيفاء لقوله تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل " الاية، ولقوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده فأهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية " وان كان لا يحسن الاستيفاء أمر بالتوكيل - فان لم يوجد من يتطوع بالاستفياء عنه بغير عوض - استأجر من يستوفى له القصاص وقال أبو حنيفة لا تصح الاجارة على القصاص في النفس وتصح في الطرف(18/451)
دليلنا أنه عمل معلوم فصحت الاجارة عليه كالقصاص في الطرف، وإن كان القصاص في الطرف فقال أصحابنا البغداديون: لا يمكن المجني عليه أن يقتص بنفسه بل يؤمر بالتوكيل، لا لا قتصاص في الطرف يحتاج إلى التحفظ لئلا يستوفى أكثر من حقه، وقال الخراسانيون فيه وجهان
(أحدهما)
لا يمكن من ذلك لما ذكرناه
(والثانى)
يمكن منه كما يمكن من استيفاء القصاص في النفس، والاول أصح، لان المقصود بالقتل إزهاق الروح، ولا معنى للتحفظ بخلاف الطرف.
(فرع)
يستحب للامام أن يقيم رجلا يقيم الحدود ويقتص للناس بإذنهم ويرزقه من الاموال المعدة للخدامات العامة (ميزانية الخدمات) لان هذا من المصالح والخدمات التي توفرها الدولة لنشر الامن وإقرار العدل، قد شبهه
أصحابنا بأجرة الكيال والوزان في الاسواق، فإن لم يكن هناك شئ من سهم المصالح أو كانت ميزانية الخدمات لا تسمح للاحتياج لما هو أهم كبناء المستشفى أو تسليح المجاهدين كانت الاجرة على المقتص منه هذا ما يفيده النظر في نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: نص الشافعي رحمه الله على أن أجرة القصاص على المقتص منه، ونص أن أجرة الجلاد في بيت المال، وهو قول أبى حنيفة لانه استيفاء حق فكانت أجرة الاستيفاء على المستوفى، كما لو اشترى طعاما وأراد نقله، والاول أصح، ومنهم من قال يجب أجرة القصاص على المقتص منه، وأجرة الجلاد في بيت المال، لان في القصاص الجاني مأمور بالاقرار بالجناية ليقتص منه، وفي الحد هو مأمور بالستر على نفسه فإن قال الجاني: أنا أقطع طرفي ولا أؤدى الاجرة ففيه وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما)
يجب إجابته إلى ذلك لان المقصود قطع طرفه فلا تلحقه تهمة في ذلك
(والثانى)
لا يجب إجابته إلى ذلك، ولم يذكر المصنف غيره، لان المقصود بالقصاص التشفي وذلك لا يحصل بفعل الجاني وانما يحصل بفعل المجني عليه أو من ينوب عنه غير الجاني (فرع)
إذا وجب القصاص على امرأة حامل لم يجز قتلها قبل أن تضع،(18/452)
لقوله تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل، وفي قتلها في هذه الحالة إسراف، لانه يقتل من قتل ومن لم يقتل، لحديث عمران بن الحصين أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم فأخبرته أنها زنت وهي حبلى، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم وليها أن يحسن إليها حتى تضع فلما وضعت جئ بها فرجمت وأمرهم فصلوا عليها.
وروى أن عمر رضى الله عنه أمر بقتل امرأة بالزنا وهى حامل: فقال له مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ كان لك سبيل عليها فليس لك سبيل على ما في بطنها، يعنى حملها، فترك عمر قتلها.
وقال كاد النساء أن يعجزن أن يلدن مثلك يا معاذ.
فإذا ثبت هذا فولدت لم تقتل حتى تسقى الولد اللبأ، لانه لا يعيش الا به فإذا سقته اللبأ نظرت، فإن لم توجد امرأة راتبة ترضعه، وانما وجد جماعة نساء يتاوبنه في الرضاع، أو وجدت بهيمة يسقى من لبنها، فالمستحب ألا يقتص حتى ترضعه أمه حولين، لان على الولد ضررا باختلاف لبن المرضعات، ولبن البهيمة يغير طبعه، فان اقتص منها جاز، لان بدنه يقوم بذلك، فان لم يوجد من يرضعه ولا وجدت بهيمة يسقى لبنها لم يجز للولى أن يقتص منها إلى وقت يستغنى عن لبنها، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للعامرية " اذهبي حتى ترضعيه " ولانه إذا وجب تأخير القصاص لاجله وهو حمل، فلان يجب تأخيره لاجله بعد اوضع أولى.
قال الشيخ أبو حامد.
قال أصحابنا فان خالف الولى واقتص من الام في هذه الحالة ثم مات الطفل فهو قاتل عمد، وعليه القود، لانه بمثابة من حبس رجلا ومنعه الطعام والشراب حتى مات، فانه قاتل عمد ويجب على القود، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي إذا وجد من ترضعه فان كان القتل لله كالرجم في الزنا لم تقتل حتى تنقضي مدة الرضاع، وان كان للآدمي قتلت (فرع)
إذا وجب على المرأة القتل فأدعت أنها حامل قال الشافعي رحمه الله تحبس حتى يتبين أمرها.
واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو سعيد الاصطخرى(18/453)
لا تحبس حتى يشهد أربع قوابل أنها حبلى، فان لم يشهدن بأنها حبلى قتلت في الحال
لان القصاص قد وجب فلا يؤخر بقولها.
وقال أكثر أصحابنا تحبس وان لم يشهدن أنها حبلى، لان للحمل أمارات ظاهرة يشاهدنها القوابل، وأمارات خفية لا يعلم ذلك منها الا نفسها، فوجب حبسها إلى أن يتبين أمرها (فرع)
فان مكن الامام أو الحاكم المقتص من الحامل فقتلها فالكلام في الاثم والضمان والكفارة، فأما الاثم فان كان الحاكم والمقتص عالمين بأنها حامل أثما وان كان جاهلين بحملها لم يأثما.
وان كان أحدهما عالما بحملها والآخر جاهلا به أثم العالم منهما دون الجاهل وأما الضمان والكفارة فننظر فيه فان كان لما قلتت الحامل لم يخرج الجنين من بطنها جنين، وان خرج من بطنها، فان خرج حيا ثم مات ففيه دية كاملة وكفارة وان خرج ميتا ففيه غرة عبد أو أمة وكفارة، وأما من يجب عليه الضمان والكفارة فان كان عالمين بحملهما فالضمان والكفارة على الامام والحاكم دون الولى، لانه هو الذي مكنه من الاستيفاء، ولان الحاكم هو الذي يعرف الاحكام وانما يرجع الولى إلى اجتهاده.
وهكذا إذا كان الحاكم هو العالم بحملها دون الولى فالضمان والكفارة على الولى دون الحاكم إذا لم يعلم فلم يسلطه على اتلاف الحمل، وان كانا جاهلين بحملهما ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الضمان والكفارة على الولي لان الحاكم إذا لم يعلم سقط عنه حكم الاجتهاد فيه والولى هو المباشر فلزمه الضمان.
هكذا ذكر ابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو حامد في التعليق وصاحب الفروع إذا كانا جاهلين بأن ذلك لا يجوز فالضمان والكفارة على الامام قولا واحدا، وان كانا عالمين بأن ذلك لا يجوز ففيه وجهان.
قال أبو إسحاق الضمان والكفارة على الامام لانهما في العلم سواء، وللامام مزية التمكين.
وقال غيره من أصحابنا يكون الضمان والكفارة على الولى لانه هو المباشر وان كان أحدهما عالما والآخر جاهلا، فالضمان على العالم منهما دون الجاهل.(18/454)
وقال المزني: فالضمان على عاقلته، سواء علم القاضى أو جهل، وإن كان الولى جاهلا ففيه وجهان، سواء علم القاضى أو جهل بناء على القولين في إطعام الطعام فإن قلنا إن ضمانه على الطاعم فالضمان ههنا على الولى، وإن قلنا على المطعم كان الضمان هاهنا على الحاكم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان القصاص في الطرف فالمستحب أن لا يستوفى الا بعد استقرار الجناية بالاندمال أو بالسراية إلى النفس.
لما روى عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة قال " طعن رجل رجلا بقرن في رجله، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقدنى، فقال دعه حتى يبرأ، فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول حتى يبرأ، فأبى فأقاده منه، ثم عرج المستقيد فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال برئ صاحبي وعرجت رجلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لاحق لك " فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه، فإن استوفى قبل الاندمال جاز للخبر.
وهل يجوز أخذ الارش قبل الاندمال؟ فيه قولان:
(أحدهما)
يجوز كما يجوز استيفاء القصاص قبل الاندمال
(والثانى)
لا يجوز لان الارش لا يستقر قبل الاندمال، لانه قد يسرى إلى النفس ويدخل في دية النفس، وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص بخلاف القصاص، فإنه لا يسقط بالسراية ولا تؤثر فيه المشاركة، فإذا قلنا يجوز ففي القدر الذي يجوز أخذه وجهان
(أحدهما)
يجوز أخذه بالغا ما بلغ لانه قد وجب في الظاهر فجاز أخذه.
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق انه يأخذ أقل الامرين من أرش الجناية أو دية النفس، لان ما زاد على دية النفس لا يتيقن استقراره، لانه ربما سقط، فعلى هذا ان قطع يديه ورجليه وجب في الظاهريتان وربما سرت الجناية إلى النفس فرجع إلى دية فيأخذ دية، فإن سرت الجناية إلى النفس فقد أخذ حقه، وان اندملت أخذ دية أخرى.(18/455)
(فصل)
وان قلع سن صغير لم يثغر أوسن كبير قد أثغر، وقال أهل الخبرة أنه يرجى أن ينبت إلى مدة لم يقتص منه قبل الاياس من بناته، لانه لا يتحقق الاتلاف فيه قبل الاياس كما لا يتحقق إتلاف الشعر قبل الاياس من نباته فان مات قبل الاياس لم يجب القصاص، لانه لم يتحقق الاتلاف فلم يقتص مع الشك (الشرح) حديث عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة أخرجه الشافعي والبيهقي في السنن الكبرى هكذا مرسلا، ومحمد بن طلحة ثقة محتج به ولاعبرة بقول النسائي " ليس بالغوى " أو قول بن معنى: ثلاثة يتقى حديثهم محمد بن طلحة الخ ذلك لانه صدوق مشهور محتج به في الصحيحين وقال أبو زرعة " صدوق " على أن هذا الخبر قد ورد متصلا ومرسلا من طرق بعضها بلفظ المصنف وبعضها بمعناه، فعند أحمد والدارقطني عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ " أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أقدنى، فقال حتى تبرأ، ثم جاء إليه فقال أقدنى فأقاده ثم جاء إليه فقال يارسول الله عرجت؟ قال قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك، ثم نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه "
وروى الدارقطني عن جابر " أن رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح " وأخرجه أبو بكر ابن أبى شيبة عن ابن علية عن عمرو بن دينار عن جابر، وأخرجه عثمان بن أبى شيبة بهذا الاسناد.
وقال الدارقطني: أخطأ فيه ابنا أبى شيبة وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره، فرووه عن ابن علية عن أيوب عن عمرو مرسلا.
وكذلك قال أصحاب عمرو بن دينار عنه وهو المحفوظ، يعنى المرسل، وأخرجه أيضا البيهقى من حديث جابر مرسلا بإسناد آخر وقال تفرد به عبد الله الاموى عن ابن جريح وعنه يعقوب ابن حميد، وأخرجه أيضا من وجه آخر عن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم(18/456)
" تقاس الجراحات ثم يتأتى بها سنة ثم يقضى فيها بقدر ما انتهت إليه " وفي إسناده ابن لهيعه.
وكذا رواه جماعة من الضعفاء عن أبى الزبير وقد استدل بهذه الاحاديث القائلون بوجوب الانتظار إلى أن يبرأ الجرح ويندمل ثم يقتص المجروح بعد ذلك، وبه قال أبو حنيفة ومالك والمذهب عندنا أنه مندوب إليه فقط دليلنا حديث محمد بن طلحة الذي سقنا طرقة آنفا، وهو يدل بمفهومه من تمكينه صلى الله عليه وسلم الرجل المطعون بالقرن قبل البرء.
واستدل القائلون بالوجوب بحديث " اصبروا حتى يسفر الجرح " عندما طعن رجل حسان بن ثابت فاجتمعت الانصار ليأخذ لهم النبي صلى الله عليه وسلم القصاص، فقال انتظروا حتى يبرأ صاحبكم ثم أقتص لكم، فبرئ حسان ثم عفا قال العلامة الشوكاني: وهذا الحديث إن صح فحديث عمرو بن شعيب قرينة لصرفه عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازى، كما أنه قرينة لصرف النهى المذكور
في حديث جابر إلى الكراهة.
وأما ما قيل من أن ظهور مفسدة التعجيل للنبي صلى الله عليه وسلم قرينة أن أمره الانصار بالانتظار للوجوب، لان دفع المفاسد واجب، كما قال في ضوء النهار، فيجاب عنه بأن محل الحجة هو إذنه صلى الله عليه وسلم بالاقتصاص قبل الاندمال، وهو لا يأذن إلا بما كان جائزا، وظهور المفسدة غير قادح في الجواز المذكور، وليس ظاهرها بكلى ولا أكثرى حتى تكون معلومة عند الاقتصاص قبل الاندمال، لان لفظ " ثم " يقتضى الترتيب، فيكون النهى الواقع بعدها ناسخا للاذن الواقع قبلها اه.
إذا ثبت هذا فإنه إذا قطع طرفه وأراد المجني عليه أن يقتص فالمستحب له أن لا يقتص حتى تستقر الجناية بالاندمال أو السراية إلى النفس، فإن عفا عن القود وطلب الارش قبل الاستقرار فهل يعطى الارش؟ فيه قولان.
أحدهما يعطى كما يجوز له استيفاء القصاص.
والثانى لا يعطى لان الارش لا يستقر قبل الاندمال لانه ربما سرى إلى النفس فدخل في ديتها أو يشارك غيره في الجناية فمات من الجميع، فإذا قلنا يعطى قبل الاندمال فكم يعطي؟ فيه وجهان(18/457)
(أحدهما)
يعطى أقل الامرين من أرش الجناية أو دية النفس، لان ما زاد على دية النفس لا يتيقن استقراره قبل الاندمال
(والثانى)
يعطى أرش الجناية بالغا ما بلغ، لانه قد وجب له في الظاهر، فإن اقتص المجني عليه قبل الاندمال، ثم سرت الجناية على المجني عليه إلى عضو آخر واندمل، كانت السراية مضمونة بالدية وقال أحمد رحمه الله: لا تكون مضمونة لقوله صلى الله عليه وسلم " اذهب فلا حق لك " ودليلنا أن هذه جناية مضمونة كما لو لم يقتص، والحديث محمول
على أنه أراد صلى الله عليه وسلم لاحق لك في القصاص.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا قتل بالسيف لم يقتص منه الا بالسيف لقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما أعتى عليكم " ولان السيف أجرى الآلات، فإذا قتل به واقتص بغيره أخذ فوق حقه، لان حقه في القتل وقد قتل وعذب، فإن أحرقه أو غرقه أو رماه بحجر، أو رماه من شاهق أو ضربه بخشب، أو حبسه ومنعه الطعام والشراب فمات، فللولي أن يقتص بذلك لقوله تعالى " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " ولما روى الْبَرَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه " ولان القصاص موضوع على المماثلة والمماثلة ممكنة بهذه الاسباب، فجاز أن يستوفى بها القصاص، وله أن يقتص منه بالسيف، لانه قد وجب له القتل والتعذيب، فإذا عدل إلى السيف فقد ترك بعض حقه فجاز.
فإن قتله بالسحر قتل بالسيف، لان عمل السحر محرم فسقط وبقى القتل فقتل بالسيف.
وان قتله باللواط أو بسقي الخمر فَفِيهِ وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه ان قتله بسقي الخمر قتله بسقي الماء.
وان قتله باللواط فعل به مثل ما فعله بخشبة، لانه تعذر مثله حقيقة ففعل به ما هو أشبه بفعله.
(والثانى)
أنه يقتل بالسيف لانه قتله بما هو محرم في نفسه فاقتص بالسيف(18/458)
كما لو قتله بالسحر، وإن ضرب رجلا بالسيف فمات فضرب بالسيف فلم يمت كرر عليه الضرب بالسيف، لان قتله مستحق وليس ههنا ما هو أرجى من السيف فقتل به، وإن قتله بمثقل أو رماه من شاهق أو منعه الطعام والشراب
مدة ففعل به مثل ذلك فلم يمت ففيه قولان
(أحدهما)
يكرر عليه ذلك إلى أن يموت كما قلنا في السيف
(والثانى)
أنه يقتل بالسيف، لانه فعل به مثل ما فعل وبقى ازهاق الروح فوجب بالسيف، وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قطع كفه أو أوضح رأسه فمات فللولي أن يستوفى القصاص بما جنى فيقطع كفه ويوضح رأسه لقوله تعالى (والجروح قصاص) فإن مات به فقد استوفى حقه، وان لم يمت قتل بالسيف، لانه لا يمكن أن يقطع منه عضوا آخر، لانه يصير قطع عضوين بعضو وإيضاح موضحتين بموضحة.
وان جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص، كالجائفة وقطع اليد من الساعد فمات منه ففيه قولان
(أحدهما)
يقتل بالسيف ولا يقتص منه في الجائفة ولا في قطع اليد من الساعد، لانه جناية لا يجب فيها القصاص فلا يستوفى بها القصاص كاللواط
(والثانى)
يقتص منه في الجائفة وقطع اليد من الساعد، لانه جهة يجوز القتل بها في غير القصاص، فجاز القتل بها في القصاص، كالقطع من المفصل وحز الرقبة، فإن اقتص بالجائفة أو قطع اليد من الساعد فلم يمت قتل بالسيف لانه لا يمكن أن يجاف بجائفة أخرى، ولا أن يقطع منه عضو آخر فتصير جائفتان بجائفة، وقطع عضوين بعضو (الشرح) حديث البراء بن عازب ذكره الحافظ في تلخيص الحير في كتاب الجراح من باب ما جاء في التشديد في القتل الحديث 1631 " من حرق حرقناه ومن غرق أغرقناه " هكذا بالهمز في المضارع وقال أخرجه البيهقى في المعرفة من حديث عمران بن نوفل بن زيد بن البراء عن أبيه عن جده، وقال في الاسناد: بعض من يجهل، وإنما قاله زياد في خطبته أه وقال في الدراية في تخريج أحاديث الهداية: حديث من غرق غرقناه.(18/459)
البيهقى من رواية عمران بن يزيد بن البراء عن أبيه عن جده بهذا وفيه: من حرق حرقناه ومن عرض عرضنا له.
وفي إسناده من لايعرف اه (قلت) وقد رجعت إلى كتب الرجال فلم أجد ذكرا لعمران بن نوفل، ولا نوفل بن زيد ولازيد بن البراء، ثم عدت إلى الرواية الاخرى التي ذكرها في الدراية فلم أجد إلا ذكر عمران بن يزيد موصوفا بالجهالة، أما يزيد بن البراء فقد قال في التقريب " صدوق من الثالثة " أما الاحكام فإنه إذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف لقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ولانه أوحى الآلات، وإن حرقه أو غرقه أو رماه بحجر أو من شاهق فمات أو صربه بخشبة أو حبسه ومنعه الطعام والشراب حتى مات، فللولي أن يقتص منه بهذه الاشياء، وبه قال مالك وأما أبو حنيفة فإنه يقول: هذه الجنايات لا توجب القصاص إلا التحريق بالنار فإنه يوجب القصاص، ولكن لا يجوز أن يقتص منه إلا بالسيف، دليلنا قوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ولحديث " أن يهوديا رض رأس جارية من الانصار بين حجرين فوجدت وبها رمق، فقيل من فعل بك هذا؟ فلان؟ فأومأت أن لا إلى أن سئلت عن اليهودي فأومأت برأسها أي نعم، فأخذوا اليهودي فأعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرضح رأسه بين حجرين " ولانها آلة يجوز بها قتل المشركين فجاز استيفاء القصاص بها كالسيف وللولي أن يقتله بالسيف لانه أوحى وأروح من التعذيب أما إذا قتله بالسحر فإنه يقتله بالسيف لان السحر ليس سلاحا في الاسلام لقتال المشركين، وليس آلة للقصاص وليس له مثل أما إذا قتله باللواط فهل يجب فيه القصاص؟ فيه وجهان حكاهما أصحابنا
الخراسانيون
(أحدهما)
لا يجب فيه القصاص، لان المقصود به طلب اللذة فكان عمد خطأ
(والثانى)
وهو قول البغداديين - وهو الاصح - أنه يجب به القصاص لانه قتله بما يقتل مثله غالبا فوجب عليه القصاص، كما لو قتله بالسيف.
فعلى هذا في كيفية استيفاء القصاص منه وجهان
(أحدهما)
يقتل بسيف لان اللواط محرم فقتل بالسيف كالسحر(18/460)
(والثانى)
يعمل به مثل ما عمل بخشبة إلى أن يموت، لانه أقرب إلى ما فعله.
وإن قتله بشرب الخمر وجب عليه القصاص، وكيف يتسوفى منه القصاص؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يقتل بالسيف لان الخمر محرم فهو كالسحر
(والثانى)
يقتل بشرب الماء لانه أقرب إلى فعله.
فأما حديث " لاقود إلا بالسيف " فقال أحمد ليس إفاد بجيد، هكذا نقله ابن قدامة في المغنى.
إذا ثبت هذا فإنه إذا ضربه بالسيف فلم يمت فإنه يوالى عليه الضرب إلى أن يموت لانه أوحى الآلات، وان فعل به مثل ما فعل به من الضرب بالمثقل والرمى من شاهق أو منعه من الطعام والشراب مثل الذي منعه فلم يمت ففيه قولان
(أحدهما)
يكرر عليه ذلك إلى أن يموت، كما قلنا في السيف
(والثانى)
لا يكرر عليه ذلك بل يقتله بالسيف لانه قد فعل به مثل ما فعل به: ولم يبق إلا إزهاق الروح فوجب بالسيف، وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص بأن أوضح رأسه أو قطع يده أو رجله من المفصل فمات فللمجنى عليه أن يوضح رأسه ويقطع يده.
وقال أبو حنيفة.
ليس له قطع الطرف، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، لان ذلك يفضى إلى الزيادة على ما جناه الاول، والقصاص يعتمد المماثلة، فمتى
خيف فيه الزيادة سقط، كما لو قطع يده من نصف الذراع والرواية الثانية عن أحمد يجب القصاص في الطرف فإن مات به والا ضربت عنقه (قلت) هذا هو مذهبنا لانه ليس بزيادة لان فوات النفس بسراية فعله وسراية فعله كفعله، فأشبه ما لو قطعه ثم قتله، ولان زيادة الفعل في الصورة محتمل في الاستيفاء، كما لو قتله بضربة فلم يمكن قتله في الاستيفاء إلا بضربتين، فإن جنى عليه جناية مثل أن هشم رأسه أو أجافه أو قطع يده من بعض الساعد أو العقد فمات ففيه قولان
(أحدهما)
لا يجوز له الاقتصاص بهذه الجنايات بل يقتله بالسيف لما روى العباس بن عبد المطلب إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ليس في المنقلة قصاص " ولانها جناية لا يجب بها القصاص إذا لم تسر إلى النفس، فلم يجب بها القصاص(18/461)
وإن سرت إلى النفس كاللواط
(والثانى)
يجوز له الاقتصاص به لقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ولقوله تعالى " والجروح قصاص " ولانها جراحة يجوز لها قتل المشرك فجاز استيفاء القصاص بها كالقتل بالسيف، فعلى هذا إذا فعل به مثل ما فعل به فلم يمت قتله بالسيف لانه قد فعل به مثل ما فعل به، ولم يبق إلا إزهاق الروح فكان بالسيف (فرع)
إذا أوضحه بالضرب بالسيف أو بالرمي بالحجر لم يوضحه بضرب السيف ولا بالرمي بالحجر، بل يوضحه بحديدة ماضية بعد أن يضبط الجاني، لانه يستوفى منه أكثر مما جناه.
(مسألة) إذا جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين نظرت فإن كانت جناية لا يجب فيه القصاص كالهاشمة والمنقلة لم يقتص منه بالهاشمة والمنقلة لانه لا يجب فيها القصاص، ولكن يذهب ضوء العين بكافور يطرح في العين أو بأدناء حديدة
حامية إليها، لان ذلك أسهل ما يمكن، ولا يقلع الحدقة لانه لم يقلع حدقته، وإن كانت جناية يجب فيها القصاص كالموضحة اقتص منه في الموضحة، فإن ذهب ضوء العين فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب الضوء عولج الضوء بما يذهبه بالكافور أو بإدناه الحديدة الحامية من العين على ما مضى وإن لطمه فأذهب ضوء عينيه فهل له أن يلطمه؟ اختلف أصحابنا فيها فقال الشيخ الامام أبو إسحاق الاسفرايينى (1) ليس له أن يلطمه، وإنما يعالج إذهاب الضوء بما ذكرناه لما روى يحيى بن جعدة أن أعرابيا قدم بجلوبة (وهو ما يحلب للبيع من بعيد وضبطها بعض الفقهاء بحلوبة) له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان فنازعه فلطمه فقأ عينه، فقال له عثمان هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو؟ فأبى فرفعهما إلى على فضى بما حكاه المصنف.
وقد كانت المرايا تصنع من الحديد المصقول يتراءى فيه الانسان وجهه، ولان اللطم لا يمكن اعتبار المماثلة فيه.
__________
(1) إذا قال النووي (الامام) وأطلق انصرف إلى امام الحرمين أبي المعالي الجوينى، وإذا قال الشيخ أبو إسحاق؟ الشيرازي (الامام أو الشيخ الامام) وأطلق انصرف ذلك إلى الشيخ أبي اسحاق الاسفراينى(18/462)
ولهذا لو انفرد بإذهاب الضوء لم يجب فيه القصاص وقال الشيخ أبو حامد: يلطمه كما لطمه، وهو المنصوص في الام، فإن ذهب ضوء عينه فقد استوفى حقه وان لم يذهب الضوء عولج بما يذهب الضوء لقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " قال الشافعي فإن لطمه الجاني فأذهب ضوء عينه وابيضت عينه وشخصت، يعنى ارتفعت، فإنه يلطمه مثله.
فإن أذهب ضوء عينه فأبيضت وشخصت فقد أستوفى حقه، وان لم تبيض ولم يشخص - فإن أمكن معالجة العين حتى يبيض
ويشخص - فعل، وان لم يمكن فلا شئ عليه، لان الجناية انما هي ذهاب العين.
فأما البياض والشخوص فإنما هو شين، والشين لا يوجب شيئا، كما لو شجه موضحة فاقتص منه مثلها ثم برئ - أي المجني عليه - وبقى عليه شين وبرئ رأس الشاج ولا شين عليه، فإنه لا يجب له شئ فكذلك هذا مثله.
وان قلع عينه بأصبعه - فإن قلع المجني عليه عينه بحديدة جاز - لانه أوحى وأن أراد أن يقلع عينه بأصبعه ففيه وجهان
(أحدهما)
له ذلك لقوله تعالى " فمن أعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما أعتدى عليكم "
(والثانى)
ليس له ذلك لانه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أوضح رأسه بالسيف اقتص منه بحديدة ماضية كالموسى ونحوه، ولا يقتص منه بالسيف لانه لا يؤمن أن يهشم العظم.
(فصل)
وان جنى عليه جناية ذهب منها ضوء عينيه نظرت - فإن كانت جناية لا يجب فيها القصاص كالهاشمة - عولج بما يزيل ضوء العين من كافور يطرح في العين أو حديدة حامية تقرب منها، لانه تعذر استيفاء القصاص فيه بالهاشمة ولا يقلع الحدقة لانه قصاص في غير محله الجناية فعدل إلى أسهل ما يمكن كما قلنا في القتل باللواط.
وان كانت جناية يمكن فيها القصاص كالموضحة اقتص منه(18/463)
فإن ذهب الضوء فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء على ما ذكرناه في الهاشمة، وإن لطمه فذهب الضوء فقد قال بعض أصحابنا انه يلطم كما لطم فإن ذهب الضوء فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب عولج على ما ذكرناه.
وقال الشيخ الامام: ويحتمل عندي إنه لايقتص منه باللطمة بل يعالج بما يذهب
الضوء على ما ذكرناه في الهاشمة.
والدليل عليه ماروى يحيى بن جعدة أن أعرابيا قدم بحلوبة له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضى الله عنه، فنازعه فلطمه ففقأ عينه، فقال له عثمان هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه؟ فأبى فرفعهما إلى على، فدعا علي رضى الله عنه بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الاخرى، ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه " ولان اللطم لا يمكن اعتبار المماثلة فيه، ولهذا لو أنفرد من إذهاب الضوء لم يجب فيه القصاص، فلا يستوفى به القصاص في الضوء كالهاشمة.
وإن قلع عين رجل بالاصبع فأراد المجني عليه أن يقتص بالاصبع ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز لانه يأتي على ما تأتى عليه الحديدة مع المماثلة
(والثانى)
لا يجوز لان الحديد أرجى فلا يجوز بغيره (الشرح) إذا وجب له القصاص بالسيف فإن الحاكم يمكن الولى من ضرب عنق الجاني، فإن ضرب عنقه بالسيف فأبانه فقد استوفى حقه، وإن ضربه في غير العتق، فإن مات فقد استوفى حقه، وإن لم يمت سئل عن ذلك، فإن قال تعمد ضرب ذلك الموضع عزره الحاكم لقوله تعالى " فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا " معناه لا يمثل به في القتل، وقيل معناه لا يقتل غير قاتله ويؤمر أن يوكل من يقتص له ولا يلزمه ضمان، لان له إتلاف جملته.
" إن قال أخطأت - فإن ضرب موضعا يجوز أن يخطئ في مثله، مثل أن يصاب الكتف وما يلي الرأس من العتق فالقول قوله مع يمينه، لان ما يدعيه ممكن ولا تعزير عليه، وإن أصاب موضعا لا يجوز أن يخطئ في مثله، مثل أن ضرب وسط رأسه وظهره أو رجله لم يقبل قوله، لانه خلاف الظاهر ويعزر(18/464)
ولا يضمن أيضا.
فان قال لا أحسن الاقتصاص أمرنا بالتوكيل.
وان قال أنا
أحسن وطلب أن يقتص بنفسه فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي موضع ليس له ذلك ويؤمر بالتوكيل.
وقال في موضع يمكن نائبا من الاقتصاص، فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا يمكن لانه لا يؤمن مثل ذلك منه، والثانى يمكن لان الظاهر أنه لا يعود إلى مثله، ومنهم من قال ليست على قولين، وانما هي على اختلاف حالين، فحيث قال يؤمر بالتوكيل أراد إذا كان لا يحسن ولا يوجد منه قبل ذلك، وحيث قال يمكن أراد به إذا علم منه أنه يحسن الاستيفاء.
(فرع)
وان وجب له القصاص في أنملة فاقتص في أنملتين - فان كان عامدا - وجب عليه القصاص، وان كان مخطئا وجب عليه الارش دون القود وان استوفى أكثر من حقه باضطراب الجاني لم يلزم المقص شئ، لانه حصل بفعل الجاني فهدر.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان وجب له القصاص بالسيف فضربه فأصاب غير الموضع وادعى أنه أخطأ - فان كان يجوز في مثله الخطأ - فالقول قوله مع يمينه، لان ما يدعيه محتمل.
وان كان لا يجوز في مثله الخطأ لم يقبل قوله ولا يسمع فيه يمينه، لانه لا يحتمل ما يدعيه، وان أراد أن يعود ويقتص فقد قال في موضع لا يمكن، وقال في موضع يمكن.
ومن أصحابنا من قال هما قولان
(أحدهما)
لا يمكن لانه لا يؤمن مثله في الثاني
(والثانى)
أنه يمكن لان الحق له، والظاهر أنه لا يعود إلى مثله.
ومن أصحابنا من قال ان كان يحسن مكن لان الظاهر أنه لا يعود إلى مثله، وان لم يحسن لم يمكن لانه لا يؤمن أن يعود الى مثله، وحمل القولين على هذين الحالين وان وجب له القصاص في موضحة فاستوفى أكثر من حقه أو وجب له القصاص
في أنملة فقطع أنملتين - فان كان عامدا - وجب عليه القود في الزيادة، وان كان خطأ وجب عليه الارش، كما لو فعل ذلك في غير القصاص، وان استوفى(18/465)
أكثر من حقه باضطراب الجاني لم يلزمه شئ، لانه حصل بفعله فهدر.
(فصل)
وإن اقتص من الطرف بحديدة مسمومة فمات لم يجب عليه القصاص لانه تلف من جائز وغير جائز، ويجب نصف الدية لانه هلك من مضمون وغير مضمون، فسقط النصف ووجب النصف (الشرح) إذا وجب له القصاص في اليمين فقال المقتص للجاني أخرج يمينك لاقطعها، فأخرج الجاني يساره فقطعها المقتص، نظرت في الجاني - فإن قال تعمدت إخراج اليسار وعلمت أن قطعها لا يجزئ عن اليمين فلا قود على المقتص ولادية، سواء علم المقتص أنها اليسار أو لم يعلم، لانه قطعها ببذل صاحبها فهو كما لو قال اقطع يدى فقطها، غير أن المقتص إن كان عالما بأنها اليسار عزر لانه فعل فعل محرما، وإن لم يعلم لم يعزر، وسواء أذن الجاني في قطعها بالقول أو قال له المقتص اخرج يمينك لاقطعها فأخرج يساره وهو ساكت ومدها فقطعها المقتص لانه بذلها له بإخراجها إليه لا على سبيل العوض، والفعل في ذلك يقوم مقام النطق، كما لو دفع إلى رجل صرة وقال ارمها في البحر فأخذها ورماها فلا ضمان عليه: وكذلك لو قال: ادفع إلى صرتك لارميها في البحر فدفعها إليه وهو ساكت فرماها فلا ضمان عليه، وكما لو قدم إليه طعاما وقال كله، هو كما لو استدعى منه الطعام فقدمه إليه فأكله، فإن مات المقطوع يساره من قطعها، فلا قود على المقتص وقال ابن الصباغ: ولا يجب عليه دية النفس، وهل تجب الكفارة على المقطوعة يساره؟ قال المسعودي فيه وجهان بناء على الوجهين فيمن قتل نفسه
وطريقة أصحابنا البغداديين أن من قتل تجب عليه الكفارة وجها واحدا فعلى هذا يجب عليه الكفارة ها هنا وإن قال المقتص منه وقع في سمعي أنه قال اخرج يسارك فأخرجتها، أو سمعت أنه قال اخرج يمينك، ولكن دهشت فأخرجت اليسار وظننتها اليمين، وأخرجت اليسار عامدا لكن ظننت أن قطعها يجزئ عن اليمين نظرت في المقتص فإن لم يعلم أنها اليسار فلا قود عليه للشبهة.
وهل تجب عليه الدية؟(18/466)
فيه وجهان
(أحدهما)
لا تجب عليه الدية لانه قطعها ببذل صاحبها، فهو كما لو قال اقطع يدى فقطعها
(والثانى)
تجب عليه الدية، وهو الاصح لان الجاني بذل لتكون يساره عوضا عن اليمين، فإذا لم يقع عنها وجب له قيمتها، كما لو باع سلعة بيعا فاسدا وسلمها إلى المشترى وتلفت وإن كان المقتص عالما بأنها اليسار فهل يجب عليه القود في يساره؟ فيه وجهان قال أبو حفص بن الوكيل يجب عليه القصاص لانه قطع يدا غير مستحقة له مع العلم بتحريهما.
وقال أكثر أصحابنا لا يجب عليه القصاص - وهو الاصح - لانه قطعها ببذل صاحبها، ويجب عليه ديته، لان صاحبها بذلها لتكون عوضا عن اليمين فإذا لم يقع وجب له قيمتها، كما لو باع سلعة فاسدة وقبضها المشترى وتلفت منه.
إذا ثبت هذا فإن باق للمقتص في يمين الجاني لانه لم يسقط حقه عنها.
قال الشافعي رحمه الله: لايقتص منه في اليمين حتى يندمل يساره: وقال فيمن قطع يدى رجل أو رجليه دفعة واحدة أنه تقطع يده به أو رجليه في وقت واحد، فمن أصحابنا الخراسانيين من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من حملهما على ظاهرهما، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره، وفرق بينهما بأنه إذا قطع
يد رجل أو رجليه فقد جمع عليه بين ألمين فجاز له أن يجمع عليه بينهما.
وها هنا الجاني لم يجمع عليه بين ألمين فلا يجوز له أن يجمع عليه بينهما فإن قيل: أليس لو قطع يمين ويسار آخر يؤخذ القصاص عليه في إحداهما إلى اندمال الاخرى قلنا الفرق بينهما أن القطعين مستحقان قصاصا فلهذا جمعنا بينهما، وهاهنا أحدهما غير مستحق عليه فلم يجمع بينهما، وإن سرى قطع اليسار إلى نفس الجاني في الموضع الذي قال ظننتها اليمين وظننت أن قطعها يجزى عن اليمين.
قال ابن الصباغ فانه يجب على المقتص دية كاملة، وقد تعذر عليه القصاص في اليمين فجيب دية يده فيقاص بها مما عليه قال: وحكى عن الشيخ أبى حامد أنه قال: عندي أنه استوفى حقه من اليمين بتلفه، كما لو كان قصاص في اليد فقطعها ثم قتله(18/467)
ووجه الاول أن حقه في قطع اليد ولم يحصل، وإنما قتله فقد ضمنها مع النفس بالدية.
قال ابن الصباغ ويلزمه أن يقول فيه: إذا بذلها مع العلم بها وسرت أيضا، أن يكون مستوفيا لليمين، لان البدل فيما استحق إتلافه لايمنع استيفاء الحق، وإنما تكون سرايتها هدرا فيما لا يستحقه (مسألة) إذا اختلفا فقال المقتص: بذلت اليسار وأنت عالم بأنها اليسار وأنه لا يجزئ قطعها عن اليمين، وقال الجاني بذلتها ولم أعلم أنها اليسار أو لم أعلم أن قطعها لا يجزئ عن اليمين فالقول قول الجاني مع يمينه لانه أعلم بنفسه، وإن حلف كان الحكم فيه حكم ما لو صادقه المقتص على أنه بذلها ولم يعلم أنه اليمين: وإن نكل الجاني حلف المقتص وكان الحكم فيه حكم ما لو أقر الجاني انه بذلها مع
علمه أنها اليسار وأنه لا يجزى قطعها عن اليمين، فإذا وجب له القصاص في اليمين فانفقا على أن يقتص منه باليسار بدلا عنها لم يقع عن اليمين، لان مالايجوز قطعه بالشرع لا يجوز بالتراضى، كما لو قتل غير القاتل برضاه ولا قصاص على المقتص لانه قطعها ببذل صاحبها ويجب عليه دية اليسار فإن كان عالمين بأن ذلك لا يجوز أثما، وإن كانا جاهلين لم يأثما، وان كان أحدهما عالما والاخر جاهلا أثم العالم منهما.
وهل يسقط حق المقتص من القصاص في اليمين؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
يسقط لانه لما رضى يأخذ اليسار عن اليمين صار ذلك عفوا منه عن اليمين.
فعلى هذا يجب دية يد وله دية يد فيتقاصان إن استويا، وان تفاضلا بأن كان أحدهما رجلا والاخر امرأة، أو كان المقتص مسلما والجانى كافرا رجع من له الفضل بماله من الفضل
(والثانى)
لا يسقط حقه من القصاص في اليمين، لانه إنما رضى باسقاط حقه من القصاص بأن يكون اليسار بدل اليمين، فإذا لم يصح أن يكون بدلا عنها كان حقه باقيا في المبدل كما لو صالح على الانكار: فعلى هذا ليس له أن يقتص في اليمين إلا بعد اندمال اليسار، قال ابن الصباغ: والاول أصح لان غرضه قد حصل له وهو القطع.(18/468)
(فرع)
إذا كان المقتص منه مجنونا والمقتص عاقلا فقال له: أخرج يمينك فأخرجها المجنون فقطعها فقد استوفى حقه، لان المقتص من أهل الاستيفاء، وان كان المقتص منه ليس من أهل البذل والاعتبار بالمقتص، فان قال المقتص أخرج يمينك فأخرج المجنون يساره فقطعها المقتص - فان كان المقتص عالما أنها اليسار - وجب عليه القصاص في اليمين، وإن كان المتقص غير عالم بأنها اليسار
لم يجب عليه القصاص في اليسار للشبهة ولكن عليه دية اليسار، لان بذل المجنون لا يصح، وله القصاص في اليمين فلا يقطعها حتى تندمل يساره، وان كان المقتص منه عاقلا والمقتص مجنونا، فقال له المجنون أخرج يمينك لاقطعها فأخرجها العاقل باختياره فقطعها المجنون لم يصر مستوفيا، لانه ليس من أهل الاستيفاء ولاضمان عليه لانه قطعها ببذل صاحبها ووجب للمجنون على العاقل دية يمينه لان يمينه قد زالت.
وإن أخرج إليه العاقل يساره فقطعها المجنون هدرت اليسار وكان حق المجنون باقيا في القصاص في اليمين.
وأما إذا أكرهه المجنون فقطع يمينه فهل يصير مستوفيا لحقه؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الصبي الصحيح، لانه لا يصير مستوفيا، فان قلنا انه يصير مستوفيا فلا كلام.
وان قلنا لا يصير مستوفيا كان للمجنون دية يده على الجاني ووجب للجاني دية يده فان قلنا ان عمد المجنون عمد وجبت الدية في ماله، وان قلنا أن عمده خطأ وجبت على عاقلته، وان كان المتقص والمقتص منه مجنونين وكان القصاص في اليمين فقطع المقتص يمين المقتص منه فهل يصير مستوفيا لحقه؟ على الوجهين، سواء قطعها ببذل المقتص منه أو أكرهه، لان بذله لا يصح، فان قلنا يصير مستوفيا فلا كلام.
وإن قلنا لا يصير مستوفيا وجب للمقتص دية يده في ماله الجاني، ويجب للجاني دية يده فان قلنا ان عمد المجنون عمد وجبت في ماله، وان قلنا ان عمده خطأ وجبت على عاقلته.
وان قطع المقتص يسار الجاني وجب ضمانها بالدية، سواء قطعها(18/469)
ببذل صاحبها أو بغير بذله لانه لا يصح بذلك: وفي محل وجوبها القولان في
جنايته هل هي عمد أو خطأ؟ ويبقى للمقتص القصاص في اليمين ولا يقتص من الجاني حتى تندمل يساره
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا وجب القصاص في يمينه فقال، أخرج يمينك فأخرج اليسار من كم اليمين فقطعها، فإن قال تعمدت إخراج اليسار وعلمت أنه لا يجوز قطعها عن اليمين لم يجب على القاطع ضمان، لانه قطعها ببذله ورضاه.
وإن قال ظننتها اليمين أو ظننت أنه يجوز قطعها عن اليمين نظرت في المستوفى، فإن جهل أنها اليسار لم يجب عليه القصاص لانه موضع شبهة، وهل يجب عليه الدية؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا تجب عليه لانه قطعها ببذل صاحبها.
(والثانى)
يجب وهو المذهب، لانه بذل على أن يكون عوضا عن اليمين، فإذا لم يصح العوض وتلف المعوض وجب له بدله، كما لو اشترى سعلة بعوض فاسد وتلفت عنده، فإن علم أنه اليسار وجب عليه ضمانه، وفيما يضمن وجهان
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ أنه يضمن بالقود لانه تعمد قطع يد محرمة.
(والثانى)
وهو المذهب أنه لا يجب القود، لانه قطعها ببذل الجاني ورضاه وتلزمه الدية لانه قطع يدا لا يستحقها مع العلم به، فإن وجب له القود في اليمين فصالحه على اليسار لم يصح الصلح، لان الدماء لا تستباح بالعوض، وهل يسقط القصاص في اليمين؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يسقط لان عدو له إلى اليسار رضا بترك القصاص في اليمين.
(والثانى)
أنه لا يسقط لانه أخذ اليسار على أن يكون بدلا عن اليمين ولم يسلم البدل فبقى حقه في المبدل.
فإذا قلنا لا يسقط القصاص فله على المقتص دية اليسار، وللمقتص عليه القصاص في اليمين.
وان قلنا انه يسقط القصاص فله
دية اليمين وعليه دية اليسار وان كان القصاص على مجنون فقال له المجني عليه أخرج يمينك فأخرج يساره(18/470)
فقطعها وجب عليه القصاص ان كان عالما أو الدية إن كان جاهلا، لان بذل المجنون لا يصح فصار كما لو بدأ بقطعه (الشرح) إذا قطع رجل يد رجل فاقتص المجني عليه من الجاني فاندملت يد المجني عليه ومات الجاني هدر دمه.
وبه قال الحسن وابن سيرين ومالك وأحمد وإسحاق وابن المنذر وأبو يوسف ومحمد.
وقال عطاء وطاوس والزهرى وأبو حنيفة يكون على المجني عليه دية كاملة دليلنا ماروى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قالا: من مات من حد أو قصاص فلا دية له (1) ولا مخالف لهما في الصحابة رضى الله عنهم.
ويثبت أنه إجماع، ولانه جرح مباح غير مجتهد فيه فلم تكن سرايته مضمونة كالقطع في السرقة، فقول المباح احتراز من القطع بغير حق وقولنا " غير مجتهد فيه " احتراز من المولى عليه إذا كانت به أكلة أو سعلة فاجتهد الامام في قطعها فقطهعا فمات منه وان قلنا يد رجل فقطع المجني عليه يد الجاني ثم سرى القطع إلى نفس المجني عليه كانت السرايه إلى نفس الجاني قصاصا، لان السراية في النفس لما كانت كالجناية في إيجاب القصاص كانت الجناية في استيفاء القصاص، فإن كانت بحالها إلا أن الجاني مات من القطع أولا ثم مات المجني عليه بعده من القطع ففيه وجهان
(أحدهما)
أن السراية إلى نفس الجاني تكون قصاصا لان نفسه خرجت مخرج القصاص فكانت قصاصا، كما لو مات المجني عليه ثم مات الجاني
(والثانى)
أن السراية إلى نفس الجاني لا تكون قصاصا، وهو الاصح لان السراية سبقت وجوب
القصاص فلم يقع قصاصا، وإنما تكون السراية هدرا، فعلى هذا يجب للمجني عليه في مال الجاني نصف الدية، لانه قد أخذ يدا بنصف الدية.
وان كانت الدية موضحة أخذ منه تسعة أعشار الدية ونصف عشرها لانه أخذ منه ما يساوى نصف عشر الدية.
__________
(1) رواه سعيد بن منصور(18/471)
(مسألة) قوله من وجب عليه قتل بكفر أو ردة الخ، فجملة ذلك أنه إذا وجب عليه قتل بقصاص أو كفر أو زنا أو التجأ إلى الحرم قتل ولم يمنع الحرم منه.
وقال أبو حنيفة.
لا يستوفى منه القصاص ولا الرجم في الحرم، ولكن لا يباع ولا يشترى ولا يكلم حتى يخرج من الحرم ويستوفى منه القصاص والحد دليلنا قوله تعالى " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " ولم يفرق، وقوله تعالى " فاقتلوهم حيث ثقفتموهم " وهذا عام لانه قتل لا يوجب الحرم ضمانه فلم يمنع منه كقتل الحية والعقرب فيه احتراز من قتل الصيد (فرع)
إذا قتل رجل رجلا عمدا فمات القاتل قبل أن يقتص منه ولى المقتول أو قتله رجل غير ولى المقتول وجبت دية المقتول في مال القاتل، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة يسقط حقه، دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية " وقوله " بين خيرتين " أي شيئين إذا تعذر أحدهما تعين له الآخر، كما قلنا في كفارة اليمين.
وان وجب له القصاص في طرف فزال الطرف قبل استيفاء القصاص كان له أرش الطرف في مال الجاني لما ذكرناه في النفس وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(باب العفو عن القصاص)
ومن وجب عليه القصاص وهو جائز التصرف فله أن يقتص وله أن يعفو على المال، لما روى أبو شريح الكعبي " إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين، ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية " فإن عفا مطلقا بنينا على ما يجب بقتل العمد.
وفيه قولان
(أحدهما)
أن موجب قتل العمد القصاص وحده، لا تجب الدية الا بالاخپتيار.
والدليل عليه قوله عز وجل " كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر والعبد بالعبد " ولان ما ضمن بالبدل في حق الآدمى ضمن ببدل معين كالمال(18/472)
والقول الثاني أن موجبه أحد الامرين من القصاص أو الدية.
والدليل عليه أن له أن يختار ما شاء منهما، فكان الواجب أحدهما كالهدى والطعام في جزاء الصيد، فإذا قلنا إن الواجب هو القصاص وحده فعفا عن القصاص مطلقا سقط القصاص ولم تجب الدية، لانه لا يجب له غير القصاص وقد أسقطه بالعفو، وإن قلنا إنه يجب أحد الامرين فعفا عن القصاص وجبت الدية، لان الواجب أحدهما، فإذا ترك أحدهما وجب الآخر، وإن أختار الدية سقط القصاص وثبت المال ولم يكن له أن يرجع إلى القصاص وإن قال اخترت القصاص فهل له أن يرجع إلى الدية؟ فيه وجهان
(أحدهما)
له يرجع لان القصاص أعلى، فجاز أن ينتقل عنه إلى الادنى
(والثانى)
ليس له أن يرجع إلى الدية لانه تركها فلم يرجع إليها كالقصاص، فإن جنى عبد على رجل جناية توجب القصاص فاشتراه بأرش الجناية سقط القصاص لان عدوله إلى الشراء اختيار للمال.
وهل يصح الشراء؟ ينظر فيه، فإن كانا لا يعرفان عدد الابل وأسنانها لم يصح الشراء لانه بيع مجهول، فإن كانا يعرفان
العدد والاسنان ففيه قولان
(أحدهما)
لا يصح الشراء، لان الجهل بالصفة كالجهل بالعدد والسن، كما قلنا في السلم.
(والثانى)
أنه يصح لانه مال مستقر في الذمة تصح المطالبة به، فجاز البيع به كالعوض في القرض
(فصل)
فإن كان القصاص لصغير لم يجز للولى أن يعفو عنه على غير مال.
لانه تصرف لاحظ للصغير فيه، فلا يملكه الولى كهبة ماله، وان أراد أن يعفو على مال - فإن كان له مال أو له من ينفق عليه - لم يجز العفو لانه يفوت عليه القصاص من غير حاجة، وإن لم يكن له مال ولا يمن ينفق عليه ففيه وجهان.
(أحدهما)
يجوز العفو على مال لحاجته إلى المال ليحفظ به حياته
(والثانى)
لا يجوز وهو المنصوص لانه يستحق النفقة في بيت المال، ولا حاجة به إلى العفو عن القصاص، وان كان المقتول لا وارث له غير المسلمين كان الامر إلى السلطان،(18/473)
فإن رأى القصاص اقتص، وان رأى العفو على مال عفا، لان الحق للمسلمين فوجب على الامام أن يفعل ما يراه من المصلحة، فإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز لانه تصرف لاحظ فيه للمسلمين فلم يملكه (الشرح) حديث أبى شريح الكعبي مضى تخريجه مع ترجمة راويه آنفا.
أما الاحكام فإنه إذا قتل غيره عمدا وهما متكافئان فما الذي يجب على القاتل؟ فيه قولان
(أحدهما)
أن الواجب عليه هو القود وحده، وانما الدية تجب بالعفو بدلا عنه، وهو قول أبى حنيفة، وهو اختيار القاضى أبى الطيب لقوله تعالى " كتب عليكم القصاص في القتلى " إلى قوله " فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " فموضع الدليل أنه قال " كتب عليكم القصاص "
ولم يذكر الدية فعلم أنها لم تجب بالقتل، وأيضا فإنه قال " فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف " فأمره باتباع الدية إذا عفا عن القود فعلم أن الدية تجب بالعفو لا بالقتل، ولان ما ضمن بالبدل في حق الآدمى ضمن ببدل معين كالمال وقولنا ضمن ببدل احتراز من العين المغصوبة إذا كانت باقية، وقولنا في حق الآدمى احتراز من جزاء الصيد والقول الثاني: أن الواجب عليه أحد شيئين: القود أو الديه، فإن استفاد الولى علمنا أن الواجب كان هو القود، وان عفا عن القود على الدية علمنا أن الواجب كان هو الدية، وهو اختيار الشيخ أبى حامد لقوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده قيلا فأهله بين خيرتين، ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية فخيرهم بين القود والدية، فعلم أنهما سواء في الوجوب.
إذا تقرر هذه فقال الولى عفوت عن القود على الدية سقط القود ووجبت الدية على القولين وان قال عفوت عن القود والدية سقطا جميعا على القولين، وان قال عفوت عن القود وأطلق، فإن قلنا ان الواجب بقتل العمد أحد شيئين وجبت الدية لانها واجبة لم يعف عنها.
وان قلنا الواجب القود وحده، ففيه طَرِيقَانِ، مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ.
فمنهم من يحكيهما وجهين
(أحدهما)
لا تجب الدية(18/474)
لانها لا تجب على هذا إلا باختياره لها ولم يخترها فلم تجب
(والثانى)
تجب الدية لئلا تهدر الدماء، والاول أصح، ومنهم من قال لا تجب الدية قولا واحد، وهو قول أبى إسحاق المروزى والمصنف لما ذكرناه للاول، فإن قال عفوت عن القود إلى الدية، أو قال عفوت عن القود ولم يقل إلى الدية.
وقلنا تجب الدية ثم أراد أن يطالبه بالقود لم يكن له، لانه قد سقط، وإن قال عفوت عن الدية.
فإن قلنا إن الواجب هو القصاص وحده لم يصح عفوه، وكان له أن يقتص، فإن عفى عن القود بعد ذلك أو على الدية أو عفا مطقا وقلنا تجب الدية بالاطلاق استحق الدية، لان عفوه الاول عنها كان قبل وجوبها.
فإن قلنا إن الواجب أحد الشيئين - سقطت الدية وتعين حقه في القصاص - فإن اقتص منه فلا كلام، وإن مات القاتل قبل أن يقتص منه، قال الشافعي رضى الله عنه له أن يأخذ الدية لانه لما سقط القود بغير اختياره كان له الرجوع إلى بدله، وإن كان القاتل حيا وأراد الولى أن يعفو عن القود إلى الدية.
قال الشافعي: ليس له ذلك، لانه كان له أن يختار الدية فلما لم يخترها وتركها لم يكن له العود إليها.
وقال أبو إسحاق: له أن يعفو عن القود ويختار الدية لانه انتفال من البدل الاغلظ إلى الاخف.
وإن اخترت القصاص فهل له أن يرجع ويعفو عنه إلى الدية؟ فيه وجهان
(أحدهما)
له أن يرجع إلى الدية لانه تركها فلم يرجع إليها كالقصاص.
إذا ثبت هذا فللولي أن يعفو عن القود إلى الدية، سواء رضى القاتل به أو لم يرض، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وأحمد واسحاق.
وقال مالك وأبو حنيفة: لا يستحق الولى الدية الا برضا القاتل.
دليلنا قوله تعالى " كتب عليكم القصاص في القتلى " إلى قوله " فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " قيل في التفسير: معناه فمن عفى له، يريد به القاتل من أخيه المقتول شئ أي على شئ فاتباع بالمعروف، يريد به على مال فاتباع، لانه كان في شريعة موسى الذي يجب بالقتل هو القصاص فقط، وفي شريعة عيسى الدية فقط، فجعل الله(18/475)
تعالى لهذه الامة القود في القتل، وجعل لهم العفو عنه على مال تخفيفا منه ورحمة ومن الدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (فمن قتل بعد قتيلا فأهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية) ولم يعتبر رضى القاتل.
وروى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قال (اولى مخير في ذلك بين القتل والدية) ولا مخالف له في الصحابة فدل على أنه اجماع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان القصاص لجماعة فعفا بعضهم سقط حق الباقين من القصاص لما روى زيد بن وهب أن عمر رضى الله عنه أتى برجل قتل رجلا، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت أخت المقتول وهى امرأة القاتل قد عفوت عن حقى، فقال عمر رضى الله عنه عتق من القتل) وروى قتادة رضى الله عنه (أن عمر رضى الله عنه رفع إليه رجل قتل رجلا فجاء أولاد المقتول وقد عفا أحدهم، فقال عمر لابن مسعود رضى الله عنهما وهو إلى جنبه ما تقول؟ فقال انه قد أحرز من القتل، فضرب على كتفه وقال كنيف ملئ علما) ولان القصاص مشترك بينهم وهو مما لا يتبعض، ومبناه على الاسقاط فإذا أسقط بعضهم حقه سرى إلى الباقي كالعتق في نصيب أحد الشريكين وينتقل حق الباقين إلى الدية لما روى زيد بن وهب قال دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلا فقتلها، فاستعدى اخوتها عمر، فقال بعض اخوتها قد صدقت بحقى فقضى لسائرهم بالدية، ولانه سقط حق من لم يعف عن القصاص بغير رضاه فثبت له البدل مع وجود المال كما يسقط حق من لم يعتق من الشريكين إلى القيمة
(فصل)
وان وكل من له القصاص من يستوفى له ثم عفا وقتل الوكيل ولم يعلم بالعفو، ففيه قولان
(أحدهما)
لا يصح العفو، لانه عفا في حال لا يقدر الوكيل على تلاقى
ما وكل فيه، فلم يصح العفو، كما لو عفا بعد ما رمى الحربة إلى الجاني
(والثانى)
يصح لانه حق له فلا يفتقر عفوه عنه إلى علم غيره كالابراء من الدين، ولا يجب القصاص على الوكيل، لانه قتله وهو جاهل بتحريم القتل.(18/476)
وأما الدية فعلى القولين، إن قلنا إن العفو لا يصح لم تجب الدية، كما لا تجب إذا عفا عنه بعد القتل، وإن قلنا يصح العفو وجبت الدية على الوكيل، لانه قتل محقون الدم ولا يرجع بما غرمه من الدية على الموكل.
وخرج أبو العباس قولا آخر أنه يرجع عليه لانه غره حين لم يعلمه بالعفو، كما قلنا فيمن وطئ أمة غر بحريتها في النكاح، وقلنا إن النكاح باطل انه يلزمه المهر ثم يرجع به على من غره في أحد القولين وهذا خطأ لان الذي غره في النكاح مسئ مفرط فرجع عليه والموكل ههنا محسن في العفو غير مفرط
(فصل)
فإن جنى على رجل جناية فعفا المجني عليه من القصاص فيها ثم سرت الجناية إلى النفس، فإن كانت الجناية مما يجب فيها القصاص كقطع الكف والقدم لم يجب القصاص في النفس، لان القصاص لا يتبعض، فإذا سقط في البعض سقط في الجميع، وإن كانت الجناية مما لاقصاص فيها كالجائفة ونحوها وجب القصاص في النفس لانه عفا عن القصاص فيما لاقصاص فيه فلم يعمل فيه العفو (الشرح) خبر زيد بن وهب أخرجه أبو داود في سنته، وخبر عبد الله بن مسعود وقول عمر له " كنيف ملئ علما.
ساقه الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الاعمش عن زيد بن وهب وساق له شاهدا آخر عن معن بن عيسى، حدثنا معاوية ابن صالح عن أسد بن وداعة أن عمر ذكر ابن مسعود فقال: كيف ملئ علما آثرت به أهل القادسية.
وقوله " كنيف " تصغير كنف والكنف وعاء من أدم يكون فيه أداة الراعى
وتصغيره للتنظيم كما قالوا دويهية، والاحسن في هذا أنه يعنى الصغر والحقارة لان ابن مسعود رضى الله عنه كان دميم الخلقة قصيرا.
قبل يكاد الجلوس يوارونه من قصره.
هكذا أفاده ابن بطال أما الاحكام فإذا كان القصاص لجماعة فعفا بعضهم عن القود سقط القود عن القاتل لقوله صلى الله عليه وسلم " فأهله بين خيرتين " ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية " وهؤلاء لم يحبوا لان فيهم من لم يحب.
وروى أن رجلا قتل رجلا وأراد ورثة المقتول أن يقتصوا فقالت زوجة القاتل وكانت أخت المقتول(18/477)
قد عفوت عن نصيبي من القود، فقال عمر رضى الله عنه: نجا من القتل، وكذلك ورى عن أبن مسعود ولا مخالف لهما في الصحابة فدل على أنه اجماع، ولان القصاص يقع مشتركا لا يتبعض، فإذا سقط بعضه سقط الجميع، وينتقل حق الباقين إلى الدية، لما أن رجلا دخل على امرأته فوجد معها رجلا فقتلها، فقال بعض اخوتها قد تصدقت، فقضى عمر لسائرهم بالدية، ولان حقهم سقط من القصاص بغير اختيارهم فانتقل حقهم إلى البدل مع وجوده كما ينتقل حق الشريك في العبد إذا أعتقه شريكه إلى القيمة.
(فرع)
إذا وجب له القصاص على رجل فرمى إليه بسهم أو بحرية ثم عفا عنه بعد الرمى وقبل الاصابة لم يصح العفو لانه لا معنى لهذا العفو كما لو جرحه ثم عفا عنه، وان وجب له القصاص فقد ذكرنا أنه يجوز له أن يوكل من يستوفى له القصاص بحضرة الموكل.
وهل يصح أن يوكل من يتسوفى له القصاص، فيه ثلاث طرق سبق لنا بيانها في الوكالة، وقلنا الصحيح أنه يصح قال ابن الصباغ: الا أنا إذا قلنا لا تصح الوكالة فاستوفى الوكيل القصاص فقد حصل به الاستيفاء، لانه استوفاه بإذنه كما نقول فيه إذا باع الوكيل في
الوكالة الفاسدة، وانما يقيد فسادها هاهنا أن الحاكم لا يمكن اوكيل من الاستيفاء فلو وكل في الاستيفاء ثم عفا الموكل عن القصاص، فإن عفا بعد أن قتله الوكيل لم يصح عفوه، فإن عفا قبل أن يقتله الوكيل ثم قتله بعد علمه بالعفو فعلى الوكيل القود، وان لم يعلم هل كان العفو قبل القتل أو بعده؟ فلا شئ على الوكيل، لان الاصل أن لا عفو، وان عفا الموكل عن القصاص ثم قتله الوكيل ولم يعلم بالعفو فهل يصح العفو؟ فيه قولان
(أحدهما)
لا يصح العفو لانه عفا في وقت لا يمكن تلافيه فلم يصح، كما لو عفا بعد رمى الحرية إلى الجاني
(والثانى)
يصح لانه عفا عن قود غير متحتم قبل أن يشرع فيه الوكيل.
فصح كما لو علم الوكيل بالعفو قبل القتل واختلف أصحابنا في مأخذ القولين، فمنهم من قال أصلهما القولان في الوكيل هل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل، ولم يذكر ابن الصباغ غيره، ومن أصحابنا(18/478)
الخراسانين من قال أصلهما إذا رأى رجلا في دار الحرب فظنه حربيا فرماه بسهم ثم بان أنه كان مسلما ومات هل تجب الدية؟ فيه قولان وقال الشيخ أبو حامد: القولان ها هنا أصل بأنفسهما ومنها أخذ الوجهان في الوكيل، هل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل، فإذا قلنا إن عفوه لا يصح فلا شئ على الموكل والوكيل، فإذا قلنا إن عفوه يصح فلا شئ على الموكل وأما الوكيل فلا قصاص عليه لان له شبهة في قتله ويجب عليه الدية.
وإن قلنا لا تجب عليه الدية فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه وجهان حكاهما الطبري في العدة - إن قلنا إن مأخوذ القولين في الدية من الرمي إلى من ظنه حربيا - فتجب الكفارة، لان الدية ها هنا لم تجب
فإن قلنا مأخذهما من عزل اوكيل فلا تجب عليه الكفارة وتكون الدية مغلظة لانها إما دية عمد محض أو دية عمد خطأ، وهل تجب في مال أو كيل أو على عاقتله؟ فِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزى واختيار الشيخ أبى حامد أنها تجب في ماله لانه قصد قتله، وإنما سقط القصاص لمعنى آخر، وقال أبو علي بن أبى هريرة هو دية عمد خطأ فتجب دية مؤجلة على العاقلة، لانه قتله وهو معذور، فإن قلنا إنها على العاقلة لم يرجع بها الوكيل على الموكل لذلك.
وقال أبو العباس بن سريج: فيه قول آخر: انه يرجع عليه كما قلناه فيمن قدم طعاما مغصوبا إلى رجل فأكله ولم يعلم أنه مغصوب فإنه يرجع على المقدم إليه في أحد القولين، وكما قلنا فيمن غير بحرية امرأة، والمذهب الاول، لان العفو مندوب إليه والغرور محرم.
إذا تقرر هذا فإن كان الموكل قد عفا عن القود والدية أو عفا مطلقا وقلنا لا تجب له الدية فلا كلام، وإن عفا عن القود إلى الدية أوعفا مطلقا - وقلنا يجب له الدية وجبت له الدية في مال الجاني، وتكون لورثة الجاني مطالبة الوكيل بدية الجاني، وليس كالاخوين إذا قتل أحدهما قاتل أبيه بغير إذن أخيه حيث قلنا في محل نصيب الاخ الذي لم يقتل من الدية قولان
(أحدهما)
في تركة قاتل أبيه
(والثانى)
في ذمة أخيه، والفرق بينهما أن الاخ أتلف حق أخيه فوجبت عليه(18/479)
بدله.
وهاهنا أتلفه الوكيل بعد سقوط حق الموكل عليه بالعفو، هذا ترتيب البغداديين.
وقال الخراسانيون.
إن قلنا لادية على الوكيل فلا دية للموكل على الجاني، وكان الوكيل استوفى القصاص، فإن قلنا عليه الدية فله الدية في مال المجني عليه.
(مسألة) إذا جنا عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قلع عينه أو قطع يده أو رجله فعفا المجني عليه عن القصاص ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه لم يجب القصاص.
وحكى عن مالك أنه قال: يجب القصاص، لان الجناية صارت نفسا، ولنا أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفى عنه فسقط القصاص في النفس كما لو عفا بعض الاولياء، ولان الجناية إذا لم يجب فيها القصاص لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد ثم مات إذا ثبت هذا فإن كان المجني عليه قد عفا على مال وجبت فيه دية كاملة، فإن كان قد أخذ دية العضو المقلوع استوفى اولى باقي دية النفس.
وإن لم يأخذ شيئا من الدية أخذ الولى بجميع الدية، وان كان المجني عفا عن العين واليد والرجل على غير مال وجب لوليه نصف الدية.
وقال أبو حنيفة تجب الدية كاملة.
وقال أبو يوسف ومحمد لا شئ على الجاني.
دليلنا أنه بالجناية وجب عليه نصف الدية فإذا عفا عن الدية سقط ما يجب، فإذا صارت نفسا وجب بالسراية نصف الدية فلم يسقط أرشها بسرايتها، وانما دخل في أرش النفس، وان كان قد جنا عليه جناية لاقصاص فيها كالجائفة وكسر الظهر فعفا المجني عليه عن القصاص فيها ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه فمات كان لوليه أن يقتص في النفس لانه عفا عن القصاص فيما لاقصاص فيه، فلم يؤثر العفو فيه.
(فرع)
وان قلع يد رجل فعفا المجني عليه عن القصاص على مال أو على غير مال ثم عاد الجاني فقتله قبل الاندمال ففيه ثلاثة أوجه، أحدها وهو قول أبى سعيد الاصطخرى ان للولى القصاص في النفس، لان الجناية الثانية متفردة عن الاولة فلم يدخل حكمها في حكمها، كما لو قتله آخر، فان عفا عنه على مال كان له كمال الدية، لان الجناية على الطرف إذا وردت عليها الجناية على النفس صارت(18/480)
في حكم المندملة فلم يدخل أرش أحدهما في أرش الاخر والوجه الثاني أنه لا يجب القصاص لان الجناية والقتل كالجناية الواحدة، فإذا سقط القصاص في بعضها سقط في جميعها، كما لوسرى قطع اليد إلى النفس، فإن عفا عنه على مال كان له نصف الدية، لانه قد وجب له جميع الدية وقد أخذ نصفها أو سقط حقه عنه فبقى حقه في نصف الدية.
والثالث وهو المنصوص أن للولى أن يقتص في النفس لانهما جنايتان عفا عن إحداهما ولم يعف عن الاخرى فصار كما لو قتله آخر.
وإن عفا عنه الولى كان له نصف الدية، لان أرش الطرف يدخل في أرش النفس فإذا أخذه أو سقط حقه عنه بالعفو بقى الباقي له من الدية
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قطع أصبع رجل عمدا فعفا المجني عليه عن القصاص والدية ثم اندملت سقط القصاص والدية وقال المزني رحمه الله: يسقط القصاص ولا تسقط الدية، لانه عفا عن القصاص بعد وجوبه فسقط، وعفا عن الدية قبل وجويها، لان الدية لا تجب إلا بالاندمال والعفو وجد قبله فلم تسقط، وهذا خطأ لان الدية تجب بالجناية والدليل عليه أنه لو جنى على طرف عبده ثم باعه ثم اندمل كان أرش الطرف له دون المشترى، فدل على أنه وجب بالجناية، وإنما تأخرت المطالبة إلى ما بعد الاندمال فصار كما لو عفا عن دين مؤجل فإن سرت الجناية إلى الكف واندملت سقط القصاص في الاصبع بالعفو، ولم يجب في الكف، لانه تلف بالسراية، والقصاص فيما دون النفس لا يجب بالسراية وسقطت دية لاصبع لانه عفا عنها بعد الوجوب، ولا يسقط أرش ما تسرى إليه لانه عفا عنه قبل الوجوب وإن سرت الجناية إلى النفس نظرت فإن قال عفوت عن هذه الجناية قودها
وديتها وما يحدث منها سقط القود في الاصبع والنفس لانه سقط في الاصبع بالعفو بعد الوجوب، وسقط في النفس لانها لاتتبعض.
وأما الدية فإنه إن كان العفو بلفظ الوصية فهو وصية للقاتل، وفيها قولان(18/481)
فإن قلنا لا تصح وجبت دية النفس، وان قلنا تصح وخرجت من الثلث سقطت وإن خرج بعضها سقط ما خرج منها من الثلث ووجب الباقي وان كان بغير لفظ الوصية فهل هو وصية في الحكم أم لا؟ فيه قولان
(أحدهما)
أنه وصية لانه يعتبر من الثلث
(والثانى)
أنه ليس بوصية لان الوصية ما تكون بعد الموت، وهذا إسقاط في حال الحياة، فإذا قلنا انه وصية فعلى ما ذكرناه من القولين في الوصية للقاتل وان قلنا انه ليس بوصية صح العفو عن دية الاصبع لانه عفا عنها بعد الوجوب ولا يصح عما زاد لانه عفا قبل الوجوب فيجب عليه دية النفس الا أرش أصبع وأما إذا قال عفوت عن هذه الجناية قودها وعقلها ولم يقل وما يحدث منها، سقط القود في الجميع لما ذكرناه ولاسقط دية النفس لانه أبرأ منها قبل الوجوب وأما دية الاصبع فإنه إن كان عفا عنها بلفظ الوصية أو بلفظ العفو وقلنا انه وصية فهو وصية للقاتل - وفيها قولان - وان كان بلفظ العفو وقلنا انه ليس بوصية فان خرج من الثلث سقط، وان خرج بعضه سقط منه ما خرج ووجب الباقي لانه ابراء عما وجب
(فصل)
فإن جنى جناية يجب فيه القصاص كقطع اليد فعفا عن القصاص وأخذ نصف الدية ثم عاد فقتله، فقد اختلف أصحابنا فيه، فذهب أبو سعيد الاصطخرى رحمة الله عليه إلى أنه يلزمه القصاص في النفس أو الدية الكاملة ان عفى عن القصاص، لان القتل منفرد عن الجناية، فلم يدخل حكمه في حكمها
فوجب لاجله القصاص أو الدية ومن أصحابنا من قال لا يجب القصاص ويجب نصف الدية لان الجناية والقتل كالجناية الواحدة، فإذا سقط القصاص في بعضها سقط في جميعها ويجب نصف الدية لانه وجب كمال الدية وقد أخذ نصفها وبقى له النصف ومنهم من قال يجب له القصاص في النفس وهو الصحيح، لان القتل انفرد عن الجناية، فعفوه عن الجناية لا يوجب سقوط ما لزمه بالقتل ويجب له نصف الدية لان القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال صار بمنزلة ما لو سرت إلى النفس ولو سرت وجب فيها الدية، وقد أخذ النصف وبقي للنصف(18/482)
(الشرح) إذا قطع رجل أصبع رجل، فقال المجني عليه عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها نظرت - فإن اندمل الجرح ولم يسر إلى عضو ولانفس - سقط القود والدية، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وقال أبو يوسف ومحمد: إن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه مالك وطاوس والحسن وقتادة والاوزاعي.
وقال المزني لا يصح العفو عن الارش لانه أسقطه قبل وجوبه، بدليل أنه لا يملك المطالبة به قبل الاندمال.
وهذا خطأ لانه وجب بالجراحة فصح إسقاطه وأما المطالبة به فإنه يملك المطالبة به في أحد القولين، ولا يملكه في الاخر فيكون كالدين المؤجل يصح إسقاطه قبل محل دفعه.
وإن سرت الجناية إلى كفه واندمل سقط القود والدية في الاصبع لما ذكرناه وأما الكف فلاقود فيه، لان القود في العضو لا يجب بالسراية، ولا تصح البراءة من دية ما زاد على الاصبع.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال يصح لانه سراية جرح غير مضمون، والاول أصح لانه إبراء عما لم يجب.
وإن سرت الجناية إلى النفس نظرت - فان قال عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها ولم يقل وما يحدث منها - فإن القصاص لا يجب في الاصبع لانه عفا عنه بعد الوجوب، ولا يجب القصاص في النفس لان القصاص إذا سقط في الاصبع سقط في النفس لانه يتبعض.
وحكى الخراسانيون عن ابن سريج قولا آخر مخرجا أنه يجب لانه عفا عن القود في الطرف لا في النفس.
وهذا ليس بمشهور.
وأما الارش فقد عفا عن أرش الاصبع بعد وجوبه، فينظر فيه - فإن كان ذلك بلفظ الوصية بأن قال عفوت عن الجاني عن قود هذه الجناية وأوصيت له بأرشها فقد وجد منه ذلك في مرض موته.
فان قلنا لا تصح الوصية للقاتل لم تصح هذه الوصية، وإن قلنا تصح الوصية للقاتل اعتبر أرش الاصبع من ثلث تركته.
فان خرج من الثلث صحت الوصية فيه للقاتل، وإن لم يخرج من الثلث لم تصح، وإن كان بلفظ العفو والابراء بأن قال عفوت عن قود هذه الجناية وديتها، أو قال أبرأته من أرشها، ففيه قولان(18/483)
(أحدهما)
حكمه حكم الوصية لانه يعتبر من الثلث، فعلى هذا يكون على قولين كالوصية للقاتل بلفظ الوصية
(والثانى)
ليس بوصية، لان الوصية ما تكون بعد الموت، وهذا إسقاط في حال الحياة، فعلى هذا يصح الابراء عن أرش الاصبع، ويجب عليه تسعة أعشار دية النفس لانه لم يبرأ منها.
وأما إذا عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها وما يحدث منها، فان القود سقط في الاصبع والنفس، لان العفو يصح عن القصاص الذي لم يجب بدليل أنه لو قال لرجل اقتلني ولا شئ عليك فقتله لم يجب عليه القصاص لما تقدم ذكره.
وأما الارش - فان كان ذلك بلفظ الوصية بأن قال أوصيت له بأرش
الجناية وأرش ما يحدث منها - فإن قلنا تصح الوصية للقاتل وخرج جميع الدية من الثلث - صحت الوصية، وان خرج بعضها من الثلث صح ما خرج من الثلث ووجب الباقي.
وان قلنا لا تصح الوصية للقاتل وجبت جميع الدية.
وان قال أبرأته عن أرش هذه الجناية وأرش ما يحدث منها - فإن قلنا ان حكم الابراء حكم الوصية - كان على قولين كما لو كان بلفظ الوصية وان قلنا ان حكم الابراء ليس كالوصية صحت البراءة في دية الاصبع لانها ابراء عنها بعد الوجوب، ولم تصح البراءة فيما زاد على دية الاصبع، لانه ابراء عنها قبل الوجوب.
هكذا ذكر الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق وقال ابن الصباغ: في صحة براءته من أرش ما زاد على دية الاصبع قولان من غير بناء على حكم الوصية
(أحدهما)
لا تصح البراءة لانه ابراء عما لم يجب، فأشبه إذا عفا عما يتولد من الجناية فسرت إلى الكف
(والثانى)
تصح لان الجناية على الطرف جناية على النفس لان النفس لا تباشر بالجناية، وانما يجى على أطرافها، فإذا عفى بعد الجناية عليها صح ويفارق الكف لان الجناية على الاصبع ليس بجناية على النفس، لانه يباشر بالجناية، فإذا قلنا يصح بنى على القولين في الوصية للقاتل على ما مضى (فرع)
لو قطع يدى رجل عمدا فبرئت اليدان فقطع المجني عليه احدى يدى الجاني وعفا عن الاخرى على الدية وقبضها ثم انتقضت يد المجني عليه ومات(18/484)
لم يكن لورثته القصاص، لانه مات من جراحتين إحداهما لا قصاص فيها وهي المعفو عنها، ولا يستحق شيئا من الدية، لانه قد استوفى نصف الدية وما قيمته نصف الدية، فإن لم يمت المجني عليه ولكن الجاني انتقضت عليه يده ومات لم
يرجع ورثته على المجني عليه بشئ، لان القصاص لا تضمن سرايته، وإن قطع إحدى يدى الجاني فمات من قطعها، ولم يأخذ بدل اليد الاخرى كان له أن يأخذه لانه وجب له القصاص في اليدين، وقد فاته القصاص في أحدهما بما لا ضمان عليه فيه، فهو كما لو سقطت بأكلة ومات حتف أنفه وإن مات المجني عليه من قطع اليدين ولم تبرأ فقطع الوارث إحدى يدى الجاني فمات من قطع يده قبل أن تقطع الاخرى لم يرجع بدية اليد الاخرى، لان الجناية إذا صارت نفسا سقط حكم الاطراف، وقد سرى قطع يد الجاني إلى النفس فاستوفى النفس بالنفس، وليس كذلك إذا برئ اليدان ولم يمت، فإن الاعتبار بالطرفين ولا يسقط بدل احداهما باستيفاء بدل الاخرى، وهكذا حكم كل طرفين متميزين مثل الرجلين والعينين
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا قطع يد رجل فسرى القطع إلى النفس فاقتص في اليد ثم عفى عن النفس على غير مال لم يضمن اليد لانه قلعها في حال لا يضمنها، فأشبه إذا قطع يد مرتد فأسلم، ولان العفو يرجع إلى ما بقى دون ما استوفى، كما لو قبض من دينه بعضه ثم أبرأه، وان عفى على مال وجب له نصف الدية لانه بالعفو صار حقه في الدية، وقد أخذ ما يساوى نصف الدية فوجب له النصف، فإن قطع يدى رجل فسرى إلى نفسه فقطع الولى يدى الجاني ثم عفا عن النفس لم يجب له مال لانه لم يجب له أكثر من دية، وقد أخذ ما يساوى دية فلم يجب له شئ.
وإن قطع نصراني يد مسلم فاقتص منه في الطرف ثم سرى القطع إلى نفس المسلم فللولي أن يقتله، لانه صارت الجناية نفسا وان اختار أن يعفو على الدية ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يجب عشرة آلاف درهم، لان دية المسلم اثنا عشر ألفا(18/485)
وقد أخذ ما يساوى ألفى درهم فوجب الباقي
(والثانى)
أنه يجب له نصف ديته وهو ستة آلاف درهم، لانه رضى أن يأخذ يدا ناقصة بيد كاملة ديتها ستة آلاف درهم فوجب الباقي، وان قطع يديه فاقتص منه ثم سرى القطع إلى نفس المسلم فللولي أن يقتله لانه صارت الجناية نفسا، فإن عفى على الدية أخذ على الوجه الاول ثمانية آلاف درهم لانه أخذ ما يساى أربعة آلاف درهم وبقى له ثمانية آلاف درهم، وعلى الوجه الثاني لا شئ له لانه رضى أن يأخذ نفسه بنفسه، فيصير كما لو استوفى ديته.
وان قلعت امرأة يد رجل فاقتص منها، ثم سرى القطع إلى نفس الرجل، فلوليه أن يقتلها لما ذكرناه، فان عفا على مال وجب على الوجه الاول تسعة آلاف درهم، لان الذي أخذ يساوى ثلاثة آلاف درهم وبقى تسعة آلاف درهم وعلى الوجه الثاني يجب ستة آلاف لانه رضى أن يأخذ يدها بيده، وذلك بقدر نصف ديته وبقى النصف (الشرح) إذا قطع يد رجل فسر القطع إلى نفسه فقطع الولى يده ثم عفا عنه فلا ضمان عليه في اليد، وكذلك لو قتل رجل رجلا فبادر الولى فقطع يد الجاني ثم عفا عنه فلا ضمان عليه في اليد وكذلك لو قتل رجل رجلا فبادر الولى فقطع يد الجاني ثم عفا عنه فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ دية اليد.
ولنا أنه قطع يده في حال أبيح له قطعها فلم يلزمه ضمانه كما لو قطع يد مرتد فأسلم.
وأما العفو فإنما ينصرف إلى ما بقى دون ما استوفى، وإن قطع يهودى يد مسلم فاقتص المسلم من اليهودي ثم مات المسلم فلوليه أن يقتل اليهودي، فان عفا عنه على مال ففيه وجهان
(أحدهما)
يجب له نصف الدية، لان المجني عليه قد أخذ اليهودي بيده
واليد تقوم بنصف الدية فكأنه رضى أن يأخذ يدا ناقصة بيد كاملة
(والثانى)
يستحق خمسة أسداس دية المسلم، لان دية اليهودي سدس يد المسلم.
وان قطع اليهودي يدى المسلم وقطع اليهودي ثم مات المسلم واختار وليه العفو على مال لم يستحق شيئا على الوجه الاول ويستحق(18/486)
على الثاني ثلثى دية المسلم.
وإن قطعت امرأة يد رجل فاقتص منها ثم مات المجني عليه فلوليه أن يقتلها، فإن عفى عنها على مال استحق على الوجه الاول نصف الدية وعلى الثاني ثلاثة أرباع الدية، فإن قطعت يديه فاقتص منها ثم مات من الجناية ولم يقتلها وليه لكن عفا عنها على مال لم يستحق شيئا على الوجه الاول، وعلى الثاني يستحق نصف الدية.
وان قطع رجل يد رجل وهما متساويان في الدية منه في اليدين ثم مات المجني عليه ولم يخبر وليه قتله، لكن عفا عنه على مال لم يستحق شيئا وجها واحدا لانه يستحق الدية وقد أخذ ما يساوى الدية.
(فرع)
إذا جرح رجل رجلا مرتدا جراحة، فأسلم المرتد ثم جاء الجارح ومعه ثلاثة رجال وجرحه كل واحد منهم جراحة يموت من مثلها ومات من الجراحات الخمس القصاص في النفس لانه مات من جراحة مضمونة وغير مضمونة فيجب فيها سبعة أثمان الدية وعلى الذي جرحه في الردة ثمن الدية وعلى كل واحد من الثلاثة ربع الدية، لانه مات من خمس جراحات إلا أن الذي جرحه في حال الردة يسقط عنه ما خص الجراحة في حال الردة، لان الدية تقسم على عدد الجارحين لا على عدد الجراحات، فكان الذي يخص الجاني الاول ربع الدية فسقط عنه الثمن، وإن جنى عليه ثلاثة رجال في ردته فأسلم ثم جنى عليه أحد من غيرهم ومات من الجراحات وجب على الذي جرحه بعد أن أسلم ربع
الثاني يستحق نصف الدية.
وان قطع رجل يد رجل وهما متساويان في الدية منه في اليدين ثم مات المجني عليه ولم يخبر وليه قتله، لكن عفا عنه على مال لم يستحق شيئا وجها واحدا لانه يستحق الدية وقد أخذ ما يساوى الدية.
(فرع)
إذا جرح رجل رجلا مرتدا جراحة، فأسلم المرتد ثم جاء الجارح ومعه ثلاثة رجال وجرحه كل واحد منهم جراحة يموت من مثلها ومات من الجراحات الخمس القصاص في النفس لانه مات من جراحة مضمونة وغير مضمونة فيجب فيها سبعة أثمان الدية وعلى الذي جرحه في الردة ثمن الدية وعلى كل واحد من الثلاثة ربع الدية، لانه مات من خمس جراحات إلا أن الذي جرحه في حال الردة يسقط عنه ما خص الجراحة في حال الردة، لان الدية تقسم على عدد الجارحين لا على عدد الجراحات، فكان الذي يخص الجاني الاول ربع الدية فسقط عنه الثمن، وإن جنى عليه ثلاثة رجال في ردته فأسلم ثم جنى عليه أحد من غيرهم ومات من الجراحات وجب على الذي جرحه بعد أن أسلم ربع ديته ويسقط عنه ثلاثة أرباع ديته.
وان كان الذي جنى عليه بعد الاسلام أحد الثلاثة وجب عليه سدس الدية، ولم يجب على الباقين شئ.
وإن جرحه ثلاثة في حال ردته ثم عاد إلى الاسلام وجاء أحد الثلاثة مع أربعة غير الثلاثة وجرحوه ومات من الجراحات، فقد مات من جراحة سبعة فيسقط سبعا الدية، وهما ما يخص الرجلين الجارحين في الردة ويجب على الاربعة الذين انفردوا بالجراحة في الاسلام أربعة أسباع الدية ويجب على الذي جرحه في الردة والاسلام نصف سبع الدية، وإن جرحه أربعة في ردته ثم عاد أحدهم وجرحه بعد اسلامه ومات عن الجراحات وجب على الذي جرحه بعد اسلامه ثمن الدية ويسقط باقي ديته، والله تعالى أعلم(18/487)
التكملة الثانية
المجموع شرح المهذب
للامام ابي زكريا محيى الدين بن شرف النووي
المتوفى سنة 676 هـ
الجزء التاسع عشر
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع(19/1)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الديات
(باب من تجب الدية بقتله، وما تجب به الدية من الجنايات)
تجب الدية بقتل المسلم لقوله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وتجب بقتل الذمي والمستأمن، ومن بيننا وبينهم هدنة، لقوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، وتجب بقتل من لم تبلغه الدعوة لانه محقون الدم مع كونه من أهل القتال، فكان مضمونا بالقتل كالذمي.
(فصل)
وإن قطع طرف مسلم ثم ارتد ومات على الردة وقلنا انه لا يجب القصاص في طرفه، أو قلنا يجب فعفى عن القصاص على مال، ففيه قولان
(أحدهما)
لا تجب دية الطرف، لانه تابع للنفس في الدية، فإذا لم تجب دية النفس لم تجب دية الطرف
(والثانى)
أنه تجب وهو الصحيح، لان الجناية أوجبت دية الطرف، والردة قطعت سراية الجرح فلا تسقط ما تقدم وجوبه، كما لو قطع يد رجل ثم قتل الرجل نفسه، فإن جرح مسلما ثم ارتد ثم أسلم ومات
فإن أقام في الردة زمانا تسرى فيه الجناية ففيه قولان.
(أحدهما)
تجب دية كاملة لان الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية.
والدليل عليه أنه لو قطع يديه ورجليه واندملت وجبت له ديتان، ولو سرت إلى النفس وجبت دية، وهذا مسلم في حال استقرار الجناية، فوجب فيه دية مسلم
(والثانى)
يجب نصف الدية، لان الجناية في حال الاسلام توجب، والسراية في حال الردة تسقط، فوجب النصف، كما لو جرحه رجل وجرح نفسه فمات.
وإن لم يقم في الردة زمانا تسرى فيه الجناية وجبت دية مسلم، لانه مسلم في حال الجناية، وفى حال استقرار الجناية، ولا تأثير لما مضى في حال الردة، فلم يكن له حكم.
(فصل)
وإن قطع يد مرتد ثم أسلم ومات لم يضمن.
ومن أصحابنا من قال(19/3)
تجب فيه دية مسلم لانه مسلم في حال استقرار الجناية فوجبت ديته والمذهب الاول لانها سراية قطع غير مضمون فلم يضمن كسراية القصاص وقطع السرقة.
(فصل)
وإن أرسل سهما على حربي فأصابه وهو مسلم ومات وجبت فيه دية مسلم.
وقال أبو جعفر الترمذي: لا يلزمه شئ لانه وجد السبب من جهته في حال هو مأمور بقتله ولا يمكنه تلافى فعله عند الاسلام فلا يجب ضمانه، كما لو جرحه ثم أسلم ومات، والمذهب الاول، لان الاعتبار بحال الاصابة دون حال الارسال لان الارسال سبب والاصابة جناية، والاعتبار بحال الجناية لابحال السبب، والدليل عليه أنه لو حفر بئرا في الطريق وهناك حربى فأسلم ووقع فيها ومات ضمنه، وان كان عند السبب حربيا، ويخالف إذا جرحه ثم أسلم، ومات، لان
الجناية هناك حصلت وهو غير مضمون، وإن أرسل سهما على مسلم فوقع به وهو مرتد فمات لم يضمن، لان الجناية حصلت وهو غير مضمون فلم يضمنه، كما لو أرسله على حى فوقع به وهو ميت.
(الشرح) قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا إلخ الآية) نزلت هذه الآية بسبب قتل عياش بن أبى ربيعة الحارث بن يزيد بن أبى أنيسة العامري لحنة (أي إحنة وحقد) كانت بينهما، حيث كان يعذبه في مكة بسبب إسلامه، فلما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر باسلامه، فلما أخبر أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يا رسول الله انه كان من أمرى وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر باسلامه حتى قتلته، فنزلت الآية.
أخرجه ابن جرير عن عكرمة، وأخرج نحوه عن مجاهد والسدى وأخرج ابن إسحاق وأبو يعلى والحرث بن أبى أسامة وأبو مسلم الكجى عن القاسم بن محمد نحوه، وأخرج بن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه.
أما قوله تعالى (وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق الخ الآية) فقد اختلف فيها أهل العلم فذهب ابن عباس والشعبى النخعي والشافعي.
واختاره الطبري(19/4)
في تفسيره أن هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة.
وقال الحسن وجابر بن زيد وابراهيم أيضا: إن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم فكفارته التحرير وأداء الدية، قرأها الحسن (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن) قال الحسن: إذا قتل المؤمن الذمي فلا كفارة عليه.
قال ابن العربي والجملة عندي محمولة حمل المطلق على المقيد.
وجملة ذلك أن الدية تجب بقتل المسلم والدمى.
قال العمرانى: معنى قوله تَعَالَى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) إذا قتله في دار الاسلام.
ومعنى قوله تعالى (وإن كان من قوم عدولكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) أي إذا كان رجل من المسلمين في بلاد المشركين فحضر معهم الحرب ورماه رجل من المسلمين فقتله.
تقديره في قوم عدولكم، ومعنى قوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) أهل الذمة.
ومن السنة ما روى أبو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أهل اليمن (وفى النفس مائة من الابل) وهو إجماع ألا خلاف في وجوب الدية اه قلت والخلاف في وجوب الكفارة.
فإذا ثبت هذا فإن القتل ثلاثة أنواع: خطأ محض وعمد محض وشبه عمد.
ويقال عمد الخطأ، فتجب الدية في الخطأ المحض، وهو أن يكون مخطئا في الفعل والقصد، مثل أن يقصد طيرا فيصيب إنسانا للآية.
وأما العمد المحض فهو أن يكون عامدا في الفعل عامدا في القصد، فهل يجب فيه القود، والدية بدل عنه؟ أو يجب فيه أحدهما لا بعينه؟ فيه قولان مضى ذكرهما آنفا.
وأما شبه العمد وهو أن يكون عامدا في الفعل مخطئا في القصد، مثل أن يقصد ضربه بما لا يقتل مثله غالبا فيموت منه فتجب فيه الدية.
وقال مالك رحمه الله: القتل يتنوع نوعين: خطأ محض وعمد محض.
وأما عمد الخطأ فلا يتصور لانه يستحيل أن يكون القائم قاعدا.
دليلنا ما أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (ألا إن قتيل(19/5)
الخطأ شبه العمد، قتيل السوط أو العصا فيه مائة من الابل، منها أربعون في
بطونها) وعندهم مثله عن عبد الله بن عمرو ما بقى من الفصول فعلى وجهها وقد تضمنت فصولنا السابقة إيضا حالها وبيانا لمذاهب المسلمين في باب العفو عن القصاص.
وسيأتى في الفصل مزيد.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن قتل مسلما تترس به الكفار لم يجب القصاص، لانه لا يجوز أن يجب القصاص القصاص مع جواز الرمى، وأما الدية فقد قال في موضع تجب.
وقال في موضع إن علمه مسلما وجبت، فمن أصحابنا من قال: هو على قولين
(أحدهما)
أنها تجب، لانه ليس من جهته تفريط في الاقامة بين الكفار فلم يسقط ضمانه.
(والثانى)
أنه لا تجب لان القاتل مضطر إلى رميه، ومنهم من قال إن علم أنه مسلم لزمه ضمانه، وان لم يعلم لم يلزمه ضمانه، لان مع العلم بإسلامه يلزمه أن يتوقاه، ومع الجهل باسلامه لا يلزمه أن يتوقاه، وحمل القولين على هذين الحالين وقال أبو إسحاق: إن عنيه بالرمي ضمنه، وإن لم يعنه لم يضمنه، وحمل القولين على هذين الحالين.
(فصل)
وتجب الدية بقتل الخطأ لقوله عز وجل (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وتجب بقتل العمد في أحد القولين، وبالعفو على الدية في القول الآخر، وقد بيناه في الجنايات، وتجب بشبه العمد لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: ألا إن في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الابل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها، فإن غرز ابرة في غير مقتل فمات، وقلنا انه لا يجب عليه القصاص ففى الدية وجهان
(أحدهما)
أنها تجب لانه قد يفضى إلى القتل.
(والثانى)
لا تجب لانه لما لم تجب بأقل المثقل وهو الضرب بالقلم والرمى بالحصاة
لم تجب بأقل المحدد.(19/6)
(الشرح) إذا أسر المشركون مسلما فتترسوا به في القتال يتوقؤن به الرمى وبختفون وراءه في رميهم فقتله رجل من المسلمين بالرمي لم يجب عليه القصاص، لانه يجوز له رميهم.
وأما الدية فقد قال الشافعي رحمه الله في موضع تجب.
وقال في موضع لا تجب.
فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
يجب لانه ليس من جهته تفريط في الاقامة بينهم فلم يسقط ضمانه
(والثانى)
لا تجب لان القاتل مضطر إلى رميه، ومهم من علق ضمانه على علم الرامى بانه مسلم، وإن لم يعلم لم يلزمه ضمانه، لانه يلزمه أن يتوقاه عن الرمى إذا علمه.
ولا يلزمه أن يتوقاه إذا لم يعلم.
وقال أبو إسحاق المروزى: إن عنية بالرمي أي قصده ضمنه، وإن لم يقصده لم يضمنه، وحملهما على هذين الحالين، ومأخذ الشافعي في قوله بالوجوب ما رواه عن عروة بن الزبير قال (كان أبو حذيفة اليمان شيخا كبيرا فرفع في الآكام مع النساء يوم أحد فحرج يتعرض للشهادة فجاء من ناحية المشركين فابتدره المسلمون فتشقوه بأسيافهم وحذيفة يقول (أبى أبى) فلا يسمعونه من شغل الحرب حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بديته) .
(مسألة) وجوب الدية في كلا الحالين العمد والخطأ سبق لنا شرحه في الجنايات.
أما شبه العمد فقد تقرر وجوبها بحديث ابن عمر رضى الله عنهما مرفوعا (ألا إن في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الابل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها) وقد أجمع أهل العلم على أن الابل أصل في الدية، وأن دية الحر مائة منها، وقد دلت الاحاديث الواردة كحديث ابن
عمر وحديث عمرو بن حزم وحديث ابن مسعود.
وظاهر كلام الخرقى من الحنابلة أن الاصل في الدية الابل لا غير، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول طاوس وابن المنذر.
وقال بعض أصحاب أحمد لا يختلف المذهب أصول الدية الابل والذهب والفضة والبقر والغنم، وهو قول عمر وعطاء وطاوس وفقهاء المدينة السبعة.(19/7)
وبه قال الثوري وابن أبى ليلى وأبو يوسف ومحمد، لان عمرو بن حزم روى في كتابة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل اليمن (وأن في دية النفس المؤمنة مائة من الابل، وعلى أهل الورق ألف دينار) رواه النسائي.
وروى ابن عباس (أن رجلا من بنى عدى قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثنى عشر ألفا) رواه أبو داود وابن ماجه.
وروى الشعبى أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار.
وعن عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيبا فقال (ألا ان الابل قد غلتع فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفى شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة) رواه أبو داود، ورواه أبو داود من حديث جابر مرفوعا.
قال الشوكاني: في هذه الاحاديث رد على من قال إن الاصل في الدية الابل، وبقية الاصناف مصالحة لا تقدير شرعى اه.
والمعروف أن أبا حنيفة والشافعي في قول له أن الدية من الابل للنص، ومن النقدين تقويما إذ فيهما قيم المتلفات.
وقال مالك والشافعي في قول له: إلى أنها إثنا عشر ألف درهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وتجب على الجماعة إذا اشتركوا في القتل وتقسم بينهم على عددهم
لانه بدل متلف يتجزأ، فقسم بين الجماعة على عددهم، كغرامة المال، فإن اشترك في القتل إثنان وهما من أهل القود فللولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية، وإن كان أحدهما من أهل القود والآخر من أهل الدية فله أن يقتص ممن عليه القود ويأخذ من الاخر نصف الدية.
(فصل)
وتجب الدية بالاسباب، فإن شهد اثنان على رجل بالقتل فقتل بشهادتهما بغير حق ثم رجعا عن الشهادة كان حكمهما في الدية حكم الشريكين، لما روى أن شاهدين شهدا عند على كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما: فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما، وأغرمهما دية يده.(19/8)
(فصل)
وإن أكره رجل على قتل رجل فقتله فإن قلنا إنه يجب القود عليهما فللولي أن يقتل من شاء منهما، ويأخذ نصف الدية من الاخر لانهما كالشريكين في القتل إذا كانا من أهل القود، وإن قلنا لا يجب القود إلا على المكره الآمر دون المكره، فللولي أن يقتل المكره، ويأخذ من الاخر نصف الدية لانهما كالشريكين، غير أن القصاص يسقط بالشبهة فسقط عنه، والدية لا تسقط بالشبهة فوجب عليه نصفها.
(الشرح) إذا اشترك جماعة في قتل رجل وجبت عليه دية، ويقسم بينهم على عددهم لانه بدل متلف يتجزا فقسم بينهم على عددهم كغرامة المتلف فإن كان القتل موجبا للقود واختار الولى أن يقتل بعضهم ويعفو عن الباقين على حصتهم من الدية كان له ذلك.
وإن شهد رجلان على رجل بما يوجب القتل والقطع بغير حق مخطنين وجبت عليهما الدية لما ذكرناه قبل هذا في الشاهدين عند على رضى الله عنه على رجل
في السرقة.
وإن أكره رجل رجلا على قتل إنسان فقتله فصار الامر إلى الدية فهى عليهما لانهما كالشريكين، ولهذا إن قلنا يجب عليهما فللولي أن يقتل من شاء منهما ويأخذ نصف الدية من الثاني.
وان قلنا إن القود لا يجب الا على المكره بكسر الراء وهو الآمر دون المكره بفتح الراء كان القصاص على الامر ونصف الدية على المأمور، لانهما وان كانا كالشريكين إلا أن القصاص إذا سقط بالشبهة عنه فلا تسقط الدية بالشبهة فلزمه نصفها
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان طرح رجلا في نار يمكنه الخروج منها فلم يخرج حتى مات، ففيه قولان
(أحدهما)
أنه تجب الدية، لان ترك التخلص من الهلاك لا يسقط به ضمان الجناية، كما لو جرحه جراحة وقدر المجروح على مداواتها فترك المداواة حتى مات.
والقول الثاني أنها لا تجب وهو الصحيح لان طرحه في النار لا يحصل به التلف، وانما يحصل ببقائه فيها باختياره، فسقط ضمانه كما لو جرحه(19/9)
جرحا يسيرا لا يخاف منه فوسعه حتى مات.
وان طرحه في ماء يمكنه الخروج منه فلم يخرج حتى مات ففيه طَرِيقَانِ.
مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ كالنار.
ومنهم من قال لا تجب قولا واحدا، لان الطرح في الماء ليس بسبب للهلاك، لان الناس يطرحون أنفسهم في الماء للسباحة وغيرها، وانما حصل الهلاك بمقامه فيه فسقط ضمانه بخلاف النار.
(فصل)
وان شد يديه ورجليه وطرحه في ساحل فزاد الماء وهلك فيه نظرت فإن كانت الزيادة معلومة الوجود المد بالبصرة فهو عمد محض ويجب به القصاص، لانه قصد تغريقه.
وان كان قد يزيد وقد لا يزيد فهو عمد خطأ وتجب به الدية المغلظة، فإن كان في موضع لا يزيد فيه الماء فزاد وهلك فيه فهو
خطأ محض وتجب فيه الدية مخففة، وان شد يديه ورجليه وطرحه في أرض مسبعة فقتله السبع فهو عمد خطأ وتجب فيه دية مغلظة، وان كان في أرض غير مسبعة فقتله السبع فهو خطأ محض وتجب فيه دية مخففة (الشرح) مضى في الجنايات حكم من ألقى آخر في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منه اما لكثرة الماء أو النار، واما لعجزه عن التخلص لمرض أو صغر أو كونه مربوطا أو منعه الخروج أو كونه في حفرة لا يقدر على الصعود منها ونحو هذا، أو ألقاه في بئر ذات نفس فمات به عاما بذلك، فهذا كله عمد لانه يقتل غالبا، وان ألقاه في ماء يسير يقدر على الخروج منه فلبث فيه اختيارا حتى مات فلا قود فيه ولا دية، لان هذا الفعل لم يقتله، وانما حصل موته بلبثه فيه وهو فعل نفسه فلم يضمنه غيره، وكذلك إذا تركه في نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو لكونه في طرف منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود وهل يضمنه؟ فيه طريقان لاصحابنا ووجهان لاصحاب أحمد.
(أحدهما)
لا يضمنه لانه مهلك لنفسه باقامته فلا يضمنه، كما لو ألقاه في ماء يسير لكن يضمن ما أصابت النار منه
(والثانى)
يضمنه لانه جان بالالقاء المفضى إلى الهلاك، وترك التخلص لا يسقط الضمان، كما لو فصده فتترك شد فصاده مع امكانه، أو جرحه فترك(19/10)
مداواة جرحه، وفارق الماء لانه لا يهلك بنفسه، ولهذا يدخله الناس للغسل والسباحة والصيد، وأما النار فيسيرها يهلك، وانما تعلم قدرته على التخلص بقوله أنا قادر على التخلص أو نحو هذا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان سلم صبيا إلى سابح ليعلمه السباحة فغرق ضمنه السابح، لانه
سلمه إليه ليحتاط في حفظه، فإذا هلك بالتعليم نسب إلى التفريط فضمنه كالمعلم إذا ضرب الصبى فمات، وان سلم البالغ نفسه إلى السابح فغرق لم يضمنه، لانه في يد نفسه فلا ينسب إلى التفريط في هلاكه إلى غيره فلا يجب ضمانه
(فصل)
وان كان صبى على طرف سطح فصاح رجل ففزع فوقع من السطح ومات ضمنه لان الصباح سبب لوقوعه، وان كان صباحه عليه فهو عمد خطأ وان لم يكن صيامه عليه فهو خطأ، وان كان بالغ على طرف سطح فسمع الصيحة في حال غفلته فحرميتا ففيه وجهان
(أحدهما)
انه كالصبى لان البالغ في حال غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبى
(والثانى)
لا يضمن لان معه من الضبط ما لا يقع به مع الغفلة.
(فصل)
وان بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء ففزعت فألقت جنينا ميتا وجب ضمانه لِمَا رُوِيَ (أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أرسل إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها، فقالت يا ويلها مالها ولعمر، فبينا هي في الطريق إذا فزعت فضربها الطلق، فألقت ولدا فصاح الصبى صيحتين ثم مات، فاستشار عمر رضى الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار بعضهم أن ليس عليك شئ انما أنت وال ومؤدب، وصمت على رضى الله عنه، فأقبل عليه فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال ان كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وان كانوا قلوا في هواك فلم ينصحوا لك، ان ديته عليك، لانك أنت أفزعتها فألقت) وان فزعت المرأة فماتت لم تضمن لان ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة(19/11)
(الشرح) إذا دفع ولده الصغير إلى سابح ليعلمه السابحة فغرق الصبى فعلى عاقلة السابح ديته وعليه الكفارة في ماله لانه أخذه للتعليم، ماذإ تلف في طريق التعليم كان عليه ضمانه كالمعلم إذا ضرب صبيا فمات، ولان هذا في الغالب لم يغرق
إلا بتفريط من السابح فيكون عمد خطأ، وإن سلم البالغ نفسه إلى السابح ليعلمه السباحة فغرق لم يجب ضمانه، لانه في يد نفسه، ولا ينسب التفريط في هلاكه إلى غيره فلا يجب ضمانه.
(مسألة) إذا كان صبى أو بالغ معتوة على حائط أو حافة نهر فصاح رجل صياحا شديدا ففزع من الصياح فسقط ومات أو زال عقله وجبت ديته على عاقلة الصائح، لان صياحه سبب لوقوعه، وإن كان صياحه عليه فهو عمد خطأ، وان كان صياحه على غيره فهو خطأ محض.
وإن كان الرجل بالغا عاقلا فسمع الصيحة وسقط ومات أو زال عقله، فإن كان متيقظا لم يجب ضمانه لان الله تعالى لم يجر العادة لا معتادا ولا نادرا أن يقع الرجل الكبير العاقل من الصياح، فإذا مات علمنا أن صياحه وافق موته، فهو كما لو رماه بثوت فمات، وان كان في حال غفلته فسمع الصيحة فمات أو زال عقله ففيه وجهان:
(أحدهما)
وهو المنصوص أنه لا يجب ضمانه لما ذكرناه
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أنه يجب ضمانه، لان الانسان قد يفزع من ذلك في حال غفلته.
وان شهر السيف على بالغ عاقل فزال عقله لم يجب ضمانه، وان شهره على صبى أو معتوه فزال عقله وجب ضمانه.
وقال أبو حنيفة لا يجب ضمانه.
ولنا أن هذا سبب في تلفه فإن كان متعديا ضمن كما لو حفر بئرا فوقع فيها.
وقال أحمد: لو شهر سيفا في وجه إنسان أو دلاه من شاهق فمات من الروع أو ذهب عقله بذلك الفعل فعليه دينه، ثم وافقنا احمد في الصبى والبالغ عنده قول واحد وكذلك عند سائر أصحابه (مسألة) إذا بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء وكانت حاملا
ففزعت فأسقطت جنينها وجب على الامام ضمانه.
وقال أبو حنيفة لا يجب.(19/12)
دليلنا ما روى أن امرأة ذكرت عند عمر رضى الله عنه بسوء فبعث إليها فقالت يا ويلها ما لها ولعمر، فبينما هي في الطريق إذا فزعت فضربها الطلق فألقت ولدا فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر رضى الله عنه عنه أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ عثمان وعبد الرحمن: لا شئ عليك إنما أنت وال ومؤدب، وصمت على رضى الله عنه، فقال له ما تقول؟ فقال على: إن اجتهدا فقد أخطأ وإن لم يجتهدا فقد غشاك، إن ديته عليك لانك أنت أفزعتها فألقت، فقال عمر عزمت عليك لا برحت حتى تفرقها على قومك يعنى قوم عمر ولم ينكر عثمان وعبد الرحمن ذلك فدل على أنهما رجعا إلى قوله وصار إجماعا.
وإن فزعت فماتت لم يجب ضمانها، لان ذلك ليس بسبب لهلاكها وقال أحمد: تجب الدية في المرأة أيضا لانها نفس هلكت بارساله إليها فضمنها كجنينها، أو نفس هلكت بسببه فغرمها، كما لو ضربها فماتت، ولا يتعين في الضمان كونه سببا معتادا فإن الضربة والضربتين ليست سببا للهلاك في العادة، ومتى أفضت إليه وجب الضمان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن طلب رجلا بصيرا بالسيف، فوقع في بئر أو ألقى نفسه من شاهق فمات لم يضمن، لان الطلب سبب والالقاء مباشرة فإذا اجتمعا سقط حكم السبب بالمباشرة.
ولان الطالب لم يلجئه إلى الوقوع لانه لو أدركه جاز أن لا يجنى عليه، فصار كما لو جرحه رجل فذبح المجروح نفسه، وإن طلب ضريرا فوقع في بئر أو من شاهق ومات فإن كان عالما بالشاهق أو بالبئر لم يضمن، لانه كالبصير، وإن لم يعلم وجب ضمانه، لانه ألجاه إليه فتعلق به الضمان، كالشهود
إذا شهدوا بالقتل ثم رجعوا، وان كان المطلوب صبيا أو مجنونا ففيه وجهان بناء على القولين في عمدهما.
هل هو عمد أو خطأ؟ فإن قلنا ان عمدهما عمد لم يضمن الطالب الدية.
وان قلنا انه خطأ ضمن.
وإن طلب رجل رجلا فافترسه سبع في طريقه نظرت، فإن الجاه الطالب إلى موضع السبع، ضمنه كما لو ألقاه عليه، وان لم يجئه إليه لم يضمنه، لانه لم(19/13)
يلجئه إليه، وان انخسفت من تحته سقف فسقط ومات ففيه وجهان.
أحدهما لا يضمن كمالا يضمن إذا افترسه سبع.
والثانى: يضمن لانه ألجاه إلى ما لا يمكنه الاحتراز منه.
(فصل)
وان رماه من شاهق فاستقبله رجل بسيف فقده نصفين نظرت، فان كان من شاهق يجوز أن يسلم الواقع منه، وجب الضمان على القاطع لان الرامى كالجارح والقاطع كالذابح، وان كان من شاهق لا يسلم الواقع منه ففيه وجهان
(أحدهما)
انه يجب الضمان عليهما، لان كل واحد منهما سبب للاتلاف فصار كما لو جرحاه
(والثانى)
أن الضمان على القاطع، لان الرامى انما يكون سبب للتلف إذا وقع المرمى على الارض، وههنا لم يقع على الارض وصار الرامى صاحب سبب، والقاطع مباشرا فوجب الضمان على القاطع.
(فصل)
إذا زنى بامرأة وهى مكرهة وأحبلها وماتت من الولادة ففيه قولان
(أحدهما)
يجب عليه ديتها لانها تلفت بسبب من جهته تعدى به فضمنها.
(والثانى)
لا يجب لان السبب انقطع حكمه بنفى النسب عنه (الشرح) إذا طلب رجل رجلا بصيرا بالسيف ففرمنه فألققى نفسه من سطح وهو يراه أو تردى في بئر أو نار وهو يراها فمات لم يجب على الطالب ضمانه لانه حصل من الطالب بسبب غير ملجئ، ومن المطلوب مباشرة فتعلق
الحكم بالمباشرة دون السبب، كما لو خاف منه فقتل نفسه.
وان طلب أعمى بالسيف ففرمنه ووقع من سطح أو في بئر أو نار فمات فان كان عالما بالسطح والبئر والنار فلا ضمان على الطالب لما ذكرنا في البصير.
وان كان المطلوب غير عالم بالسطح والبئر والنار فلا ضمان على الطالب لما ذكرنا في البصير، وان كان المطلوب غير عالم بالسطح والبئر والنار، أو كان المطلوب بصيرا ولم يلعم السطح والبئر والنار وفرمنه على سطح يحسبه قويا فانخسف من تحته وجبت الدية على عاقلة الطالب لانه ألجاه ألى الهرب، وان فرمه فافترسه سبع في طريقه لم يجب على الطالب ضمانه لانه لم يلجئ السبع إلى قتله.
وان ألجأ المطلوب إلى الفرار، وذلك سبب وأكل السبع فعل، فإذا اجتمع السبب في(19/14)
الفعل تعلق الضمان بالفعل دون السبب.
وإن طلب صبيا أو مجنونا بالسيف ففر منه وألقى نفسه من سطح فمات فإن قلنا إن عمدهما عمد لم يضمن الطالب الدية وإن قلنا إن عمدهما خطأ ضمن (مسألة) قوله: وإن رماه من شاهق فاستقبله الخ.
فجملة ذلك أنه إذا رمى رجلا من شاهق مرتفع يموت منه غالبا إذا وقع فقطعه رجل نصفين قبل أن يقع ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنهما قاتلان فيجب عليهما القود أو الدية، لان كل واحد منهما قد فعل فعلا لو انفرد به لمات منه غالبا فصارا كالجارحين
(والثانى)
أن القاتل هو القاطع، لان التلف إنما حصل بفعله فصار كما لو جرحه رجل وذبحه الاخر ويعرز الاول، وإن كان الشاهق مما لا يموت منه غالبا كان القاتل هو القاطع وجها واحدا، لان ما فعله الاول لا يجوز أن يموت منه، وإن زنى بامرأة وهى مكرهة فحملت منه وماتت من الولادة ففيه قولان:
(أحدهما)
يجب عليه ديتها، لانها تلفت بسبب من جهته تعدى فيه فضمنها
(والثانى)
لا يجب عليه، لان السبب انقطع حمه بنفى النسب عنه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن حفر بئرا في طريق الناس أو وضع فيه حجرا أو طرح فيه ماء أو قشر بطيخ، فهلك به إنسان وجب الضمان عليه لانه تعدى به فضمن من هلك به، كما لو جنى عليه.
وإن حفرا بئرا في الطريق ووضع آخر حجرا فعثر رجل بالحجر ووقع في البئر فمات وجب الضمان على واضع الحجر، لانه هو الذى ألقاه في البئر، فصار كما لو ألقاه فيها بيده.
وان وضع رجل حجرا في الطريق فدفعه رجل على هذ الحجر فمات وجب الضمان على الدافع لان الدافع مباشر وواضع الحجر صاحب سبب، فوجب الضمان على المباشر وان وضع رجل حجرا في الطريق ووضع آخر حديدة بقربه، فعثر رجل بالحجر ووقع على الحديدة فمات.
وجب الضمان على واضع الحجر(19/15)
وقال أبو الفياض البصري: إن كانت الحديدة سكينا قاطعة وجب الضمان على واضع السكين، دون واضع الحجر، لان السكين القاطع موح، وان كانت غير قاطع وجب الضمان على واضع الحجر، والاول هو الصحيح، لان الواضع هو المباشر.
وإن حفر بئرا في طريق لا يستضر به الناس فإن حفرها لنفسه كان حكمه حكم الطريق الذى يستضر الناس بحفر البئر فيه، لانه لا يجوز أن يختص بشئ من طريق المسلمين، وإن حفرها لمصلحة الناس فإن كان بإذن الامام فهلك به إنسان لم يضمن، لان ما فعله بإنذن الامام للمصلحة جائز فلا يتعلق به الضمان، وإن كان بغير إذنه ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يضمن لانه حفرها لمصلحة المسلمين من غير إضرار فصار كما لو حفرها بإذن الامام
(والثانى)
أنه يضمن لان ما تعلق بمصلحة المسلمين يختص به الامام، فمن افتات عليه فيه كان متعديا فضمن من هلك به.
وإن بنى مسجدا في موضع لاضرر فيه، أو على قنديلا في مسجد أو فرش فيه حصيرا من غير إذن الامام فهلك به إنسان فهو كالبئر التى حفرها للمسلمين.
وإن حفر بئرا في موات ليتملكها أو لينتفع بها الناس لم يضمن من هلك بها لانه غير متعد في حفرها، وإن كان في داره بئر قد غلى رأسها أو كلب عقور فدخل رجل داره بغير إذنه فوقع في البئر فمات أو عقره الكلب فمات لم يضمنه لانه ليس من جهته تفريط فلا هلاكه، فإن دخلها باذنه فوقع في البئر ومات أو عقره الكلب فمات ففى ضمانه قولان كالقولين فيمن قدم طعاما مسموما إلى رجل فأكله فمات وإن قدم صبيا إلى هدف فأصابه سهم فمات ضمنه، لان الرامى كالحافر للبشر، والذى قدمه كالملقى فيها فكان الضمان عليه وان ترك على حائط جرة ماء فرمتها الريح على انسان فمات لم يضمنه لانه وضعها في ملكه ووقعت من غير فعله، وان بنى حائطا في ملكه فمال الحائط إلى الطريق ووقع على انسان فقلته فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: انه يضمن لانه لما مال إلى الطريق لزمه ازالته، فاذالم يزله صار متعديا بتركه فضمن من هلك به، كما لو أوقع مائلا(19/16)
إلى الطريق وترك نقضه حتى هلك به انسان
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى انه لا يضمن، وهو المذهب، لانه بناه في ملكه ووقع من غير فعله فأشبه إذا وقع من غير ميل
(فصل)
وان أخرج جناحا إلى الطريق فوقع على انسان ومات ضمن نصف ديته، لان بعضه في ملكه وبعضه خارج عن ملكه فسقط نصف الدية لما في ملكه وضمن نصفها للخارج عن ملكه، وان انكسرت خسبة من الخارج فوقعت على انسان فمات ضمن جميع الدية لانه هلك بالخارج من ملكه، وان نصب ميزابا فوقع على انسان فمات به ففيه قولان: قال في القديم: لا يضمن لانه مضطر إليه ولا يجد بدا منه بخلاف الجناح.
وقال في الجديد يضمن لانه غير مضطر إليه لانه كان يمكنه أن يحفر في ملكه بئرا يجرى الماء إليها فكان كالجناح.
(فصل)
وان كان معه دابة فأتلفت انسانا أو مالا بيدها أو رجلها أو نابها أو بالت في الطريق فزلق ببولها انسان فوقع ومات ضمنه، لانها في يده وتصرفه فكانت جنايتها كجنايته (الشرح) إذا وضع رجل حجرا وهذا أحد مفهومات الفصل وذلك في طريق المسلمين أو في ملك غيره بغير اذنه فعثر بها انسان لم يعلم بها ومات منها وجبت ديته على عاقلة واضع الحجر ووجبت الكفارة في ماله، لانه مات بسبب تعدى به فوجب ضمانه.
وهكذا ان نصب سكينا فعثر رجل ووقع عليها فمات وجبت عليه الدية لما ذكرناه في الحجر.
فأما إذا وضع الحجر أو السكين فدفع آخر عليهما رجلا ومات كان الضمان على الدافع، لان الواضع صاحب سبب والدافع مباشر.
فتعلق الحكم بالمباشرة وان وضع رجل حجرا في طريق المسلمين أو في ملك غيره بغير اذنه ووضع آخر سكينا بقرب الحجر فعثر رجل بالحجر ووقع على السكين ومات منها وجب الضمان على واضع الحجر وقال أبو الفياض البصري: ان كان السكين قاطعا وجب الضمان على واضع(19/17)
السكين دون واضع الحجر، وإن كان غير قاطع وجب الضمان على واضع الحجر لان السكين القاطع موح، والاول هو المشهور، لان واضع الحجر كالدافع له على السكين فوجب عليه ضمانه، كما لو نصب رجل سكينا ودفع عليها آخر ومات فان وضع رجل حجرا في طريق المسلمين ووضع إثنان حجرا إلى جنبه فعثر بهما رجل ومات فليس فيها نص لاصحابنا، إلا أن أصحاب أبى حنيفة اختلفوا فيها، فقال زفر يكون على الرجل الواضع للحجر وحده نصف الدية لان فعله مساو لفعلهما وعلى الرجلين الواضعين للحجر الآخر النصف وقال أبو يوسف: تجب الدية عليهم أثلاثا فوجب الضمان عليهم.
قال ابن قدامة من الحنابلة: وهو قياس المذهب.
وقال ابن الصباغ من أصحابنا: وهو قياس المذهب، وأقره العمرانى في البيان لان السبب حصل من الثلاثة فوجب الضمان عليهم وإن اختلفت أفعالهم كما لو جرحه رجل جراحة وآخر جراحتين ومات منها.
(فرع)
إذا وضع رجل في مالك نفسه حجرا أو نصب سكينا فعثر به إنسان ومات لم يجب على واضع السكين ولا على عاقلته ضمان، لانه غير متعد بوضع الحجر والسكين.
وإن وضع رجل في ملك غيره حجرا بغير إذنه ووضع صاحب الملك بقرب الحجر سكينا فعثر رجل بالحجر ووقع على السكين ومات، وجب الضمان على عاقلة الواضع للحجر لانه كالدافع للعاثر على السكين.
وان وضع رجل في ملكه حجرا، ووضع أجنبي سكينا بقرب الحجر فعثر رجل بالحجر ووقع على السكين فمات، وجبت الدية عل عاقلة واضح السكين دون واضع الحجر، لان المتعدى هو واضح السكين دون واضع الحجر (فرع)
إذا حفر رجل بئرا فوقع فيها انسان ومات لم يخر اما أنه حفر في
ملكه أو في ملك غيره أو في طريق المسلمين أو في موات فإن حفرها في ملكه فإن كانت ظارة فدخل ملكه فوقع فيها فمات لم يجب على الحافر ضمانه سواء دخل باذنه أو بغير اذنه، لانه غير متعد بالحفر وان كانت غير ظاهرة بان غطى رأسها فوقع فيها انسان فمات فإن دخل إلى ملكه بغير اذنه لم يجب ضمانه، لان متعد بالدخول.
وهكذا لو كان في داره كلب عقور فدخل داره(19/18)
بغير اذنه فعقره الكلب لم يجب ضمانه لما ذكرناه، وان استدعاه للدخول ولم يعلم بالبئر والكلب فوقع فيها أو عقره الكلب ومات فهو كما لو قدم إلى غيره طعاما مسموما فأكله على قولين.
وقد مضى دليلهما.
فأما إذا حفرها في ملك غيره فان كان بإذنه لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، لانه غير متعد بالحفر، وان حفرها بغير اذنه وجب عليه ضمان من يقع فيها لانه متعد بالحفر فان أبرأه صاحب الملك عن ضمان من يقع فيها فهل يبرأ: فيه وجهان، أحدهما لا يبرأ لانه متعد بالحفر، فان أبرأه صاحب الملك عن ضمان من يقع فيها فهل يبرأ؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يبرأ لانه أبرأ عما لم يجب
(والثانى)
ببرأ كما لو أذن له في حفرها قال أبو على الطبري، فان قال صاحب الملك: كان حفرها بإذنى لم يصدق خلافا لابي حنيفة ووفاقا لقول أحمد.
وان حفرها في طريق المسلمين، فإن كان ضيقا وجب عليه ضمان من يقع فيها لانه تعدى بذلك، وسواء أذن له الامام في ذلك أو لم يأذن لانه ليس للامام أن يأذن له فيما فيه ضرر على المسلمين.
وان كان الطريق واسعا لا يستضر المسلمون بحفر البئر فيه كالطريق في الصحارى، فإن حفرها بإذن الامام لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، سواء حفرها لينتفع بها أو لينتفع بها المسلمون، لان للامام أن يقطع من الطريق إذا كان واسعا، كما له أن يقطع
من الموات.
وكذلك ان حفرها بغير اذن الامام فأجاز له الامام ذلك سقط عنه الضمان.
وقال أحمد وأصحابه: ان كان الطريق واسعا فحفر في مكان منها ما يضر بالمسلمين فعليه الضمان.
وان حفر في موضع لا ضرر فيه نظرنا، فإن حفرها لنفسه ضمن ما تلف بها، سواء حفرها بإذن الامام أو غير اذنه.
قالوا لانه تلف بحفر حفرة في حق مشترك بغير اذن أهله لغير مصلحتهم فضمن، كما لو لم يأذن له الامام بخلاف الحفر.
ولنا أنه ان حفرها بإذن الامام لم يضمن لان للامام أن يأذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه بدليل أن هـ يجوز له أن يأذن في اشغال جانبيه، ويقطع من طوارينه لمن يشاء ممن يتعاطون البيع والشراء(19/19)
وإن حفرها بغير إذن الامام فإن حفرها لينتفع هو بها وجب عليه ضمان من يقع فيها، لانه ليس له أن ينفرد بما هو حق لجماعة المسلمين بغير إذن الامام لان ذلك موضع اجتهاد الامام وإن حفرها لينتفع بها المسلمون فهل يجب عليه ضمان من يقع فيها؟ حكى الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق فيها وجهين، وحكاهما غيرهما قولين، أحدهما حكاه القاضى أبو حامد المرووذى عن القديم يجب عليه الضمان، لانه حفرها بغير إذن الامام فهو كما لو حفرها لنفسه، والثانى حكاه القاضى أبو الطيب عن الجديد أنه لا يجب عليه الضمان لانه حفرها لمصلحة المسلمين وقد يحتاجون إلى ذلك فهو كما لو حفرها بإذن الامام.
وإن حفرها في موات ليتملكها لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، لانه يملكها بالاحياء، فتصير كما لو حفرها في ملكه، وهكذا إن حفرها في الموات لا ليتملكها ولكن لينتفع بها مدة مقامه، فإذا
ارتحل عنها كانت للمسلمين فلاضمان عليه، لان له أن ينتفع بالموات، فلا يكون متعديا بالحفر.
(فرع)
إذا حفر بئرا في طريق المسلمين ووضع آخر حجرا في تلك الطريق فعثر بها انسان ووقع في البئر ومات، وجب الضمان على واضع الحجر لانه كالدافع له في البئر.
وان حمل السيل حجرا إلى رأس البئر وعثر بها انسان فوقع في البئر ومات ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يجب ضمانه لانه انما تلف بعثرته في الحجر، ولا تفريط من الحافر في الحجر.
(والثانى)
وهو قول أبى حنيفة أن الضمان على حافر البئر لانه هو المعتدى فوجب عليه الضمان كما لو وضع رجل في ملكه حجرا ووضع آخر سكينا بقربها وعشر بالحجر فوقع على السكين ومات فإن الضمان على واضع السكين، وان حفرا بئرا في طريق المسلمين ووضع آخر في أسفلها سكينا فتردى رجل في البئر ووقع على السكين فقتله ففيه وجهان
(أحدهما)
يجب الضمان على الحافر، وهو قول أبى حنيفة كما قلنا في رجلين(19/20)
وضع أحدهما حجرا والآخر سكينا وعثر بالحجر على السكين فإن الضمان على واضع الحجر.
(والثانى)
أن الضمان على وضع السكين، لان تلفه حصل بوقوعه على السكين قبل وقوعه في البئر، وان حفر رجل بئرا في طريق المسلمين فطمها فجاء آخر وأخرج ما طمت به ففيه وجهان
(أحدهما)
يجب الضمان على الحافر لانه المبتدي بالتعدي (
(والثانى)
أن الضمان على الثاني لان تعدى الاول قد زال بالطم.
(فرع)
إذا حفر بئرا في ملك مشترك بينه وبين رجلين بغير اذنهما وتلف بها انسان، قال ابن الصباغ فقياس المذهب أن جميع الدية على الحافر، وبه قال أحمد وأصحابه.
وقال أبو حنيفة يضمن ما قابل نصيب شريكه، فلو كان له شريكان لضمن ثلثى التالف لانه تعدى في نصيب شريكيه، وقال أبو يوسف عليه نصف الضمان، لانه تلف بجهتين فكان الضمان نصفين، كما لو جرحه واحد جرحا وجرحه آخر جرحين.
دليلنا انه متعد بالحفر فضمن الواقع فيها كما لو كان في ملك غيره، والشركة أوجبت تعديه بجميع الحفر، فكان موجبا لجميع الضمان، ويبطل ما ذكر أبو يوسف بما أو حفره في طريق مشترك، فإن له فيها حقا ومع ذلك يضمن، والحكم فيما إذا أذن له بعض الشركاء في الحفر دون بعض كالحكم فيما إذا حفر في ملك مشترك بينه وبين غيره لكونه لا يباح الحفر ولا التصرف حتى يأذن الجميع (فرع)
وان بنى مسجدا في طريق لاضرر على المسلمين فيه بضيق الطريق فإن بناه لنفسه لم يجز، وان سقط على انسان ضمنه، وان بناه للمسلمين فإن كان بإذن الامام جاز ولا ضمان عليه، وان بناه بغير اذن الامام فهو كما لو حفر فيها بئرا للمسلمين على ما ذكرناه هناك من الخلاف.
وان كان هناك مسجد للمسلمين فسقط سقفه فأعاده رجل من المسلمين بآلته أو بغير آلته وسقط على انسان لم يجب عليه ضمانه لانه للمسلمين.
وان فرش في مسجد للمسلمين حصيرا أو علق فيه قنديلا فعثر رجل بالحصير أو سقط عليه القنديل فمات فإن فعل ذلك بالان الامام فلا ضمان عليه وان فعله بغير(19/21)
إذن الامام فهو كما لو حفر البئر في الطريق الواسع للمسلمين بغير إذن الامام على الخلاف المذكور فيها
وقال أحمد: لا ضمان عليه، سواء كان باذن الامام أو بغير إذنه.
وقال أبو حنيفة: إن فرش الحصير وعلق القنديل يضمن إذا لم يأذن فيه الجيران.
دليلنا أنه فعل أحسن به ولم يتعد، وإن عمارة المسجد من أعظم القربات، ولان هذا مأذون فيه من جهة العرف، ولان العادة جارية بالتبرع به من غير استئذان فلم يجب ضمان كالمأذون فيه نطقا (فرع)
إذا بنى حائطا في ملكه مستويا، فسقط على إنسان من غير أن يبقى مائلا ولا مستهدما فلا ضمان عليه، لانه لم يفرط، وان بناه معتدلا فمال إلى ملكه أو بناه مائلا إلى ملكه فسقط على انسان وقتله لم يجب عليه الضمان لان له أن ينصرف في ملكه كيف شاء.
وان بناه مائلا إلى الشارع فسقط على إنسان وقتله وجب على عاقلته الدية والكفارة في ماله، لان له أن يرتفق بهو الشارع بشرط السلامة، فاذإ تلف به إنسان وجب ضمانه.
وان بناه معتدلا في ملكه ومال إلى الشارع ثم وقع على انسان فقتله ففيه وجهان قال أبو إسحاق: يجب ضمانه على عاقلته لانه فرط بتركه مائلا فوجب عليه الضمان كما لو بناه مائلا إلى الشارع وقال أبو سعيد الاصطخرى: لا يجب ضمانه وهو المنصوص، لان الميلان حدث من غير فعله فهو كما لو سقط على انسان من غير ميل فإن مال حائطه إلى هواء دار غيره فلجاره مطالبته بازالته، لان الهواء ملك لجاره فكان له مطالبته بازلة بنائه عنه، كما قلنا في الشجرة، فإن لم يزل حتى سقط على انسان فقتله فهل يجب عليه ضمانه؟ على الوجهين إذا مال إلى الشارع وان استهدم من غير ميل فقد قال أبو سعيد الاصطخرى والشيخ أبو حامد ليس للجار مطالبته في نقضه لانه في ملكه، فان وقع على انسان فلا ضمان عليه قال ابن الصباغ وهذا فيه نظر لانه ممنوع من أن يضع في ملكه ما يعلم أنه يتعدى
إلى ملك غيره كما ليس له أن يؤجج نارا في ملكه تصل إلى ملك غيره مع وجود الريح ولا يطرح في داره ما يتعدى إلى داره غيره.
كذلك هنا مثله، لان الظاهر إذا كان(19/22)
مستهدما أنه يتعدى إلى ملك غيره.
هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة إذا بنى الحائط معتدلا ثم مال إلى دار الغير، فإن طالبه الغير بنقضه وأشهد عليه فلم ينقضه حتى سقط فقتل إنسانا فعليه الضمان، وان ذهب ليأتي بالعمال لنقضه فسقط وأتلف شيئا فلا ضمان عليه وتوقف أحمد عن الاجابة.
وذهب أصحابه إلى أنه يضمن، وقالوا أو ما أحمد إليه، وبه قال الحسن والنخعي والثوري.
دليلنا أنه بناء وضعه في ملكه فلم يجب عليه ضمان من يقع عليه، كما لو وقع من غير ميل.
أو كما لو مال ووقع من غير أن يطالب بنقضه ويشهد عليه.
وان وضع على حائطه وطابا فوقع في دار غيره أو في الشارع أو سقط حائطه في الشارع أو في دار غيره فعثر به انسان ومات فهل يجب عليه الضمان؟ على الوجهين.
وإذا أخرج إلى الشارع جناحا أو روشنايضر بالمارة منع منه وأمر بازالته، فإن لم يزله حتى سقط على انسان فقتله وجب عليه الضمان لانه متعد بذلك.
وإن أخرج جناحا أو روشنا إلى الشارع لا يضر بالمارة لمن يمنع منه خلافا لابي حنيفة وقد مضى في الصلح فإن وقع على انسان وقتله نظرت فإن لم يسقط شئ من طرف الخشبة المركبة على حائط، بل انقصفت من الطرف الخارج عن الحائط ووقعت على إنسان وقتلته وجب على عاقلته جميع الدية، لانه إنما يجوز له الارتفاق بهواء الشارع بشرط السلامة.
وان سقطت أطراف الخشب الموضوعة على حائط له وقتلت انسانا وجبت على عاقلته نصف الدية، لانه هلك بما وضعه في ملكه
وفى هواء الشارع، فانقسم الضمان عليهما، وسقط ما قابل في ملكه ووجب ما في هواء الشارع.
وحكى القاضى أبواليب قولا آخر أنه ينظر كم على الحائط من الخشب، وكم على الهواء أو الطرف الخارج منها، فالحكم فيه واحد، لانه تلف بجميعها، والاول هو المشهور وقال أصحاب أحمد: على المخرج المضان لانه تلف بما أخرجه إلى حق الطريق(19/23)
ضمنه كما لو بنى حائطا مائلا إلى الطريق فأتلف، أو أقام خشبة في ملكه مائلة، ولانه إخراج يضمن به البعض فضمن به الكل بناء على أصله (فرع)
إذا أخرج ميزابا إلى الشارع جاز لما سقناه في كتاب الضمان من أن عمر رضى الله عنه مر تحت ميزاب العباس رضى الله عنه فقطرت عليه قطرة، فأمر بقلعه فحرج العباس وقال: قلعت ميزابا نصبه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عمر: لا ينصبه إلا من يرقى على ظهرى، فانحنى عمر وصعد العباس على ظهره فوضعه، وهو إجماع لا خلاف فيه، فإن سقط على إنسان فقتله أو بهيمة فأتلفها فحكى المصنف وأكثر أصحابنا فيه قولين: قال في القديم: لا يجب ضمانه، وبه قال مالك، لانه غير متعد بإخراجه فلم يضمن ما تلف به، كما لو أخرجه إلى ملكه، ولانه مضطر إليه لا يجد بدا منه فلم يلزمه ضمان ما تلف به.
وقال في الجديد: يجب ضمانه، وبه قال أبو حنيفة، وهو المذهب عند أحمد بلا خلاف بين أصحابه، لانه ارتفق بهواء طريق المسلمين فإذا تلف به إنسان وجب عليه ضمانه كما قلنا في الجناح، وقول الاول لا يجد بدا منه غير صحيح، لانه يمكنه أن يحفر في ملكه بئرا يجرى الماء إليها، فإذا قلنا بهذا وسقط جميع
الميزاب الذى على ملكه والخارج منه وقتل إنسانا وجب ضمانه، وكم يجب من ديته؟ على المشهور من المذهب يجب نصف الدية.
وعلى القول الثاني الذى حكاه القاضى أبو الطيب تقسط الدية على الميزاب فيسقط منها بقدر ما على ملكه من الميزاب ثم يجب بقدر الخارج منه عن ملكه.
وقال أبو حنيفة: إن أصابه بالطرف الذى في الهواء وجبت جميع ديته، وإن أصابه بالطرف الذى على الحائط لم يجب ضمانه.
ودليلنا أنه تلف بنقل الجميع دون بعضه، وإن انتصف الميزاب فسقط منه ما كان خارجا عن ملكه وقتل انسانا وجبت جميع ديته على عاقلته، فسيقال في هذه وفى التى قبلها رجل قتل رجلا بخشبة فوجبت بعض دية المقتول، ولو قتله ببعض تلك الخشبة لوجبت جميع دية المقتول.(19/24)
وقال الشيخ أبو حامد: إذا وقع الميزاب على انسان فقتله ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن علية الضمان
(والثانى)
لا ضمان عليه (والثالث) على عاقلته نصف الدية من غير تفصيل.
(فرع)
قال الشيخ أبو حامد: وان طرح على باب داره قشور البطيخ أو الباقلا الرطب أو الموز أو رشه بالماء فزلق به إنسان فمات كانت ديته على عاقلته والكفارة في ماله، لان له أن يرتفق بالمباح بشرط السلامة، فإذا أدى إلى التلف كان عليه الضمان، وان ركب دابة فبالت في الطريق أو راثت وزلق به إنسان ومات كان عليه الضمان، وكذلك لو أتلفت إنسانا بيدها أو رجلها أو نابها فعليه ضمانه لان يده عليها، فإذا تلف شئ بفعلها كان كما لو تلف بفعله أو سبب فعله وان ترك على حائطه جرة فرمتها الريح على انسان فمات لم يجب عليه الضان لانه غير متعد بوضعها على ملكه ووقعت من غير فعله، وكذلك إذا سجر تنورا في
ملكه وارتفعت شرارة إلى دار غيره فأحرقته فلا ضمان عليه لما ذكرناه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان اصطدم فارسان أو راجلان وماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر.
وقال المزني ان استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه وجب على المكب دية المستلقى وهدر دمه، لان الظاهر أن المنكب هو القاتل والمستلقى هو المقتول، وهذا خطأ لان كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه، كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرحه صاحبه.
ووجه قول المزني لا يصح، لانه يجوز أن يكون المستلقى صدم صدمة شديدة فوقع مستلقيا من شدة صدمته، وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما واصطدما وماتا فهما كالبالغين، وان أركبهما من لا ولاية عليهما فاصطد ما وما تا وجب على الذى أركبهما دية كل واحد منهما النصف، بسبب ما جنى كل وا حد من الصبيين على نفسه، والنصف بسبب ما جناه الآخر عليه.
وان اصطدمت امرأتان حاملان فماتتا ومات جنيناهما كان حكمهما في ضمانهما(19/25)
حكم الرجلين، فأما الحمل فإنه يجب على كل واحدة منهما نصف ديه جنينها ونصف ديه جنين الاخرى لجنايتهما عليهما.
(فصل)
وإن وقف رجل في ملكه أو في طريق واسع فصدمه رجل فماتا هدر دم الصادم، لاه هلك بفعل هو مفرط فيه فسقط ضمانه، كما لو دخل دار رجل فيها بئر فوقع فيها، وتجب دية المصدوم على عاقلة الصادم، لانه قتله بصدمة هو متعد فيها، وإن وقف في طريق ضيق فصدمه رجل وماتا وجب على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر، لان الصادم قتل الواقف بصدمة هو
مفرط فيها، والمصدوم قتل الصادم بسبب هو مفرط فيه، هو وقوفه في الطريق الضيق، وان قعد في طريق ضيق فعثر به رجل فماتا كان الحكم فيه كالحكم في الصادم والمصدوم وقد بيناه.
(الشرح) إذا اصطدم راكبان أو راجلان فماتا وجب على كل واحد منهما نصف دية الآخر وسقط النصف، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة وصاحباه وأحمد واسحاق: يجب على عاقلة كل واحد منهما جميع دية الاخر، وروى عن على رضى الله عنه المذهبان.
دليلنا أنهما استويا في الاصطدام، وكل واحد منهما مات بفعل نفسه وفعل غيره، فسقط نصف ديته بفعل نفسه ووجب النصف بفعل غيره، كما لو شارك غيره في قتل نفسه قال الشافعي رضى الله عنه، وسواء غلبتهما دابتاهما أو لم تغلبهما أو أخطأ ذلك أو تعمدا، أو رجعت دابتاهما القهقرى فاصطدما، أو كان أحدهما راجعا والاخر مقبلا.
اه وجملة ذلك أنهما إذا غلبتهما دابتاهما أو لم تغلباهما الا أنهما أخطأ فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية الاخر مخففة، وان قصد الاصطدام فلا يكون عمدا محضا، وانما يكون عمدا خطأ، فيكون على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر مغلظة.
وقال أبو إسحاق المروزي: يكون في مال كل واحد منهما نصف دية الآخر مغلظة لانه عمد محض.
وانما لم يجب القصاص لانه شارك من فعله غير مضمون(19/26)
والاول هو المنصوص، لان الصدمة لا تقتل غالبا.
ولو كان كذلك لكان في القصاص قولان، ولا فرق بين أن يكونا مقبلين أو مدبرين، أو أحدهما مقبلا والاخر مدبرا، إلا أن الاصطدام قد وجد، وإن كان فعل المقبل أقوى.
وكذلك لا فرق بين أن يكونا فرسين أو حمارين أو بغلين، أو أحدهما على فرس والاخر على بغل أو حمار، لان الاصطدام قد وجد منهما.
وإن كان فعل أحدهما أقوى من فعل الاخر، كما لو جرح رجل رجلا جراحات وجرحه الاخر جراحة ومات منها.
قال الشافعي رضى الله عنه: ولا فرق بين أن يكونا بصيرين أو أعميين، أو أحدهما أعمى والاخر بصيرا لان الاصطدام قد وجد منهما، ولا فرق بين أن يقعا مكبوبين أو مستلقيين، أو أحدهما مكبوبا ووالاخر مستلقيا.
وقال المزني: إذا وقع أحدهما مكبوبا على وجهه والاخر مسلتقيا على ظهره، فإن القاتل هو المكبوب على وجهه، فعلى عاقلته جميع الدية للمستلقي ولا شئ على عاقلة المستلقى والمنصوص هو الاول، لانهما قد اصطدما، ويحوز أن يقع مسلتقيا على ظهره من شدة صدمته.
ألا ترى أن رجلا إذا طرح حجرا على حجر رجع الحجر إلى خلف من شدة وقوعه وثبوت الاخر، فكذلك هذا مثله.
وان ماتت الدابتان وجب على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الاخر، لانها تلفت بفعله وفعل صاحبه، ولا تحمله العاقلة، لان العاقلة لاتحمل المال، وإن كان أحدهما راكبا والاخر ماشيا فالحكم فيهما كما لو كان راكبين أو ماشيين وإنما يتصور هذا إذا كان الماشي طويلا والراكب أقصر (فرع)
إذا اصطدم صغيران راكبان نظرت فإن ركبا بأنفسهما أو اركبهما ولياهما فهما كالبالغين، لان للولى أن يركب الصغير ليعلمه، وان أركبهما أجنبيان فعلى عاقلة كل واحد منهما من المركبين نصف دية كل واحد منهما لان كل واحد من المركبين هو الجاني على الذى أركبه وعلى الذى جنى عليه.
وان كان المصطدمتان حاملتين فماتنا ومات جنيناهما وجبت على عاقلة كل واحد(19/27)
منهما نصف دية الاخرى، وكذلك تجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية جنينها ونصف ديه جنين الاخرى، لان كل واحدة منهما قتلت جنينها وجنين الاخرى.
وان خرج جنين إحداهما منها قبل موتها لم ترث من ديته لانها قاتلة له، ويجب على كل واحدة منهما أربع كفارات، لان كل واحدة منهما قاتلة لنفسها وجنينها، والاخرى وجنينها فوجب عليهما أربع كفارات، ولو كانتا أمي ولد أو أمتين فلهما أحكام أخرى لا مكان لها هنا، حيث التزمنا الاقتصار على المسائل والفروع العملية واختصار ما عدا ذلك أو المرور عليه كراما (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه: وان كان أحدهما واقفا فصدمه الاخر فماتا، فدية الصادم هدر ودية صاحبه على عاقلة الصادم، اه وجملة ذلك أن الرجل إذا كان واقفا في موضع فصدمه آخر فماتا نظرت، فإن كان الواقف وقف في ملكه أو في ريق واسع لا يتضرر الناس بوقوفه فيه، فإن دية المصطدم وهو الواقف تجب على عاقلة الصادم، لانه مات بفعله، وتهدر دية الصادم، لان الواقف غير مفرط بالوقوف في موضعه، سواء كان الواقف قائما أو قاعدا أو مضطجعا أو نائما، وسواء كان بصيرا أو أعمى يمكنه أن يحترز فلم يفعل، أو لا يمكنه لان فعل الصادم مضمون، وان أمكن المصدوم الاحتراز منه، كما لو طلب رجلا ليقتله وأمكن المطلوب الاحتراز منه فلم يفعل حتى قتله، فإن انحرف الواقف فوافق انحرافه صدمة الصادم فماتا فقد مات كل واحد منهما بفعله وفعل صاحبه فيكونان كالمتصادمتين فيجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الاخر ونصف قيمة السيارة إذا كان كل منهما يقود سيارة.
فإذا كان أحدهما يقود سيارة والاخر راجلا وصدم الراكب الراجل، فإن كان الراجل مخطنا في تعرضه للسيارة وكان يمكن للراكب أن يتوقى الصدام فلم يفعل كان عليه نصف دية الراجل لانه مات بفعله وفعل الراكب، فإن لم يكن يمكنه
الاحتراز منه لسبب لا يرجع إلى تقصير منه أؤ خلل في (فرامل السيارة) فليس على الراكب دية، فإن كان الراكب غير مقصر في آداب الطريق إلا أنه أراد أن يتوقى خطرا لاح له فترتب على وقوفه المفاجئ اصطدام من الخلف بسيارة مسرعة وراءه فمات سائقها، فإن كان يمكنه أن يعطى أشارة حمراء لمن خلفه لم(19/28)