قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
فان كان المخرج للسبق هما المتسابقان نظرت، فان كان معهما محلل وهو ثالث على فرس كفء لفرسيهما صح العقد، وان لم يكن معهما محلل فالعقد باطل لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من ادخل فرسا بين فرسين وهو لايامن ان يسبق فلا باس ومن ادخل فرسا بين فرسين وقد امن ان يسبق فهو قمار) ولان مع المحلل لا يكون قمارا، لان فيهم من ياخذ إذا سبق ولا يعطى إذا سبق وهو المحلل، ومع عدم المحلل ليس فيهم الا من ياخذ إذا سبق، ويعطى إذا سبق، وذلك قمار، وان كان المحلل اثنين أو اكثر جاز، لان ذلك ابعد من القمار، وان كانت المسابقة بين حزبين كان حكمهما في
المحلل حكم الرجلين، لان القصد من دخول المحلل الخروج من القمار، وذلك يحصل بالمحلل الواحد مع قلة العدد وكثرته.
واختلف اصحابنا في دخول المحلل فذهب اكثرهم إلى ان دخول المحلل لتحليل السبق لكل من سبق منهم، وذهب أبو على بن خيران إلى ان دخوله لتحليل السبق لنفسه وان ياخذ إذا سبق، ولا يأخذان إذا سبقا، لانا لو قلنا: انهما إذا سبقا أخذا حصل فيهم من يأخذ مرة ويعطى مرة، وهذا قمار، والمذهب الاول لانا بينا ان بدخول المحلل خرجا من القمار، لان في القمار ليس فيهم الا من يعطى مرة وياخذ مرة، وبدخول المحلل قد حصل فيهم من يأخذ ولا يعطى فلم يكن قمارا، فان تسابقوا نظرت فان انتهوا إلى الغاية معا احرز كل واحد منهما سبقه لانه لم يسبقه احد، ولم يكن للمحلل شئ لانه لم يسبق واحدا منهما، وان سبق المخرجان احرز كل واحد منها سبقه لانهما تساويا في السبق ولا شئ للمحلل لانه مسبوق، وان سبقهما المحلل اخذ سبقهما لانه سبقهما، وان سبق احد المخرجين وتاخر المحلل والمخرج الاخر احرز السابق سبق نفسه.
وفى سبق المسبوق وجهان المذهب انه للسابق المخرج لانه انفرد بالسبق، وعلى مذهب ابن خيران يكون سبق المسبوق لنفسه لانه لا يستحقه السابق المخرج(15/150)
على قوله ولا يستحقه المحلل لانه لم يسبق، وان سبق المحلل واحد المخرجين احرز السابق سبق نفسه، وفى سبق المسبوق وجهان المذهب انه بين المخرج السابق والمحلل، وعلى مذهب ابن خيران يكون سبقه للمحلل، وان سبق احد المخرجين ثم جاء المحلل ثم جاء المخرج الاخر ففيه وجهان المذهب ان سبق المسبوق للمخرج السابق بسبقه، وعلى مذهب ابن خيران يكون للمحلل دون السابق، وان سبق احد المخرجين ثم جاء المخرج الثاني، ثم جاء المحلل ففيه وجهان المذهب ان سبق
المسبوق للسابق، وعلى مذهب ابن خيران يكون للمسبوق لان المخرج السابق لا يستحقه والمحلل لم يسبق فبقى على ملك صاحبه.
(فصل)
وان كان المخرج للسبق احدهما جاز من غير محلل لان فيهم من ياخذ ولا يعطى وهو الذى لم يخرج فصار كما لو كان السبق منهما وبينهما محلل، فان تسابقا فسبق المخرج احرز السبق، وان سبق الاخر اخذ سبقه وان جاءا معا احرز المخرج السبق لانه لم يسبقه الاخر.
(الشرح) حديث ابى هريرة رواه احمد وابو داود وابن ماجه، واخرجه ايضا الحاكم وصححه والبيهقي ورواه ابن حبان باسناده وصححه.
وقال الطبراني في الصغير: تفرد به سعيد بن بسير عن قتادة عن سعيد بن المسيب وتفرد به عنه الوليد وتفرد به عنه هشام بن خالد، ورواه ايضا أبو داود عن محمود بن خالد عن الوليد لكنه ابدل قتادة بالزهرى، ورواه أبو داود وغيره ممن تقدم من طريق سفيان بن حسينن عن الزهري وسفيان ضعيف في الزهري، وقد رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من اهل العلم، كذا قال ابو داود وقال: هذا أصح عندنا.
وقال أبو حاتم: احسن احواله ان يكون موقوفا على سعيد بن المسيب، فقد رواه يحيى بن سعيد عنه وهو كذلك في الموطأ عن سعيد من قوله، وقال ابن ابى خيثمة: سالت ابن معين فقال: هذا باطل، وضرب على ابى هريرة.
وحكى أبو نعيم في الحيلة انه من حديث الوليد عن سعيد بن عبد العزيز.(15/151)
قال الدارقطني: والصواب سعيد بن بشير كما عند الطبراني والحاكم.
وحكى الدارقطني في العلل ان عبيد بن شربك رواه عن هشام بن عمار عن الوليد عن سعيد عن الزهري.
قال الحافظ: وقد رواه عبدان عن هشام، اخرجه ابن عدى مثل ما قال عبيد وقال: انه غلط قال: فتبين بهذا ان الغلط فيه من هشام، وذلك انه تغير حفظه اما الاحكام: فقد قال الشافعي رضى الله عنه والسبق الثاني من الاساق ان يجمع شيئين وذلك مثل الرجلين يريدان ان يستبقا بفرسيهما ولا يريد كل منهما ان يسبق صاحبه ويخرجان سبقين، ولا يجوز الا بمحلل، وهو ان يجعل بينهما فرس ولايجوز حتى يكون كفؤا لفرسيهما لا يا منان ان يسبقهما.
قلت: هذا هو السبق الثاني وهو ان يستبق الرجلان ويخرج كل واحد منهما سبقا من ماله ياخذه السابق منهما، وهذا لا يصح حتى يوكلا بينهما محللا لا يخرج شيئا، وياخذ ان سبق ولا يعطى ان سبق لنص ومعنى.
اما النص فهو حديث ابى هريرة الذى مضى تخريجه.
واما المعنى فهو ان اباحة السبق معتبرة بما خرج عن معنى القمار هو الذى لا يخلو الداخل فيه من ان يكون غانما ان اخذ أو غارما ان اعطى فإذا لم يدخل بينهما محلل كانت هذه بحالها فكان قمارا، وإذا دخل بينهما محلل غير مخرج ياخذ ان سبق ولا يعطى ان سبق خرج عن معنى القمار فحل، وهذا الداخل يسمى محللا، لان العقد صح به فصار حلالا ويسميه اهل السبق ميسرا، ويصح العقد به باربعة شروط.
احدها: ان يكون فرسه كفؤا لفريسهما أو اكفا منهما لايامنان ان يسبقهما فان كان فرسه ادون من فرسيهما وهما يا منان ان يسبقهما لنصر الحديث، ولان دخوله مع العلم بانه لا يسبق غير مؤثر من اخذ السبق.
والشرط الثاني: ان يكون المحلل غير مخرج لشئ وان قل، فان اخرج شيئا خرج من حكم المحلل وصار في حكم المستبق.
والشرط الثالث: ان ياخذ ان سبق، فان شرط ان لا يأخذ لم يصح.
والشرط الرابع: ان يكون فرسه معينا عند العقد لدخوله فيه كما يلزم تعيين(15/152)
فرس المستبقين، وان كان غير معين بطل، فإذا صح العقد بالمحلل على استكمال شروطه فمذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه أن المحلل دخل ليحلل العقد، ويحلل العقد الاخر فيأخذ إن سبق ويؤخذ به إن سبق.
وقال أبو على بن خيران: إن المحلل دخل للتحلل للعقد ويأخذ ولا يؤخذ به وهذا خطأ لان التحريض المقصود باستفراه الخيل ومعاطاه الفروسية غير موجود إذا لم يوخذ بالسبق شئ فيصير مانعا من السبق، وإذا أخذ به صار باعثا عليه وحافزا له، وهذا يتضح في التفريعات الاتية، والله اعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويطلق الفرسان من مكان واحد في وقت واحد لما روى الحسن أو خلاس عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلى: يا على قد جعلت اليك هذه السبقة بين الناس، فخرج على كرم الله وجهه فدعا بسراقة ابن مالك فقال: يا سراقة إنى قد جعلت اليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك، فإذا اتيت الميطان فصف الخيل ثم ناد ثلاثا هل مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل، فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من يشاء من خلقه) فإن كان بينهما محلل وتنازعا في مكانه جعل بينهما، لانه أعدل وأقطع للتافر وإن اختلف المتسابقان في اليمين واليسار أقرع بينهما لانه لا مزية لاحدهما على الاخر ولا يجلب ورواءه لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا، قال مالك: الجلب أن يجلب وراء الفرس حين يدنو أو يحرك وراءه الشسن.
ليستحث به السبق.
(فصل)
وأما ما يسبق به فينظر فيه فان شرط في السبق أقداما معلومة لم يستحق السبق بما دونها لانه شرط صحيح فتعلق الاستحقاق به وإن أطلق نظرت فان تساوى المركوبان في طول العنق اعتبر السبق بالعنق أو بالكند، فان سبق أحدهما بالعنق أو ببعضه أو بالكتد أو ببعضه فقد سبق، وان اختلفا في العنق(15/153)
اعتبر السبق بالكتد لانه لا يختلف، وإن سبق أطولهما عنقا بقدر زيادة الخلقة لم يحكم له بالسبق لانه يسبق بزيادة الخلقة لا بجودة الجرى
(فصل)
وإن عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الارض أو وقف لعلة أصابته فسبقه الاخر لم يحكم للسابق بالسبق لانه لم يسبق بجودة الجرى ولا تأخر المسبوق لسوء جريه.
(فصل)
وإن مات المركوب قبل الفراغ بطل العقد، لان العقد تعلق بعينه وقد فات بالموت فبطل كالمبيع إذا قبل القبض.
وإن مات الراكب، فان قلنا: انه كالجعالة بطل العقد بموته، وان قلنا: إنه كالاجارة لم يبطل وقام الوارث فيه مقامه.
(فصل)
وإن كان العقد على الرمى لم يجز بأقل من نفسين، لان المقصود معرفة الحذق، ولا يبين ذلك بأقل من اثنين، فان قال رجل لاخر: ارم عشرا وناضل فيها خطأك بصوابك، فان كان صوابك أكثر فلك دينار لم يجز، لانه بذل العوض على أن يناضل نفسه.
وقد بينا أن ذلك لا يجوز، وإن قال ارم عشرة فإن كان صوابك أكثر فلك دينار، ففيه وجهان:
(أحدهما)
يجوز لانه بذل له العوض على عمل معلوم لا يناضل فيه نفسه فجاز
(والثانى)
لا يجوز لانه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب، والخطأ لا يستحق به بدل.
(الشرح) حديث على رواه الدارقطني واخرجه البيهقي بإسناد الدارقطني وقال: هذا إسناد ضعيف ولفظه كاملا هكذا (يا على قد جعلت اليك هذه السبقة بين الناس، فخرج على فدعا سراقة بن مالك فقال: يا سراقة إنى قد جعلت اليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك، فإذا أتيت الميطان - قال أبو عبد الرحمن: والميطان مرسلها من الغاية - فصف الخيل ثم ناد: هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل، فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من شاء من خلقه.(15/154)
وكان على يقعد عند منتهى الغاية ويخط خطا ويقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفه بين ابهامى أرجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول إذا خرج احد الفرسين على صحابه بطرف أذنيه أو أذن أو عذار فاجعلوا السبقة له، فإن شككنما فاجعلا سبقهما نصفين، فإذا قرنتم ثنتين فاجعلوا الغاية من غاية أصغر الثنتين ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام) .
أما غريبة فقوله (هذه السبقة) فهى بضم السين وإسكان الباء هو الشئ الذى يجعله المتسابقان بينهما يأخذه من سبق منهما.
قال في القاموس: السبقة بالضم الخطر يوضع بين أهل السباق والجمع أسباق.
قوله (فإذا أتيت الميطان) بكسر الميم.
قال في القاموس: والميطان بالكسر الغاية.
قوله (فصف الخيل) هي خيل الحلبة.
قال في القاموس.
الحلبة بالفتح هي الدفعة من الخيل في الرهان، وخيل تجتمع للسباق من كل أوب.
قوله (ثم ناد الخ) فيه استحباب التأني قبل ارسال خيل الحلبة، وتنبيههم على إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه، وجعل علامه على الارسال من تكبير أو غيره، وتأمير أمير يفعل ذلك.
وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه أبو يعلى بإسناد صحيح بلفظ (ليس منا
من أجلب على الخيل يوم الرهان، وأخرجه الطبراني بلفظ (لا جلب في الاسلام) وفى إسناده أبو شيبة ضعيف، والمراد بالجلب في الرهان أن يأتي برجل يجلب على فرسه أي يصيح عليه يستحثه بالازعاج حتى يسبق، والجنب أن يجنب فرسا إلى فرسه حتى إذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب.
وقال ابن الاثير: له تفسيران ثم ذكر معنى في الرهان ومعنى في الزكاة، وقد مضى معناه في الزكاة من كتاب الزكاة أما الاحكام: فإن السبق يحصل في الخيل بالرأس إذا تماثلت الاعناق، فإن اختلفا في طول العنق أو كان ذلك في الابل اعتبر السبق بالكتف لان الاعتبار بالرأس متعذر، فإن طويل العنق قد يسبق رأسه لطول عنقه لا لسرعة عدوه، وقد مضى لنا تفصيل ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد.
وقال الثوري: إذا سبق أحدهما بالاذن كان سابقا ولا يصح لان أحدهما قد يرفع رأسه ويمد الاخر عنقه فيكون سابقا بأذنه لذلك لا لسبقه، وان شرطا(15/155)
السبق بأقدام معلومة كثلاثة أو أكثر أو أقل لم يصح على أحد القولين عند أصحابنا والثانى: يصح ويتخاطان ذلك كما في الرمى.
قال الماوردى في الحاوى الكبير: وإذا استقرت بينهما مع المحلل في الجرى فيختار أن يكون في الموضع الذى ينتهى إليه السبق، وهو غاية المدى قصب قد غرزت في الارض يسميها العرب قصب السبق ليحرزها السابق منهم فيتلقفها حتى يعلم بسبقه الدانى والقاصى فيسقط الاختلاف، وربما كر بها راجعا يستقبل بها المسبوقين إذا كان مفضلا في السبق مباهيا في الفروسية.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: والسبق أن يسبق أحدهما صاحبه وأقل السبق أن يسبق أحدهما صاحبه بالهادي أو بعضه أو الكتد أو بعضه اه.
فالسبق ضربان.
أحدهما: أن يكون معتبرا بأقدام مشروطة كاشتراطهما السبق بعشرة أقدام ولا يتم السبق الا بها ولو سبق أحدهما بتسعة أقدام لم يكن سابقا في استحقاق
البدل، وان كان سابقا في العمل.
والضرب الثاني: أن يكون مطلقا بغير شرط فيكون سابقا بكل قليل وكثير.
قال الشافعي رضى الله عنه: أقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه أو الكتد أو بعضه، فأما الهادى فهو العنق، وأما الكتد ويقال بفتح التاء وكسرها والفتح أشهر، وفيه تأويلان.
أحدهما: أنه الكتف.
والثانى: أنه ما بين أصل العنق والظهر، وهو مجتمع الكتفين في موضع السنام من الابل، فجعل الشافعي رضى الله عنه أقل السبق السبق بالهادي والكتد.
وقال الاوزاعي: أقل السبق بالرأس وقال المزني: أقل السبق بالاذن استدلالا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: بعثت والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر باذنه: قال الماوردى ردا على المزني: المقصود بهذا الخبر ضرب المثل على وجه المبالغة وليس بحد لسبق الرهان كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من بنى لله بيتا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) وان كان بيت لا يبنى كمفحص القطاة وانما لم يعتبر بالاذن كما قال المزني، ولا بالرأس كما قال الاوزاعي، لان من الخيل ما يزجى أذنه ورأسه فيطول، ما يرفعه فتقصر، فلم يدل واحد منهما على التقديم اه.(15/156)
وإذا سقط اعتبارهما ثبت اعتبار الهادى والكتد، ولو اعتبر السبق بأيديهما فأيهما تقدمت يداه وهو السابق كان عندي أصح، لان السعي بهما والجرى عليهما لكن الشافعي اعتبر بالهادي والكتد.
فأما السبق بالكتد فمتحقق سواء اتفق الفرسان في الطول والقصر أو تفاضلا وأما السبق بالهادي وهو العنق فلا يخلو حال الفرسين أن يتساويا فيه أو يتفاضلا في طوله أو قصره، فإن سبق بالعنق أقصرهما عنقا، وإن سبق بالعنق
أطولهما عنقا لم يكن سابقا إلا أن يتصاف السابق بكتده، لان سبقه بعنقه إنما كان لطوله لا لزيادة جريه.
فإن قيل: فإن كان السبق بالكتد صحيحا مع اختلاف الخلقة فلم اعتبر بالعنق التى يختلف حكمها باختلاف الخلقة؟ قيل: لان السبق بالكتد يتحققه القريب دون البعيد، والسبق بالعنق يتحققه القريب والبعيد، وربما دعت الضرورة إليه ليشاهده شهود السبق فشهدوا به للسابق شهودا يستوقفون عند الغاية ليشهدوا للسابق على المسبوق، فلو سبق أحدهما عند الغاية بهاديه أو كتده ثم جريا بعد الغاية فتقدم المسبوق بعدها على السابق بهاديه أو كتده كان السبق لمن سبق عند الغاية دون من سبق بعدها، لان ما يجاوز الغاية غير داخل في العقد فلم يعتبر وهكذا لو سبق أحدهما قبل الغاية ثم سبقه الآخر عند الغاية كان السبق لمن سبق عند الغاية دون من سبق قبلها لاستقرار العقد على السبق إليها.
(فرع)
إذا عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الارض فسبق الاخر لم يحتسب له بالسبق، لان العثرة أخرته.
ولو كان العاثر هو السابق احتسب سبقه، لانه إذا سبق مع العثرة كان بعدها أسبق، ولو وقف أحد الفرسين بعد الجرى حتى وصل الاخر إلى غايته كان مسبوقا إن وقف لغير مرض، ولا يكون مسبوقا إن وقف لمرض.
فأما إن وقف قبل الجرى لم يكن مسبوقا، سواء وقف لمرض أو غير مرض لانه بعد الجرى مشارك.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: والنضال فيما بين الاثنين يسبق أحدهما(15/157)
الاخر.
والثالث بينهما المحلل كهو في الخيل لا يختلفان في الاصل فيجوز فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا جَازَ فِي الاخر، ويرد فيهما ما يرد في الاخر ثم يتفرعان، فإذا
أختلفت عللهما اختلفا.
اه أما السبق فاسم يشتمل على المسابقة بالخيل حقيقة وعلى المسابقة بالرمي مجازا ولكل واحد منهما اسم خاص فتختص الخيل بالرهان ويختص الرمى بالنضال: فأما قولهم: سبق فلان بتشديد الباء فمن أسماء الاضداد يسمى به من أخرج مال السبق، ويسمى به من أحرز مال السبق.
وقد مضى حكم السباق بالخيل.
فأما السباق بالنضال فهما في الاباحة سواء، والخلاف فيهما واحد، وقد تقدم الدليل عليهما، وقد ذكر الشافعي ها هنا كلاما اشتمل على أربعة فصول: أحدها قوله: والنضال فيما بين الرماة كذلك في السبق والعلل، يريد بهذا أمرين
(أحدهما)
جواز النضال بالرمي كجواز السباق بالخيل
(والثانى)
اشتراكهما في التعليل لارهاب العدو بهما لقوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) والفصل الثاني: قوله يجوز في كل واحد منهما ما يجوز في الاخر، يريد بهذا أن الاسباق في النضال ثلاثة كما كانت الاسباق في الخيل ثلاثة (أحدها) أن يخرج الوالى مال السبق فيجوز كجوازه في الخيل
(والثانى)
أن الخيل ثلاثة: أحدهما أن يخرج الوالى مال السبق فيجوز كجوازه في الخيل.
والثانى: أن يخرجه المتناضلان فلا يجوز حتى يدخل بينهما محلل يكون رميه كرميهما أو أرمى منهما، كما لا يجوز في الخيل إلا محلل يكون فرسه كفؤا لفرسيهما أو أكفأ، والثالث: أن يخرجه أحد المناضلين فيجوز كما يجوز في الخيل إذا أخرجه أحد المتسابقين والفصل الثالث: قوله ثم يتفرعان، يريد به أمرين
(أحدهما)
أن الاصل في سباق الخيل الفرس والراكب تبع.
والاصل في النضال الرامى والالة تبع.
لان المقصود في سباق الخيل فراهة الفرس، ولو أراد أن يبدله بغيره لم يجز،
ويجوز أن يبدل الراكب بغيره.
والمقصود في النضال حذق الرامى، ولو أراد أن يستبدل بغيره لم يجز،(15/158)
ويجوز أن يبدل آلة بغيرها.
والثانى: أن في النضال من تفريع المرمى بالمبادرة والمحاطة ما لا يتفرع في سباق الخيل.
والفصل الرابع قوله: فإذا اختلفت عللهما اختلفا، يريد به أنه لما كان المقصود في سباق الخيل الفرس دون الراكب لزم تعيين الفرس ولم يلزم تعيين الراكب، ومتى مات الفرس بطل السبق، ولا يبطل بموت الراكب إن لم يكن هو العاقد.
وفى بطلانه بموت العاقد قولان:
(أحدهما)
لا يبطل بموته إذا قيل إنه كالاجارة
(والثانى)
يبطل بموته إذا قيل إنه كالجعالة.
ولما كان المقصود في النضال الرامى دون الالة لزم تعيين الرامى ولم يلزم تعيين الالة، وبطل النضال إذا مات الرامى، ولم يبطل إذا انكسر القوس، فقد اختلف حكمهما كما اختلفت عللهما.
والله أعلم بالصواب إذا ثبت هذا فإن الرمى لا يجوز إلا بين اثنين فأكثر، فإذا قال رجل لآخر ارم هذا السهم فإن أصبت به فلك درهم، قال أحمد وأصحابه: صح ذلك جعالة ولم يصح نضالا لانه بذل مالا له في فعل له فيه غرض صحيح ولم يكن هذا نضالا لان النضال يكون بين نفسين فأكثر على أن يرموا جميعا ويكون الجعل لبعضهم إذا كان سابقا.
وإن قال: إن أصبت فلك درهم وإن أخطأت فعليك درهم لم يصح لانه قمار.
وإن قال: ارم عشرة إسهم فان كان صوابك أكثر من خطئك فلك درهم ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه بذل له العوض على عمل معلوم لم يناضل فيه نفسه فجاز
(والثانى)
أنه لا يجوز، لانه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب.
وقال الماوردى: إذا قال أحدهما لصاحبه أو لغيره: ارم بسهمك هذا فإن أصبت به فلك درهم جاز واستحق الدرهم إن أصاب.
ولجوازه علتان (إحداهما) أنه قد أجابه إلى ما سأل فالتزم له ما بذل، وهذا قول ابن أبى هريرة (والثانية) أنه تحريض في طاعة فلزم البذل عليها كالمناضلة وقال أبو إسحاق المروزى: وهذا بذل مال على عمل وليس بنضال، لان النضال لا يكون الا بين اثنين فأكثر.(15/159)
وقال الشافعي رضى الله عنه، ولو قال له: ارم عشرة أرشاق، فإن كان صوابك أكثر فلك كذا لم يجز أن يناضل نفسه.
وقد اختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة على وجهين.
(أحدهما)
أن المزني حذف منها ما قد ذكره الشافعي في كتاب الام فقال فيه، ولو قال له: ناضل نفسك وارم عشرة أرشاق، فإن كان صوابك أكثر من خطئك فلك كذا لم يجز أن يناضل نفسه، فحذف المزني قوله: ناضل نفسك.
وأورد باقى كلامه وحكمه على هذه الصورة باطل باتفاق أصحابنا واختلفوا في تعليله فقال أبو إسحاق، وهو الظاهر من تعليل الشافعي: انه جعله مناضلا لنفسه، والنضال لا يكون الا بين اثنين فأكثر فاستحال نضال نفسه فبطل.
وقال آخرون: بل علة بطلانه أنه ناضل على خطئه لصوابه بقوله: ان كان صوابك أكثر من خطئك والخطأ لا يناضل عليه ولا به والوجه الثاني: ان المسألة مصورة على ما أورده المزني ههنا ولم يذكر فيه نضال نفسه وقال له: ارم عشرة أرشاق، فعلى هذا يكون في صحته وجهان من اختلاف العلتين:
(أحدهما)
انه صحيح ويستحق ما جعل له التعليل الاول، لانه بذل مال على عمل لم يناضل فيه نفسه.
والوجه الثاني: أنه باطل للتعليل الثاني أنه مناضل على خطئه وصوابه ويتفرع على هاتين المسألتين ثالثة، واختلف فيها أصحابنا بأيها تلحق؟ على وجهين، وهو أن يقول: ناضل وارم عشرة أرشاق، فان كان صوابك أكثر فلك كذا فيوافق المسألة الاولى في قوله ناضل، وتوافق المسألة الثانية في حذف قوله: ناضل نفسك، وأحد الوجهين وهو قول أبى اسحاق المروزى أنها في حكم المسألة الاولى في البطلان لاجل قوله: ناضل، والنضال لا يكون الا بين اثنين فصار كقوله: ناضل نفسك، والوجه الثاني أنها في حكم المسألة الثانية في حمل صحتها على وجهين من اختلاف العلتين إذا سقط قوله: نفسك، صار قوله ناضل، يعنى ارم على نضال، والنضال المال، فصار كالابتداء بقوله: ارم عشرة أرشاق.
والله أعلم(15/160)
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز إخراج السبق إلا على ما ذكرناه في المسابقة من إخراج العوض منهما أو من غيرهما، وفى دخول المحلل بينهما.
(فصل)
ولا يصح حتى يتعين المتراميان، لان المقصود معرفة حذقهما، ولا يعلم ذلك إلا بالتعيين، فإن كان أحدهما كثير الاصابة والاخر كثير الخطأ، ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لان نضل أحدهما معلوم فيكون الناضل منهما كالأخذ للمال من غير نضال وذلك من أكل المال بالباطل
(والثانى)
لا يجوز لان أخذ المال منه يبعثه على معاطاة الرمى والحذق فيه.
(فصل)
ولا يصح إلا على آلتين متجانستين فان عقد على جنسين بأن يرمى أحدهما بالنشاب والاخر بالحراب لم يجز، لانه لا يعلم فضل أحدهما على
الاخر في واحد من الجنسين، وان عقد على نوعين من جنس بأن يرمى إحدهما بالنبل والاخر بالنشاب أو يرمى أحدهما على قوس عربي والاخر على قوس فارسي جاز، لان النوعين من جنس واحد يتقابان، فيعرف به حذقهما، فإن أطلق العقد في موضع العرف فيه نوع واحد حمل العقد عليه، وإن لم يكن فيه عرف لم يصح حتى يبين، لان الاغراض تختلف باختلاف النوعين، فوجب بيانه، وإن عقد على نوع فأراد أن ينتقل إلى نوع آخر لم تلزم الاجابة إليه، لان الاغراض تختلف باختلاف الانواع، فإن من الناس من يرمى بأحد النوعين أجود من رميه بالنوع الاخر، وان عقد على قوس بعينها فأراد أن ينتقل إلى غيرها من نوعها جاز، لان الاغراض لا تختلف باختلاف الاعيان، فإن شرط على أنه لا يبدل فهو على الاوجه الثلاثة فيمن استأجر ظهرا ليركبه على أن لا يركبه مثله وقد بيناها في كتاب الاجارة.
(فصل)
ولا يجوز إلا على رشق معلوم وهو العدد الذى يرمى به لانه إذا لم يعرف منتهى العدد لم يبين الفضل.
ولم يظهر السبق.
(فصل)
ولا يجوز إلا على إصابة عدد معلوم، لانه لا يبين الفضل(15/161)
إلا بذلك فإن شرط اصابة عشرة من عشرة أو تسعة من عشرة ففيه وجهان.
أحدهما.
يصح لانه قد يصيب ذلك فصح العقد كما لو شرط اصابة ثمانية من عشرة والثانى: لا يصح لان اصابة ذلك تندر وتتعذر فبطل المقصود بالعقد.
(الشرح) ذكرنا فيما مضى من أحكام المسابقة أنه لا يجوز اخراج السبق الا على ما تراضيا عليه، وكما يقول الامام الشافعي رضى الله عنه: ويخرج كل واحد منهما ما تراضيا عليه ويتواضعانه على يدى رجل يثقان به أو يعينانه، ولصحة العقد بينهما مع دخول المحلل أربعة شروط.
(أحدهما)
ان يكون العوض معلوما اما معينا أو موصوفا، فإن كان مجهولا لم يصح، لان الاعواض في العقود لا تصح الا معلومة.
(والشرط الثاني) أن يتساويا في جنسه ونوعه وقدره فإن تفاضلا أو اختلفا لم يصح، لانهما لما تساويا في العقد وجب أن يتساويا في بذله.
(والشرط الثالث) تعيين الفرس في السباق.
والرابع أن يكون مدى سبقهما معلوما اما بالابتداء والانتهاء كالاجارة المعينه، واما مذروعا بذراع مشهور كالاجارة المضمونه.
فإذا صح العقد بينهما على الشروط المعتبرة وفى المحلل الداخل بينهما لم يخل حالهما في مال السبق من ثلاثة أحوال.
أحدهما: أن يتفقا على تركه في أيديهما ويثق كل واحد منهما بصاحبه فيحملان على ذلك ولا يلزم اخراج مال السبق من أحدهما الا بعد أن يصير مسبوقا فيؤخذ باستحقاقه، والحالة الثانية: أن يتفقا على أمين فيؤخذ مال السبق منهما ويوضع على يده ويعزل مال كل واحد منهما على حدته، فإن سبق أحدهما سلم إليه ماله ومال المسبوق، فان سبق المحلل سلم إليه مال السبقين ولم يكن للامين أجرة على السابق ولا على المسبوق الا عن شرط، فإن كانت له أجرة في عرف المتسابقين ففى حمله على عرفهم فيه مع عدم الشرط وجهان من اختلافهم فيمن استعمل خياطا فعمل بغير شرط هل يستحق أجرة مثله هل يستحق أجرة مثله أم لا؟ على وجهين.
(أحدهما)
أن الامين يستحق أجرة مثله إذا حكم للصانع بالاجرة، ويكون(15/162)
على المستبقين لا يختص بها السابق منهما لانها أجرة على حفظ المالين، والثانى أنه لا أجرة له وإن جرى العرف إلا أن يحكم للصانع بالاجرة، والحال الثالثة أن يختلفا على الامين فيخرج الحاكم لهما أمينا يقطع تنازعهما.
إذا ثبت هذا فقد قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَجُوزُ السبق إلا معلوما، كما يجوز في البيع.
قال الماوردى: وهذا صحيح، يريد بالسبق المال المخرج في العقد فلا يصح معه العقد حتى يكون معلوما من وجهين إما بالتعيين كاستباقهما على عين مشاهد، وإما بالصفة كاستباقهما على مال في الذمة، لانه من عقود المعاوضات كالبيع والاجارة، فإن تسابقا على ما يتفقان عليه أو على ما يحكم به زيد كان باطلا للجهالة به عند العقد.
ولو تسابقا وتناضلا على مثل ما يسابق أو يناضل به زيد وعمرو، فان كان ذلك بعد علمهما بقدره صح، وان كان قبل علمهما بقدره بطل، ولو كان لاحدهما في ذمة الاخر قفيز من حنطة فتناضلا عليه، فان كان القفيز مستحقا من سلم لم يصح، لان المعاوضة على السلم قبل قبضه لا تصح، وان كان عن غصبه صح، لان المعاوضة عليه قبل قبضه تصح.
وان كان من قرض فعلى وجهين من الوجهين في صحة المعاوضة عليه قبل قبضه ولو تناضلا على دينار الا دانقا صح، ولو تناضلا على دينار الا درهما لم يصح لانه يكون بالاستثناء من جنسه معلوما وبالاستثناء من غير جنسه مجهولا، ولو تناضلا على دينار معجل وقفيز حنطه مؤجل صح، لانه على عوضين: حال ومؤجل، ولو تناضلا على ان يأخذ الناضل دينارا ويعطى درهما لم يجز، لان الناضل من شرطه أن يأخذ ولا يعطى.
ولو تناضلا على دينار بذله أحدهما، فان نضل دفعه وان شرط لم يرم أبدا أو شهرا كان العقد فاسدا لانه قد شرط فيه الامتناع وهو مندوب إليه فبطل، وإذا تناضلا وقد فسد العقد بما ذكرنا فنضل احدهما، فان كان الناضل باذل المال فلا شئ على المنضول، وان كان الناضل غير الباذل ففى استحقاقه لاجرة مثله
على الباذل وجهان على ما مضى.(15/163)
قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا سبق احد الرجلين الاخر على ان يجعلا بينهما قرعا معروفا خواسق أو حوابى فهو جائز.
اه قلت: نعلم من اقوال الامام الشافعي رضى الله عنه ان عقد الرمى معتبر بشروط.
احدهما ان يكون الراميان متعينين، لان العقد عليهما، والمقصود به حذقهما، فان لم يتعينا بطل العقد، سواء وصفا أو لم يوصفا، كما لو أطلق في السبق الفرسان، فان لم يتعينا كان باطلا، ولا يلزم تعيين الآلة، ولكل واحد منهما ان يرمى عن أي قوس شاء، وبأى سهم أحب، فان عينت الآلة لم يتعين وبطلت في التعين.
ولو قيل: ويرمى عن هذين القوسين لم يؤثر في العقد وجاز لهما الرمى عنها ولغيرهما، وان قيل: على ان لا يرمى الا عن هذين القوسين كان فاسدا لانه على الوجه الاول صفة وعلى الوجه الثاني شرط.
أما قوله (ولا يصح الا على آلتين متجانستين) فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولا يصلح ان يمنع الرجل أن يرمى بأى نبل أو قوس شاء إذا كانت من صنف القوس التى سابق عليها.
قلت: وأنواع القسى تختلف باختلاف أنواع الناس فللعرب قسى وسهام وللعجم قسى وسهام، وقيل إن أول من صنع القسى العربية ابراهيم الخليل عليه السلام، وأول من صنع الفارسية النمرود.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القوس العربية ويأمر بها ويكره الفارسية وينهى عنها، ورأى رجلا يحمل قوسا فارسية فقال: ملعون حاملها عليكم بالقسى العربية وسهامها، فانه سيفتح عليكم بها.
قال الماوردى: وليس هذا منه محمولا على الحظر المانع، وفى تأويله.
ثلاثة
أوجه (أحدها) ليحفظ به آثار العرب، ولا يعدل الناس عنها رغبة في غيرها، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيل القوس العربية باقيا.
والوجه الثاني: انه أمر بها لتكون شعار المسلمين حتى لا يتشبهوا باهل الحرب من المشركين فيقتلوا، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيلها مرتفاعا لانها قد فشت في عامة المسلمين.
(والثالث) ما قاله عطاء انه لعن من قاتل المسلمين بها.
فعلى هذا لا يكون(15/164)
وذلك ندبا إلى تفضيل العربية عليها، ويكون نهيا عن قتال المسلمين بها وبغيرها.
وخصها باللعن لانها كانت انكى في المسلمين من غيرها، وقد رمى عنها الصحابة والتابعون في قتال المشركين، وان كان الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوسه لمن قوى رميه عنها أحب الينا.
فان كان بالفارسية أرمى كانت به أولى، ويكون الندب منهما إلى ما هو به أرمى.
اه فإذا تقرر ذلك فلا يخلو حال المتناضلين في عقد نضالهما من خمسة أحوال: أحدها أن يشترطا فيه الرمى عن القوس العربية، فعليهما أن يتناضلا بالعربية، وليس لاحدهما العدول عنها لاجل الشرط، فان تراضيا معا بالعدول إلى الفارسية جاز (الثانية) أن يشترطا فيه الرمى عن القوس الفارسية فعليهما ان يتناضلا بها وليس لاحدهما العدول إلى العربية، فان تراضيا بالعدول جاز (الثالثة) أن يشترطا أن يرمى أحدهما عن القوس العربية ويرمى الاخر عن القوس الفارسية فهذا جائز.
وان اختلفت قوساهما، لان مقصود الرمى حذق الرامى والالة تبع.
(الرابعة) أن يشترطا ان يرمى كل واحد منهما عما شاء من قوس عربية أو فارسية، فيجوز لكل واحد ان يرمى عن أي القوسين شاء قبل الشروع في
الرمى وبعده.
فان أراد أحدهما منع صاحبه من خياره لم يجز، سواء تماثلا فيها أو اختلفا (الخامسة) أن يطلقا العقد من غير شرط، فان كان للرماة عرف في احد القوسين حمل عليه، وجرى العرف في العقد المطلق مجرى الشرط في العقد المقيد.
وان لم يكن للرماة فيه عرف معهود فهما بالخيار فيما اتفقا عليه من أحد القوسين إذا كانا فيها متساويين، لان مطلق العقد يوجب التكافؤ، وان اختلفا لم يقرع بينهما لانه أصل في العقد، وقيل لهما ان اتفقتما والا فسخ العقد بينكما.
والشرط الثالث: أن يكون عدد الاصابة من الرشق معلوما ليعرف به الفاضل عن المفضول، وأكثر ما يجوز ان تشترط فيه ما نقص من عدد الرشق المشروط بشئ وان قل ليكون متلافيا للخطأ الذى يتعذر ان يسلم منه المتناضلان، فقد كان معروفا عندهم ان أحذق الرماة من يصيب ثمانية من العشرة، فان شرط أصابة الجميع من الجميع بطل لتعذره غالبا، وان شرطا إصابة ثمانيه من العشرة جاز(15/165)
فان شرطا إصابة تسعة من العشرة ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لبقاء سهم الخطأ والوجه الثاني: لا يجوز لان اصابتها نادرة.
فأما أقل ما يشترط في الاصابة فهو ما يحصل فيه القاصر.
وهو ما زاد على الواحد.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بطلان اشتراط إصابة تسعة من عشرة.
واختلف أصحابنا في تأويل هذا على وجهين
(أحدهما)
تأويلها أن يشترطا إصابة تسعة من عشرة فيبطل على ما ذكرناه من أحد الوجهين
(والثانى)
تأويلها أن يشترطا أن يكون الرشق عشرة والاصابة محتسبة من تسعة دون العاشر فيبطل وجها واحدا لاستحقاق الاصابة من جميع الرشق به، فان أغفلا عدد الاصابة وعقداه على أن يكون الناضل منهما أكثرهما إصابة ففيه وجهان
(أحدهما)
من التعليلين في اشتراط فعله في سباق الخيل إذا عقداه إلى غير غاية ليكون السابق
من تقدم في أي غاية كانت، وهو باطل في الخيل لعلتين (إحداهما) ان من الخيل من يقوى جريه في ابتدائه ويضعف في انتهائه، ومنها ما هو بضده، فعلى هذا يكون النضال على كثرة الاصابة باطلا، لان من الرماة من تكثر إصابته في الابتداء وتقل في الانتهاء ومنهم من هو بضده.
والتعليل الثاني: ان اجراء الخيل إلى غير غاية مفض إلى انقطاعها، فعلى هذا يجوز النضال على كثرة الاصابة لانه مفض إلى انقطاع الرماة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز الا ان يكون مدى الغرض معلوما، لان الاصابة تختلف بالقرب والبعد، فوجب العلم به، فان كان في الموضع غرض معلوم المدى فاطلق العقد جاز وحمل عليه، كما يجوز ان يطلق الثمن في البيع في موضع فيه نقد واحد وان لم يكن فيه غرض معلوم المدى لم يجز العقد حتى يبين، فان أطلق العقد بطل كما يبطل البيع بثمن مطلق في موضع لا نقد فيه، ويجوز ان يكون مدى الغرض قدرا يصيب مثلهما في مثله في العادة، ولا يجوز ان يكون قدرا لا يصيب مثلهما في مثله، وفيما يصيب مثلهما في مثله نادرا وجهان:
(أحدهما)
يجوز لانه قد يصيب مثلهما في مثله، فإذا عقدا عليه بعثهما العقد(15/166)
على الاجتهاد في الاصابة
(والثانى)
لا يجوز لان اصابتهما في مثله تندر فلا يحصل المقصود، وقدر أصحابنا ما يصاب منه بمائتين وخمسين ذراعا، وما لا يصاب بما زاد على ثلثمائة وخمسين ذراعا، وفيما بينهما وجهان، فإن تراميا على غير غرض على أن يكون السبق لابعدهما رميا ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه يمتحن به قوة الساعد، ويستعان به على قتال من بعد من العدو
(والثانى)
لا يجوز لان الذى يقصد بالرمي هو الاصابة، فأما الابعاد فليس بمقصود فلم يجز أخذ
العوض عليه.
(فصل)
ويجب أن يكون الغرض معلوما في نفسه فيعرف طوله وعرضه وقدر انخفاضه وارتفاعه من الارض، لان الاصابة تختلف باختلافه، فان كان العقد في موضع فيه غرض معروف فأطلق العقد حمل عليه كما يحمل البيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد متعارف على نقد البلد، وان لم يكن فيه غرض وجب بيانه، والمستحب أن يكون الرمى بين غرضين، لما روى عبد الدائم بن دينار قال: بلغني أن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنه.
وعن عقبه بن عامر أنه كان يرمى بين غرضين بينهما أربعمائة.
وعن ابن عمر أنه كان يختفى بين الغرضين وعن أنس أنه كان يرمى بين الهدفين، ولان ذلك أقطع للتنافر وأقل للتعب (الشرح) خبر: ما بين الهدفين الخ سبق أن سقناه في الحث على الرمى نقلا عن المصنف وغيره من الفقهاء، كابن قدامه في المغنى، وقد أعضله ولم يوضح، وأبناء دينار ثلاثة: عبد الله.
ومالك.
وعمرو، وليس فيهم من اسمه عبد الدائم، بل ليس في رواة السنة من اسمه عبد الدائم فضلا عن أن يكون ابن دينار وذكر الماوردى في الحاوى الخبر مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طريق ابن دينار مبهما، والخبر ساقه صاحب الترغيب والترهيب في الترغيب في الرمى.
وقد أخرجه صاحب مسند الفردوس من طريق ابن أبى الدنيا باسناده عن مكحول عن أبى هريرة يرفعه (تعلموا الرمى فان ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة) وفى اسناده ضعف وانقطاع.(15/167)
أما خبر عقبة بن عامر فهو ثابت من سيرته أنه لم يثبت عن أحد غيره الرمى إلى أربعمائة ذراع وهو أحد ولاة مصر بعد عمرو وتوفى في آخر خلافة معاوية روى عنه من الصحابة جابر وابن عباس وأبو أمامة ومسلمة بن مخلد ورواته من
التابعين لا يحصون، وقد غلط ابن الخياط عندما قال: إنه قتل شهيدا في معركة النهروان، ومعركة النهروان كانت سنة ثمان وثلاثين وقد كان بعد ذلك واليا على مصر بعد سنة خمسين: أما الاحكام: فإن الشرط الرابع من شروط الرمى أن تكون المسافة بين موقف الرامى والهدف معلومة، لان الاصابة تكثر مع قرب المسافة وتقل مع بعدها فلزم العلم بها وأبعد ما في العرف ثلاثمائة ذراع، وأقلها ما يحتمل أن يصاب وأن لا يصاب، فإن أغفلا مسافة الرمى فلها ثلاثة أحوال.
(إحداها) ان لا يكون للرماة هدف منصوب ولا لهم علف معهود فيكون العقد باطلا للجهاله.
(والثانية) أن يكون للرماة الحاضرين هدف منصوب وللرماة فيه موقف معروف فيصح العقد ويكون متوجها إلى الهدف الحاضر من الموقف المشاهد، والرماة يسمون موقف الوجه.
(والثالثة) أن لا يكون لهم هدف منصوب ولكن لهم عرف معهود، ففيه وجهان، أصحهما يصح العقد مع الاطلاق، ويحملان فيه على العرف المعهود كما يحمل إطلاق الاثمان على غالب النقد المعهود، والوجه الثاني: أن العقد باطل، لان حذق الرماة يختلف فاختلف لاجله حكم الهدف فلم يصح حتى يوصف.
(والشرط الخامس) الذى تضمنه هذان الفصلان من كلام المصنف أن يكون الغرض أو الهدف معلوما لانه المقصود بالاصابة، أما الهدف فهو تراب يجمعونه أو حائط بيت، وقد قيل من صنف فقد استهدف لانه يرمى بالاقايل من الحاسدين والناقضين وأما الغرض فهو جلد أو شن بال ينصب في الهدف ويختص بالاصابة وربما جعل في الغرض دارة كالهلال تختص بالاصابة ممن يحمله الغرض وهى الغاية في المقصود من حذق الرماة، وإذا كان كذلك فالعلم بالغرض يكون من
ثلاثة أوجه.(15/168)
أحدها: موضعه من الهدف في ارتفاعه وانخفاضه لان الاصابة في المنخفض أكثر منها في المرتفع.
والثانى: قدر الغرض في ضيقه وسعته، لان الاصابة في الواسع أكثر منها في الضيق، وأوسع الاغراض في عرف الرماة ذراع وأقله أربع أصابع.
والثالث قدر الدارة من الغرض إن شرطت الاصابة فيها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجب أن يكون موضع الاصابة معلوما، وأن الرمى إلى الهدف وهو التراب الذى يجمع أو الحائط الذى يبنى أو إلى الغرض، وهو الذى ينصب في الهدف، أو الشن الذى في الغرض، أو الدارة التى في الشن أو الخاتم الذى في الدارة، لان الغرض يختلف باختلافها، فإن أطلق العقد حمل على الغرض، لان العرف في الرمى إصابه الغرض فحمل العقد عليه، ويجب أن تكون صفة الرمى معلومه من القرع وهو إصابه الغرض أو الخزق وهو أن يثقب الشن أو الخسق وهو الذى يثقبه، ويثبت فيه، أو المرق وهو الذى ينفذ منه، أو الخرم وهو أن يقطع طرف الشن ويكون بعض السهم في الشن وبعضه خارجا منه، لان الحذق لا يبين إلا بذلك، فإن أطلق العقد حمل على القرع، لانه هو المتعارف فحمل مطلق العقد عليه، فإن شرط قرع عشرة من عشرين وأن يحسب خاسق كل واحد منهما بقارعين جاز لانهما يتساويان فيه، وإن أصاب أحدهما تسعه قرعا وأصاب الاخر قارعين وأربعة خواسق فقد نضله لانه استكمل العشرة بالخواسق.
(فصل)
واختلف أصحابنا في بيان حكم الاصابة أنه مبادرة أو محاطه أو حوابى، فمنهم من قال: يجب بيانه، فإن أطلق العقد لم يصح، لان حكمهما يختلف
وأغراض الناس فيها لا تتفق فوجب بيانه، ومنهم من قال: يصح ويحمل على المبادرة لان المتعارف في الرمى هو المبادرة، واختلفوا في بيان من يبتدئ بالرمي، فمنهم من قال: يجب فإن أطلق العقد بطل، وهو المنصوص، لان ذلك موضوع على نشاط القلب وقوة النفس، ومتى قدم أحدهما انكسر قلب الاخر(15/169)
وساء رميه، فلا يحصل مقصود العقد، ومنهم من قال: يصح لان ذلك من توابع العقد ويمكن تلافيه بما تزول به التهمة من العرف أو القرعة، فإذا قلنا: إنه يصح ففى البادئ وجهان.
(أحدهما)
إن كان السبق من أحدهما قدم، لان له مزية بالسبق، وإن كان السبق منهما أقرع بينهما لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخِرِ.
(وَالثَّانِي)
لا يبدأ أحدهما إلا بالقرعة لان أمر المسابقة موضوع على أن لا يفضل أحدهما على الآخر بالسبق، فإن كان الرمى بين غرضين فبدأ أحدهما من أحد الغرضين بدأ الاخر من الغرض الاخر، لانه أعدل وأسهل فان كانت البداية لاحدهما فبدأ الاخر ورمى لم يحسب له إن أصاب ولا عليه ان أخطأ لانه رمى بغير عقد فلم يعتد به، وان اختلفا في موضع الوقوف كان الامر إلى من له البداية لانه لما ثبت له السبق ثبت له اختيار المكان فإذا صار الثاني إلى الغرض الثاني صار الخيار في موضع الوقوف إليه ليستويا، وان طلب أحدهما استقبال الشمس والاخر استدبارها أجيب من طلب الاستدبار لانه أوفق للرمي.
(الشرح) لغات الفصل فيها قوله: الشن وهو جلد بال ينصب في الهدف.
أما الدارة فهى قطعة على شكل نصف دائرة، والقرع باسكان الراء من باب نفع يقال: قرع السهم القرطاس إذا أصابه، والقرع بفتحتين السبق والندب الذى يستبق عليه.
وأما الاحكام: فإن المصنف ذكر هنا الشرط وهو أن يكون محل الاصابة معلوما، هل هو في الهدف أو في الغرض أو في الدارة، لان الاصابة في الهدف أوسع، وفى الغرض أوسط وفى الدارة أضيق، وإن أغفل ذلك كان جميع الغرض محلا للاصابة لان ما دونه تخصيص، وما زاد عليه فهو بالغرض مخصوص، فإن كانت الاصابة مشروطة في الهدف سقط اعتبار الغرض، ولزم وصف الهدف طوله وعرضه، وإن شرطت الاصابة في الغرض سقط اعتبار الهدف ولزم وصف الغرض، وإن شرطت الاصابة في الدارة سقط اعتبار الغرض ولزم وصف الدارة.(15/170)
(فرع)
والشرط السابع: أن تكون الاصابة موصوفه بقرع أو خرق أو خسق فالقارع ما أصاب الغرض ولم يؤثر فيه، والخارق ما ثقب الغرض ولم يثبت فيه، والخاسق ما ثبت في الغرض بعد أن ثقب، ولا يحتسب بالقارع في الخرق والخسق، وتحتسب بالخارق في القرع ولا يحتسب به في الخسق، ويحتسب بالخاسق في القرع والخرق وينطلق على جميع هذه الاصابات اسم الخواصل وهو جمع خصال فإن أغفل هذا الشرط كانت الاصابة محمولة على القرع لان ما عداه زيادة.
(فرع)
والشرط الثامن أن يكون حكم الاصابة معلوما، هل مبادرة أو محاطه لان حكم كل واحد منهما مخالف لحكم الاخر، والمبادرة أن يبادر أحدهما إلى استكمال إصابته من أقل العددين على ما سيأتي، والمحاطة أن يحط أقل الاصابتين من أكثرهما ويكون الباقي بعدها هو العدد المشروط على ما سنشرحه، فان أغفلا ذلك ولم يشترطاه فسد العقد إن لم يكن للرماة عرف معهود، وفى فساده إن كان لهم عرف معهود وجهان على ما تقدم.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وقد رأيت من الرماة من يقول: صاحب
السبق أولى أن يبدأ وللمسبق لهما أن يبدأ أيهما شاء، ولا يجوز في القياس عندي إلا أن يتشارطا.
أما اشتراط الابتداء فهو معتبر في الرمى دون السبق لانهما في السبق يتساويان في الجرى معا لا يتقدم أحدهما على الاخر، وأما الرمى فلا بد أن يبتدئ به أحدهما قبل الاخر ولا يرميان معا لاختلاط رميهما ولما يخاف من تنافرهما، فان شرطا في العقد البادى منهما بالرمي كان أحقهما بالابتداء سواء كان المبتدئ مخرج المال أو غير مخرجه، فإن أراد بعد استحقاقه التقدم أن يتأخر لم يمنع لان التقدم حق له وليس بحق عليه، وان أغفل في العقد اشتراط البادئ بالرمي ففى العقد قولان.
(أحدهما)
وهو اختبار الشافعي في هذا الموضع أن العقد باطل لان للبداية تأثيرا في قوة النفس وكثرة الاصابة فصارت مقصودة فبطل العقد باغفالها.
(والقول الثاني) أن العقد صحيح، وإن أغفلت فيه البداية، وقد حكا الشافعي عن بعض فقهاء الرماة لانه من توابع الرمى الذى يمكن تلافيه بما تزول التهمه(15/171)
فيه من الرجوع إلى عرف أو قرعة، فعلى هذا إن كان مخرج المال أحدهما كان هو البادئ بالرمي اعتبارا بالعرف وفيه، وجه آخر أنه يقرع بينهما، فإن كانا مخرجين للمال أقرع بينهما لتكافئهما وهل يدخل المحلل في قرعتهما أو يتأخر عنهما على وجهين
(أحدهما)
يتأخر ولا يدخل في القرعة إذا قيل: إن مخرج المال يستحق التقدم (والوجه الثاني) يدخل في القرعة ولا يتأخر إذا قبل: إن مخرج المال لا يتقدم إلا بالقرعة.
قال الشافعي رضى الله عنه: وقد جرت الرماة أن يكون الرامى الثاني يتقدم على الاول بخطوة أو خطوتين أو ثلاث وهذا معتبر بعرف الرماة وعادتهم فإن كانت مختلفة فيه، يفعلونه تارة ويسقطونه أخرى سقط اعتباره ووجب
التساوى فيه، وإن كانت عادتهم جارية لا يختلفون فيها ففى لزوم اعتباره بينهما وجهان.
أحدهما: لا يعتبر لوجوب تكافئهما في العقد فلم يجز أن يتقدم أحدهما على الاخر بشئ لانه يصير مصيبا بتقدمه لا لحذقه.
والوجه الثاني: يعتبر ذلك فيها، لان العرف في العقود كإطلاق الاعيان، فعلى هذا إن لم يختلف عرفهم في عدد الاقدام حملا على العرف في عددها ليكون القرب بالاقدام في مقابلة قوة النفس تقدم أحدهما على الاخر بما لا يستحق لم يحتسب له بصوابه واحتسب عليه بخطئه.
وقال الشافعي رضى الله عنه: وأيهما بدأ من وجه بدأ صاحبه من الاخر.
قال الماوردى: عادة الرماة في الهدف مختلفة على وجهين وكلاهما جائز، فمنهم من يرمى بين هدفين متقابلين فيقف أحد الحزبين في هدف يرمى منه إلى الهدف الاخر ويقف الحزب الاخر في الهدف المقابل فيرمى إلى الهدف الاخر اه.
(قلت) والحكمة في ان يتقدم أحدهما الاخر وان لا يرميا سويا هو أن التساوى في الرمى مفض إلى الاختلاف في الاصابة حيث لا يعرف من المصيب منهما ومن ثم توجه ما مضى من أقوال وبهذا كله أخذ أحمد وأصحابه.
فإذا تشاحا في موضع الوقوف، فان كان ما طلبه أحدهما أولى مثل أن يكون في أحد الموقفين يستقبل الشمس أو ريحا تؤذيه باستقبالها ونحو ذلك، والاخر يستدبرها قدم قول من طلب استدبارها لانه العرف في الرمى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(15/172)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز أن يرميا سهما سهما وخمسا خمسا، وان يرمى كل واحد منهما جميع الرشق، فان شرطا شيئا من ذلك حملا عليه، وإن أطلق العقد تراسلا سهما لان العرف فيه ما ذكرناه، وان رمى أحدهما أكثر مما له لم يحسب له
ان أصاب، ولا عليه ان أخطا لانه رمى من غير عقد فلم يعتد به.
(فصل)
ولا يجوز أن يتفاضلا في عدد الرشق ولا في عدد الاصابة ولا في صفة الاصابة ولا في محل الاصابة، ولا أن يحسب قرع أحدهما خسقا ولا أن يكون في يد أحدهما من السهام اكثر مما في يد الاخر في حال الرمى، ولا أن يرمى أحدهما والشمس في وجهه لان القصد أن يعرف حذقهما، وذلك لا يعرف مع الاختلاف، لانه إذا نضل أحدهما كان النضل بما شرط لا بجودة الرمى، فان شرط شيئا من ذلك بطل العقد، لانه في أحد القولين كالاجارة، وفى الثاني كالجعالة، والجميع يبطل بالشرط الفاسد.
وهل يجب للناضل في الفاسد أجرة المثل؟ فيه وجهان أحدهما لا تجب.
وهو قول ابى اسحاق لانه لا يحصل المسبوق منفعة بسبق السابق فلم تلزمه أجرته
(والثانى)
تجب، وهو الصحيح، لان كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب عوض المثل في فاسده كالبيع والاجارة
(فصل)
وان شرط على السابق ان يطعم أصحابه من السبق بطل الشرط لانه شرط ينافى مقتضى العقد فبطل، وهو يبطل العقد المنصوص انه يبطل لانه تمليك مال شرط فيه يمنع كمال التصرف، فإذا بطل الشرط بطل العقد، كما لو باعه سلعة بالف على ان يتصدق بها.
وقال أبو إسحاق: يحتمل قولا آخر لا يبطل، كما قال فيمن أصدق امرأته الفين على أن تعطى أباها ألفا أن الشرط باطل، ويصح الصداق، فإذا قلنا بالمنصوص سقط المستحق، وهل يرجع الساق بأجرة المثل؟ على الوجهين.
(الشرح) إذا شرطا في العقد شرطا حملا فيه على موجب الشرط وان خالف العرف لان الشرط أحق من العرف، فان شرطا أن يرميا سهما وسهما أو شرطا(15/173)
أن يرميا خمسا وخمسا، أو شرطا أن يواصل كل واحد منهما رمى جميع رشقه رمى كل واحد منهما عدد ما أوجب الشرط، فان زاد عليه لم يحسب به مصيبا ولا مخطئا لخروجه عن موجب العقد، وان اغفل ولم يشترط في العقد لم يبطل العقد باغفاله لامكان التكافؤ فيه واعتبر فيها عرف الرماة لانه يجرى بعد الشرط مجرى الشرط، فان كان عرف الرماة جاريا بأحد الثلاثة المجوزة من الشرط صار كالمستحق بالشرط، وان لم يكن للرماة عرف لاختلافه بينهم رميا سهما وسهما، ولم يزد كل واحد منهما على سهم واحد حتى يستنفدا جميع الرشق.
لان قرب المعاودة إلى الرمى احفظ لحسن الصنيع، فان رمى أحدهما أكثر من سهم فان كان قبل استقرار هذا الترتيب كان محتسبا به مصيبا ومخطئا، وان كان بعد استقراره لم يحتسب به مصيبا ولا مخطئا، لانه قبل الاستقرار يجوز وبعد الاستقرار ممنوع.
وهذا الذى ذكرناه هو الشرط التاسع من شروط الرمى.
قال في الحاوى الكبير: يذكر المبتدئ منهما بالرمي وكيفية الرمى هل يتراميان سهما وسهما أو خمسا وخمسا ليزول التنازع ويعمل كل واحد منهما على شرطه، فان اغفل ذكر المبتدئ منهما بالرمي ففى العقد قولان
(أحدهما)
انه باطل
(والثانى)
جائز وفى المبتدئ وجهان
(أحدهما)
مخرج المال
(والثانى)
من قرع، وان اغفل عددما يرميه كل واحد منهما في يديه فالعقد صحيح ويحملان على عرف الرماة ان لم يختلف، فان اختلف عرفهم رميا سهما وسهما.
قلت: وقد مضى ذكر الشرط العاشر، وهو المال المخرج في النضال ويسمى الحظر ويجب ذكره، فان كان مجهلا ففى استحقاقه لاجرة مثله إذا نضل وجهان (فرع)
ولا يجوز ان يتناضلا على أن تكون إصابة أحدهما قرعا وإصابة الاخر خسقا، لان المقصود بالعقد معرفة احذقهما بالرمي، كما لا يجوز أن
يتفاضلا على ان تكون اصابة أحدهما خمسة من عشرين واصابة الاخر عشرة من عشرين لما فيه من التفاضل الذى لا يعلم به الاحذق قال الشافعي رضى الله عنه: وهو متطوع باطعامه إياه، وما نضله فله أن يحرزه ويتموله ويمنعه منه ومن غيره، وهو عندي كرجل كان له على رجل دينار(15/174)
فاسلفه الدينار ورده عليه أو أطعمه به فعليه دينار كما هو، وقال أيضا: ومستحق سبقه يكون ملكا له يكون لقضائه عليه كالدين يلزمه ان شاء أطعم أصحابه، وان شاء تموله.
قلت: وهذا صحيح إذا نضل الرامى ملك مال النضال وكذلك في السبق وصار كسائر أمواله، فان كان عينا استحق أخذها، وان كان دينا استوجب قبضه ولم يلزمه أن يطعم اصحابه، من أهل النضال والسباق.
وحكى الشافعي عن بعض فقهاء الرماة ان عليه أن يطعم أصحابه ولا يجوز ان يتملكه، وهذا فاسد، لانه لا يخلو اما ان يكون كمال الاجارة أو مال الجعالة لان عقده متردد بين هذين العقدين، والعوض في كل واحد منهما مستحق يتملكه مستحقه ولا يلزمه مشاركة غيره فبطل ما قاله المخالف فيه، فعلى هذا إن مطل به المنضول قضى به الحاكم عليه وحبسه فيه وباع عليه ملكه.
وان مات أو أفلس ضرب به مع غرمائه ويقدم به على ورثته.
وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو شرط أن يطعم السبق أصحابه كان فاسدا.
وقد ذكرنا ان مال السبق يملكه الناضل ولا يلزمه ان يطعم أصحابه، فان شرط عليه في العقد أن يطعم أصحابه ولا يملكه كان الشرط فاسدا، لانه ينافى موجب العقد، وفى فساد العقد وجهان
(أحدهما)
وهو الظاهر من المذهب ان العقد يفسد بفساد الشرط كالبيع.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وبه قال أبو حنيفة ان العقد صحيح لا يفسد بفساد هذا الشرط، لان نفعه لا يعود على مشترطه، وكان وجوده كعدمه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا تناضلا لم يخل أما أن يكون الرمى مبادرة أو محاطة أو حوابى فان كان مبادرة، وهو ان يعقد على اصابة عدد من الرشق وان من بدر منهما إلى ذلك مع تساويهما في الرمى كان ناضلا، فان كان العقد على اصابة عشرة من ثلاثين نظرت - فإن أصاب أحدهما عشرة من عشرين، وأصاب الاخر تسعة(15/175)
من عشرين، فالاول ناضل لانه بادر إلى عدد الاصابة، وان أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم ينضل واحد منهما ويسقط رمى الباقي، لان الزيادة على عدد الاصابة غير معتد بها، وان أصاب الاول تسعة من عشرين وأصاب الاخر خمسة من عشرين فالنضال بحاله، لانه لم يستوف واحد منهما عدد الاصابة فيرميان، فان رمى الاول سهما وأصاب فقد فلج وسقط رمى الباقي، وان رمى الاول خمسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني فاصاب في جميعها، فان الناضل هو الثاني ويسقط رمى ما بقى من الرشق، لان الاول أصاب تسعة من خمسة وعشرين.
وأصاب الثاني عشرة من خسمة وعشرين.
وان أصاب الاول تسعة من تسعة عشر وأصاب الاخر ثمانية من تسعة عشر فرمى البادئ سهما فاصاب فقد نضل، ولا يرمى الثاني ما بقى من رشقه لانه لا يستفيد به نضلا ولا مساواة، لان الباقي من رشقه سهم وعليه إصابة سهمين، فإن أصاب كل واحد منهما تسعة من عشرة ثم رمى البادئ فأصاب جاز للثاني أن يرمى، لانه ربما يصيب فيساويه.
(فصل)
وان كان الرمى محاطة وهو أن يعقدا على أصابة عدد من الرشق وان يتحاطا ما استويا فيه من عدد الاصابة ويفضل لاحدهما عدد الاصابة فيكون ناضلا نظرت، فان كان العقد على اصابة خمسة من عشرين فأصاب كل واحد منهما خمسة من عشرة لم ينضل أحدهما الاخر، لانه لم يفضل هل عدد من الاصابة ويرميان ما تبقى من الرشق، لانه يرجو كل واحد منهما أن ينضل، فان فضل لاحدهما بعد تساويهما في الرمى واسقاط ما استويا فيه عدد الاصابة لم يخل - أما أن يكون قبل إكمال الرشق أو بعده - فان كان بعد إكمال الرشق بان رمى أحدهما عشرين وأصابها، ورمى الاخر فأصاب خمسة عشر، فالاول هو الناضل، لانه يفضل هل بعد المحاطه فيما استويا فيه عدد الاصابة، وان كان قبل كمال الرشق وطالب صاحب الاقل صاحب الاكثر برمى باقى الرشق نظرت، فان لم يكن له فائدة مثل أن يرمى الاول خمسة عشر وأصابها، ورمى الثاني خمسة عشر فأصاب خمسة، لم يكن له مطالبته لان أكثر ما يمكن أن يصيب فيما بقى له وهو خمسة، ويبقى للاول خمسه فينضله، بها، وان كان له فيه فائدة بأن يرجو(15/176)
أن ينضل بأن يرمى أحدهما أحد عشر فيصيب ستة ويرمى الاخر عشرة.
فيصيب واحدا، ثم يرمى صاحب الستة فيخطئ فيما بقى له من الرشق.
ويرمى صاحب الواحد فيصيب في جميع ما بقى له فينضله بخمسه أو يساويه بأن يرمى أحدهما خمسة عشر.
فيصيب منها عشرة ويرمى الاخر خمسة عشر فيصيب منها خمسه.
ثم يرمى صاحب العشرة فيخطئ في الجميع ويرمى صاحب الخمسه فيصيب فيساويه أو يقلل اصابته بأن يصيب أحدهما أحد عشر من خمسة عشر ويصيب الاخر سهمين من خمسة عشر ثم يرمى صاحب الاحد ما بقى له من رشقه فيخطئ في الجميع ويرمى صاحب السهمين فيصيب في الجميع فيصير له
سبعة ويبقى لصاحبه أربعة.
فهل لاقلهما إصابة مطالبة الاخر بإكمال الرشق؟ فيه وجهان
(أحدهما)
ليس له مطالبته لانه بدر إلى الاصابة مع تساويهما في الرمى بعد المحاطة فحكم له بالسبق
(والثانى)
له مطالبته لان مقتضى المحاطة إسقاط ما استويا فيه من الرشق.
وقد بقى من الرشق بعضه
(فصل)
وإن كان العقد على حوابى وهو أن يشترطا إصابة عدد من الرشق عليه أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابة الاخر: فمن فضل له بعد ذلك مما اشترطا عليه من العدد كان له السبق.
فان رمى أحدهما فأصاب من الهدف موضعا بينه وبين الغرض قدر شبر حسب له، فان رمى الآخر فأصاب موضعا بينه وبين الغرض قدر أصبع حسب له وأسقط ما رماه الاول فإن عاد الاول ورمى فأصاب الغرض أسقط ما رماه صاحبه.
وان أصاب أحدهما الشن وأصاب الاخر العظم الذى في الشن فقد قال الشافعي رحمه الله: من الرماة من قال: انه تسقط الاصابة من العظم ما كان أبعد منه.
قال الشافعي رحمه الله: وعندي أنهما سواء.
لان الغرض كله موضع الاصابة فان استوفيا الرشق ولم يفضل أحدهما صاحبه بالعدد الذى اشترطاه فقد تكافأ وان فضل أحدهما صاحبه بالعدد أخذ السبق.
وحكى عن بعض الرماة أنهما إذا أصابا أعلى الغرض لم يتقايسا.
قال والقياس أن يتقايسا لان أحدهما أقرب إلى الغرض من الاخر فأسقط الاقرب الابعد.
كما لو أصابا أسفل الغرض أو جنبه.(15/177)
(الشرح) أما غريب هذه الفصول فقد مضى شرح المبادرة والمحاطة والحوابى أما قوله: فلج من الفلوج وبابه خرج فيقال: فلج فلوجا أي ظفر بما يريد، وقوله: نضل أن فاز عليه بالمراماة
أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: وإن كان رميهما مبادرة فبلغ تسعة عشر من عشرين رمى صاحبه بالسهم الذى يراسله ثم رمى الثاني فإن أصاب بسهمه ذلك فلج عليه، وإن لم يرم الاخر بالسهم، لان المبادرة أن يفوت أحدهما الاخر وليس كالمماثلة.
قال المزني: وهذا عندي غلط لا ينضله حتى يرمى صاحبه بمثله، قد ذكرنا أن الرمى ضربان محاطة ومبادرة فالمبادرة صورتها أن أن يتناضلا على إصابة عشرة من ثلاثين مبادرة فيكون الرشق ثلاثين سهما والاصابة المشروطة منها عشرة أسهم فأيهما بدر إلى إصابتها من أقل العددين فيه نضل وسقط رمى الرشق، وان تكافئا في الاصابة من عدد متساو سقط رمى الثاني وليس منهما فاضل.
وبيانه أن يصيب أحدهما عشرة من عشرين وقد رماها الثاني فنقص منها، ولا يرميان بقية الرشق لحصول النضل، فلو أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم يكن منهما ناضل ولا منضول وسقط رمى الباقي من الرشق، لان زيادة الاصابة فيه غير مفيدة لنضل.
ولو أصاب أحدهما خمسة من عشرين وأصاب الاخر تسعة من عشرين فالنضال بحاله، لان عدد الاصابة لم يستوف، فيرميان من بقية الرشق ما يكمل به اصابة أحدهما عشرة، فإن رمى الاول سهما فأصاب فقد فلج على الثاني ونضل وسقط رمى الثاني، ولو رمى الاول خمنسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني خمسة فأصاب في جميعها صار الثاني ناضلا وسقط رمى الثاني من الرشق، لان الاول أصاب تسعة من خمسة وعشرين وأصاب الثاني عشرة من خمسة وعشرين ثم على هذا الاعتبار.
فأما مسألة الكتاب فصورتها أن يتناضلا على اصابة عشرة من ثلاثين مبادرة فيصيب البادئ منهما تسعة من تسعة عشر ويصيب الاخر ثمانية من تسعة عشر(15/178)
ثم يرمى البادئ منهما سهما آخر يستكمل به العشرين فيصيب فيصير به ناضلا، ويمنع الاخر من رمى السهم الاخر الذى رماه الثاني لانه لا يستفيد به نضالا ولا مساواة، لان الثاني له من العشرين سهم واحد وعليه إصابتان.
ولو رمى فأصابه بقيت عليه إصابة يكون بها منضولا فلم يكن لرميه معنى يستحقه بالعقد.
فلذلك منع منه.
ولو كان كل واحد منهما قد أصاب تسعة من تسعة عشر ثم رمى المبادى وأصاب كان للمبدأ أن يرمى بجواز أن يصيب فيكافئ فأما المزني فظن أن الشافعي منع المبدأ أن يرمى بالسهم الباقي في هذه المسألة فتكلم عليه وليس كما ظن بل أراد منعه في المسألة المتقدمة للتعليل المذكور.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وإن اشترطا محاطة فكل ما أصاب أحدهما واصاب الاخر مثله أسقطا العددين ولا شئ لواحد منهما ويستأنفان.
وإن أصاب أقل من صاحبه حط مثله حتى يخلص له ذلك العدد الذى شرطه فينضله به.
قد ذكرنا أن النضال على ضربين محاطة ومبادرة.
فبدأ الشافعي رضى الله عنه بذكر المحاطة في الام وإن جعلها المصنف هنا بعد المبادرة، لان الغالب من النضال في زمانه كان محاطة والغالب في بلد الشيخ أبى إسحاق كان المبادرة، وقد قيل إن الشافعي كان راميا يصيب من العشرة ثمانية في الغالب، وهى عادة حذاق الرماة فإذا عقدا سبق النضال على اصابة خمسة من عشرين محاطة ورماية وجب أن يحط أقل الاصابتين من أكثرهما وينظر في الباقي بعد الحط، فإن كان خمسة فهو القدر المشروط فيصير صاحبه به ناضلا.
وان كان الباقي أقل من خمسة لم ينضل، وان كان أكثر اصابة لنقصانه من العدد المشروط، وإذا كان كذلك لم يخل حالهما بعد الرمى من أحد أمرين: اما أن يتساويا في الاصابة أو يتفاضلا،
فان تساويا في الاصابة فأصاب كل واحد منهما عشرا عشرا أو خمسا خمسا قال الشافعي فلا شئ لواحد منهما ويستأنفان.
فاختلف أصحابنا في قوله: ويستأنفان على وجهين حَكَاهُمَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدُهُمَا يستأنفان الرمى بالعقد الاول، لان عقد المحاطة ما أوجب حط الاقل(15/179)
من الاكثر وليس مع التساوى عقد حط.
فخرج من عقد المحاطة.
فلذلك استأنفا الرمى ليصير ما يستأنفانه من عقود المحاطة.
والوجه الثاني: أن أراد بها يستأنفان عقدا مستجدا ان أحبا، لان العقد الواحد لا يلزم فيه اعادة الرمى مع التكافؤ، كما لا يلزم في الخيل اعادة الجرى مع التكافؤ.
قال الماوردى: والذى أراه وهو عندي الاصح أن ينظر فان تساويا في الاصابة قبل الرشق استأنفا الرمى بالعقد الاول، وان تساويا فيه بعد استكمال الرشق استأنفا بعقد مستحدان أحبا لانها قبل استكمال الرشق في بقايا أحكام العقد، وبعد استكماله قد نقصت جميع أحكامه.
فان تفاضلا في الاصابة لم يخل تفاضلهما فيها من أقسام ثلاثة: 1 - أن يفضل ولا ينضل بما فضل.
وهو أن يشترطا إصابة خمسة من عشرين محاطه فيصيب أحدهما عشرة أسهم ويصيب الاخر ستة أسهم، فتحط الستة من العشرة يكون الباقي منها أربعه فلا ينضل، لان شرط الاصابة خمسة وهكذا لو أصاب أحدهما خمسة عشر واصاب الاخر أحد عشر لم ينضل الفاضل لان الباقي له بعد الحط أربعة، ثم على هذا الاعتبار ان كان الباقي أقل من خمسة.
2 - أن ينضل بما فضل بعد استيفاء الرشق.
وهو أن يصيب أحدهما
خمسة عشر من عشرين، ويصيب الاخر عشرة من عشرين فينضل الفاضل لانك إذا أسقطت من اصابته عشرة كان الباقي بعدها خمسة، وهو عدد النضل.
وهكذا لو أصاب أحدهما عشرة وأصاب الاخر خمسة كان الفاضل ناضلا، لانك إذا أسقطت الخمسة من اصابته كان الباقي بعدها خمسة، وهو عدد الاصابات.
وهكذا لو كان الباقي بعد الحط أكثر من خمسة، ثم على هذا الاعتبار.(15/180)
3 أن ينضل بما فضل قبل استيفاء الرشق وهو أن يصيب أحدهما عشرة من خمسة عشر، ويصيب الآخر خمسة من خمسة عشر ويكون الباقي من الاكثر خمسة، وهو عدد النضل، فهل يستقر النضال بهذا قبل استيفاء الرشق أم لا؟ على وجهين.
أحدهما: يستقر النضل ويسقط باقى الرشق، لان مقصوده معرفة الاحذق وقد عرف.
والوجه الثاني: وهو الاظهر، أنه لا يستقر النضل بهذه المبادرة إلى العدد حتى يرميا بقية الرشق، لان العقد قد تضمنها، وقد يجوز أن يصيب المفضول جميعها أو أكثرها ويخطئ الفاضل جميعها أو أكثرها.
وعلى هذا يكون التفريع فإذا رميا بقية الرشق وهو الخمسة الباقيه، فإن أصاب المفضول جميعها وأخطأ الفاضل جميعها فقد استويا ولم ينضل واحد منهما، لان إصابة كل واحد منهما عشرة، وإن أصاب الفاضل وأخطأ المفضول جميعها استقر فضل الفاضل لانه أصاب خمسه وعشرين، وأصاب المفضول خمسه من عشرين فكان الباقي بعد الحط عشرة، هي أكثر من شرطه، فلو أصاب الفاضل من الخمسة الباقيه سهما وأصاب المفضول سهمين لم ينضل الفاضل لان عدد إصابته أحد عشر سهما وعدد
إصابة المفضول سبعه إذا حطت من تلك الاصابة كان الباقي أربعه والشرط أن تكون خمسه، فلذلك لم ينضل وإن فضل.
فلو أصاب الناضل سهمين والمنضول سهمين صار الفاضل ناضلا، لانه أصاب اثنى عشرة وأصاب المنضول سبعه يبقى للناضل بعد الحط خمسه، ولو أصاب أحدهما سبعه من عشرة وأصاب الاخر سهمين من عشرة فإذا رميا بقية السهام فإن أصاب المفضول جميعها وأخطأ الفاضل جميعها صار الاول ناضلا والثانى منضولا، لان الاول له سبعه والثانى له اثنا عشر يبقى له بعد الحط خمسه، ولو أصاب الاول جميعها وأصاب الثاني جميعها كان الاول ناضلا لان إصابته سبعة عشر وإصابة الثاني اثنا عشر، فإن أخطأ الاول في سهم من بقية الرشق لم يفضل ولم ينضل، ولو أصاب اثنى عشر من خمسة عشر وأصاب الاخر سهمين من(15/181)
خمسة عشر استقر النضل وسقط بقية الرشق وجها واحدا، لان المنضول لو أصاب جميع الخمسه الباقيه من الرشق حتى استكمل بما تقدم سبعه كان منضولا، لان الباقي للفاضل بعد حطها خمسه فلم يستفد ببقية الرمى أن يدفع عن نفسه النضل فسقط، ثم على هذا الاعتبار.
(فرع)
قول المصنف: وإن كان العقد على حوابى.
فإن الحوابى نوع من أنواع الرمى وهم فيه أبو حامد الاسفرايينى فجعله صفه من صفات السهم وسماه حوابى بإثبات الياء فيه وحذفها وأنه السهم الواقع دون الهدف ثم يحبو إليه حتى ينضل به مأخوذا من حبو الصبى.
وهذا نوع من الرمى المزدلف يفترقان في الاسم لان المزدلف أحد والحوابى أضعف ويستويان في الحكم على ما سيأتي، والذى قاله سائر أصحابنا أن الحوابى نوع من الرمى، وأن أنواع الرمى ثلاثه: المحاطه والمبادرة والحوابى وقد ذكرنا المحاطه والمبادرة.
فأما الحواب فهو أن يحتسب بالاصابة في الشن، وإن أصاب أحدهما الهدف على شبر من الشن فاحتسب به ثم أصاب الاخر الهدف فتر من الشن احتسب به وأسقط إصابة الشبر لانها أبعد، ولو أصاب أحدهما خارج الشن واحتسب به وأصاب الاخر في الشن احتسب به وأسقط إصابة خارج الشن، ولو أصاب أحدهما الشن فاحتسب به وأصاب الاخر الدارة التى في الشن فاحتسب به وأصاب الاخر العظم الذى في دارة الشن احتسب وأسقط إصابة الدارة فيكون كل قريب مسقطا لما هو أبعد منه، فهذا نوع من الرمى ذكره الشافعي في كتاب الام وذكر مذاهب الرماة فيه وفرع عليه، ولم يذكره المزني إما لاختصاره، وإما لانه غير موافق لرأيه لضيقه وكثره خطره، لانه يثبت الاصابة بعد إثباتها، والمذهب كما ذكر المصنف جوازه لامرين.
(أحدهما)
أنه نوع معهود في الرمى فأشبه المحاطه والمبادرة.
(والثانى)
أنه أبعث على التمرن على الحذق، والتمرس بمعاطاة الدقة في التصويب والتسديد فصح، فإذا كان كذلك في جواز النضال على إصابة الحواب وكان عقدهما على إصابة خمسه من عشرين فلها إذا تناضلا ثلاثة أحوال.(15/182)
1 - أن يقصرا عن عدد الاصابة.
2 - أن يستوفيا عدد الاصابة.
3 - أن يستوفيها أحدهما ويقصر الاخر عنها.
فأما الاول كأن يصيب كل منهما أقل من خمسة فقد ارتفع حكم العقد بنقصان الاصابة من العد والمشروط من غير أن يكون فيها ناضل أو منضول ولا اعتبار بالقرب والبعد مع نقصان العدد.
وأما الثانية من استيفائهما معا عدد الاصابة فيصيب كل منهما خمسة فصاعدا، فيعتبر حينئذ حال القرب والبعد، فإنهما
لا يخلو أمرهما من: (أ) أن تكون الاصابات في الهدف، وقد تساوت في القرب من الشن، وليست بعضها بأقرب إليه من بعض فقد تكافئا ; وليس فيهما ناضل ولا منضول وهكذا لو تقدم لكل واحد منهما سهم كان أقرب إلى الشن من باقى سهامه وتساوى السهمان المتقدمان في القرب من الشن كانا سواء لا ناضل فيهما ولا منضول، فإن تقدم لاحدهما سهم وللآخر سهمان وتساوت السهام الثلاثة في قربها من الشن ففيه وجهان.
أحدهما: أن المتقرب بسهمين ناضل للمتقرب بسهم لفضله في العدد.
والثانى أنهما سواء لا ناضل فيهما ولا منضول، لان النضال الحواب موضوع على القرب دون زيادة العدد.
(ب) أن تكون سهام أحدهما أقرب إلى الشن من سهام الاخر، فأقربهما إلى الشن هو الناضل، وأبعدهما من الشن هو المنضول، وهكذا لو تقدم لاحدهما سهم واحد فكان أقرب إلى الشن من جميع سهام الاخر أسقط به سهام صاحبه ولم يسقط به سهام نفسه، وكان هو الناضل بسهم الاقرب.
(ج) أن تكون سهام أحدهما في الهدف وسهام الاخر في الشن فيكون المصيب في الشن هو الناضل والمصيب في الهدف منضول.
وهكذا لو كان لاحدهما سهم واحد في الشن وجميع سهام الاخر خارج الشن كان المصيب في الشن هو الناضل بسهمه الواحد، وقد أسقط به سهام صاحبه ولم يسقط به سهام نفسه، وإن كانت أبعد إلى الشن من سهام صاحبه(15/183)
(د) أن تكون سهامهما جميعا صائبة في الشن، ولكن سهام أحدهما أو بعضهما في الدارة وسهام الآخر خارج الدارة وإن كان جميعا في الشن ففيه وجهان.
(أحدهما)
وقد حكاه الشافعي عن بعض الرماة أن المصيب في الدارة ناضل والمصيب خارج الدارة منضول قطب الاصابة.
(والوجه الثاني) وإليه أشار الشافعي في اختياره أنهما سواء وليس منهما ناضل ولا منضول، لان جميع الشن محل الاصابة.
وأما الحال الثالثة: وهو أن يستوفى أحدهما إصابة الخمس ويقصر الاخر عنها فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يكون مستوفى الاصابة أقرب سهاما إلى الشن أو مساويا صاحبه، فيكون ناضلا والمقصر منضولا.
والثانى: أن يكون المقصر في الاصابة أقرب سهاما من المستوفى لها، فليس فيهما ناضل ولا منضول، لان المستوفى قد سقطت سهامه ببعدها، والمقصر قد سقطت سهامه بنقصانها، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان النضال بين حزبين جاز.
وحكى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قال: لا يجوز لانه يأخذ كل واحد منهم بفعل غيره، والمذهب الاول لما رويناه في أول الكتاب من حديث سلمة بن الاكوع، وينصب كل واحد من الحزبين زعيما يتوكل لهم في العقد، ولا يجوز أن يكون زعيم الحزبين واحدا، كما لا يجوز أن يكون وكيل المشترى والبائع واحد، ولا يجوز إلا على حزبين متساويى العدد لان القصد معرفة الحذق، فإذا تفاضلا في العدد فضل أحدهما الاخر بكثرة العدد لا بالحذق وجودة الرمى، ويجب أن يتعين الرماة كما قلنا في نضال الاثنين، ولا يجوز أن يتعينوا إلا بالاختيار، فإن اقترع الزعيمان على أن من خرجت عليه قرعة أحدهما كان معه لم يجز، لانه ربما أخرجت القرعة الحذاق لاحد الحزبين والضعفاء للحزب الاخر، فإن عدل بين الحزبين في القوة والضعف بالاختيار، ثم اقترع الزعيمان على أن من خرجت قرعته على أحد الحزبين كان معه لم يجز،
لانه عقد معاوضة فلم يجز تعيين المعقود عليه فيه بالقرعة كالبيع.(15/184)
ويجب أن يكون على عدد من الرشق معلوم، فأن كان عدد كل حزب ثلاثة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ثلث صحيح كالثلاث والستين، وإن كانوا أربعة اعتبر أن يكون عدد الرشق له ربع صحيح كالاربعين والثمانين، لانه إذا لم يفعل ذلك بقى سهم ولا يمكن اشتراك جماعة في سهم واحد، فإن خرج في أحد الحزبين من لا يحسن الرمى بطل العقد فيه، لانه ليس بمحل في العقد وسقط من الحزب الاخر بإزائه واحد، كما إذا بطل البيع في أحد العبدين سقط ما في مقابلته من الثمن وهل يبطل العقد في الباقي من الحزبين؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة.
فإن قلنا: لا يبطل في الباقي ثبت للحزبين الخيار في فسخ العقد، لان الصفقة تبعضت عليهم بغير اختيارهم، فان اختاروا البقاء على العقد وتنازعوا فيمن يخرج في مقابلته من الحزب الاخر فسخ العقد، لانه تعذر إمضاؤه على مقتضاه ففسخ.
ومن أصحابنا من قال: يبطل في الجميع قولا واحدا، لان من في مقابلته من الحزب الاخر لا يتعين، ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة، فبطل في الجميع.
فإن نضل أحد الحزبين الاخر ففى قسمة المال بين الناضلين وجهان.
أحدهما: تقسم بينهم بالسوية كما يجب على المنضولين بينهم بالسوية، فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب استحق.
والثانى: تقسم بينهم على قدر إصاباتهم لانهم استحقوا بالاصابة فاختلف باختلاف الاصابة، ويخالف ما لزم المنضولين، فإن ذلك وجب بالالتزام والاستحقاق بالرمي، فاعتبر بقدر الاصابة، فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب لم يستحق شيئا، وبالله التوفيق.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي رضى الله عنه: إذا اقتسموا ثلاثة وثلاثة
فلا يجوز أن يقترعوا وليقسموا قسما معروفا.
قلت: إذا صح هذا فالنضال ضربان: أفراد وأحزاب، فأما نضال الافراد فقد مضى في فصول الكتاب.
وأما نضال الاحزاب فهو أن يناضل حزبان يدخل في كل واحد منهما جماعة يتقدم عليهم أحدهم فيعقد النضال على جميعهم فهذا يصح على شروطه، وهو منصوص الشافعي وعليه جماعة أصحابه وجمهورهم.(15/185)
وحكى عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يصح لان كل واحد يأخذ بفعل غيره وهذا فاسد لانهم إذا اشتركوا صار فعل جميعهم واحدا فاشتركوا في موجبه لاشتراكهم في فعله مع ورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يرمون فقال: ارموا وأنا مع بنى الاذرع، فأمسك القوم قسيهم وقالوا: يا رسول الله من كنت معه غلب، فقال: ارموا وأنا معكم كلكم فدل على أنهم كانوا حزبين مشتركين ولان مقصود النضال التحريض على الاستعداد للحرب والجهاد، وهو بالاحزاب والمجموعات أشد تحريضا وأكثر اجتهادا، وأدعى إلى التنسيق بين افراد الجماعة وربطهم بالنظام والقيادة، وتلك لعمر الله أعظم أسباب النصر في الجهاد.
فإذا ثبت جوازه في الحزبين بجوازه بين الاثنين فلصحته خمسه شروط: (أحدها) أن يتساوى عدد الحزبين، ولا يفضل أحدهما على الاخر فيكونوا ثلاثة وثلاثة، أو خمسة وخمسة أو أقل أو أكثر، فان فضل أحدهما على الآخر برجل بطل العقد لان مقصوده معرفة أحذق الحزبين، فإذا تفاضلوا تغالبوا بكثرة العدد لا بحذق الرمى.
(الثاني) أن يكون العقد عليهم باذنهم، فان لم يأذنوا فيه لم يصح، لانه عقد معاوضه متردد بين الاجارة والجعالة، وكل واحد منهما لا يصح إلا باذن واختيار
فان عقد عليهم من لم يستأذنهم بطل (والثالث) أن يعينوا على متولى العقد منهم فيكون فيه متقدما عليهم ونائبا عنهم، فان لم يعينوا واحدا منهم لم يصح العقد عليهم لانه توكيل فلم يصح إلا بالتعيين، ويختار أن يكون زعيم كل حزب أحذقهم وأطوعهم، لان صفة الزعيم في العرف أن يكون متقدما في الصناعة، مطاعا في الجماعة، فان تقدموه في الرمى وأطاعوه في الاتباع جاز، وان تقدمهم في الرمى ولم يطيعوا في الاتباع لم يجز، لان أهم خصائص الزعيم أن يكون مطاعا، فإذا أمر ولم يتبعه أحد فلا يجوز العقد عليه.
(والرابع) أن يكون زعيم كل واحد من الحزبين غير زعيم الحزب الاخر(15/186)
لتصح نيابته عنهم في العقد عليهم مع الحزب الاخر، فان كان زعيم الحزبين واحدا لم يصح كما لا يصح أن يكون الوكيل في العقد بائعا ومشتريا.
والشرط الخامس وهو مسألة الكتاب أن يتعين رماة كل حزب منهما قبل العقد باتفاق ومراضاة، فان عقده الزعيمان عليهم ليقترعوا على من يكون في كل حزب لم يصح، مثال ذلك: أن يكون الحزبان ثلاثة وثلاثة، فيقول الزعيمان نقترع عليهم فمن حرجت قرعتي عليه كان معى، ومن خرجت قرعتك عليه كان معك، فهذا لا يصح لامرين.
أحدهما: أنهم أصل في عقد فلم يصح عقده على القرعة كابتياع أحد العينين بالقرعة والثانى: أنه ربما أخرجت القرعة حذاقهم لاحد الحزبين، وضعفاءهم للحزب الآخر، فخرج عن مقصود التحريض في التناضل، فان عدلوا بين الحزبين في الحذق والضعف قبل العقد على أن يقترع الزعيمان على كل واحد من الحزبين بعد العقد لم يصح التعليل الاول من كونهم في العقد أصلا دون التعليل الثاني من اجتماع الحذاق في أحد الحزبين، لانهم قد رفعوه بالتعديل، فإذا ثبت تعينهم قبل
العقد بغير قرعة تعينوا فيه بأحد أمرين، إما بالاشارة إليهم إذا حضروا، وإن لم يعرفوا، وإما باسمائهم إذا عرفوا، فان تنازعوا عند الاختيار قبل العقد فعدلوا إلى القرعة في التقدم بالاختيار جاز لانها قرعة في الاختيار وليست بقرعة في العقد، فإذا قرع أحد الزعيمين اختار من الستة واحدا ثم اختار الزعيم الثاني واحدا، ثم دعا الزعيم الاول فاختار ثانيا واختار الزعيم الثاني ثانيا، ثم عاد الاول فاختار ثالثا، وأخذ الاخر الثالث الباقي.
ولم يجز أن يختار الاول الثلاثة في حال واحدة لانه لا يختار إلا الاحذق، فيجتمع الحذاق في حزب والضعفاء في حزب فيعدم مقصود التناضل من التحريض.
(فرع)
فإذا تكاملت الشروط الخمسه في عقد النضال بين الحزبين لم يخل حالهم في مال السبق من ثلاثة أقسام.
أحدها: أن يخرجها أحد الحزبين دون الاخر، فهذا يصح سواء انفرد زعيم الحزب باخراجه أو اشتركوا فيه، ويكون الحزب المخرج للسبق معطيا إن كان(15/187)
منضولا وغير آخذ إن كان ناضلا ن ويكون الحزب الآخر آخذا إن كان ناضلا وغير معط إن كان منضولا، وهذا يغنى عن المحلل لانه محلل.
والقسم الثاني: أن يكون الحزبان مخرجين، ويختص باخراج المال زعيم الحزبين فهذا يصح ويغنى عن محلل، لان مدخل المحلل ليأخذ ولا يعطى، ورجال كل حزب يأخذون ولا يعطون، فإذا نضل أحد الحزبين أخذ زعيمهم مال نفسه، وقسم مال الحزب المنضول بين أصحابه، فان كان الزعيم راميا معهم شاركهم في مال السبق، وإن لم يرم معهم فلا حق له فيه، لانه لا يجوز أن يتملك مال النضال من لم يناضل، وصار معهم كالامين والشاهد، فان رضخوا له بشئ منه عن طيب أنفسهم جاز وكان قطوعا، فان شرط عليهم أن يأخذ معهم بطل الشرط ولم
يبطل به العقد لانه ليس بينه وبين أصحابه عقد يبطل بفساد شرطه، وإنما العقد بين الحزبين وليس لهذا الشرط تأثير فيه.
والقسم الثالث: أن يخرجا المال ويشترك أهل كل حزب في إخراجه، فهذا لا يصح حتى يدخل بين الحزبين حزب ثالث يكون محللا يكافئ كل حزب في العدد والرمى يأخذ ولا يعطى كما يعتبر في إخراج المتناضلين المال أن يدخل بينهما محلل ثالث يأخذ ولا يعطى.
فإذا انعقد النضال بين الحزبين على ما وصفنا اشتمل الكلام بعد تمامه بالمال المسمى فيه على ثلاث مسائل.
(إحداها) في حكم المال المخرج في كل حزب، ولهم فيه حالتان.
احداهما: أن لا يسموا قسط كل واحد من جماعتهم فيشتركوا في التزامه بالسوية على أعدادهم من غير تفاضل فيه لاستوائهم في التزامه، فان كان زعيمهم راميا معهم دخل في التزامه كأحدهم كما يدخل في الاخذ معهم، فان لم يكن راميا لم يلزم معهم كما لا يأخذ معهم.
والثانية: أن يسموا قسط كل واحد منهم في التزام مال السبق فهو على ضربين أن يتساوى في التسمية فيصح، لانه موافق لحكم الاطلاق.
والضرب الثاني: أن يتفاضلوا فيه، ففى جوازه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لتساويهم في العقد فوجب أن يتساووا في الالتزام.(15/188)
(والثانى)
يجوز لانه عن اتفاق لم يتضمنه فيما بينهم عقد فاعتبر فيه التراضي فان شرطوا أن يكون المال بينهم مقسطا على صواب كل واحد منهم وخطئه لم يجز لانه على شرط مستقبل مجهول غير معلوم فبطل ولا يؤثر بطلانه في العقد لانه ليس فيما بينهم عقد وكانوا متساوين فيه.
المسألة الثانية في حكم نضالهما وفيما يحتسب به من الصواب والخطأ، والمعتبر فيه أن يكون عدد الرشق ثلاثين أو ستين أو تسعين أو عددا يكون له ثلث صحيح، ولا يجوز أن يكون عدد الرشق خمسين ولا سبعين ولا مائة، لانه ليس له ثلث صحيح.
وان كان عدد الحزب أربعة كان عدد الرشق أربعين أو ماله ربع صحيح، ولا يجوز أن يكون عدد الرشق ما ليس له ربع صحيح، وهكذا ان كان عدد الحزب خمسة وجب أن يكون عدد الرشق ماله خمس صحيح لانه إذا لم ينقسم عدد الرشق على عدد الحزب الا بكسر يدخل عليهم لم يصح التزامهم له لان اشتراكهم في رمى السهم لا يصح، فأما عدد الاصابة المشروطة فيجوز أن لا ينقسم على عددهم لان الاعتبار فيها باصابتهم لا باشتراكهم، فإذا استقر هذا بينهم لزعيم كل حزب باصابات كل واحد من أصحابه واحتسب عليه خطأ كل واحد منهم سواء تساوى رجال الحزب في الاصابة وهو نادر أو تفاضلوا فيها وهو الغالب، فإذا جمعت الاصابتان والمشروط فيها اصابة خمسين من مائة لم يخل مجموع الاصابتين من ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يكون المجموع من اصابة كل حزب خمسين فصاعدا، فليس فيهما منضول، وان تفاضلا في النقصان من الخمسين.
والحال الثانية: أن مجموع اصابة كل منهما أقل من خمسين، فليس فيهما منضول لتساويهما في النقصان.
والحال الثالثة: أن يكون مجموع اصابة احداهما خمسين فصاعدا، ومجموع اصابة الاخر أقل من خمسين فمستكمل الخمسين هو الناضل، وان كان أحدهم في(15/189)
الاصابة مقلا فالمقصور عن الخمسين هو المنضول، وإن كان أحدهم في الاصابة
مكثرا فيصير مقلل الاصابة آخذا ومكثرها معطيا، لان حزب المقلل ناضل وحزب المكثر منضول.
المسألة الثالثة في حكم المال إذا استحقه الحزب الناضل.
فيقسم بين جميعهم وفى قسمته بينهم وجهان:
(أحدهما)
أنه مقسوم بينهم بالسوية مع تفاضلهم في الاصابة لاشتراكهم في العقد الذى أوجب تساويهم فيه.
والوجه الثاني: أنه يقسم بينهم على قدر إصاباتهم لانهم بالاصابة قد استحقوه فلا يكافئ مقل الاصابة مكثرها.
وخالف التزام المنضولين حيث تساووا فيه مع اختلافهم في الخطأ، لان الالتزام قبل الرمى فلم يعتبر بالخطأ والاستحقاق بعد الرمى، فصار معتبرا بالصواب.
فعلى هذا لو أخطأ واحد من أهل الحزب الناضل في جميع سهامه ففى خروجه من الاستحقاق وجهان:
(أحدهما)
يستحق معهم وإن لم يصب إذا قيل بالوجه الاول: انه مقسوم بينهم بالسوية لا على قدر الاصابة.
والوجه الثاني أنه يخرج بالخطأ من الاستحقاق ويقسم بين من عداه إذا قيل بالوجه الثاني إنه مقسوم بينهم على قدر الاصابة ويقابل هذا أن يكون في الحزب المنضول من أصاب بجميع سهامه.
ففى خروجه من التزام المال وجهان.
(أحدهما)
يخرج من التزامه إذا قيل بخروج المخطئ من استحقاقه والوجه الثاني: لا يخرج من الالتزام ويكون فيه أسوة من أخطا إذا قيل بدخول المخطئ في الاستحقاق، وأنه فيه أسوة من أصاب.
والله أعلم بالصواب(15/190)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب بيان الاصابة والخطأ في الرمى)
إذا عقد على إصابة الغرض فأصاب الشن أو الجريد الذى يشد فيه الشن أو العرى وهو السير الذى يشد به الشن على الجريد، حسب له.
لان ذلك كله من الغرض، وإن أصاب العلاقة ففيه قولان
(أحدهما)
يحسب له، لانه من جملة الغرض، ألا ترى أنه إذا مد امتد معه فأشبه العرى
(والثانى)
لا يحسب لان العلاقة ما يعلق به الغرض.
فأما الغرض فهو الشن وما يحيط به، وإن شرط اصابة الخاصرة وهو الجنب من اليمين واليسار فأصاب غيرهما لم يحسب له.
لانه لم يصب الخاصرة.
وان شرط إصابة الشن فأصاب العروة - وهو السير أو العلاقة - لم يحسب لان ذلك كله غير الشن، فإن أصاب سهما في الغرض - فان كان السهم متعلقا بنصله وباقيه خارج الغرض - لم يحسب له ولا عليه، لان بينه وبين الغرض طول السهم، ولا يدرى لو لم يكن هذا السهم هل كان يصيب الغرض أم لا يصيب؟ وان كان السهم قد غرق في الغرض إلى فوقه حسب له، لان العقد على اصابة الغرض، ومعلوم انه لو لم يكن هذا لكان يصيب الغرض.
فان خرج السهم من القوس فهبت ريح فنقلت الغرض إلى موضع آخر فأصاب السهم موضعه حسب له وان أصاب الغرض في الموضع الذى انتقل إليه حسب عليه في الخطأ لانه أخطأ في الرمى، وانما أصاب بفعل الريح لا بفعله.
وان رمى وفى الجو ريح ضعيفة فارسل السهم مفارقا للغرض وأمال يده ليصيب مع الريح فأصاب الغرض، أو كانت الريح خلفه فنزع نزعا قريبا ليصيب مع معاونة الريح فأصاب حسب له، لانه أصاب بفراهته وحذقه، وان أخطأ حسب عليه، لانه أخطأ بسوء رميه، ولانه لو أصاب مع الريح لحسب له، فإذا أخطأ معها حسب عليه.
وان كانت الريح قوية لا حيلة له فيها لم يحسب له إذا أصاب، لانه لم يصب بحسن رميه، ولا يحسب عليه إذا أخطأ لانه لم يخطئ بسوء رميه، وانما أخطأ(15/191)
بالرمي في غير وقته، وان رمى من غير ريح فثارت ريح بعد خروج السهم من القوس فأخطأ لم يحسب عليه، لانه لم يخطئ بسوء رميه، وانما أخطأ بعارض الريح.
وان أصاب فقد قال بعض أصحابنا: فيه وجهان بناء على القولين في إصابة السهم المزدلف، وعندي انه لا يحسب له قولا واحدا لان المزدلف انما أصاب الغرض بحدة رميه ومع الريح لا يعلم انه أصاب برميه، وان رمى سهما فأصاب الغرض بغوقه لم يحسب له لان ذلك من أسوأ الرمى وأردئه
(فصل)
وان انكسر القوس أو انقطع الوتر، أو أصابت يده ريح فرمى وأصاب حسب له، لان اصابته مع اختلال الالة أدل على حذقه، فان أخطأ لم يحسب عليه في الخطأ لانه لم يخطئ بسوء رميه وانما أخطأ بعارض.
وان أغرق السهم فخرج من الجانب الاخر نظرت، فان أصاب حسب له لان اصابته مع الاغراق أدل على حذقه، وان أخطأ لم يحسب عليه.
ومن أصحابنا من قال: يحسب عليه في الخطأ لانه اخطا في مد القوس، والمنصوص هو الاول، لان الاغراق ليس من سوء الرمى، وانما هو لمعنى قبل الرمى فهو كانقطاع الوتر وانكسار القوس، وان انكسر السهم بعد خروجه من القوس وسقط دون الغرض لم يحسب عليه في الخطأ لانه انما لم يصب لفساد الالة لسوء الرمى، وان أصاب بما فيه النصل حسب له لان اصابته مع فساد الالة ادل على حذقه، وان أصابه بالموضع الاخر لم يحسب له لانه لم يصب، ولم يحسب عليه لان خطأه لفساد الالة لا لسوء الرمى.
(فصل)
وان عرض دون الغرض عارض من انسان أو بهيمة نظرت
فان رد السهم ولم يصل لم يحسب عليه لانه لم يصل للعارض لا لسوء الرمى وان نفذ السهم وأصاب حسب له، لان إصابته مع العارض أدل على حذقه.
وحكى أن الكسعى كان راميا فخرج ذات ليلة فرأى ظبيا فرمى فأنفذه وخرج السهم فأصاب حجرا وقدح فيه نارا فرأى ضوء النار فظن أنه أخطأ فكسر القوس وقطع إبهامه، فلما أصبح رأى الظبى صريعا قد نفذ فيه سهمه فندم فضربت به العرب مثلا وقال الشاعر: ندمت ندامة الكسعى لما
* رأت عيناه ما صنعت يداه(15/192)
وان رمى فعارضه عارض فعثر به السهم وجاوز الغرض ولم يصب فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه يحسب عليه في الخطأ، لانه أخطأ بسوء الرمى لا للعارض، لانه لو كان للعارض تأثير لوقع سهمه دون الغرض فلما جاوزه ولم يصب دل على انه أخطأ بسوء رميه فحسب عليه في الخطأ.
(والثانى)
انه لا يحسب عليه لان العارض قد يشوش الرمى فيقصر عن الغرض وقد يجاوزه.
وان رمى السهم فأصاب الارض وازدلف فأصاب الغرض ففيه قولان
(أحدهما)
يحسب لانه أصاب الغرض بالنزعة التى أرسلها وما عرض دونها من الارض لا يمنع الاحتساب كما لو عرض دونه شئ فهتكه وأصاب الغرض
(والثانى)
لا يحسب له، لان السهم خرج عن الرمى إلى غير الغرض وانما اعانته الارض حتى ازدلف عنها إلى الغرض فلم يحسب له، وان ازدلف ولم يصب الغرض ففيه وجهان
(أحدهما)
يحسب عليه في الخطأ لانه انما ازدلف بسوء رميه لان الحاذق لا يزدلف سهمه
(والثانى)
لا يحسب عليه لان الارض تشوش السهم وتزيله عن سننه فإذا أخطأ لم يكن من سوء رميه (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أغرق أحدهما السهم من
يده ولم يبلغ الغرض كان له أن يعود من قبل العارض فأما إغراق السهم فهو أن يزيد في مد القوس لفضل قوته حى يستغرق السهم فيخرج من جانب الوتر المعهود إلى جانب الاخر، فان من أجناس القسى والسهام ما يكون مخرج السهم منها عن يمين الرامى جاريا على ابهامه فيكون اغراقه أن يخرج السهم باستيفاء المد إلى يساره جاريا على سبابته، فيكون اغراقه ان يخرج السهم باستيفاء المد إلى يساره جاريا على سبابته، ومنها ما يكون مخرجه على يسار الرامى جاريا على سبابته فيكون اغراقه أن يخرج على يمينه جاريا على ابهامه، فإذا أغرق السهم قال الشافعي: لم يكن اغراقه من سوء الرمى وانما هو لعارض فلا يحتسب عليه ان أخطأ به، وفيه عندي نظر، لانه إذا لم يمد القوس بحسب الحاجة حتى زاد فيه فأغرق أو نقص فقصر كان بسوء الرمى أشبه، فإذا أخطأ بالسهم المغرق لم يحتسب عليه على مذهب الشافعي، وان أصاب به احتسب له لان الاصابة به مع المحلل أدل على حذق الرامى من الاصابة مع الاستقامة(15/193)
وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو أرسله مفارقا للشن فهبت ريح فصرفته إليه ن أو مقصر فأسرعت به فأصاب حسب مصيبا ولا حكم للريح اه.
إننا نعلم أن للريح تأثير في تغيير مجرى السهم عن جهته، وحذاق الرماة يعرفون مخرج السهم عن القوس هل هو مصيب أو مخطئ؟ فإذا خرج السهم فغيرته الريح فهو على ضربين.
(أحدهما)
أن يخرج مفارقا للشن فتعدل به الريح إلى الشن فيصيب أو يكون مقصرا عن الهدف فهبته الريح حتى أصاب فتعتبر حال الريح، فان كانت ضعيفة كان محسوبا في الاصابة لاننا على يقين من تأثير الرمى وفى شك من تأثير الريح، وإن كانت الريح قوية نظر، فإن كانت موجودة عند الارسال كان محسوبا في
الاصابة لانه قد اجتهد في التحرز من تأثير الريح وحسب حسابها بتحريف سهمه فأصاب باجتهاده ورميه، وإن حدثت الريح بعد إرسال السهم ففى الاحتساب به وجهان تخريجا من اختلاف قوليه في الاحتساب بإصابة المزدلف.
أحدهما: يحتسب به مصيبا إذا احتسبت إصابة المزدلف.
والوجه الثاني: لا يحتسب مصيبا ولا مخطئا، إذا لم يحتسب باصابة المزدلف.
(والضرب الثاني) أن يخرج السهم موافقا للهدف فتعدل به الريح حتى يخرج عن الهدف فيعتبر حال الريح، فان كانت طارئة بعد خروج السهم عن القوس ألغى السهم ولم يحتسب به في الخطأ، لان التحرز من حدوث الريح غير ممكن، فلم يذهب إلى سوء الرمى، وإن كانت الريح موجودة عند خروج السهم نظر فيها فان كانت قوية لم يحتسب به في الخطأ لانه أخطا في اجتهاده الذى يتحرز به من الريح، ولم يخطئ في سوء الرمى.
وإن كانت الريح ضعيفة ففى الاحتساب به في الخطأ وجهان.
أحدهما: يكون خطأ لاننا على يقين من تأثير الرمى وفى شك من تأثير الريح.
والثانى لا يكون محسوبا في الخط لان الريح تفسد صنيع المحسن، وإن قلت كما تفسده إذا كثرت فإذا أزالت الريح الشن عن موضعه إلى غيره لم يخل حال السهم بعد زوال الشن من ثلاثة أحوال.(15/194)
1 - أن يقع في غير الشن وفى غير موضعه الذى كان فيه فيحتسب به مخطئا لانه وقع في غير محل الاصابة قبل الريح وبعدها.
2 - أن يقع في الموضع الذى كان فيه الشن في الهدف فيحتسب مصيبا لوقوعه في محل الاصابة.
3 - أن يقع في الشن بعد زواله عن موضعه، فهذا على ضربين.
أحدهما:
أن يزول الشن عن موضعه بعد خروج السهم فتحتسب به في الخطأ لوقوعه في غير محل الاصابة عند خروج السهم.
والضرب الثاني: أن يخرج السهم بعد زوال الشن عن موضعه وعلم الرامى بزواله فينظر في الموضع الذى صار فيه، فان كان خارجا من الهدف لم يحتسب به مصيبا ولا مخطئا لخروجه عن محل الصواب والخطأ، وان كان مماثلا لموضعه من الهدف احتسب به مصيبا، لانه قد صار محلا للاصابة، والله تعالى أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وكذلك لو انقطع وتره أو انكسر قوسه فلم يبلغ الغرض، أو عرض دونه دابة أو إنسان فأصابه أو عرض له في يده ما لا يمر السهم معه كان له أن يعود به.
قلت: إذا انقطع وتره أو انكسر قوسه فقصر وقع السهم وأخطأ لم يحتسب عليه، لانه لم يخطئ لسوء رميه، ولكن لنقص آلته، ولو أصاب به كان محسوبا من اصابته لانه أدل على حذقة، وهكذا لو عرض دون الهدف عارض من بهيمة أو انسان وقع السهم فيه ومنع من وصوله إلى الهدف لم يحتسب عليه وأعيد السهم إليه، فان خرق السهم الحائل ونفذ فيه حتى وصل إلى الهدف فأصاب كان محسوبا من إصابته لانه بالاصابة مع هذا العارض أشد وأرمى، ويسمى هذا السهم مارقا.
وقد كان الكسعى في العرب راميا وقصته كما ساقها المصنف على وجهها، والكسعى هو محارب بن قيس من كسيعه، وقيل: هو من بنى محارب من قحطان واسمه عامر بن الحارث، وقد قال عن نفسه أو قيل بلسان حاله فيما جرت عليه عادة القصاص من تسجيل الاخبار بالشعر على لسان أصحابها:(15/195)
ندمت ندامة لو أن نفسي
* تطاوعني إذن لقطعت خمسى
تبين لى سفاه الرأى منى
* لعمر أبيك حين كسرت قوسى وهكذا لو عرض للرامي علة في يده أو أخذته ريح في يديه ضعف بها عن مد قوسه لم يحتسب عليه إن قصر أو أخطا، لانه لعارض يمنع وليس من سوء رمى أو قلة حذق.
قال الشافعي رضى الله عنه: فأما إن جاز السهم وأجاز من وراء الناس فهذا سوء رمى وليس بعارض غلب عليه فلا يرد إليه.
يقال: جاز السهم إذا مر في أحد جانبى الهدف ويسمى خاصر وجمعه خواصر، لانه في أحد الجانبين مأخوذ من الخاصرة لانها في جانبى الانسان، ويقال: أجاز السهم إذا وقع وراء الهدف، فإذا جاز السهم وسقط في جانب الهدف أو أجاز فوقع وراء الهدف كان محسوبا من خطئة، لانه منسوب إلى سوء رميه، وليس بمنسوب إلى عارض في يديه أو إليه.
وقال أبو على بن أبى هريرة: الجائز أن يقع في الهدف عن أحد جانبى الشن فعلى هذا إن كانت الاصابة مشروطة في الشن كان الجائز مخطئا، وإن كانت مشروطة في الهدف كان الجائز مصيبا، ويجوز أن يشترطا أن تكون إصابة سهامها جائزة فيحتسب بالجائز ولا يحتسب بغير الجائز.
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو كان الشن منصوبا فمرق منه كان عندي خاسقا، ومن الرماة من لا يحتسبه إذا لم يثبت فيه.
أما السهم المارق فهو أن ينفذ في الشن وهو منصوب فوق الهدف ويخرج منه فيقع وراء الهدف فيحتسب به في القارع، فأما الخاسق ففى الاحتساب به قولان أحدهما: وهو منصوص الشافعي أنه يحتسب به خاسقا اعتبارا بالمعنى وأنه زائد على الخسق فيؤخذ فيه معنى الخسق.
والقول الثاني حكاه الشافعي عن بعض الرماة أنه لا يحتسب به خاسقا اعتبارا بالاسم لانه يسمى مارقا ولا يسمى خاسقا، فمن
أصحابنا من أثبت هذا القول للشافعي، ومنهم من نفاه عنه، لانه أضافه إلى غيره ولا يكون مخطئا، وإن لم يحتسب خاسقا لا يختلف فيه أصحابنا.(15/196)
وأما السهم المزدلف فهو أن يقع على الارض ثم يزدلف منها بحمولته وحدته فيصير في الهدف، ففى الاحتساب به مصيبا قولان.
أحدهما: يحتسب به مصيبا لانه بحدة الرمى أصاب، والقول الثاني: ليس بمصيب لخروجه من الرامى إلى غير الهدف، وإنما أعادته الارض حين ازدلف عنها في الهدف.
قال أبو إسحاق المروزى: ومن أصحابنا من لم يخرج المزدلف على قولين، وحمله على اختلاف حالين باعتبار حاله عند ملاقاة الارض، فإن ضعفت حموته بعد ازدلافه ولانت كان محسوبا في الاصابة، وإن قويت وصار بعد ازدلافه أحد لم يحتسب به مصيبا، ويجوز أن يتناضلا على مروق السهم ولا يجوز أن يتناضلا على ازدلافه، لان مروق السهم من فعل الرامى، وازدلافه من تأثير الارض.
فعلى هذا في الاحتساب به مخطئا إذا لم يحتسب به مصيبا وجهان.
أحدهما: يكون مخطئا لانه من سوء الرمى.
والثانى: لا يكون مخطئا ما أصاب ويسقط الاعتداد به مصيبا ومخطئا، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان كان العقد على اصابة موصوفة نظرت، فإن كان على القرع فأصاب الغرض وخزق أو خسق أو مرق حسب له لان الشرط هو الاصابة ; وقد حصل ذلك في هذه الانواع.
(فصل)
وان كان الشرط هو الخسق نظرت، فان أصاب الغرض وثبت فيه ثم سقط حسب له، لان الخسق هو أن يثبت وقد ثبت فلم يؤثر زواله بعد ذلك كما لو ثبت ثم نزعه انسان، فان ثقب الموضع بحيث يصلح لثبوت السهم لكنه لم
يثبت ففيه قولان.
(أحدهما)
أنه يحسب له، لان الخسق ان يثقب بحيث يصلح لثبوت السهم وقد فعل ذلك، ولعله لم يثبت لسعة الثقب أو لغلظ لقيه.
(والثانى)
وهو الصيح: انه لا يحسب له لان الاصل عدم الخسق، وانه لم يكن فيه من القوة ما يثبت فيه فلم يحسب له، وان كان الغرض ملصقا بالهدف فأصابه السهم ولم يثبت فيه، فقال الرامى: قد خسق الا أنه لم يثبت فيه لغلظ(15/197)
لقيه من نواة أو حصاة.
وقال رسيله: لم يخسق نظرت، فإن لم يعلم موضع الاصابة من الغرض فالقول قول الرسيل، لان الاصل عدم الخسق، وهل يحلف؟ ينظر فيه فإن فتش الغرض فلم يكن شئ يمنع من ثبوته لم يحلف، لان ما يدعيه الرامى غير ممكن، وإن كان هناك ما يمنع من ثبوته حلف، لان ما يدعيه الرامى غير ممكن.
وإن علم موضع الاصابة ولم يكن فيه ما يمنع من ثبوته فالقول قول الرسيل من غير يمين، لان ما يدعيه الرامى غير ممكن، وإن كان فيه ما يمنع الثبوت ففيه وجهان
(أحدهما)
أن القول قول الرامى، لان المانع شهد له
(والثانى)
أن القول قول الرسيل لان الاصل عدم الخسق، والمانع لا يدل على أنه لو لم يكن لكان خاسقا، ولعله لو لم يكن مانع لكان هذا منتهى رميه فلا يحكم له بالخسق بالشك، وإن كان في الشن خرق أو موضع بال فوقع فيه السهم وثبت في الهدف نظرت، فان كان الموضع الذى ثبت فيه في صلابة الشن اعتد به، لانا نعلم أنه لو كان الشن صحيحا لثبت فيه، وإن كان دون الشن في الصلابة كالتراب والطين الرطب لم يعتد له ولا عليه، لانا لا نعلم أنه لو كان صحيحا هل كان يثبت فيه أم لا؟ فيرد إليه السهم حتى يرميه.
وإن خرمه وثبت ففيه قولان
(أحدهما)
يعتد به لان الخسق هو أن يثبت النصل وقد ثبت
(والثانى)
لا يعتد به لان الخسق أن يثبت السهم في جميع الشن ولم يوجد ذلك، فان مرق السهم فقد قال الشافعي رحمه الله: هو عندي خاسق ومن الرماة من لا يحتسبه، فمن أصحابنا من قال: يحتسب له قولا واحدا وما حكاه عن غيره ليس بقول له.
لان معنى الخسق قد وجد وزيادة، ولانه لو مرق والشرط القرع حسب فكذلك إذا مرق والشرط الخسق وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
يحسب له لما ذكرناه
(والثانى)
لا يحسب له لان الخسق أن يثبت، وما ثبت، ولان في الخسق زيادة حذق وصنعة من نزع القوس بمقدار الخسق، والتعليل الاول أصح، لان هذا يبطل به إذا مرق والشرط القرع، وإن أصاب السن ومرق وثبت في الهدف(15/198)
ووجد على نصله قطعة من الشن والهدف دون الشن في الصلابة فقال الرامى هذا الجلد قطعة سهمي بقوته، وقال الرسيل بل كان في الشن ثقبة وهذه الجلدة كانت قد انقطعت من قبل فحصلت في السهم فالقول قول الرسيل لان الاصل عدم الخسق.
(فصل)
إذا مات أحد الراميين أو ذهبت يده بطل العقد، لان المقصود معرفة حذقه، وقد فات ذلك فبطل العقد كما لو هلك المبيع، وان رمدت عينه أو مرض لم يبطل العقد لانه يمكن استيفاء المعقود عليه بعد زوال العذر، وان أراد أن يفسخ فان قلنا انه كالجعالة كان حكمه حكم الفسخ من غير عذر، وقد بيناه في أول الكتاب، وإن قلنا إنه كالاجارة جاز أن يفسخ، لانه تأخر المعقود عليه فملك الفسخ كما يملك في الاجارة، وإن أراد أحدهما أن يؤخر الرمى للدعة فان قلنا انه كالاجارة أجبر عليه كما أجبر في الاجارة، وان قلنا انه كالجعالة
لم يجبر كما لا يجبر في الجعالة (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو تشارطا المصيب، فمن أصاب الشن ولم يخرق حسب له لانه مصيب قلت: فإذا تشارطا الاصابة احتسب كل مصيب من قارع وخارق وخاسق، لان جميعها مصيب.
وهكذا لو تشارطا الاصابة قرعا احتسب بالقارع وبالمارق وبالخاسق لانه زيادة على القرع.
ولو تشارطا الخواصر احتسب بكل مصيب لان اصابة الخواصر مشتمل على كل مصيب من قارع وخارق وخاسق.
فأما الخواصر فهو ما أصاب جانب الشن، فان شرطا في الرمى لم يحتسب الا به، وان لم يشترطاه احتسب به مع كل مصيب في الشن إذا كانت الاصابة مشروطة في الشن.
وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو تشارطا الخواسق والشن ملصق بالهدف فأصاب ثم رجع فزعم الرامى أنه خسق ثم رجع لغلظ لقيه من حصاة أو غيرها وزعم المصاب عليه أنه لم يخسق، وانما قرع ثم رجع فالقول قوله مع يمينه الا أن تقوم بينة فيؤخذ بها(15/199)
واشتراط الخسق إنما يكون في إصابة الشن دون الهدف، وقد ذكرنا أن الشن وهو جلد ينصب في الهدف تمد أطرافه بأوتار أو خيوط تشد في أوتاد منصوبة في الهدف المبنى، وربما كان ملصقا بحائط الهدف، وربما كان بعيدا منه بنحو من شبر أو ذراع، وهو أبعد ما ينصب، وخسق الشن إذا كان بعيدا من الهدف أوضح منه إذا كان ملصقا به.
فإذا رمى والشن ملصق بالهدف فأصاب الشن ثم سقط بالاصابة خسق فزعم الرامى أنها خسق، ولقى غليظا في الهدف من حصاة أو نواة فرجع وهو خاسق،
وزعم المرمى عليه أنه قرع فسقط ولم يخسق فلهما ثلاثة أحوال: (أحدها) أن يعلم صدق الرامى في قوله بغير يمين، لان الحال شاهدة بصدقه والحال الثانية: أن يعلم صدق المرمى عليه في إنكاره إما بأن لا يرى في الشن خسقا، وإما بأن لا يرى في الهدف غلظا، فالقول قوله ولا يمين عليه، لان الحال شاهدة بصدقه والحال الثالثة: أن يحتمل صدق المدعى وصدق المنكر لان هل في الشن خواسق أم لا، فإن كانت بينة حمل عليها، وإن عدمت البينة فالقول قول المنكر مع يمينه ولا يحتسب به مصيبا، وفى الاحتساب به مخطئا وجهان:
(أحدهما)
يحتسب به في الخطأ إذا لم يحتسب به في الاصابة لوقوف الرامى بين صواب وخطأ.
والوجه الثاني.
لا يحتسب به في الاصابة، لان الاصابة لا يحتسب بها إلا مع اليقين، وكذلك لا يحتسب بالخطأ إلا مع اليقين، فإن نكل المنكر عن اليمين أحلف الرامى.
فإذا حلف احتسب بإصابته قال الشافعي رحمه الله: وإن كان الشن باليا فأصاب موضع الخسق فصار في الهدف فهو مصيب.
وهذا معتبر بالشن والهدف ولهما ثلاثة أحوال
(أحدهما)
أن يكون الهدف أشد من الشن لانه مبنى قد قوى واشتد فإذا وصل السهم إليه من ثقب في الشن(15/200)
ثبت في الهدف الذى هو أقوى من الشن كان ثبوته في الشن الاضعف أجدر.
وهو الذى أراده الشافعي فيحتسب به خاسقا والحال الثانية أن يكون الشن أقوى من الهدف وأشد لانه جلد متين والهدف تراب ثائر أو طين فلا يحتسب به مصيبا ولا مخطئا، أما الاصابة فلجواز
أن لا يخسق الشن.
وأما الخطأ فلعدم ما خسقه مع بلى الشن والحال الثالثة: أن يتساوى الشن والهدف في القوة والضعف فلا يحتسب به مخطئا، وفى الاحتساب به مصيبا وجهان:
(أحدهما)
يحتسب من اصابة الخسق لان ثبوته في الهدف قائم مقام ثبوته في الشن عند تساويهما.
والوجه الثاني: لا يحتسب في اصابة الخسق ويحتسب في اصابة القرع على الاحوال كلها.
وإن صادف السهم في ثقب في الغرض قد ثبت في الهدف مع قطعة من الغرض، فقال الرامى: خسقت، وهذه الجلدة قطعها سهمي لشدة الرمية فأنكر صاحبه وقال: بل هي كانت مقطوعة، فإن علم أن الغرض كان صحيحا حكم بقول الرسيل لان الاصل عدم الخسق.
وقال أحمد وأصحابه القول قول الرامى إذا كان الغرض صحيحا.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا أراد المستبق أن يجلس ولا يرمى وللمستبق فضل له، فسواء قد يكون له الفضل فينضل وعليه الفضل فينضل.
إلى آخر ما قال.
قلت: إذا جلس أحد المتناضلين عن الرمى فله حالتان: احدهما أن يريد به تأخير الرمى عن وقته فلا يخلو أن يكون فيه معذورا أو غير معذور، فإن كان له عذر وطلب التأخير أخر ولم يجبر على التعجيل، سواء قيل بلزومه كالاجارة أو بجوازه كالجعالة، لانه ليس بأوكد من فرض الجمعة التى يجوز التأخر عنها بالعذر وأعذاره في تأخير الرمى ما أثر في نفسه من مرض أو شدة حر أو برد أو أثر في رميه من شدة ريح أو مطر أو أثر في أهله من موت أو حادث نزل أو أثر في ماله من جائحة طرقت أو خوف طرأ.(15/201)
وإن لم يكن له تأخير الرمى عذر: والثمن به الدعة إلى وقت آخر ففى إجباره على التعجيل قولان.
(أحدهما)
يجبر عليه إذا قيل بلزومه كالاجارة.
(والثانى)
لا يجبر على تعجيله إذا قيل بجوازه كالجعالة.
أما الحال الثانية: كأن يريد بالجلوس عن الرمى فسخ العقد فلا يخلو أن يكون معذورا في الفسخ أو غير معذور، فإن كان معذورا في الفسخ وأعذار الفسخ أضيق وأغلظ من أعذار التأخير وهى ما اختصت نفسه من العيوب المانعة من صحة رمية وهى ضربان.
(أحدهما)
مالا يرجى زواله كشلل يده أو ذهاب بصره فالفسخ واقع بحدوث هذا المانع وليس يحتاج إلى فسخه بالقول.
(والضرب الثاني) ما يرجى زواله كمرض يده أو رمد عينيه أو علة جسده فلا ينفسخ العقد بحدوث هذا المانع بخلاف الضرب الاول لامكان الرمى بعد زواله ويكون الفسخ بالقول، وذلك معتبر بحال صاحبه، فإن طلب تعجيل الرمى فله الفسخ لتعذر التعجيل عليه، ويكون استحقاق هذا الفسخ مشتركا بينه وبين صاحبه، ولكل واحد منهما فسخ العقد به.
وأن أجاب صاحبه إلى الانظار بالرمي إلى زوال المرض فهل يكون عذره في الفسخ باقيا؟ أم لا؟ على وجهين.
أحدهما: يكون باقيا في استحقاق الفسخ لئلا تكون ذمته مرتهنة بالعقد.
والوجه الثاني: أن عذر الفسخ قد زال بالانتظار، وليس للمنظر أن يرجع في هذا الانظار، وان جاز له أن يرجع في الانتظار بالديون لان ذلك عن عيب رضى به، وجرى مجرى الانظار بالاعسار، وان لم يكن لطالب الفسخ عذر في الفسخ، فإن قيل بلزوم العقد كالاجارة لم يكن له الفسخ وأخذ به جبرا، فإن امتنع منه حبس عليه كما يحبس بسائر الحقوق إذا امتنع منها فإن طال به الحبس وهو على امتناعه عزر حتى يجيب.
فان قيل بجواز العقد كالجعالة فله الفسخ قبل الرمى وبعد الشروع فيه وقبل ظهور الغلبة، فان ظهرت الغلبة لاحدهما، فان كانت لطالب الفسخ، فله الفسخ وان كانت لغيره ففى استحقاقه للفسخ قولان مضيا.(15/202)
أحدهما: لا يستحقه بعد ظهورها لتفويت الاغراض بعد ظهورها والقول الثاني - وهو الذى نص عليه الشافعي هاهنا - له الفسخ لما علل به من أنه قد يكون له الفضل فينضل، ويكون عليه الفضل فينضل.
(مسألة) إذا عرفت أن الرمى مما يلزم المسلمين حذقه والتمرس عليه لقهر الاعداء وجهادهم لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وعرفت أن السهام والنبال من أسلحة النضال قد استحالت في أعصرنا إلى أسلحة نارية منها ما يصيب بالتوجيه كرشاش بور سعيد واللانكستر والبرتا، ومنها ما يصيب بالتسديد أو التصويب الدقيق كالبندقية حكيم واللى أنفيلد والتوميجن، ومنها ما يعطى مخروطا ناريا باللمس الهين ويسمى آليا، ومنها ما يعطى القذيفة بالضغط بالاصبع ويسمى منفردا، وقليل من حذاق الرماية الذين يستطيعون أن يجعلوا الآلي منفردا، وهو أمر يفتقر إلى قدرة على ضبط حركة الاصبع وسيطرة على لمس الزناد، والفرق بين هذه الآلات والآلات السابقة لا يختلف في حكمه إلا بمقدار ما يراعى من قوة الرمى وبعد ما ترميه الآلات الحديثة ومدى تأثيرها.
وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم الاخذ بآلات غير المسلمين حين حاصر الطائف بالمجانيق، ووجه الصحابة رضوان الله عليهم إلى صناعتها وصناعة الضبور وهى نوع من المدافع البدائية التى تطورت صناعتها حتى بلغت في عصرنا هذا الصاروخ عابر القارات، ويحتسب في الرماية بتلك القذائف دورة الارض حول نفسها ودورتها السنوية وقانون الجاذبية وهو تحتاج إلى معادلات رياضية وحساب دقيق
لنصل إلى أهدافها في قلاع الاعداء فتدمرها تدميرا.
وقد أخرج الشيخان والحاكم وصححه والشافعي وأحمد والنسائي وابن حبان عن عبد الله بن مغفل أن رسول لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَهَى عَنْ الْخَذْفِ وقال إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين) .
فقد وجهنا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ما فيه الاثر الاقوى والاغلاظ البالغ والسلاح الحاسم لارهاب العدو.
فإذا ثبت هذا فان الرماية بالبندقية وغيرها من المستحدثات من فروض الكفايات التى تتأصل بها عزة الامة وتحمى بها حوزتها(15/203)
وتعلى بها رايتها وعلى ولى الامر أن يحرض من وهب من قوة البنية وخفة الحركة وحدة البصر ونور الايمان من ينهض به ويتوفر عليه حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب احياء الموات يستحب احياء الموات لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكله العوافي منها فهو له صدقه) وتملك به الارض لما روى سعيد بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال (من أحيا أرضا ميتة فهى له) ويجوز ذلك من غير اذن الامام للخبر، ولانه تملك مباح فلم يفتقر إلى اذن الامام كالاصطياد.
(فصل)
وأما الموات الذى جرى عليه الملك وباد أهله ولم يعرف مالكه ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يملك بالاحياء لما روى طاوس إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عادى الارض لله ولرسوله، ثم هي لكم بعد) ولانه ان كان في دار الاسلام
فهو كاللقطه التى لا يعرف مالكها، وان كان في دار الحرب فهو كالركاز.
(والثانى)
لا يملك لانه ان كان في دار الاسلام فهو لمسلم أو لذمى أو لبيت المال، فلا يجوز احياؤه وان كان في دار الحرب جاز أن يكون لكافر لا يحل ماله أو لكافر لم تبلغه الدعوة، فلا يحل ماله، ولا يجوز تملكه.
(والثالث) أنه ان كان في دار الاسلام لم يملك، وان كان في دار الحرب ملك، لان ما كان في دار الاسلام فهو في الظاهر لمن له حرمة، وما كان في دار الحرب فهو في الظاهر لمن لا حرمة له.
ولهذا ما يوجد في دار الحرب يخمس وما يوجد في دار الاسلام يجب تعريفه، وان قاتل الكفار عن أرض ولم يحيوها ثم ظهر المسلمون عليها ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز أن تملك بالاحياء، بل هي(15/204)
غنيمة بين الغانمين، لانهم لما منعوا عنها صاروا فيها كالمتحجرين، فلم تملك بالاحياء
(والثانى)
أنه يجوز أن تملك بالاحياء لانهم لم يحدثوا فيها عمارة فجاز أن تملك بالاحياء كسائر الموات.
(فصل)
وما يحتاج إليه المصلحة العامر من المرافق كحريم البئر وفناء الدار والطريق ومسيل الماء لا يجوز احياؤه لانه تابع للعامر فلا يملك بالاحياء ولانا لو جوزنا احياءها أبطلنا الملك في العامر على أهله وكذلك ما بين العامر من الرحاب والشوارع ومقاعد الاسواق لا يجوز تملكه بالاحياء لان الشرع قد ورد بإحياء الموات وهذا من جملة العامر ولانا لو جوزنا ذلك ضيقنا على الناس في أملاكهم وطريقهم وهذا لا يجوز.
(فصل)
ويجوز احياء كل من يملك المال لانه فعل يملك به فجاز من كل من يملك المال كالاصطياد ولا يجوز للكافر أن يملك بالاحياء في دار الاسلام ولا للامام أن يأذن له في ذَلِكَ.
لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (موتان
الارض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) فجمع الموتان وجعلها للمسلمين، فانتفى أن يكون لغيرهم، ولان موات الدار من حقوق الدار والدار للمسلمين، فكان الموات لهم كمرافق المملوك لا يجوز لغير المالك إحياؤه، ولا يجوز للمسلم أن يحيى الموات في بلد صولح الكفار على المقام فيه، لان الموات تابع للبلد، فإذا لم يجز تملك البلد عليهم لم يجز تملك مواته.
(الشرح) حديث جابر رواه أحمد والترمذي وصححه بلفظ (من أحيا أرضا فهى له) وفى لفظ عند احمد وابى داود (من أحاط حائطا على أرض فهى له) ولاحمد وابى داود والطبراني والبيهقي وصححه ابن الجارود من رواية سمرة بن جندب رواه عنه الحسن وفى سماع الحسن من سمرة خلاف معروف بين المحدثين تكلمنا عليه في غير ما موضع، وأخرجه النسائي وابن حبان بنحوه.
أما حديث سعيد بن زبد فقد رواه احمد وابو داود والترمذي بلفظ (من أحيا أرضا ميتة فهى له، وليس لعرق ظالم حق) وأخرجه أيضا النسائي، وحسنه(15/205)
الترمذي وأعله بالارسال ورجح الدارقطني إرساله وقد مضى الاختلاف في الصحابي الذى رواه غير سعيد بن زيد.
أما سعيد بن زيد فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، كنيته أبو الأعور، وهو قرشي عدوى من السابقين الاولين البدريين، ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه، شهد المشاهد كلها، وشهد حصار دمشق وفتحها، وأول من ولى على دمشق في الاسلام: له حديثان في الصحيحين، وانفرد البخاري له بحديث، روى عنه ابن عمر وابو الطفيل وعمرو بن حريث وعروة وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ظالم وطائفة.
وأبوه زيد بن عمر بن نفيل، مات قبل الاسلام على النجاة، لانه خرج يطلب الدين القيم حتى مات.
واخبر النبي صلى الله عليه
وسلم انه يبعث امة وحده يوم القيامة.
وهو ابن عم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقال ابن عبد البر: هذا الحديث مسنده صحيح متلقى بالقبول عند الفقهاء في المدينة وغيرها.
أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: بلاد المسلمين شيئان: عامر وموات، فالعامر لاهله كل ما صلح به العامر ان كان مرفقا لاهله من طريق وفناء ومسيل ماء أو غيره فهو كالعامر في ان لا يملك على أهله الا بإذنهم.
اه والموات هو الارض الخراب الدارسة تسمى ميتة ومواتا وموتانا بفتح الواو والموتان بضم الميم وسكون الواو والموت الذريع، ورجل موتان القلب بفتح الميم وسكون الواو لا بصيرة له ولا فهم.
إذا عرف هذا فان الموات شيئان: موات قد كان عامرا لاهله معروفا في الاسلام ثم ذهبت عمارته فصار مواتا، فذلك كالعامر لاهله لا يملك عليهم الا بإذنهم
(والثانى)
ما لم يملكه احد من أهل الاسلام يعرف ولا عمارة في الجاهلية أو لم يملك، فذلك الموات الذى قال فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أحيا مواتا فهو له) وروى وهب بن كيسان عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (من أحيا أرضا ميتة فهى له وله فيه أجر وما أكلت العوافي منها فهو له صدقة، والعوافي جمع عاف وهو طالب الفضل.(15/206)
وقد روى أحمد والبخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من عمر أرضا ليست لاحد فهو أحق بها) وعن اسمر بن مضرس قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبايعته فقال: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له.
قال فخرج الناس يتعادون يتخاطئون) أي يتسابقون عدوا يخططون
في الارض تمهيدا لتعميرها.
وروى ابن ابى مليكة عن عروة قال: أشهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى أن الارض أرض الله والعباد عباد الله.
ومن أحيا مواتا فهو أحق به.
جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاؤوا بالصلوات عنه) والحديث بهذه المثابة لا يكون مرسلا على القول الصحيح بناء على الاصل في ان الصحابة كلهم عدول، فإذا قال التابعي الثقة أشهد انه جاءني عن النبي صلى الله عليه وسلم به الذين جاءوا بالصلوات عنه وهو يعنى الصحابة.
فقد ارتفع الارسال وبقيت الجهالة، والجهالة بالصحابى لا تقدح في الحديث، اللهم الا إذا ثبت ولو مرة واحدة ان عروة التبس عليه أمر تابعي معاصر بإسلامه للنبى صلى الله عليه وسلم فظنه صحابنا، ولكن إذا عرفنا ان عروة لا يشك في تثبته وعلمه باحوال الصحابة والذى تربى في بيت النبوة والخلافة.
فابوه ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وجده لامه أبو بكر رضى الله عنه.
وخالته أم المؤمنين، وأخوه أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير.
وروى الشافعي عن سفيان عن طاوس إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عمارة الارض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) ولان ما لم يجر عليه ملك نوعان أرض وحيوان، فلما ملك الحيوان إذا ظهر عليه بالاصياد ملك موات الارض إذا ظهر عليه بالاحياء وقوله في حديث الفصل عن طاوس إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (عادى الارض) نسبة إلى عاد رجل من العرب الاولى، وهم العرب البائدة، وبه سميت قبيلة قوم هود، ويقال للملك القديم عادى كأنه نسبة إليه لتقدمه، وبئر عادية كذلك، وعادى الارض ما تقادم ملكه.
وقد جاء حديث طاوس في الام وعندد المصنف هنا هكذا مرسلا.
وقد رواه هكذا سعيد بن منصور في سننه وابو عبيد في الاموال، فإذا تقرر جواز الاحياء قال الشافعي: بلاد المسلمين شيئان عامر وموات، وانما خص بلاد المسلمين بما(15/207)
ذكره من قسمي العامر والموات، وان كانت بلاد الشرك أيضا عامرا ومواتا، لما ذكره من ان عامر بلاد المسلمين لاهله لا يملك عليه الا بإذنهم.
وعامر بلاد الشرك قد يملك عليهم قهرا وغلبة بغير إذنهم.
وإذا كان كذلك بدأنا بذكر العامر من بلاد المسلمين ثم بمواتهم.
أما العامر فلاهله الذى قد ملكوه بأحد أسباب التمليك وهى ثمانية: 1 - الميراث 2 - المعاوضات 3 - الهبات 4 - الوصايا 5 - الوقف 6 - الصدقات 7 - الغنيمة 8 - الاحياء.
فإذا ملك عامرا من بلاد المسلمين بأحد هذه الاسباب الثمانية صار مالكه له ولحريمه ومرافقيه من بناء وطريق ومسيل ماء وغير ذلك من مرفق العامر التى لا يستغنى العامر عنها فلا يجوز ان يملك ذلك على أهل العامر باحياء ولا غيره فمن أحياه لم يملكه.
وقال داود بن على: حريم العامر كسائر الموات من أحياه فقد ملكه استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهى له) وهذا خطأ لان حريم العامر قد كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثم على عهد خلفائه مقرا على اهله لم يتعرض أحد لاحيائه عما انتهوا إليه، ولانه لو جاز احياء حريم العامر لبطل العامر على أهله وسقط الانتفاع به، لانه يفضى إلى ان يبنى الرجل دارا يسد بها باب جاره فلا يصل الجار إلى منزله.
وما ادى إلى هذا من الضرر وكان ممنوعا منه، وليس الحريم مواتا فيصح استدلال داود عليه.
واما الموات فضربان: أحدهما ما لم يزل على قديم الدهر مواتا لم يعمر قط.
فهذا هو الموات جاء في الحديث ان من أحياها فهى له، فان أحياه ذمى لم يملكه وقال أبو حنيفة: يملكه الذمي بالاحياء كالمسلم، استدلالا بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أحيا أرضا مواتا فهى له) ولانها أعيان مباحة فجاز أن يستوى في تملكها المسلم والذمى كالصيد والحطب، ولان من يملك بالاصطياد والاحتطاب
صح أن يملك بالاحياء كالمسلم، ولانه سبب من أسباب التمليك فوجب أن يستوى فيه المسلم والذمى كالبيع، ودليلنا حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ هي لكم منى) فوجه الخطاب للمسلمين وأضاف ملك الموات إليهم فدل على اختصاصهم بالحكم.(15/208)
ولان النبي صلى الله عليه قال (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) اشارة إلى إجلائهم حتى أجلاهم عمر رضى الله عنه من الحجاز، فلما أمر بإزالة أملاكهم الثابتة فأولى أن يمنعوا من أن يستبيحوا أملاكا محدثة، لان استدامة الملك أقوى من الاستحداث، فإذا لم يكن لهم الاقوى فالاضعف أولى، ولان من لم يقر في دار الاسلام الا بجزية منع من الاحياء كالمعاهد، ولان كل ما لم يملكه الكافر قبل عقد الجزية لم يملكه بعد عقد الجزية وأصله نكاح المسلمة.
ولانه نوع تمليك ينافيه كفر الحربى فوجب أن ينافيه كفر الذمي كالارث من مسلم فأما الجواب عن حديث (من أحيا أرضا مواتا فهى له) فهو أن هذا الخبر وارد في بيان ما يقع به الملك.
وقوله (ثم هي لكم) وارد في بيان من يقع له الملك فصار المفسر في كل واحد منهما فيما قصد له قاضيا على صاحبه، فصار الخبران في التقدير كقوله (من أحيا أرضا مواتا من المسلمين فهى له) وأما الجواب عن قياسهم على الصيد والحطب فهو أنه منتقض بالغنيمة حيث لم يستو المسلم والذمى فيها مع كونها أعيانا مباحة، ثم لو سلم من النقض لكان المعنى في الصيد والحطب أن لا ضرر على المسلم فيه إذا أخذه الكافر، وليس كذلك الاحياء.
لذلك لم يمنع المعاهد من الاصطياد والاحتطاب وان منع من الاحياء، فكان المعنى الذى فرقوا به في المعاهد بين إحيائه واصطياده (وفرقنا في الذمي بين إحيائه واصطياده، وهو الجواب عن قياسهم الثاني ويكون المعنى
في المسلم فضيلته بدينه واستقراره في دار الاسلام بغير حرمة مباينة لصغار الذمة فاستعلى على من خالف الملة.
وأما الجواب عن قياسهم على البيع فهو إنه منتقض بالزكاة لانها سبب من أسباب التمليك الذى يختص بها المسلم دون الذمي.
ولما لم يجز في الاحياء أن يملك به المعاهد لم يملك به الذمي.
وقال أحمد بعدم الفرق بين المسلم والذمى وقد مضى الرد على ذلك.
والضرب الثاني من الموات ما كان عامرا ثم خرب فصار بالخراب مواتا فذلك ضربان، أحدهما ان كان جاهليا لم يعمر في الاسلام فهذا على ضربين أحدهما أن يكون قد خرب قبل الاسلام حتى صار مواتا مندرسا كأرض عاد وتبع ومدن طيبة ومنف وبابل وآشور وبعلبك فهذه إذا أعلن أيلولتها إلى بيت(15/209)
مال المسلمين وملكت الدولة التى من حقها أن تكون لها الولاية عليها لعرضها للاعتبار عملا بقوله تعالى (أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الارض، وعمروها أكثر مما عمروها) إلى آخر ما ورد في القرآن الكريم من آيات الحث على السياحة والسير إلى الآثار للاعتبار والاتعاظ، كان إحياؤها معلقا بإذن السلطان، بل إن السلطان إذا أحياها بصيانتها وإقامة الحراس عليها وتمهيد طرقها وتيسير سبل الوصول إليها بسبب ما تحويه من تواريخ من كانوا يعمرونها من الدارسين والبائدين كان هذا إحياء لها على هذا النحو، وصارت ملكا عاما لا يختص به أحد، وذلك أصله قوله صلى الله عليه وسلم (عادى الارض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) والضرب الثاني: ما كان باقى العمارة إلى وقت الاسلام ثم خرب وصار مواتا قبل أن يصير من بلاد الاسلام فهذا على ثلاثة أقسام
(أحدهما)
أن يرفع أربابه أيديهم عنه قبل القدرة عليه فهذا يملك بالاحياء كالذى لم يزل مواتا (والقسم الثاني) أن يتمسكوا به إلى حين القدرة
عليه فهذا يكون في حكم عامرهم لا يملك بالاحياء.
(والقسم الثالث) أن يجهل حاله فلا يعلم هل رفعوا أيديهم عنه قبل القدرة عليه أم لا، ففى جواز تملكه بالاحياء وجهان كالذى جهل حاله من الركاز.
والضرب الثاني: ما كان في الاصل عامرا من بلاد الاسلام ثم خرب حتى ذهبت عمارته، واندرست آثاره، فصار مواتا.
فقد اختلف الفقهاء في جواز تملكه بالاحياء على ثلاثة مذاهب، فمذهب الشافعي منها أنه لا يجوز أن يملك بالاحياء سواء عرف إربابه أو لم يعرفوا.
وقال أبو حنيفة: إن عرف أربابه فهو على ملكهم لا يملك بالاحياء وإن لم يعرفوا ملك بالاحياء استدلالا بعموم الحديث (من أحيا أرضا مواتا فهى له) وحقيقة الموات ما صار بعد الاحياء مواتا من العامر فزال عن حكم العامر كالجاهلي.
ولانه موات فجاز احياؤه كسائر الموات.
وقال مالك: يصير كالموات الجاهلي يملكه من أحياه سواء عرف أربابه أم لم يعرفوا.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه) وهذا مال مسلم.
وروى عروة عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد فهو أحق بها)(15/210)
فجعل زوال الملك عن الموات شرطا في جواز ملكه بالاحياء.
ودل على أن ما جرى عليه ملك لم يجز أن يملك بالاحياء.
وروى أسامة بن مضرس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له مال، فخرج الناس يتعادون يتخاطون) وهذا نص ولانها أرض استقر عليها ملك أحد المسلمين فلم يجز أن تملك بالاحياء كالتى بقيت آثارها عند مالك، وكالتى تعين أربابها عند إبى حنيفة، ولان ما صار مواتا من عامر المسلمين لم يجز إحياؤه بالتملك كالاوقاف والمساجد.
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهى له) فهو دليل عليهم، لان الاول قد إحياها، فوجب أن يكون أحق بها من الثاني لامرين أحدهما: أنه سبق.
والثانى: أن ملكه قد ثبت باتفاق.
وأما الجواب عن قياسهم على الجاهلي وعلى التى لم تزل خرابا فالمعنى فيها أنها لم يجر عليها ملك مسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والاحياء الذى يملك به أن يعمر الارض لما يريده، ويرجع في ذلك إلى العرف، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَ الاحياء ولم يبين فحمل على المتعارف، فان كان يريده للسكنى فأن يبنى سور الدار من اللبن والآجر والطين والجص إن كانت عادتهم ذلك، أو القصب أو الخشب إن كانت عادتهم ذلك، ويسقف وينصب عليه الباب لانه لا يصلح للسكنى بما دون ذلك، فإن أراد مراحا للغنم أو حظيرة للشوك والحطب بنى الحائط ونصب عليه الباب، لانه لا يصير مراحا وحضيرة بما دون ذلك، وإن أراد للزراعة فأن يعمل لها مسناة ويسوق الماء إليها من نهر أو بئر، فإن كانت الارض من البطائح فأن يحبس عنها الماء لان إحياء البطائح أن يحبس عنها الماء كما أن إحياء اليابس بسوق الماء إليه، وبحرثها، وهو إن يصلح ترابها، وهل يشترط غير ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه لا يشترط غير ذلك وهو المنصوص في الام، وهو قول أبى إسحاق، لان الاحياء قد تم وما بقى إلا الزراعة، وذلك انتفاع بالمحيا فلم يشترط كسكنى الدار.(15/211)
(والثانى)
وهو ظاهر ما نقله المزني: أنه لا يملك إلا بالزراعة لانها من تمام العمارة، ويخالف السكنى فإنه ليس من تمام العمارة، وإنما هو كالحصاد في الزرع، (والثالث) وهو قول أبى العباس: أنه لا يتم إلا بالزراعة والسقى، لان
العمارة لا تكمل إلا بذلك، وإن أراد حفر بئر فإحياؤها أن يحفر إلى أن يصل إلى الماء لانه لا يحصل البئر الا بذلك، فان كانت الارض صلبة تم الاحياء، وان كانت رخوة لم يتم الاحياء حتى تطوى البئر لانها لا تكمل الا به، (الشرح) يختلف الاحياء باختلاف المقصود منه، ولما كان الشارع قد أطلق الاحياء لم يحده، ولما كان ليس للاحياء في اللغة حد وجب الرجوع إلى العرف كالحرز والقبض وضابطه تهيئة الشئ لما يقصد منه غالبا، فإن أراد مسكنا نظرت إلى العرف الشائع في المكان الذى يجرى فيه الاحياء سكنا، كتحويطه بالآجر أو اللبن أو القصب على عادة المكان، وقد رأى بعض الاصحاب الاكتفاء بالتحويط من غير بناء لكنه نص في الام على اشتراط البناء.
قال الرملي: وهو المعتمد، والاوجه الرجوع في جميع ذلك إلى العادة، ومن هنا قال المتولي وأقره ابن الرفعة والاذرعى وغيرهما: لو اعتاد نازلو الصحراء تنظيف الموضع من نحو شوك وحج وتسويته لضرب خيمته وبناء معلفه ففعلوا ذلك بقصد التملك ملكوا البقعة، وان ارتحلوا عنها أو بقصد الارتفاق فهم أولى بها إلى الرحلة.
إذا ثبت هذا: فإن تحويط الارض احياء لها سواء أرادها للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو للخشب أو لغير ذلك، هذا مذهبنا ونص عليه أحمد في رواية على بن سعيد فقال: الاحياء أن يحوط عليها حائطا ويحفر فيها بئرا أو نهرا ولا تعتبر في ذلك تسقيف، وذلك لما روى عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من أحاط حائطا على أرض فهى له) رواه أبو داود واحمد، ويروى عن جابر مثله.
وقد نص الامام النووي على عدم اشتراط تعليق الباب لان الباب لا يشترط للسكنى وانما هو للحفظ والسكنى لا تتوقف عليه.
وقد اعتبر القصد في مذهب(15/212)
الشافعي رضى الله عنه ولم يعتبر القصد في مذهب أحمد رضى الله عنه، فلو أحاط مواتا بقصد أن يكون حظيرة فاتخذه سكنا له ولم يتخذه لما قصد له ملكه عند أحمد لعدم اعتبار القصد وملكه عند الشافعي بالقصد الطارئ أما إذا حوطها لتكون حظيرة ولا تصلح للسكنى ثم سكنها فإنه لا يملك عند الشافعي ويملك عند أحمد، فلو خندق حول الارض خندقا لم يكن إحياء لانه ليس بحائط ولا عمارة، وإنما هو حفر وتخريب، وإن أحاطها بشوك وشبهه لم يكن ذلك إحياء ولو نزل منزلا فنصب به بيت شعر أو خيمة لم يكن ذلك إحياء.
أما إذا فعل ذلك بحيث يريدها مزورعة فجمع التراب أو الشوك حولها وسوى الارض فطم المنخفض منها واكتسح العالي وحرثها إذا توقف زرعها على الحرث ورتب لها الماء بشق المسقاة أو حفر الساقية أو شق للماء طريقا ولم يبق الا اجراؤه كفى ذلك في تملكه، وان لم يجز الماء، فان هيأه ولم يحفر له طريقا كفى أيضا وهو المنصوص في الام، وبه قال أبو إسحاق المروزى ورجحه صاحب الشرح الصغير وتابعه الشمس الرملي.
فإذا كفاها المطر لم تحتج إلى ترتيب للماء وذلك خلاف لظاهر ما نقله المزني من أنه يشترط الزراعة لتمام الملك بذلك، ويخالف السكنى، وقد زاد أبو العباس بن سريج على ذلك اشتراط السقى أيضا، وأرض الجبال التى لا يمكن سوق الماء إليها ولا يكفيها المطر تكفى الحراثة وجمع التراب كما اقتضاه كلام النووي في الروضة تبعا للرافعي وجزم به غيرهما.
ولا يشترط أن تتم الزراعة على الاصح كما لا يشترط سكنى الدار لان استيفاء المنفعة خارج عن الاحياء.
والثانى: لا تصير محياة الا بالزراعة كما لا تصير الدار محياة الا إذا صار فيها مال المحيى، وإذا اعتادوا أن يجمعوا ترابا حول ما يزرعونه بستانا فجمع التراب
بدلا من التحويط كفى، والا اشترط التحويط حسب العادة وتهيئة ماء للبستان أن لم يكفه ماء المطر، ويشترط فيه اتخاذ الباب وغرس الاشجار ولو لبعضه بحيث يسمى بستانا كما أفاده الاذرعى، فلا يكفى غرس الشجرة والشجرتين في المكان الواسع على المذهب إذ لا يتم اسم البستان بدون ذلك بخلاف المزرعة(15/213)
بدون الزرع، ولا يشترط في البستان الاثمار، وما عمله مما يعود نفعه على غيره كطى بئر، فان ملكه له يتوقف على قصده من حفر البئر، وقال الشافعي رضى الله عنه: وانما يكون الاحياء ما عرفه الناس إحياء مثل المحيا ان كان مسكنا فأن يبنى بمثل ما يبنى به مثله من بنيان حجر أو لبن أو مدر يكون مثله بناء، وهكذا ما أحيا الادمى من منزل له أو لدواب من حظار أو غيره فاحياه ببناء، حجر أو مدر أو بماء لان هذه العمارة بمثل هذا، ولو جمع ترابا لحظار أو خندق لم يكن هذا إحياء.
وكذلك لو بنى خياما من شعر أو جريد أو خشب لم يكن هذا إحياء تملك له الارض بالاحياء، وما كان هذا قائما لم يكن لاحد أن يزيله، فإذا أزاله صاحبه لم يملكه، وكان لغيره ان ينزله ويعمره، اه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإذا أحيا الارض ملك الارض وما فيها من المعادن كالبلور والفيروزج والحديد والرصاص لانها من اجزاء الارض فملك بملكها ويملك ما ينبع فيها من الماء والقار وغير ذلك.
وقال أبو اسحاق لا يملك الماء وما ينبع فيها، وقد بينا ذلك في البيوع، ويملك ما ينبت فيها من الشجر والكلا.
وقال ابو القاسم الصيمري: لا يملك الكلا لما روى ان ابيض بن حمال سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حمى الاراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسمل (لا حمى في الاراك) ولانه لو فرخ في الارض طائر لم يملك، فكذلك إذا نبت فيه
الكلا، وقال أكثر أصحابنا: يملك لانه من نماء الملك فملكه بملكه كشعر الغنم.
(فصل)
ويملك بالاحياء ما يحتاج إليه من المرافق، كفناء الدار والطريق ومسيل الماء وحريم البئر، وهو بقدر ما يقف فيه المستقى إن كانت البئر للشرب وقدر ما يمر فيه الثور إن كانت للسقي، وحريم النهر وهو ملقى الطين وما يخرج منه من التقن، ويرجع في ذلك إلى أهل العرف في الموضع.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من احتفر بئرا فله أربعون ذراعا حولها عطن لماشيته.
وروى ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: من السنة أن حريم القليب(15/214)
العادية خمسون ذراعا، وحريم البدئ خمسة وعشرون ذراعا، وحريم بئر الزرع ثلثمائة ذراع، فان أحيا أرضا إلى جنب غيره فجعل أحدهما داره مدبغة أو مقصرة لم يكن للاخر منعه من ذلك، لانه تصرف مباح في ملكه فلم يمنع منه.
وان الصق حائطه بحائطه منع من ذلك.
وان طرح في أصل حائطه سرجينا منع منه لانه تصرف باشر ملك الغير بما يضر به فمنع منه، فان حفر حشا في أصل حائطه لم يمنع منه لانه تصرف في ملكه.
ومن أصحابنا من قال: يمنع لانه يضر بالحاجز الذى بينهما في الارض.
وان ملك بئرا بالاحياء فجاء رجل وتباعد عن حريمه وحفر بئرا فنقص ماء الاول لم يمنع منه لانه تصرف في موات لاحق لغيره فيه.
(الشرح) حديث أبيض بن حمال رواه الترمذي وحسنه وابو داود بلفظ (أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم استقطعه الملح فقطع له، فلما ان ولى قال رجل: أتدرى ما أقطعت له؟ إنما أقطعته الماء العد.
فقال انتزعه منه، قال: وسألته عما يحمى من الاراك فقال: ما لم تنله خفاف الابل) وأخرجه أيضا
ابن ماجه والنسائي وصححه ابن حبان وضعفه ابن القطان ولم يذكر وجه تضعيفه ولعله بسبب السبئ المازنى الذى في الاسناد.
وقال فيه ابن عدى: أحاديثه مظلمة منكرة.
وفى رواية (ما لم تنله أخفاف الابل) قال محمد بن الحسن المخزومى: يعنى ان الابل تأكل منتهى رؤسها ويحمى ما فوق ذلك.
ورواه سعيد بن منصور قال: حدثنى اسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس المأربى عن أبيه عن أبيض بن حمال المأربى قال (استقطعت رسول الله صلى عليه وسلم معدن الملح بمأرب فاقطعنيه، فقيل يا رسول الله انه بمنزلة الماء العد، يعنى انه لا ينقطع، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلا إذن) .
وأما حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقد رواه ابن ماجه باسناد ضعيف لان فيه اسماعيل بن سلم، وقد أخرجه الطبراني من حديث أشعث عن الحسن، واخرج حرب وعبد الله عن أحمد من حديث أبى هريرة بلفظ (من سبق(15/215)
إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له، وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب) واختيار الخمسين هو مذهب أحمد وأصحابه، وأخرج ابن ماجه بلفظ (حريم البئر طول رشائها) أما اللغات في الفصل فالبلور كنتور وسنور وسبطر.
وهو جوهر.
وكذلك الفيروزج، والقار نوع من القطران، والعد بكسر العين، قال أبو عبيد: العد بلغة تميم الكثير، وبلغة بكر بن وائل هو القليل، والمراد هنا في الحديث الكثير الذى لا ينقطع.
وأما كلمة التقن التى جرت هنا في كلام المصنف فهى من الكلمات التى كانت شائعة عند أهل بغداد، ويريدون بها سيف النهر وما اجمتع فيه من الطين وغيره.
أما الاحكام فإن المعادن إما ظاهرة، وهى التى سنتكلم عليها في الفصل التالى أما المعادن الباطنة وهى التى لا يوصل إليها الا بالعمل والمؤنة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والبلور والفيروزج، فإذا كانت ظاهرة فلا تملك بالاحياء لما سيأتي، وإن لم تكن ظاهرة فحفرها إنسان لم تملك بذلك في ظاهر مذهب أحمد والشافعي، وهو قول أبى اسحاق المروزى، ويحتمل أن يملكها بذاك، وهو قول للشافعي والمصنف والنووي في المنهاج.
ومنع أبو القاسم الصيمري أن يملك الكلا، ولانه لو فرخ طائر في الارض لم يملك.
وقول أكثر الاصحاب يملك لانه من نماء الارض كمن يملك غنما فانه يملك أصوافها وأشعارها لانه نماء في ملكه، ولانه إظهار تهيأ بالعمل والمؤنة فملك بالاحياء كالارض، ولانه بإظهاره تهيأ للانتفاع به من غير حاجة إلى تكرار ذلك العمل، فاشبه إحاطة الارض أو إجراء الماء إليها.
ووجه الاول أن الاحياء الذى يملك به هو العمارة التى تهيأ بهال المحمى للانتفاع من غير تكرار عمل.
وهذا حفر وتخريبه يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع، فإن قيل: فلو احتفر بئرا ملكها وملك حريمها، قلنا: البئر تهيأت للانتفاع بها من غير تجديد حفر ولا عمارة، وهذه المعادن تحتاج عند كل انتفاع إلى عمل وعمارة فافترقا.
أما إذا ملك الارض بالاحياء فظهر أن فيها معدنا من المعادن الجامدة ظاهرا(15/216)
أو باطنا فقد ملكه لانه ملك الارض بجميع أجزائها وطبقاتها وهذا منها ويفارق الكنز فانه مودع فيها وليس من أجزائها، ويفارق ما إذا كان ظاهرا قبل إحيائها لانه قطع عن المسلمين نفعا كان واصلا إليهم، ومنعهم انتفاعا كان لهم.
وههنا لم يقطع عنهم شيئا لانه انما ظهر بإظهاره له، ولو تحجر الارض أو أقطعها فظهر
فيها المعدن قبل إحيائها لكان له احياؤها ويملكها بما فيها لانه صار أحق به بتحجره واقطاعه فلم يمنع من اتمام حقه.
(فرع)
يقال للبئر التى تحفر في الارض الموات: بئر عادية بتشديد الياء منسوبة إلى عاد، وليس المراد عادا بعينها، ولكن لما كانت عاد في الزمن الاول وكانت لها آثار في الارض نسب إليها كل قديم، فكل من حفر بئرا في موات للتمليك فله حريمها أربعون ذراعا حولها أو خمس وعشرون ذراعا من كل جانب أو خمسون ذراعا طول أبعد طرفي حريمها، ومن سبق إلى بئر عادية كان أحق بها لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب) وقد فرق سعيد بن المسيب بين العادى منها والبدئ، فجعل الاولى حريمها خمسون ذراعا وجعل البدئية حريمها خمسة وعشرون ذراعا.
وجعل حريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع وقال: هذا من السنة.
وإذا قال تابعي كبير كابن المسيب (من السنة) وكذلك روى أبو عبيد عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ (السنة في حريم القليب العادى خمسون ذراعا والبدئ خمس وعشرون ذراعا) فإنما يقول كل منهما - وهما تابعيان كبيران - ذلك لما صح عندهما من عمل الصحابة واتفاقهم عليه مما يجعل هذا القدر هو السنة لانه لا يخلو من هدى نبوى.
وقال أصحاب أحمد منهم أبو الخطاب والقاضى: ليس هذا على طريق التحديد بل حريمها على الحقيقة ما تحتاج إليه في ترقية مائها منها، فإن كان بدولاب فقدر مد الثور أو غيره، وان كان بساقية فبقدر طول البئر، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (حريم البئر مد رشائها) رواه ابن ماجه.(15/217)
وذهب النووي إلى تحديد حريم البئر المحفورة في الموات بمقدار موقف النازح منها، قال الرملي: وهل يعتبر قدر النازح من سائر الجوانب أو من أحدها فقط الاقرب اعتبار العادة في مثل ذلك المحل اه.
وعلى هذا يكون حريم البئر من جوانبه ما يحتاج إليه في مجال عمله، وينبغى أن يمتد حريمها إلى ما تقتضيه.
وقال أبو حنيفة: حريم البئر أربعون ذراعا، وحريم العين خمسمائة ذراع، لان أبا هريرة رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انه قال (حريم البئر أربعون ذراعا لاعطان الابل والغنم) .
(قلت) حديث أبى هريرة رواه احمد (حريم البئر العادى خمسون ذراعا، وحريم البئر البدئ خمسة وعشرون ذراعا) وعن الشعبى مثله.
وقد روى الدارقطني والخلال بإسنادهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: حريم البئر خمس وعشرون ذراعا، وحريم العادى خمسون ذراعا) وقد أعله الدارقطني بالارسال وقال: من أسنده فقد وهم، وفى سنده محمد بن يوسف المقرى شيخ شيخ الدارقطني وهو منهم بالوضع، ورواه البيهقى من طريق يونس عن الزهري عن المسيب مرسلا وزاد فيه (وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها) وأخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة موصولا ومرسلا والموصول فيه عمر بن قيس وهو ضعيف: والاحاديث في مجموعها تثبت أن للبئر حريما، والمراد بالحريم ما يمنع منه المحيى والمحتفر لاضراره.
وفى النهاية: سمى بالحريم لانه يحرم منع صاحبه منه، ولانه يحرم على غيره التصرف فيه.
وحديث عبد الله بن مغفل الذى ساقه المصنف يجعل العلة في ذلك هي ما يحتاج إليه صاحب البئر عند سقى إبله لاجتماعها على الماء.
وحديث أبى هريرة دال على أن العلة هو ما يحتاج إليه البئر لئلا تحصل المضرة عليها باقتراب الاحياء منها، ولذا وقع الاختلاف بين حالى كل من البدئ
والعادي، والجمع بين الحديثين يمكن أن ينظر فيهما من وجه الحاجة فإن كانت لاجل سقى الماشية فحديث الاربعين أو الخمس والعشرين، وإن كانت لاجل البئر فخمسين وقد ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن حريم البئر أربعون، وذهب أحمد إلى أن الحريم خمسة وعشرون.(15/218)
(فرع)
ومن كانت له بئر فيها ماء فجاء آخر فحفر قريبا منها بئرا فليس له منعه من ذلك، وإن نقص ماء البئر الاولى أو انسرب الماء إليها لانه تصرف مباح في ملكه، ويحتمل أن يمنع من ذلك من حفر بئرا في موات إلى جوار بئر مثلها وجعلها أعمق منها بحيث تجتذب ماء الاولى إليها، لانه ليس له أن يبتدئ ملكه على وجه يضر بالملك قبله، وهو مذهب أحمد وقول للشافعي رضى الله عنهما، والقول الاظهر وهو المذهب: له ذلك لانه تصرف مباح في ملكه فجاز له كتعلية داره.
وهكذا الخلاف في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره، مثل أن يجعل داره مدبغة أو حماما يضر بعقار جاره برائحته أو غيرها، أو يجعل داره مخبزا في وسط العطارين ونحو ذلك مما يؤذى الجيران فمذهب أحمد: المنع من ذلك، ومذهب الشافعي: له ذلك كله، لانه تصرف مباح في ملكه أشبه ببناء ونقضه.
وأما إذا ألصق الحائط بالحائط بغير مسافة ولو يسيرة منع من ذلك.
أما إذا طرح في أصل حائطه فضلات عفنة تسرى في مسام الارض فتحدث في البناء العطب والتلف منع من ذلك قولا واحدا، لانه تصرف باشر ملك غيره بما يضره.
أما إذا حفر في أصل حائطه حشا فقولان.
أحدهما: لم يمنع من ذلك والثانى: يمنع لانه يضر بالحاجز الذى بينهما وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان تحجر رجل مواتا وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم صار
أحق به من غيره لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به، وان نقله إلى غيره صار الثاني أحق به، لانه آثره صاحب الحق به، وان مات انتقل ذلك إلى وارثه، لانه حق تملك ثبت له فانتقل إلى وارثه كالشفعة، وان باعه فَفِيهِ وَجْهَانِ.
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: أنه يصح لانه صار أحق به فملك بيعه.
(والثانى)
أنه لا يصح، وهو المذهب، لانه لم يملكه بعد فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الاخذ، وان بادر غيره إلى إحيائه نظرت، فان كان ذلك قبل أن تطول المدة ففيه وجهان.(15/219)
أحدهما: لا يملك لان يد المتحجر أسبق.
والثانى: يملك لان الاحياء يملك به والتحجر لا يملك به، فقدم ما يملك به على ما لا يلملك به، وإن طالت المدة ولم يتمم قال له السلطان: إما أن تعمر وإما أن ترفع يدك، لانه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن منه كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء ومنع غيره منها، وإن سأل أن يمهل أمهل مدة قريبة، فان انقضت المدة ولم يحيى فبادر غيره فأحيا ملك، لانه لا حق له بعد انقضاء المدة.
(فصل)
ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر وهو الذى يوصل إلى ما فيه من غير مؤنة كالماء والنفط والمومياء والياقوت والبرام والملح والكحل كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم: من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به، فإن أطال المقام فيه ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يمنع لانه سبق إليه
(والثانى)
يمنع لانه يصير كالمتحجر، فان سبق اثنان وضاق المكان وتشاحا، فان كانا يأخذان للتجارة، هايأ الامام بينهما
فان تشاحا في السبق أقرع بينهما، لانه لا مزية لاحدهما على الاخر فقدم بالقرعة وإن كانا يأخذان للحاجة ففيه ثلاثة أوجه.
أحدهما: يقرع بينهما لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخِرِ.
وَالثَّانِي: يقسم بينهما لانه يمكن لهما القسمة فلا يؤخر حقه.
والثالث: يقدم الامام أحدهما لان للامام نظرا في ذلك فقدم من رأى تقديمه، وان كان من ذلك ما يلزم عليه مؤنة بأن يكون بقرب الساحل موضع إذا حصل فيه الماء حصل فيه ملح جاز أن يملك بالاحياء لانه يوصل إليه بالعمل والمؤنة فملك بالاحياء كالموات.
(الشرح) حديث (من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به) هذا الحديث هو الذى سبق تخريجه فقد رواه أبى داود وصححه الضياء المقدسي عن أسمر بن مضرس.
وقال البغوي: لا أعلم بهذا الاسناد غير هذا الحديث، التحجر أحاطة الارض بالحجارة، أو بحائط صغير، وهو شروع في احياء الموات وليس احياء تاما، ولذلك فانه لا يملكها بذلك لان الملك لا يكون الا بالاحياء، وليس هذا(15/220)
إحياء ولكن يصير أحق الناس بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به) فإن نقله إلى غيره صار الثاني بمنزلته لان صاحبه أقامه مقامه، وإن مات فوارثه أحق به لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ تَرَكَ حقا أو مالا فهو لورثته من بعده) وهذا هو المذهب ومذهب أحمد رضى الله عنه وقال أبو إسحاق المروزى: إن حق التملك قد ثبت له فيصح له بيعه وقبض ثمنه، والمذهب أنه لا يصح له بيعه كالشفيع لا يصح له أن يبيع قبل أن يأخذ.
وإن ثبت له الاختصاص وفرق بين الاختصاص والملك.
والاختصاص لا يستلزم صحة البيع أو الهبة.
فإن سبق غيره فأحياه ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يملكه لان الاحياء يملك به والحجر لا يملك به فثبت الملك بما لم يملك به دون ما لم يملك به كمن سبق إلى معدن أو مشرعة ماء فجاء غيره فأزاله وأخذه
(والثانى)
لا يملكه، لانه مفهوم قوله عليه السلام (من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد) وقوله (في حق غير مسلم فهى له) أنها لا تكون له إذا كان لمسلم فهو أحق، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) وروى سعيد بن منصور في سننه أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (مَنْ كانت له أرض يعنى من تحجر أرضا فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها) .
هذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث سنين لا يملكها، وهو مذهب أحمد رضى الله عنه، ومذهب الشافعي رضى الله عنه أن المدة في التحجر إذا طالت عرفا بلا عذر، فإن السلطان يقول للمتحجر: إما أن تحييه أو تتركه ليحييه غيرك، لانه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن من ذلك كما لو وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينفع ولا يدع غيره ينتفع.
فإن سأل الامهال لعذر له أمهل الشهر والشهرين ونحو ذلك، فان أحياه غيره في مدة المهلة ففيه الوجهان اللذان ذكرناهما، وان انقضت المدة ولم يعمر فلغيره أن يعمره ويملكه، لان المدة قد ضربت له لينقطع حقه بمضيها وسواء أذن له(15/221)
السلطان في عمارتها أو لم يأذن له، وإن لم يكن للمتحجر عذر في ترك العمارة قيل له أما أن تعمر واما أن ترفع يدك، فان لم يعمرها كان لغيره عمارتها.
ومذهب أحمد في هذا كله نحو مذهبنا إلا في التوقيت بثلاث سنين لقول عمر رضى الله عنه لان عمر رضى الله عنه أخذ بالعرف في زمنه، وقد تكون السنين الثلاث معطلة لنفع يعود على المسلمين من إحياء الموات ونشر العمران مما يحقق
مقاصد الاسلام، ويدفع المسلمين إلى التسابق في استخراج خيرات الارض واستنباط معادنها وإصلاح تربتها وتأهيل مهجورها وتعمير خرابها، وذلك صلاح للمسلمين وقوة لهم وعدة على أعدائهم ومصادر أعمال لعاطليهم وتوسيع لرقعة مساكنهم، وما نشطت شركات الكفار وتسابقت تستعمر بلاد المسلمين إلا لتعطيلهم هذه الاحكام الشريفه، وتخلفوا عن غيرهم في مجالات التعمير والبناء وهجرهم لتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم وصدق الله العظيم (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال: رب لم حشرتني أعمى، وقد كنت بصيرا؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) .
(فرع)
حكم المعادن الظاهرة، قال الشافعي رضى الله عنه: ومثل هذا كل عين ظاهرة كنفط أو كبريت أو موميا (1) أو حجارة ظاهرة كموميا في غير ملك لاحد، فليس لاحد أن يتحجرها دون غيره، ولا لسلطان أن يمنعها لنفسه ولا لخاص من الناس، لان هذا كله ظاهر كالماء والكلا اه.
وهى التى يوصل إلى ما فيها من غير مؤنة ينتابها الناس وينتفعون بها كالملح والماء والكبريت والنفط وأحجار التلك الذى يتخذ مسحوقه لتبريد الجلد وإشباه ذاك لا تملك بالاحياء،
__________
(1) الموميا لفظة يونانية الاصل وأصلها مومياى فخذفت الياء اختصارا وبقيت الالف مقصورة، وهو معدن يؤخذ منه دواء للعلاج كالتوتيا وكالجنزار من سلفات النحاس.
وقال الرملي: الموميا شئ يلقيه البحر في بعض السواحل فيجمد ويصير كالقار وقيل حجارة سود في اليمن، والبرام حجر يعمل منه قدور الطبخ.(15/222)
ولا يجوز إقطاعها لاحد من الناس، ولا احتجازها دون المسلمين لما في ذلك من
التضييق عليهم وحرمانهم خيرات ظاهرة، ولان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع أبيض بن حمال معدن الملح في مأرب باليمن، فلما قيل له: إنه بمنزلة الماء العد.
أمر برده، فأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح الكثير منزلة مشارع الماء وطرقات المسلمين.
قال ابن عقيل من الحنابلة: هذا من مواد الله وفيض جوده الذى لا غناء عنه فلو ملكه أحد بالاحتجاز ملك منعه فضاق على الناس، فان أخذ عنه الثمن أغلاه فخرج عن الموضع الذى وضعه الله من تعميم ذوى الحوائج من غير كلفة.
وهذا مذهب الشافعي وأحمد ولا نعلم لهما مخالفا من الائمة.
قال الرملي: وللاجماع على منع إقطاع مشارع الماء وهذا مثلها بجامع الحاجة العامة وأخذها بغير عمل، ويمتنع أيضا إقطاع وتحجر أرض لاخذ نحو حطبها وصيدها وبركة لاخذ سمكها، وظاهر كلام الاصحاب المنع من التملك والارتفاق ولكن الزركشي قيد المنع بالتملك.
ويأتى بعد هذا إذا اطال من سبق إليه المقام فيه ففيه وجهان.
أحدهما: لا يمنع لانه سبق إليه فهو أحق به، بشرط أن لا يمنع غيره ويأخذ قدر حاجته والثانى: يمنع لانه أطال المقام والاخذ، واحتمل أن يمنع غيره لانه يصير كالمتملك له أو المتحجر.
وإن استبق إليه اثنان وضاق المكان عنهما أقرع بينهما لانه لا مزية لاحدهما على صاحبه وهذا إذا كانا يأخذانه للتجارة، فإن كانا يأخذانه للحاجة ففيه ثلاثة أوجه، اما أن يقرع بينهما كالمتجرين، واما أن يقسم بينهما لامكان هذه القسمة وقد تساويا فيه كما لو تداعيا في أيديهما ولا بينة لاحدهما بها، واما أن يقدم الامام من يرى منهما لان له نظرا في ذلك، وهذه الاوجه كلها عند أحمد وأصحابه وأضاف القاضى وجها رابعا وهو أن الامام ينصب من يأخذ لهما
ويقسم بينهما.(15/223)
ولو كان في الموات موضع يمكن أن يحدث فيه معدن ظاهر كموضع على شاطئ البحر إذا صار فيه ماء البحر وتبخر صار ملحا ملك بالاحياء وجاز للامام اقطاعه لشركات أو أفراد، لانه لا يضيق على المسلمين باحداثه، بل يحدث نفعه بفعله، فلم يمنع منه كبقية الموات، واحياء هذا يتم بتهيئته لما يصلح من حفر ترابه وتمهيده وفتح القنوات إليه تصب الماء فيه، لانه يتهيأ بهذا الانتفاع به،
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان سبق إلى معدن باطن وهو الذى لا يوصل إليه الا بالعمل والمؤنة كمعدن الذهب والفضة والحديد والرصاص والياقوت والفيروزج فوصل إلى نيله ملك ما أخذه لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به) وهل يملك المعدن، فيه قولان
(أحدهما)
يملكه لانه موات لا يوصل إلى ما فيه الا بالعمل والانفاق، فملكه بالاحياء كموات الارض
(والثانى)
لا يملك وهو الصحيح، لان النبي صلى الله عليه وسلم علق الملك في الموات على الاحياء وهو العمارة، والعمل في المعدن حفر وتخريب فلا يملك به، ولانه يحتاج في كل جزء يأخذه إلى عمل فلا يملك منه الا ما أخذ، ويخالف موات الارض لانه إذا عمر انتفع به على الدوام من غير عمل مستأنف فملك به، فان قلنا انه يملك بالاحياء ملكه إلى القرار وملك مرافقه، فان تباعد انسان عن حريمه وحفر معدنا فوصل إلى العرق لم يمنع من أخذ ما فيه، لانه احياء في موات لا حق فيه لغيره، فان حفر ولم يصل إلى النيل صار أحق به كما قلنا فيمن تحجر في موات الارض.
فان قلنا: لا يملك كان كالمعدن الظاهر في ازالة يده إذا قال مقامه، وفى القسمة والتقديم بالقرعة وتقديم من يرى الامام تقديمه.
(فصل)
ويجوز الارتفاق بما بين العامر من الشوارع والرحاب والواسعة بالقعود للبيع والشراء، لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى اقرار الناس على ذلك من غير انكار، ولانه ارتفاق بمباح من غير اضرار فلم يمنع منه كالاجتياز، فان سبق إليه كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم (منى مناخ من سبق) وله أن يظلل بما لا ضرر به على المارة من بارية وثوب، لان الحاجة تدعو(15/224)
إلى ذلك، وان أراد أن يبنى دكة منع، لانه يضيق به الطريق، ويعثر به الضرير وبالليل البصير فلم يجز، وان قام وترك المناع لم يجز لغيره أن يقعد فيه، لان يد الاول لم تزل، وان نقل متاعه كان لغيره ان يقعد فيه لانه زالت يده، وان قعد وأطال ففيه وجهان:
(أحدهما)
يمنع لانه يصير كالمتملك، وتملكه لا يجوز
(والثانى)
يجوز لانه قد ثبت له اليد بالسبق إليه، وان سبق إليه اثنان ففيه وجهان
(أحدهما)
يقرع بينهما لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخِرِ
(وَالثَّانِي)
يقدم الامام أحدهما، لان للامام النظر والاجتهاد، ولا تجئ القسمة لانها لا تملك فلم تقسم.
(الشرح) حديث من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق، سبق لنا تخريجه أما الاحكام فقد مضى أكثر مسائل هذين الفصلين، أما ما كان من الشوارع والطرقات والرحاب (الميادين) بين العمران فليس لطحد احياؤه، سواء كان واسعا أو ضيقا، وسوء ضيق على الناس أو لم يضيق، لان ذلك يشترك فيه المسلمون وتتعلق به مصلحتهم فاشبه مساجدهم، ويجوز الارتفاق بالقعود في الواسع من ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد ولا يضر بالمارة لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى اقرار الناس على ذلك من غير انكار، ولانه
ارتفاق مباح من غير اضرار فلم يمنع منه كالاجتياز والعبور.
وقال أحمد في السابق إلى دكاكين السوق غدوة فهو له إلى الليل، وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (منى مناخ من سبق) وله أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من بارية ومظلة وكساء ونحوه لان الحاجة تدعو إليه، فإذا جرى العرف بمنعه الا بإذن السلطان لتنظيم صفوفهم وحصرهم فيما لا يخل بحرمة الطريق ومخاطر الآلات المستحدثه للركوب كالمترو والتروللى والترام والباس، والسيارات العام منها والخاص، وللسلطان أن يقيد المطلق أحيانا إذا اقتضت ذلك مصلحة أرجح من الاطلاق وجميع المدن المتحضرة في العالم اليوم لا تسمح بإشغال الطريق الا في حدود المترو ونحوه، وبترخيص يصدر(15/225)
من وزارة الاسكان والمرافق.
ولو تركت الطرقات هكذا لكل من يريد أن ينصب فيها تابوتا لبضاعته في عرض الطريق لضاقت الطرقات والشوارع على المارة والمجتازين، وربما ادعى أحدهم ملكية المكان الذى يشغله على أن الفقهاء لم يرتبوا حقا للتملك لمن يجلس في الطرقات للبيع والشراء فقالوا: والسابق أحق به ما دام فيه، فإن قام وترك متاعه فيه لم يجز لغيره إزالته لان يد الاول عليه، وإن نقل متاعه كان لغيره أن يقعد فيه، لان يده قد زالت وإن قعد وأطال منع من ذلك لانه يصير كالمتملك، ويختص بنفع يساويه غيره في استحقاقه، ويحتمل أن لا يزال.
وهذا وجه آخر لانه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم.
وان استبق إثنان إليه احتمل أن يقرع بينهما، واحتمل أن يقدم الامام من يرى منهما.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما كان ينبغى لنا أن نشترى من هؤلاء الذين يبيعون على الطريق.
قلت: إن الامام أحمد رضى الله عنه يرى في وقوف مثله على قارعة الطريق للشراء ضربا من التبذل المخل بأهل الوقار والنصون: لان هؤلاء قلما يراعون حقوق الطريق، فقد روى الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قال رسول الله عليه وسلم: إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: إذا أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقها.
قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الاذى ورد السلام والامر بالمعروف والنهى عن المنكر) هذا والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.(15/226)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الإقطاع والحمى
يجوز للامام أن يقطع موات الارض لمن يملكه بالاحياء لما روى علقمة بن وائل عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطعه أرضا فارسل معه معاوية أن أعطه إياها، أو قال أعطاها إياه.
وروى ابْنُ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه، فقال أعطوه من حيث وقع السوط.
وروى أن أبا بكر أقطع الزبير وأقطع عمر عليا وأقطع عثمان رضى الله عنهم خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: الزبير وسعدا وابن مسعود وخبابا وأسامة بن زيد رضى الله عنهم.
ومن أقطعه الامام شيئا من ذلك صار أحق به.
ويصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه، لان بإقطاع الامام صار أحق به كالمتحجر، فكان حكمه حكم المتحجر، ولا يقطع من ذلك إلا ما يقدر على إحيائه لانه إذا أعطاه أكثر من ذلك دخل الضرر على المسلمين من غير فائدة.
(فصل)
وأما المعادن فانها إن كانت من المعادن الظاهرة لم يجز اقطاعها لما روى ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده أبيض بن حمال أنه استقطع النبي صلى الله عليه وسلم ملح المأرب فأقطعه إياه، ثم ان الاقرع بن حابس قال: يا رسول الله انى قد وردت الملح في الجاهلية، وهو بأرض ليس بها ملح، ومن ورده أخذه، وهو مثل الماء العد بأرض، فاستقال أبيض بن حمال فقال أبيض قد أقلتك فيه على أن تجعله منى صدقة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو منك صدقة وهو مثل الماء العدو من ورده أخذه.
وان كانت من المعادن الباطنة فإن قلنا انها تملك بالاحياء جاز إقطاعه لانه موات يجوز أن يملك بالاحياء فجاز اقطاعه كموات الارض، وان قلنا لا تملك بالاحياء فهل يجوز اقطاعه، فيه قولان.
(أحدهما)
يجوز إقطاعه لانه يفتقر الانتفاع به إلى المؤن فجاز اقطاعه(15/227)
كموت الارض.
والثانى لا يجوز لانه معدن لا يملك بالاحياء فلم يجز إقطاعه كالمعادن الظاهرة، فإذا قلنا يجوز إقطاعه لم يجز إلا ما يقوم به لما ذكرناه في إقطاع الموات.
(فصل)
ويجوز إقطاع ما بين العامر من الرحاب ومقاعد الاسواق للارتفاق، فمن أقطع شيئا من ذلك صار أحق بالموضع نقل متاعه أو لم ينقل، لان للامام النظر والاجتهاد، فإذا أقطعه ثبتت يده عليه بالاقطاع فلم يكن لغيره أن يقعد فيه.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وفيه ضعف لان في إسناده عبد الله ابن عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بن الخطاب الملقب بالعمرى المكبر.
قال ابن حجر في التقريب: ضعيف عابد.
وقال الصنعانى: فيه مقال.
وقال الذهبي:
صدوق في حفظه شئ.
وروى عن ابن معين أنه قال: ليس به بأس، يكتب حديثه، وقال الدارمي قلت لابن معين: كيف حاله في نافع؟ قال: صالح ثقة.
وقال الفلاس: كان يحيى القطان لا يحدث عنه.
وقال أحمد بن حنبل: صالح لا بأس به، وقال النسائي وغيره ليس بالقوى، وقال ابن عدى هو في نفسه صدوق.
وقال أحمد: كان عبد الله رجلا صالحا، كان يسأل عن الحديث في حياة أخيه عبيد الله فيقول: أما وأبو عثمان حى فلا.
وقال ابن المدينى: عبد الله ضعيف.
وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الاخبار وجودة الحفظ للآثار، فلما فحش خطؤه استحق الترك وقد أخرج الشيخان عن أسماء بنت أبى بكر في حديث ذكرته قالت (كنت أنقل النوى من أرض الزبير التى أقطعه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رأسي وهو منى على ثلثى فرسخ) وقوله: حضر فرسه، أي قدر ارتفاع الفرس في عدوه، وفى قولها (من أرض الزبير) يحتمل أن تكون هذه الارض هي التى وردت في حديث ابن عمر وفى البخاري في آخر كتاب الخمس من حديث أسماء أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/228)
أقطع الزبير أرضا من أموال بنى النضير.
وفى سنن أبى داود عن أسماء (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع الزبير نخلا) والاحاديث تدل على أنه يجوز للنبى صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الائمة إقطاع الاراضي وتخصيص بعض دون بعض لمن يأنس فيهم القدرة على القيام عليها وإحيائها واستنباط منافعها.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع صخر بن أبى العيلة البجلى الاحمسي ماء لبنى سليم لما هربوا عن الاسلام وتركوا ذلك، ثم رده إليهم في قصة طويلة مذكورة في
سنن أبى داود.
ومنها ما أخرجه أبو داود عن سبرة بن معبد الجهنى (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ في موضع المسجد تحت دومة فأقام ثلاثا ثم خرج إلى تبوك وإن جهينة لحقوه بالرحبة فقال لهم: من أهل ذى المروة؟ فقالوا: بنو رفاعة من جهينة، فقال قد أقطعتها لبنى رفاعة فاقتسموها، فمنهم من باع ومنهم من أمسك فعمل ومنها عند أبى داود عن قيلة بنت مخرمة قالت: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقدم صاحبي يعنى حريت بن حسان وافد بكر بن وائل، فبايعه على الاسلام عليه وعلى قومه، ثم قال يا رسول الله: اكتب بيننا وبين بنى تميم بالدهناء أن لا يجاوزها الينا منهم أحد إلا مسافر أو مجاور، فقال اكتب له يا غلام بالدهناء فلما رأيته قد أمر له بها شخص بى وهى وطنى ودارى، فقلت: يا رسول الله إنه لم يسألك السوية من الارض إذ سألك، انما هذه الدهناء عندك مقيد الجمل ومرعى الابل، ونساء بنى تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال أمسك يا غلام صدقت المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان) يعنى الشيطان، وأخرجه أيضا الترمذي مختصرا وقال الشافعي رضى الله عنه: والموات الذى للسلطان أن يقطعه من يعمره خاصة وأن يحمى منه ما رأى أن يحميه عاما لمنافع المسلمين، والذى عرفنا نصا ودلالة فيما حمى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حمى البقيع، وهو بلد ليس بالواسع الرى إذا حمى ضاقت البلاد على أهل المواشى وأضربهم(15/229)
ويشتمل هذا الباب على ثلاثة أحكام تختص بالموات وهى الاحياء والاقطاع والحمى.
فأما الاحياء فقد ذكرنا جوازه ومن يجوز له.
وأما الاقطاع وهو موضوع الفصل، فإنه لا يصح الا في موات لم يستقر عليه ملك وعلى هذا كان
قطائع النبي صلى الله عليه وسلم حين أقطع الزبير ركض فرسه من موات البقيع فأجراه ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فقال: اعطوه منتهى سوطه، وأما ورود بعض الاخبار فيما أعطاه للزبير من أرض بنى النضير أو من نخل المدينة فقد أوردها البخاري في آخر كتاب الخمس ومعى هذا أنها عنائم زالت عنها يد الكفار وهذه قضية أخرى غير ما أقطعه من أرض البقيع مواتا لاحيائه، وهكذا كانت قطائع رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا ما كان من شأن تميم الدارى وأبى ثعلبة الخشنى، فإن تميما سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقطعه عبون البلد الذى كان منه بالشام قبل فتحه، وأبو ثعلبة سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقطعه أرضا كانت بيد الروم فأعجبه الذى قال: ألا تسمعون ما يقول؟ فقال والذى بعثك بالحق لتفتحن عليك، فكتب له كتابا.
فاحتمل ذلك من فعله أن يكون أقطعهما ذلك اقطاع تقليد لا اقطاع تمليك، أو يجوز أن يكونا مخصوصين بذلك لتعلقه بتصديق أخبار وتحقيق احجاز، وأما الائمة بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فان أبا بكر وعمر رضى الله عنهما لم يقطعا الا مواتا لم يجر عليه ملك، واصطفى عمر رضى الله عنه من أرض السواد أموال كسرى وأهل بيته وما هرب عنه أربابه أو هلكوا فكان يبلغ تسعة آلاف ألف فكان يصرفها في مصالح المسلمين ولم يقطع شيئا، ثم ان عثمان رضى الله عنه أقطعها لانه رأى اقطاعها أوفى لغلتها من تعطيلها، وشرط على من أقطعها أن يأخذ منه الغنى، فكان ذلك منه اقطاع اجازة لا اقطاع تمليلك، وقد توفرت عليه حتى بلغت خمسين ألف ألف، ثم تناقلها الخلفاء بعده فلما كان عام الجماجم سنة اثنين وثمانين وفتنة ابن الاشعث أحرق الديوان وأخذ كل قوم ما يليهم.
فإذا كان اقطاع الامام إبما يختص بالموات دون العامر فالذي يؤثره اقطاع(15/230)
الاما إنما يختص بالموات دون العامر، فالذي يؤثره إقطاع الامام أن يكون المقطع أولى الناس بإحيائه ممن لم يسبق إلى إحيائه لمكان اذنه وفصل اجتهاده، فلو بادر فأحياها غير المقطع فهى ملك للمحيى دون المقطع.
وقال أبو حنيفة: ان أحياها قبل مضى ثلاث سنوات من وقت الاقطاع فهى للمقطع، وان أحياها بعد ثلاث سنين فهى للمحيى.
وقال مالك بن أنس: ان أحياها عالما بالاقطاع فهى للمقطع، وان أحياها غير عالم بالاقطاع خير المقطع بين أن يعطى المحيى نفقة عمارته وتكون الارض له، وبين أن يترك عليه الارض ويأخذ قيمتها قبل العمارة استدلالا برواية معمر عن أبى نجيح عن عمرو بن سعيب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أقطع أقواما فجاء آخرون في عهد عمر فأحيوها فقال لهم عمر رضى الله عنه حين فزعوا إليه: تركتموهم يعملون ويأكلون ثم جئتم تغيرون عليهم لولا أنها قطيعة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أعطيتكم شيئا، ثم قومها عامرة وقومها غير عامرة، ثم قال لاهل الاصل: ان شئتم فردوا عليهم ما بين ذلك وخذوا أرضكم، وان شئتم ردوا عليكم ثمن أرضكم ثم هي لهم.
ودليلنا على أنها ملك المحيى بكل حال دون المقطع، قوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهى له) ولان الاقطاع لا يوجب التمليك، والاحياء يوجب التمليك، فإذا اجتمعا كان ما أو وجب التمليك أقوى حكما مما لم يوجبه.
فأما حديث عمر رضى الله عنه فقد قال في قضيته: لولا أنها قطيعة رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أعطيتكم شيئا، فدل على أن من رأيه أنها للمحيى، وانما عدل عن هذا الرأى لما توجه إليها من اقطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره أن يبطله، فاستنزل الخصمين إلى ما قضى به مراضاة لا جبرا.
فان كان المقطع قد حجرها وجمع ترابها حتى تميزت عن غيرها فجاء غيره
فعمرها وحرثها نظر، فان كان المقطع مقيما على عمارتها حتى تغلب عليها الثاني فعمرها فهى للاول ويكون الثاني متطوعا بعمارته، وان كان المقطع قد ترك عمارتها فعمرها الثاني فهى للثاني دون الاول، وهكذا لو كان الاول قد بدأ بالعمل من غير اقطاع فهذا حكم الاقطاع.(15/231)
(فرع)
مضى ما سقناه من حديث أبيض بن حمال الذى وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم استقطعه الملح ثم انتزعه منه لما علم أنه كالماء العد، وفى إقطاع المعادن روى أحمد وأبو داود عن أبن عباس قال (أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحرث المزني معادن القبيلة جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم) وفى إسناده أبى أويس عبد الله بن عبد الله أخرج له مسلم في الشواهد وضعفه غير واحد.
قال أبو عمر بن عبد البر: هو غريب من حديث ابن عباس ليس يرويه عن أبى أويس غير ثور.
وحديث عمرو بن عوف رواه أحمد وأبو داود أيضا بمعنى حديث ابن عباس، وفى إسناده ابن ابنه كثير بن عبد الله بن عمرو ابن عوف عن أبيه عن جده.
والاحاديث واردة في جواز أن يقطع الامام من يأنس منه صلاحا مكانا فيه معادن غير ظاهرة حتى يعالج أمرها بالعمل والتنقيب والبحث.
ومن ثم فقد انتزع ما أقطعه من أرض مأرب للابيض بن حمال عندما علم أن الملح فيها كالماء الجارى ويشترط في إقطاع المعادن أن يكون في موات لا يختص به أحد.
وهذا أمر متفق عليه.
وقال في فتح الباري: حكى عياض أن الاقطاع تسويع الامام من مال الله شيئا لمن أهلا لذلك، وأكثر ما يستعمل في الارض وهو أن يخرج منها
لمن يراه يحوزه، إما بأن يملكه إياه فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته مدة.
قال السبكى: والثانى هو الذى يسمى في زماننا هذا إقطاعا ولم أر أحدا من أصحابنا ذكره.
وتخريجه على طريق فقهى مشكل.
قال والذى يظهر أنه يحصل للمقطع اختصاص كاختصاص المتحجر ولكنه لا يملك الرقبة، وبهذا جزم الطبري، وادعى الاذرعى نفى الخلاف في جواز تخصيص الامام بعض الجند بغلة أرضه إذا كان مستحقا لذلك.
هكذا في الفتح وحكى صاحب الفتح أيضا عن ابن التين أنه إنما يسمى إقطاعا إذا كان من أرض أو عقار، وانما يقطع من الفئ ولا يقطع من حق مسلم ولا معاهد،(15/232)
قال: وقد يكون الاقطاع تمليكا وغير تمليك، وعلى الثاني يحمل إقطاعه صلى الله عليه وسلم.
وذكر الخطابى وجها آخر فقال: إنما يحمى من الاراك ما بعد عن حضرة العمارة فلا تبلغه الابل الرائحة إذا أرسلت في الرعى اه إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز للامام أن يقطع ما لا يجوز إحياؤه من المعادن الظاهرة لان النبي صلى الله عليه وسلم استعاد من أبيض بن حمال ما أقطعه، لانه وإن كان فيه توسعة على المقطع له إلا أن فيه تضييقا على المسلمين فإذا رأى الامام أن مكانا نائيا عن العمران فيه من المعادن والمواد الاولية ما يدخل في منافع الناس، وهو من المعادن الظاهرة، إلا أن بعد مكانها عن العمران يجعلها في حكم المعادن الباطنة، لان حملها إلى حيث المنتفعون بها عمل يفوق أحيانا مؤنة التنقيب والحفر.
وقد تكون المعادن الظاهرة هي في حقيقتها مركبة من مواد مختلفة يحتاج فصلها بعضها عن بعض إلى مصانع ومعامل كالفوسفات والمنجنيز، وثاني أكسيد الكالسيوم الذى يستخرج من الجير وهو يمثل نسبة عالية في الجير تبلغ النصف
منه قدرا ووزنا، ومع ذلك فإن الجير مع احتوائه على ثانى أكسيد الكالسيوم يباع الطن منه بقروش معدودة في حين ان ثانى أكسيد الكالسيوم يباع بالجرام والسببت في ذلك هو نفقات استخلاصه ومؤنة تميزه ومن ثم يجوز للامام أن يقطع المناجم والمحاجر المحتوية على الخامات الظاهرة إذا قصد تصنيعها واستخلاص المواد النافعة الثمينة منها، وذلك يساوى التنقيب عن المعادن الباطنة.
(فرع)
مضى كلامنا في أمر كان يده الفقهاء من الاقطاع ويعده المختصون في زاماننا هذا باسم الترخيص، وهو إذن السلطان، فإذا إراد أحد التجار أن يشغل الطريق أمامه استأذن الحاكم فمنحه رخصة يتحدد فيها المساحة المأذون في شغلها نظير مكوس يؤديها توقف على تعبيد الطريق وتنظيفها وإنارة الشوارع وصيانتها من الروائح الكريهة والمزابل المؤذية وهى من الامور التى تناط باجتهاد السلطان وبصره بالامور ونظره في صلاح رعيته، والله اعلم بالصواب(15/233)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز لاحد أن يحمى مواتا ليمنع الاحياء ورعى ما فيه من الكلا.
لما روى الصعب بن جثامة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول (لا حمى إلا لله ولرسوله) فأما الرسول عليه السلام فإنه كان يجوز له أن يحمى لنفسه وللمسلمين، فأما لنفسه فإنه ما حمى ولكنه حمى للمسلمين.
والدليل عليه ما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين) وأما غيره من الائمة فلا يجوز أن يحمى لنفسه للخبر.
وهل يجوز أن حمى لخيل المجاهدين، ونعم الجزية، وإبل الصدقة وماشية من يضعف عن الابعاد في طلب النجعة؟ فيه قولان:
أحدهما لا يجوز للخبر.
والثانى يجوز لما روى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر فقال: يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الاسلام، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضى الله عنه وجعل ينفخ ويفتل شاربه وكان إذا كره أمرا فتل شاربه ونفخ فلما رأى الاعرابي ما به جعل يردد ذلك: فقال عمر: المال مال الله.
والعباد عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الارض شبرا في شبر) قال مالك: نبئت أنه كان يحمل في كل عام أربعين ألفا من الظهر، وقال مرة من الخيل.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه (أن عمر رضى الله عنه استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى وقال له، ياهنى اضمم جناحل عن الناس، واتق دعوة المظلوم، فان دعوة المظلوم مجابة.
وأدخل رب الصريمة والغنيمة.
واياك ونعم ابن عوف.
وإياك ونعم ابن عفان، فإنهما ان تهلك ما شيتهما يرجعا إلى نخل وزرع وان رب الصريمة ورب الغنيمة ان تهلك ماشيتهما فيأتياني فيقولا: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك، ان الماء والكلا أيسر عندي من الذهب والورق، والذى نفسي بيده لولا المال الذى أحمل عليه في سبيل الله(15/234)
ما حميت عليهم من بلادهم شبرا، فإن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا لحاجة والحاجة باقية لم يجز إحياؤها.
وإن زالت الحاجة ففيه وجهان:
(أحدهما)
يجوز لانه زال السبب.
(والثانى)
لا يجوز لان ما حكم بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص، فلا يجوز نقضه بالاجتهاد، وإن حماه إمام غيره وقلناه: إنه يصح حماه فأحياه رجل.
ففيه قولان
(أحدهما)
لا يملكه كما لا يملك ما حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(وَالثَّانِي)
يملك لان حمى الامام اجتهاد، وملك الارض بالاحياء نص، والنص لا ينقض بالاجتهاد (الشرح) حديث الصعب بن جثامة رواه أحمد وأبو داود والبخاري والنسائي ولفظ النسائي هو الذى ساقه المصنف، والفظ أحمد وأبى دَاوُد (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمى النقيع وقال (لا حمى إلا لله ولرسوله) وتتمة رواية البخاري هكذا: وقال (بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وأن عمر حمى شرف والربذة) وأخرج الحديث أيضا الحاكم وقال البيهقى: ان قوله (حمى النقيع) من قول الزهري.
وقد روى الحديث النسائي فذكر الموصول فقط وهو قوله (لا حمى إلا لله ورسوله) ويؤيد ما قاله البيهقى أن أبا داود أخرجه من حديث ابن وهب عن يونس عن الزهري فذكره وقال في آخره قال ابن شهاب: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع.
قال بعض المحدثين: وقد وهم الحاكم فزعم أن حديث لا حمى إلا لله متفق عليه.
وهو من أفراد البخاري، وتبع الحاكم في وهمه أبو الفتح القشيرى في الالمام وابن الرفعة في المطلب.
والصعب بن جثامة بتشديد المثلثة مع فتح الجيم اللبثى، صحابي مات في خلافة أبى بكر على ما قيل، والاصح أنه عاش إلى خلافة عثمان رضى الله عنه.
وحديث ابن عمر رواه أحمد وابن حبان.
والنقيع بالنون مكان معروف.
وحكى الخطابى أن بعضهم صحفه فقال بالموحدة، وهو على قدر عشرين فرسخا من المدينة ومساحته ميل في ثمانية أميال، أفاده ابن وهب في موطئه، وأهل(15/235)
النقيع كل موضع فيه الماء، وهذا النقيع المذكور غير نقيع الخضمات الذى جمع فيه أسعد بن زرارة بالمدينة على المشهور.
وقال ابن الجوزى: إن
بعضهم قال: إنهما واحد والاول أصح وأثر عمر سقناه في الفصل قبله في الرد على مالك، وأما خبر تولية هنئ مولى عمر فقد رواه البخاري عن أسلم مولى عمر وأخرجه عن الدراوردى عن زيد بن أسلم عن أبيه بلفظ المصنف.
وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مرسلا أما الاحكام فإن الحمى هو المنع من إحياء الموات ليتوفر فيه الكلا فترعاه المواشى، لان الحمى في كلامهم هو المنع، والحمى على ثلاثة أنواع: حمى حَمَاهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ روى أنه وقف على جبل يعمل فصلى عليه ثم قال: هذا حماى وأشار إلى النقيع وهو قدر ميل في ثمانية.
وقال الماوردى ستة أميال فحماه لخيل المسلمين.
ولان اجتهاد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أمته أمضى، وقضاؤه فيهم أنفذ، وكان ما حماه لمصالحهم أولى أن يكون مقرا من إحيائهم وعمارتهم.
فأما حمى الامام بعده فإن أراد أن يحمى لنفسه أو لاهله أو للاغنياء خصوصا لم يجز، وكان ما حماه مباحا لمن أحياه.
وان أراد أن يحمى لخيل المجاهدين ونعم الجزية والصدقة ومواشي الفقراء نظر، فإن كان الحمى يضر بكافة المسلمين فقرائهم وأغنيائهم لضيق الكلا عليهم فحمى أكثر مواتهم لم يجز.
وان كان لا يضر بهم لانه قليل من كثير يكتفى المسلمون بما بقى من مواتهم ففيه قولان
(أحدهما)
لا يجوز أن يحمى لرواية مجاهد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: المسلمون شركاء في ثلاثة.
الماء والغار والكلا وثمنه حرام، وسيأتى تخريجه في باب حكم المياه، وحديث الصعب بن جثامة الذى سبق.(15/236)
(والقول الثاني) يجوز له أن يحيى لما فيه من صلاح المسلمين، ولما روى أن أبا بكر رضى عنه حميى الربذة لابل الصدقة واستعمل عليها مولاه أبا أسامة وتولى عليه قطبة بن مالك الثعلبي رضى الله عنه وحمى عمر رضى الله عنه الشرف فحمى منه نحو ما حمى أبو بكر بالربذة، وولى عليه مولى له يقال له: هنئ وقال: يا هنى اضمم جناحك على المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوه المظلوم مستجابة وأدخل رب الصريمة وهى بالتصغير القطعة من الابل نحو الثلاثين أو ما بين العشرة إلى الاربعين ورب الغنيمة ما بين الاربعين إلى المائة من الشاء والغنم وتفرد به راع واحد وإياى ونعم ابن عوف يعنى عبد الرحمن ونعم ابن عفان يعنى عثمان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، ورب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه يقول: يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبالك، فالماء والكلا أيسر من الذهب والورق وعمر بهذا يلزم نفسه ويلزم أمراء المسلمين بعده بأن عليهم عوض ما هلك من أموال الرعية بسبب تقصيرهم في حفظ أموالهم وعنده أن توفير المرعى والكلا أيسر من توفير الذهب والفضة يبذلهما في تعويض ما تلف على رب الصريمة والغنيمة ثم يقول: وايم الله إنهم ليرون أنى قد ظلمتهم، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الاسلام.
وهكذا يعطى تقويما صحيحا وتقديرا سليما لمقومات الوطنية عند الشعب وهم الرعية ومقومات الديموقراطية والعدل عند الحاكم حين يسمح لرعيته أن يتهموه بالظلم إذا قصرت الدولة في بذل الخدمات وتأمين سلامة الرعية وهو حمى من أرضهم جزءا للمرعى فيجب ألا يسمح للاغنياء والقادرين أن يزاحموهم في مراعيهم لان لهم من بساتينهم ومزارعهم غنية عن مزاحمة الفقراء.
والحمى فيه نفع للفقراء والاغنياء، أما الفقراء فلانه مرعى صدقاتهم، وأما الاغنياء فلخيل المجاهدين عنهم، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا حمى إلا الله) فمعناه لا حمى إلا أن يقصد به وجه الله، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(15/237)
فيسلم فيما للفقراء المسلمين ومصالحهم فخالف فيه فعل الجاهلية فإن الذى في الجاهلية كان إذا استولى على بلد أوتى بكلب فجعله على جبل أو على نشز من الارض واستعداه فحيث انتهى عواؤه حماه لنفسه، فلا يرعى فيه غيره ويشارك الناس فيما سواه، وهكذا كان كليب بن وائل إذا أعجبته روضة ألقى فيها كلبا وحمى إلى منتهى عوائه وفيه يقول معبد بن شعبة الضبى: كفعل كليب أنبئت أنه يرى
* يخطط أكلاء المياه ويمنع وقال العباس بن مرداس: كما كان يبغيها كليب
* لظلمه من العز حتى صاح وهو قتيلها على وائل إذ يترك الكلب هائجا
* وإذ يمنع الاكلاء منها حلولها وأما حمى الواحد من عوام المسلمين فمحظور وحماه مباح، ان حمى لنفسه فقد تحكم وتعدى بمنعه، وان حمى للمسلمين فليس من أهل الولاية عليهم ولا ممن يؤثر اجتهاده لهم، وقد أخرج الشيخان عن أبى هريرة رضى الله عنه مرفوعا (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلا) .
فلو أن رجلا من عوام المسلمين حمى مواتا ومنع الناس منه زمانا رعاه وحده، ثم ظهر الامام عليه ورفع يده عنه لم يغرمه ما رعاه لانه ليس بمالك، ولا يعزره لانه أحد مستحقيه ولكن ينهاه عن مثله من التعدي.
فأما أمير البلد ووالى الاقليم إذا رأى أن يحمى لمصالح المسلمين كالامام فليس له ذلك الا بإذن الامام، لان اجتهاد الامام أعم.
ولكن لو أن والى الصدقات اجتمعت معه ماشية الصدقة، وقل المرعى لها وخاف عليها التلف ان لم يحم الموات لها: فإن منع الامام من الحمى كان والى الصدقات أولى، وان جوز الامام الحمى ففى جوازه لو إلى الصدقات عندما ذكرناه من حدوث الضرورة به وجهان.
(أحدهما)
يجوز كما يجوز عند الضرورة أن يبيع ما بيده من مال الصدقة،(15/238)
وإن كان بيعها لا يجوز من غير الضرورة، فعلى هذا يتقدر الحمى بزمان الضرورة، ولا يستديم بخلاف حمى الامام.
(والوجه الثاني) لا يجوز أن يحمى لانه ليس له أن يرفع الضرر عن أموال الفقراء بإدخال الضرر على الاغنياء، ويكون الضرر إن كان بالفريقين معا، وهذا أصح الوجهين كما أفاده الماوردى في الحاوى الكبير.
(فرع)
إذا حمى الامام مواتا وصححناه وقلنا: انه كحمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحياه رجل من عامة المسلمين فهل يملك بإحيائه أم لا؟ قال الماوردى تبعا للشيخ أبى اسحاق: فيه قولان.
أحدهما: لا يملك المحي ما أحياه من حمى الامام كما لا يملك حمى النبي صلى الله عليه وسلم لان كليهما حمى محرم.
والقول الثاني: يملك بالاحياء، وان منع منه لان حمى الامام اجتهاد وملك الموات بالاحياء نص، والنص أثبت حكما من الاجتهاد وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: باب حكم المياه الماء اثنان، مباح وغير مباح، فأما غير المباح فهو ما ينبع في أرض مملوكة، فصاحب الارض أحق به من غيره، لانه على المنصوص: يملكه، وعلى قول أبى إسحاق: لا يملكه، إلا أنه لا يجوز لغيره أن يدخل إلى ملكه بغير إذنه،
فكان أحق به، وإن فضل عن حاجته واحتاج إليه الماشية للكلا لزمه بدله من غير عوض.
وقال أبو عبيد بن حرب: لا يلزمه بذله كما لا يلزمه بذل الكلا للماشية ولا بذل الدلو والحبل ليستقى به الماء للماشية، والمذهب الاول لما روى إياس بن عمرو (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن بيع فضل الماء) .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلا منعه الله فضل رحمته) ويخالف الكلا فإنه لا يستخلف عقيب أخذه، وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف فتهلك ماشيته(15/239)
والماء يستخلف عقيب أخذه وما ينقص من الدلو والحبل لا يستخلف، فيستضر والضرر لا يزال بالضرر، ولا يلزمه بذل فضل الماء للزرع، لان الزرع لا حرمة له في نفسه، والماشية لها حرمة في نفسها، ولهذا لو كان الزرع له لم يلزمه سقيه، ولو كانت الماشية له لزمه سقيها، وان لم يفضل الماء عن حاجته لم يلزمه بذله، لان النبي صلى الله عليه وسلم علق الوعيد على منع الفضل.
ولان ما لا يفضل عن حاجته يستضر ببذله، والضرر لا يزال بالضرر.
(الشرح) حديث اياس بن عمرو عند أهل السنن وصححه الترمذي.
وقال أبو الفتح القشيرى: هو على شرط الشيخين وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر مرفوعا.
أما حديث أبى هريرة فقد وجدته عند الشيخين بلفظ (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلا) وللبخاري (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلا) وعند أحمد من حديث أبى هريرة أيضا (ولا يمنع فضل ماء بعد أن يستغنى عنه) أما اللفظ الذى ساقه المصنف معزوا إلى أبى هريرة فإنى وجدته عند أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ولفظه (من منع فضل مائه، أو فضل كلئه.
منعه الله عز وجل فضله يوم القيامة) وفى اسناده محمد بن راشد الخزاعى
وهو ثقة وقد ضعفه.
قال ابن حجر: صدوق يهم، ورمى بالقدر، ورواه الطبراني في الصغير عن عمرو بن شعيب ورواه في الكبير من حديث وائلة بلفظ آخر واسناده ضعيف والاحاديث يشهد بعضها لبعض ويشهد لها جميعا حديث أبى هريرة عند الشيخين وحديث عائشة عند أحمد وابن ماجه (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يمنع نفع البئر) وحديث جابر عند مسلم (نهى عن بيع فضل الماء) وفى مسند عبد الله بن أحمد عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بين أهل المدينة في النخل أن لا يمنع نقع بئر وقضى بين أهل البادية أن لا يمنع فضل ماء ليمنع به الكلا) والنقع الماء الفاضل فيها عن حاجة صاحبها، وقوله (فضل الماء) المراد به ما زاد على الحاجة ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد من حديث أبى هريرة بلفظ (ولا يمنع ماء بعد أن يستغنى عنه) .(15/240)
قال ابن حجر في فتح الباري: وهو محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة في الارض المملوكة.
وكذلك في الموات إذا كان لقصد التملك، والصحيح عند الشافعية ونص عليه في القديم وحرملة أن الحافر يملك ماءها.
وأما البئر المحفورة في الموات لقصد الارتفاق لا التملك فإن الحافر لا يملك ماءها بل يكون أحق به إلى أن يرتحل.
وفى الصورتين يجب عليه بذل ما يفضل عن حاجته.
والمراد حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته، هذا هو الصحيح عند الشافعية، وخص المالكية هذا الحكم بالموات.
وقالوا في البئر التى لا تملك لا يجب عليه بذل فضلها.
وأما الماء المحرز في الاناء فلا يجب بذل فضله لغير المضطر على الصحيح.
اه قال في البحر: والماء على أضرب، حق إجماعا كالانهار غير المستخرجة
والسيول، وملك إجماعا كماء يحرز في الجرار ونحوها، ومختلف فيه كماء الآبار والعيون والقنا المحتفرة في الملك اه قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن صاحب الحق أحق بمائه حتى يروى قال الحافظ ابن حجر، وما نفاه من الخلاف هو على القول بأن الماء يملك، فكأن الذين يذهبون إلى أنه يملك وهم الجمهور هم الذين لا خلاف عندهم في ذلك وقد استدل بتوجه النهى إلى الفضل على جواز بيع الماء الذى لا نضل فيه.
وقد تقدم في أبواب البيوع بحوث مستفيضة من المجموع فاشدد بها يديك.
وقوله (ليمنع به الكلا) هو النبات، رطبه ويابسه، والمعنى أن يكون حول البئر كلا ليس عنده ماء غيره، ولا يمكن أصحاب المواشى رعيه إلا إذا مكنوا من سقى بهائمهم من تلك لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعى، فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرعى، والى هذا التفسير ذهب الجمهور.
وعلى هذا يختص البذل بمن له ماشية، ويلحق به الرعاة إذا احتاجوا إلى الشرب، لانه إذا منعهم من الشرب امتنعوا من الرعى هناك.
ويحتمل أن يقال يمكنهم حمل الماء لانفسهم لقلة ما يحتاجون إليه منه بخلاف البهائم، والصحيح الاول، ويلتحق بذلك الزرع عند مالك، والصحيح عند الشافعية وبه قالت الحنفية الاختصاص بالماشية وفرق الشافعي فيما حكاه المزني(15/241)
عنه بين المواشى والزرع، بأن الماشية ذات أرواح يخشى من عطشها موتها، بخلاف الزرع، وبهذا أجاب النووي وغيره.
واستدل لمالك بحديث جابر في صحيح مسلم الذى ذكرناه لاطلاقه وعدم تقييده، وتعقب بأنه يحمل على المقيد، وعلى هذا لو لم يكن هناك كلا يرعى فلا منع من لانتفاء العلة.
على أنه ليس هناك صارف يصرف النهى عن معناه
الحقيقي من التحريم، لا سيما وأن النهى مصحوب في بعض روايات الحديث بالوعيد.
وقال في الفتح، وظاهر الحديث وجوب بذله مجانا وبه قال الجمهور.
وقيل: لصاحبه طلب القيمة من المحتاج إليه كما في طعام المضطر وتعقب بأنه يلزم منه جواز البيع حالة امتناع المحتاج من بذل القيمة، ورد بمنع الملازمة فيجوز أن يقال يجب عليه البذل وتثبت له القيمة في ذمة المبذول له، فيكون له أخذ القيمة منه متى أمكن، ولكنه لا يخفى أن رواية لا يباع فضل الماء، ورواية النهى عن بيع فضل الماء يدلان على تحريم البيع، ولو جاز له أخذ العوض لجاز له البيع.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وأما المباح فهو الماء الذى ينبع في الموات، فهو مشترك بين الناس لقوله صلى الله عليه وسلم (الناس شركاء في ثلاثة، الماء والنار والكلا) فمن سبق منهم إلى شئ منه كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به) فإن أراد أن يسقى منه أرضا، فإن كان نهرا عظيما كالنيل والفرات وما أشبههما من الاودية العظيمة، جاز أن يسقى منه ما شاء ومتى شاء، لانه لا ضرر فيه على أحد، وإن كان نهرا صغيرا لا يمكن سقى الارض منه الا أن يحبسه، فان كانت الارض متساوية، بدأ من أول النهر، فيحبس الماء حتى يسقى أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الكعب، ثم يرسله إلى من يليه، وعلى هذا إلى أن تنتهى الاراضي، لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قضى في شرب نهر من سيل أن للاعلى أن يشرب قبل الاسفل، ويجعل الماء فيه إلى الكعب، ثم يرسله إلى الاسفل الذى يليه كذلك، حتى تنتهى(15/242)
الارضون) وروى عبد الله بن الزبير أن الزبير ورجلا من الانصار تنازعا في
شراج الحرة التى يسقى بها النخل، فقال الانصاري للزبير: سرح الماء، فأبى الزبير، فاختصما إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير (اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك، فقال الانصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟ فتلون وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يا زبير اسق أرضك واحبس الماء إلى أن يبلغ الجذر) وإن كانت الارض بعضها أعلى من بعض ولا يقف الماء في الارض العالية إلى الكعب حتى يقف في الارض المستقلة إلى الوسط، فيسقى المستقلة حتى يبلغ الماء إلى الكعب، ثم يسدها ويسقى العالية حتى يبلغ الكعب، فإن أحيا جماعة أرضا على هذا النهر وسقوا منه، ثم جاء رجل فأحيا أرضا في أعلاه إذا سقى أرضه استضر أهل النهر، منع من ذلك، لان من ملك أرضا ملكها بمرافقها، والنهر من مرافق أرضهم فلا يجوز مضايقتهم فيه (الشرح) حديث (الناس شركاء) رواه أحمد وأبو داود عن أبى خراش عن بعض اصحاب النبي صلى الله علهى وَسَلَّمَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (المسلمون شركاء في ثلاثة في الماء والكلا والنار) ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس وزاد فيه (وثمنه حرام) وقد رواه أبو نعيم في الصحابة في ترجمة أبى خراش، ولم يذكر الرجل، وقد سئل أبو حاتم عنه فقال أبوخراش لَمْ يُدْرِكْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد وجدت ممن كنيته أبوخراش في الصحابة، وهو حدرد بن أبى حدود الاسلمي وهو صحابي قال ابن حجر في التقريب: له حديث واحد.
ووجدت هذا الحديث يذكره ابن الاثير في أسد الغابة يقول: روى جندل بن والق عن يحيى بن يحيى الاسلمي عن سعيد بن مقلاص عن الوليد بن أبى الوليد عن عمران بن ابى أنس عن حدود
الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (هجرة الرجل أخاه سنة كسفك دمه) ووجدت أبا داود يسميه في روايته حبان بن زيد وفى هامش فتح العلام(15/243)
أبوخداش حبان بن زيد الشعرى ثقة لم يعرفه ابن حزم فقال: انه مجهول.
انتهى.
وقال ابن حجر في التقريب: حبان بن زيد الشرعبى أبوخداش ثقة.
أخطأ من زعم أن له صحبة.
وقال في بلوغ المرام: عن رجل من الصحابة قال (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول (الناس شركاء في ثلاثة.
الكلا والماء والنار) رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات.
(قلت) والجهالة بالصحابى لا تؤثر في صحة الحديث كما هو معروف عند المحدثين، لانهم رضوان الله عليهم عدول أجمعون.
وأما رواية ابن عباس عند ابن ماجه والتى فيها (وثمنه حرام) ففيها عبد الله ابن خراش، هو متروك، وقد صححه ابن السكن، ويشهد لرواية ابن عباس رواية أبى خراش ورواية أبى هريرة عند ابن ماجه وعبد الله بن أحمد إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا يمنع الماء والنار والكلا) وأما حديث من (سبق الخ) فقد مر تخريجه في غير موضع وحديث عبادة بن الصامت رواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد والبيهقي والطبراني وفيها انقطاع بلفظ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في شرب النخل من السبيل أن الاعلى يشرب قبل الاسفل ويترك الماء إلى الكعبين ثم يرسل الماء إلى الاسفل الذى يليه.
وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء) ورواها عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَضَى في سيل مهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الاعلى على الاسفل) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إسْنَادِهِ عبد الرحمن بن الحرث المخزومى المدنى تكلم فيه الامام أحمد.(15/244)
وقال الحافظ في الفتح: إن إسناد هذا الحديث حسن ورواه الحاكم في المستدرك من حديث عائشة أنه قضى في سيل مهزور أن الاعلى يرسل إلى الاسفل ويحبس قدر الكعبين.
وأعله الدارقطني بالوقف وصححه الحاكم، ورواه ابن ماجه وأبو داود من حديث ثعلبة بن أبى مالك.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن أبى حاتم القرظى عن أبيه عن جده أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له سهم في بنى قريظة فخاصم إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مهزور السيل الذى يقسمون ماءه فقضى بينهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الماء إلى الكعبين لا يحبس الاعلى الاسفل) ومهزور وادى بنى قريظة بالحجاز.
قال ابن الاثير: أما مهروز بتقديم الراء على الزاى فموضع سوق المدينة.
وهذه الاحاديث تدل على أن الاعلى تستحق أرضه الشرب بالسيل والنيل وماء البئر قبل الارض التى تحتها، وأن الاعلى يمسك الماء حتى يبلغ الكعبين أي كعبي رجل الانسان الواقعيين عند مفصل الساق والقدم ثم يرسله بعد ذلك.
وقال صاحب البحر: إن الماء إذا كان قليلا فحده أن يعم أرض الاعلى إلى الكعبين في النخيل وإلى الشراك في الزرع لقضائه صلى الله عليه وسلم بذلك في خبر عبادة بن الصامت.
قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير (اسق أرضك حتى يبلغ الجدر) فقيل: عقوبة لخصمه، وقيل: بل هو المستحق، وكان أمره صلى الله عليه وسلم بالتفضيل، فإن كانت الارض بعضها مطمئن فلا يبلغ في بعضها الكعبين إلا وهو في المطمئن إلى الركبتين، قدم المطمئن إلى الكعبين ثم حبسه
وسقى باقيها.
وقال أبو طالب: العبرة بالكفاية للاعلى.
أما حديث الزبير فقد رواه أصحاب الكتب الستة وهو عند الخمسة من رواية عبد الله بن الزبير عن أبيه وعند النسائي من رواية عبد الله بن الزبير لم يذكر فيه عن أبيه وللبخاري في رواية قال: خاصم الزبير رجلا وذكر نحوه وزاد فيه: فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه، وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأى فيه سعة له وللانصاري، فلما أحفظ الانصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم) .(15/245)
قال عروة: قال الزبير (فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت الا في ذلك) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) رواه أحمد كذلك لكن قال، عن عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا وذكره جعله من مسنده وزاد البخاري في رواية.
قال ابن شهاب فقدرت الانصار والناس قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اسق يا زبير ثم احتس الماء حتى يرجع إلى الجدر) فكان ذلك إلى الكعبين، وقد جاء هذا الحديث عند المحدثين في أبواب الاقضية وأن القاضى إذا حكم وهو غضبان صح ان صادف الحق لانه صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بعد أن أغضبه الرجل ولا يخفى أنه لا يصح الحاق غيره صلى الله عليه وسلم به لانه معصوم فلا يدل حكمه صلى الله عليه وسلم وهو غضبان على جواز ذلك للقضاء، والنبى صلى الله عليه وسلم معصوم عن الحكم بالباطل في غضبه ورضاه بخلاف غيره، ولهذا ذهب بعض الحنابلة إلى أنه لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهى عنه، وسيأتى مزيد ايضاح ان شاء الله تعالى في كتاب الاقضية، وقد رواه مالك في موطئه من حديث
عروة عن ابيه.
والرجل المبهم الذى خاصم الزبير هو ثعلبة بن حاطب، وقيل حميد، وقيل حاطب بن ابى بلتعة ولا يصح لانه ليس أنصاريا، وقيل: انه ثابت بن قيس بن شماس، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله بعد ان جاء في مقاله بما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم جار في الحكم لاجل القرابة لان ذلك كان في أوائل الاسلام وقد كان صلى الله عليه وسلم يتالف الناس إذ ذاك ترك قتل عبد الله بن أبى بعد أن جاء بما يسوغ به قتله.
وقال القرطبى: يحتمل انه لم يكن منافقا بل صدر منه ذلك عن غير قصد، كما اتفق لحاطب بن أبى بلتعة في قصة تخابره مع العدو ومسطح في قصة الافك وحمنة وغيرهم ممن بدره لسانه بدرة شيطانية.
على ان الحكم في هذا الفصل ياتي هكذا: إذا كان الماء صغير المجرى بحيث يزدهم الناس فيه ويتشاحون في مائة أو سيل يتشاح الناس من أصحاب الارض الشاربة منه فيه، فان يبدأ بمن في أول النهر فيسقى ويحبس الماء حتى يبلغ إلى(15/246)
الكعب ثم برسل إلى الذى يليه فيصنع كذلك، وعلى هذا إلى ان تنتهى الاراضي كلها، فان لم يفضل عن الاول شئ أو عن الثاني أو عمن يليهم فلا شئ للباقين، لانه ليس لهم إلا ما فضل، فهم كالعصبة في الميراث، وهذا قول الفقهاء من اهل المدينة ومالك والشافعي وأحمد ولا نعلم فيه ومخالفا، والاصل فيه حديث الزبير، قال الزهري: نظرنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم (ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر) فوجدنا ذلك إلى الكعبين.
قال أبو عبيد: الشراج جمع شرج، والشرج نهر صغير، والحرة أرض ملتبسة بحجارة بركانية سود، والجدر الجدار، وانما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير
ان يسقى ثم يرسل الماء تسهيلا على غيره، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها، فان دخولوا على أن يتساووا، تساووا في الانفاق، وان دخولوا على أن يتفاضلوا تفاضلوا في الانفاق، ويكون الماء بينهم على قدر النفقة، لانهم استفادوا ذلك بالانفاق فكان حقهم على قدره، فإن أرادوا سقى اراضيهم بالمهاياة يوما يوما جاز، وان ارادوا قسمة الماء نصبوا خشبة مستوية قبل الاراضي وتفتح فيها كوى على قدر حقوقهم، فخرج حصة كل واحد منهم إلى أرضه، فان أراد أحدهم أن يأخذ حقه من الماء قبل المقسم في ساقية يحفرها إلى أرضه منع من ذلك، لان حريم النهر مشترك بينهم، فلا يجوز لواحد منهم ان يحفر فيه، فان أراد أن ينصب رحا قبل المقسم ويديرها بالماء منع من ذلك، لانه يتصرف في حريم مشترك، فان أراد أن يأخذ الماء ويسقى به أرضا اخرى ليس لها رسم بشرب من هذا النهر منع منه يجعل لنفسه شربا لم يكن له، كما لا يجوز لمن له داران متلاصقان في دربين أن يفتح من أحدهما بابا إلى الاخرى فيجعل لنفسه طريقا لم يكن له، والله تعالى أعلم.
(الشرح) قوله: بالمهايأة أي بالمناوبة.
وقوله: كوى جمع كوة بضم الكاف وتشديد الواو مثل مدية ومدى وتفتح ايضا وهى الثقب في الحائط.(15/247)
إذا كان النهر لجماعة وقد قلنا فيما مضى ان النهر المحيى في موات يكون لمحييه حقوق الملك، وان لم يكن مالكا فهو بينهم على حسب العمل والنفقة أو على حسب اتفاقهم، لانه انما كان لهم حق الملك بالعمارة والعمارة بالنفقة، فان كفى جميعهم فلا كلام، وان لم يكفهم وتراضوا على قسمته بالمهاياة أو غيرها جاز لانه حقهم
لا يخرج عنهم، وان تشاحوا في قسمته قسمه الحاكم بينهم على قدر نفقتهم، لان لكل واحد منهم من الحقوق بقدر ذلك، فتؤخذ خشبة صلبة أو حجر مستوى الطرفين والوسط فيوضع على موضع مستو من الارض في مقدم الماء فيه حزوز أو ثقوب متساوية في السعة على قدر حقوقهم يخرج من كل جزء أو ثقب إلى ساقية مفردة لكل واحد منهم، فإذا حصل الماء في ساقيته انفرد به وليس له أن يأخذ قبل القسم، كما أن ليس له أن يسقى أرضا ليس لها رسم شرب في هذا الماء لان ذلك يدل على أن لها قسما في هذا الماء، فربما جعل سقيها منه دليلا على استحقاقها لذلك فيستضر الشركاء ويصير هذا كما لو كان له دار بابها في درب لا ينفذ ودار بابها في درب آخر ظهرها ملاصق لظهر داره الاولى، فأراد تنفيذ أحداهما إلى الاخرى لم يجز، لانه يجعل لنفسه استطارقا من كل واحدة من الدارين وان قسموا ماء النهر المشترك بالمهايأة جاز إذا تراضوا به وكان حق كل واحد منهم معلوما مثل أن يجعلوا لكل حصه يوما وليلة أو أكثر من ذلك أو أقل.
وان قسموا النهار فجعلوا الواحد من طلوع الشمس إلى وقت الزوال وللاخر من الزوال إلى الغروب ونحو ذلك جاز.
وان قسموه ساعات وأمكن ضبط ذلك بشئ معلوم كطاسة مثقوبة تترك في الماء وفيها علامات إذا انتهى الماء إلى علامه كانت ساعة وإذا انتهى إلى الاخرى كانت ساعتين.
لا يجوز في النهر المشترك ان يتصرف أحد المشتركين بعمل رحى أو دولاب أو معبر للماء لانه يتصرف في نهر مشترك وفى حريمه بغير اذن شركائه.
اما الشرب لنفسه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه والانتفاع به في أشباه ذلك فانه يجوز لكل المسلمين، ولا يحل لصاحب الماء منعه من ذلك لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم رجل كان يفضل ماء الطريق فمنعه ابن السبيل) رواه البخاري.(15/248)
وعن بهيسه عن أبيها أنه قال: يا نبى الله ما الشئ الذى لا يحل منعه؟ قال: (الماء) قال يا نبى الله ما الشئ الذى لا يحل منعه؟ قال (الملح) قال يا نبى الله ما الشئ الذى لا يحل منعه؟ قال (ان تفعل الخير خير لك) رواه أبو داود، ولان ذلك لا يؤثر في العادة وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، فاما إذا لم يفضل شئ عن حاجة ماشيته لم يلزمه.
والله تعال أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب اللقطة
إذا وجد الحر الرشيد لقطة يمكن حفظها وتعريفها كالذهب والفضة والجواهر والثياب - فان كان ذلك في غير الحرم - جاز التقاطه للتملك، لما روى عبد الله ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللقطة فقال (ما كان منها في طريق مئاء فعرفها حولا، فان جاء صاحبها والا فهى لك، وما كان منها في خراب ففيها وفى الركاز الخمس) وله ان يلتقطها للحفظ على صاحبها، لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا.
كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون اخيه) وان كانت في الحرم لم يمر أن يأخذها الا للحفظ على صاحبها.
ومن أصحابنا من قال: يجوز التقاطها للتملك لانها أرض مباحة فجاز اخذ لقطتها للتملك كغير الحرم، والمذهب الاول، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والارض، فهو حرام إلى يوم القيامة، لم يحل لاحد قبلى، ولا يحل لاحد بعدى ولم يحل لى الا ساعة من نهار، وهو حرام إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها، ولا
يعضد شجرها، ولا تلتقط لقطتها الا لمعرف) ويلزمه المقام للتعريف، وان لم يمكنه المقام دفعها إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح
(فصل)
وهل يجب أخذها؟ روى المزني أنه قال: لا أحب تركها.
وقال(15/249)
في الام: لا يجوز تركها.
فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
لَا يجب لانها أمانة فلم يجب أخذها كالوديعة
(والثانى)
يجب، لما روى ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (حرمة مال المؤمن كحرمة دمه) ولو خاف على نفسه لوجب حفظها، فكذلك إذا خاف على ماله.
وقال أبو العباس وأبو إسحاق وغيرهما (ان كانت في موضع لا يخاف عليها لامانة أهله لم يجب عليه.
لان غيره يقوم مقامه في حفظها، وإن كان في موضع يخاف عليها لقلة أمانة أهله وجب، لان غيره لا يقوم مقامه، فتعين عليه، وحمل القولين على هذين الحالين، فإن تركها ولم يأخذها لم يضمن، لان المال انما يضمن باليد أو بالاتلاف.
ولم يوجد شئ من ذلك، ولهذا لا يضمن الوديعة إذا ترك أخذها فكذلك اللقطة،
(فصل)
وان أخذها اثنان كانت بينهما، كما لو أخذا صيدا كان بينهما، فإن أخذها واحد وضاعت منه ووجدها غيره وجب عليه ردها إلى الاول لانه سبق إليها فقدم، كما لو سبق إلى موات فتحجره (الشرح) حديث عبد الله بن عمر مروى من طريق عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وقد مضى للنووي تخريجه في زكاة الركاز.
وقد روى الجوزجانى والاثرم في كتابيهما قال، حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد قال حدثنى عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال (أتى رَجُلٌ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
يا رسول الله كيف ترى من متاع يرى في الطريق الميتاء أو في قرية مسكونة؟ فقال عرفه سنه، فإن جاء صاحبه والا فشأنك به) وحديث (من كشف عن مسلم كربة الخ) سبق في غير موضع، وحديث ابن عباس مضى في الحج، وحديث ابن مسعود مضى في البيوع في غير موضع أما لغات الفصل فإن اللقطة بفتح القاف اسم للملتقط.
قال الخليل بن أحمد لان ما جاء عل فعلة فهو اسم للفاعل، كقولهم همزة ولمزة وضحكة وهزأة.
واللقطة بسكون القاف المال الملقوط مثل الضحكة الذى يضحك منه والهزأة(15/250)
الذى يهزأ به وقال الاصمعي وابن الاعرابي والفراء: هي بفتح القاف اسم المال الملقوط أيضا وتعريفها عند الفقهاء المال الضائع من ربه يلتقطه غيره وقال الزمخشري، اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها وأصله من لفظ الشئ والتقطه إذا اخذه من الارض.
وأصل فعله في الكلام اسم الفاعل وفعلة اسم المفعول، غير أن كلام العرب جاء في اللقطة على غير قياس.
أجمع اهل اللغة ورواة الاخبار على أن اللقطة الشئ الملتقط.
ذكره الازهرى.
قال ابن عرفة الالتقاط وجود الشئ من غير طلب.
قوله (مئتاء) أي مسلوك مفعول من الاتيان، وقد تبدل التاء دالا لمجاورة النطق فتكون ميداء، ولا يزال العامة ينطقونها محرفة فيقولون المدأ.
وفى الحديث: لولا أنه طريق مئتاء لحزنا عليك يا إبراهيم أما الاحكام فإن اللقطة إذا وجدت بمضيعة وأمن نفسه عليها أخذها.
وهذا قول الشافعي رضى الله عنه.
وقال أحمد رضى الله عنه: الافضل ترك الالتقاط.
وروى معنى ذلك عن ابن عباس وابن عمر، وبه قال جابر وابن زيد والربيع بن خيثم وعطاه، ومر
شريح بدرهم فلم يعرض له.
وقال الشافعي رضى الله عنه: انه يجب أخذها لقوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فإن كان وليه وجب عليه حفظ ماله وقال في الام في اللقطة الصغيرة في ضالة الغنم إذا وجدتها في موضع مهلكة فهى لك فكلها، فإذا جاء صاحبها فاغرمها له.
وقال في المال يعرفه سنة ثم يأكله ان شاء، فإن جاء صاحبه غرمها له، وقال يعرفها سنة ثم يأكلها، موسرا كان أو معسرا إن شاء، إلا أنى لا أرى له أن يخلطها بماله ولا يأكلها حتى يشهد على عددها ووزنها وظرفها وعفاصها ووكائها فمتى جاء صاحبها غرمها له الخ.
اه وممن رأى أخذها سعيد بن المسيب والحسن بن صالح وأبو حنيفة، وأخذها(15/251)
أبى بن كعب وسويد بن غفلة.
وقال مالك ان كان شيئا له بال يأخذه أحب إلى ويعرفه، لان فيه حفظ مال المسلم عليه، فكان أولى من تضييعه وتخليصه من الغرق وقال ابن قدامة من الحنابلة في المغنى: ولنا قول ابن عمر وابن عابس ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة، ولانه تعريض لنفسه لاكل الحرام، وتضييع الواجب من تعريفها وأداء الامانة فيها، فكان تركه أولى وأسلم، كولاية مال اليتيم وتخليل الخمر.
فإذا ثبت هذا فان اللقطة والضوال مختلفات في الجنس والحكم، فالضوال الحيوان، لانه يضل بنفسه، واللقطة غير الحيوان، سميت بذلك لالتقاط واجدها لها، ولها حالتان.
(إحداهما) أن توجد في أرض مملوكة، فلا يجوز لواجدها التعرض لاخذها
وهى في الظاهر لمالك الارض إن ادعاها، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عبد الله بن عمرو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللقطة فقال ما كان منها في طريق ميتاء فعرفها حولا، فإن جاء صاحبها والا فهى لك، وما كان في خراب ففيها وفى الركاز الخمس) والحال الثانية: أن توجد في أرض غير مملوكة من مسجد أو طريق أو موات فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: إما أن يكون بمكة أو بغير مكة، فإن كان بغير مكة من سائر البلاد فعلى ضربين، ظاهر ومدفون، فإن كان ظاهرا فعلى ضربين أحدهما ما لا يبقى كالطعام الرطب فله حكم نذكره من بعد
(والثانى)
أن يكون مما يبقى كالدراهم والدنانير والثياب والحلى والقماش فهذه هي اللقطة التى قال فِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حديث زيد بن خالد قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللقطة الذهب والورق فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه، وسأله عن ضالة الابل، فقال: مالك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها،(15/252)
وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك أو لاخيك أو للذئب) متفق عليه.
فعليه أن يقوم بشروط تعريفها ثم له بعد الحول إن لم يأت صاحبها أن يتملكها وإن كان مدفونا فضربان جاهلي وإسلامى، فإن كان إسلاميا فلقطة أيضا وهى على ما ذكرنا، وإن كان جاهليا فهو ركاز يملكه واجده وعليه وإخراج خمسه في مصرف الزكوات للحديث (وفى الركاز الخمس) .
وإن كانت اللقطة بمكة فمذهب الشافعي رضى الله عنه أنه ليس لواجدها أن يتملكها، وعليه إن أخذها أن يقيم بتعريفها أبدا بخلاف سائر البلاد، وقال بعض
أصحابنا: مكة وغيرها سواء في اللقطة استدلالا بعموم الخبر، وهذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم (إن أبى إبراهيم حرم مكة، فلا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) وفى المنشد تأويلان: أحدهما وهو قول أبى عبيد: إنه صاحبها الطالب، والناشد هو المعرف الواجد لها.
قال الشاعر: يصيخ للبناة أسماعه
* إصاخة الناشد للمنشد فكأن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يحل أن يتملكها إلا صاحبها التى هي له دون الواجد، والتأويل الثاني وهو للشافعي رضى الله عنه أن المنشد الواجد المعرف، والناشد هو المالك الطالب، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال (أيها الناشد غيرك الواجد) يعنى لا وجدت كأنه دعا عليه، فعلى هذا التأويل معنى قوله: لا تحل لقطتها إلا لمنشد أي لمعرف يقيم على تعريفها ولا يتملكها، فكان في كلا التأويلين دليل على تحريم تملكها، ولان مكة لما باينت غيرها في تحريم صيدها وشجرها تغليظا لحرمتها باينت غيرها في ملك اللقطة، ولان مكة لا يعود الخارج منها غالبا الا بعد حول ان عاد، فلم ينتشر انشادها في البلاد كلها، فلذلك وجب عليه مداومة تعريفها، ولا فرق بين مكه وبين سائر الحرم لاستواء جميع ذلك في الحرمه.(15/253)
فأما عرفة ومصلى ابراهيم عليه السلام ففيه وجهان.
أحدهما: أنه حل تحل لقطته قياسا على جميع الحل.
والثانى: أنه كالحرم لا تحل لقطته الا لمنشد لان ذلك مجمع الحاج، ثم اختلفوا في جواز انشادها في المسجد الحرام مع اتفاقهم على تحريم انشادها في غيره من المساجد على وجهين (أصحهما) جوازه اعتبارا بالعرف وأنه مجمع الناس.
(فرع)
إذا ضاعت اللقطه من ملتقطها بغير تفريط فلا ضمان عليه لانها أمانه في يده فأشبهت الوديعة، فإن التقطها آخر فعرف أنها ضاعت من الاول فعليه ردها إليه لانه قد ثبت له حق التمول، وولاية التعريف والحفظ، فلا يزول ذلك بالضياع.
فإن لم يعلم الثاني بالحال حتى عرفها حولا ملكها، لان سبب الملك وجد منه من غير عدوان فثبت الملك به كالاول، ولا يملك الاول انتزاعها.
لان الملك مقدم على حق التملك، وإذا جاء صاحبها فله أخذها من الثاني، وليس له مطالبة الاول لانه لم يفرط، وان علم الثاني بالاول فردها إليه فأبى أخذها وقال عرفها أنت فعرفها ملكها إيضا، لان الاول ترك حقه فسقط، وان قال: عرفها وتكون بيننا ففعل صح أيضا وكانت بينهما لانه أسقط حقه من نصفها ووكله في الباقي، وان قصد الثاني بالتعريف تملكها لنفسه دون الاول احتمل وجهين.
(الاول) يملكها، لان سبب الملك وجد منه فملكها كما لو أذن له الاول في تعريفها لنفسه.
(والثانى)
لا يملكها لان ولاية التعريف للاول أشبه ما لو غصبها من الملتقط غاصب فعرفها، وكذلك الحكم إذا علم الثاني بالاول فرفعها ولم يعلمه بها، ويشبه هذا المتحجر في الموات إذا سبقه غيره إلى ما حجره فأحياه بغير اذنه، فأما ان غصبها غاصب من الملتقط فعرفها لم يملكها وجها واحدا، لانه معتد بأخذها ولم يوجد منه سبب تملكها، فإن الالتقاط من جملة السبب ولم يوجد منه، ويفارق هذا ما إذا التقطها ثان فإنه وجد منه الالتقاط والتعريف.
(فرع)
إذا التقطها اثنان فعرفاها حولا ملكاها جميعا، وإن قلنا بوقوف الملك على الاختيار فاختار أحدهما دون الآخر ملك المختار نصفها دون الآخر(15/254)
وإن رأياها معا فبادر أحدهما فأخذها، أو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه فأخذها
فهى لآخذها، لان استحقاق اللقطة بالاخذ لا بالرؤية كالاصطياد.
وإن قال أحدهما لصاحبه: هاتها فأخذها نظرت، فان أخذها لنفسه فهى له دون الآمر، وإن أخذها للآمر فهى له كما لو وكله في الاصطياد له.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإذا أخذها عرف عفاصها، وهو الوعاء الذى تكون فيه، ووكاءها وهو الذى تشد به وجنسها وقدرها، لما روى زيد بن خالد الجهنى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ اللقطة فقال (اعرف عفاصها ووكاءها وعرفها سنة، فان جاء من يعرفها وإلا فاخلطها بمالك) فنص على العفاص والوكاء، وقسنا عليهما الجنس والقدر، ولانه إذا عرف هذه الاشياء لم تختلط بماله، وتعرف به صدق من يدعيها، وهل يلزمه أن يشهد عليها وعلى اللقيط؟ فيه ثلاثة أوجه.
(أحدهما)
لا يجب لانه دخول في أمانة فلم يجب الاشهاد عليه كقبول الوديعة
(والثانى)
يجب لما روى عياض بن حمار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (من التقط لقطة فليشهد ذا عدل، أو ذوى عدل ولا يكتم ولا يغيب) ولانه إذا لم يشهد لم يؤمن أن يموت فتضيع اللقطة أو يسترق اللقيط.
(والثالث) أنه لا يجب لانه اكتساب مال فلم يجب الاشهاد عليه كالبيع، ويجب على اللقيط لانه يحفظ به النسب فوجب الاشهاد عليه كالنكاح، وإن أخذها وأراد الحفظ على صاحبها لم يلزمه التعريف، لان التعريف للتملك فإذا لم يرد التملك لم يجب التعريف.
فان أراد أن يتملكها نظرت، فان كان مالا له قدر يرجع من ضاع منه في طلبه لزمه أن يعرفه سنة لحديث عبد الله بن عمرو.
وحديث زيد بن خالد، وهل يجوز تعريفها سنة متفرقة؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يجوز، ومتى قطع استأنف، لانه إذا قطع لم يظهر أمرها
ولم يظهر طالبها.(15/255)
(والثانى)
يجوز لان اسم السنة يقع عليها، ولهذا لو نذر صوم سنه جاز أن يصوم سنه متفرقه.
ويجب أن يكون التعريف في أوقات اجتماع الناس كأوقات الصلوات وغيرها، وفى المواضع التى يجتمع الناس فيها كالاسواق وأبواب المساجد لان المقصود لا يحصل إلا بذلك ويكثر منه في الموضع الذى وجدها فيه، لان من ضاع منه شئ يطلبه في الموضع الذى ضاع فيه، ولا يعرفها في المساجد، لما روى جابر قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا ينشد ضالة في المسجد فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا وجدت) وذلك لانه كان يكره أن ترفع فيه الاصوات، ويقول: من ضاع منه شئ، أو من ضاع منه دنانير، ولا يزيد عليها حتى لا يضبطها رجل فيدعيها، فان ذكر النوع والقدر والعفاص والوكاء، ففيه وجهان.
أحدهما: لا يضمن، لان بمجرد الصفه لا يجب الدفع، والثانى: يضمن لانه لا يؤمن أن يحفظ ذلك رجل ثم يرافعه إلى من يوجب الدفع بالصفة، فان لم يوجد من يتطوع بالنداء كانت الاجرة على الملتقط، لانه يتملك به، وان كانت اللقطة مما لا يطلب كالتمرة واللقمه لم تعرف، لما روى أنس قَالَ: مَرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تمرة في الطريق مطروحه فقال (لولا أن أخشى أن تكون من الصدقة لاكلتها) وان كان مما يطلب الا أنه قليل، ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: يعرف القليل والكثير سنه وهو ظاهر النص لعموم الاخبار.
والثانى: لا يعرف الدينار، لما روى أن عليا كرم الله وجهه وجد دينارا فعرفه ثلاثا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كله أو شأنك به) .
والثالث: يعرف ما يقطع فيه السارق، ولا يعرف ما دونه، لانه تافه، ولهذا قالت عائشة رضى الله عنها: ما كانت اليد تقطع عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الشئ التافه.
(الشرح) حديث زيد بن خالد الجهنى رواه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ الذى ساقه المصنف أقرب إلى رواية أحمد.
ولفظ الشيخين (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللقطة الذهب والورق فقال: اعرف وكائها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها(15/256)
يوما من الدهر فأدها إليه.
وسأله عن ضالة الابل فقال: مالك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها.
وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك أو لاخيك أو للذئب) ولم يقل فيه أحمد (الذهب أو الورق) وفى رواية لمسلم (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهى لك) وحديث عياض بن حمار رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود النسائي وابن حبان، وفى لفظ للبيهقي (ثم لا يكتم وليعرف) وصححه ابن الجارود وبان حبان وقد رواه الشافعي أورده الربيع في اختلاف مالك والشافعي في اللقطة ليلزم مالكا بما رواه فقال: أخبرنا مالك عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهنى الخ.
أما حديث جابر فقد مضى تخريجه في كتاب الصلاة من المجموع.
أما حديث أنس فقد أخرجه الشيخان.
أما حديث على فقد أخرجه أبو داود عن بلال بن يحيى العبسى عنه وفيه (أنه التقط دينارا فاشترى به دقيقا فعرفه صاحب الدقيق فرد عليه الدينار فأخذه على فقطع منه قيراطين فاشترى به لحما.
قال المنذرى: في سماع بلال بن يحيى من على نظر.
وقال الحافظ بن حجر: إسناده حسن، ورواه أبو داود أيضا
عن أبى سعيد الخدرى أن على بن أبى طالب وجد دينارا، فأتى به فاطمة عسألت عَنْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (هو رزق الله فأكل مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكل على وفاطمة، فلما كان بعد ذلك أتته امرأة تنشد الدينار، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا على أد الدينار) وفى إسناده رجل مجهول.
وأخرجه أبو داود أيضا من وجه آخر عن أبى سعيد، وذكره مطولا وفى إسناده موسى بن يعقوب الزمعى وثقه ابن معين.
وقال ابن عدى لا بأس به، وقال النسائي ليس بالقوى.
وروى هذا الحديث الشافعي عن الدراوردى عن شريك بن أبى نمر عن عطاء ابن يسار عن أبى سعيد الخدرى وزاد (أنه أمره أن يعرفه) ورواه عبد الرزاق(15/257)
من هذا الوجه، وزاد فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام، وفى إسناده هذه الزيادة أبو بكر بن أبى سبرة وهو ضعيف جدا.
وقد أعل البيهقى هذه الروايات لاضطرابها ولمعارضتها لاحاديث اشتراط السنة في التعريف، قال ويحتمل أن يكون إنما أباح له الاكل قبل التعريف للاضطرار، وأما خبر عائشة فقد رواه الشيخان وأحمد، وسيأتى في الحدود إن شاء الله تعالى.
قولهن (فليشهد) ظاهر الامر يدل على وجوب الاشهاد، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وفى كيفية الاشهاد قولان، أحدهما يشهد أنه وجد لقطة ولا يعلم بالعفاص ولا غيره لئلا يتوصل بذلك الكاذب إلى أخذها، والثانى يشهد على صفاتها كلها حتى إذا مات لم يتصرف فيها الوارث، وأشار بعض أصحابنا إلى التوسط بين الوجهين فقال لا يستوعب الصفات، ولكن يذكر بعضها، قال النووي وهو الاصح، والثانى من قولى الشافعي أنه لا يجب الاشهاد
وبه قال مالك وأحمد وغيرهما، وقالوا إنما يستحب احتياطا، لان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به في حديث زيد بن خالد، ولو كان واجبا لبينه أما العفاص بكسر العين المهملة وتخفيف الفاء، وهو الوعاء الذى تكون فيه النفقة جلدا أو غيرة أخذا من العفص وهو الثنى لانثنائه على ما فيه، وقد وقع في زوائد المسند لعبد الله بن احمد في حديث لابي بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال عرفها فان جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها ووكائها وفرقتها فأعطها إياه وإلا فاستمتع بها) والعفاص يكون على رأس القارورة لسدها وأما الذى يدخل فم القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام، فحيث يذكر الوعاء مع العفاص فالمراد الاول، وحيث يذكر العفاص مع الوكاء فالمراد الثاني، أفاده في فتح الباري قوله (ولا يكتم) يعنى لا يحل كتم اللقطة إذا جاء لها صاحبها وجاء من أوصافها ما يغلب الظن بصدقة، والمقصود من معرفة الآلات التى تحفظ فيها ويلتحق بذلك معرفة جنسها ونوعها وقدرها، فقد قال النووي: يجمع بين الروايات بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين فيعرف العلامات وقت الالتقاط(15/258)
حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها، ثم يعرفها مرة أخرى بعد تعريفها سنة إذا أراد أن يتملكها ليعلم قدرها وصفتها إذا جاء بعد ذلك فردها إليه قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن تكون في الروايتين (يشير إلى رواية البخاري، عرفها سنة ثم عرف عفاصها ووكاءها) ورواية البخاري أيضا (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة)) ثم بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا، فلا تقتضي تخالفا يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون المخرج واحدا والقصة واحدة، وإنما يحسن الجمع بما تقدم لو كان المخرج مختلفا أو تعددت القصة، وليس الغرض إلا أن يقع
التعرف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما يسبق.
قال واختلف العملاء في هذه المعرفة على قولين أظهرهما الوجوب لظاهر الامر.
وقبل يستحب، وقال بعضهم يجب عند الالتقاط ويستحب بعده.
وقال أيضا في الفتح عند قوله (ثم عرفها) محل ذلك المحافل كأبواب المساجد والاسواق ونحو ذلك.
قلت: كبرامج الاذاعة المخصصة للاشياء المفقودة كبرنامج طريق السلامه الذى توفر له إذاعة القاهرة عشر دقائق من صباح كل يوم في زماننا هذا.
قوله (سنه) الظاهر أن تكون متوالية ولكن على وجه لا يكون على جهة الاستيعاب، فلا يلزمه التعريف بالليل، ولا استيعاب الايام بل على المعتاد، فيعرف في الابتداء كل يوم مرتين في طرفي النهار، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرة، ثم في كل شهر مرة، ولا يشترط أن يعرفها بنفسه، بل يجوز له توكيل غيره، ويعرفها في مكان وجودها وفى غيره.
كذا قال العلماء، وظاهره أن التعريف واجد لاقتضاء الامر الوجوب، لا سيما وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم من لم يعرفها بالضلال في حديث لزيد بن خالد عند أحمد ومسلم (قال: لا يأوى الضالة إلا ضال ما لم يعرفها) هكذا جاءت (لا يأوى) من الثلاثي اللازم، وقد يتعدى كما في هذا الحديث.
وفى المبادرة إلى التعريف خلاف مبناه هل الامر يقتضى الفور أم على التراخي وظاهره أنه لا يجب التعريف بعد السنه، وبه قال الجمهور وادعى صاحب البحر الاجماع، على أنه وردت رواية عند البخاري عن أبى بن كعب بلفظ: وجدت(15/259)
صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال (عرفها حولا، فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته ثانيا فقال عرفها حولا فلم أجد، ثم أتيته ثالثا فقال احفظ
وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت، فلقيته بعد بمكه فقال: لا ادرى ثلاثة أحوال أو حولا واحدا) وذكر البخاري الحديث في موضع آخر من صحيحه فزاد (ثم أتيته الرابعة فقال: اعرف وعاءها الخ) قال في فتح الباري: القائل فلقيته بعد بمكة هو شعبة، والذى قال لا ادرى هو شيخه سلمة بن كهيل وهو الراوى لهذا الحديث عن سويد عن أبى، قال شعبة فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاما واحدا، وقد بين أبو داود الطيالسي في مسنده القائل: فلقيته والقائل لا أدرى، فقال في آخر الحديث قال شعبة فلقيت سلمة بعد ذلك فقال لا أدرى ثلاثة أحوال أو حولا واحدا، وبهذا يتبين بطلان قول ابن بطال أن الذى شك هو أبى بن كعب، والقائل هو سويد ابن غفلة، وقد رواه عن شعبة عن سلمه بن كهيل بغير شك جماعه، وفيه ثلاثة أحوال إلا حماد بن سلمه فإن في حديثه عامين أو ثلاثة، وجمع بعضهم بين حديث أبى هذا وحديث خالد بن زيد المذكور فيه سنه فقط بأن حديث أبى محمول على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها، وحديث زيد على ما لا بد منه.
وجزم ابن حزم وابن الجوزى بأن الزيادة في حديث أبى غلط.
قال ابن الجوزى: والذى يظهر لى أن سلمه أخطأ فيها ثم ثبت واستمر على عام واحد، ولا يؤخذ إلا بما لم يشك فيه، لا بما يشك فيه راويه.
وقال أيضا: يحتمل أن يكون صلى الهل عليه وسلم عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذى ينبغى، فأمر ثانيا بإعادة التعريف، كما قال للمسئ صلاته (ارجع فصل فإنك لم تصل) قال الحافظ بن حجر: ولا يخفى بعد هذا على مثل أبى مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم.
قال المنذرى (لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطه تعرف ثلاثه أعوام إلا شريح عن عمر أربعة أقوال يعرف بها، ثلاثة أحوال،
عاما واحدا، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام، وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر.(15/260)
قال في الفتح: ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها.
وأما قوله في الحديث (فإن لم تعرف فاستنفقها) فقد قال يحيى بن سعيد الانصاري: لا ادرى هذا في الحديث أم هو شئ من عند يزيد مولى المنبعث (وهو الراوى عن زيد بن خالد) كما حكى البخاري ذلك عن يحيى، وتعقب ابن حجر هذا في الفتح فقال: شك يحيى هل قوله (ولتكن وديعة عنده) مرفوع أم لا، وهو القدر المشار إليه بهذا دون ما قبله لثبوت ما قبله في أكثر الروايات، وخلوها عن ذكر الوديعة، وقد جزم يحيى بن سعيد برفعه مرة أخرى كما في صحيح مسلم بلفظ (فاستنفقها ولتكن وديعة عندك) وكذلك جزم برفها خالد بن مخلد عن سليمان عن ربيعه عند مسلم، وقد أشار البخاري إلى رجحان رفعها فترجم باب إذا جاء صاحب اللقطة ردها عليه لانها وديعة عنده، والمراد بكونها وديعة أنه يجب ردها فتجوز بذكر الوديعة عن وجوب رد بدلها بعد الاستنفاق، لا أنها وديعة حقيقة يجب رد عينها، لان المأذون في استنفاقه لا تبقى عينه، كذا أفاده ابن دقيق العيد قال: ويحتمل أن تكون الواو في قوله (ولتكن وديعة) بمعنى أو، أي إما أن تستنفقها وتغرم بدلها، وإما أن تتركها عندك على سبيل الوديعة حتى يجئ صاحبها فتعطيها إياه ويستفاد من تسميتها وديعة أنها لو تلفت لم يكن عليه ضمانها، وهو اختيار البخاري تبعا لجماعة من السلف.
(فرع)
روينا عن أحمد وأبى داود عن جابر بن عبد الله قَالَ (رَخَّصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي العصا والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به) وفى إسناده
المغيرة بن زياد، قال المنذرى.
تكل فيه غير واحد، وفى التقريب: صدوق له أوهام وفى الخلاصة: وثقة وكيع وابن عدى وغيرهم.
وقال أبو حاتم: شيخ لا يحتج به، وفيه جواز الانتفاع بما يوجد في الطرقات من المحقرات لا سيما إذا كان هذا الشئ الحقير مأكولا لما في حديث أنس الذى ساقه المصنف، فإنه يجوز أكله ولا يجب التعريف به أصلا كالتمرة ونحوها لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بين أنه لم يمنعه من أكل التمرة إلا خشية أن تكون من الصدقة، ولولا ذلك لاكلها.(15/261)
وقد روى ابن أبى شيبة عن ميمونة أم المؤمنين أنها وجدت تمرة فأكلتها وقالت: لا يحب الله الفساد.
قال في الفتح: يعنى أنها لو تركها فلم تؤخذ فتؤكل لفسدت ثم قال: وجواز الاكل هو المجزوم به عند الاكثر.
وعندنا أن القليل إذا كان يطلب في العادة وجب التعريف به كالكثير مدة التعريف المنصوص عليها وهى سنة لعموم الاحاديث الواردة.
وعند أبى حنيفة أنه يعرف بالقليل ثلاثة أيام.
وذلك لحديث يعلى بن مرة مرفوعا (من التقط لقطه يسيرة حبلا أو درهما أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام، فإم كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام) رواه أحمد والطبراني والبيهقي، وزاد الطبراني (فإن جاء صاحبها والا فليتصدق بها) وفى اسناده عمر بن عبد الله بن يعلى، وقد صرح جماعه ضعفه، وزعم ابن حزم أنه مجهول وقد دافع عنه ابن حجر وابن رسلان والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان عرفها فلم يجد صاحبها ففيه وجهان
(أحدهما)
تدخل في ملكه بالتعريف لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
فان جاء صاحباه والا فهى لك ولانه كسب مال بفعل فلم يعتبر فيه اختيار التملك كالصيد
(والثانى)
أنه يملكه باختيار التملك، لما روى في حديث زيد بن خالد الجهنى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فان جاء صاحبها والا فشأنك بها فجعله إلى اخياره ولانه تملك ببدل فاعتبر فيه اختيار التملك كالملك بالبيع.
وحكى فيه وجهان آخران.
أحدهما: أنه يملك بمجرد النية.
والثانى يملكه بالتصرف ولا وجه لواحد منهما، ولا فرق في ملكها بين الغنى والفقير لقوله صلى الله عليه وسلم (فان جاء صاحبها والا فشأنك بها) ولم يفرق لانه ملك بعوض فاستوى فيه الغنى والفقير كالملك في القرض والبيع.
(فصل)
فان حضر صاحبها قبل أن يملكها نظرت، فان كانت العين باقيه وجب ردها مع الزيادة المتصلة والمنفصلة، لانها باقيه على ملكه، وان كانت تالفه لم يلزم الملتقط ضمانها، لانه يحفظ لصاحبها، فلم يلزم ضمانها من غير تفريط(15/262)
كالوديعة، وإن حضر بعد ما ملكها فان كانت باقية وجب ردها، وإن كانت تالفة وجب عليه بدلها، وقال الكرابيسى: لا يلزمه ردها ولا ضمان بدلها لانه مال لا يعرف له مالك: فإذا ملكه لم يلزمه رده ولا ضمان بدله كالركاز، والمذهب الاول، لما روى أبو سعيد الخدرى أن عليا كرم الله وجهه وجد دينارا فجاء صاحبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أده قال على: قد أكلته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جاءنا شئ أديناه) ويخالف الركاز فإنه مال لكافر لا حرمة له، وهذا مال مسلم، ولهذا لا يلزمه تعريف الركاز، ويلزمه تعريف اللقطة، فان كانت العين باقية فقال الملتقط: أنا أعطيك البدل، لم يجبر المالك على قبوله، لانه يمكنه الرجوع إلى عين ماله، فلا يجبر على قبول البدل، وإن حضر وقد باعها الملتقط وبينهما خيار ففيه وجهان.
(أحدهما)
يفسخ البيع، ويأخذ لانه يستحق العين والعين باقية.
(والثانى)
لا يجوز له أن يفسخ، لان الفسخ حق للعاقد، فلا يجوز لغيره من غير إذنه، وإن حضر وقد زادت العين، فان كانت زيادة متصلة رجع فيها مع الزيادة، وان كانت زيادة منفصلة رجع فيها دون الزيادة، لانه فسخ ملك فاختلفت فيه الزيادة المتصلة والمنفصلة كالرد بالعيب (الشرح) الاحاديث المذكورة في هذين الفصلين سبق استيفاء الكلام عليها في الفصل قبلهما.
أما الاحكام: فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ويأكل اللقطة الغنى والفقير ومن تحل له الصدقة وتحرم عليه.
وهذا كما قال: يجوز لواجد اللقطة بعد تعريفها حولا أن يتملكها ويأكلها غنيا كان أو فقيرا.
وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك ان كان فقيرا، ولا يجوز إن كان غنيا أن يتملكها، ويكون مخيرا بين أمرين: إما أن تكون في يده أمانة لصاحبها أبدا كالوديعة، وإما أن يتصدق بها، فان جاء صاحبها وأمضى صدقته فله ثوابها ولا غرم على الواجد، وإن لم يمض الصدقة فثوابها للواجد وعليه غرمها استدلالا بما رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: فان جاء صاحبنا وإلا تصدق بها، وهو حديث في إسناده عمر بن عبد الله(15/263)
ابن يعلى، قال أبو حنيفة وهذا نص، ولانه مال يعتبر فيه الحول فوجب أن يختلف فيه حال الغنى والفقير كالزكاة، ولانه مال مسلم فوجب أن لا يحل إلا لمضطر قياسا على غير اللقطة.
ودليلنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم (فان جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) وهو يقتضى التسوية بين الغنى والفقير، وروى أن أبى بن كعب وجد صرة فيها ثمانون دينارا أو مائة دينار فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يعرفها حولا (فان
جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها) .
قال الشافعي رضى الله عنه: وأبى من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم، ولو لم يكن موسرا لصار بعشرين دينارا منها موسرا على قول أبى حنيفة.
فدل على أن الفقر غير معتبر فيها وأن الغنى لا يمنع منها.
وروى عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أن على بن أبى طالب وجد دينارا فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمره أن يعرف به ثلاثا فعرفه فلم يجد من يعرفه، فرجع به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: كله حتى إذا أكله جاء صاحب الدينار يتعرفه فقال على رضى الله عنه: قد أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأكله فانطلق صاحب الدينار وكان يهوديا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جاءنا شئ أديناه اليك.
قال الشافعي رضى الله عنه: وعلى ممن يحرم عليهم الصدقة، لانه من طينة بنى هاشم، فلو كانت اللقطه تستباح بالفقر دون الغنى لحظرها عليه، ولان كل من كان من أهل الالتقاط جاز أن يرتفق بالكل والتملق كالفقير، ولان ما ثبت للفقير في اللقطه ثبت للغنى كالنسك والصدقة، ولان كل مال استباح الفقير اتلافه بشرط الضمان استباح الغنى اتلافه بشرط الضمان كالقرض، ولا يدخل عليه طعام المضطر لاستوائهما فيه، وقد يجعل المضطر أصلا فيقول: كل ارتفاق بمال الغير إذا كان مضمونا استوى فيه الغنى والفقير كأكل مال الغير المضطر، ولانه استباحه اتلاف مال لغيره لمعنى في المال فوجب أن يستوى فيه حكم الغنى والفقير كالفحل الصائل، ولان كل ما استبيح تناوله عند الاياس من مالكه في الاغلب استوى فيه حكم الغنى والفقير كالركاز، ولان حال اللقطة في يد واجدها لا يخلو(15/264)
من أن تكون في حكم المغصوب فيجب انتزاعها قبل الحول وبعده من مال الغنى
والفقير، أو في حكم الودائع فلا يجوز أن يتملكها فقير ولا أن يتصدق بها غنى أو في حكم الكسب فيجوز أن يتملكها الغنى والفقير.
ومذهب أبى حنيفة مخالف لاصول هذه الاحكام الثلاثه فكان فاسدا: ثم يقال لابي حنيفة الثواب إنما يستحق على المقاصد بالاعمال لا على أعيان الافعال لان صورها في الطاعه والمعصية على سواء كالمرائي بصلاته، ثم لا يصح أن يكون ثواب العمل موقوفا على غير العامل في استحقاقه أو إحباطه فأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصدق بها فمحمول على فرض صحة الرواية على أن الواجد سأله عن ذلك فأذن له فيه، وأما الزكاة فلا معنى للجمع بينها وبين اللقطه، لان الزكاة تملك غير مضمون ببدل، واللقطه تؤخذ مضمونه ببدل فكان الغنى أحق بتملكها، لانه أوفى ذمة، وأما ما ذكروه من المضطر فقد جعلناه أصلا.
(مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه ولا أحب لاحد ترك اللقطة إذا وجدها وكان أمينا عليها، وظاهر قوله يقتضى استحباب أخذها دون إيجابه، وقال أيضا ولا يجوز لاحد ترك اللقطه إذا وجدها، فكان ظاهر هذا القول يدل على إيجاب أخذها، فاختلف أصحابنا لاختلاف هذين الظاهرين، فكان أبو الحسن بن القطان وطائفة يخرجون ذلك على اختلاف قولين
(أحدهما)
أن أخذها استحباب وليس بواجب على ظاهر ما نص عليه في هذا الموضع لانه غير مؤتمن عليها ولا مستودع لها.
(والقول الثاني) أن أخذها واجب وتركها مأثم، لانه لما وجب عليه حراسة نفس أخيه المسلم وجب عليه حراسة مال أخيه المسلم وقال جمهور أصحابنا، ليس ذلك على قولين، انما هو على اختلاف حالين، فالموضع الذى لا يأخذها إذا كانت يؤمن عليها ويأخذها غيره ممن يؤدى الامانه
فيها، والموضع الذى أوجب عليه أخذها إذا كانت في موضع لا يؤمن عليها ويأخذها غيره ممن لا يؤدى الامانة فيها، لما في ذلك من التعاون، وعلى كلتا(15/265)
الحالتين لا يكره له أخذها إذا كان أمينا عليها، بل يدور أخذها بين الاستحباب والوجوب.
وحكى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا كَرِهَا أخذها.
وروى أن شريحا مر بدرهم فلم يعرض له.
وفى هذا القول إبطال التعاون وقطع المعروف.
وقد أخذ أبى الصرة وأخذ على الدينار.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر ذلك عليهما ولا كرهه لهما، ويجوز أن يكون المحكى عن ابن عباس وابن عمر فيمن كان غير مأمون عليها، أو ضعيفا عن القيام بها.
ونحن نكره لغير الامين عليها والضعيف عن القيام بها أن يتعرف لاخذها، وإنما يؤمر به من كان أمينا قويا، فلو تركها القوى الامين حتى هلكت فلا ضمان عليه وإن أساء.
وإن أخذها لزمه القيام بها، وإن تركها بعد الاخذ لزمه الضمان.
ولو ردها على الحاكم فلا ضمان عليه بخلاف الضوال في أحد الوجهين لانه ممنوع من أخذ الضوال فضمنها.
وغير ممنوع من أخذ اللقطة فلم يضمنها وقد اختلف العلماء فيما إذا تصرف الملتقط في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء صاحبها هل يضمنها له أم لا؟ فذهب الجمهور إلى وجوب الرد إن كانت العين موجودة أو البدل إن كانت قد استهلكت.
وخالف في ذلك الكرابيسى صاحب الشافعي ووافقه صاحباه البخاري وداود بن على الظاهرى إمام المذهب المعروف لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة.
ومن أدلة الجمهور مما تقدم من الاحاديث (ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (فإن جاء صاحبها فلا تكتم فهو أحق بها) وفى رواية للبخاري (فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فان جاء صاحبها فأدها
إليه) أي بدلها لان العين لا تبقى بعد أكلها.
وفى رواية لابي داود (فان جاء باغيها فأدها إليه، والا فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فان جاء باغيرها فأدها إليه) فأمر بأدائها قبل الاذن في أكلها وبعده.
قال الماوردى في الحاوى الكبير: أن الواجد لو منع بعد الحول من تملكها أدى ذلك إلى أحد أمرين، اما أن لا يرغب الواجد في أخذها، واما أن تدخل(15/266)
المشقة عليه في استدامة امساكها، فكان اباحة التمليك لها بعد التعريف أحث على أخذها وأحفظ لها على مالكها لثبوت غرمها في ذمته، فلا تكون معرضة للتلف، وليكون ارتفاق الواجد بمنفعتها في مقابلة ما عاناه في حفظها وتعريفها وهذه كلها معان استوى فيها الغنى والفقير، ثم مذهب الشافعي لا فرق بين المسلم والذمى في أخذها للتعريف، وتملكها بعد الحول، لانها كسب يستوى فيه المسلم والذمى.
فإذا ثبت جواز تملكها بعد الحول لكل واجد من غنى أو فقير فقد اختلف أصحابنا بماذا يصير مالكا؟ على ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يصير مالكا لها بمضي الحول وحده إلا أن يختار أن تكون أمانة فلا تدخل في ملكه.
وهذا قول أبى حفص بن الوكيل لانه كسب على غير بدل فأشبه الركاز والاصطياد والوجه الثاني: أنه يملكها بعد مضى الحول باختيار التملك، فإن لم يختر التملك لم يملك.
وهذا قول أبى إسحاق المروزى، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فان جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) فرد أمرها إلى اختياره، ولانه أبيح له التملك بعد الحول بعد أن كان مؤتمنا.
فاقتضى أن لا ينتقل عما كان عليه الا باختيار ما أبيح له والوجه الثالث: أنه لا يملكها بعد مضى الحول الا بالاختيار والتصرف،
وهو ما لم يتصرف غير مالك، لان التصرف منه كالقبض فأشبه الهبة.
فإذا صار مالكها بما ذكرنا فقد ضمنها لصاحبها فمن جاء طالبا لها رجع بها ان كانت باقية، وليس للمتملك أن يعدل به مع بقائها إلى بدلها، فإن كانت ذا مثل رجع بمثلها، وان كانت غير ذى مثل رجع لقيمتها حين تملكها، لانه إذ ذاك صار ضامنا لها.
فإن اختلفا في القيمة فالقول قول متملكها لانه غارم، فلو كانت عند مجئ صاحبها باقية لكن حدث منها نماء منفصل رجع بالاصل دون النماء لحدوث النماء بعد ملك الواجد فلو عرف الواجد صاحبها وجب عليه اعلامه بها.
ثم ينظر فإن كان ذلك قبل أن يملكها الواجد فمؤنة ردها على صاحبها دون الواجد كالوديعة، وفى هذه(15/267)
الحال ترد بنمائها متصلا ومنفصلا لان ذلك قبل زمن التملك.
وان كان بعد تملكها فمؤنة ردها على الواجد دون صاحبها لبقائها على ملكه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن جاء من يدعيها ووصفها، فإن غلب على ظنه أنها له جاز له أن يدفع إليه ولا يلزمه الدفع لانه مال للغير فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة فإن دفع إليه بالوصف ثم جاء غيره وأقام البينة انها له قضى بالبينة لانها حجة توجب الدفع فقدمت على الوصف، فان كانت باقية ردت على صاحب البينة، وان كانت تالفة فله أن يضمن الملتقط لانه دفع ماله بغير حق وله أن يضمن الآخذ لانه أخذ ماله بغير حق، فان ضمن الآخذ لم يرجع على الملتقط، لانه إن كان مستحقا عليه فقد دفع ما وجب عليه فلم يرجع، وإن كان مظلوما لم يجز أن يرجع على غير من ظلمه.
وإن ضمن الملتقط نظرت فان كان قد أقر للآخذ بالملك بأن قال هي لك لم
يرجع عليه، لانه اعترف أنه أخذ ماله وأن صاحب البينة ظلمه فلا يرجع على من لم يظلمه، وان لم يقر له ولكنه قال يغلب على ظنى أنها لك فله الرجوع لانه بان أنه لم يكن له، وقد تلف في يده فاستقر الضمان عليه.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: إذا التقط الرجل اللقطة مما لا روح له ما يحمل ويحول، فإذا التقط الرجل لقطة قلت أو كثرت عرفها سنة، ويعرفها على أبواب المساجد والاسواق ومواضع العامة، ويكون أكثر تعريفه إياها في الجماعة التى أصابها فيها، ويعرف عفاصها ووكاءها وعددها ووزنها وحليتها ويكتب ويشهد عليه، فإن جاء صاحبها وإلا فهى له بعد سنة.
على أن صاحبها متى جاء غرمها، وان لم يأت فهى مال من ماله.
وان جاء بعد السنة وقد استهلكها والملتقط حى أو ميت فهو غريم من الغرماء يحاص الغرماء(15/268)
فإن جاء ووقع في نفسه أنه لم يدع باطلا أن يعطيه ولا أجبره في الحكم إلا ببينة تقوم عليها كما تقوم على الحقوق، فإن ادعاها واحد أو اثنان فسواء لا يجبر على دفعها إليهم إلا ببينة يقيمونها عليه.
وقال أيضا: ونفتى الملتقط إذا عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن، ووقع في نفسه أنه صادق أن يعطيه، ولا أجبره عليه إلا ببينة لانه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها.
قلت: وصورتها في رجل ادعى لقطة في يد واجدها، فان أقام البينة العادلة على ملكها وجب تسليمها، وإن لم يقم بينة لكن وصفها فان أخطأ في صفتها لم يجز دفعها إليه، وإن أصاب في جميع صفاتها من العفاص والوكاء والجنس والنعت والعدد والوزن، فان لم يقع في نفسه صدقه لم يدفعها إليه، وان وقع في نفسه أنه صادق وأفتياه بدفعها إليه جوازا لا واجبا فان امتنع من الدفع لم يجبر عليه، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يجبر على دفعها إليه بالصفة استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة.
فان جاء طالبها فادفعها إليه) فلما أخبر بمعرفة العفاص والوكاء دل على أنه كالبينة في الاستحقاق.
وروى سويد بن غفله إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (فان جاء باغيها فعرفك عفاصها ووكاءها فادفعها إليه) وهذا نص.
قالوا: ولان كل إمارة غلب بها في الشرع صدق المدعى جاز أن يوجب قبول قوله كالبينات.
قالوا: ولان البينات في الاصول مختلفه، وما تعذر منها في الغائب يخفف كالنساء المنفردات في الولادة وإقامه البينه على اللقطه متعذر لا سيما على الدنانير والدراهم التى لا تضبط أعيانها فجاز أن تكون الصفه التى هي غاية الاحوال الممكنة أن يكون بينة فيها.
ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم، لو أعطى الناس بدعاواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، لكن البينه على المدعى، واليمين على المدعى عليه.
فلم يجعل الدعوى حجه، ولا جعل مجرد القول حجه بينة، ولان الصفه للمطلوب من تمام الدعوى، فلم يجز أن تكون بينة للطالب قياسا على الطلب.
قال الشافعي رضى الله عنه محتجا عليهم.
أرأيت لو وصفها عشرة أيعطونها،(15/269)
ونحن نعلم أن كلهم كذبة إلا واحدة بغير عينه، فرد عليه ابن داود فقال: كما لو ادعاها عشرة واقام كل واحد منهم بينة عليها، قسمتها بينهم، وان صدق جميعهم مستحيلا، كذلك إذا وصفوها كلهم.
والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن كذب المدعى أسقط الدعوى من كذب الشهود، ألا ترى أن إكذاب المدعى لنفسه مبطل للدعوى وإكذاب الشهود لانفسهم غير مبطل للدعوى.
والثانى أن البينة هي أقصى ما يقدر عليه المدعى وأقوى ما يحكم به الحاكم، فدعت ضرورة الحاكم في البينة إلى ما لم
يدعه من الصفة.
وأما الجواب عن قولهم: اعرف عفاصها ووكاءها فهو أن ذلك منه لا لدفعها بصفة العفاص والوكاء ووجوب رده معه، ولكن لمعان هي أخص بمقصود اللقط، منها أن بينته بحفظ العفاص والوكاء ووجوب رده مع قلته ونزارته على حفظ ما فيه ووجوده مع كثرته.
ومنها أن يتميز بذلك عن ماله ومنها جواز دفعها بالصفة، وإن لم يجب، وعلى هذا المعنى نحمل حديث سويد بن غفله الذى جعلوه نصا.
وأما استدلالهم فنحن ما جعلنا الامارة على الصدق حجة في قبول الدعوى وإنما جعلنا الايمان بعدها حجة، وأما استدلالهم بأن البينات في الاصول مختلفة فصحيح، وليس في جميعها بينة تكون بمجرد الصفة، ولا يكون تعذر البينة موجبا ان تكون الصفة بينه.
الا ترى أن السارق تتعذر إقامة البينه عليه، ولا يكون صفة ما بيده لمدعى سرقته حجة.
فإذا ثبت أن دفعها بالصفة لا يجب فدفعها بالصفة وسعه ذلك إذا لم يقع في نفسه كذبه، فان أقام غيره البينه عليها بشاهدين أو شاهد وإمرأتين أو شاهد ويمين كان مقيم البينة أحق بها من الآخذ لها بالصفة، فان كانت باقية في يد الواصف انتزعت منه لمقيم البينه، وان كان قد استهلكها نظر في الدافع لها فان كان قد دفعها بحكم حاكم فصاحب البينه الخيار في الرجوع بغرمها على الآخذ لها بالصفة، وان كان قد دفعها بغير حكم حاكم فصاحب البينه الخيار في الرجوع(15/270)
بغرمها على من شاء من الدافع الملتقط أو الآخذ الوصف، فان رجع بها على الاخذ لها بالصفة فله ذلك لضمانه لها باليد، واستحقاق غرمها بالاتلاف، وقد برئ الدافع لها من الضمان لوصول الغرم إلى مستحقه، وليس للغارم أن
يرجع بما غرمه على الدافع، لانه إن كان مستحقا عليه فمن وجب عليه حق لم يرجع به على أحد، وان كان مظلوما به فالمظلوم بالشئ لا يجوز أن يرجع به على غير ظالمه.
وان رجع مقيم البينه بغرمها على الدافع الملتقط نظر في الدافع، فان كان قد صدق الواصف لها على ملكها وأكذب الشهود لصاحب البينه عليها فليس له الرجوع بغرمها على الآخذ لها بالصفة، لانه مقر أنه مظلوم بالمأخوذ منه، فلا يرجع به على غير من ظلمه، وان لم يكن قد صدق الواصف ولا أكذب الشهود فله الرجوع بالغرم على الآخذ لها بالصفة لضمانه لها بالاستهلاك وتكون البينه موجبة عليه وله، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان وجد ضالة لم يخل اما أن تكون في برية أو بلد، فان كانت في بريه نظرت، فان كانت مما يمتنع على صغار السباع بقوته كالابل والبقر والخيل والبغال والحمير، أو ببعد أثره لسرعته كالظباء والارانب، أو بجناحه كالحمام والدراج، لم يجز التقاطه للتملك، لما روى زيد بن خالد الجهنى قَالَ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضالة الابل فغضب واحمرت عيناه.
وقال مالك ولها معها الحذاء وللشقاء، تأكل من الشجر وترد الماء حتى يأتي ربها، وسئل عن ضالة الغنم فقال: خذها هي لك أو لاخيك أو للذئب) وهل يجوز أخذها للحفظ؟ ينظر فيه، فان كان الواجد هو السلطان جاز، لان للسلطان ولايه في حفظ أموال المسلمين، ولهذا روى أنه كان لعمر حظيرة يجمع فيها الضوال، فان كان له حمى تركها في الحمى وأشهد عليها ويسمها بسمة الضوال لتتميز عن غيرها من الاموال، وان لم يكن له حمى، فان كان يطمع في مجئ صاحبها، بأن يعرف أنها من نعم قوم يعرفهم، حفظها اليومين والثلاثة، وان لم يعرف أو عرف(15/271)
ولم يجئ صاحبها باعها وحفظ ثمنها، لانه إذا تركها احتاجت إلى نفقة، وفى ذلك إضرار.
وإن كان الواجد لها من الرعية ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه يأخذها للحفظ على صاحبها فجاز كالسلطان
(والثانى)
لا يجوز لانه لا ولاية له على صاحبها بخلاف السلطان، فإن أخذها للتملك أو للحفظ وقلنا: إنه لا يجوز ضمنها لانه تعدى بأخذها فضمنها كالغاصب، وان دفعها إلى السلطان ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يبرأ من الضمان لانه لا ولاية للسلطان على رشيد.
(والثانى)
يبرأ، وهو المذهب، لان للسلطان ولاية على الغائب في حفظ ما يخاف عليه من ماله، ولهذا لو وجدها السلطان جاز له أخذها للحفظ على مالكها، فإذا أخذها غيره وسلمها إليه برئ من الضمان، وإن كان مما لا يمتنع من صغار السباع كالغنم وصغار الابل والبقر أخذها، لحديث زيد بن خالد الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال في ضالة الغنم (خذها هي لك أو لاخيك أو للذئب) ولانه إذا تركها أخذها غيره أو أكلها الذئب، فكان أخذها أحوط لصاحبها، وإذا أخذها فهو بالخيار بين أن يمسكها ويتطوع بالانفاق عليها ويعرفها حولا ثم يملكها وبين ان يبيعها ويحفظ ثمنها ويعرفها ثم يملك الثمن، وبين أن يأكلها ويغرم بدلها ويعرفها، لانه إذا لم يفعل ذلك احتاج إلى نفقة دائمه، وفى ذلك إضرار بصاحبها، والامساك أولى من البيع والاكل لانه يحفظ العين على صاحبها ويجرى فيها على سنة الالتقاط في التعريف والتملك، والبيع أولى من الاكل، لانه إذا أكل استباحها قبل الحول، وإذا باع لم يملك الثمن إلا بعد الحول، فكان البيع أشبه بأحكام اللقطة، فإن أراد البيع ولم يقدر على الحاكم باعها بنفسه، لانه موضع ضرورة، وإن قدر على الحاكم ففيه وجهان.
أحدهما: لا يبيع إلا بإذنه، لان الحاكم له ولاية ن ولا ولاية للملتقط.
والثانى: يبيع من غير اذنه لانه قد قام مقام المالك فقالم مقامه في البيع، وان أكل فهل يلزمه أن يعزل البدل مدة التعريف؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يلزمه، لان كل حالة جاز أن يستبيح أكل اللقطة لم يلزمه عزل(15/272)
البدل كما بعد الحول، ولانه إذا لم يعزل كان البدل قرضا في ذمته، وإذا عزله كان أمانة والقرض أحوط من الامانة.
(والثانى)
يلزمه عزل البدل لانه أشبه بأحكام اللقطة، فإن من حكم اللقطة أن تكون أمانة قبل الحول، وقرضا بعد الحول، فيصير البدل كاللقطة ان شاء حفظها له وان شاء عرفها ثم تملك.
وان أفلس الملتقط كان صاحبها أحق بها من سائر الغرماء، وان وجد ذلك في بلد.
فقد روى المزني أن الصغار والكبار في البلد لقطة، فمن أصحابنا من قال: المذهب ما رواه المزني، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا فرق بين الصغار والكبار في البرية، لان الكبار لا يخاف عليها لانها ترد الماء وترعى الشجر وتتحفظ بنفسها، والصغار يخاف عليها لانها لا ترد الماء والشجر فتهلك، وأما في البلد فالكبار كالصغار في الخوف عليها، فكان الجميع لقطة.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أن البلد كالبرية، فالصغار فيه لقطة، والكبار ليست بلقطة لعموم الخبر، فإن قلنا: ان البلد كالبرية فالحكم فيه على ما ذكرناه الا في الاكل، فله أن يأكل الصغار في البرية، وليس له أكلها في البلد، لان في البرية إذا لم يأكل الصغار هلكت، لانه لا يمكن بيعها، وفى البلد يمكن بيعها، فلم يجز الاكل، وان قلنا: ان الجميع في البلد لقطه فالحكم في الكبار كالحكم في الصغار في البرية الا في الاكل، فإن لا يأكل في البلد ويأكل الصغار في البريه لما ذكرناه.
(فصل)
وان وجد عبدا صغيرا لا تمييز له أن يلتقطه، لانه كالغنم يعرفه حولا ثم يملكه، وان وجد جاريه صغيرة لا تمييز لها، فان كان لا يحل له وطؤها جاز له أن يلتقطها للتملك، كما يجوز أن يقترضها، وان كانت تحل له لم يجز أن يلتقطها للتملك كما لا يجوز أن يقترضها.
(الشرح) حديث زيد بن خالد الجعفي متفق عليه، وقد مضى الكلام عليه في الفصل قبله.
أما الاحكام: فان ضوال الحيون إذا وجدت لم يخل حالها من أحد أمرين، اما أن توجد في صحراء أو في مصر، فان وجدت في صحراء فعلى ضربين:(15/273)
(أحدهما)
أن يكون مما يصل بنفسه إلى الماء والرعى، ويدفع عن نفسه صغار السباع، اما لقوة جسمه كالابل والبقر والخيل والبغال والحمير.
واما لبعد أثره كالغزال والارنب والطير، فهذا الانواع كلها لا يجوز لواجدها أن يتعرض لاخذها إذا لم يعرف مالكها لقوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الابل: مالك ولها معها حذاؤها، أي خفها الذى يقيها العثرات وتعتمد عليه في السعي إلى المرعى بدون أن يتجشم أحد تقديم الطعام إليها، ومعها سقاؤها، اشارة إلى طول عنقها، فتمد عنقها إلى الماء فلا تحتاج إلى من يقدمه لها.
ولذا قال: ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتي ربها ولانها تحفظ أنفسها فلم يكن لصاحبها حظ في أخذها فإن أخذها لم يخل من أحد أمرين، أما أن يأخذها لقطة ليتملكها ان لم يأت صاحبها، فهطا متعد وعلى ضمانها، فإن أرسلها لم يسقط الضمان.
وقال أبو حنيفة ومالك: قد سقط الضمان عنه بالارسال بناء على أن من تعدى في وديعة ثم كف عن التعدي فعندهما يسقط عنه الضمان.
وعند الشافعي وأصحابه لا يسقط، فان لم يرسلها ودفعها إلى مالكها فقد سقط عنه ضمانها بأدائها
إلى مستحقها، وان دفعها إلى الحاكم عند تعذر المالك ففى سقوط الضمان وجهان:
(أحدهما)
قد سقط لان الحاكم نائب عمن غاب
(والثانى)
لا يسقط لانها قد تكون لحاضر لا يولى عليه.
والامر الثاني: أن لا يأخذها لقطة ولكن يأخذها حفظا لها على مالكها، فان كان عارفا بمالكها لم يضمن ويده يد أمانة حتى تصل إلى المالك.
وان كان غير عارف للمالك ففى وجوب الضمان وجهان
(أحدهما)
لا ضمان لانه من التعاون على البر والتقوى (والوجه الثاني) عليه الضمان لانه لا ولاية له على غائب، فان كان واليا كالامام أو الحاكم فلا ضمان عليه، فقد روى أن عمر رضى الله عنه كانت له حظيرة يحظر فيها ضوال المسلمين.
فهذا حكم أحد الضربين والضرب الثاني: ما لا يدفع عن نفسه ويعجز عن الوصول إلى الماء والرعى كالغنم والدجاج، فلو أخذه وأكله في الحال من غير تعريف، غنيا كان أو فقيرا(15/274)
فعليه غرمه لمالكه إذا وجده، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك وداود: هو غير مضمون عليه ويأكله إباحة ولا غرم عليه في استهلاكه استدلالا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (هي لك أو لاخيك أو للذئب) ومعلوم أن ما استهلكه الذئب هدر لا يضمن، وإنما أراد بيان حكم الآخذ في سقوط الضمان، ولان ما استباح أخذه من غير ضرورة إذا لم يلزمه تعريفه لم يلزمه غرمه كالدراهم وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه) ولانها لقطة يلزمه ردها مع بقائها، فوجب أن يلزمه غرمها عند استهلاكها قياسا على اللقطة في الاموال، ولانها ضالة فوجب أن تضمن بالاستهلاك كالابل.
فأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هي لك أو لاخيك أو للذئب) فهو أنه نبه بذلك على إباحة الاخذ وجواز الاكل دون الغرم.
وأما الركاز فإنه لا يلزم رده فلذلك سقط غرمه، وليس كذلك الشاة، لان ردها واجب فصار غرمها واجبا.
فإذا ثبت جواز أخذ الشاة وما لا يدلع عن نفسه وإباحة أكله ووجوب غرمه فكذلك صغار الابل والبقر، لانها لا تمنع عن أنفسها كالغنم ثم لا يخلو حال واجد الشاة وما في معناها من أربعة أحوال (أحدها) أن يأكلها فيلزمه غرم قيمتها قبل الذبح عند الاخذ في استهلاكها ويكون ذلك مباحا لا يأثم به وان غرم (والحال الثانية) أن يتملكها ليستبقيها حية لدر أو نسل فذلك له، لانه لما استباح تملكها مع استهلاكها فأولى أن يستبيح تملكها مع استبقائها ثم في صحة ضمانها وجهان كالعارية مخرجا.
وفى الاختلاف قولين في ضمان الصداق، أحدهما أنه ضامن لقيمها أكثر ما كانت من حين وقت التملك إلى وقت التلف، فإن جاء صاحبها وهى باقية وقد أخذ الواجد درهما ونشلها كان الدر والنسل للواجد لحدوثه على ملكه، وللمالك أن يرجع بها دون قيمتها، فإن بذلك له الواجد قيمتها لم يجبر على أخذها مع بقاء عينها إلا أن يتراضيا على ذلك فيجوز، فلو كانت(15/275)
الشاة حين رجع بها المالك زائدة في بدنها أو قيمتها لم يكن للواجد حق في الزيادة وكانت للمالك تبعا للاصل، ولو كانت ناقصة رجع المالك بنقصها على الواجد لانها مضمونة بالتلف فكانت مضمونة بالنقص.
والحال الثالثة: أن يستبقيها في يديه أمانة لصاحبها فذلك له، لانه لما جاز أن يتملكها على صاحبها فأولى أن يحفظها لصحابها.
ولا يلزمه تعريفها، لان ما جاز
تملكه سقط تعريفه، ولا يلزمه إخبار الحاكم بها ولا الاشهاد عليها، بل إذا وجد صاحبها سلمها إليه، ولا ضمان عليه مدة إمساكها لصاحبها لو تلفت أو نقصت لان يده يد أمانة كالمعرف.
وقال بعض أصحابنا وجها آخر أنه يضمنها لان إباحة أخذها مقصور على الاكل الموجب للضمان دون الائتمان.
وهكذا القول فيما حدث من درها ونسلها على المذهب لا يضمنه.
وعلى هذا الوجه يضمنه، فان أنفق عليها أكثر من مؤنة علوفتها، فإن كان ذلك منه مع وجود حمى للمسلمين ترعى فيه فهو متطوع بالنفقة وليس له الرجوع بها، وإن كان مع عدم الحمى، فان كان عن إذن الحاكم رجع بما أتفق، وإن كان عن غير إذنه، فان كان قادرا على استئذانه لم يرجع بها وان لم يقدر عل استئذانه، فان لم يشهد لم يرجع.
وان أشهد ففى رجوعه بها وجهان
(أحدهما)
يرجع للضرورة
(والثانى)
لا يرجع لئلا يكون حاكم نفسه فلو أراد بعد امساكها أمانة، أن يتملكها ففى جوازه وجهان
(أحدهما)
له ذلك كالابتداء
(والثانى)
ليس له ذلك لاستقرار حكمها فأما ان أراد أن يتملك درها وتسلمها من غير أن يتملك أصلها لم يكن له ذلك وجها واحدا، لانه فرع يتبع أصله، فلو أرسلها بعد امساكها أمانة لزمه الضمان الا أن يرفعها إلى حاكم فلا يضمن.
ولو نوى تملكها ثم أراد أن يرفع ملكه عنها لتكون أمانة لصاحبها لم يسقط عنه ضمانها.
وفى ارتفاع ملكه عنها وجهان (احدهما) لا يرتفع ملكه لان الملك لا يزول الا بقبول المتملك، فعلى هذا يكون مالكا لما حدث من درها ونسلها لبقائها على ملكه.(15/276)
والوجه الثاني: يرتفع ملكه عنها مع بقاء ضمانها وذلك أحوط لمالكها، ووجه
ذلك أنه لما جاز أن يتملكها من غير بذل مالكها جاز أن يزول ملكه عنها من غير قبول متملكها، فعلى هذا يكون الحادث من درها ونسلها ملك لربها تبعا لاصلها وعليه ضمانها كالاصل.
والحال الرابعة: أن يريد بيعها فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: إما أن يبيعها قبل أن يملكها فذلك له ويكون ضامنا بقيمتها دون ثمنها.
وفى هذه الحال تفصيل مضى للمصنف في فصل مضى.
قال المزني فيما وصفه بخطه: إذا وجد الشاة أو البعير أو الدابة ما كانت في المصر أو في قرية فهى لقطة يعرفها سنة.
قد مضى حكم ضوال الابل والغنم إذا وجدها في الصحراء، فأما إذا وجدها في البلد أو المصر فالذي حكاه المزني فيما وجده بخط الشافعي أنها لقطة له أخذها وعليه تعريفها حولا وحكى عن الشافعي في الام أنها في المصر والصحراء سواء، يأكل الغنم ولا ولا يعرض للابل، فاختلف أصحابنا فمنهم من خرج ذلك على قولين
(أحدهما)
أن المصر كالبادية يأكل الغنم ولا يعرض للابل، وهى المحكى في الام لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (ضالة المؤن حرق النار) أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان والطبراني والطحاوى من حديث عبد الله بن الشخير والقول الثاني: أنها لقطة يأخذها الغنم والابل جميعا، ويعرفها كسائر اللقطة حولا كاملا، وهو الذى حكاه المزني عنه فيما لم يسمع منه، لان قوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الابل: معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر يختص بالبادية التى يكون فيها الماء والشجر دون المصر، وهى تمنع صغار السباع عن أنفسها في البادية، ولا يقدر على منع الناس في المصر، والشاة تؤكل في البادية لان الذئب يأكلها وهو لا يأكلها في المصر، فاختلف معناهما في البادية
والمصر فاختلف حكمهما.
ومن أصحابنا من يحمل جواز أحدهما على تسليمها إلى الامام وحمل المنع من أخذها على سبيل التملك.
هذا وبقية ما جاء في الفصل على وجهه.
والله أعلم.(15/277)
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن وجد كلب صيد لم يجز أن ينتفع به قبل الحول فإن عرفه حولا ولم يجد صاحبه جاز له أن ينتفع به: لان الانتفاع بالكلب كالتصرف في المال والتصرف في المال يقف على التعريف في الحول، فكذلك الانتفاع بالكلب.
(فصل)
وإن وجد ما لا يبقى كالشواء والطبيخ والخيار والبطيخ فهو بالخيار بين أن يأكله ويغرم البدل، وبين أن يبيعه ويحفظ الثمن على ما ذكرناه في الغنم في بيعه وحفظ ثمنه وأكله وعزل بدله، وخرج المزني فيه قولا آخر أنه يلزمه البيع، ولا يجوز الاكل، والمذهب الاول، لانه معرض للهلاك فخير فيه بين البيع والاكل كالغنم، وان وجد ما لا يبقى ولكن يمكن التوصل إلى حفظه كالرطب والعنب - فان كان الانفع لصاحبه أن يباع - بيع، وإن كان الانفع أن يجفف جفف، وإن احتاج إلى مؤنة في تجفيفه ولم يوجد من يتطوع بيع بعضه وأنفق عليه.
(فصل)
وإن وجد خمرا أراقها صاحبها لم يلزمه تعريفها، لان اراقتها مستحقة فلم يجز التعريف، فإن صارت عنده خلا ففيه وجهان.
أحدهما: أنها لمن أراقها لانها عادت إلى الملك السابق، والملك السابق الذى أراق، فعاد إليه كما لو غصبه من رجل فصار في يده خلا.
والثانى: أنه للملتقط لان الاول أسقط حقه منها فصارت في يد الثاني، ويخالف المغصوبة لانها أخذت بغير رضاه فوجب ردها إليه.
(فصل)
فاما العبد إذا وجد لقطة ففيه قولان
(أحدهما)
له أن يلتقط لانه كسب بفعل فجاز للعبد كالاصطياد
(والثانى)
لا يجوز لان الالتقاط يقتضى ولاية قبل الحول وضمانا بعد الحول والعبد ليس من أهل الولاية ولا له ذمة يستوفى منها الحق إلى أن يعتق ويوسر، فان قلنا: انه يجوز أن يلتقط فالتقط فهلك في يده من غير تفريط لم يضمن، وان هلك بتفريط ضمنها في رقبته فتباع فيها، وان عرفها صح تعريفه ولا يملك به لانه في أحد القولين لا يملك المال،(15/278)
وفى الثاني: يملك إذا ملكه السيد، وههنا لم يملكه السيد، فان قلنا: ان الملتقط يملك بالتعريف من غير اختيار التملك دخل في ملك السيد كما يدخل في ملكه ما التقطه وعرفه، وان قلنا: لا يملك الا باختيار التملك وقف على اختياره، فان تملكها العبد وتصرف فيها ففيه وجهان.
(أحدهما)
يضمنها في ذمته ويتبع بها إذا عتق كما لو اقترض شيئا.
(والثانى)
يضمنها في رقبته لانه مال لزمه بغير رضا من له الحق، فتعلق برقبته كأرش الجناية.
وان علم السيد نظرت فان لم يكن عرفها العبد عرفها السيد حولا ثم تملك وان عرفها العبد تملكها السيد في الحال لان تعريف العبد كتعريفه فان عرفها العبد بعض الحول عرفها السيد ما بقى ثم تملك، وان أقرها في يد العبد نظرت، فان كان العبد أمينا لم يضمن كما لا يضمن ما التقطه بنفسه وسلمه إلى عبده، وان كان خائنا ضمنها كما لو التقطها بنفسه وسلمها إليه وهو خائن.
وان قلنا: أنه لا يجوز أن يلتقط فالتقط ضمنها في رقبته لانه أخذ مال غيره بغير حق فأشبه إذا غصبه، وان عرفها لم يصح تعريفه لانها ليست في يده بحكم اللقطة، فان علم السيد نظرت، فان أخذها صارت في يده أمانة لانه أخذ ما يجوز
له أخذه بحكم الالتقاط فصار كما لو وجد لقطة فالتقطها ويبرأ العبد من الضمان لانه دفعها إلى من يجوز الدفع إليه فبرئ من الضمان كما لو دفعها إلى الحاكم.
وان أراد أن يتملك ابتدأ التعريف ثم تملك، فان أقرها في يد العبد ليعرفها فان كان أمينا لم يضمن كما لو استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه وان لم يأخذها ولا أقرها في يده ولكنه أهملها، فقد روى المزني أنه يضمنها في رقبة العبد.
وروى الربيع أنه يضمنها في ذمته ورقبه العبد، فمن أصحابنا من قال: الصحيح.
ما رواه المزني أنه يختص برقبته لان الذى أخذ هو العبد فاختص الضمان برقبته فعلى هذا ان تلف العبد سقط الضمان.
وقال أبو إسحاق: الصحيح ما رواه الربيع وأنه يتعلق بذمة السيد ورقبة العبد لان العبد تعدى بالاخذ والسيد تعدى بالترك فاشتركا في الضمان، فعلى هذا ان(15/279)
تلف العبد لم يسقط الضمان وان التقط العبد لقطة ولم يعلم السيد بها حتى أعتقه، فعلى القولين، إن قلنا: أنه يجوز للعبد أن يلتقط.
كان للسيد أن يأخذها منه لانه كسب له حصل له في حال الرق فكان للسيد كسائر أكسابه، وان قلنا: لا يجوز له أن يلتقط لم يكن للسيد أن يأخذها منه لانه لم يثبت للعبد عليه يد الالتقاط، فعلى هذا يكون العبد أحق بها لانها في يده وهو من أهل الالتقاط (1) ، ويحتمل أن لا يكون أحق بها لان يده يد ضمان فلا تصير يد أمانة.
(فصل)
وإن وجد المكاتب لقطة فالمنصوص أنه كالحر، واختلف اصحابنا فيه، فمنهم من قال: انه كالحر قولا واحدا لانه يملك التصرف في المال وله ذمة يستوفى منها الحق فهو كالحر، ومنهم من قال: هو كالعبد لانه ناقص بالرق كالعبد فيكون في التقاطه قولان، فان قلنا: أنه كالحر أو قلنا أنه كالعبد وجوزنا التقاطه صح تعريفه فإذا عرفها ملكها لانه من أهل الملك، وإذا قلنا أنه كالعبد ولم نجوز التقاطه صار ضامنا لانه تعدى بالاخذ ويجب أن يسلمها إلى السلطان
لانه لا يمكن اقرارها في يده لانها في يده بغير حق ولا يمكن تسليمها إلى السيد لانه لا حق له في أكسابه فوجب تسليمها إلى السلطان فان أخذها السلطان برئ المكاتب من الضمان فتكون في يد السلطان أبدا إلى أن يجد صاحبها.
(فصل)
وان وجد اللقطة من نصفه حر ونصفه عبد فالمنصوص أنه كالحر فمن أصحابنا من قال: هو كالحر قولا واحدا لانه تملك ملكا تاما وله ذمة صحيحة فهو كالحر، ومنهم من قال هو كالعبد القن لما فيه من نقص الرق فيكون على قولين فإذا قلنا: انه كالحر نظرت، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة كانا شريكين فيها كسائر أكسابه، وان كان بينهما مهايأة، فإن قلنا: ان الكسب النادر لا يدخل في المهايأة كانت اللقطة بينهما لانه بمنزلة ما لم يكن بينهما مهايأة، وان قلنا: ان الكسب النادر يدخل في المهايأة كانت اللقطة لمن وجدها في يومه.
(فصل)
وإن وجد المحجور عليه لسفه أو جنونه أو صغر لقطة صح التقاطه
__________
(1) هكذا بالاصل ولينظر فيه فانه جعله من غير أهل الالتقاط اه مصححه(15/280)
لانه كسب بفعل فصح من المحجوز عليه كالاصطياد وعلى الناظر أمره أن ينتزعها منه ويعرفها لان اللقطة في مدة التعريف أمانة والمحجور عليه ليس من أهل الامانة فان كان ممن يجوز الاقتراض عليه تملكها له، وإن كان ممن لا يجوز الاقتراض عليه لم يتملك له لان التملك بالالتقاط كالتملك بالاقتراض في ضمان البدل.
(فصل)
وان وجد الفاسق لقطة لم يأخذها لانه لا يؤمن أن لا يؤدى الامانة فيها فان التقطها ففيه قولان.
(أحدهما)
لا تقر في يده وهو الصحيح لان الملتقط قبل الحول كالموالي في حق الصغير.
والفاسق ليس من أهل الولاية في المال
(والثانى)
تقر في يده لانه كسب بفعل فاقر في يده كالصيد، فعلى هذا يضم
إليه من يشرف عليه وهل يجوز أن ينفرد بالتعريف فيه قولان
(أحدهما)
يجوز لان التعريف لا يفتقر إلى الامانة
(والثانى)
لا يجوز حتى يكون معه من يشرف عليه لانه لا يؤمن أن يفرط في التعريف فإذا عرفه ملكه لانه من أهل التملك.
(فصل)
وان التقط كافر لقطة في دار الاسلام ففيه وجهان
(أحدهما)
يملك بالتعريف لانه كسب بالفعل فاستوى فيه الكافر والمسلم كالصيد
(والثانى)
لا يملك لان تصرفه بالحفظ والتعريف بالولاية.
والكافر لا ولاية له على المسلم (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: فإن كانت اللقطة طعاما رطبا لا يبقى فله أن يأكله إذا خاف فساده ويغرمه لربه.
وقال فيما وضع خطه لا أعلمه سمع منه إذا خاف فساده أحببت أن يبيعه ويقيم على تعريفه.
قال المزني: هذا أولى القولين به اه.
قلت: أما الطعام الرطب فضربان: أحدهما أن يكون مما يبس فيبقى كالرطب الذى يصير تمرا، والعنب الذى يصير زبيبا فهذا حكمه حكم غير الطعام في وجب تعريفه واستبقائه، فإن احتاج تجفيفه إلى مؤنة كانت على مالكه، ويفعل الحاكم أحفظ الامرين للمالك من بيعه أو الانفاق عليه.
(والضرب الثاني) أن يكون مما لا يبقى كالطعام الذى يفسد بالامساك كالهريسة والفواكه والبقول التى لا تبقى على الايام، فقد حكى المزني عن الشافعي ههنا أنه(15/281)
قال في موضع: يألكه الواجد، وقال في موضع آخر: أحببت أن يبيعه، فاختلف أصحابنا فكان أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة وطائفة من أصحابنا يخرجون على قولين.
(أحدهما)
لواجده أكله كالشاة التى لما تعذر استبقاؤها أبيح لواجدها أكلها (والقول الثاني) ليس لواجده أكله بخلاف الشاة لا يجب تعريفها فأبيح له
أكلها، والطعام وان كان رطبا يجب تعريفه فلم يستبح واجده أكله.
وحكى أبو على بن أبى هريرة أن ذلك على اختلاف حالين ان كان الحاكم موجودا يقدر على بيعه لم يكن لواجده أكله، وان كان معدوما جاز أكله.
وكان أبو القاسم الصيمري يقول: اختلاف حاليه في إباحة أكله معتبر بحال واجده، فإن كان فقيرا محتاجا استباح أكله، وان كان غنيا لم يستبحه، فإن قلنا بجواز أكله فاكله صار ضامنا لقيمته وعليه تعريف الطعام حولا، وهل يلزمه عزل قيمته من ماله عند أكله أم لا؟ على قولين.
(أحدهما)
يلزمه عزل القيمة لئلا يصير متملك اللقطة.
(والقول الثاني) لا يجب عليه عزلها لانه لو عزلها فهلكت كانت من ماله، فكانت ذمته أحظ لها، ولم يكن عزلها مفيدا، ومن قال بالاول جعل فائدة عزلها أنه لو أفلس بعد عزل قيمتها ثم حضر المالك كان أولى بالمعزول من قيمتها من جميع الغرماء، وزعم أن تلفها من يده بعد وجوب عزلها لا يوجب عليه غرمها فصار في ضمانه للثمن أن تلف بعد وجوب عزله وجهين.
أحدهما - وهو قول ابن أبى هريرة انه يكون مضمونا عليه.
والثانى وهو الاشبه: أنه لا ضمان عليه لان الثمن مع وجوب عزله يقوم مقام الاصل مع بقائه.
وإذا قلنا: لا يجوز له أكله فعليه ان يأتي الحاكم حتى يأذن له في بيبعه، ولا يجوز أن يتولى بنفسه مع القدرة على استئذان الحاكم بخلاف الشاة إذا وجدها وأراد بيعها لان يده على الشاة اقوى لما استحقه عاجلا من أكلها ويده على الطعام أضعف لما وجب عليه من تعريفه، فان أعوزه اذن الحاكم جاز بيعه فلو باعه باذن الحاكم كان الثمن في يده امانة، وعليه تعريف الطعام حولا،(15/282)
فان جاء صاحبه فليس له الا الثمن دون القيمة، ولو لم يأت صاحبه فللواجد أن
يتملك الثمن.
ولو هلك الثمن في يده قبل الحول أو بعده وقبل التملك له كان تالفا من مال ربه ولا ضمان على الملتقط، وهكذا حكم الثمن لو كان الواجد هو البائع عند إعواز الحاكم.
فاما ان باعه مع وجود الحاكم فبيعه باطل وللمالك القيمة دون الثمن لفساد العقد، فان تلف الثمن من يد الواجد قبل الحول عليه غرمه لتعديه بقبضه مع فساد بيعه، فان حضر المالك والثمن بقدر القيمة من غير زيادة ولا نقص أخذه وهو مبلغ حقه، وان كان أقل فله المطالبة بتمام القيمة ويرجع على المشترى لان المشترى اشترى شراء فاسدا فكان ضامنا للقيمة دون المسمى الا أن يشاء.
المالك ان يسامح بفاضل القيمة ويكون الباقي منه مردودا على المشترى، إذ ليس يلزمه الا القيمة.
وما ساقه المصنف من مسائل فعلى وجهه، هذا وما ذكر في الفصل من كلب الصيد إذا التقط فقد وفاه في المجموع في الصيد فاشدد به يديك (فرع)
مذهبا لا فرق بين المسلم والذمى في أخذها للتعريف والتملك بعد الحول لانها كسب يستوى فيه المسلم والذمى.
وقال بعض أصحابنا: لاحق للذمي فيها وهو ممنوع من أخذها وتملكها لانه ليس من أهل التعريف لعدم ولايته على مسلم، ولا ممن يملك مرافق دار الاسلام كإحياء الموات.
ولاحمد وأصحابه انه كالصبى والمجنون فانه يصح التقاطهما مع عدم الامانة، فإذا التقطها الذمي وعرفها حولا ملكها كالمسلم، وإن علم بها الحاكم أو السلطان اقرها في يده وضم إليه مشرفا عدلا (حارسا) يشرف عليه ويعرفها قالوا لاننا لا نأمن الكافر على تعريفها ولانا منه ان يخل في التعريف بشئ من الواجب عليه فيه.
ويحتمل عندهم أن تنزع من يد الذمي وتوضع على يد عدل، لانه غير مأمون عليها، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ(15/283)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب اللقيط
التقاط المنبوذ فرض على الكفاية لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولانه تخليص آدمى له حرمة من الهلاك فكان فرضا كبذل الطعام للمضطر.
قال (اخذت منبوذا على عقد عمر رضى الله عنه فذكره عريفي لعمر رضى الله عنه فارسل إلى فدعاني والعريف عنده، فملما رأني قال: عسى الغوير ابؤسا، فقال عريفي انه لا يتهم، فقال عمر: ما حملك على ما صنعت؟ قلت: وجدت نفسا بمضيعة فأحببت أن يأجرني الله فيه، فقال هو حر وولاؤه لك وعلينا رضاعه.
ولان الاصل في الناس الحرية، فان كان عليه ثياب أو حلى أو تحته فراش أو في يده دارهم أو عنان فرس، أو كان في دار ليس فيها غيره فهى له، لانه حر، فكان ما في يده له كالبالغ.
وان كان على بعد منه مال مطروح أو فرس مربوط لم يكن له لانه لايد له عليه.
وان كان بالقرب منه وليس هناك غيره ففيه وجهان
(أحدهما)
ليس له لانه لا يد له عليه
(والثانى)
له لان الافسان قد يترك ماله بقربه فإذا لم يكن هناك غيره فالظاهر انه له، وان كان تحته مال مدفون لم يكن له لان البالغ لو جلس على الارض وتحته دفين لم يكن له ذلك فكذلك اللقيط.
(فصل)
وان وجد في بلد من بلاد المسلمين وفيه مسلم فهو مسلم، لانه اجمتع له حكم الدار واسلام من فيها، وان كان في بلد الكفار ولا مسلم فيه، فهو كافر، لان الظاهر انه ولد بين كافرين.
وان كان فيه مسلم ففيه وجهان.
(أحدهما)
انه كافر تغليبا لحكم الدار
(والثانى)
انه مسلم تغليبا لاسلام المسلم الذى فيه.
وان التقطه حر مسلم امين مقيم موسر أقر في يده، لما ذكرناه مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ لابد من ان يكون في يد من يكفله، فكان
الملتقط أحق به لحق السبق(15/284)
(الشرح) اثر عمر وسنين ابى جميلة رواه سعيد بن منصور عن سفيان عن الزهري سمع سنينا أبا جميلة بهذا.
وقال الامير ابن مأكولا في كتاب الاكمال: سنين بنونين بينهما ياء حج من النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وروى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وروى عنه الزهري.
قال أبو موسى: سنين بن فرقد.
أما غريب الخبر فقوله (قد كره عريفي) العريف رجل يكون رئيسا على نفر يعرف أمورهم ويجمعهم عند الغزو، وهو فعيل بمعنى فاعل وقوله (عسى الغوير أبؤسا) الغوير ماء لبنى كلب وهذا مثل، أول من تكلم به الزباء ملكة تدمر حين رأت الابل عليها الصناديق فاستنكرت شأن قصير إذ أخذ على غير الطريق أرادت عسى أن يأتي بذلك الطريق بشر، والابؤس جمع بأس وانتصابه بعسى على أنه خبره على ما عليه أصل القياس.
وقال الاصمعي: أصله أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم أو أتاهم فيه عدو فقتلهم فصار مثلا لكل شئ يخاف أن يأتي منه شر.
وقوله بمضيعه على وزن معيشة أي مهلكة من ضاع الشئ أي هلك، وقد أتى على هذا الوزن في قول قيس بن ذريح: بدار مضيعة تركتك لبنى كذلك الحين يهدى للمضاع هكذا أفاده ابن بطال في شرح غريب المهذب، وللقيط فعيل بمعنى مفعول وهو الملقوط، وهو يطلق على الطفعل المنبوذ والتقاطه واجب لقوله تعالى (تعاونوا على البر والتقوى) ولان فيه إحياء نفس فكان واجبا كاطعام المضطر وإنجائه من الغرق، وكذلك قوله تعالى (ومن أحياها
فكأنما أحيا الناس جميعا، على أن تسميته منبوذا بعد أخذه والتقاطه أو تسميته لقيطا قبل أخذه فهذا وان كان مجازا لكنه صار حقيقة شرعية فهو بعد أخذه يبقى مجازا بناء على زوال الحقيقة بزوال المعنى المشتق منه.
وحكمه شرعا فرض كفاية إذا علم به جماعة وأداه بعضهم سقط عن الباقين،(15/285)
فان تركه الجمعة أثموا جميعا إذا علموا فتركوه مع إمكان أخذه.
على أن اللقيط حر في قول عامة أهل العلم الا النخعي.
قال ابن المذر: أجمع عوام أهل العلم أن اللقيط حر، روى هذا عن عمر وعلى رضى الله عنهما، وبه قال عمر بن عبد العزيز والشعبى والحكم وحماد ومالك والثوري والشافعي واسحاق وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأى ومن بتعهم.
وقال النخعي: إن التقطه للحبسة فهو حر، وان كان أراد أن يسترقه فذلك له، وذلك قول شذ فيه عن الخلفاء والعلماء، ولا يصح في النظر، فان الاصل في الادميين الحرية، فإن الله تعالى خلق آدم وذريته أحرارا، وانما الرق للعارض فإذا لم يعلم ذلك العارض فله حكم الاصل.
واللقيط اما أن يوجد في دار الاسلام أو في دار الكفر: فالاولى ضربان، دار اختطها المسلمون وأحدثوا مبانيها ابتداء أو أعادوا بناءها بعد أن كانت لغيرهم لغلبة الاسلام عليها وأصطباغها بصبغة الاسلام فلا يوجد فيها من غير المسلمين إلا قليل فلقيط هذه البلاد يحكم باسلامه، وإن كان فيها أهل ذمة تغليبا للاسلام ولظاهر الدار، ولان الاسلام يعلو ولا يعلى، فمثل التى أنشأها المسلمون الكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والفسطاط وتونس والرباط، ومثل التى أعادها المسلمون الاسكندرية ودمشق ودمنهور والقدس صانها الله وطهرها من رجس اعدائه اليهود، وقد مضى عام بتمامه منذ غزاها اليهود إلى ساعة كتابة هذا الفصل
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(الضرب الثاني) بلاد فتحها المسلمون وبقى أهلها على دينهم فإذا وجد فيها مسلم واحد كان لقيطها مسلما تغليبا لحكم الاسلام ووجود مسلم فيها.
وأما بلد الكفار فضربان ايضا، بلد كان للمسلمين فغلب الكفار عليه كبلاد فلسطين فهذا كالضرب الذى قبله ان كان فيه مسلم حكم باسلام لقيطه: الثاني بلد لم يفتحه المسلمون من قبل أو فتحوه وغلب الكفار عليه واستأصلوا منه شأفة المسلمين كبلاد الاندلس (لهفى على قرطبه ومرسية وقشتالة وغرناطة ومجريط (مدريد) وميورقه كلهفي على ربوع المسجد الاقصى وما حوله من المباركات)(15/286)
ففى لقيطها مع وجود مسلم فيها وجهان
(أحدهما)
ان يحكم بكفره تغليبا للدار.
والوجه الثاني أنه مسلم تغليبا للاسلام بوجود مسلم فيه، وهذا التفصيل كله مذهب أحمد بن حنبل أيضا.
والضرب الثاني: دار لم تكن للمسلمين أصلا كأكثر بلاد أوربا وأمريكا.
فهذه البلاد إن لم يكن فيها مسلم فلقيطها كافر قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن الطفل إذا وجد في بلاد المسلمين ميتا في أي مكان وجد وجب غسله وكفنه ودفنه في مقابر المسلمين، وقد منعوا أن يدفن أطفال المشركين في مقابر المسلمين.
قال: إذا وجد لقيط في قرية ليس فيها الا مشرك فهو على ظاهر ما حكموا به انه كافر.
هذا قول الشافعي وأحمد وأصحاب الرأى.
قالوا وفى الموضع الذى حكمنا باسلامه إنما يثبت ذلك ظاهرا لا يقينا، لانه يحتمل ان يكون ولد كافر، فلو أقام كافر بينة أنه ولد على فراشه حكمنا له به.
وإذا بلغ اللقيط حدا يصح فيه اسلامه وردته فوصف الاسلام فهو مسلم، سواء
ممن حكم باسلامه أو كفره، وان وصف الكفر وهو ممن حكم باسلامه فهل هو مرتد لا يقر على كفره؟ نص الشافعي في الام انه يقر على كفره ولا يكون مرتدا.
وقال أبو حنيفة هو مرتد لا يقر على كفره، وعند الحنابلة وجهان كقولي أبى حنيفة والشافعي.
دليلنا أنه وصف الكفر بقوله، وقوله اقوى من ظاهر الدار.
اللهم الا أن يقال: الاحتياط للاسلام يلغى قوله المانع له لاحتمال أن يكون كذبا.
هكذا أفاده الرملي.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان كان له مال كانت نفقته في ماله كالبالغ، ولا يجوز للملتقط أن ينفق عليه من ماله بغير اذان الحاكم، فان أنفق عليه من غير اذنه ضمنه لانه لا ولاية له عليه الا في الكفالة فلم يملك الانفاق بنفسه كالام، وان فوض إليه الحاكم أن ينفق عليه مما وجده معه فقد قال في كتاب اللقيط يجوز.(15/287)
وقال في كتاب اللقطة: إذا انفق الواحد على الضالة ليرجع به لم يجز حتى يدفع إلى الحاكم ثم يدفع الحاكم إليه ما ينفق عليه، فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسئلتين إلى الاخرى، وجعلهما على قولين
(أحدهما)
لا يجوز لانه لا يلى بنفسه فلم يجز ان يكون وكيلا لغيره في القبض له من نفسه، كما لو كان عليه دين ففوض إليه صاحب الدين قبض ماله عليه من نفسه
(والثانى)
يجوز لانه جعل أمينا على الطفل فجاز أن ينفق عليه مما له في يده كالوصي.
ومنهم من قال: يجوز في اللقيط ولا يجوز في الضالة، لان اللقيط لا ولى له في الظاهر، فجاز ان يجعل الواحد وليا والضالة لها مالك هو ولى عليها فلا يجوز ان يجعل الواحد وليا عليها.
وان لم يكن حاكم فانفق من غير اشهاد ضمن، وان أشهد ففيه قولان
(أحدهما)
يضمن لانه لا ولاية لفضمن، كما لو كان الحاكم موجودا
(والثانى)
لا يضمن لانه موضع ضرورة، وان لم يكن له مال وجب على السلطان القيام بنفقته لانه آدمى له حرمة يخشى هلاكه، فوجب على السلطان القيام بحفظه، كالفقير الذى لا كسب له.
ومن اين تجب النفقة؟ فيه قولان
(أحدهما)
من بيت المال، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ استشار الصحابة في نفقة اللقيط فقالوا من بيت المال، ولان من لزم حفظه الانفاق ولم يكن له مال وجبت نفقته من بيت المال، كالفقير الذى لا كسب.
فعلى هذا لا يرجع على احد بما انفق عليه، والقول الثاني لا يجب مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ لا يصرف الا فيما لا وجه له غيره واللقيط يجوز ان يكون عبدا فنفقته على مولاه، أو حرا له مال أو فقيرا له من تلزمه نفقته، فلم يلزم من بيت المال.
فعلى هذا يجب على الامام أن يقترض له ما ينفق عليه من بيت المال أو من رجل من المسلمين، فان لم يكن في بيت المال ولا وجد من يقرضه جمع الامام من له مكنة وعد نفسه فيهم وقسط عليهم نفقته، فان بان أنه عبد رجع على مولاه.
وان بان أن له أبا موسرا رجع عليه بما اقترض له، فان لم يكن له أحد وله كسب رجع في كسبه.
وان لم يكن له كسب قضى من سهم من يرى من المساكين أو الغارمين.
(فصل)
واما إذا التقطه عبد فان كان باذن السيد وهو من أهل الالتقاط جاز(15/288)
لان الملتقط هو السيد، والعبد نائب عنه وان كان بغير اذنه لم يقر في يده لانه لا يقدر على حضانته مع خدمة السيد، وان علم به السيد واقره في يده كان ذلك التقاطا من السيد، والعبد نائب عنه (الشرح) إذا وجد مع اللقيط شئ فهو له وينفق عليه منه، والى هذا ذهب
الشافعي وأحمد وأصحاب الرأى، وذلك الطفل يملك وله يد صحيحة، بدليل أنه يرث ويورث ويصح ان يشترى له وليه ويبيع، ومن له ملك صحيح فله يد صحيحة كالبالغ فإذا ثبت هذا: فكل ما كان متصلا به أو متعلقا بمنفعة فهو تحت يده ويثبت بذلك ملكا له في الظاهر، فمن ذلك ما كان لابسا له أو مشدودا في ملبوسه أو في يديه أو مجعولا فيه كالسرير والسفط وما فيه من فرش أو دراهم، والثياب التى تحته والتى عليه، وان كان مشدودا على دابة، أو كانت مشدودة في ثيابه أو كان في خيمة أو في دار فهى له.
وأما المنفصل عنه فان كان بعيدا منه فليس في يده، وان كان قريبا منه كثوب موضوع إلى جانبه ففيه وجهان.
أحدهما: ليس هو له لانه منفصل عنه فهو كالبعيد.
والثانى: هو له، وهو أصح لان الظاهر انه ترك له فهو بمنزلة ما هو تحته، ولا القريب من البالغ يكون في يده، الا ترى ان البائع الجائل يقعد في السوق ومتاعه بقربه ويحكم بأنه في يده؟ والحمال إذا جلس لاستراحة ترك حمله قريبا منه فاما المدفون تحته فقد قال بعض الفقهاء: ان كان الحفر طريا فهو له، والا فلا، لان الظاهر أنه إذا كان طريا فواضع اللقيط حفره، وإذا لم يكن طريا كان مدفونا قبل وضعه، وقيل: ليس هو له بحال، لانه بموضع لا يستحقه إذا لم يكن الحفر طريا، فلم يكن له إذا كان طريا كالبعيد منه، ولان الظاهر انه لو كان له لشده واضعه في ثيابه ليعلم به، ولم يتركه في مكان لا يطلع عليه، وكل ما حكمنا بانه ليس له فحكمه حكم اللقطة، وما هو له انفق عليه منه، فان كان كفايته لم بجب نفقته على أحد لانه ذو مال فاشبه غيره من الناس.
فإذا ثبت هذا: فان لملتقطه الانفاق عليه بإذن الحاكم، وقال أصحاب أحمد: ينفق عليه بغير اذن الحاكم ذكره أبو عبد الله بن حامد من الحنابلة.(15/289)
قال ابن قدامة: لانه ولى له فلم يعتبر في الانفاق عليه في حقه إذن الحاكم كوصي اليتيم، ولان هذا من الامر بالمعروف فاستوى فيه الامام وغيره كتبديد الخمر.
وروى أبو الحارث عن احمد رضى الله عنه في رجل أودع رجلا مالا وغاب وطالت غيبته وله ولد ولا نفقة له، هل ينفق عليهم؟ فلم يجعل له الانفاق عليهم من غير إذن الحاكم، فقال بعض أصحاب أحمد: هذا مثله.
وقال بعضهم وهو الصحيح عندهم: إن هذا مخالف بناء على ان الملتقط له ولاية على اللقيط عندهم فيكون له ولاية أخذه وحفظه.
ولنا أن اللقيط ينبغى أن يتولى الحاكم أمره فقد يعين له من هو أوفر خبرة وأكثر صيانة والحاكم مجتهد له بصره النافذ ورأيه الصائب وهو ولى من لا ولى له فإذا أنفق عليه الملتقط من ماله الذى وجده ضمنه لانه لا حق له في الانفاق إلا بإذن الحاكم فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رواية الربيع بن سليمان في المنبوذ هو حر ولا ولاء له، وانما يرثه المسلمون بأنهم خولوا كل مال لا مالك له، ألا ترى أنهم يأخذون مال لنصراني ولا وارث له؟ ولو كانوا أعتقوه لم يأخذوا ماله بالولاء، ولكنهم خولوا مالا مالك له من الاموال اه.
وقال في اللقطة ما يفيد عدم جواز الانفاق على الضاله بقصد الرجوع به على ربها الا باذن الحاكم، ثم يدفع الحاكم إليه ما ينفق عليه، ففى النص الاول جعل للمسلمين جميعا حق الولاية والارث على اللقيط وماله، وفى النص الثاني جعل ذلك باذن الحاكم، فمن أصحابنا من نقل جواب كل مسألة إلى الاخرى فجعل في اللقطة قولين وفى اللقيط قولين، فالقول بجواز اللقطه يمنعه في اللقيط، والقول بجوازه في اللقيط يمنعه في اللقطه.
فإذا لم يجد الحاكم فأشهد رجلين أو رجلا وامرأتين أو أربع نسوة ففى ضمانه قولان.
أما إذا لم يكن له مال لم يلزم الملتقط الانفاق عليه قى قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن نفقة اللقيط غير واجبه على الملتقط كوجوب نفقة الولد، وذلك لان أسباب وجوب النفقه من(15/290)
القرابة والزوجية والملك والولاء منتفية، والالتقاط إنما هو تخليص له من الهلاك، وتبرع بحفظه فلا يوجب ذلك نفقة كما لو فعله بغير اللقيط، فإذا عرف هذا وكان نسمة يجب تعهدها بالتربية والانفاق انصرف هذا الواجب إلى بيت مال المسلمين، لقول عمر رضى الله عنه: هو حر لك ولاؤه وعلينا نفقته، وذلك لانه كالفقير الذى لا كسب فان نفقته واجبة له في بيت مال المسلمين، وذلك لان بيت المال وارثه، وماله مصروف إليه فتكون نفقته عليه كقرابته وموالاته.
فان تعذر الانفاق عليه لعدم وجود مال في بيت المال أو كان اللقيط في مكان لا تقوم فيه حكومه تنفذ شريعة الله وترعى العجزة والفقراء واللقطاء فعلى من علم حاله أن يتولى الانفاق عليه.
ويحتمل أن يقال: إنه لا يجب الانفاق عليه من بيت المال ولو كان موجودا وفيه مال، لان بيت المال إنما ينفق منه في الوجوه التى توفر على الانفاق عليها، وقد تكون أهم من هذا، واللقيط يحتمل أن يكون غنيا، ويحتمل أن يكون له أب موسر، ويحتمل أن له سيد تجب عليه نفقته.
فإذا قلنا: إنه لا يجب الانفاق عليه من بيت المال وجب على الامام أن ينظم جماعة يكون هو أحد أفرادها تتولى الانفاق عليه على سبيل الاقراض، حتى إذا ظهر له مال أو ولى شرعى موسر، أو استطاع الكسب أمكن رد ما أنفق عليه، فان لم يكن يستطع الكسب ولم يكن له ولى موسر قضى من سهم المساكين أو الغارمين، ويجرى هذا كله على اللقيط ولو حكم بكفره.
قال في النهاية: خلافا
لما في الكفاية تبعا للماوردى.
فإذا امتنع أهل القرية أو البلدة عن أن ينفقوا على اللقيط وجب على الامام قتالهم، ويفرق هنا بين كونها قرضا وفى بيت المال مجانا، بأن وضع بيت المال الانفاق على المحتاجين فلهم فيه حق مؤكد دون مال المياسير، وإذا لزمهم وزعها الامام على مياسير بلده، فان شق ذلك فعلى من يراه الامام منهم، فان استووا في نظره تخير، وهذا إن لم يبلغ اللقيط، فان بلغ فمن سهم الفقراء أو المساكين أو الغارمين كما قررنا، فان ظهر له سيد أو قريب رجع عليه وقد ضعف هذا النووي في الروضة وخالفه الشمس الرملي في النهايه.(15/291)
وجملة هذا أن من أنفق متبرعا فلا شئ له سواء كان الملتقط أو غيره، وإن تبرع بالانفاق عليه فأنفق عليه الملتقط أو غيره محتسبا بالرجوع عليه إذا أيسر وكان ذلك بأمر الحاكم لزم اللقيط ذلك إذا كانت النفقة قصدا بالمعروف، وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأى وان أنفق بغير أمر الحاكم محتسبا بالرجوع عليه فقد قال الشافعي ومالك والثوري والاوزاعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشعبى وابن المنذر: هو متبرع.
وقال أحمد بن حنبل: تؤدى النفقة من بيت المال، وقال شريح والنخعي يرجع عليه بالنفقة إذا أشهد عليه.
وقال بن عبد العزيز: يحلف ما أنفق احتسابا، فإن حلف استسعى والاصل عند القائلين بالرجوع أنه أدى ما وجب على غيره فكان له الرجوع على من كان الوجوب عليه كالضامن إذا قضى عن المضمون عنه.
هذا وما بقى من كلام المصنف فعلى وجهه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان التقطه كافر نظرت، فإن كان اللقيط محكوما بإسلامه لم يقر في يده، لان الكفالة ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم، ولانه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه، وان كان محكوما بكفره أقر في يده لانه على دينه، وان التقطه فاسق لم يقر في يده، لانه لا يؤمن أن يسترقه، وأن يسئ في تربيته، ولان الكفالة ولاية والفاسق ليس من أهل الولاية
(فصل)
وان التقطه ظاعن يريد أن يسافر به نظرت، فان لم تختبر أمانته في الباطن، يقر في يده، لانه لا يؤمن أن يسترقه إذا غاب، وان اختبرت أمانته في الباطن، فان كان اللقيط في الحضر والملتقط من أهل البدو ويريد أن يخرج به إلى البدو منع منه، لانه ينقله من العيش في الرخاء إلى العيش في الشقاء، ومن طيب المنشأ إلى موضع الجفاء.
وفى الخبر (من بدا فقد جفا) وان أراد أن يخرج به إلى بلد آخر ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، وهو ظاهر النص، لان البلد كالبلد
(والثانى)
لا يجوز، لان البلد الذى وجد فيه أرجى لظهور نسبه فيه.(15/292)
وإن كان الملتقط في بدو، فإن كان الملتقط من أهل الحضر وأراد أن يخرج به إلى الحضر جاز، لان الحضر أرفق به وأنفع له، وإن كان من البادية فإن كانت حلته في مكان لا ينتقل عنه أقر في يده، لان الحلة كالقرية، وإن كان يظعن في طلب الماء والكلا ففيه وجهان
(أحدهما)
يقر في يده لانه أرجى لظهور نسبه.
(والثانى)
لا يقر في يده لانه يشقى بالتنقل في البدو.
(فصل)
وإن التقطه فقير ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقر في يده لانه لا يقدر على القيام بحضانته، وفى ذلك إضرار باللقيط
(والثانى)
يقر في يده لان الله تعالى يقوم بكفاية الجميع.
(الشرح) حديث (من بدا فقد جفا) رواه أحمد في المسند عن البراء بن عازب
بلفظ (من بدا جفا) ورواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن مسعود بلفظ (من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن) وإسناد أحمد صحيح، وفى إسناد الطبراني نظر أما اللغات فقوله: ظاعن فاعل ظعن وبابه نفع، أي ارتحل ويتعدى بالهمزة وبالحرف، فيقال أظعنته وظعنت به، فهو ظاعن للفاعل ومظعون للمفعول، والاصل مظعون به ولكن حذفت الصله لكثرة الاستعمال، وباسم المفعول سمى الرجل، ويقال للمرأة ظعينة فعيلة بمعنى مفعولة، لان زوجها يظعن بها، ويقال الظعينة الهودج، وسواء كان فيه امرأة أم لا، والجمع ظعائن وظعن بضمتين.
ويقال الضعينة في الاصل وصف المرأة في هودجها، سميت بهذا الاسم وإن كانت في بيتها.
قال تعالى (ويوم ظعنكم ويوم إقامتكم) قوله: ومن طيب المنشأ إلى موضع الجفاء.
المنشأ بالهمز مقصور، وهو موضع النشوء وزمان الحداثة، يقال نشأت في بنى فلان إذا شببت فيهم، مأخوذ من أنشاء الله له، أي ابتداء خلقه.
وقوله صلى الله عليه وسلم (من بدأ جفا) أي من نزل البادية صار فيه جفاء الاعراب، والجفاء ممدود وهو ضد البر، يقال جفوت الرجل أجفوه، ولا يقال جفيت.
وهو مأخوذ من جفاء السيل، وهو ما نفاه السيل، والحلة المنزل ينزله القوم وحيث يحلون.(15/293)
أما الاحكام فإنه ليس لكافر التقاط مسلم لانه لا ولاية لكافر على مسلم، ولانه لا يؤمن أن يفتنه ويلقنه الكفر، بل الظاهر أنه يربيه على ملته وينشأ على ذلك كولده، فإن التقطه فلا يقر في يده، وإن كان الطفل محكوما بكفره فله التقاطه لان الذين كفروا بعضهم أولياء بعض.
أما إذا التقطه من هو مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة
أقر اللقيط في يديه، لان حكمه حكم العدل في لقطة المال والولاية في النكاح والشهادة فيه وفى أكثر الاحكام، ولان الاصل في المسلم العدالة، ولذلك قال عمر رضى الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض، فان أراد أن يسافر بلقطته فانه لا يقر في يديه، وهذا هو مذهبنا، لانه لم تتحقق أمانته فلم تؤمن خيانته، وهذا أحد الوجهين عند الحنابله.
والوجه الثاني عندهم يقر فأما من عرفت عدالته واتضحت أمانته، فيقر اللقيط في يده في سفره وحضره لانه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة، فإذا كان سفر الامين باللقيط إلى مكان يقيم به نظرت فان كان التقطه من الحضر فأراد النقل به إلى البادية لم يقر في يده لوجهين:
(أحدهما)
أن مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه وأرفه له
(والثانى)
أنه إذا وجد في الحضر فالظاهر أنه ولد فيه فبقاؤه فيه أرجى لكشف نسبه وظهور أهله واعترافهم به، النقلة به من بلد الحضر ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المنصوص، وهو أحد الوجهين عند الحنابله: يقر في يده لان ولايته ثابتة، والبلد الثاني كالبلد الاول في الرفاهية فيقر في يده، كما لو انتقل من أحد أقسام البلد إلى قسم آخر، وفارق المنتقل به إلى البادية لانه يضر به بتفويت الرفاهية عليه وان التقطه من البادية فله نقله إلى الحضر لانه ينقله من أرض البؤس والشقاء إلى الرفاهية والدعة والدين (الثاني) لا يقر في يده، ولان بقاءه في بلده أرجى لكشف نسبه فلم يقر في يد المنتقل عنه قياسا على المنتقل به إلى الباديه، وان أقام به في حلة يستوطنها، فله ذلك، وان كان ينتقل به إلى المواضع أحتمل أن يقر في يديه، لان الظاهر(15/294)
أنه أبن بدويين وإقراره في يدى ملتقطه أرجى لكشف نسبه، ويحتمل أن يؤخذ منه فيدفع إلى صاحب قرية لانه أرفه له وأخف عليه وكل موضع قلنا ينزع من ملتقطه فإنما يكون ذلك إذا وجد من يدفع إليه ممن هو أولى به، فإن لم يوجد من يقوم به أقر في يدى ملتقطه، لان إقراره في يديه مع قصوره أولى من إهلاكه، وإن لم يوجد إلا مثل ملتقطه فملتقطه أولى به.
إذ لا فائدة في نزعه من يده، ودفعه إلى مثله.
(فرع)
إذا التقطه فقير فإن قلنا إنه لا يقدر على حضانته من حيث ضعف الامكانيات اللازمة لحياة الطفل من الامور التى تخرج من الانفاق، إذ أن الانفاق لا يلزم الملتقط كما قررنا قبل، كأن كان مسكنه غير صحي لا تتوفر فيه وسائل التهوية ولا أسباب الوقاية والنظافة، فعلى هذا الوجه لا يقر في يده، وإن قلنا بأن الامور تجرى بضمان الله وكفالته، وأن الله تعالى تكفل بحفظه إذا شاء، وأن الاسباب الضرورية للحياة التى ينشأ عليها ابناء الفقراء مألوفة عندهم ويشبون عليها وتبنى فيها أجسامهم كأقوى ما تبنى الاجسام، وقد رأينا بالحس والمشاهدة ما يتمتع به أبناء الفقراء من مناعة ضد الامراض مع الكفاف في العيش، وذلك من رعاية الله تعالى لخلقه، فعلى هذا الوجه يقر في يده وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن تنازع في كفالته نفسان من أهل الكفالة قبل أن يأخذاه، أخذه السلطان وجعله في يد من يرى منهما أو من غيرهما، لانه لا حق لهما قبل الاخذ ولا مزية لهما على غيرهما، فكان الامر فيه إلى السلطان.
وإن التقطاه وتشاحا أقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة أقر في يده.
وقال أبو على بن خيران: لا يقرع بينهما، بل يجتهد الحاكم فيقره في يد من هو أحظ له، والمنصوص هو الاول لقوله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون
أقلامهم أيهم يكفل مريم) ولانه لا يمكن أن يجعل في أيديهما، لانه لا يمكن أجتماعهما على الحضانة، ولا يمكن أن يجعل بينهما مهايأة، لانه تختلف عليه الاخلاق والاغذية فيستضر، ولا يمكن أن يقدم أحدهما لانهما متساويان في(15/295)
سبب الاستحقاق، ولا يمكن أن يسلم إلى غيرهما، لانه قد ثبت لهما حق الالتقاط فلا يجوز اخراجه عنهما فأقرع بينهما.
كما لو أراد أن يسافر بإحدى نسائه، وان ترك أحدهما حقه من الحضانة ففيه وجهان
(أحدهما)
يدفع إلى السلطان فيقره في يد من يرى، لان الملتقط لا يملك غير الحفظ.
فأما إقرار اللقيط في يد غيره فليس ذلك إليه، ولهذا لو انفرد بالالتقاط لم يملك أن ينقله إلى غيره.
(والثانى)
وهو المذهب أنه يقر في يد الآخر من غير اذن السلطان، لان الحضانة بحكم الالتقاط لا تفتقر إلى اذن السلطان، ولهذا لو انفرد كل واحد منهما بالالتقاط ثبت له الحضانة من غير اذن، فإذا اجتمعا وترك أحدهما حقه ثبت للآخر كالشفعة بين شفيعين.
(فصل)
فاما إذا اختلفا في الالتقاط فادعى كل واحد منهما انه الملتقط ولم تكن بينة، فان لم يكن لاحدهما عليه يد أقره السلطان في يد من يرى منهما أو من غيرهما، لانه لاحق لهما، وان كان في يد احدهما فالقول قوله مع يمينه لان اليد تشهد له.
وان كان في يدهما تحالفا، فان حلفا أو نكلا صارا كالملتقطين يقرع بينهما على المذهب، وعلى قول أبى على بن خيران يقره الحاكم في يد من هو أحظ له، فان كان لاحدهما بينة قضى له، لان البينة اقوى من اليد والدعوى، وان كان لكل واحد منهما بينة، فان كانت بينة أحدهما اقدم تاريخا قضى له، لانه قد
ثبت له السبق إلى الالتقاط، وان لم تكن بينة أحدهما أقدم تاريخا فقد تعارضت البينتان، ففى أحد القولين تسقطان فيصيران كما لو لم تكن بينة، وقد بيناه، وفى القول الثاني تستعملان، وفى الاستعمال ثلاثة أقوال (أحدها) القسمة
(والثانى)
القرعة (والثالث) الوقف.
ولا يجئ ههنا الا القرعة لانه لا يمكن قسمة اللقيط بينهما.
ولا يمكن الوقف، لان فيه اضرارا باللقيط فوجبت القرعة.(15/296)
(الشرح) الاحكام: إذا تنازع كفالته اثنان من غير أهل الكفالة لفسقهما أو رقهما مع كونهما غير مأذونين من سيديهما فانه لا يقر في يدى واحد منهما: وينزع منهما ويسلم إلى غيرهما: فإذا كانا من أهل الكفالة، وان كل واحد منهما ممن يقر في يده لو انفرد، الا أن أحدهما احظ للقيط من الاخر، مثل أن يكون احدهما موسرا والاخر معسرا فالموسر أحق لان ذلك أحظ للطفل، وان التقط مسلم وكافر طفلا محكوما بكفره، فقد قال أصحابنا وأصحاب أحمد: هما سواء، لان للكافر ولاية على الكافر، ويقر في يده إذا انفرد بالتقاطه، فساوى المسلم في ذلك، ولابن قدامة الحنبلى رأى في مخالفته مذهبه بقوله: ان دفعه إلى المسلم احظ له، لانه يصير مسلما فيسعد في الدنيا والاخرة، وينجو من النار، ويتخلص من الجزية والصغار، فالترجيح بهذا أولى من الترجيح باليسار الذى انما يتعلق به توسعة عليه في الانفاق، وقد يكون الموسر بخيلا فلا تحصل التوسعة، فان تعارض الترجيحان فكان المسلم فقيرا والكافر موسرا فالمسلم أولى، لان النفع الحاصل له باسلامه أعظم من النفع الحاصل بيساره مع كفره.
قال: وعلى قياس قولهم في تقديم الموسر ينبغى أن يقدم الجواد على البخيل، لان حظ الطفل عنده اكثر من الجهة التى يحصل له الحظ فيها باليسار، وربما تخلق باخلاقه
وتعلم من جوده.
فإذا تساويا في كونهما مسلمين عدلين حرين مقيمين فهما سواء فيه فان ضى احدهما باسقاط حقه وتسليمه إلى صاحبه جاز، لان الحق له فلا يمنع من الايثار به، وان تشاحا أقرع بينهما لقول الله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) ولانه لا يمكن كونه عندهما، لانه لا يمكن ان يكون عندهما في حاله واحدة، وان تهايأة فجعل عندكل واحد يوما أو اكثر من ذلك اضر بالطفل لانه تختلف عليه الاغذية والانس والالف، ولا يمكن دفعه إلى احدهما دون الاخر بغير قرعة لان حقهما متساو، فتعيين أحدهما بالتحكم لا يجوز فتعين الاقراع بينهما، كما يقرع بين الشركاء في تعيين السهام في القسمة وبين النساء في البداية بالقسمة وبين العبيد في الاعناق، والرجل مقدم على المرأة عندنا على الاصح(15/297)
وهما سواء عند احمد وأصحابه، ولا ترجح المرأة هنا كما ترجح في حضانة ولدها على ابيه لانها رجحت هناك لشفقتها على ولدها وتوليها لحضانته بنفسها، والاب يحضنه باجنبية، فكانت أمه أحظ له وأرفق به، أما ههنا فانها أجنبية من اللقيط والرجل يحضنه بأجنبية فاستويا على القول بالتساوى، أو رحج الرجل على الاصح فان كان احدهما مستور الحال والاخر ظاهر العدالة رجح السلطان العدل على المستور، لان المانع من الالتقاط منتف في حقه والاخر مشكوك فيه، فيكون الحظ للطفل في تسليمه إليه أثم، ويحتمل أن يساوى السلطان بينهما بالقرعة لان احتمال وجود المانع لا يؤثر في المنع فلا يؤثر في الترجيح، والامر متروك إلى اجتهاد الحاكم الذى ليس له أن يسلم إلى ثالث لم يثبت له حق الالقاط.
وقال أبو على بن خيران: يجتهد الحاكم في اختيار الاحظ للطفل والاجدى عليه والاحفظ وليس له أن يقرع بينهما وليس هذا بالمذهب بل المذهب الاقراع
(فرع)
وان رأياه جميعا فسبق أحدهما فأخذه أو وضع يده عليه فهو أحق به لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) وان رآه أحدهما قبل صاحبه فسبق إلى أخذه الآخر، فالسابق إلى أخذه أحق، لان الالتقاط هو الاخذ لا الرؤية، ولو قال أحدهما لصاحبه: ناولنيه، فأخذه الآخر نظرت إلى نيته، فان نوى أخذه لنفسه فهو أحق به، كما لو لم يأمره الاخر بمناولته أياه، وان نوى مناولته فهو للآمر لانه فعل ذلك بنية النيابة عنه، فأشبه ما لو توكل له في تحصيل مباح.
فان اختلفا فقال كل واحد منهما: أنا التقطته ولا بينة لاحدهما، وكان في يد أحدهما، فالقول قوله مع يمينه أنه التقطه، وهذا هو المذهب عند أصحاب أحمد كما ذكره أبو الخطاب، وقد خالفه القاضى وجعل قياس مذهب أحمد أنه لا يحلف كما في الطلاق والنكاح.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم، فان كان في يديهما تحالفا فان حلفا أو نكلا صارا كالملتقطين ويقرع السلطان بينهما على المذهب.(15/298)
وقال أبو على بن خيران مقالته في الفرع قبله لا قرعة بينهما بل يجتهد الحاكم في اختيار أحدهما ممن هو أحظ للطفل، فإن كان لاحدهما بينة قضى له، وإن كان لكل منهما بينة نظرت في أقدم البينتين تاريخا وقضيت لصاحبها، فإذا استوى تاريخهما أو أطلقتا معا، أو أرخت إحداهما وأطلقت الاخرى فقد تعارضتا، وهل تسقطان؟ أو تستعملان؟ فيه قولان عندنا وجهان عند أصحاب أحمد،
(أحدهما)
تسقطان فيصيران كمن لا بينة لهما فيقرع بينهما.
(والثانى)
تستعملان، وفى الاستعمال ثلاثة أقوال.
أحدها: القسمة
واستعمال القسمة بين المتداعيين إذا جاز في المال فلا سبيل إليه ههنا.
والثانى: الاقراع بينهما.
والثالث: الوقف وفى الوقف إضرار باللقيط، وليس اللقيط مما يجوز وقفه فلا مناص من الاقراع فوجبت القرعة بينهما، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وإن ادعى حر مسلم نسبه لحق به وتبعه في الاسلام، لانه يقر له بحق لا ضرر فيه على أحد فقبل كما لو أقر له بمال، وله أن يأخذه من الملتقط لان الوالد أحق بكفالة الولد من الملتقط، وإن كان الذى أقر بالنسب هو الملتقط فالمستحق أن يقال له: من أين صار ابنك؟ لانه ربما اعتقد أنه بالالتقاط صار أباله، وإن ادعى نسبه عبد لحق به ن لان العبد كالحر في السبب الذى يلحق به النسب، ولا يدفع إليه لانه لا يقدر على حضانته لاشتغاله بخدمة مولاه، وان ادعى نسبه كافر لحق به، لان الكافر كالمسلم في سبب النسب، وهل يصير اللقيط كافرا؟ قال في اللقيط: أحببت أن أجعله مسلما.
وقال في الدعوى والبينات: أجعله مسلما، فمن أصحابنا من قال: إن أقام البينة حكم بكفره قولان واحدا، وإن لم تقم البينة ففيه قولان.
(أحدهما)
يحكم بكفره لانا لما حكمنا بثبوت نسبه فقد حكما بأنه ولد على فراشه (والقول الثاني) يحكم بإسلامه لانه محكوم بإسلامه بالدار فلا يحكم بكفره يقول كافر.
وقال أبو إسحاق: الذى قال في اللقيط أراد به إذا ادعاه وأقام البينه(15/299)
عليه، لانه قد ثبت بالبينه أنه ولد على فراش كافر، والذى قال في الدعوى والبينات أراد إذا ادعاه من غير بينه لانه محكوم باسلامه بظاهر الدار، فلا يصير كافرا بدعوى الكافر، وهذا الطريق هو الصحيح لانه نص عليه في الاملاء.
وإذا قلنا انه يتبع الاب في الكفر فالمستحق أن يسلم إلى مسلم إلى أن يبلغ احتياطا
للاسلام، فان بلغ ووصف الكفر أقررناه على كفره، وان وصف الاسلام حكمنا باسلامه من وقته.
(فصل)
وان ادعت امرأة نسبه ففيه ثلاثة أوجه.
أحدها: يقبل لانها أحد الابوين، فقيل اقرارها بالنسب كالاب.
والثانى: لا يقبل وهو الظاهر النص لانه يمكن اقامة البينه على ولادتها من طريق المشاهدة، فلا يحكم فيها بالدعوى بخلاف الاب، فانه لا يمكن اقامة البينه على ولادته من طريق المشاهدة، فقبلت فيه دعواه، ولهذا قلنا: انه إذا قال لامرأته: ان دخلت الدار فأنت طالق، لم يقبل قولها في دخول الدار الا ببينه، ولو قال لها: ان حضت فأنت طالق، قبل قولها في الحيض من غير بينه، لما ذكرناه من الفرق، فكذلك ههنا.
والثالث: ان كانت فراشا لرجل لم يقبل قولها، لان اقرارها يتضمن الحاق النسب بالرجل وان لم تكن فراشا قيل لانه لا يتضمن الحاق النسب بغيرها.
(الشرح) اللغه: الدعوى، ودعواه ودعواها كلها بكسر الدال.
قال الازهرى: الدعوة بالكسر ادعاء الولد الدعى غير أبيه، يقال: الدعى بين الدعوة بالتكسر إذا كان يدعى إلى غير أبيه أو يدعيه غير أبيه فهو بمعنى فاعل من الاول وبمعنى مفعول من الثاني.
وعن الكسائي: لى في القوم دعوة أي قرابه واخاه، والدعوة بالفتح في الطعام اسم من دعوت الناس إذا طلبتهم ليأكلوا عندك، يقال: نحن في دعوة فلان ومدعاته ودعائه بمعنى.
قال أبو عبيد: وهذا كلام أكثر العرب الا عدى الرباب فانهم يعكسون ويجعلون الفتح في النسب والكسر في الطعام، ودعوى فلان كذا أي قوله: وادعيت الشئ تمنيته، وادعيته طلبته لنفسي والاسم الدعوى.
أما الاحكام: فانه إذا ادعى نسبه فلا تخلو دعوى النسب من قسمين.(15/300)
أحدهما: أن يدعيه واحد ينفرد بدعواه فينظر، فإن كان المدعى رجلا مسلما حرا لحق نسبه به بغير خلاف بين أهل العلم إذا أمكن ان يكون منه، لان الاقرار محض نفع للطفل لاتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه، فقبل كما لو أقر له بمال ثم إن كان المقر به ملتطة أقر في يده، إلا أن المستحق أن يناقش كيف صار ابنك لانه قد يعتقد أنه بالالتقاط يصير أبا له، والله يقول (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) .
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه.
وإذا التقط مسلم لقيطا فهو حر مسلم ما لم يعلم لابويه دين غير دين الاسلام، فإذا أقر به نصراني ألحقناه به وجعلناه مسلما لان اقراره به ليس يعلم منا أنه كما قال، فلا نغير الاسلام إذا لم نعلم الكفر.
اه من الدعوى والبينات من الام.
وقال في كتاب اللقيط من الام.
سئل أبو حنيفة رحمه الله عن الصبى يسبى وأبوه كافر وقعا في سهم رجل ثم مات أبوه وهو كافر ثم مات الغلام قبل أن يتكلم بالاسلام فقال لا يصلى عليه، وهو على دين أبيه لانه لا يقر بالاسلام.
وقال الاوزاعي: مولاه أولى من أبيه يصلى عليه.
وقال لو لم يكن معه أبوه ن وخرج أبوه مستأمنا لكان لمولاه أن يبيعه من أبيه.
وقال أبو يوسف إذا لم يسب معه أبوه صار مسلما، ليس لمولاه أن يبيعه من أبيه إذا دخل بأمان، وهو ينقض قول الاوزاعي: انه لا بأس أن يبتاع السبى ويرد إلى دار الحرب في مسألة قبل هذا، فالقول في هذا ما قال أبو حنيفة إذا كان معه أبواه أو أحدهما فهو مسلم اه.
(قلت) إذا ادعى نسبه اثنان فصاعدا نظرت، فإذا ادعاه مسلم وكافر أو حر وعبد فهما سواء، وهذا هو مذهب الشافعي وأحمد رضى الله عنهما.
وقال أبو حنيفة المسلم أولى من الذمي والحر أولى من العبد، لان على اللقيط ضررا إذا
ألحق بالعبد والذمى، فكان الحاقه بالحر المسلم أولى، كما لو تنازعوا في الحضانة.
ولنا أن كل واحد لو انفرد صحت دعواه، فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى كالاحرار المسلمين، وما ذكروه من الضرر لا يتحقق، فاننا لا نحكم برقه(15/301)
ولا كفره، ولا يشبه النسب الحضانة، بدليل أننا نقدم في الحضانة الموسر والحضرى ولا نقدمهما في دعوى النسب.
وجعل الامام الشافعي رضى الله عنه التسليم للنصراني بدعواه بنوة اللقيط لا يعد تسليما للقيط بالكفر، بل نجعله مسلما حتى نعلم الكفر.
وهذا احد قوليه فمن أصحابنا من قال: إن اقام الذمي البينة حكمنا بكفره قولا واحدا، كقوله في الاخذ بقول أبى حنيفة مما سقناه عنه.
وإن لم تقم بينة ففيه قولان
(أحدهما)
إن الحكم بثبوت النسب من الكافر حكم بكفره على طريق التبع والضمن، لانه ولد على فراشه.
(والثانى)
لان غلبة دار الاسلام أقوى من دعوى النسب التى يدعيها الكافر وكل لقيط في دار الاسلام هو مسلم، فلا يحكم بكفره بقول كافر.
وذهب أبو إسحاق المروزى في قولى الشافعي إلى تخريجهما وجهين للمسألة لا قولين، بأن الكفر بكفره يتبع البينة للذى ادعاه من الكفار، فإذا ثبت أنه ولد على فراش الكفر قضينا بكفره والحقناه بصاحب البينة، وأنه إذا لم يقيم بينة حكمنا بإسلامه وهذا هو توجيه ما في الدعوى والبينات من الام، وفى هذا التخريج ما يؤيده من قوله في الاملاء قال النووي في المنهاج: ومن حكم بإسلامه بالدار فأقام ذمى بينة بنسبه لحقه وتبعه في الكفر.
وقال الزركشي: وكذلك المعاهد والمؤمن.
وقال الرملي: فارتفع ما ظنناه من إسلامه، لان الدار حكم باليد، والبينة أقوى من اليد المجردة
وتصور علوقه من مسلم بوطئ شبهة أمر نادر لا يعول عليه مع البينة.
قال وإن اقتصر الكافر على الدعوى بأنه ابنه ولا حجة له فالمذهب أنه لا يتبعه في الكفر وان لحقه في النسب، لانا حكمنا بإسلامه فلا نغيره بدعوى كافر مع إمكان تلك الشبهة النادرة.
والطريق الثاني: فيه قولان ثانيهما يتبعه في الكفر كالنسب، وجعل الماوردى محل الخلاف ما إذا استلحقه قبل أن يصدر منه صلاة أو صوم، فإن صدر منه ذلك لم يغير عن حكم الاسلام قطعا، وسواء اقلنا بتبعيته في الكفر أم لا يحال بينهما كما يحال بين أبوى مميز وصف الاسلام وبينه(15/302)
قال في الكفاية وقضية اطلاقهم وجوب الحيلولة بينهما إن قلنا بعدم تبعيته له في الكفر، لكن في المهذب انه يستحق تسلميه لمسلم، فإذا بلغ ووصف الكفر، فان قلنا بالتبعية قرر لكن هذا التقرير يهدده لعله يسلم ن وإلا ففى تقريره ما سبق من الخلاف.
(فرع)
إذا كان المدعى امرأة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو أحد الروايات عن أحمد رضى الله عنه أن دعواها تقبل ويلحقها نسبه لانها أحد الابوين، فيثبت النسب بدعواها كالاب، ولانه يمكن أن يكون منها كما يكون ولد الرجل بل أكثر، لانها تأتى به من زوج ووطئ بشبهة ويلحقها ولدها من الزنا دون الرجل، ولان في قصة داود وسليمان في المرأتين كان لهما بنان فذهب الذئب بأحدهما فادعت كل واحدة منهما أن الباقي ابنها وأن الذى أخذه الذئب ابن الاخرى فحكم به داود للكبرى وحكم به سليمان للاخرى بمجرد الدعوى منهما فعلى هذا الوجه يلحق بها دون زوجها، لانه لا يجوز أن يلحقه نسب ولد لم يقر به، وكذلك إذا ادعى الرجل نسبه لم يلحق بزوجته.
فان قيل الرجل يمكن
أن يكون له ولد من امرأة أخرى أو من أمته، والمرأة لا يحل لها نكاح غير زوجها ولا يحل وطؤها لغيره، قلنا يمكن أن تلد من وطئ شبهة أو غيره، وإن كان الولد يحتمل أن يكون موجودا قبل أن يتزوجها هذا الزوج أمكن أن يكون من زوج آخر.
فان قيل إنما قبل الاقرار بالنسب من الزوج لما فيه من المصلحة بدفع العار عن الصبى وصيانته عن النسبة إلى كونه ولد زنا، ولا يحصل هذا بالحاق نسبه بالمرأة، بل الحاقه بها دون زوجها تطرق للعار إليه واليها.
قلنا بل قبلنا دعواه لانه يدعى حقا لا منازع له فيه، ولا مضرة على أحد فيه فقبل قوله فيه كدعوى المال، وهذا متحقق في دعوى المرأة.
والوجه الثاني وهو رواية ثانيه عن أحمد رضى الله عنه نقلها الكوسج عنه في امرأة ادعت ولدا، ان كان لها اخوة أو نسب معروف لا تصدق الا ببينه وان لم يكن لها دافع لم يحل بينها وبينه، لانه إذا كان لها أهل وتسب معروف لم تخف ولادتها عليهم، يتضررون بالحاق النسب بها لما في من تعييرهم(15/303)
بولادتها من غير زوجها، وليس كذلك إذا لم يكن لها أهل، ويحتمل أن لا يثبت النسب بدعواها بحال، وهذا قول الثوري والشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن النسب لا يثبت بدعوى المرأة، لانها يمكنها إقامة البينة على الولادة، فلا يقبل قولها بجرده، كما لو علق زوجها طلاقها بولادتها.
أما كيف تكون البينة؟ فقد قال الشافعي رضى الله عنه: لا يجوز على الولادة ولا شئ مما تجوز فيه شهادة النساء مما يغيب عن الرجال إلا أربع نسوة عدول من قبل أن الله عز وجل حيث أجاز الشهادة انتهى بأقلها إلى شاهدين أو
شاهد وامرأتين، فأقام الثنتين من النساء مقام رجل حيث أجازهما، فإذا أجاز المسلمون شهادة النساء فيما يغيب عن الرجال لم يجز والله أعلم ان يجيزوا إلا على أصل حكم الله عز وجل في الشهادات، فيجعلون كل امرأتين يقومان مقام رجل، وإذا فعلوا لم يجز إلا أربع.
وهكذا المعنى في كتاب الله عز وجل وما أجمع عليه المسلمون.
أخبرنا مسلم عن ابن جريح عن عطاء أنه قال في شهادة النساء على الشئ من أمر النساء لا يجوز فيه أقل من أربع.
وقد قال غيرنا تجوز فيه واحدة لانه من موضع الاخبار كما تجوز الواحدة في الخبر، لا أنه من موضع الشهادة، ولو كان من موضع الشهادات ما جاز عدد من النساء وإن كثرن على شئ إلى أن قال قال: فإنا روينا عن على رضى الله عنه أنه أجاز شهادة القابلة وحدها.
قلت: لو ثبت هذا عن على صرنا إليه إن شاء الله تعالى، ولكنه لا يثبت عندكم ولا عندنا عنه.
وهذا لا من جهة ما قلنا من القياس على حكم الله ولا من جهة قبول خبر المرأة، ولا أعرف له معنى.
قلت إذا ثبت هذا في وجب البينة لما يمكن أن تقوم عليه بينة كالولادة للقيط المدعى أو للمعلق طلاقها على دخول الدار في المجئ ببينة على دخول الدار، وفارق الحيض فإنه من الاعراض الخفية التى يقبل فيها الاقرار ولا يطالب فيها بالبينة لنعذرها أو استحالتها.
والوجه الثالث وهو الرواية الثالثة عن أحمد رضى الله عنه أنها ان كان لها زوج لم يثبت النسب بدعواها لافضائه إلى إلحاق النسب بزوجها(15/304)
بغير إقراره ولا رضاه، أو إلى أن امرأته وطئت بزنا أو شبهة وفى ذلك ضرر عليه فلا يقبل قولها فيما يلحق الضرر به، وان لم يكن لها زوج قبلت دعواها لعدم هذا الضرر.
والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن تداعى نسبه رجلان لم يجز إلحاقه بهما، لان الولد لا ينعقد من اثنين، والدليل عليه قوله تعالى (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) فإن لم يكن لواحد منهما بينة عرض الولد على القافة، وهم قوم من بنى مدلج من كنانة، فإن ألحقته بإحدهما لحق به لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعرف السرور في وجهه فقال: ألم ترى إلى مجزز المدلجى نظر إلى أسامة وزيد وقد غطيا رؤسهما، وقد بدت أقدامهما فقال: إن هذه الاقدام بعضها من بعض) فلو لم يكن ذلك حقا لما سر بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَلْ يجوز أن يكون من غير بنى مدلج؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يجوز لان ذلك ثبت بالشرع، ولم يرد الشرع إلا في بنى مدلج
(والثانى)
أنه يجوز وهو الصحيح، لانه علم يتعلم ويتعاطى، فلم تختص به قبيلة كالعلم بالاحكام، وهل يجوز أن يكون واحدا؟ فيه وجهان.
أحدهما: أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سر بقول مجزز المدلجى وحده ولانه بمنزلة الحاكم لانه يجتهد ويحكم كما يجتهد الحاكم ثم يحكم.
والثانى: لا يجوز أقل من اثنين لانه حكم بالشبه في الخلقة فلم يقبل من واحد كالحكم في المثل في جزاء الصيد.
ولا يجوز أن يكون امرأة ولا عبدا كما لا يجوز أن يكون الحاكم إمرأة ولا عبدا ولا يقبل الا قول من جرب وعرف بالقيافة حذقه كما لا يقبل في الفتيا الا قول من عرف في العلم حذقه، وان ألحقته بهما أو نفته عنهما أو أشكل الامر عليها أو لم تكن قافه ترك حتى يبلغ، ويؤخذان بالنفقة عليه، لان كل واحد منهما يقول: أنا الاب وعلى نفقته، فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل طبعه إليه لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ للغلام الذى ألحقته القافة بهما: وال أيهما شئت، ولان الولد يجد لوالده مالا يجد لغيره، فإذا تعذر العمل بقول
القافة رجع إلى اختيار الولد، وهل يصح أن ينتسب إذا صار مميزا ولم يبلغ؟ فيه وجهان(15/305)
(أحدهما)
يصح كما يصح أن يختار الكون مع أحد الابوين إذا صار مميزا.
(والثانى)
لا يصح لانه قول يتعين به النسب ويلزم الاحكام به، فلا يقبل من الصبى، ويخالف اختيار الكون مع أحد الابوين، لان ذلك غير لازم، ولهذا لم اختار أحدهما ثم انتقل إلى الاخر جاز، ولا يجوز ذلك في النسب، وان كان لاحدهما بينه قدمت على القافة، لان البينة تخبر عن سماع أو مشاهدة والقافة تخبر عن اجتهاد، فان كان لكل واحد منهما بينه فهما متعارضتان لانه لا يجوز أن يكون الولد من اثنين، ففى أحد القولين يسقطان ويكون كما لو لم تكن بينة، وقد بيناه، وفى الثاني تستعملان، فعلى هذا هل يقرع بينهما، فيه وجهان.
أحدهما: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة قضى له، لانه لا يمكن قسمة الولد بينهما، ولا يمكن الوقف، لان فيه اضرارا باللقيط فوجبت القرعة.
والثانى: لا يقرع، لان معنا ما هو أقوى من القرعة وهو القافة، فعلى هذا يصير كما لو لم يكن لهما بينة، وليس في موضع تسقط الاقوال الثلاثة في استعمال البينتين الا في هذا الموضع على هذا المذهب.
وان تداعت امرأتان نسبه وقلنا: انه يصح دعوى المرأة ولم تكن بينة، فهل يعرض على القافة، فيه وجهان
(أحدهما)
يعرض، لان الولد يأخذ الشبه من الام كما يأخذ من الاب، فإذا جاز الرجوع إلى القافة في تمييز الاب من غيره بالشبه جاز في تمييز الام من غيرها
(والثانى)
لا يعرض لان الولد يمكن معرفة أمه يقينا فلم يرجع فيه إلى القافة بخلاف الاب فانه لا يمكن معرفته الا ظنا فجاز أن يرجع فيه إلى الشبه.
(فصل)
وان ادعى رجل رق اللقيط لم يقبل الا ببينه، لان الاصل هو
الحرية فان شهدت له البينه نظرت، فان شهدت له بأنه ولدته أمته فقد قال في اللقيط: جعلته له.
وقال في الدعوى والبينات: أن شهدت له بأنه ولدته أمته في في ملكه جعلته له، فمن أصحابنا من قال يجعل له قولا واحدا، وان لم تقل ولدته في ملكه، وما قال في الدعوى والبينات ذكره تأكيدا لا شرطا لان ما تأتى به أمته من غيره لا يكون الا مملوكا له.(15/306)
ومنهم من قال: فيه قولان
(أحدهما)
يجعل له لما بيناه
(والثانى)
لا يجعل له لانه يحتمل أن تكون الامة ولدته قبل أن يملكها ثم ملكها فلم يملك ولدها وان شهدت له البينة بالملك ولم تذكر سبب الملك، ففيه قولان.
أحدهما: يحكم له كما يحكم له إذا شهدت له بملك مال، وإن لم نذكر سببه.
والثانى: لا يحكم لان البينة قد تراه في يده فتشهد بأنه عبده بثبوت يده عليه بالالتقاط أو غيره، وإن شهدت البينة له باليد، فإن كان المدعى هو الملتقط لم يحكم له لانه قد عرف سبب يده وهو الالتقاط، ويد الالتقاط لا تدل على الملك.
فلم يكن للشهادة تأثير.
وان كان المدعى غيره، ففيه قولان.
(أحدهما)
يحكم له مع اليمين لان اليد قد ثبتت، فإذا حلف حكم له كما لو كان في يده مال فحلف عليه
(والثانى)
لا يحكم له لان ثبوت اليد على اللقيط لا تدل على الملك لان الظاهر الحرية.
(الشرح) حديث عائشة رضى الله عنها متفق عليه بلفظ (دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم ترى إلى مجزز المدلجى نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامه بن زيد فقال: هذه الاقدام بعضها من بعض) وفى رواية للبخاري (ألم ترى أن مجززا المدلجى دخل فرأى أسامه وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤسهما ومدت أقدامهما فقال: ان هذه
الاقدام بعضها من بعض) ومجزر بضم الميم وفتح الجيم ثم زاى مشددة مكسورة ثم زاى أخرى اسم فاعل لانه كان في الجاهلية إذا أسر أسيرا جز ناصيته وأطلقه وقد كان الكفار يقدحون في نسب أسامه لكونه كان أسود شديد السواد، وكان زيد أبيض كذا قاله أبو داود.
وأم أيمن هي أم أيمن بركة الحبشيه مَوْلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورثها عن أبيه حيث كانت وصيفته، ويقال: كانت من سبى الحبشه الذين قدموا زمن الفيل فصارت لعبد المطلب فوهبها لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجت قبل زيد عبيدا الحبشى فولدت له أيمن فكنيت به والقافة جمع قائف كقادة جمع قائد وسادة جمع سائد، والقائف هو الذى يتتبع الاثر ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه.(15/307)
أما الاحكام: فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدعوى والبينات من الام وإذا تداعى الحر والعبد المسلمان والذمى الحر والعبد مولودا وجد لقيطا فلا فرق بين أحد منهم كما لا يكون بينهم فرق فيما تداعوا فيه مما يملكون: فتراه القافه، فإن ألحقوه بأحدهم فهو ابنه ليس له أن ينفيه ولا للمولود أن ينتفى منه بحال أبدا وان ألحقته القافه باثنين فأكثر أو لم تكن قافه، أو كانت فلم تعرف، لم يكن ابن واحد منهم حتى يبلغ فينتسب إلى أيهم شاء، فإذا فعل ذلك انقطعت دعوى الآخرين، ولم يكن للذى انتسب إليه أن ينفيه وهو حر في كل حالاته بأيهم لحق لان اللقيط حر، وانما جعلناه حرا إذا غاب عنا معناه، لان أصل الناس الحريه حتى يعلم أنهم غير أحرار ولو أن أحدهم قال: هو ابني من أمة نكحتها لم يكن بهذا رقيقا لرب الامة حتى يعلم أن الامة ولدته، ولا يجعل اقرار غيره لازما له، ويكفى القائف الواحد لان هذا موضع حكم بعلم لا موضع شهادة، ولو كان، انما حكمه حكم الشهادات
ما أجزنا غير اثنين ولا أجزنا شهادة اثنين يشهدان على ما لم يحضرا ولم يريا، ولكنه كاجتهاد العالم ينفذه هذا، ولا يحتاج معه إلى ثان ولا يقبل القائف الواحد حتى يكون أمينا ولا أكثر منه حتى يكونوا أمناء أو بعضهم، فإذا أحضرنا القائف والمتداعيين للولد أو ذوى أرحامهم ان كان المدعون له موتى أو كان بعض المدعين له ميتا، فأحضرنا ذوى رحمه أحضرنا احتياطا أقرب الناس نسبا وشبها في الخلق والسن والبلد والمدعين له، ثم فرقنا بين المتداعيين منهم، ثم أمرنا القائف يلحقه بأبيه أو أقرب الناس بأبيه ان لم يكن له أب.
وان كانت معه أم أحضرنا لها نسبا في القرب منها كما وصفت ثم بدأنا فأمرنا القائف أن يلحقه بأمه لان للقائف في الام معنى، ولكى يستدل به على صوابه في الاب ان أصاب فيها ويستدل على غيره ان أخطأ فيها، فخالفنا بعض الناس في القافه فقال القافه باطل، فذكرنا لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ مجززا المدلجى ونظر إلى أقدام أسامه وأبيه زيد وقد غطيا وجوههما فقال: ان هذه الاقدام بعضها من بعض فحكى ذلك النبي صلى الله عيله وسلم لعائشه مسرورا به، فقال:(15/308)
ليس في هذا حكم.
فقنا انه وان لم يكن فيه حكم فإن فيه دلالة عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضيه ورآه علما، لانه لو كان مما لا يجوز أن يكون حكما ما سره ما سمع منه ان شاء الله تعالى، ولنهاه أن يعود له.
فقال انك وان أصبت في هذا فقد تخطئ في غيره.
فقال فهل في هذا غيره؟ قلنا نعم، أخبرنا ابن علية عن حميد عن أنس أنه شك في ابن له فدعا القافة.
أخبرنا أنس بن عياض عن هشام عن أبيه عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ أن رجلين تداعيا ولدا، فدعا له عمر القافة، فقالوا قد اشتركا فيه، فقال له عمر وال أيهما شئت.
أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن عمر مثل معناه، أخبرنا مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عن عروة عن عمر بن الخطاب مثل معناه قال فإنا لا نقول بهذا ونزعم أن عمر قال هو ابنكما ترثانه ويرثكما، وهو للباقى منكما.
قلت فقد رويت عن عمر أنه دعا القافة، فزعمت أنك لا تدعو القافة، فلو لم يكن في هذا حجة عليك في شئ مما وصفنا، الا أنك رويت عن عمر شيئا فخالفته فيه كانت عليك قال، قد رويت عنه أنه ابنهما، وهذا خلاف ما رويتم، قلنا وأنت تخالف أيضا هذا، قال فكيف لم تصيروا إلى القول به؟ قلنا هو لا يثبت عن عمر لان اسناد حديثن هشام متصل، والمتصل أثبت عندنا وعندك من المنقطع، وانما هذا حديث منقطع وسليمان بن يسار وعروة أحسن مرسلا عن عمر ممن رويت عنه، قال فأنت تخالف عمر فيما قضى به من أن يكون ابن اثنين؟ قلت فإنك رعمت أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قضى به إذ كان في أيديهما قضاء الاموال قال كذلك قلت اه قلت ووجه دلالته ما علم من أن التقرير منه صلى الله عليه وسلم حجة، لانه أحد أقسام السنة، وحقيقة التقرير أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم فعلا من أحد أو يسمع قوله أو يعلم به وكان ذلك الفعل من الافعال التى لا يعلم تقدم انكاره لها، دل ذلك على جوازه، فان اسبتشر به فأوضح كما في هذه القصه، والحكم بالقافة إذا لم تكن بينة أو تعارضت به بينتان وسقطتا إذا ألحقوه، فنلحقه بمن ألحقوه(15/309)
وهذا قول أنس وعطاء ويزيد بن عبد الملك والاوزاعي والليث وأبى ثور والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأى: لا حكم للقافة، ويلحق بالمدعيين جميعا تعويل على
مجرد الشبه والظن والتخمين، فإن الشبه يوجد بين الاجانب، وينتفى بين الاقارب ولهذا روى الشيخان أن رجلا أتى النبي فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال: هل لك من ابل، قال نعم، قال: فما ألوانها، قال حمر.
قال: فهل فيها من أورق، قال نعم، قال أنى أتاها ذلك، قال لعل عرقا نزع، قال: وهذا لعل عرقا نزع) قالوا ولو كان الشبه كافيا لاكتفى به في ولد الملاعنة، وفيما إذا أقر أحد الورثة بأخ فأنكره الباقون.
ودلينا عليهم غير حديث مجزز قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ولد الملاعنة (انظروها فان جاءت به أحمش الساقين كأنه وجرة فلا أراه الا قد كذب عليها وان جاءت به أكحل جعدا جماليا سابغ الاليتين خدلج الساقين فهو للذى رميت به، فأتت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا الايمان لكان لى ولها شأن (فقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم للذى أشبهه منهما، وقوله لولا الايمان لكان لى ولها شأن، يدل على أنه لم يمنعه من العمل بالشبه الا الايمان فإذا انتفى المانع يجب العمل به لوجود مقتضيه.
وكذلك قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابن زمعة حين رأى به شبها بينا بعتبه بن أبى وقاص (احتجبي منه يا سودة) فعمل بالشبه في حجب سودة عنه.
فان قيل: فالحديثان حجة عليكم إذ لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه فيهما بل ألحق الولد بزمعة، وقال لعبد بن زمعه هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر.
ولم يعمل بشبه ولد الملاعنة في اقامة الحد عليها لشبه بالمقذوف، قلنا انما لم يعمل في ابن زمعه لان الفراش أقوى، وترك العمل بالبينة لمعارضة ما هو أقوى منه لا يوجب الاعراض عنه، إذا خلت عن المعارض وكذلك ترك اقامة الحد عليها من أجل أيمانها على ضعف الشبه عن اقامة الحد لا يوجب ضعفه عن الحاق النسب، فان الحد في الزنا لا يثبت الا بأقوى البينات(15/310)
وأكثرها عددا وأقوى الاقرار حتى يعتبر فيه تكراره أربع مرات، ويدرأ الشبه عن نفى النسب لا يلزم منه ضعفه عن إثباته، فإن النسب يحتاط لاثباته، ويثبت بأدنى دليل، وأنه لا ينتفى إلا بأقوى الادلة، كما أن الحد لما انتفى بالشبه لم يثبت إلا بأقوى دليل، فلا يلزم حينئذ من المنع من نفيه بالشبه في الخبر المذكور أن لا يثبت به النسب في مسألتنا.
والقافة قوم يعرفون الانسان بالشبه.
ولا يختص ذلك بقبيلة معينة على الصحيح من المذهب، وبه قال أحمد رضى الله عنه وأصحابه، بل هو علم يتعلم بقواعده وأصوله التى كانت عند العرب، وكان أكثر ما يكون في بنى مدلج رهط مجزز الذى رأى أسامة وأباه زيدا، وان إياس بن معاوية المزني قائفا.
وكذلك قيل في شريح.
ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون عدلا مجربا في الاصابة، حرا لان قوله حكم.
وقد كان بعض العرب يستدل من اختلاف أحد الابناء عن إخوته على أسباب الشك التى تساوره، فقد عاد أحدهم إلى امرأته من سفر فوجدها قد ولدت له ولدا، فقال لها: لا تمشطي رأسي ولا تفليني
* وحاذري ذا الريق في يمينى واقتربى منى أخبريني
* ما له أسود كالهجين خالف ألوان بنى الجون على أن أسباب المعرفة في زماننا هذا قد اتسعت آفاقها واستقرت قواعدها على أسباب أدق ومبادئ أضبط، وإن كانت غير قطعية في أكثر أحوالها، وقد يأخذ العلم الحديث بالقيافة حيث يعجز التحليل الطبى، والقيافة أحد فروع الطب الشرعي أو هي الاساس الفعلى للطب الشرعي، ومن قرأ كتب الطب الشرعي
العربية أو الاجنبية يتضح له صحة هذا الحكم.
وقد حاء في كتاب الطب الشرعي الجنائى للدكاترة شريف وسيف النصر ومشالى أن فصائل الدم تنقسم في جميع الشعوب إلى أربعة أقسام، قسمان كبيران ويمكن إطلاق معنى السائدة عليهما ويرمز اليهما بألف وباء، ونوع يتكون منهما(15/311)
ويرمز إليه بألف باء، ونوع نادر ويسمى (أو) فإذا كان الرجل من فصيلة (أ) والمرأة من فصيلة (ب) أمكن أن يكون الولد أأو ب أو (اب) ويلاحظ أن قيافة الدم هنا وإن كانت قائمة على أساس علمي إلا أنها سلبية وليست إيجابية، فهى تقول بأن هذا ليس أبا ولا تستطيع أن تقول هذا أب، لانه قد يكون الاب شخصا له فصيلة المدعى، ولكن يمكن أن ينفى فيقول إذا كانت فصيلة دم الابن أو كانت فصيلة الاب المدعى اب والام ب حكموا بالقطع بأن هذا ليس أباه، ولكن لو كانت فصيلته من فصيلة الطفل قالوا يحتمل أن يكون أباه ويحتمل أن يكون أبوه غيره، على أن أحسن القيافة التعرف عن طريق الاطراف كالايدى والارجل وملامح الوجه.
وهل يقبل قول واحد أو لا يقبل الا قول اثنين وجهان
(أحدهما)
أنه حكم بالاجتهاد فيصح من واحد.
(والثانى)
لا يجوز بأقل من اثنين كالحكم بالمثل في جزاء الصيد في قوله تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم) ولانه حكم بالشبه في الخلقة فأشبه الحكم في المثل في جزاء الصيد (فجزاء مثل ما قتل من النعم) وبهذا الوجه قال أحمد رضى الله عنه في ظاهر رواية الاثرم عنه أنه قيل له: إذا قال أحد القافة هو لهذا، وقال الآخر هو لهذا.
قال لا يقبل واحد منهما حتى يجتمع اثنان فيكونان شاهدين، فإذا شهد إثنان من القافة أنه لهذا فهو لهذا، لانه قول يثبت به النسب فأشبه الشهادة.
وقال القاضى من الحنابلة، يقبل قول الواحد لانه حكم، ويقبل في الحكم قول واحد.
وحمل كلام أحمد على ما إذا تعارض قول القائفين فقال (إذا خالف القائف غيره تعارضا وسقطا، فان قال إثنان قولا وخالفهما واحد فقولهما أولى لانهما شاهدان فقولهما أولى لانه أقوى من قول واحد.
وان عارض قول اثنين قول اثنين سقط قول الجميع.
وان عارض قول الاثنين قول ثلاثة أو أكثر لم يرجح وسقط الجميع، فأما إن ألحقته القافة بواحد ثم جاءت قافة أخرى فألحقته بآخر كان لاحقا بالاول، لان القائف جرى مجرى حكم الحاكم، ومتى حكم الحاكم حكما لم ينقض بمخالفة وغيره له، وإن ألحقته القافة بكافر أو رقيق لم يحكم(15/312)
بكفره ولا رقه لان الحرية والاسلام ثبتا له بظاهر الدار فلا يزول ذلك بمجرد الشبه والظن كما لم يزل ذلك بمجرد الدعوى من المنفرد.
ولو ادعى نسب اللفيط إنسان فألحق نسبه به لانفراده بالدعوى ثم جاء آخر فادعاه لم يزل نسبه عن الاول لانه حكم له به فلم يزل بمجرد الدعوى، فإن ألحقته به القافة لحق به وانقطع عن الاول، لانها بينة في إلحاق النسب، ويزول بها الحكم الثابت بمجرد الدعوى كالشهادة.
(فرع)
إذا ادعاه إثنان فألحقته القافة بهما لحق بهما في النفقة.
وكان أحمد رضى الله عنه يقول: إنه ابنهما يرثهما ميراث ابن ويرثانه جميعا ميراث أب واحد وهذا يروى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضى الله عنهما وهو قول أبى ثور.
وقال أصحاب الرأى يلحق بهما بمجرد الدعوى.
وقال الشافعي لا يلحق بأكثر من واحد، فإذا ألحقته بهما سقط قولهما ولم يحكم لهما، واحتج برواية عمر رضى الله عنه أن القافه قالت (قد اشتركا فيه، فقال عمر وال أيهما شئت) ولانه لا يتصور كونه من رجلين، فإذا الحقته القافلة بهما تبينا كذبهما فسقط
قولهما كما لو الحقته بامين، ولان المدعيين لو اتفقا على ذلك لم يثبت، ولو ادعاه كل واحد منهما وأقام بينة سقطتا، ولو جاز أن يلحق بهما لثبت باتفاقهما وألحق بهما عند تعارض بينتهما، هذا وما لم نتناول من مسائل الفصل فعلى وجهه من تقرير المصنف.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ومن حكم بإسلامه أو بأحد أبويه أو بالسابي فحكمه قبل البلوغ حكم سائر المسلمين في الغسل والصلاة والميراث والقصاص والدية.
لان السبب الذى أوجب الحكم بإسلامه لم يزل فأشبه من أسلم بنفسه وبقى على إسلامه، فان بلغ ووصف الكفر فالمنصوص أنه مرتد، فان تاب وإلا قتل لانه محكوم باسلامه قطعا فأشبه من أسلم بنفسه ثم ارتد.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
ما ذكرناه
(والثانى)
أنه يقر على الكفر لانه لما بلغ زال حكم التتبع فاعتبر بنفسه، فان بلغ ولم يصف الاسلام ولا الكفر فقتله قاتل المنصوص أنه لا قود على قاتله.(15/313)
ومن أصحابنا من قال: يجب القود لانه محكوم بإسلامه فأشبه ما قبل البلوغ، وهذا خطأ لانه يحتمل أن يكون غير راض بالاسلام، والقصاص يسقط بالشبهة فسقط، ويخالف ما قبل البلوغ فإن إسلامه قائم قطعا وبعد البلوغ لا نعلم بقاء الاسلام، فأما من حكم بإسلامه بالدار فانه قبل البلوغ كالمحكوم بإسلامه بأبويه أو بالسابي، فإن بلغ ووصف الكفر فإنه يفزع ويهدد على الكفر احتياطا، فإن أقام على الكفر أقر عليه.
ومن أصحابنا من قال: هو كالمحكوم باسلامه بأبويه لانه محكوم باسلامه بغيره فصار كالمسلم بأبويه، ولمنصوص أنه يقر على الكفر لانه محكوم باسلامه من جهة
الظاهر، ولهذا لو ادعاه ذمى وأقام البينة حكم بكفره.
(فصل)
وإن بلغ اللقيط وقذفه رجل وادعى أنه عبد.
وقال اللقيط: بل أنا حر ففيه قولان
(أحدهما)
أن القول قول اللقيط لان الظاهر من حاله الحرية
(والثانى)
أن القول قول القاذف لانه يحتمل أن يكون عبدا، والاصل براءة ذمة القاذف من الحد وان قطع حر طرفه وادعى انه عبد.
وقال اللقيط: بل أنا حر فالمنصوص أن القول قول اللقيط، فمن أصحابنا من قال: فيه قولان كالقذف، ومنهم من قال: ان القول قول اللقيط قولا واحدا وفرق بينه وبين القذف بأن القصاص قد وجب في الظاهر ووجوب القيمة مشكوك فيه فإذا أسقطنا القصاص انتقلنا من الظاهر إلى الشك فلم يجز وفى القذف قد وجب الحد في الظاهر ووجوب التعزير يقين لانه بعض الحد، فإذا أسقطنا الحد انتقلنا من الظاهر إلى اليقين فجاز.
(فصل)
إذا بلغ اللقيط ووهب وأقبض وباع وابتاع ونكح وأصدق وجنى، وجنى عليه ثم قامت البينة على رقة كان حكمه في التصرفات كلها حكم العبد القن يمضى ما يمضى من تصرفه، وينقض ما ينقض من تصرفه فيما يضره ويضر غيره، لانه قد ثبت بالبينة أنه مملوك فكان حكمه حكم المملوك، فان أقر على نفسه بالرق لرجل فصدقه نظرت، فان كان قد تقدم منه إقرار بحريته لم يقبل إقراره بالرق، لانه باقراره بالحرية أحكام الاحرار في العبادات والمعاملات لم يقبل(15/314)
إقراره في إسقاطها، وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية ففيه طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ.
(أَحَدُهُمَا)
لَا يقبل إقراره بالرق، لانه محكوم بحريته فلم يقبل إقراره بالرق كما لو أقر بالحرية، ثم أقر بالرق.
(والثانى)
يقبل لانا حكمنا بحريته في الظاهر، وما ثبت بالظاهر يجوز إبطاله بالاقرار، ولهذا لو ثبت إسلامه بظاهر الدار وبلغ وأقر بالكفر قبل منه، فكذلك ههنا، ومنهم من قال: يقبل إقراره بالرق قولا واحدا لما ذكرناه، ويكون حكمه في المستقبل حكم الرقيق، فأما تصرفه بعد البلوغ وقبل الحكم برقه فعلى قولين
(أحدهما)
يقبل إقراره في جميعه، لان الرق هو الاصل وقد ثبت فوجب أن تثبت أحكامه كما لو ثبت بالبينة
(والثانى)
يقبل فيما يضره ولا يقبل فيما يضر غيره، لان اقراره يتضمن ما يضره ويضر غيره فقبل فيما يضره، ولم يقبل فيما يضر غيره، كما لو أقر بمال عليه وعلى غيره، وهذا الطريق هو الصحيح وعليه التفريع فان باع واشترى فان قلنا: يقبل إقراره في الجميع، وقلنا: ان عقود العبد من غير إذن المولى لا تصح كانت عقودة فاسدة فان كانت الاعيان باقية وجب ردها، وان كانت تالفة وجب بدلها في ذمته يتبع به إذا عتق.
وان قلنا: يقبل فيما يضره، ولا يقبل فيما يضر غيره، لم يقبل قوله في افساد العقود، ويلزمه اعواضها، فان كان في يده مال استوفى منه، فان فضل في يده شئ كان لمولاه.
وان كان اللقيط جارية فزوجها الحاكم ثم أقرت بالرق فان قلنا: يقبل اقرارها في الجميع فالنكاح باطل، لانه عقد بغير اذن المولى، فان كان قبل الدخول لم يجب على الزوج شئ، وان كان بعد الدخول وجب عليه مهر المثل لانه وطئ في نكاح فاسد، وان أتت بولد فهو حر لانه دخل على أنه حر وعليه قيمته ويجب عليها عدة أمة وهى قرءآن.
وان قلنا: لا يقبل فيما يضر غيره لم يبطل النكاح، لان فيه اضرارا بالزوج ولكنه في حق الزوج في حكم الصحيح، وفى حقها في حكم الفاسد، فان كان قبل الدخول لم يجب لها مهر، لانها لا تدعيه، وان كان بعد الدخول وجب لها أقل(15/315)
الامرين من مهر المثل أو المسمى، لانه إن كان المهر أقل لم يجب ما زاد لان فيه إضرارا بالزوج، وإن أتت منه بولد فهو حر ولا قيمة عليه لانا لا نقبل قولها فيما يضره، وتقول للزوج قد ثبت أن زوجتك أمة، فإن اخترت إمساكها كان ما تلده مملوكا للسيد لانك تطؤها على علم أنهات أمة، وإن طلقها اعتدت عدة حرة وهو ثلاثة أقراء وله فيها الرجعة لانا لا نقبل قولها عليه فيما يضره، وإن مات عنها لزمتها عدة أمة وهى شهران وخمس ليال.
لان عدة الوفاة تجب لحق الله تعالى لا حق له فيها، ولهذا تجب من غير وطئ.
وقول اللقيط يقبل فيما يسقط حق الله تعالى من العبادات، وان كان اللقيط غلاما فتزوج ثم أقر بالرق.
فإن قلنا: يقبل اقراره في الجميع: بطل النكاح من أصله لانه بغير اذن المولى فإن لم يدخل بها لم يلزمه شئ، وان دخل بها لزمه أقل الامرين من المسمى أو مهر المثل.
لانه ان كان المسمى أقل لم يجب ما زاد لانها لا تدعيه، وان كان مهر المثل أقل لم يجب ما زاد لان قوله مقبول، وان ضر غيره.
وان قلنا: لا يقبل قوله فيما يضر غيره لم يقبل قوله: ان النكاح باطل، لانه يضرها، ولكن يحكم بانفساخه في الحال لانه أقر بتحريمها، فإن كان قبل الدخول نصف المسمى وان دخل بها لزمه جميعه لانه لا يقبل قوله في اسقاط المسمى.
(الشرح) من حكم باسلامه أو باسلام أحد أبويه، وان علا وقت العلوق ولو أنثى غير وارثه، ولو كان حدوث الولد بعد موت أصله فهو مسلم بالاجماع بشرط نسبته إليه نسبة تقتضي التوارث فلا يرد آدم أبو البشر عليه السلام، ولو ارتد بعد البلوغ بأن وصف كفرا أي أعرب به عن نفسه فمرتد لانه مسلم ظاهرا وباطنا، ولو علق بين كافرين ثم أسلم أحدهما، وان علا قبل بلوغه ولو بعد تمييزه حكم باسلامه اجماعا كما في اسلام الاب والخبر (الاسلام يعلو ولا يعلى عليه) ولو
أمكن احتلامه فادعاه قبل اسلامه أصله فظاهر اطلاقهم قبول قوله فيه لزمن امكانه قال الرملي: وما بحثه الولى العراقى من عدم قبول قوله الا أن ينبت على عانته شعر خشن، غير ظاهر اللهم الا أن يقال: الاحتياط للاسلام يلغى قوله المانع له لاحتمال كذبه، ولاصل بقاء الصغر، فان بلغ ووصف كفرا فمرتد لسبق الحكم(15/316)
بإسلامه ظاهرا وباطنا، وفى قول كافر أصلى، لان تبعيته أزالت الحكم بكفره، وقد زالت باستقلاله فعاد لما كان عليه أولا، وبنى عليه أنه يلزمه التلفظ بالاسلام بعد البلوغ بخلافه على الاول، ومن ثم لو مات قبل التلفظ جهز كمسلم.
بل قال امام الحرمين وصوبه في الروضه هو كذلك على الثاني أيضا لان هذا الامور مبنية على الظاهر، وظاهره الاسلام.
وما ذكره بعضهم من أن المسلم باسلام أحد أبويه لا يغنى عنه اسلامه شيئا ما لم يسلم بنفسه فغريب أو سبق قلم على ما قرره الاذرعى أو مفرع على وجوب التلفظ ولو تلفظ ثم ارتد فمرتد قطعا، ولا ينقض ما جرى عليه من أحكام الاسلام قبل ردته على الاصح.
ولو سبى مسلم طفلا تبع هذا الطفل سابيه في الاسلام ظاهرا وباطنا ان لم يكن معه أحد أبويه بالاجماع، ولا اعتبار بمن شذ، ولانه صار تحت ولايته كالابوين، وقضية الحكم باسلامه باطنا أنه لو بلغ ووصف الكفر كان مرتدا أما إذا كان معه أحد أبويه وان علا بأن كان في جيش واحد وغنيمة واحدة، وان لم يتحد المالك وقد سبيا معا وان أطلق القاضى في تعليقه أنه إذا سبق سبى أحدهما سبى الآخر تبع السابى، فلا يحكم باسلامه، لان تبعيتهما أقوى من تبعية السابى وان ماتا بعد، لان التبعية انما تثبت في ابتداء السبى، ولو سباه ذمى قاطن ببلادنا على حد قول امام الحرمين أو دخل به دارنا كما قال البغوي، أو
سباه في جيشنا، وكل ذلك انما هو قبل للخلاف في قولهم: لم يحكم بالامه في الاصح.
والثانى: يحكم باسلامه تبعا للدار والاوجه أنه لو سبى أبواه ثم أسلما صار مسلما بإسلامهما خلافا للحليمي ومن تبعه، ولو سباه مسلم وذمى حكم باسلامه تغليبا لحكم الاسلام، ولو سبى الذمي صبيا أو مجنونا وباعه لمسلم أو باعه المسلم السابى له مع أحد أبويه في جيش واحد ولو دون أبويه من مسلم لم يتبع المشترى لفوات وقت التبعية، لانها انما تثبت ابتداء وما جاء من قتله فسيأتي في الاقضية ان شاء الله تعالى.
(فرع)
إذا ادعى رق اللقيط مدع بعد بلوغه كلف اجابته، فان أنكر ولا بينة(15/317)
لم تقبل دعواه، وإن كانت له بينة حكم له بها، فإن كان اللقيط قد تصرف قبل ذلك ببيع أو شراء نقضت تصرفاته لتصرفه بغير إذن، وان لم تكن بينة فأقر بالرق نظرنا، فان كان اعترف لنفسه بالحرية قبل ذلك لم يقبل إقراره بالرق لانه اعترف بالحرية وهى حق الله تعالى فلا يبطل برجوعه.
فإن قلنا: يقبل إقراره كأحد الوجهين عند الشافعي صارت أحكامه أحكام العبيد فيما عليه دون ماله، وبهذا قال أبو حنيفة ولمزني وأحمد، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لانه أقر بما يوجب حقا له وحقا عليه، فوجب أن يثبت ما عليه دون ماله كما لو قال: لفلان على ألف درهم ولى عنده رهن.
ويحتمل أن يقبل إقراره في الجميع، وهو القول الثاني للشافعي لانه ثبت ما عليه فيثبت ماله كالبينة، فإن قبلنا إقراره بالرق لم يخل من أن يكون ذكرا أو أنثى.
فإن كان اللقيط أنثى فالنكاح صحيح في حقها، فان كان قبل الدخول فلا جهر لها، وان كان دخل بها لم يسقط مهرها وأما أولادها فأحرار ولا يثبت الرق في حق أولادها باقرارها فأما بقاء النكاح فيقال للزوج: قد ثبت أنها أمة، فإن اخترت المقام على ذلك
فأقم، وإن شئت ففارقها، وسواء كان ممن يجوز له نكاحا الاماء أو لم يكن لاننا لو اعتبرنا ذلك وأفسدنا نكاحه لكان إفسادا للعقد جميعه بقولها، لان شروط نكاح الامه لا تعتبر في استدامة العقد انما تعتبر في ابتدائه.
فإن قيل: قد قبلتم قولها لى أنها أمة في المستقبل وفيه ضرر على الزوج.
قلنا لم يقبل قولها في إيجاب حق لم يدخل في العقد عليه، فأما الحكم في المستقبل فيمكن إيفاء حقه وحق من يثبت له الرق عليها بأن يطلقها فلا يلزمه ما لم يدخل عليها أو يقم على نكاحها فلا يسقط حق سيدها، فان طلقها اعتدت عدة الحرة، لان عدة الطلاق حق للزوج عند أحمد والشافعي ثلاثة قروء، وان مات اعتدت عدة الامة وهى شهران وخمس ليال لانه وطئ في نكاح فاسد، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان جنى عمدا على عبد ثم أقر بالرق وجب عليه القصاص على(15/318)
القولين وان جنى خطأ وجب الارش في رقبته على القولين لان وجوب القصاص ووجوب الارش في رقبته يضره ولا يضر غيره فقبل قوله فيه، وإن جنى عليه حر عمدا لم يجب القود على الجاني لان ذلك مما يضره ولا يضر غيره فقبل قوله فيه، وان جنى عليه خطأ بأن قعع يده، فإن الجاني يقر بنصف الدية واللقيط يدعى نصف القيمة، فإن كان نصف القيمة أكثر من نصف الدية وجب نصف القيمة، لان ما زاد عليه لا يدعيه.
وإن كان أكثر من نصف الدية فعلى القولين إن قلنا يقبل قوله في الجميع وجب على الجاني نصف القيمة، وإن قلنا لا يقبل فيما يضر غيره وجب نصف الدية لان فيما زاد إضرارا بالجاني
(فصل)
وإن أقر اللقيط أنه عبد لرجل وكذبه الرجل سقط إقراره، كما
لو أقر له بدار فكذبه، وإن أقر اللقيط بعد التكذيب بالرق لآخر لم يقبل.
وقال أبو العباس يقبل كما لو أقر لرجل بدار فكذبه ثم أقر بها لآخر، والمذهب الاول لان بإقراره الاول قد أخبر أنه لم يملكه غيره، فإذا كذبه المقر له رجع إلى الاصل، وهو انه حر فلم يقبل اقراره بالرق بعده، ويخالف الدار لانه إذا كذبه الاول رجع إلى الاصل وهى مملوكة فقبل الاقرار بها لغيره.
(فصل)
وإن بلغ اللقيط فادعى عليه رجل أنه عبده فأنكره فالقول قوله لان الاصل الحرية، وإن طلب المدعى يمينه فهل يحلف؟ يبنى على القولين في إقراره بالرق، فان قلنا يقبل حلف لانه ربما خاف من اليمين فأقر له بالرق، وإن قلنا لا يقبل لم يحلف، لان اليمين انما تعرض ليخاف فيقر، ولو أقر لم يقبل فلم يكن في عرض اليمين فائدة وبالله التوفيق.
(الشرح) إذا جنى جناية موجبة للقصاص فعليه القود حرا كان المجني عليه أو عبدا، لان اقراره بالرق يقتضى وجوب القود عليه فيما إذا كان المجني عليه عبدا أو حرا فقبل اقراره فيه.
وان كانت الجناية خطأ تعلق أرشها برقبته، لان ذلك مضر به، فان كان أرشها أكثر من قيمته وكان في يده مال استوفى منه وان كان مما تحمله العاقلة لم يقبل قوله في اسقاط الزيادة، لان ذلك يضر بالمجنى عليه فلا يقبل قوله فيه.(15/319)
وقيل تجب الزيادة في بيت المال لان ذلك كان واجبا للمجني عليه فلا يقبل قوله في اسقاطه.
وان جنى عليه جناية موجبة للقود وكان الجاني حرا سقط، لان الحر لا يقاد منه للعبد، وقد أقر المجني عليه بما يسقط القصاص، وإذا ادعى رق اللقيط مدع سمعت دعواه لانها ممكنة وان كانت مخالفة لظاهر الدار، فان لم يكن له بينة فلا
شئ له، أما إذا ادعاه بعد بلوغه فأنكر اللقيط فالقول قوله لاستصحاب الاصل وهو الحرية، وهى حق لله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى
كتاب الوقف الوقف قربة مندوب إليها لما روى عبد الله بن عمر أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وكان قد ملك مائة سهم من خيبر، فقال: قد أصبت مالا لم أصب مثله، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله تعالى، فقال: حبس الاصل وسبل الثمرة)
(فصل)
ويجوز وقف كل عين ينتفع بها على الدوام كالعقار والحيوان والاثاث والسلاح، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أنه ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم أنه مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ بن عبد المطلب يعنى الصدقة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما نقم ابن جميل الا أنه كان فقيرا فأعناه الله ورسوله.
فأما خالد فانكم تظلمون خالدا، ان خالدا قد حبس أدرعه وأعتده معا في سبيل الله) ولانه لما أمر عمر رضى الله عنه بتحبيس الاصل وتسبيل الثمرة، دل ذلك على جواز وقف كل ما يبقى وينتفع به.
وأما مالا ينتفع به على الدوام كالطعام وما يشم من الريحان وما تحطم وتكسر من الحيوان فلا يجوز وقفه لانه لا يمكن الانتفاع به على الدوام، ويجوز وقف الصغير من الرقيق والحيوان، لانه يرجى الانتفاع به على الدوام، ولا يجوز وقف الحمل لانه تمليك منجز فلم يصح في الحمل وحده كالبيع(15/320)
(فصل)
واختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير، فمن أجاز إجارتها أجاز وقفها، ومن لم يجز إجارتها لم يجز وقفها، واختلفوا في الكلب فمنهم من قال
لا يجوز وقفه لان الوقف تمليك والكلب لا يملك.
ومنهم من قال يجوز الوقف لان القصد من الوقف المنفعة وفى الكلب منفعة فجاز وقفه، واختلفوا في أم الولد فمنهم من قال يجوز وقفها لانه ينتفع بها على الدوام فهى كالامة القنة، ومنهم من قال لا يجوز لانها لا تملك
(فصل)
ولا يصح الوقف إلا في عين معينة، فإن وقف عبدا غير معين أو فرسا غير معين فالوقف باطل لانه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح في عين في الذمة كالعتق والصدقة.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ (أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر فقال: يا رسول الله أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوى القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول) وفى لفظ (غير متأثل مالا) وفى حديث عمرو بن دينار عند البخاري قال في صدقة عمر (ليس على الولى جناح أن يأكل صديقا له غير متأثل) قال (وكان ابن عمر هو يلى صدقة عمر ويهدى لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم) وللحديث روايات للبيهقي والطحاوى والدارقطني.
وروى النسائي وابن ماجه والشافعي عن ابن عمر، وهو متفق عليه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ عمر للنبى صلى الله عليه وسلم (إن المائة سهم التى لى بخيبر لم أصب مالا قط أعجب إلى منها، وقد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احبس أصلها وسبل ثمرتها)(15/321)
وأما حديث أبى هريرة فقد رواه أحمد ومسلم بلفظ (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بن الوليد وعباس عم النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدْ احْتَبَسَ أدراعه وأعتاده في سبيل الله تعالى، وأما العباس فهى عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا.
ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ) وأخرجه البخاري وليس فيه ذكر عمر ولا ما قيل له في العباس.
وأخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبى رافع وفيه إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعمر (إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الاول) وأخرجه الطبراني والبزار وفى اسناده محمد بن ذكوان، وهو ضعيف.
ورواه البزار من حديث موسى بن طلحة عن أبيه نحوه.
وفى إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك.
ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وفى إسناده مندل بن على والعرزمى وهما ضعيفان.
أما اللغات فالوقف مصدر وقف يقف، ووقفته أنا يتعدى ويلزم، ووقفت الدار حبستها في سبيل الله، وشئ موقوف ووقف تسمية بالمصدر، والجمع أوقاف، كثوب وأثواب، ولا يقال أوقفت إلا في الكلام، فتقول فأوقفت عن الكلام.
وقوله (حبس الاصل وسبل الثمرة) الحبس ضد الاطلاق، أي اجعله محبوسا لا يباع ولا يوهب.
وسبل الثمرة، أي اجعل لها سبيلا، أي طريقا لمصرفها، والاثاث متاع البيت، قال الله تعالى (أثاثا ومتاعا إلى حين) وقوله (ما تقم ابن جميل) نقم من باب ضرب نقما ونقوما، وفى لغة من باب
تعب، ومعناه كره الشئ وعابه أشد العيب، وفى التنزيل (وما تنقم منا) على اللغة الاولى، أي وما تطعن فينا وتقدح، وقيل ليس لك عندنا ذنب ولا ركبنا مكروها.(15/322)
والاعتدة جمع عتاد وهو أهبة الحرب من السلاح والذخيرة وغيرهما يقال: أخذ للامر عدته وعتاده أي أهبته وآلته.
أما الاحكام: فقد استدل المصنف بحديث ابن عمر علب صحة وقف المشاع وهو مذهب الشافعي وأبى يوسف ومالك، لان عمر وقف مائة سهم بخيبر ولم تكن مقسومة، وقد عارض وقف المشاع بعض الفقهاء وأوضح ما احتجوا به أن كل جزء من المشترك محكوم عليه بالمملوكية للشريكين فيلزم مع وقف أحد الشريكين أن عليه بحكمين مختلفين متضادين مثل صحة البيع بالنسبة إلى كونه مملوكا وعدم الصحة بالنسبة إلى كونه موقوفا، فيتصف كل جزء بالصحة وعدمها وأجيب عن هذا بأبه نظير العتق المشاع كحديث الستة الاعبد كما صح هنا، وإذا صح من جهة الشارع بطل هذا الاستدلال.
وقد استدل البخاري على صحة وقف المشارع بحديث أنس في قصة بناء المسجد وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ثامنونى حائطكم، قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عزوجل) وهذا ظاهر في جواز وقف المشارع ولو كان غير جائز لانكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قولهم هذا وبين لهم الحكم.
على أن الوقف عند أكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحتة قال جابر رضى الله عنه لم يكن أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذو مقدرة إلا وقف ولم ير شريح الوقف وقال: لا حبس عن فرائض الله، وقال أحمد: وهذا مذهب أهل الكوفة، وذهب أبو حنيفة إلى أن الوقف لا يلزم بمجرده،
وللواقف الرجوع فيه إلا أن يوص به بعد موته فيلزم أو يحكم بلزومه حاكم، وحكاه بعضهم عن على وابن مسعود وابن عباس، وخالفه صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم.
واحتج بعضهم بما روى أن عبد الله بن زيد صاحب الاذان جعل حائطه صدقة وجعله إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط، فرده النبي صلى الله عليه وسلم ثم ماتا فورثهما.
رواه المحاملى في أماليه، ولانه أخرج ماله على وجه القربة(15/323)
من ملكه فلا يلزم بمجرد القول كالصدقة، وهذا القول يخالف السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع الصحابة رضى الله عنهم فإنه صلى الله عليه قال لعمر في وقفه (لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث) قال الترمذي العمل عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ، لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافا.
قال الحميدى شيخ البخاري: تصدق أبو بكر رضى الله عنه بداره على ولده، وعمر بربعه عند المروة على ولده، وعثمان برومة، وتصدق على بأرضه بينبع، وتصدق الزبير بداره بمكة وداره بمصر وأمواله بالمدينة على ولده، وعمرو بن العاص بالوهط، وداره بمكة على ولده، وحكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على ولده قال: فذلك كله إلى اليوم اه.
فإن الذى قدر منهم على الوقف وقف واشتهر فلم ينكره أحد فكان إجماعا، ولانه إزالة ملك يلزم بالوصية، فإذا انجزه حال الحياة لزم من غير حكم كالعتق، وأجيب عن حديث عبد الله بن زيد بأنه إن ثبت فليس فيه ذكر للوقف والظاهر أنه جعله صدقه غير موقوف، استناب فيها النبي صلى الله عليه وسلم
فرأى والديه أحق الناس بصرفها اليهما ولذلك لم يردها عليه، إنما دفعها اليهما، ويحتمل أن الحائط كان لهما، وكان هو يتصرف فيه بحكم النيابة عنهما فتصرف بهذا التصرف بغير اذنهما فلم ينفذاه، وأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فرده اليهما والقياس على الصدقة لا يصح لانها تلزم في الحياة بغير حكم حاكم، وانما تفتقر إلى القبض، والوقف لا يفتقر إليه فافترقا، فإذا صح الوقف فقد زال به ملك الواقف على المشهور من مذهبنا.
والصحيح من مذهب أحمد، وكذلك المشهور من مذهب أبى حنيفة.
وعن مالك: لا يزول ملكه، وهو قول لاحمد.
وحكى قولا للشافعي لقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَبِّسْ الْأَصْلَ وسبل الثمرة) .
واجيب على القول ببقاء الملك بان الوقف سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة، فازال الملك كالعتق، ولانه لو كان ملكه لرجعت إليه قيمته كالملك المطلق، واما الخبر فالمراد به ان يكون محبوسا، لا يباع ولا يوهب ولا يورث،(15/324)
وفائدة الخلاف أنا إذا حكمنا ببقاء ملكه لزمته مراعاته والخصومة فيه، ويحتمل أن يلزمه أرش جنايته كما يفدى ام الولد سيدها لما تعذر تسليمه بخلاف غير المالك إذا صح هذا فما ينتفع به باتلافه كالمطعوم المشروب والمشموم فوقفه غير جائز، وكذلك الشمع، وكذلك كل ما يسرع إليه الفساد وكل مالا يمكن الانتفاع به على الداوم وقد ألحق الحنابلة، الدراهم والدنانير بالمأكول والمشروب، ويحكى شئ عن مالك والاوزاعي في وقف الطعام انه يجوز، ولم يحكه أصحاب مالك، وهذا غير صحيح، لان الوقف تحبيس الاصل وتسبيل الثمرة وملا ينتفع به الا بالاتلاف لا يصح فيه ذلك ولا يصح في المشموم مقطوفا ويصح فيه مزروعا لبقائه مدة كما قاله النووي وغيره، ولهذا قال ابن الصلاح والخوارزمي يصح وقف المشموم كالريحان وغيره وكالعنبر والمسك بخلاف عود البخور لاستهلاكه بالمنفعة
وقد اختلف اصحابنا في الدراهم والدنانير فمن قال يجوز ان تكون لها ثمرة دائمة كالاجارة اجاز وقفها، ومن قال بعد جواز الاجارة، قال بعدم جواز الوقف فيها، لان تلك المنفعة ليست المقصود الذى خلقت له الاثمان، ولهذا لا تضمن في الغصب فلم يجز الوقف له واجاز الاصحاب وقف الدراهم والدنانير حليا وللعارية لما روى نافع قال: ابتاعت حفصة حليا بعشرين الفا فحبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته، رواه الخلال باسناده، ولانه عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها دائما تصح وقفها كالعقار، ولانه يصح تحبيس اصلها وتسبيل الثمرة فصح وقفها كالعقار، والى هذا ذهب أصحاب أحمد.
وروى عن أحمد أنه لا يصح وقفها، وأنكر الحديث عن حفصة في وقفه، وذكره ابن أبى موسى، ووجه هذه الرواية أن التحلى ليس هو المقصود الاصلى من الاثمان فلم يصح وقفها عليه كما لو وقف الدنانير والدراهم.
قال ابن قدامة: والاول هو المذهب، والتحلى من المقاصد المهمة، والعادة جارية به وقد اعتبره الشرع في إسقاط الزكاة عن متخذه وجوز اجارته لذلك، ويفارق الدارهم والدنانير، فان العادة لم تجر بالتحلى به ولا اعتبره الشرع في اسقاط زكاته ولا ضمان نفعه في العصب بخلاف مسألتنا.(15/325)
(فرع)
لا يجوز وقف مالا يجوز امتلاكه كالكلب ولو كلب صيد وكذلك الخنزير كما لا يجوز وقف أدوات اللهو والمعارف، والكلب إنما ابيح الانتفاع به على خلاف الاصل للقدرة فلا يجوز التوسع فيها.
هذا هو الاصح كما قرره النووي في المنهاج وتابعه جميع الشراح.
كما لا يجوز الوقف الا على عين معينة مملوكة ملكا يقبل النقل يحصل منها مع بقاء عينها فائدة أو منفعة وضابط المنفعة المقصودة ما يصح استئجاره، على شرط
ثبوت حق الملك في الرقبه وشمل كلام النووي في المنهاج وقف الموصى بعينه مدة والمأجور، وان طالت مدتهما ونحو الجحش الصغير وان لم تكن لاولئك منفعة حالا، ولا يصح وقف حيوان أو متاع أو ثياب في الذمه لان حقيقته إزالة ملك عن عين، نعم يجوز التزامه فيها بالنذر وبهذا كله قال أحمد وأصحابه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وما جاز وقفه جاز وقف جزء منه مشاع لان عمر رضى الله عنه وقف مائة سهم من خيبر باذن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ القصد بالوقف حبس الاصل وتسبيل المنفعة، والمشاع كالمقسوم في ذلك، ويجوز وقف علو الدار دون سفلها دون علوها، لانهما عينان يجوز وقفهما، فجاز وقف أحدهما دون الاخر كالعبدين.
(فصل)
ولا يصح الوقف الا على بر ومعروف كالقناطر والمساجد والفقراء والاقارب، فان وقف على ما لا قربة فيه كالبيع والكنائس وكتب التوراة والانجيل، وعلى من يقطع الطريق أو يرتد عن الدين لم يصح، لان القصد بالوقف القربة، وفيما ذكرناه إعانة على المعصية، وان وقف على ذمى جاز لانه في موضع القربة، ولهذا يجوز التصدق عليه فجاز الوقف عليه، وفى الوقف على المرتد والحربي وجهان.
(احدهما) يجوز لانه يجوز تمليكه فجاز الوقف عليه كالذمي.
(والثانى)
لا يجوز، لان القصد بالوقف نفع الموقوف عليه، والمرتد والحربي مأمور بقتلهما فلا معنى للوقف عليهما، وان وقف على دابة رجل،(15/326)
ففيه وجهان، أحدهما: لا يجوز، لان مؤنتها على صاحبها، والثانى: يجوز لانه كالوقف على مالكه.
(فصل)
ولا يجوز ان يقف على نفسه، ولا ان يشرط لنفسه منه شيئا.
وقال أبو عبد الله الزبيري (1) : يجوز لان عثمان رضى الله عنه وقف بئر رومة وقال (دلوى فيها كدلاء المسلمين) وهذا خطا لان الوقف يقتضى حبس العين وتمليك المنفعة والعين محبوسة عليه ومنفعتها مملوكة له فلم يكن للوقف معنى، ويخالف وقف عثمان رضى الله عنه لان ذلك وقف عام ويجوز ان يدخل في العام مالا يدخل في الخاص، والدليل عليه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلى في المساجد وهى وقف على المسلمين، وان كان لا يجوز ان يخص بالصدقة ولان في الوقف العام يدخل فيه من غير شرط ولا يدخل في الوقف الخاص فدل على الفرق بيهما.
(فصل)
ولا يجوز الوقف على من لا يملك كالعبد والحمل لانه تمليك منجز فلم يصح على من لا يملك كالهبة والصدقة.
(فصل)
ولا يصح الوقف على مجهول كالوقف على رجل غير معين والوقف على من يختاره فلان لانه تمليك منجز فلم يصح في مجهول كالبيع والهبة.
(الشرح) خبر عمر رضى الله عنه مضى تخريجه وبعض فقهه ولما تكلم المصنف عن منع وقف غير المعين ناسب ان يردفه بحكم المشارع، وبجوازه قال مالك والشافعي وأبو يوسف وأحمد، وقال محمد بن الحسن، لا يصح، وبناه على اصله في ان القبض شرط، وان القبض لا يصح في المشاع، وخبر عمر هو أول وقف شرع في الاسلام حيث لم يكن وقف في الجاهلية.
وقال الشافعي رضى الله عنه ان هذا الوقف المعروف حقيقة شرعية لم تعرفه الجاهلية.
وقيل ان أول وقف ما وقفه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أموال مخيريق التى أوصى بها له في السنة الثالثة.
__________
(1) في نسخ المهذب المتداولة الزبيدى وصوابه الزبيري.
المطيعى(15/327)
وصحح أصحابنا وقف المشاع وان جهل قدر حصته أو صفتها، لان وقف عمر كان مشاعا، ولانه عقد يجوز على بعض الجملة مفرزا فجاز عليه مشاعا كالبيع، أو عرصة يجوز بيعها فجاز وقفها كالمفرزة، ولان الوقف تحبيس الاصل وتسبيل المنفعة، وهذا يحصل في المشاع كحصوله في المفرز، ولا نسلم اعتبار القبض.
إذا ثبت هذا فانه يجوز ان يوقف جزءا من داره أو علويها أو سفليها.
وكذلك إذا وقف داره على جهتين مختلفتين، مثل أن يقفها على أولاده وعلى المساكين أو على جهة أخرى سواهم، لانه إذا جاز وقف الجزء مفردا جاز وقف الجزين.
(فرع)
إذا لم يكن الوقف على بر أو معروف فهو باطل، وبيان ذلك أنه لا يصح الا على ولده وأقاربه ورجل معين، أو بناء المساجد والجسور والقناطر وكتب الفقه والعم والقرآن والمقابر والسقايات ولا يصلح على غير معين كرجل وامرأة، لان الوقف تمليك للعين أو للمنفعة فلا يصح على غير معين كالبيع والاجارة، ولا على معصية كبيت النار لعبدتها والبيع والكنائس وكتب التوراة والانجيل لان ذلك معصية، فان هذه المواضع بنيت للكفر، وهذه الكتب مبدلة منسوخة.
ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شئ من التوراة وقال (أفى شك أنت يابن الخطاب؟) وفى رواية (أمتهوكون أنتم؟ لو كان موسى أخى حيا ما وسعه الا اتباعى) وفى رواية (الم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان موسى اخى حيا ما وسعه الا اتباعى) فلولا ان ذلك معصية ما غضب صلى الله عليه وسلم منه.
والوقف على قناديل البيعة أو معابد البوذيين أو دور الهندوك أو محافل البهائيين أو القاديانيين أو أي معبد يقوم على غير أصل الاسلام وخلوص
الوحدانية من شوائب الزيغ باطل.
وقال احمد بن حنبل في نصارى وقفوا على البيعة ضياعا كثيرة وماتوا ولهم أبناء نصارى فاسلموا والضياع بيد النصارى، فلهم اخذها وللمسلمين عونهم حتى يستخرجوها من أيديهم.(15/328)
وهذا هو مذهب الشافعي رضى الله عنه ولا نعلم فيه خلافا، ولان مالا يصح من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي كالوقف على غير معين.
فان قيل: فقد قلتم إن أهل الكتاب إذا عقدوا عقودا فاسدة وتقابضوا ثم أسلموا وترافعوا الينا لم ننقض ما فعلوه، فكيف أجزتم الرجوع فيما وقفوه على كنائسهم؟ قلنا الوقف ليس بعقد معاوضة، وانما هو ازالة للملك في الموقوف على وجه القربة، فإذا لم يقع صحيحا لم يزل الملك فيبقى بحاله كالعتق، وقد أفتى أحمد رضى الله عنه في نصراني أشهد في وصيته أن غلامه فلانا يخدم البيعة خمس سنين ثم هو حر، ثم مات مولاه وخدم سنة ثم أسلم ما عليه؟ قال هو حر ويرجع على الغلام بأجره خدمة مبلغ أربع سنين.
وروى عنه قال: هو حر ساعة مات مولاه لان هذه معصية.
وظاهر كلام المصنف التفريق بين الذمي ومعابد الكفار، حيث يقول: وان وقف على ذمى جاز الخ.
قلت هذا مبنى على أصل أن الوقف لا يصح على من لا يملك، كالوقف على القن وأم الولد والجن والملائكة ولانه يجوز التصدق عليه أما الوقف على المرتد والحربي في صفوف الاعداء فوجهان.
فمن جعله كالذمي أجاز الوقف عليه.
ومن قال أن القصد من الوقف نفع الموقوف عليه ونحن مامورون بقتل المرتد والحربي، وهذا اقصى درجات الحرمان وهو فقد الحياة، فكيف يجوز
ايصال المنفعة إليه؟ ولان أموال المرتدين والمحاربين مباحة في الاصل، ويجوز أخذها بالقهر والغلبة، فما يتجدد لهم أولى على أن الوقف لا يجوز ان يكون مباح الاخذ لانه تحبيس الاصل وفارق أهل الذمة فانه يصح الوقف عليهم لانهم يملكون ملكا محترما، ولان صفيه ام المؤمنين وقفت على اخ لها يهودى، ولان من جاز أن يقف الذمي عليه جاز أن يقف عليه المسلم كالمسلم، ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من المارة والمجتازين صح أيضا لان الوقف عليهم لا على الموضع (فرع)
لا يجوز أن يخص نفسه بالوقف وكذلك إذا جعله عاما وجعل لنفسه شيئا منه فانه لا يجوز وقيل يجوز، واستدل القائلون بجوازه، ومنهم أبو عبد الله(15/329)
الزبيري وابن حجر العسقلاني في الباري بحديث بئر رومة، وهو عن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قدم المدينة ولبس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال (من يشترى بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالى) رواه النسائي والترمذي وقال: حديث حسن، وفيه جواز انتفاع الواقف بوقفه.
وفى رواية للبغوي في كتاب الصحابة من طريق بشر بن بشير الاسلمي عن ابيه انها كانت لرجل من بنى غفار عين يقال لها رومة.
وكان يبيع منها القربة بمد فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال يا رسول الله ليس لى ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين الف درهم.
ثم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أتجعل لى ما جعلت له؟ قال نعم قال قد جعلتها للمسلمين.
وللنسائي من طريق الاحنف عن عثمان قال: إجعلها سقاية للمسلمين واجرها لك، وزاد أيضا في رواية من هذه الطريق ان عثمان قال ذلك وهو
محصور وصدقة جماعة منهم على بن أبى طالب وطلحة والزبير وسعد بن ابى وقاص وفى قوله: فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، الدليل عل جواز أن يجعل الواقف لنفسه نصيبا في الوقف، قالوا ويؤيده جعل عمر لمن ولى وقفه أن يأكل منه بالمعروف، وظاهره عدم الفرق بين أن يكون هو الناظر أو غيره.
هكذا قالوا.
قال ابن حجر في فتح الباري: ويستنبط منه صحة الوقف على النفس وهو قول ابن أبى ليلى وابى يوسف وأحمد في الارجح عنه.
وقال به ابن شعبان من المالكية، وجمهورهم على المنع الا إذا استثنى لنفسه شيئا يسيرا بحيث لا يتهم انه قصد حرمان ورثته.
ومن الشافعية أبو العباس بن سريج وطائفة.
وصنف فيه محمد بن عبد الله الانصاري شيخ البخاري جزءا ضخما، واستدل له بقصة عمر هذه، وبقصة راكب البدنة، وبحديث أنس في أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها، ووجه الاستدلال به انه أخرجها عن ملكه بالعتق وردها إليه بالشرط.
اه وقد حكى جواز الوقف على النفس ابن شبرمة والزبيرى.
وعن الشافعي(15/330)
ومحمد بن الحسن انه لا يصح الوقف على النفس، قالا لانه تمليك فلا يصح أن بتملكه لنفسه من نفسه كالبيع والهبة، ولقوله صلى الله عليه وسلم (سبل الثمرة) وتسبيلها تمليكها للغير.
قال ابن حجر: وتعقب بان امتناع ذلك غير مستحيل، ومنعه تمليكه لنفسه إنما هو لعدم الفائدة.
والفائدة في الوقف حاصلة لان استحقاقه إياه وقفا.
اه قلت: وقد استدل القائلون بصحة الوقف على النفس بحديث الرجل الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عندي دينار، فقال تصدق به على نفسك) رواه أبو داود والنسائي.
وقال ابن قدامة: قال الاثرم: قيل لابي عبد الله - يعنى أحمد بن حنبل - يشترط في القوف انى أنفق على نفسي وأهل منه؟ قال نعم.
واحتج قال: سمعت ابن عيينة عن ابن طاوس عن ابه عن حجر المدرى ان في صدقة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يأكل منها أهله بالمعروف غير المنكر.
اه.
ودليل المانعين وهم مالك والشافعي ومحمد بن الحسن انه إزالة ملك فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه كالبيع والهبة، وكما لو اعتق عبدا بشرط ان يخدمه، ولان ما ينفقه على نفسه مجهول، فلم يصح اشتراطه كما لو باع شيئا واشترط ان ينتفع به.
وقال النووي في المنهاج (ويصح على ذمى لا مرتد وحربي ونفسه في الاصح) وقد فهم بعض الشراح كما يقول الرملي من هذا ان النووي صحح الوقف لنفسه، والذى يتبادر إلى الفهم من كلام النووي ان عطف نفسه يرجع على المعطوف عليه وهو ذمى المقول بصحة الوقف عليه، ولكن الرملي رحمه الله قال: لتعذر تمليك الانسان ملكه أو منافع ملكه لنفسه لانه حاصل، ويمتنع تحصيل الحاصل واختلاف الجهة، إذ استحقاقه وقفا غيره ملكا الذى نظر له مقابل الاصح.
واختاره جمع، ومنه ان يشترط نحو قضاء دينه مما وقفه، أو انتفاعه به أو شربه منه أو مطالعته في الكتاب، أو طبخه في القدر أو استعماله من بئر أو كوز وقف ذلك على الفقراء؟ فيبطل الوقف بذلك، خلافا لبعض الشراح هنا، وكانه توهم جواز ذلك من قول عثمان في وقفه لبئر رومة دلوى فيها كدلاء المسلمين.(15/331)
قال: وليس بصحيح فقد أجابوا عنه بانه لم يقل ذلك على سبيل الشرط، بل الاخبار بأن للواقف الانتفاع بوقفه العام، كالصلاة بمسجد وقفه والشرب من بئر وقفها.
نعم، لو شرط ان يضحى عنه صح أخذا من قول الماوردى وغيره بصحة شرط ان يحج عنه منه، أي لانه لا يرجع له من ذلك سوى الثواب
وهو لا يضر، بل هو المقصود من الوقف، ولو وقف على الفقراء مثلا ثم صار فقيرا أجاز له الاخذ منه.
وكذا لو كان فقيرا حال الوقف، كما في الكافي واعتمده السبكى وغيره، ويصح شرطه النظر لنفسه ولو بمقابل ان كان بقدر أجرة المثل فأقل كما قيده بذلك ابن الصلاح ومن حيل الفقهاء الذين يمنعون الوقف بهذه الصورة أن ابن الرفعة وهو من كبار الفقهاء وقف على الافقه من بنى الرفعة، فعنى بذلك نفسه، أو يأتي آخر ويقف على أولاد أبيه الذين من صفاتهم كيت وكيت ويضفى صفات نفسه على المنتفع من الوقف فينصرف ذلك إلى نفسه، وقد صحح هذه الحيلة الرملي وقال: وهو الاوجه وان خالف في الاسنوى وغيره تبعا للغزالي والخوارزمي فابطلوه إن انحصرت الصفة فيه وإلا صح.
(فرع)
إذا وقف على من لا يصح تمليكه أو غير مؤهل للملك، لان الوقف تمليك منفعة، وضرب مثلا بالعبد والحمل، لان الجنين لا يملك شيئا، كما لا يصح الوقف على مجهول أو معدوم كعلى مسجد سيبني أو على ولده ولا ولد له أو على فقراء أولاده وليس فيهم فقير.
ولا على عمارة المسجد إذا لم يبينه بموضعه ولا على ميت لان الوقف تسليط في الحال بخلاف الوصية، كما لا يصح الوقف على بهيمة مجهولة بأن أطلق بغير تعيين، وقيل هو وقف على مالكها، ومن ثم لا يصح على الوحوش ولا على الطيور المباحة، ولو كانت معينة على نزاع في الجزم به.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل لانه عقد يبطل بالجهالة فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع ولا يصح بشرط الخيار وبشرط أن(15/332)
يرجع فيه إذا شاء أو يبيعه إذا احتاج أو يدخل فيه من شاء أو يخرج منه من شاء لانه إخراج مال على وجه القربة فلم يصح مع هذه الشروط كالصدقة.
(فصل)
ولا يجوز إلى مدة لانه إخراج مال على وجه القربة فلم يجز إلى مدة كالعتق والصدقة (الشرح) الاحكام: لا يجوز تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فدارى وقف أو فرسى حبس، أو إذا ولد لى ولد أو إذا قدم لى غائبي ونحو ذلك.
ولا نعلم في هذا خلافا، لانه نقل للملك فيما لم يبن على التغليب والسراية، فلم يجز تعليقه بالموت، وتعليقه بشرط في الحياة ولا يصح لما ذكرنا من الفرق بينهما فيما قبل هذا.
وان علق انتهاءه على شرط نحو قوله: دارى وقف إلى سنة أو إلى ان يقدم الحاج لم يصح، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة، لانه ينافى مقتضى الوقف، فان مقتضاه التأبيد.
والوجه الاخر عندهم يصح لانه منقطع الانتهاء فاشبه مالو وقفه على منقطع الانتهاء، فان حكمنا بصحته ههنا فحكمه حكم منقطع الانتهاء.
وان شرط ان يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه لم يصح الشرط ولا الوقف لا نعلم فيه خلافا، لانه ينافى مقتضى الوقف.
ويحتمل أن يفسد الشرط ويصح الوقف بناء على الشروط الفاسدة في البيع، وان شرط الخيار في الوف فسد.
هكذا قال الشافعي ونص عليه أحمد وقال أبو يوسف في رواية عند يصح، لان الوقف تمليك المنافع فجاز شرط الخيار فيه كالاجارة.
ولنا أنه شرط ينافى مقتضى العقد فلم يصح، كما لو شرط أن له بيعه متى شاء، ولانه إزالة ملك لله تعالى فلم يصح الخيار فيه كالعتق، ولانه ليس بعقد معاوضه
فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالهبة، ويفارق الاجارة فإنها عقد معاوضة وهى نوع من البيع، ولان الخيار إذا دخل في العقد منع ثبوت حكمه قبل انقضاء الخيار(15/333)
أو التصرف، وههنا أو ثبت الخيار لثبت مع ثبوت حكم الوقف ولم يمنع التصرف فافترقا.
وان شرط في الوقف ان يخرج من شاء من اهل الوقف ويدخل من شاء من غيرهم، لانه شرط ينافى مقتضى الوقف فافسده كما لو شرط ان لا ينتفع.
إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز ان يقول: وقفت هذا على الفقراء أو على مسجد مثلا سنة مثلا، وبطلانه من فساد صيغته، إذ ان وضع الوقف على التأبيد فإذا جعله إلى مدة كان باطلا كالعتق والصدقة، وسواء في ذلك طويل المدة وقصيرها وقد بحث الاذرعى كما فعل الزركشي جوازه إذا وقفه على الفقراء ألف سنة أو نحوها مما يبعد البقاء إليه، كما تقرر أنه لا أثر لتوقيت الاستحقاق، كقوله وقفته على زيد سنة ثم على الفقراء، أو إلا أن يولد لى ولد، كما نقله البلقينى عن الخوارزمي وجزم به ابن الصباغ وجرى عليه في الانوار وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ولا يجوز إلا على سبيل لا ينقطع، وذلك من وجهين:
(أحدهما)
أن يقف على من لا ينقرض كالفقراء والمجاهدين وطلبة العلم وما أشبهها
(والثانى)
أن يقف على من ينقرض ثم من بعده على من لا ينقرض، مثل أن يقف على رجل بعينه، ثم على الفقراء أو على رجل ثم على عقبه ثم على الفقراء، فأما إذا وقف وقفا منقطع الابتداء والانتهاء كالوقف على عبده أو على ولده ولا ولد له فالوقف باطل لان العبد لا يملك والولد الذى لم يخلق لا يملك فلا يفيد الوقف عليهما شيئا.
وإن وقف وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء بأن وقف على رجل بعينه ولم يزد عليه، أو على رجل بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه ففيه قولان
(أحدهما)
أن الوقف باطل، لان القصد بالوقف أن يتصل الثواب على الدوام، وهذا لا يوجد في هذا الوقف، لانه قد يموت الرجل وينقطع عقبه.
(والثانى)
أنه يصح ويصرف بعد انقراض الموقف عليه إلى أقرب الناس إلى الواقف، لان مقتضى الوقف الثواب على التأبيد، فحمل فيما سماه على ما شرطه(15/334)
وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد.
ويقدم المسمى على غيره فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، لانه من أعظم جهات الثواب، والدليل عليه قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (لا صدقة وذو رحم محتاج) وروى سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صدقتك على المساكين صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ، صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ) وهل يختص به فقراؤهم أو يشترك فيه الفقراء والاغنياء؟ فيه قولان
(أحدهما)
يختص به الفقراء، لان مصرف الصدقات إلى الفقراء.
(والثانى)
يشترك فيه الفقراء والاغنياء: لان في الوقف الغنى والفقير سواء، وإن وقف وقفا منقطع الابتداء متصل الانتهاء بأن وقف على عبد ثم على الفقراء، أو على رجل غير معين ثم على الفقراء، ففيه طريقان.
من أصحابنا من قال: يبطل قولا واحدا لان الاول باطل والثانى فرع لاصل باطل فكان باطلا.
ومنهم من قال فيه قولان:
(أحدهما)
أنه باطل لما ذكرناه
(والثانى)
أنه يصح لانه لما بطل الاول صار كأن لم يكن.
وصار الثاني أصلا.
فإذا قلنا إنه يصح فإن كان الاول لا يمكن
اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء، لانه لا يمكن اعتبار انقراضه فسقط حكمه، وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) ينقل في الحال إلى من بعده، لان الذى وقف عليه في الابتداء لم يصح الوقف عليه، فصار كالمعدوم
(والثانى)
وهو المنصوص: أنه للواقف ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم يجعل لمن بعده لانه لم يوجد شرط الانتقال إلى الفقراء، فبقى على ملكه.
(والثالث) أن يكون لاقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم يجعل للفقراء، لانه لا يمكن تركه عليه الواقف لانه أزال الملك فيه، ولا يمكن أن يجعل للفقراء لانه لم يوجد شرط الانتقال إليهم فكان أقرباء الواقف أحق وهل يختص به فقراؤهم؟ أو يشترك فيه الفقراء والاغنياء؟ على ما ذكرنا من القولين.(15/335)
(فصل)
وإن وقف وقفا مطلقا ولم يذكر سبيله ففيه قولان:
(أحدهما)
أن الوقف باطل لانه تمليك فلا يصح مطلقا، كما لو قال: بعت دارى ووهبت مالى.
(والثانى)
يصح وهو الصحيح لانه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقا كالاضحية، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع الانتهاء، وقد بيناه (الشرح) الحديث الاول جزء من حديث طويل عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال (والذى بعثنى بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه ولم يتطاول على جاره بفضل ما آتاه الله.
وقال: يا أمة محمد والذى بعثنى بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل
وله قرابة محتاجون إلى صلته ويصرفها إلى غيرهم، والذى نفسي بيده لا ينظر الله إليه يوم القيامة) رواه الطبراني في الاوسط.
قال الهيثمى في مجمع الزوائد: وفيه عبد الله بن عامر الاسلمي، وهو ضعيف.
وقال أبو حاتم ليس بالمتروك.
أما بقية رجاله فثقات.
أما حديث سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظٍ (الصدقة على المسلمين صدقة، وهى على ذى الرحم ثنتان صدقة وصلة) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي وابن حيان والدارقطني والحاكم وحسنه الترمذي أما الاحكام: فإنه لا يجوز إلا على سبيل مراد للتأبيد لا للانقطاع ولا يتحقق هذا إلا إذا جعل وقفه لفئة أو طائفة لا تنقرض، فإذا وقف على قوم ونسلهم ثم على المساكين فانقرض القوم ونسلهم فلم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين ولم ينتقل إليهم مادام أحد من القوم أو من نسلهم باقيا، لانه رتبة للمساكين بعدهم والمساكين من الزكاة والفقراء يدخلون فيهم.
وكذلك لفظ الفقراء يدخل فيه المساكين ن لان كل واحد من اللفظين يطلق عليهما، والمعنى الذى يسميان به شامل لهما وهو الحاجة والفاقة، ولهذا لما سمى الله عز وجل المساكين في مصرف كفارة اليمين وكفارة الظهار وفدية الاذى تناولهما جميعا، وجاز الصرف إلى كل(15/336)
واحد منهما.
فإذا وقفه وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء، كعلى رجل، أو رجل ونسله ففيه وجهان:
(أحدهما)
البطلان لانه منقطع.
وهو لا يجوز إلا على الدوام.
(والثانى)
أنه يجوز لامكان صرفه إلى أقرب الناس إلى الوقف وإن كانوا أغنياء.
وهذا هو أحد القولين عندنا وبه قال أحمد وأصحابه.
والثانى يقدم الفقراء منهم وأكثرهم حاجة.
ويحتمل أن يجزأ الوقف ثلاثة أجزاء.
فجزء يصرف إلى الغزاة في سبيل الله وجزء يصرف إلى أقرب الناس إليه من الفقراء لانهم أكثر الجهات ثوابا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صدقتك على ذى القرابة صدقة وصلة) والثالث يصرف إلى من يأخذ الزكاة لحاجته.
وهم خمسة أصناف لانهم أهل حاجة منصوص عليهم في القرآن، فكان من نص الله تعالى عليه في كتابه أولى من غيره وإن ساواه في الحاجة.
(فرع)
سبق أن قررنا أن الوقف على من لا يملك باطل، فإذا وقف وقفا متصلا غير منقطع في دوامه واستمراره إلا أنه منقطع في ابتدائه بأن وقفه على عبد أو جنين في بطن أمه على أن يؤول بعد ذلك إلى الفقراء فلاصحابنا طريقان، الاول يبطل لبطلان أوله قولا واحدا.
والثانى يصح لصحة استمراره ودوامه فيصير أوله كأن لم يكن ويصرف الوقف على وجهه الصحيح وقد بحث الرملي في شرحه على المنهاج المسألة فقال: ولو قال وقفت على أولادي أو على زيد ثم نسله أو نحوهما مما لا يدوم ولم يزد على ذلك فالاظهر صحة الوقف، لان مقصوده القربة والدوام، فإذا بين مصرفه ابتداء سهل إدامته على سبيل الخير، فإذا انقرض الذكور أو لم تعرف أرباب الوقف فالاظهر أنه يبقى وقفا، لان وضع الوقف الدوام كالعتق، ولانه صرفه عنه فلا يعود، كما لو نذر هديا إلى مكة فرده فقراؤها.
(والثانى)
يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف أو إلى ورثته إن كان مات، لان بقاء الوقف بلا مصرف متعذر، وإثبات مصرف لم يذكره الواقف بعيد(15/337)
فتعين ارتفاعه، والاظهر ما أفتى به الزين العراقى أن المراد بما في كتب الاوقاف ثم الاقرب إلى الواقف أو المتوفى قرب الدرجة والرحم لا قرب الارث والعصوبة
فلا ترجيح بهما في مستويين في القرب من حيث الرحم والدرجة.
ومن ثم قال لا يرجح عم على خالة بل هما مستويان ويعتبر فيهم الفقر، ولا يفضل الذكر على غيره فيما يظهر ولكن بالقرب إلى الواقف، لان الصدقة على الاقارب أفضل القربات ن فإذا تعذر الرد للواقف تعين أقربهم إليه، لان الاقارب مما حث الشرع عليهم في جنس الوقف لخبر أبى طلحة: أرى أن تجعلها في الاقربين.
وبه فارق عدم تعينهم في نحو الزكاة، على أن لهذه مصرفا عينه الشارع بخلاف الوقف، ولو فقدت أقاربه أو كانوا كلهم أغنياء صرف الربع لصالح المسلمين، كما نص عليه البويطى في الاولى، أو إلى الفقراء والمساكين على ما قاله سليم الرازي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم، أو قال: ليصرف من غلته لفلان كذا، وسكت عن باقيها فكذلك.
وصرح في الانوار بعدم اختصاصه بفقراء بلد الوقف بخلاف الزكاة.
أما الامام إذا وقف منقطع الآخر فيصرف للمصالح لا لاقاربه، كما أفاده الزركشي، وهو ظاهر.
ولو كان الوقف منقطع الاول كوقفته على من سيولد لى، أو على مسجد سيبني ثم على الفقراء مثلا فالمذهب بطلانه لتعذر الصرف إليه حالا ومن بعده (مرعه؟) والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما الصحة، وصححه المصنف في تصحيح التنبيه ولو لم يذكر بعد الاول مصرفا بطل قطعا ن لانه منقطع الاول والآخر.
ولو قال وقفت على أولادي ومن سيولد لى على ما افصله، ففصله على الموجودين وجعل نصيب من مات منهم بلا عقب لمن سيولد له صح، ولا يؤثر فيه قوله: وقفت على أولادي ومن سيولد لى، لان التفصيل بعده بيان له، أو كان الوقف مقطوع الوسط كوقفته على أولادي ثم على رجل، وأبهم لانه لا يضر تردد في صفة أو شرط أو مصرف دلت قرينة قبله أو بعده على تعينه، إذ لا يتحقق
الانقطاع الا مع الابهام من كل وجه.
ثم قال: ثم على الفقراء، فالمذهب صحته لوجود المصرف حالا ومآلا.(15/338)
ولو اقتصر على قوله: وقفت كذا ولم يذكر مصرفا، أو ذكر مصرفا متعذرا كوقفت كذا على جماعة فالاظهر بطلانه.
ولو وقف على شخصين ثم الفقراء مثلا فمات احدهما فالاصح المنصوص أن نصيبه يصرف إلى الآخر، لان شرط الانتقال إلى الفقراء انقراضهما جميعا ولم يوجدوا إذا امتنع الصرف إليهم فالصرف لمن ذكره الواقف أولى.
والثانى: يصرف إلى الفقراء كما يصرف إليهم إذا ماتا، ومحل الخلاف ما لم يفصل، وإلا بأن قال: وقفت على كل منهما نصف هذا فهما وقفان كما ذكره السبكى فلا يكون نصيب الميت منهما للآخر انتقاله للاقرب إلى الواقف ولو وقف عليهما وسكت عمن يصرف له بعدهما فهل نصيبه للآخر أو لاقرباء الواقف؟ وجهان أوجههما كما أفاده الرملي الاول وصححه الاذرعى، ولو رد أحدهما أو بان ميتا فالقياس على الاصح صرفه للآخر.
ولو وقف على زيد ثم عمرو ثم بكر ثم للفقراء، فمات عمرو قبل زيد ثم مات زيد، قال الماوردى والرويانى لا شئ لبكر وينتقل الوقف من زيد إلى الفقراء، لانه رتبه بعد عمرو، وعمرو بموته أولا لم يستحق شيئا فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئا.
وقال القاضى أبو الطيب: الاظهر أنه يصرف إلى بكر لان استحقاق الفقراء مشروط بانقراضه، كما لو وقف على ولده ثم ولد ولده ثم الفقراء، فمات ولد الولد ثم الولد يرجع للفقراء.
ويوافقه فتوى البغوي في مسألة حاصلها أنه إذا مات واحد من ذرية الواقف في وقف الترتيب قبل استحقاقه للوقف لحجبه بمن فوقه يشارك ولده من
بعده عند استحقاقه.
قال الزركشي وهذا هو الاقرب.
ولو وقف على أولاده فإذا انقرض أولادهم فعلى الفقراء، فالاوجه كما صححه الشيخ أبو حامد أنه منقطع الوسط، لان أولاد الاولاد لم يشرط لهم شيئا وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.
واختار ابن أبى عصرون دخولهم، وجعل ذكرهم قرينة على استحقاقهم وفيما ذكرنا كله مذهب أحمد وأصحابه في الاوجه والاقوال وطرق الترجيح (فرع)
إذا أطلق ولم يعين مصرف الوقف فالصحيح أنه يصح، لانه إزالة(15/339)
ملك على وجه التقرب إلى الله تعالى، وما أطلق من كلام الآدميين محمول على المعهود في الشرع، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع الانتهاء فيصرف إلى أقرب الناس إليه، والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح الوقف الا بالقول، فإن بنى مسجدا وصلى فيه أو أذن للناس بالصلاة فيه لم يصر وقفا، لانه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح من غير قول مع القدرة كالعتق، وألفاظه ستة: وقفت.
وحبست.
وسلبت.
وتصدقت وأبدت وحرمت.
فأما الوقف والحبس والتسبيل فهى صريحة فيه، لان الوقف موضوع له ومعروف به، والتحبيس والتسبيل ثبت لهما عرف الشرع ن فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ رضى الله عنه: حبس الاصل وسبل الثمرة.
وأما التصدق فهم كناية فيه لانه مشترك بين الوقف وصدقة التطوع فلم يصح الوقف بمجرده، فإن اقترنت به نية الواقف أو لفظ من الالفاظ الخمسة بأن يقول: تصدقت به صدقة موقوفة أو محبوسة أو مسبلة أو مؤبدة أو محرمة، أو حكم الوقف بأن يقول:
صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث صار وقفا، لانه مع هذه القرائن لا يحتمل غير الوقف، وأما قوله: حرمت وأبدت ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه كناية فلا يصح به الوقف الا بإحدى القرائن التى ذكرنا، لانه لم يثبت له عرف الشرع ولا عرف اللغة فلم يصح الوقف بمجرده كالتصدق
(والثانى)
أنه صريح لان التأبيد والتحريم في غير الابضاع لا يكون الا بالوقف فحمل عليه
(فصل)
وإذا صح الوقف لزم وانقطع تصرف الواقف فيه، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعمر رضى الله عنه: ان شئت حبست أصلها وتصدقت بها لا تباع ولا توهب ولا تورث.
ويزول ملكه عن العين.
ومن أصحابنا من خرج فيه قولا آخر أنه لا يزول ملكه عن العين، لان(15/340)
الوقف حبس العين وتسبيل المنفعة، وذلك لا يوجب زوال الملك.
والصحيح هو الاول، لانه سبب يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة فازال الملك كالعتق.
واختلف أصحابنا فيمن ينتقل الملك إليه، فمنهم من قال: ينتقل إلى الله تعالى قولا واحدا، لانه حبس عين وتسبيل منفعة على وجه القربة فأزال الملك إلى الله تعالى كالعتق ومنهم من قال فيه قولان
(أحدهما)
أنه ينتقل إلى الله تعالى وهو الصحيح لما ذكرنا
(والثانى)
أنه ينتقل إلى الموقوف عليه لان ما أزال المالك عن العين لم يزل المالية تنقل إلى الآدمى كالصدقة
(فصل)
ويملك الموقوف عليه غلة الوقف، فإن كان الموقوف شجرة ملك ثمرتها وتجب عليه زكاتها، لانه يملكها ملكا تاما فوجب زكاتها عليه، فإن
كان حيوانا ملك صوفه ولبنه، لان ذلك من غلة الوقف وفوائده فهو كالثمرة، وهل يملك ما تلده؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يملكه لانه نماء الوقف فأشبه الثمرة وكسب العبد
(والثانى)
أنه موقوف كالام لان كل حكم ثبت للام يتبعها فيه الولد كحرمة الاستيلاد في أم الولد، وإن كان جارية ملك مهرها لانه بدل منفعتها ولا يملك وطأها، لان في أحد القولين لا يملكها، وفى الثاني يملكها ملكا ضعيفا فلم يملك به الوطئ، فإن وطئها لم يلزمه الحد لانه في أحد القولين يملكها، وفى الثاني له شبهة ملك.
وفى تزويجها وجهان
(أحدهما)
لا يجوز، لانه ينقص قيمتها وربما تلفت من الولادة فيدخل الضرر على من بعده من أهل الوقف
(والثانى)
يجوز لانه عقد على منفعتها فأشبه الاجارة.
فإن قلنا إنها للموقوف عليه كان تزويجها إليه، وإن قلنا إنها تنتقل إلى الله تعالى كان تزويجها إلى الحاكم كالحرة التى لا ولى لها ولا يزوجها الحاكم إلا بإذن الموقوف عليه، لان له حقا في منافعها فلم يملك التصرف فيها وبغير اذنه، فإن أتت ولد مملوك كان الحكم فيه كالحكم فيما تلد البهيمة
(فصل)
وان أتلفه الواقف أو أجنبي فقد اختلف أصحابنا فيه على طريقين فمنهم من قال يبنى على القولين، فإن قلنا انه للموقوف عليه وجبت القيمة له لانه(15/341)
بدل ملكه، وان قلنا: انه لله تعالى اشترى به مثله ليكون وقفا مكانه.
وقال الشيخ أبو حامد الاسفراينى: يشترى بها مثله ليكون وقفا وكانه قولا واحدا لانا وان قلنا انه ينتقل إلى الموقوف عليه الا أنه لا يملك الانتفاع برقبته، وانما يملك الانتفاع بمنفعته، ولان في ذلك ابطال حق البطن الثاني من الوقف، وان أتلفه الموقوف عليه - فإن قلنا انه إذا أتلفه غيره كانت القيمة له - لم تجب عليه،
لانها تجب له ن وان قلنا يشترى بها ما يكون وقفا مكانه أخذت القيمة منه واشترى بها ما يكون مكانه.
وان كان الوقف جارية فوطئها رجل بشبهة فاتت منه بولد ففى قيمة الولد ما ذكرناه من الطريقين في قيمة الوقف إذا أتلف، وان كان الوقف عبدا فجنى جناية توجب المال لم يتعلق برقبته، لانها ليست بمحل للبيع، فان قلنا انه للموقوف عليه وجب الضمان علين.
وأن قلنا: انه لله تعالى ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) يلزم الواقف، وهو قول أبى اسحاق وهو الصحيح، لانه منع من بيعه ولم يبلغ به حالة يتعلق الارش بذمته فلزمه أن يفديه كأم الولد
(والثانى)
أنه يجب في بيت المال لانه لا يمكن ايجابه على الواقف لانه لا يملكه ولا على الموقوف عليه لانه لا يملكه، فلم يبق الا بيت المال، والثالث أنه يجب في كسبه لانه كان محله الرقبة ولا يمكن تعليقه عليها فتعلق بكسبه لانه مستفاد من الرقبة، ويجب أقل الامرين من قيمته أو أرش الجناية لانه لا يمكن بيعه كأم الولد.
(الشرح) خبر عمر معروف ومضى الكلام عليه وافيا ان شاء الله، أما مقاصد الفصل، فإن الوقف لا ينعقد الا بالقول لانه طريقنا إلى العلم بمراده كالعتق، وألفاظ الوقف ستة، ثلاثة صريحة وثلاثة كناية، فالصريحة وقفت وحبست وسلبت، متى أتى بواحدة من هذه الثلاث صار وقفا من غير انضمام أمر زائد، لان هذه الالفاظ ثبت لها حكم الاستعمال عرفا بين الناس وشرعا بالاخبار الصحيحة بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر (ان شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها) أو (حبس الاصل وسبل الثمرة) على أي من الروايتين فصارت هذه الالفاظ في الوقف كلفظ التطليق في الطلاق(15/342)
وأما الكناية فهى: تصدقت وحرمت وأبدت فليست صريحة، لان لفظة
الصدقة والتحريم مشتركة ن فإن الصدقة تستعمل في الزكاة والهبات، والتحريم يستعمل في الظهار والايمان، ويكون تحريما على نفسه وعلى غيره، والتأييد يحتمل تأبيد التحريم وتأبيد الوقف، ولم يثبت لهذه الالفاظ عرف الاستعمال، فلا يحصل الوقف بمجردها ككنايات الطلاق فيه.
فإن انضم إليها احد ثلاثة أشياء حصل الوقف بها.
(أحدها) أن ينضم إليها لفظة أخرى تخلصها من الالفاظ الخمسة فيقول: صدقة محبوسة أو موقوفة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة، أو يقول هذه محرمة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو مؤبدة.
(الثاني) أن يصفها بصفات الوقف فيقول: صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، لان هذه القرينة تزيل الاشتراك.
(الثالث) أن ينوى الوقف فيكون على ما نوى، إلا أن النية تجعله وقفا في الباطن دون الظاهر لعدم الاطلاق على ما في الضمائر، فان اعترف بما نواه لزم في الحكم لظهوره.
وإن قال: ما أردت الوقف فالقول قوله لانه أعلم بما نوى، قال في النهاية (ولا يصح الوقف من ناطق لا يحسن الكتابة إلا بلفظ) أما الاخرس فيصح بإشارته.
وأما الكاتب فبكتابته مع النية.
فلو أنه بنى مسجدا وأذن فيه وصلى فيه، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها، فمذهب الشافعي لا يكون ذلك وقفا إلا إذا اقترن باللفظ صريحا أو كناية مقترنة بما يزيل لبسها.
وقال أحمد في رواية أبى داود وأبى طالب فيمن دخل بيتا في المسجد وأذن فيه: لم يرجع فيه، وكذلك إذا اتخذ المقابر وأذن للناس فيها فليس له الرجوع.
وهذا قول أبى حنيفة رضى الله عنه.
وذكر ابن قدامة رواية أخرى عن أحمد أنه لا يصير وقفا إلا بالقول، وقد اجتهد ابن قدامة في الجمع بين الروايتين وجعلهما قولا واحدا وهو الاخذ
باللفظ، فإذا ثبت هذا فانه متى صح وقفه فقد زالت يده عنه زوال ملك وانقطع بذلك تصرفه.
فإذا قلنا بزوال ملكه عن العين وهو الصحيح من المذهب وبه قال(15/343)
أحمد وأصحابه، فهل ينتقل الملك إلى الموقوف عليهم؟ فمن أصحابنا من قال: ينتقل الملك إلى الموقوف عليهم، وهو ظاهر مذهب أحمد حيث يقول: إذا وقف داره على ولد أخيه صارت لهم.
وهذا يدل على أنهم ملكوه.
وروى عن أحمد أنه لا يملك، فان جماعة نقلوا عنه فيمن وقف على ورثته في مرضه يجوز، لانه لا يباع ولا يورث ولا يصير ملكا للورثة، وانما ينتفعون بغلتها، وهذا يدل بظاهره على أنهم لا يملكون، ويحتمل أن يريد بوقله: لا يملكون، أي لا يملكون التصرف في الرقبة، فان فائدة الملك وآثاره ثابتة في الوقف وقال أبو حنيفة: لا ينتقل الملك في الوقف اللازم، بل يكون حقا لله تعالى لانه ازالة ملك عن العين والمنفعة على وجه القربة بتمليك المنفعة، فانتقل الملك إلى الله تعالى كالعتق.
وبهذا قال بعض أصحابنا، وهو الصحيح من المذهب عندنا.
والقول الآخر أن الوقف سبب يزيل ملك الواقف وجه إلى من يصح تمليكه على وجه لا يخرج المال عن ماليته فوجب أن ينقل الملك إليه كالهبة والبيع ولانه لا وكان تمليك المنفعة المجردة لميلزم كالعارية والسكنى ولم يزل الواقف عنه كالعارية.
ويفارق العتق فانه أخرجه عن ماليته، وامتناع التصرف في الرقبة لا يمنع الملك كأم الولد، وعلى أن الاظهر أن الملك في رقبة الموقوف ينتقل إلى الله تعالى فلا يكون للواقف ولا للموقوف عليه.
على أن الذى لا نزاع فيه أن الموقوف عليه يملك غلة الوقف ومنافعه لان ذلك مقصوده، والمنتفع يستوفيها بنفسه وبغيره باعارة واجارة ان كان ناظرا.
والا امتنع عليه نحو الاجارة لتعلقها بالناظر أو نائبه وذلك كسائر الاملاك،
ومحله ان لم يشرط ما يخالف ذلك.
ولو خربت ولم يعمرها الموقوف عليه أجرت للضرورة بما تعمر به، إذ الفرض أنه ليس للوقف ما يعمر به سوى الاجرة المعجلة، وذكر ابن الرفعة أنه يلزم الموقوف عليه ما نقصه الانتفاع من عين الموقوف.
ورجح السبكى أنه ان وقف أرضا غير مغروسة على معين امتنع عليه غرسها الا إذا نص الواقف عليه أو شرط له جميع الانتفاعات، ومثل الغرس البناء،(15/344)
ولا يبنى ما كان مغروسا وعكسه.
وضابطه أنه يمتنع كل ما غير الوقف بالكلية عن اسمه الذى كان عليه حال الوقف، بخلاف ما يبقى الاسم معه، نعم إن تعذر المشروط جاز إبداله، وأفتى الولى العراقى في علو وقف أراد الناظر هدم واجهته وإخراجه رواش له في هواء الشارع بامتناع ذلك إن كانت الواجهة صحيحة أو غيرها واضر بجدار الوقف.
وإلا جاز بشرط أن لا يصرف عليه من ريع الوقف إلا ما يصرف في إعادته على ما كان عليه وما زاد في ماله، وإنما لم تمتنع الزيادة مطلقا لانها لا تغير معالم الوقف، ويملك الاجرة لانها بدل المنافع المملوكة له، وقضيته أنه يعطى جميع الاجرة المعجلة، ولو لمدة لا يحتمل بقاؤه إلى انقضائها، كما مر في الاجارة، ويملك فوائد الموقوف كثمرة.
ومن ثم لزمه زكاتها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
وروى عن طاوس ومكحول أنه لا زكاة فيه لان الارض ليست مملوكة لهم فلم تجب الزكاة في الخارج منها عليهم كالمساكين.
على أن الثمرة الموجودة حال الوقف للواقف إن كانت مؤبرة، وإلا فقولان ارجحهما أنها موقوفة كالحمل المقارن.
وذكر القاضى في فتاواه أنه لو مات الموقوف عليه وقد برزت ثمرة النخل فهى ملكه، أو وقد حملت الموقوفة فالحمل له ن أو قد زرعت الارض
فالزرع الذى بذر، فإن كان البذر له فهو لورثته ولمن بعده أجرة بقائه في الارض وأفتى جمع من المتأخرين في نخل وقف مع أرضه ثم حدث منه ودى بأن تلك الودية الخارجة من أصل النخل جزء منها فلها حكم أغصانها، وسبقهم لنحو ذلك السبكى فإنه أفتى في أرض وقف وبها شجر موز فزالت بعد أن نبت من أصولها فراخ.
وفى السنة الثانية كذلك وهكذا بأن الوقف ينسحب على كل ما نبت من تلك الفراخ المتكررة من غير احتياج إلى إنشائه.
ولو ماتت البهيمة اختص بجلدها لكونه أولى به من غيره ومحله ما لم يدبع ولو بنفسه وإلا عاد وقفا، وله مهر الجارية الموقوفة عليه بكرا أو ثيبا إذا وطئت من غير الموقوف عليه بشبهة منها، كأن كانت مكرهة أو مطاوعة لا يعتد بفعلها لصغر أو اعتقاد حل وعذرت أو نكاح ان صححناه لانه عقد على منفعة فلم يمنعه الوقف كالاجارة.
وكذا إن لم نصححه لانه وطئ شبهة هنا أيضا.(15/345)
والمزوج لها الحاكم بإذن الموقوف عليه، ومن ثم لو وقفت عليه زوجته انفسخ نكاحه، وخرج بالمهر أرش البكارة فهو كأرش طرفها، ولا يحل للواقف ولا للموقوف عليه وطؤها ويحد الاول به كما حكى عن الاصحاب.
قال الرملي: وكذا الثاني كما رجحناه هنا وهو المعتمد أما المطاوعة إذا زنى بها وهى مميزة فلا مهر لها.
قال النووي في المنهاج: والمذهب أنه لا يملك قيمة العبد إذا أتلف.
ومعنى هذا أن الموقوف عليه لا يملك قيمة الموقوف إذا اتلف من واقف أو أجنبي أو موقوف عليه تعدى باستعماله في غير ما وقف له أو تلف تحت يد ضامنة له.
أما إذا لم يتعد باتلاف الموقوف عليه فلا يكون ضامنا، كما لو وقع منه صنبور على حوض سبيل فانكسر من غير تقصير ن وفى حال التعدي يشترى الحاكم أو الناظر
في الوقف بقيمة التالف بدله.
ولا بد من إنشاء وقفه من جهة مشتريه فيتعين أحد ألفاظ الوقف المارة.
قال الرملي: وقول القاضى اقمته مقامه محل نظر، وفارق هذا صيرورة القيمة رهنا في ذمة الجاني بأنه يصح رهنها دون وقفها، وعدم اشتراط جعل بدل الاضحية أضحية إذا اشترى بعين القيمه أو في الذمة، ونوى بأن القمة هناك ملك الفقراء والمشترى نائب عنهم، فوقع الشراء لهم بالعين أو مع النية.
وأما القيمة هنا فليست ملك أحد فاحتيج لانشاء وقف ما يشترى بها حتى ينتقل إلى الله تعالى، ولا يجوز شراء أنثى مكان ذكر إذا كان الموقوف ذكرا، كما لا يجوز أن يشترى صغيرا مكان كبير إذا كان الموقوف كبيرا وعكسه، لان الغرض يختلف بذلك وما فضل من القمية يشترى به شقص بخلاف نظيره الذى سيأتي في الوصيه ان شاء الله تعالى لتعذر الرقبة المصرح بها فيها.
فان لم يمكن شراء شقص بالفاضل صرف للموقوف عليه فيما يظهر، كما مر نظيره، بل لنا وجه بصرف جميع ما اوجبته الجنايه إليه.
ولو أوجبت قودا استوفاه الحاكم، فان تعذر شراء بدل الموقوف بها فبعض بدله يشترى بها لكونه أقرب إلى مقصوده كنظيره من الاضحية على الراجح ووجه الخلاف أن الشقص من حيث هو يقبل الوقف بخلاف الاضحية،(15/346)
ولو جنى الموقوف جناية أو جبت قصاصا أقتص منه وفات الوقف، أو قصاصا أو مالا وعفى على المال فداه الواقف بأقل الامرين.
وله إن تكررت الجناية حكم أم الولد في عدم تكرر الفداء وسائر أحكامها، فان مات الوقف ثم جنى الموقوف فمن بيت المال كالحر المعسر، كما أفتى بذلك الشهاب الرملي.
ولو مات الجاني بعد الجناية لم يسقط الفداء.
هكذا أفاده الشمس الرملي
ولو جفت الشجرة الموقوفة أو قلعها ريح أو زمنت الدابة لم ينقطع الوقف على المذهب، وان امتنع وقفها ابتداء لقوة الدوام، بل ينتفع بها جذعا باجارة ويحتمل أن تباع لتعذر الانتفاع بها على وفق شرط الوقف والثمن الذى بيعت به على هذا الوجه، كقيمة العبد، فيأتى فيه ما مر، فلو لم يمكن الانتفاع بها الا باستهلاكها باحراق ونحوه صارت ملكا للموقوف عليه كما صححه ابن الرفعة والقمولى وجرى عليه ابن المقرى في روضه لكنها لا تباع ولا توهب بل ينتفع بعينها كأم الولد ولحم الاضحية فإذا ثبت هذا فانها لا تصير ملكا لان معنى عودة ملكا انه ينتفع به ولو باستهلاك عينه كالاحراق.
ومعنى عدم بطلان الوقف الذى قررناه انه مادام باقيا لا يفعل به ما يفعل بسائر الاملاك من بيع ونحوه قال النووي: والاصح جواز بيع حصر المسجد إذا بليت وجذوعه إذا انكسرت ولم تصلح الا للاحتراق اه.
وذلك لئلا تضيع وادراك اليسير من ثمنها يعود على الوقف اولى من ضياعها.
واستثنيت من بيع الوقف لصيرورتها كالمعدومة ويصرف ثمنها لمصالح المسجد ان لم يمكن شراء حصير أو جذع.
والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتصرف الغلة على شرط الواقف من الاثرة والتسوية والتفضيل والتقديم والتاخير والجمع والترتيب، وادخال من شاء بصفة واخرجه بصفة، لان الصحابة رضى الله عنهم وقفوا وكتبوا شروطهم، فكتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه صدقة للسائل والمحروم، والضيف ولذي القربى وابن السبيل،(15/347)
وفى سبيل الله، وكتب على كرم الله وجهه بصدقته (ابتغاء مرضاة الله ليولجنى
الجنة، ويصرف النار عن وجهى ويصرفني عن النار، في سبيل الله وذى الرحم والقريب والبعيد، لا يباع ولا يورث) وكتبت فاطمة رضى الله عنها بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقراء بنى هاشم وبنى المطلب)
(فصل)
فان قال وقفت على أولادي دخل فيه الذكر والانثى والخنثى، لان الجميع اولاده، ولا يدخل فيه ولد الولد، لان ولده حقيقة ولده من صلبه، فان كان له حمل لم يدخل فيه حتى ينفصل، فإذا انفصل استحق ما يحدث من الغلة بعد الانفصال دون ما كان حدث قبل الانفصال، لانه قبل الانفصال لا يسمى ولدا، وان وقف على ولده وله ولد فنفاه باللعان لم يدخل فيه.
وقال أبو اسحاق يدخل فيه لان اللعان يسقط النسب في حق الزوج، ولا يتعلق به حكم سواه، ولهذا تنقضي به العدة، والمذهب الاول لان الوقف على ولده وباللعان قد بان انه ليس بولده، فلم يدخل فيه، وان وقف على أولاد أولاده دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات، لان الجميع أولاد أولاده، فان قال على نسلى أو عقبى أو ذريتي دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات، قربوا أو بعدوا، لان الجميع من نسله وعقبه وذريته، ولهذا قال الله تعالى (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى) فجعل هؤلاء كلهم من ذريته على البعد، وجعل عيسى من ذريته وهو ينسب إليه بالام، فان وقف على عترته فقد قال ابن الاعرابي وثعلب هم ذريته.
وقال القتيبى: هم عشيرته.
وان وقف على من ينسب إليه لم يدخل فيه أولاد البنات، لانهم لا ينسبون إليه.
ولهذا قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا
* بنوهن ابناء الرجال الاجانب
وان وقف على البنين لم يدخل فيه الخنثى المشكل، لانا لا نعلم انه من البنين فان وقف على البنات لم يدخل فيه، لانا لا نعلم انه من البنات، فان وقف على(15/348)
البنين والبنات ففيه وجهان
(أحدهما)
انه لا يدخل فيه، لانه ليس من البنين ولا من البنات
(والثانى)
انه يدخل لانه لا يخلو من أن يكون ابنا أو بنتا.
وان أشكل علينا - فان وقف على بنى زيد - لم يدخل بناته، فان وقف على بنى تميم وقلنا ان الوقف صحيح ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يدخل فيه البنات لان البنين اسم للذكور حقيقة
(والثانى)
يدخلن فيه، لانه إذا اطلق أسم القبيلة دخل فيه كل من ينسب إليها من الرجال والنساء.
(فصل)
وان قال وقفت على أولادي فان انقرض أولادي وأولاد أولادي فعلى الفقراء لم يدخل فيه ولد الولد ويكون هذا وقفا منقطع الوسط فيكون على قولين كالوقف المنقطع الانتهاء.
ومن أصحابنا من قال يدخل فيه أولاد الاولاد بعد انقراض ولد الصلب لانه لما شرط انقراضهم دل على انه يستحقون كولد الصلب، والصحيح هو الاول، لانه لم يشرط شيئا، وانما شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.
(الشرح) قوله الاثرة وهى أن يخص قوما دون قوم، مثل ان يقف على اولاده فيخص الذكور دون الاناث أو العكس.
واما التقديم والتأخير فيتحقق بأمرين بالمفاضلة، مثل أن يقول وقفت على اولادي للذكر مثل حظ الانثيين أو على أن للانثى الثلثين والذكر الثلث مثلا.
والثانى أن يقول على أن البطن الاعلى يقدم على البطن الثاني.
وأما التسوية فان يسوى بين الغنى والفقير أو بين الذكور والاناث والاطلاق، يقتضى ذلك.
وأما اخراج من شاء بصفة فمثل أن يقول وقفت على أولادي على
أن من اشتغلت ممثلة فلا حق لها، أو من استغنى من أولادي فلا حق له فيه، ويمكن أن يقول: إذا رجعت عن التمثيل أو افتقر فيرد إليه.
وأما كتاب عمر رضى الله عنه فقد أخرجه أبو داود، ولفظه حدثنا سليمان المهرى قال: اخبرنا ابن وهب قال: اخبرني الليث عن يحيى بن سعيد عن صدقة عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نسخها لى عبد الحميد بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب:(15/349)
بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما كتب عبد الله عمر في ثمع فقص من خبره نحو حديث نافع قال: غير متأثل مالا، فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم قال وساق القصة قال: وان شاء ولى ثمغ اشترى من ثمره رقيقا لعمله وكتب معيقيب، وشهد عبد الله بن الارقم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث، أن ثمغا وصرمة بن الاكوع والعبد الذى فيه، والمائة سهم التى بخيبر، ورقيقه الذى فيه، والمائة التى أطعمه محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأى من أهلها أن لا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذى القربى ولا حرج على من وليه ان أكل أو آكل أو اشترى رقيقا منه) وبعد، فان هذا الفصل يشتمل على أحكام نبحثها مستعينين بالله مستمدين منه التوفيق والسداد فنقول: إذا وقف على ولده لا يدخل فيه ولد الولد بحال، سواء في ذلك ولد البنين وولد البنات، لان الولد حقيقة وعرفا انما هو ولده لصلبه، وانما يسمى ولد الولد ولد مجازا، ولهذا يصح نفيه.
فيقال ما هذا ولدى إنما هو ولد ولدى.
وان قال على ولدى لصلبي فهو آكد.
وان قال على ولدى وولد ولدى ثم على
المساكين، دخل فيه البطن الاول والثانى ولم يدخل فيه البطن الثالث.
وان قال على ولدى وولد ولدى وولد ولد ولدى دخل فيه ثلاث بطون دون من بعدهم، وموضع الخلاف الاطلاق.
فأما مع وجود دلالة تصرف إلى أحد المحملين فانه يصرف إليه بغير الخلاف كان يقول: على ولد فلان وهم قبيلة ليس فيهم ولد من صلبه فانه يصرف إلى أولاد الاولاد باتفاق.
وكذلك ان قال: على أولادي أو ولدى وليس له ولد من صلبه، أو قال ويفضل ولد الاكبر أو الاعلم على غيرهم.
أو قال: فإذا خلت الارض من عقبى عاد إلى المساكين.
وان اقترنت به قرينة تقتضي تخصيص أولاده لصلبه بالوقف مثل ان يقول: على ولدى لصلبي أو الذين يلوننى ونحو هذا فانه يختص بالبطن الاول دون غيرهم.(15/350)
وقال أحمد في روراية المروذى، قلت لابي عبد الله ما تقول في رجل وقف ضيعة على ولده فمات الاولاد وتركوا النسوة حوامل؟ فقال كل ما كان من أولاده الذكور بنات كن أو بنين فالضيعة موقوفه عليهم، وما كان من أولاد البنات فليس لهم فيه شئ لانهم من رجل آخر.
وقال أيضا فيمن وقف على ولد على بن اسماعيل ولم يقل ان مات ولد على ابن اسماعيل دفع إلى ولد ولده، فمات ولد على بن اسماعيل: دفع إلى ولد ولده أيضا لان هذا من ولد على بن اسماعيل، ووجه ذلك قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) فدخل فيه ولد البنين وان سفلوا، ولما قال (ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك ان كان له ولد) فتناول ولد البنين، وخالف القاضى وأصحابه من الحنابلة ووافقوا مذهب الشافعي رضى الله عنه فيها.
(فرع)
إذا قال وقفت هذا على ولدى وولد ولدى ما تناسلوا وتعاقبوا الاعلى فالاعلى أو الاقرب فالاقرب أو الاول فالاول أو البطن الاول ثم البطن الثاني أو قال على أولادي ثم على أولاد أولادي، أو قال على أولادي فان انقرضوا على أولاد أولادي، فكل هذا على الترتيب فيكون على ما شرط، ولا يستحق البطن الثاني شيئا حتى ينقرض البطن كله، ولو بقى واحد من البطن الاول كان الجميع له، لان الوقف ثبت بقوله فيتبع فيه مقتضى كلامه فان قال على أولادي وأولادهم ما تناسلوا وتعاقبوا على أنه من مات منهم عن ولد كان ما كان جاريا عليه جاريا على ولده، كان ذلك دليلا على الترتيب، لانه لو اقتضى التشريك لاقتضى التسوية، ولو جعلنا لولد الولد سهما مثل سهم أبيه ثم دفعنا إليه سهم أبيه صار له سهمان ولغيره سهم، وهذا ينافى التسوية، ولانه يفضى إلى تفضيل ولد الابن على الابن، وهذا يخالف أرادة الواقف فان قال وقفت على ولدى وولد ولدى ثم على أولادهم، أو على أولادي ثم على أولاد أولادي وأولادهم ما تناسلوا، أو قال على أولادي وأولاد أولادي ثم على أولاد أولادهم ما تناسلوا فهو على ما قال، يشترك فيه من شرك بينهم بواو العطف المقتضية للاشتراك بين ما بعدها في الحكم مع ما قبلها(15/351)
ففى الصورة الاولى يشترك الولد وولد الولد ثم إذا انقرضوا صار لمن بعدهم وفى الثانية يختص به الولد، فإذا انقرضوا صار مشتركا بين من بعدهم، وفى الثالثة يشترك فيه البطنان الاولان دون غيرهم، فإذا انقرضوا اشترك فيه من بعدهم.
ومن وقف على أولاده أو أولاد غيره وفيهم حمل لم يستحق شيئا قبل انفصاله لانه لم تثبت له أحكام الدنيا قبل انفصاله.
ويروى عن جعفر بن محمد فيمن وقف نخلا على قوم وما توالدوا ثم ولد
مولود، فإن كانت النخل قد أبرت فليس له فيه شئ، وإن لم تكن قد أبرت فهو معهم.
وهذا الحكم راجع إلى اتباع الاصل في البيع، وهذا الموجود يستحق نصيبه من الاصل، وبعد التأبير لا تتبع الاصل، ويستحقها من كان له الاصل فكانت للوجود قبل التأبير لان الاصل كان له فاستحق ثمرته، كما لو باع هذا النصيب منها، ولم يستحق المولود لا يستحق منه شيئا كالمشترى.
وهذا الحكم في سائر ثمر الشجر الظاهر، فإن المولود لا يستحق منه شيئا ويستحق مما ظهر بعد ولادته.
(فرع)
إذا وقف على قوم وأولادهم وذريتهم دخل في الوقف ولد البنين بغير خلاف نعمله.
فأما ولد البنات فمذهب الشافعي رضى الله عنه أنهم يدخلون وقال الخرقى من أصحاب أحمد: لا يدخلون.
وقال أحمد فيمن وقف على ولده ما كان من ولد البنات فليس لهم فيه شئ قال ابن قدامة: وهذا النص يحتمل أن يعدى إلى هذه المسألة ويحتمل أن يكون مقصورا على من وقف على ولده ولم يذكر ولد ولده.
وممن قال لا يدخل ولد البنات في الوقف الذى على أولاده وأولاد أولاده مالك ومحمد بن الحسن.
وهكذا إذا قال: على ذريتهم أو نسلهم أو عقبه، وقال أبو بكر وعبد الله بن حامد من الحنابلة: يدخل فيه ولد البنات، وهو مذهب أبى يوسف، لان البنات أولاده، فأولادهن أولاد حقيقة، فيجب أن يدخلوا في الوقت لتناول اللفظ لهم.
وقد دل على صحة هذا قول الله تعالى (ونوحا هدينا من قبل، ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله تعالى وعيسى) وهو من ولد بنته فجعله من ذريته وكذلك ذكر الله تعالى قصة عيسى وابراهيم وموسى واسماعيل وإدريس ثم قال(15/352)
(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن
ذرية إبراهيم وإسرائيل) وعيسى فيهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر (إن ابني هذا سيد يصلح الله على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين) يعنى الحسن بن على رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أبى بكرة رضى الله عنه.
وعن أنس قال (بلغ صفية أن حفصة قالت.
بنت يهودى فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهى تبكى وقالت: قالت لى حفصة: أنت ابنة يهودى.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لابنة نبى، وإن عمك لنبى وإنك لتحت نبى فبم تفتخر عليك؟ ثم قال: اتقى الله يا حفصة) رواه أحمد والترمذي وصححه والنسائي.
وفى حديث عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلى: وأما أنت يا على فختنى وأبو ولدي) رواه أحمد وعن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وحسن وحسين على وركيه (هذان إبناى وإبنا ابنتى، اللهم إنى أحبهما وأحب من يحبهما) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وأخرج نحوه الترمذي من حديث البراء بن عازب بدون قوله: هذان إبناى ولفظه (أبصر حسنا وحسينا فقال: اللهم إنى أحبهما فأحبهما) وللشيخين من حديث البراء أيضا بنحوه ولما قال الله تعالى (وحلائل ابنائكم الذين من أصلابكم) دخل التحريم حلائل أبناء البنات، ولما حرم الله تعالى البنات دخل في التحريم بناتهن، فإن وقف على عترته فقد قال في المصباح: العترة نسل الانسان، قال الازهرى: وروى ثعلب عن ابن الاعرابي أن العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه، ولا تعرف العرب من العترة غير ذلك، ويقال: رهطه الادنون، ويقال: أقرباؤه.
ومنه قول أبى بكر رضى الله عنه: نحن عترة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي خرج منها، وبيضته التى تفقأت عنه.
وعليه قول ابن السكيت: العترة والرهط بمعنى.
ورهط الرجل قومه وقبيلته الاقربون.
وان وقف على من ينسب إليه لم يدخل فيه أولاد البنات لانهم لا ينسبون إليه.
قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
* بنوهن أبناء الرجال الاباعد(15/353)
وقد أورد المصنف البيت بإبدال القافية ولمحفوظ هو ما أثبتناه (فرع)
لا يدخل الولد المنفى بلعان إلا أن يستلحقه فيستحق حينئد من الريع الحاصل قبل استلحاقه وبعده حتى يرجع بما يخصه في مدة النفى وينتفى الولد بقوله: أشهد بالله لقد زنت وما هذا ولدى، فينتفى بلعان الزوج وحده خلافا للحنابله، فإنهم لا يعتبرون نفى الزوج وحده، وانما يعتبرون النفى باللعان التام، وهو أن يوجد اللعان بينهما جميعا فلا ينتفى بلعان الزوج وحده.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان وقف على أقاربه دخل فيه كل من تعرف قرابته، فإن كان للواقف أب يعرف به وينسب إليه دخل في وقفه كل من ينسب إلى ذلك الاب ولا يدخل فيه من ينسب إلى أخى الاب أو أبيه، فإن وقف الشافعي رحمه الله لاقاربه دخل فيه كل من ينسب إلى شافع بن السائب لانهم يعرفون بقرابته، ولا يدخل فيه من ينسب إلى على وعباس بن السائب ولا من ينسب إلى السائب لانهم لا يعرفون بقرابته، ويستوى فيه من قرب وبعد من أقاربه، ويستوى فيه الذكر والانثى تساوى الجميع في القرابة، فان حدث قريب بعد الوقف دخل فيه.
وذكر البويطى أنه لا يدخل فيه، وهذا غلط من البويطى لانه لا خلاف أنه إذا وقف على أولاده دخل فيه من يحدث من أولاده.
(فصل)
وان وقف على أقرب الناس إليه ولم يكن له أبوان صرف إلى الولد ذكرا كان أو أنثى لانه أقرب من غيره، لانه جزء منه، فان لم يكن له ولد
قال ولد الولد من البنين والبنات، فان لم يكن ولد ولا ولد ولد وله أحد الابوين صرف إليه لانهما أقرب من غيرهما، فان اجتمعا استويا، فان لم يكون صرف إلى أبيهما الاقرب فالاقرب، فان كان له أب وابن ففيه وجهان
(أحدهما)
أنهما سواء لانهما في درجة واحدة في القرب
(والثانى)
يقدم الابن لانه أقوى تعصيبا من الاب، فان قلنا انهما سواء قدم الاب على ابن الابن لانه اقرب منه، وان قلنا يقدم الابن قدم ابن الابن على الاب لانه أقوى تعصيبا منه، فان لم يكن أبوان ولا ولد وله اخوة صرف إليهم(15/354)
لانهم أقرب من غيرهم، فإن اجتمع أخ من اب وأخ من أم استويا، وإن كان أحدهما من الاب والام والآخر من أحدهما قدم الذى من الاب والام لانه أقرب، فان لم يكن إخوة صرف إلى بنى الاخوة على ترتيب آبائهم.
فإن كان له جد وأخ ففيه قولان
(أحدهما)
أنهما سواء لتساويهما في القرب، ولهذا سوينا بينهما في الارث.
(والثانى)
يقدم الاخ لان تعصيبه تعصيب الاولاد، فإذا قلنا إنهما سواء قدم الجد على ابن الاخ، وان قلنا يقدم الاخ فابن الاخ وإن سفل أولى من الجد، فان لم يكن إخوة وله أعمام صرف إليهم ثم إلى أولادهم على ترتيب الاخوة وأولادهم، فان كان له عم وأبوجد فعلى القولين في الجد والاخ، وان كان له عم وخال أو عمة وخالة أو ولدهما فهما سواء، فان كان له جدتان إحداهما تدلى بقرابتين والاخرى بقرابة، فالتى تدلى بقرابتين أولى لانها أقرب، ومن أصحابنا من قال: ان قلنا ان السدس بينهما في الميراث استويا في الوقف
(فصل)
وان وقف على جماعة من أقرب الناس إليه صرف إلى ثلاثة من أقرب الاقارب، فان وجد بعض الثلاثة في درجة والباقى في درجة أبعد استوفى
ما أمكن من العدد من الاقرب وتمم الباقي من الدرجة الابعد، لانه شرط الاقرب والعدد فوجب اعتبارهما.
(فصل)
وان وقف على مواليه وله مولى من أعلى ومولى من أسفل ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يصرف اليهما لان الاسم يتناولهما
(والثانى)
يصرف إلى المولى من أعلى، لان له مزية بالعتق والتعصيب (والثالث) ان الوقف باطل لانه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر، ولا يجوز الحمل عليهما لان المولى في أحدهما بمعنى وفى الآخر بمعنى آخر، فلا تصح ارادتهما بلفظ واحد فبطل.
(الشرح) الاحكام: الوقف على الاقارب من القرب إلى الله تعالى، يتألف من صلة الرحم والاحسان والبر، فقد أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن أنس ان(15/355)
أبا طلحة قال (يا رسول الله ان الله يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وان أموالي بيرحاء وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.
فقال: بخ بخ، ذلك مال رابح مرتين وقد سمعت: أرى أن تجعلها في الاقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله: فقسمهما أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه) وفى رواية عند أحمد ومسلم (لما نزلت هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.
قال أبو طلحة: يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فأشهدك أنى جعلت أرضى بيرحاء لله، فقال اجعفها في قرابتك.
قال فجعلها في حسان بن ثابت وأبى بن كعب) وللبخاري معناه وقال فيه (اجعلها لفقراء قرابتك) قال محمد بن عبد الله الانصاري: أبو طلحة زيد بن سهل بن الاسود بن
حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدى بن عمرو بن مالك بن النجار.
وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان إلى حرام، وهو الاب الثالث.
وأبى بن كعب ابن قيس بن عيك بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مالك بن النجار، فعمرو يجمع حسانا وأبا طلحة وأبيا، وبين ابى وأبا طلحة ستة آباء.
وأخرج الشيخان عن أبى هريرة واللفظ لمسلم (لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الاقربين، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقار: يا بنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد مناف أنقذوا انفسكم من النار، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فانى لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها) وفى هذا دليل على أن كل من ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم يطلق عليهم لفظ الاقربين، لانه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ممتثلا لقوله تعالى: وأنذر(15/356)
عشيرتك الاقربين، وهو دليل على صحة ما ذهب إليه الشافعي رضى الله عنه من دخول النساء لذكره فاطمة، ودخول الكفار وقد اختلف العلماء في الاقارب، فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذى رحم محرم من قبل الاب أو الام، ولكن يبدأ بقرابة الاب قبل الام.
وقال أبو يوسف ومحمد.
من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب وأم من تفصيل زاد زفر ويقدم من قرب.
وهو رواية عن ابى حنيفة، وأقل من يدفع له ثلاثة، وعند محمد اثنان وعند أبى يوسف واحد، ولا يصرف للاغنياء عندهم إلا إن شرط ذلك.
وقال أصحابنا: القريب من اجتمع سواء قرب أم بعد، مسلما كان أو كافرا،
غنيا أو فقيرا، ذكرا أو أنثى، وارثا أو غير وارث محرما أو غير محرم.
واختلفوا في الاصول والفروع على وجهين.
وقالوا: إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا.
وقيل يقتصر على ثلاثة وإن كانوا غير محصورين.
فنقل عن الطحاوي الاتفاق على البطلان.
قال الحافظ ابن حجر: وفى نظر، لان الشافعية عندهم وجه بالجواز، ويصرف منهم لثلاثة ولا يجب التسوية.
وقال أحمد في القرابة كالشافعي إلا أنه أخرج الكافر، وفى رواية عنه: القرابة كل من جمعه، والموصى الاب الرابع إلى ما هو أسفل منه.
وقال مالك: يختص بالعصبة سواء كان برئه أو لا، ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا، ثم يعطى الاغنياء وقد تمسك برواية (فجعلها في حسان بن ثابت وأبى كعب) من قال: أقل من يعطى من الاقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان، وفيه نظر لانه وقع في رواية البخاري فجعلها أبو طلحة في ذوى رحمه، وكان منهم حسان وأبى بن كعب، فدل ذلك على أنه أعطى غيرهما معهما وفى مرسل أبى بكر بن حزم: فرده على أقاربه أبى بن كعب وحسان بن ثابت وأخيه وابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر، فتقاوموه فباع حسان حصته من معاوية بمائة ألف درهم.
إذا ثبت هذا فإنه إذا وقف على أقاربه دخل فيه كل من تعرف قرابته منتسبا إلى أبيه، ولا يدخل فيه من ينسب إلى عمه، فإذا وقف الامام الشافعي رضى الله عنه(15/357)
لاقاربه دخل فيه كل من ينسب إلى شافع بن السائب لانه أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بن عبد الله بن يزيد بن هاشم ابن الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ، وقد أعقب السائب بن عبد الله
شافعا وعليا وعباسا، ومن ثم فإن أبناءهم لا يدخلون في وقف الشافعي لاقاربه فإن أعقبوا بعد الوقف دخل عقبهم مثلهم أيضا، ولا خلاف أن ما يحدث من أولادهم بعد استحقاقهم يدخل معهم في الاستحقاق خلافا للبويطى فان وقف لاقاربه وكان له أولاد قدموا على غيرهم ثم على أولادهم.
وان قال من مات منهم عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات عن غير ولد فنصيبه لاهل الوقف.
وكان له ثلاثة بنين فمات أحدهما عن ابنين انتقل نصيبه اليهما ثم مات الثاني عن غير ولد فنصيبه لاهل الوقف، وكان له ثلاثة بنين فمات أحدهما عن ابنين انتقل نصيبه اليهما، ثم مات الثاني عن غير ولد فنصيبه لاخيه وابنى اخيه بالسوية لانهم أهل الوقف، ثم ان مات أحد ابني الابن عن غير ولد انتقل نصيبه إلى أخيه وعمه لانهما أهل الوقف.
وإن مات أحد البنين الثلاثة عن غير ولد وخلف أخويه وابنى أخ له فنصيبه لاخويه دون ابني أخيه لانهما ليسا من أهل الوقف ما دام أبويهما حيا، فإذا مات أبوهما فنصيبه لهما، فإذا مات الثالث كان نصيبه لابنى أخيه بالسوية إن لم يخلف ولدا، وإن خلف إبنا واحدا فله نصيب أبيه وهو النصف ولابني عمه النصف لكل واحد الربع وإن قال: من مات منهم من غير ولد كان جاريا عليه جاريا على من هو في درجته، فان كان الوقف مرتبا بطنا بعد بطن كان نصيب الميت غن غير ولد لاهل البطن الذى هو منه.
وإن كان مشتركا بين البطون كلها احتمل أن يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم لانهم في استحقاق الوقف سواء فكانوا في درجته من هذه الدرجة.
وإن كان الوقف على البطن الاول على أنه من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده، ومن مات عن غير ولد انتقل نصيبه إلى من هو في درجته ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) أن يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم يتساوون فيه.
سواء كان(15/358)
من بطن واحد أو من بطون، وسواء تساويا أنصباؤهم في الوقف أو اختلفت لما ذكرنا
(والثانى)
أن يكون لاهل بطن، سواء كانوا من أهل الوقف أو لم يكونوا مثل أن يكون البطن الاول ثلاثة فمات أحدهما عن ابن ثم مات الثاني عن ابنين فمات أحد الابنين وترك أخاه وعمه وابن عمه وابنا لعمه الحى، فيكون نصيبه بين أخيه وإبنى عمه (والثالث) أن يكون لاهل بطنه من أهل الوقف، فيكون نصيبه على هذا لاخيه وابن عمه الذى مات أبوه، فإن كان في درجته في النسب من ليس من أهل الاستحقاق بحال، كرجل له أربعة بنين وقف على ثلاثة منهم على هذا الوجه وترك الرابع فمات أحد الثلاثة عن غير ولد لم يكن للرابع فيه شئ لانه ليس من أهل الاستحقاق فأشبه ابن عمهم.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن يستحق الوقف من أقرباء الواقف، ففى إحدى الروايتين يرجع إلى الورثة منهم لانهم الذى صرف الله تعالى إليهم ماله بعد موته واستغنائه عنه، فكذلك يصرف إليهم من صدقته ما لم يذكر له مصرفا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) فعلى هذا يكون بينهم على حسب ميراثهم ويكون وقفا عليهم، وعلى هذا ذكر أصحاب أحمد أن المقصود بالوقف هو التأبيد، وإنما صرفناه إلى هؤلاء لانهم أحق الناس بصدقته فصرف إليهم مع بقائه صدقة، ويحتمل كلام الخرقى منهم أن يصرف إليهم على سبيل الارث ويبطل الوقف فيه، فعلى هذا يكوم قوله متفقا
مع قول أبى يوسف.
والرواية الثانية عن أحمد يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف دون بقية الورثة من أصحاب الفروض، ودون البعيد من العصبات فيقدم الاقرب فالاقرب على حسب استحقاقهم لولاء الموالى لانهم خصوا بالعقل عنه وبميراث مواليه فخصوا بهذا أيضا.(15/359)
ونازعه في هذا ابن قدامة في مغنية وقال: لا دليل على ذلك من كتاب ولا سنة والاولى صرفه إلى المساكين وفى نزاعه نظر
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وقف على زيد وعمرو وبكر ثم على الفقراء فمات زيد صرف إلى من بقى من أهل الوقف، فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء فمات زيد صرف إلى من بقى من أهل الوقف، فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء.
وقال أبو على الطبري: يرجع إلى الفقراء، لانه لما جعل إذا انقرضوا وجب أن تكون حصة كل واحد منهم لهم إذا انقرض، والمنصوص في حرملة هو الاول لانه لا يمكن نقله إلى الفقراء، لانه قبل انقراضهم لم يوجد شرط النقل إلى الفقراء، ولا يمكن رده إلى الواقف لانه أزال ملكه عنه فكان أهل الوقف أحق به.
(فصل)
وإن وقف مسجدا فخرب المكان وانقطعت الصلاة فيه، لم يعد إلى الملك، ولم يجز له التصرف فيه، لان ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال كما لو أعتق عبدا ثم زمن، وإن وقف نخلة فجفت أو بهيمة فزمنت أو جذوعا على مسجد فتكسرت ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز بيعه لما ذكرناه في المسجد
(والثانى)
يجوز بيعه لانه لا يرجى منفعته فكان بيعه أولى من تركه بخلاف المسجد، فإن المسجد يمكن الصلاة فيه مع خرابه، وقد يعمر
الموضع فيصلى فيه، فإن قلنا تباع كان الحكم في ثمنه حكم القيمة التى توجد من متلف الوقف وقد بيناه.
وان وقف شيئا على ثغر فبطل الثغر كطرسوس أو على مسجد فاختل المكان حفظ الارتفاع، ولا يصرف إلى غيره لجواز أن يرجع كما كان.
(فصل)
وإن احتاج الوقف إلى نفقة أنفق عليه من حيث شرط الواقف لانه لما اعتبر شرطه في سبيله اعتبر شرطه في نفقته كالمالك في أمواله، وإن لم يشترط أنفق عليه من غلته، لانه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة، فحمل الوقف عليه، وان لم يكن له غلة فهو على القولين إن قلنا إنه لله تعالى كانت نفقته في بيت المال كالحر المعسر الذى لا كسب له، وإن قلنا للموقوف عليه كانت نفقته عليه
(فصل)
والنظر في الوقف إلى من شرطه الواقف، لان الصحابة(15/360)
رضى الله عنهم وقفوا وشرطوا من ينظر، فجعل عمر رضى الله عنه إلى حفصة رضى الله عنها، وإذا توفيت فإنه إلى ذوى الرأى من أهلها، ولان سبيله إلى شرطه فكان النظر إلى من شرطه.
وإن وقف ولم يشرط الناظر ففيه ثلاثة أوجه
(أحدهما)
أنه إلى الواقف لانه كان النظر إليه، فإذا لم يشرطه بقى على نظره
(والثانى)
أنه للوقوف عليه، لان الغلة له فكان النظر إليه (والثالث) إلى الحاكم لانه يتعلق به حق الموقوف عليه وحق من ينتقل إليه فكان الحاكم أولى، فإن جعل الواقف النظر إلى اثنين من أفاضل ولده ولم يوجد فيهم فاضل إلا واحد ضم الحاكم إليه آخر لان الواقف لم يرض فيه بنظر واحد.
(فصل)
إذا اختلف أرباب الوقف في شروط الوقف وسبيله ولا بينة جعل بينهم بالسوية، فإن كان الواقف حيا رجع إلى قوله، لانه ثبت بقوله
فرجع إليه.
(الشرح) بعض هذه الفصول مضى ذكر أحكامها.
أما المسجد فإنه إذا انهدم وتعذرت اعادته فإنه لا يباع بحال لامكان الانتفاع به حالا بالصلاة في أرضه، وبهذا قال مالك رضى الله عنه.
وقال الرملي: وبه فارق ما لو وقف فرس على الغزو فكبر ولم يصلح حيث جاز بيعه.
نعم لو خيف على نقضه نقض وحفظ ليعمر به مسجد آخر ان رأى الحاكم ذلك، وان توقع عوده حفظ له، والا فإن أمكن صرفه إلى مسجد آخر صرف إليه، والا فمنقطع الآخر فيصرف لاقرب الناس إلى الواقف، فان لم يكونوا صرف إلى الفقراء والمساكين أو مصالح المسلمين.
أما غير المنهدم فما فضل من غلة الموقوف على مصالحه يشترى به عقار ويوقف عليه بخلاف الموقوف على عمارته يجب ادخاره لاجلها لانه يعرض للضياع أو لظالم يأخذه.
ولو وقف أرضا للزراعة فتعذرت وانحصر النفع في الغرس أو البناء فعل الناظر أحدهما أو آجرها كذلك، وقد أفتى البلقينى في أرض موقوفة لتزرع حناء(15/361)
فآجرها لتغرس كرما، فإن قوله لتزرع حناء متضمن لاشتراط أن لا يزرع غيره لان من المعلوم أنه يغتفر في الضمنى مالا يغتفر في المنطوق، على أن الفرض في مسألتنا أن لا يقصد تعطيل وقفه وثوابه، ومسألة البلقينى ليس فيها ضرورة فاحتاج إلى التقييد.
وقال أصحاب أحمد: إذا تعطلت منافع الوقف كدار انهدمت أو أرض عادت مواتا أو مسجد انصرف أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه الا
ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وان لم يمكن الانتفاع بشئ منه بيع جميعه.
وقال أحمد في رواية أبى داود صاحب السنن: إذا كان في المسجد خشبتان لهما قيمة جاز بيعهما وصرف ثمنهما عليه.
وقال في رواية صالح: يحول المسجد خوفا من اللصوص، وإذا كان موضعه قذرا، يعنى إذا كان ذلك يمنع من الصلاة فيه، ونص في رواية عبد الله على جواز بيع عرصته وتكون الشهادة في ذلك على الامام.
وقد روى على بن سعيد أن المساجد لا تباع انما تنقل آلتها.
وقال محمد بن الحسن: إذا خرب المسجد أو الوقوف عاد إلى ملك واقفه، لان الوقف انما هو تسبيل المنفعة، فإذا زالت منفعته زال حق الموقوف عليه منه فزال ملكه عنه.
دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يباع أصلها ولا تبتاع ولا توهب ولا تورث) ولان ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع بقاء تعطلها كالمعتق، والمسجد أشبه الاشياء بالمعتق (فائدة، لا يصح عندنا وقف لاجل نقش مسجد أو زخرفته، أما دهانه وملاطه وتجصيصه فجائز، لقول عمر رضى الله عنه (أكن الناس من المطر واياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) أفاده الشمس الرملي في النهاية (فرع)
إذا كان الوقف للاستغلال لم يتصرف فيه سواء ناظره الخاص أو العام أو لينتفع به الموقوف عليه، وأطلق أو قال: كيف شاء، فله استيفاء المنفعة بنفسه وبغيره بأن يركبه الدابة مثلا ليقضى له عليها حاجة فلا ينافى ذلك ما قيل في الاعارة والاجارة وما قيدناه به.(15/362)
ثم إن شرط الواقف النظر لنفسه أو غيره اتبع كبقية شروطه، لما روى أن عمر (رض) ولى أمر صدقته لحفصة ما عاشت، ثم لاولى الرأى من أهلها، وقبول
من شرط له النظر كقبول الوكيل فيما يظهر لا الموقوف عليه ما لم يشرط له شئ من ريع الوقف، ودعوى السبكى أنه بالاباحة أشبه فلا يرتد بالرد بعيد، بل لو قبله ثم أسقط حقه منه سقط إلا أن يشترط نظره حال الوقف، فلا ينعزل بعزل نفسه على الراجح خلافا لمن زعم خلافه.
قال الرملي: نعم يقيم الحاكم متكلما غيره مدة إعراضه، فلو أراد العود لم يحتج إلى تولية جديدة، فإذا لم يشرط الواقف النظر لاحد فالنظر للقاضى الموجود ببلد الموقوف عليه كما مر نظيره في مال اليتيم، إذ نظره عام فهو أولى من غيره، ولو كان واقفا أو موقوفا عليه.
وما جزم به الماوردى من ثبوته للواقف بلا شرط في مسجد المحلة، والخوارزمي في سائر المساجد، وزاد أن ذريته مثله مردود.
هكذا أفده الرملي وشرط الناظر العدالة الباطنة مطلقا كما رجحه الاذرعى خلافا لاكفاء السبكى بالعدالة الظاهرة، ومن ثم ينعزل بالفسق المحقق بخلاف غيره بخلاف الكذب الذى يمكن أن يكون معذورا فيه.
وسواء في الناظر أكان هو الواقف أم غيره، ومتى انعزل بالفسق فالنظر للحاكم، كما تشترط الكفاية لما تولاه من نظر عام أو خاص وهى الاهتداء إلى التصرف الذى فوض له قياسا على الوصي والقيم، لانها ولاية على غيره، وعند زوال الاهلية يكون النظر للحاكم، هكذا رجحه السبكى وقد أفتى النووي بعدم عود النظر بعود الاهلية ما لم يكن نظره بشرط الواقف، لقوته بالشرط، إذ ليس لاحد عزله ولا الاستبدال به، وعارض فقد الاهلية مانع من تصرفه لا سالب لولايته.
ولو كان له النظر على مواضع فأثبت أهليته في مكان ثبتت في بقية الاماكن من حيث الامانة لا من حيث الكفاية إلا ان يثبت أهليته في سائر الاوقاف كما
قرره ابن الصلاح.
ووظيفة الناظر حفظ الاصول وثمرتها على وجه الاحتياط كولى اليتيم،(15/363)
كما يتولى الاجارة والعمارة والاقتراض على الوقف عند الحاجة إن شرطه له الواقف أو أذن له فيه الحاكم كما في الروضه وغيرها، خلافا للبلقينى، سواء في ذلك مال نفسه وغيره، كما انه منوط به تحصيل الغله وقسمتها على مستحقيها، ويلزمه رعاية زمن عينه الواقف، ويجوز تقديم تفرقة المنذور على الزمن المعين لشبهه بالزكاة المعجله، ولو كان له وظيفه فاستناب فيها فالاجرة عليه لا على الوقف وقال الاذرعى: إن الذى نعتقده أن الحاكم لا نظر له معه ولا تصرف، بل نظره معه نظر إحاطه ورعاية.
فإن فوض الواقف إليه بعض هذه الامور لم يتعده اتباعا للشرط، ويستحق الناظر ما شرط من الاجرة، كما يجوز له رفع الامر إلى الحاكم ليقرر له أجره قال العراقى في تحريره: ومقتضاه أنه يأخذ مع الحاجة إما قدر النفقة كما رجحه الرافعى أو الاقل من نفقته وأجرة مثله كما رجحه النووي، وقد رجح بعض المتأخرين من أصحابنا أن الظاهر هنا أنه يستحق أن يقرر له أجرة المثل، وإن كان أكثر من النفقة، وانما اعتبرت النفقة هنا لوجوبها على فرعه سواء أكان وليا على ماله أم لا، بخلاف الناظر ولو جعل النظر لعدلين من أولاده وليس فيهم سوى عدل نصب الحاكم آخر، وان جعله للارشد من أولاده فالارشد، فأثبت كل منهم أنه أرشد اشتركوا في النظر بلا استقلال ان وجدت الاهلية فيهم، لان الارشدية قد سقطت بتعارض البينات فيها ويبقى أصل الرشد، ولو تغير حال الارشد حين الاستحقاق فصار مفضولا انتقل النظر إلى من هو أرشد منه، ويدخل في الارشد من أولاد أولاده الارشد من أولاد البنات، وللواقف عزل
من ولاه نائبا عنه ان شرط النظر لنفسه ونصب غيره كالوكيل.
وأفتى النووي بأنه لو شرط النظر لانسان، وجعل له أن يسنده لمن شاء فأسنده لآخر، لم يكن له عزله ولا مشاركته، ولا يعود النظر إليه بعد موته.
قال الرملي: بنظير ذلك أفتى فقهاء الشام وعللوه بأن التفويض بمثابة التمليك، وخالفهم السبكى فقال: بل كالتوكيل، وأفتى السبكى بأن للناظر والواقف من جهته عزل المدرس ونحوه ان لم يكن مشروطا في الوقف ولو لغير مصلحه، وهو مردود بما في الروضة للنووي أنه لا يجوز للامام اسقاط بعض الاجناد المثبتين(15/364)
في الديوان بغير سبب، فالناظر الخاص أولى، ولا اثر للفرق بأن هؤلاء ربطوا أنفسهم للجهاد الذى هو فرض، ومن ربط نفسه لا يجوز إخراجه بلا سبب بخلاف الوقف فإنه خارج عن فروض الكفايات، بل يرد بأن التدريس فرض أيضا، وكذلك قراءة القرآن، فمن ربط نفسه بهما فحكمه كذلك على تسليم ما ذكر من أن الربط به كالتلبس به، وإلا فشتان ما بينهما، ومن ثم اعتمد البلقينى أن عزله من غير مسوغ لا ينفذ، بل هو قادح في نظره، وفى شرح المنهاج في الكلام على عزل القاضى بلا سبب ونفوذ العزل في الامر العام: أما الوظائف كأذان وإقامة وتدريس وطلب ونحوه فلا ينعزل أربابها بالعزل من غير سبب كما أفتى به كثير من المتأخرين، منهم ابن رزين فقال: من تولى تدريسا لم يجز عزله بمثله ولا بدونه ولا ينعزل بذلك، قال الرملي: وهذا هو المعتمد.
وإذا قلنا: لا ينفط عزره الا بسبب فهل يلزمه بيان مستنده؟ الفتوى أكثر المتأخرين بعدمه وقيده بعضهم بما إذا وثق بعلمه ودينه، وزيفه التاج السبكى بأنه لا حاصل له.
ثم بحث أنه ينبغى وجوب بيان مستنده مطلقا أخذا من قولهم: لا يقبل دعواه الصرف لمستحقين معينين، بل القول قولهم ولهم مطالبته بالحساب
وادعى الولى العراقى أن الحق التقييد وله حاصل لان عدالته غير مقطوع بها، فيجوز أن يختل وأن يظن ما ليس بقادح قادحا بخلاف من تمكن علما ودينا زيادة على ما يعتبر في الناظر من تمييز ما يقدم وما لا يقدح، ومن ورع وتقوى يحولان بينه وبين متابعة الهوى.
ولو طلب المستحقون من الواقف كتاب الوقف ليكتبوا منه نسخه حفظا لاستحقاقهم لزمه تمكينهم وذلك أخذا من افناء جماعة أنه يجب على صاحب كتب الحديث إذا كتب فيها سماع غيره معه لها أن يعيره اياها ليكتب سماعه منها ولو تغيرت المعاملة وجب ما شرطه الواقف مما كان يتعامل به حال الوقف، زاد سعره أم نقص سهل تحصيله أم لا، فإن فقد اعتبرت قيمته يوم المطالبة ان لم يكن له مثل حينئذ والا وجب مثله.
وإذا أجر الناظر الوقف على معين أو جهة اجارة صحيحة فزادت الاجرة(15/365)
في المدة أو ظهر بالزيادة لم ينفسخ العقد في الاصح لوقوعه بالغبطة في وقته فأشبه ارتفاع القيمة أو الاجرة بعد بيع أو اجارة مال المحجور.
والثانى: تنفسخ إذا كان للزيادة وقع، والظالب ثقة لتبين وقوعه على خلاف المصلحة، وقد مر في الاجارة أنه لو كان المؤجر المستحق أو مأذونه جاز ايجاره بأقل من أجرة مثله وعليه فالاوجه انفساخه بانتقالها لغيره ممن لم يأذن له في ذلك.
وأفتى ابن الصلاح فيما إذا أجر بأجرة معلومة شهد اثنان بأنها أجرة المثل حالة العقد ثم تغيرت الاحوال فزادت أجرة المثل بأنه يتبين بطلانها وخطؤهما لان تقويم المنافع المستقبله انما يصح حيث استمرت حالة العقد بخلاف ما لو طرأ عليها أحوال تختلف بها قيمة المنفعة فإنه بان أن المقوم لم يوافق تقويمه الصواب ولو حكم حاكم بصحة اجارة وقف، وان الاجرة وقف، وأن الاجرة أجرة المثل، فإن ثبت بالتواتر
أنها دونها تبين بطلان الحكم والاجارة.
(فرع)
نفقة الوقف من حيث شرط الواقف لانه لما اتبع شرطه في سبيله وجب اتباع شرطه في نفقته، فإن لم يمكن فمن غلته، لان الوقف اقتضى تحبيس أصله وتسبيل منفعته، ولا يحصل ذلك الا بالاتفاق عليه، فكان ذلك من ضرورته، وان تعطلت منافع الحيوان الموقوف فنفقتهن على الموقوف عليه لانه ملكه، ويحتمل وجوبها في بيت المال، والله تعالى أعلم بالصواب.(15/366)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الهبات
الهبة مندوب إليها لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (تهادوا تحابوا) وللاقارب أفضل لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ) وفى الهبة صلة الرحم، والمستحب أن لا يفضل بعض أولاده على بعض في الهبة لما روى النعمان بن بشير قال (أعطاني أبى عطية فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رسول الله إنى أعطيت ابني عطية وإن أمه قالت لا أرضى حتى تشهد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلْ أعطيت كل ولدك مثل ذلك؟ قال لا.
قال رسول الله اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء؟ قال بلى قال فلا إذا) قال الشافعي رحمه الله: ولانه يقع في نفس المفضول ما يمنعه من بره، ولان الاقارب ينفس بعضها بعضا مالا ينفس العدى، فإن فضل بعضهم بعطية صحت
العطية، لما روى في حديث النُّعْمَانُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أشهد على هذا غيرى) فلو لم يصح لبين له ولم يأمره أن يشهد عليه غيره، ولا يستنكف ان يهب القليل ولا أن يتهب القليل، لما روى أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (لو دعيت إلى كراع لاجبت.
ولو أهدى إلى كراع أو ذراع لقبلت) (الشرح، الحديث الاول أخرجه البخاري في الادب المفرد والبيهقي وابن طاهر في مسند الشهاب من حديث محمد بن بكير عن ضمام بن اسماعيل عن موسى(15/367)
ابن وردان عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) قال الحافظ ابن حجر وإسناده حسن، وقد اختلف فيه على ضمام.
قال الذهبي: لينه بعضهم بلا حجة.
وقال أحمد بن حنبل: صالح الحديث.
وسرد له ابن عدى في كامله أحاديث حسنة، ولما كان ضمام ختن أبى قبيل على ابنته فقد اختلف عليه، فقيل عنه: عن أبى قبيل عن عبد الله بن عمر أورده ابن طاهر ورواه في مسند الشهاب من حديث عائشة بلفظ (تهادوا تزدادوا حبا) وفى اسناده محمد بن سليمان.
قال ابن طاهر: لا اعرفه، وأورده أيضا من وجه آخر عن أم حكيم بنت وداع الخزاعية وقال: اسناده غريب وليس بحجة.
وروى مالك في الموطأ عن عطاء الخراساني رفعه (تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) وفى الاوسط للطبراني من حديث عائشة (تهادوا تحابوا وهاجروا تورثوا أولادكم مجدا وأقيلوا الكرام عثراتهم) قال الحافظ بن حجر: وفى اسناده نظر وأخرج في الشهاب عن عائشة (تهادوا فان الهدية تذهب الضغائن) ومداره على محمد بن عبد النور عن أبى يوسف الاعشى عن هشام عن أبيه عنها.
والراوي له
عن محمد هو أحمد بن الحسن المقرى.
قال الدارقطني: ليس بثقة، وقال ابن ظاهر لا أصل له عن هشام.
ورواه ابن حبان في الضعفاء من طريق بكر بن بكار عن عائذ بن شريح عن أنس بلفظ (تهادوا فان الهدية قلت أو كثرت تذهب السخيمة) وضعفه بعائذ.
قال أبو حاتم: في حديثه ضعف.
وقال ابن طاهر: ليس بشئ وقد رواه عنه جماعة.
قال ورواه كوثر بن حكيم عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا.
وكوثر متروك.
وروى الترمذي من حديث ابى هريرة (تهادوا فان الهدية تذهب وحر الصدر) وفى اسناده أبو معشر المدنى تفرد به وهو ضعيف.
ورواه ابن طاهر في احاديث الشهاب من طريق عصمة بن مالك بلفظ (الهدية تذهب بالسمع والبصر) ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر بلفظ (تهادوا فان الهدية تذهب الغل) رواه محمد بن غيزغة قال: لا يجوز الاحتجاج به وقال فيه البخاري منكر الحديث وروى أبو موسى المدينى في الذيل في ترجمة زعبل، بالزاى والعين المهملة والباء(15/368)
الموحدة، يرفعه (تزاوروا وتهادوا فان الزيارة تثبت الوداد، والهدية تذهب السخيمة.
قال ابن حجر: وهو مرسل وليس لزعبل صحبة اما حديث عبد الله بن عمر رواه احمد في مسنده والطبراني باسناده صحيح عن عبد الله بن عمرو، ورواه مسلم عن عائشة، ورواه البخاري عن ابى هريرة بلفظ الرحم شجنة من الرحمن، قال الله: من وصلته ومن قطعته.
اما حديث النعمان بن بشير عند البخاري ومسلم واحمد بلفظ (ان اباه أتى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انى نحلت ابني هذا غلاما كان لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال: فارجعه) ولفظ مسلم (نصدق على ابى ببعض ماله، فقالت امى عمرة بنت رواحة
لا ارضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق ابى إليه يشهده على صدقتي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا فقال: اتقوا الله واعدلوا في اولادكم، فرجع ابى في تلك الصدقة) وللبخاري مثله لكن ذكره بلفظ العطية لا بلفظ الصدقة.
وقد روى احمد وابو داود والنسائي والمنذري عن النعمان بن بشير قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اعدلوا بين ابنائكم، اعدلوا بين ابنائكم، اعدلوا بين ابنائكم) وهذا الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله ثقات الا المفضل ابن المهلب بن ابى صفرة، وقد اختلف فيه وهو صدوق، وفى رواية لمسلم بلفظ (ايسرك ان يكونوا في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا اذن وفى بابه عن ابن عباس عند الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور بلفظ (سووا بين اولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا احدا لفضلت النساء) وفى اسناده سعيد ابن يوسف وهو ضعيف، وذكر ابن عدى في الكامل انه لم ير له انكر من هذا وقد حسن ابن حجر في الفتح اسناده.
أما حديث أبى هريرة فقد اخرجه البخاري بلفظ (ذلود دعيت إلى كراع أو ذراع لاجبت، ولو اهدى إلى ذراع أو كراع لقبلت) ورواه احمد والترمذي وصححه من حديث انس بلفظ (لو اهدى إلى كراع لقبلت، ولو دعيت عليه لاجبت) وفى بابه عن أم حكم الخزاعية عند الطبراني قالت (قلت: يا رسول الله(15/369)
تكره اللطف؟ قال: ما أقبحه، لو اهدى إلى كراع لقبلت) قوله: اللطف بالتحريك: اليسير من الطعام.
أما الهبة بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة.
قال في الفتح: تطلق بالمعنى الاعم على انواع الابراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة وهى هبة
ما يتمخض به طلب ثواب الاخرة، والهدية وهى ما يلزم به الموهوب له عوضه، ومن خصها بالحياة اخرج الوصية، وهى تكون أيضا بالانواع الثلاثة، وتطلق الهبة بالمعنى الاخص على مالا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بانها تمليك بلا عوض اه والهبة والعطية والهدية والصدقة معانيها متقاربة وكلها تمليك في الحياة بغير عوض، واسم العطية شامل لجميعها، وكذلك الهبة والصدقة والهدية متغايران، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.
وقال في اللحم الذى تصدق به على بريرة (هو عليها صدقة ولنا هدية) فالظاهر ان من أعطى شيئا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة.
ومن دفع إلى انسان شيئا بتقرب به إليه محبة له فهو هدية، وجميع ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه لقوله صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) وأما الصدقة فما ورد في فضلها اكثر من ان يمكننا حصره، وقد قال الله تعالى (ان تبدوا الصدقات فنعما هي، وان تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم سيئاتكم) إذا ثبت هذا فان المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة الا بالقبض، وهو قول اكبر الفقهاء، منهم النخعي والثوري والحسن بن صالح وابو حنيفة والشافعي واحمد.
وقال مالك وابو ثور: يلزم ذلك بمجرد العقد لعموم قوله عليه الصلاة والسلام (العائد في هبته كالعائد في قيئه) ولانه ازالة ملك بغير عوض فلزم بمجرد العقد كالوقوف والعتق.
وربما قالوا: تبرع فلا يعتبر فيه القبض كالوصية والوقف، ولانه عقد لازم ينقل الملك فلم يقف لزومه على القبض كالبيع، وتطلق الهبة على الشئ الموهوب واحاديث النعمان بن بشير تمسك بها من اوجب التسوية بين الاولاد في(15/370)
العطيه، وبه صرح البخاري، وهو قول طاوس والثوري واحمد واسحاق وبعض المالكية، قال في الفتح: والمشهور عن هؤلاء انها باطلة.
وعن احمد تصح، ويجب ان يرجع.
وعنه يجوز التفاضل ان كان له سبب، كان يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين.
وقال أبو يوسف تجب التسوية ان قصد بالتفضيل الاضرار.
وذهب الجمهور إلى ان التسوية مستحبه، فان فضل بعضا صح وكره، وحملوا الامر على الندب وكذلك حملوا النهى الثابت في رواية لمسلم بلفظ (ايسرك ان يكونوا لك في البر سواء؟ قال بلى.
قال فلا اذن) على التنزيه.
واجابوا عن حديث النعمان باجوبة عشرة جاءت في فتح الباري، اختصرها الشوكاني ووضع عليها زيادات مفيدة (احدها) ان الموهوب للنعمان كان جميع مال والده حكاه ابن عبد البر، وتعقبه بان كثيرا من طرق الحديث مصرحة بالبعضيه، كما في حديث جابر وغيره ان الموهوب كان غلاما، وكما في لفظ مسلم عن النعمان (تصدق على ابى ببعض ماله) (الجواب الثاني) ان العطية المذكورة لم ينجز، وانما جاء بشير يستشير النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فاشار عليه بان لا يفعل فترك، حكاه الطبري ويجاب عنه بان امره صلى الله عليه وسلم له بالارتجاع يشعر بالنجيز.
وكذلك قول عمرة (لا ارضى حتى تشهد) الخ (الجواب الثالث) ان النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض الموهوب فجاز لابيه الرجوع.
ذكره الطحاوي.
قال الحافظ وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله (ارجعه) فانه يدل على تقدم وقوع القبض، والذى تظافرت عليه الروايات انه كان صغيرا وكان ابوه قابضا له لصغره فأمره برد العطيه المذكورة
بعدما كانت في حكم المقبوضة.
(الرابع) ان قوله (ارجعه) دليل على الصحة، ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع، وانما امره بالرجوع لان للوالد ان يرجع فيما وهب لولده، وان كان الافضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك امره به.
وفى الاحتجاج بذلك نظر، والذى يظهر ان معنى قوله ارجعه، أي لا تمض الهبة(15/371)
المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة (الخامس) أن قوله: أشهد على هذا غيرى، إذن بالاشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الامام، وكأنه قال: لا أشهد لان الامام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار، وتعقب بأنه لا يلزم من كون الامام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه، والاذن المذكور مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث، وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع وقال ابن حبان: قوله (أشهد) صيغة أمر والمراد به نفى الجواز وهى كقوله لعائشة: اشترطي لهم الولاء اه.
ويؤيد هذا الوجه تسميته صلى الله عليه وسلم لذلك جورا كما في بعض الروايات المذكورة.
(السادس) التمسك بقوله: ألا سويت بينهم، على أن المراد بالامر الاستحباب وبالنهى التنزيه.
قال ابن حجر: وهذا جيد لولا ورود تلك الالفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما رواية (سو بينهم) (السابع) قالوا المحفوظ في حديث النعمان (قاربوا بين اولادكم) لا سووا، وتعقب بانكم لا توجبون المقاربة كما لا توجبون التسوية (الثامن) في التشبيه الواقع بينهم في التسوية، بالتسوية بينهم، بالتسوية
فيهم في البر قرينة تدل على ان الامر للندب، ورد بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والنهى عن التفضيل يدلان على الوجوب فلا تصلح تلك القرينة لصرفهما وإن صلحت لنفس الامر (التاسع) ما سيأتي في الفصل الذى بعد هذا من منحة أبى بكر لعائشة.
وقوله لها فلو كنت احترثته، وكذلك ما رواه الطحاوي عن عمر أنه نحل ابنه عاصما دون سائر ولده، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من الخليفتين، وقال في الفتح وقد أجاب ابن عمر عن قصة عائشة بأن اخوتها كانوا راضين، ويجاب بمثل ذلك عن قصة عاصم.
ولا حجة في فعلهما لا سيما إذا عارض المرفوع (العاشر) أن الاجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج بعض ولده(15/372)
بالتمليك لبعضهم.
ذكره ابن عبد البر.
قال الحافظ ابن حجر ولا يخفى ضعفه لانه قياس مع وجود النص، وقد رأى الشوكاني أن التسوية واجبة وأن التفضيل محرم واختلف الموجبون للتسوية في كيفيتها فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث، واحتجوا بان ذلك حظه من المال لو مات عنه الواهب.
وقال غيرهم لا فرفق بين الذكر والانثى، وظاهر الامر بالتسوية معهم.
على أن حديث النعمان بن بشير رواه عنه عدد كثير من التابعين، منهم عروة ابن الزبير عند مسلم والنسائي وأبى داود، وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوى، والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبى داود والنسائي، وعبد الله بن عتبه بن مسعود عند أحمد، وعون بن عبد الله عند أبى عوانة والشعبى عند الشيخين وأبى داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان وغيرهم
وقد رواه النسائي من مسند بشير والد النعمان فشذ بذلك.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وما جاز بيعه من الاعيان جاز هبته لانه عقد يقصد به ملك العين فملك به ما يملك بالبيع وما جاز هبته جاز هبة جزء منه مشاع لما روى عمر بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من المدينة حتى أتى الروحاء فإذا حمار عقير، فقيل يا رسول الله هذا حمار عقير، فقال دعوه فانه سيطلبه صاحبه، فجاء رجل من فهر فقال يا رسول الله انى أصبت هذا فشأنكم به، فأمر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ بقسم لحمه بين الرفاق، ولان القصد منه التمليك والمشاع كالمقسوم في ذلك.
(فصل)
وما لا يجوز بيعه من المجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم ملكه عليه كالمبيع قبل القبض لا تجوز هبته لانه عقد يقصد به تمليك المال في حال الحياة فلم يجز فيما ذكرناه كالبيع
(فصل)
ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لانه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع(15/373)
(الشرح) حديث عمرو بن سلمة الضمرى كذا في نسخ المهذب وفى مواطن مختلفة من فصول المهذب وصوابه عمير بن سلمة الضمرى بالتصغير.
قال الحافظ ابن حجر في التهذيب: له صحبة وحديث، وهذا الحديث أخرجه أحمد والنسائي ومالك في الموطأ وصححه ابن خزيمة وغيره عن عمير بن سلمة الضمرى عن رجل من بهز (أنه خرج مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد مكه حتى إذا كانوا في بطن واد الروحاء وجد الناس حمار وحش عقيرا فذكروه للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: أقروه حتى يأتي صاحبه فأتى البهرى وكان صاحبه فقال: يارسول الله
شأنكم هذا الحمار فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر فقسمه في الرفاق، وهم محرمون، قال: ثم مررنا حتى إذا كنا بالاتاية إذا نحن بظبى حاقف في ظل فيه سهم فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا أن يقف عنده حتى يخير الناس عنه) .
ولاحمد والبخاري ومسلم من حديث قتادة قال (كنت يوما جالسا مع رجال مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منزل في طريق مكه ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِي فلم تؤذنوني، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ فَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ فَقُمْتُ إلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ فَقُلْتُ: لَهُمْ نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقَالُوا: لا والله لا نعينك عليه، فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتهمَا ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ فوقعوا فيه يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عن ذلك فقال: هل معكم منه شئ فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها وهو محرم) ولمسلم (هل أشار إليه إنسان أو أمره بشئ قالوا: لا، قال: فكاوه) وللبخاري (قال منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقى من لحمها) قلت.
وهذا الخبر صريح في صحة هبة المشاع، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، سواء في ذلك ما أمكن قسمته أو لم يمكن(15/374)
وقال أصحاب الرأى لا تصح هبة المشاع الذى يمكن قسمته لان القبض شرط في الهبة، ووجوب القسمة يمنع صحة القبض وتمامه، فإن كان مما لا يمكن قسمته صحت هبته لعدم ذلك فيه، وإن وهب وأحد اثنين شيئا مما ينقسم لم يجز عند
أبى حنيفة، وجاز عند صاحبيه، وان وهب اثنان اثنين شيئا مما ينقسم لم يصح في قياس قولهم، لان كل واحد من المتهبين قد وهب له جزء مشاع.
ولنا حديث عمرو بن سلمة في الفصل، ولانه يجوز بيعه فجازت هبته كالذى لا ينقسم، ولانه مشاع فاشبه ما لا ينقسم.
وقولهم: إن وجوب القسمة يمنع صحة القبض لا يصح، فإنه لم يمنع صحته في البيع فكذا ههنا، ومتى كانت الهبة لاثنين فقبضاه بإذنه ثبت ملكهما فيه، وإن قبضه أحدهما ثبت الملك في نصيبه أما قوله ما جاز بيعه من الاعيان جاز هبته، فظاهر في عموم ثبوت الملك بالقبض بالهبة فيما يجوز امتلاكه بالعوض، والجواز هنا اعتبار الشئ في حق حكمه، وأما صحته بانعقاد اللفظ بحيث إذا انضم إليه القبض اعتبر، ويثبت حكمه وفى معنى البيع، قال الشافعي رضى الله عنه ولو تغيرت عند الموهوب له بزيادة كان له أخذها وكان كالرجل يبيع الشئ وله فيه الخيار.
ولما كانت الهبة تمليكا لمعين في الحياة لم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فان علقها على شرط كقول النبي صلى الله عليه وسلم لام سلمة (إن رجعت هذيتنا إلى النجاشي فهى لك) كان وعدا، وإن شرط في الهبة شروطا تنافى مقتضاها نحو أن يقول وهبتك هذا بشرط أم لا، تهبه أو لا تبيعه أو بشرط أن تهبه أو تبيعه أو بشرط أن تهب فلانا شيئا لم يصح.
وفى حصة الهبة وجهان على الشروط الفاسدة في البيع، وان وقت الهبة، فقال وهبتك هذا سنة ثم يعود إلى لم يصح، لانه عقد تمليك لعين فلم يصح مؤقتا.
وجملة ذلك أن التمليك إذا كان لعين بغير عوض عن غير احتياج كان هبة، فإن كان عن احتياج فصدقة، فإن كان للمنفعة بغير عوض فعارية أو بعوض فأجارة وإن كان للعين بعوض فبيع.
(فرع)
لا يجوز هبة المجهول أو غير المملوك أو جعله في الذمة.
قال النووي(15/375)
وما لا يجوز بيعه كمجهول ومغصوب لمن لا يقدر على انتزاعه، وضال وآبق فلا يجوز هبته.
قال الرملي: بجامع أن كلا منهما تمليك في الحياة ولا ينافيه خير: زن وأرجح، لان الرجحان المجهول وقع تابعا لمعلوم، عل أن الاوجه كون المراد بأرجح تحقق الحق حذرا من التساهل فيه، ولا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عنه في المال الذى جاء من البحرين: خذ منه - الحديث، لان الظاهر أن ما ذكر في المجهول إنما هو بالمعنى الاخص بخلاف هديته وصدقته فيصحان فيما يظهر، واعطاء العباس الظاهر صدقة لا هبة، لكونه من جملة المستحقين.
وقد اختلف الفقهاء في ترك الدين المستقر الذى في الذمة للمدين، فقال أبو حنيفة والثوري وإسحاق: إن وهب الدين لغير من هو في ذمته أو باعه إياه لم يصح.
وقال أحمد: إذا كان لك على رجل طعام قرضا فبعه من الذى هو عليه بنقد، ولا تبعه من غيره عرضا بمالك عليه.
وقال الشافعي: إن كان الدين على معسر أو مماطل أو جاحد له لم يصح البيع لانه معجوز عن تسليمه، وإن كان على ملئ باذل له ففيه قولان.
(أحدهما)
يصح لانه ابتاع بمال ثابت في الذمة فصح، كما لو اشترى في ذمته ويشترط أن يشتريه بعين أو يتقابضان في المجلس لئلا يكون بيع دين بدين.
(والثانى)
لا يصح.
وفى نهاية المحتاج بحث حول ترك الدين المستقر الذى في الذمة المدين لغيره هل يعد هبة أم يعد إبراء فحسب بأنه لا يعد هبة في الاصح لانه غير مقدور على تسليمه، فإن قلنا: بصحة بيعه لغير من هو عليه قياسا على بيع الموصوف فإنه لا يوهب والدين مثله بلى أولى، وفرق ما بين صحة بيعه وعدم صحة هبته بأن بيع ما في الذمة التزام لتحصيل المبيع في مقابلة الثمن الذى استحقه والالتزام فيها صحيح بخلاف هبته فإنها لا تتضمن الالتزام إذ لا مقابل فيها،
فكانت بالوعد أشبه فلم يصح.
ووارد على ما لا يجوز بيعه من المجهول أنه إذا خلط متاعه بمتاع غيره فوهب أحدهما نصيبه لصاحبه فيصح مع جهل قدره وصفته للضرورة، وكذلك لو قال:(15/376)
أنت في حل مما تأخذ أو تعطى أو تأكل من مالى فله الاكل فقط لانه إباحة وهى صحيحة بالمجهول بخلاف الاخذ والاعطاء قاله العبادي، قال: وفى خذ من عنب كرمى ما شئت لا يزيد على عنقود لانه أقل ما يقع عليه الاسم، وما استشكل به يرد بأن الاحتياط المبنى عليه حق أوجب ذلك التقدير، وأفتى القفال في: أبحت لك من ثمار بستاني ما شئت بأنه إباحة، وظاهرة أن له أخذ ما شاء، وما قاله العبادي أحوط.
وفى الانوار: لو قال ابحت لك جميع مافى دارى أو مافى كرمى من العنب: فله اكله دون بيعه وحمله واطعامه لغيره.
وتقتصر الاباحة على الموجود في الدار أو في الكرم.
ولو قال ابحت لك جميع مافى دارى اكلا واستعمالا ولم يعلم المبيح لم تحصل الاباحة اه.
ومتى قلنا لا تصح الهبة في غير مقدور عليه أو فيما لا يمكن تسليمه كالعبد الابق والجمل الشارد والمغصوب لغير غاصبه ممن لا يقدر على اخذه بهذا قال ابو حنيفة والشافعي واحمد رضى الله عنهم لانه عقد يفتقر إلى القبض فلم يصح في ذلك كالبيع وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا تصح الا بالايجاب والقبول لانه تمليك ادمى لادمي فافتقر إلى الايجاب والقبول كالبيع والنكاح ولا يصح القبول الا على الفور.
وقال أبو العباس يصح على التراخي، والصحيح هو الاول، لانه تمليك مال في حال الحياة فكان
القبول فيه على الفور كالبيع،
(فصل)
ولا يملك الموهوب منه الهبة من غير قبض، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (أَنَّ اباها نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله فلما حضرته الوفاة قال يا بنية ان أحب الناس غنى بعدى لانت وان أعز الناس على فقرا بعدى لانت، وأنى كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالى ووددت انك جذذته وحزته وانما هو اليوم مال الوارث وانما هما اخواك واختاك.
قالت هذان اخواى فمن أختاى، قال ذو بطن بنت خارجه، فانى اظنها جارية، فان مات قبل القبض قام وارثه مقامه،(15/377)
ان شاء قبض وان شاء لم يقبض، ومن اصحابنا من قال.
يبطل العقد بالموت، لانه غير لازم فبطل بالموت كالعقود الجائزة، والمنصوص انه لا يبطل لانه عقد يؤل إلى اللزوم فلم يبطل بالموت كالبيع بشرط الخيار، فإذا قبض ملك بالقبض ومن أصحابنا من قال يتبين انه ملك بالعقد، فان حدث منه نماء قبل القبض كان للموهوب له، لان الشافعي رضى الله عنه قال فيمن وهب له عبد قبل ان يهل عليه هلال شوال، وقبض بعدما أهل ان فطرة العبد على الموهوب له والمذهب الاول، وما قال في زكاة الفطر فرعه على قول مالك رحمه الله.
(الشرح) خبر عائشة رضى الله عنها، رواه مالك في الموطأ من طريق ابن شهاب عن عروة عنها، وروى البيهقى من طريق ابن وهب عن مالك وغيره عن ابن شهاب.
وعن حنظلة بن ابى سفيا عن القاسم بن محمد نحوه قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ بلغنا عن ابى بكر رضى الله عنه انه نحل عائشة أم المؤمنين جداد عشرين وسقا من نخل له بالعالية فلما حضره الموت قال لعائشة (انك لم تكوني قبضتيه، وانما هو مال الوارث) فصار بين الورثة لانها لم تكن قبضته.
اما لغات الفصل: فان قوله نحل عائشة أي اعطاها والنحلة العطية، والوسق ستون صاعا، وحزته أي قبضته، ولو قال: حزتيه لكان جائزا ولكن الحذف افصح، واما قوله ذو بطن بنت خارجه.
فان ذو تأتى بمعنى الاسم الموصول في لغة طئ قال شاعرهم: قالوا جننت فقلت كلا
* وربى ما جننت ولا انتشيت ولكني ظلمت فكدت أبكى
* من الظلم المبين أو بكيت فان الماء ماء أبى وجدى
* وبئري ذو حفرت وذو طويت وقد تزوج أبو بكر رضى الله عنه ذو بطن بنت خارجة بن ابى زهير بالسنح في بنى الحارث من الخزوج قريب المدينة واسمها حبيبة وبنتها ام كلثوم بنت أبى بكر رضى الله عنه.
أما الاحكام: فان الهبة لا تصح الا بإذن الواهب لانه بالخيار قبل القبض(15/378)
ان شاء أقبضها وامضاها وان شاء رجع فيها ومنعها، فان قبضها الموهوب له قبل اذنه لم تتم الهبة ولم يصح القبض.
وحكى عن ابى حنيفة انه إذا قبضها في المجلس صح، وان لم ياذن له، لان الهبة قامت مقام الاذن في القبض لكونها دالة على رضاه بالتمليك الذى لا يتم الا بالقبض.
ومذهب الشافعي واحمد رضى الله عنهما انه قبض الهبة بغير اذن الواهب فلم يصح كما بعد في المجلس، أو كما لو نهاه عن قبضها، ولان التسليم غير مستحق على الواهب فلا يصح التسليم الا باذنه، كما لو اخذ المشترى المبيع من البائع قبل تسليم ثمنه، ولا يصح جعل الهبة اذنا في القبض بدليل ما بعد المجلس، ولو اذن الواهب في القبض ثم رجع عن الاذن أو رجع في الهبة صح رجوعه لان ذلك
ليس بقبض.
وان رجع بعد القبض لم ينفع رجوعه، لان الهبة قد تمت إذا عرف هذا عرف ان شرط الهبة الايجاب، كوهبتك وملكتك ومنحتك وأكرمتك وعظمتك ونحلتك، وكذا أطعمتك ولو في غير طعام كما نص عليه، وقبول، كقبلت ورضيت واتهبت متلفظا باحدب هذه الكلمات أو بإشارة من اخرس مفهومه في حقه بالقبول، لان القبول ينعقد بالكناية.
ومن أركانها ان يكون القبول مطابقا للايجاب، ومن أركانها اعتبار الفور في الصيغة، ولا يضر الفصل.
نعم في الاكتفاء بالاذن قبل وجود القبول نظر، لاننا إذا تصورنا ان الواهب لا يفترق عن الراهن عند تقديمه المعين إلى المتهب الا في الصيغة، تبين لنا أهمية الصيغة وضرورتها عند العقد واعتبار القبول على الفور لفظا، ولا يكفى لفظ يحتمل القبول والرفض الا إذا اقترن اللفظ بالقبض وتسليط اليد، كقوله شكرا فانه لفظ يحتمل الاعتذار عن قبول الهبة ويحتمل القبول وأفتى بعض الاصحاب فيمن بعث بنته وجهازها إلى دار الزوج بأنه ان قال هذا جهاز بنتى فهو ملك لها، والا فهو عارية ويصدق بيمينه ولا يشترط الايجاب والقبول في الصدقة بل يكفى الاعطاء والاخذ، ولا في الهدية بل يكفى البعث من هذا ويكون كالايجاب والقبض من ذلك، ويكون كالقبول لجريان عادة السلف بل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ومع ذلك كانوا يتصرفون فيه(15/379)
تصرف الملاك فسقط ما يتوهم منه انه كان اباحة.
هذا هو الصحيح.
والثانى يشترطان كالهبة.
وفرق هنا بين التمليك وبين نقل الحق أو اليد إلى غيره، كلين شاة الاضحية أو صوفها أو تنازل إحدى الضرتين عن نوبتها للاخرى (فرع)
لا يملك الموهوب الهبة الا بقبضها، فقد روى عروة عن عائشة رضى الله عنه ان ابا بكر رضى الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية
فلما مرض قال: يا بنية ما أحد أحب إلى غنى بعدى منك، ولا أحد أعز على فقرا منك، وكنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا وددت انك حزتيه أو قبضتيه، وهو اليوم مال الوارث اخواك واختاك، فاقتسموا على كتاب الله عزوجل.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ما أبال أقولام ينحلون أولادهم، فإذا مات أحدهم قال: مالى وفى يدى.
وإذا مات هو قال: كنت نحلته ولدى، لا نحلة الا نحلة يحرز الولد دون الوالد فان مات ورثه) فإذا مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض، فان قلنا بانه عقد يؤول إلى اللزوم لم يبطل بموت احد المتعاقدين بل يقوم ورثته مقامه، وهذا قول أكثر اصحابنا، وهو قو أبى الخطاب من الحنابلة حيث يقول: إذا مات الواهب قام وارثه مقامه في الاذن في القبض والفسخ.
وان قلنا بقول بعض الاصحاب بانه من العقود الجائزة يبطل بموت أحد المتعاقدين كالوكالة والشركة، وهو قول الامام أحمد حيث قال في رواية أبى طالب وأبى الحارث في رجل اهدى هدية فلم تصل إلى المهدى حتى مات، فانها تعود إلى أصحابها ما لم يقبضها.
وروى باسناده عن ام كلثوم بنت سلمة قالت (لما تزوج رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ سلمة قال لها (انى قد اهديت إلى النجاشي حلة وأواقى مسك، ولا أرى النجاشي الا قد مات، ولا أرى هديتي الا مردودة على، فان ردت فهى لك.
قالت فكان مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وردت عليه هديته، فاعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة) ووجه ضعف القول بانفساخ العقد بموت أحدهما أن ليس المدار على القبول(15/380)
بل على الايلولة للزوم كما قررنا، وهو جار في الهدية والصدقة أيضا، ويجرى
الخلاف في الجنون والاغماء، ولولى المجنون قبضها قبل الافاقة وفرق الحنابلة بين المكيل والموزون وغيرهما، فالمكيل والموزون لا يصح التمليك بغير قبض أما في غيهما يصح بغير القبض لما روى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا انهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة قبضت أو لم تقبض، وهو قول مالك وابى ثور.
وعن احمد رواية اخرى لا تلزم الهبة في الجميع لا بالقبض، وهو قول أكثر أهل العلم.
قال المروزى: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، على ان الهبة لا تجوز الا مقبوضة، ويروى ذلك عن النخعي والثوري والحسن بن صالح والعنبري والشافعي وأصحاب الرأى لما ذكرنا ومن أصحابنا من قال: انما يستغنى عن القبض إذا تحقق الايجاب والقبول واستقر العقد بينهما، ولانه عقد تمليك فافتقر إلى الايجاب والقبول كالنكاح، وعلى هذا القول إذا حدث نماء في الهبة قبل القبض كانت للموهوب له، والمنصوص ان النماء بعد القبض كان للموهوب قال في الام: وإذا وهب الرجل للرجل جارية أو دار، فزادت الجارية في يديه، أو بنى الدار فليس للواهب الذى ذكر انه وهب للثواب ولم يشترط ذلك ان يرجع في الجارية، أي حال ما كانت زادت خيرا أو نقصت، كما لا يكون له إذا أصدق المرأة جاريه فزادت في يديها ثم طلقها ان يرجع بنصفها زائدة.
اه قلت: وليست الفطرة التى لزمت الموهوب له منفعة تعود عليه، وانما هي قربة صادفت محلها فلا شبه بينها وبين النماء عائد، والفطرة بذل واخراج والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان وهب لغير الولد وولد شيئا وأقبضه لم يملك الرجوع فيه، لما روى ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما رفعاه إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (لَا يحل للرجل ان يعطى العطية فيرجع فيها الا الوالد فيما أعطى ولده)(15/381)
وان وهب للولد أو ولد الولد وان سفل جاز له أن يرجع للخبر، ولان الاب لا يتهم في رجوعه، لانه لا يرجع الا لضرورة أو لاصلاح الولد، وان تصدق عليه فالمنصوص ان له أن يرجع كالهبة.
ومن أصحابنا من قال لا يرجع، لان القصد بالصدقة طلب الثواب وإصلاح حاله مع الله عزوجل، فلا يجوز ان يتغير رأيه في ذلك، والقصد من الهبة إصلاح حال الولد، وربما كان الصلاح في استرجاعه فجاز له الرجوع.
وإن تداعى نسب مولود ووهبا له مالا لم يجز لواحد منهما أن يرجع لانه لم يثبت له بنوته، فإن لحق بأحدهما ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز لانه ثبت أنه ولده
(والثانى)
لا يجوز لانه لم يثبت له الرجوع في حال العقد، وإن وهب لولده ووهب الولد لولده ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه في ملك من يجوز له الرجوع في هبته
(والثانى)
لا يجوز لانه رجوع على غير من وهب له فلم يجز، وإن وهب لولده شيئا فأفلس الولد وحجر عليه ففيه وجهان
(أحدهما)
يرجع لانه حقه سابق لحقوق الغرماء.
(والثانى)
لانه تعلق به حق الغرماء فلم يجز له الرجوع كما لو رهنه
(فصل)
وإن زاد الموهوب في ملك الولد أو زال الملك فيه ثم عاد إليه فالحكم فيه كالحكم في المبيع إذا زاد في يد المشترى أو زال الملك فيه ثم عاد إليه ثم أفلس في رجوع البائع، وقد بيناه في التفليس (الشرح) حديث ابن عمر وابن عباس رواه طاوس أن ابن عمر وابن عباس رفعاه إلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا يحل للرجل أن يعطى العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده، ومثل الرجل يعطى العطية ثم ايرجع فيها الا
الوالد فيما يعطى ولده.
ومثل الرجل يعطى العطية ثم يرجع فيها كمثل المكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه، وكذلك ابن حبان والحاكم وصححاه وقد استدل بالحديث على تحريم الرجوع في الهبة، لان القئ حرام فالمشبه به مثله، ووقع في رواية أخرى للبخاري وغيره: كالكلب يرجع في قيئه، وهى(15/382)
تدل على عدم التحريم، لان الكلب غير متعبد فالقئ ليس حراما عليه، وهكذا قوله: كمثل الكلب الخ، وتعقب بأن ذلك للمبالغة في الزجر كقوله صلى الله عليه وسلم فيمن لعب بالنردشير (فكأنما غمس يده في لحم خنزير) وأيضا الرواية الدالة على التحريم غير منافية للرواية الدالة على الكراهة على تسليم دلالتها على الكراهة فقط، لان الدال على التحريم قد دل على الكراهة وزيادة، وقد قدمنا في باب نهى المتصدق أن يشترى ما تصدق به من كتاب الزكاة عن القرطبى أن التحريم هو الظاهر من سياق الحديث.
وقدمنا أيضا أن الاكثر حملوه على التنفير خاصة لكون القئ مما يستقذر.
ويؤيد القول بالتحريم قوله صلى الله عليه وسلم (وليس لنا مثل السوء) في حديث ابن عباس عند أحمد والبخاري.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل للرجل.
قال في الفتح: وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب جمهور العلماء إلا هبة الوالد لولده، وذهب الحنفية والزيدية إلى حل الرجوع في الهبة دون الصدقة، إلا إذا حصل مانع من الرجوع، كالهبة لذى رحم ونحو ذلك من الموانع.
وقال الطحاوي: ان قوله (لا يحل) لا يستلزم التحريم.
قال وهو كقوله صلى الله عليه وسلم (لا تحل الصدقة لغنى) وانما معناه لا تحل له من حيث تحل
لغيره من ذوى الحاجة، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة وقال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب ومن كان والدا والموهوب له ولده والهبة لم تقبض، والتى ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الاخبار باستثناء كل ذلك.
وأما ما عدا ذلك كالغنى يثيب الفقير ونحو من يصل رحمه فلا رجوع.
قال: ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب الآخرة.
قال ابن حجر: اتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض وقد أخرج مالك عن عمر أنه قال: من وهب هبة يرجو ثوابها فهى رد على صاحبها ما لم يثب منها.
ورواه البيهقى عن ابن عمر مرفوعا وصححه الحاكم.
قال ابن حجر: والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر ورواه عبد الله بن موسى مرفوعا، قيل وهو وهم وصححه الحاكم وابن حزم، ورواه ابن حزم أيضا عن(15/383)
أبى هريرة مرفوعا بلفظ (الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها) وأخرجه أيضا ابن ماجة والدارقطني ورواه الحاكم من حديث الحسن عن سمرة مرفوعا بلفظ (إذا كانت الهبة لذى رحم لم يرجع.
ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس.
قال ابن حجر وسنده ضعيف.
وقال ابن الجوزى: أحاديث ابن عمر وأبى هريرة وسمرة ضعيفة وليس منها ما يصح.
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس مرفوعا (من وهب هبة فهو أحق بها حتى يثاب عليها، فان رجع في هبته فهو كالذى يقئ ويأكل منه) فان صحت هذه الاحاديث كانت مخصصة لعموم حديث طاوس الا أنها لم تثبت، كما رأيت من كلام ابن الجوزى وابن حجر وغيرهما من فقهاء المحدثين.
وقد استدل الجمهور بحديث الفصل على أن للاب أن يرجع فيما وهب لابنه، وقال أحمد (لا يحل للواهب أن يرجع في هبته مطلقا) ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور
حديث عائشة عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي مرفوعا (ان أطيب ما أكلتم من كسبكم، وان أولادكم من كسبكم) وفى لفظ (ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئا) رواه أحمد وحديث جابر أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لى مالا وولدا وان أبى يريد أن يجتاح مالى، فقال (أنت ومالك لابيك) رواه ابن ماجه وحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أن أعرابيا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (أن أبى يريد أن يجتاح مالى، فقال أنت ومالك لوالدك، ان أطيب ما أكلتم من كسبكم، وان أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئا) رواه أحمد وأبو داود.
وقال الشافعي رضى الله عنه وأبو حنيفة ومالك: ومالك: ليس للوالد أن يأخذ من مال ولده الا بقدر حاجته، لحديث (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام، الخ.
الحديث متفق عليه وقال النووي في المنهاج وللاب الرجوع في هبة ولده وكذا لسائر الاصول على المشهور، قال الرملي، بالمعنى الاعم الشامل للهديه والصدقه على الراجح،(15/384)
بل يوجد التصريح بذلك في بعض النسخ، ولا يتعين الفور، بل له ذلك متى شاء وإن لم يحكم به حاكم، أو كان الولد صغيرا فقيرا مخالفا دينا للخبر وساقه.
واختص بذلك لانتفاء التهمة فيه، إذ ما طبع عليه من إيثاره لولده على نفسه يقضى بأبه إنما رجع لحاجة أو مصلحة، ويكره الرجوع من غير عذر، فإن وجد ككون الولد عاقا، أو يصرفه في معصية أنذره به فإن أصر لم يكره.
وبحث الاسنوى ندبه في العاصى وكراهته في العاق إن زاد عقوقه وندبه ان أزاله وإباحته إن لم يفد شيئا، والاذرعى ذهب إلى عدم كراهته إن احتاج
الاب لنفقة أو دين، بل ندبه حيث كان الولد غير محتاج له، ووجوبه في العاصى إن غلب على الظن تعينه طريقا إلى كفه عن المعصية، ويمتنع الرجوع كما بحثه البلقينى في صدقة واجبة كنذر وزكاة وكفارة، وكذا في لحم اضحية تطوع، لانه انما يرجع ليستقل بالتصرف وهو ممتنع هنا.
وكذا له الرجوع لسائر الاصول وان علوا أو سفلوا على المشهور، وأفهم كلامه اختصاص الرجوع بالواهب فلا يجوز ذلك لابيه لو مات ولم يرثه فرعه الموهوب له لمانع قام به وورثه.
جده، لان الحقوق لا تورث وحدها انما تورث بتبعية المال وهو لا يرثه.
ولا يملك الوالد الرجوع الا إذا كانت باقيه في ملك الابن، فان فان خرجت عن ملكه لم يكن له الرجوع فيها لانه ابطال لغير ملك الابن فإن عادت إليه بسبب جديد كبيع أو ارث أو وصية لم يملك الرجوع أيضا لان ملكها لم يستفده من جهة ابيه، أما ان عادت بفسخ أو اقالة فله الرجوع على أحد الوجهين.
(فرع)
إذا تداعى رجلان نسب مولود ووهب له كل منهما مالا فليس لواحد منهما أن يرجع في هبته لان نسبه لم يثبت لواحد منهما، أما إذا لحق بأحدهما ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لثبوت البنوة
(والثانى)
لا يجوز لانه لم يكن ثبت له الرجوع في حال العقد والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان وهب شيئا لمن هو دونه لم يلزمه أن يثيبه بعوض، لان(15/385)
القصد من هبته الصلة فلم تجب المكافأة فيه بعوض كالصدقه.
وان وهب لمن هو مثله لم يلزمه أيضا أن يثيبه، لان القصد من اكتساب المحبة وتأكيد الصداقه، وان وهب لمن هو أعلى منه ففيه قولان، قال في القديم: لم يلزمه أن
يثيبه عليه بعوض، لان العرف في هبة الادنى للاعلى أن يلتمس به العوض فيصير ذلك كالمشروط.
وقال في الجديد: لا يجب لانه تمليك بغير عوض فلا يوجب المكافأة بعوض كهبة انظير للنظير فان قلنا: لا يجب فشرط فيه ثوابا معلوما ففيه قولان
(أحدهما)
يصح لانه تمليك مال بمال فجاز كالبيع، فعلى هذا يكون كبيع بلفظ الهبة في الربا والخيار وجميع أحكامه.
(والثانى)
أنه باطل، لانه عقد لا يقتضى العوض فبطل شرط العوض كالرهن، فعى هذا حكمه حكم البيع الفاسد في جميع أحكامه، وان شرط فيه ثوابا مجهولا بطل قولا واحدا لانه شرط العوض، ولانه شرط عوضا مجهولا وان قلنا انه يجب العوض ففى قدره ثلاثة أقوال (أحدها) انه يلزمه أنه يعطيه إلى أن يرضى، لما روى ابن عباس رضى الله عنه (أن أعرابيا وهب للنبى صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها.
قال أرضيت قال لا، فزاده وقال أرضيت؟ فقال نعم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد هممت أن لا أتهب الا من قرشي أو أنصارى أو ثقفي)
(والثانى)
يلزمه قدر قيمته لانه عقد يوجب العوض، فإذا لم يكن مسمى وجب عوض المثل كالنكاح.
(والثالث) يلزمه ما جرت العادة في ثواب مثله، لان العوض وجب بالعرف فوجب مقداره في العرف، فان قلنا انه يجب العوض فلم يعطه ثبت له الرجوع، فان تلفت العين رجع بقيمتها، لان كل عين ثبت له الرجوع بها إذا تلفت وجب الرجوع إلى بدلها كالمبيع.
ومن أصحابنا من قال لا يجب لان حق الواهب في العين، وان نقصت العين رجع فيها، وهل يرجع بأرش ما نقص؟ فيه وجهان كالوجهين في رد القيمه إذا تلفت.
وان شرط عوضا مجهولا لم تبطل، لانه شرط ما يقتضيه العقد، لان العقد(15/386)
على هذا القول يقتضى عوضا مجهولا، وإن لم يدفع إليه العوض وتلف الموهوب ضمن العوض بلا خلاف، وإن شرط عوضا معلوما ففيه قولان
(أحدهما)
أن العقد يبطل، لان العقد يقتضى عوضا غير مقدر فبطل بالتقدير
(والثانى)
يصح لانه إذا صح بعوض مجهول فلان يصح بعوض معلوم أولى
(فصل)
وإن اختلف الواهب والموهوب له، فقال الواهب وهبتك ببدل وقال الموهوب له: وهبتني على غير بدل.
ففيه وجهان، أحدهما أن القول قول الواهب، لان لم يقر لخروج الشئ من ملكه إلا على بدل.
والثانى أن القول قول الموهوت له، لان الواهب أقر له بالهبة وادعى بدلا الاصل عدمه.
(الشرح) حديث ابن عباس رواه أحمد وابن حبان.
وقال الهيثمى: رجال أحمد رجال الصحيح، وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبى هريرة بنحوه، وطوله الترمذي ورواه من وجه آخر، وبين أن الثواب كان ست بكرات، وكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم.
وقد روى أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي من حَدِيثُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ الله صلى لله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) أي يعطى المهدى بدلها.
والمراد بالثواب المجازات وأقله ما يساوى قيمة الهداية، ولفظ ابن أبى شيبة ويثيب ما هو خير منها.
وقد أعل حديث عائشة بالارسال.
قال البخاري: لم يذكر وكيع ومحاضر عن هشام عن أبيه عن جده عن عائشة، وقد استدل بعض المالكية به على وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدى وكانت ممن مثله يطلب الثواب، كالفقير للغنى بخلاف ما يهبه الاعلى للادنى
ووجه الدلالة منه مواظبته صلى الله عليه وسلم، ومن حيث المعنى أن الذى أهدى قصد أن يعطى أكثر مما أهدى، فلا أقل من أن يعوض بنظير هديته، وبه قال الشافعي في القديم، ويجاب بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب، ولو وقعت المواهبه كما تقرر في الاصول وذهبت الحنفية والشافعي في الجديد أن الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لانها بيع(15/387)
مجهول، ولان موضع الهبة التبرع.
وفى رواية الفصل (إلا من قرشي الخ) وفى رواية أبى داود (وإيم الله لا أقبل هدية بعد يومى هذا من أحد إلا أن يكون مهاجريا أو قرشيا أو أنصاريا أو دوسيا أو ثقفيا) وسبب همه صلى الله عليه وسلم بذلك ما رواه الترمذي من حديث أبى هريرة قال (أهدى رجل من فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة من إبله فعوضه منها بعض العوض فتسخطه، فسمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ على المنبر (إن رجالا من العرب يهدى أحدهم الهدية فأعوضه عنها بقدر ما عندي فيظل يسخط على) الحديث.
وقد كان ابن رسلان يحكى أن بعض أهل العلم والفضل يمتنع هو وأصحابه من قبول الهدية من أحد أصلا لا من صديق ولا من قريب ولا غيرهما.
وذلك لفساد النيات في هذا الزمان.
أما أحكام الفصل فقد قال النووي في المنهاج: ولا رجوع لغير الاصول في هبة مقيدة بنفى الثواب.
ومتى وهب مطلقا فلا ثواب إن وهب لدونه وكذا لا على منه في الاظهر.
قال في النهاية: كما لو أعاره داره إلحاقا للاعيان بالمنافع.
ولان العادة ليس لها قوة الشرط في المعارضات
(والثانى)
يجب الثواب لا طراد العادة بذلك، وكذلك لا ثواب له وإن نواه إن وهب لنظيره على المذهب، لان القصد من مثله الصلة وتأكد الصداقه
والطريق الثاني: طرد القولين السابقين، والهدية في ذلك كالهبه كما قاله النووي تفقها ونقله في الكفايه عن تصريح البندنيجى ومثل ذلك الصدقة.
وان اختار الاذرعى دليلا أن العادة متى اقتضت الثواب وجب هو أو رد الهديه والاوجه كما بحثه أيضا أن التردد ما إذا لم يظهر حالة الاهداء قرينة حاليه أو لفظيه دالة على طلب الثواب، والا وجب هو أو الرد لا محالة ولو قال.
وهبتك ببدل.
فقال بل بلا بدل، صدق المتهب بيمينه، لان الاصل عدم البدل.
ولو أهدى له شيئا على أن يقضى له حاجة فلم يفعل لزمه رده ان بقى والا فبدله كما قاله الاصطخرى، فإن كان فعلها حل، أي وإن تعين عليه تخليصه بناء على الاصح أنه يجوز أخذ العوض على الواجب إذا كان فيه كلفة، خلافا لما يوهمه كلام الاذرعى وغيره هنا(15/388)
فإن وجب الثواب على مقابل المذهب أو على البحث المار لتلف الهديه أو عدم إرادة المتهب ردها فهو قيمة الموهوب، أي قدرها يوم قبضه، ولو مثليا في الاصح، فلا يتعين للثواب جنس من الاموال بل الخيرة فيه للمتهب، والثانى يلزمه ما يعد ثوابا لمثله عادة، وقيل إلى أن يرضى ولو بإضعاف قيمته، فإن قلنا بوجوب إنابته ولم يثبه هو ولا غيره فله الرجوع في هبته ان بقيت وبدلها ان تلفت ولو وهب بشرط ثواب معلوم عليه، كوهبتك هذا على أن تثيبني كذا فقبل فالاظهر صحة العقد نظرا للمعنى إذ هو معاوضة بمال معلوم نصح، كما لو قال بعتك، والثانى بطلانه نظرا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضى التبرع، ومن ثم يكون بيعا على الصحيح، فيجرى فيه عقب العقد أحكامه كالخيارين كما مر بما فيه، والشفعة وعدم توقف الملك على القبض، والثانى يكون هبه نظرا للفظ فلا تلزم قبل القبض أو بشرط ثواب مجهول فالمذهب بطلانه لتعذر صحته بيعا
لجهالة العوض، وهبه لذكر الثواب بناء على الاصح أنها لا تقتضيه، وقيل تصح هبة بناء على أنها تقتضيه ولو بعث هدية لم يعده بالباء لجواز الامرين كما قاله أبو على خلافا لتصويب الحريري تعين تعديته بها في ظرف، أو وهب شيئا في ظرف من غير بعث، فإن لم يجر العادة برده، كقوصرة تمر (وهى الوعاء الذى يكنز فيه من نحو خوص ولا يسمى بذلك الا وهو فيه، والا فزنبيل) وكعلبة حلوى فهو هدية أو هبه أيضا تحكيما للعرف المطرد وكتاب الرسالة يملكه الكتوب إليه ان لم تدل قرينة على عودة، قاله المتولي وهو أوجه من قول غيره أنه باق على ملك الكاتب ويملك المكتوب له الانتفاع به على وجه الاباحة، والا ان اعتيد رده أو اضطربت العادة كما اقتضاه ابن المقرى فلا يكون هديه، بل أمانه في يده كالوديعه، ويحرم استعماله لانه انتفاع بملك غيره بغير اذنه الا في أكل الهديه منه ان اقتضته العادة عملا بها، ويكون عاريه حينئذ ويسن رد الوعاء حالا، قال الاذرعى: وهذا في مأكول، أما غيره فيختلف رد ظرفه باختلاف عادة النواحى، فيتجه في كل ناحية بعرفهم وفى كل قوم عرفهم باختلاف طبقاتهم، ولو ختن ولده وحملت له هدايا ملكها الاب.(15/389)
وقضية ذلك أن ما جرت به عادة بعض أهل البلاد من وضع طاسة (صينية) بين يدى صاحب الفرح ليضع الناس فيها دراهم: وفى الاسكندرية رأيت الناس يكتبون قائمة بأسماء الواهبين ومقدار ما دفعوه في الطاسة وهم حريصون على رد ما يأخذونه في أفراح من أعطوهم وربما زاد بعضهم على ما أخذ، وفى القاهرة تفشو هذه العادة إلا أن الحرص على الرد أقل من الاسكندرية.
قال الرملي: ثم يقسم على المزين ونحوه يجرى في ذلك التفصيل، فإن قصد
المزين وحده أو مع نظر انه المعاونين له عمل بالقصد، وان أطلق كان ملكا لصاحب الفرح يعطيه لمن يشاء، وبهذا يعلم عدم اعتبار العرف هنا، أما مع قصد خلافه فظاهر، وأما مع الاطلاق فلان حمله على من ذكر من الاب والخادم وصاحب الفرح نظرا للغالب أن كلا من هؤلاء هو المقصود هو عرف الشرع، فيقدم على العرف المخالف له بخلاف مالا عرف للشرع فيه فيحكم بالعادة فيه.
قال الشافعي رضى الله عنه: إذا وهب الرجل شقا من دار فقبضه ثم عوضه الموهوب له شيئا فقبضه الواهب سئل الواهب، فإن قال: وهبتها للثواب كان فيها شفعة، وإن قال: وهبتها لغير الثواب لم يكن فيها شفعة، وكانت المكافأة كابتداء الهبة، وهذا كله في قول من قال: للواهب الثواب إذا قال أردته فأما من قال: لا ثواب للواهب إن لم يشترطه في الهبة فليس له الرجوع في شئ وهبه ولا الثواب منه، قال الربيع وفيه قول آخر، وإذا وهب واشترط الثواب فالهبة باطلة من قبل أنه اشترط عوضا مجهولا، وإذا وهب لغير الثواب وقبضه الموهوب فليس له أن يرجع في شئ وهبه، وهو معنى قول الشافعي: وإذا وهب الرجل للرجل هبه فلم يقبضها الموهبة له حتى مات، فإن أبا حنيفة كا يقول: الهبة في هذا باطل لا تجوز وبه يأخذ، ولا يكون له وصيه إلا أن يكون ذلك في ذكر وصيه، وكان ابن ليلى يقول: هي جائزة من الثلث اه.
(فرع)
إذا اختلف الواهب ولموهوب فقال الواهب: ببدل، وقال الموهوب له على غير بدل فوجهان.
أحدهما: القول قول الواهب لانه منكر لخروج الشئ من ملكه بغير بدل(15/390)
والثانى: القول قول الموهوب، لان المقر بالهبة والاصل فيها عدم البدل.
وقد ادعاه الواهب وأنكره الموهوب فالقول قول المنكر.
ولو وهبه وأقبضه
ومات ادعاه الوارث صدوره في المرض، وادعى المتهب كونه في الصحة صدق المتهب بيمينه، ولو أقاما بينتين قدمت بينة الوارث لان معها زيادة علم، ثم محل ما تقرر إن كان الولد حرا، ولو أبرأه من دين له عليه لم يملك الرجوع سواء أقلنا: إنه تمليك أم إسقاط، إذ لا بقاء للدين فأشبه ما لو وهبه شيئا فتلف، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى
باب العمرى والرقبى العمرى هو أن يقول: اعمرتك هذه الدار حياتك، أو جعلتها لك عمرك وفيها ثلاث مسائل (إحداها) أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك ولعقبك بعدك، فهذه عطية صحيحة، تصح بالايجاب والقبول، ويملك فيها بالقبض، والدليل عليه ما رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذى أعطيها لا ترجع إلى الذى أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، والثانية أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، ولم يشرط شيئا ففيه قولان.
قال في القديم هو باطل لانه تمليك عين قدر بمدة فأشبه إذا قال أعمرتك سنة أو أعمرتك حياة زيد.
وقال في الجديد: هو عطية صحيحة، ويكون للمعمر في حياته ولورثته بعده وهو الصحيح، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أعمر عمرى حياته فهى له ولعقبه من بعده يرثها من يرثه من بعده) ولان الاملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك، وتنتقل إلى الورثة، فلم يكن ما جعله له في حياته منافيا لحكم الاملاك (والثالثة) أن يقول: أعمرتك حياتك، فإن مت عادت إلى إن كنت حيا وإلى ورثتي إن كنت ميتا فهى كالمسألة الثانية، فتكون على قولين.(15/391)
أحدهما: تبطل.
والثانى تصح لانه شرط أن تعود إليه بعد ما زال ملكه أو إلى وارثه، وشرطه بعد زوال الملك لا يؤثر في حق المعمر فيصير وجوده كعدمه.
(فصل)
وأما الرقبى فهو أن يقول: أرقبتك هذه الدار أو دارى لك رقبى ومعناه وهبت لك وكل واحد منا يرقب صاحب، فإن مت قبلى عادت إلى، وان مت قبلك فهى لك، فتكون كالمسألة الثالثة من العمرى، وقد بينا أن الثالثة كالثانية فتكون على قولين، وقال المزني: الرقبى أن يجعلها لآخرهما موتا وهذا خطأ، لما روى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ من (أعمر عمرى أو أرقب رقبى فهى للمعمر يرثها من يرثه) .
(فصل)
ومن وجب له على رجل دين جاز له أن يبرئه من غير رضاه، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز الا بقبول من عليه الدين لانه تبرع يفتقر إلى تعيين المتبرع عليه فافتقر إلى قبوله كالوصية والهبة، ولان فيه التزاما منه فلم يملك من غير قبوله كالهبه، والمذهب الاول، لانه اسقاط حق ليس فيه تمليك مال فلم يعتبر فيه القبول كالعتق والطلاق، والعفو عن الشفعة والقصاص، ولا يصح الابراء من دين مجهول لانه ازالة ملك لا يجوز تعليقه على الشرط فلم يجز مع الجهالة كالبيع والهبة.
(الشرح) حديثا جابر أخرجهما أحمد والبخاري ومسلم بلفظ (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعمرى لمن وهبت له) وفى لفظ عند أحمد ومسلم (قال: أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فمن أعمر عمرى فهى الذى أعمر حيا وميتا ولعقبه) وفى رواية عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي (العمرى جائزة لاهلها والرقبى جائز لاهلها) .
وفى رواية لاحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه (من أعمر رجلا عمرى له
ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها، وهى لمن أعمر وعقبه) وفى رواية لابي داود والنسائي والترمذي وصححه (ايما رجل اعمل عمرى له ولعقبه فإنها للذى يعطاها لا ترجع إلى من أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) وفى رواية عند(15/392)
أحمد ومسلم (إنما العمرى التى أجازها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يقول هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها) وفى رواية عند النسائي (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بالعمرى أن يهب الرجل للرجل ولعقبه الهبة ويستثنى إن حدث بك حدث ولعقبك فهى إلى وإلى عقبى إنها لمن أعطيها ولعقبه) ورواه الشافعي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن حجر المدرى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ العمرى للوارث، ورواه عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر مرفوعا (لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو سبيل الميراث) .
أما حديث عبد الله بن الزبير فقد رأيت نظيره عن أبى هريرة وزيد بن ثابت وفيه النهى عن الرقبى (لا ترقبوا.
من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث) وفى لفظ (الرقبى جائزة) وهى عند أحمد وابى داود والنسائي، وفى لفظ عند احمد (جعل الرقبى للوارث) ورواه أحمد والنسائي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته) .
قال الربيع: سألت الشافعي عمن أعمر عمرى له ولعقبه فقال: هي للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها فقلت: ما الحجة في ذلك، قال: السنة ثابتة من حديث الناس، وحديث مالك رضى الله عنه: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن جابر مر فوعا (أيما رجل أعمر عمرى له
ولعقبه فإنها للذى يعطاها لا ترجع إلى الذى أعطاها لانه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) .
قال الشافعي: وبهذا نأخذ ويأخذ عامة أهل العلم في جميع الامصار بغير المدينة وأكابر أهل المدينة.
وقد روى هذا مع جابر زيد بن ثابت عنه صلى الله عليه وسلم فقلت للشافعي فإنا نخالف هذا فقال تخالفونه وأنتم تروونه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت.
إن حجتنا فيه أن مالكا قال.
أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم أنه سمع مكحولا الدمشقي يسأل القاسم بن محمد عن العمرى وما يقول الناس فيها فقال له القاسم ما أدركت إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا(15/393)
إلى أن قا الشافعي بعد حوار وحجاج.
وكذلك علمنا قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي العمرى بخبر ابن شهاب عن أبى سلمة عن جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قبلنا خبر الصادقين فمن روى هَذَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرجح مما روى هذا عن القاسم لا يشك عالم أن مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى أن يقال به مما قاله ناس بعده، قد يمكن فيهم ان لا يكونوا سمعوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بلغهم عنه شئ، وانهم أناس لا نعرفهم، فلان قال قائل لا يقول القاسم قال الناس إلا لجماعة مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أو من أهل العلم لا يجهلون للنبي صلى الله عليه وسلم سنة ولا يجتمعون أبدا من جهة الرأي ولا يجتمعون الا من جهة السنة.
(قوله) العمرى بضم وسكون الميم مع القصر.
قال في الفتح: وحكى ضم الميم مع ضم أوله.
وحكى فتح أوله مع السكون وهى مأخوذة من العمر وهو الحياة سميت بذلك لانهم كانوا في الجاهلية يعطى الرجل الرجل الدار ويقول له أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك فقيل لها عمرى لذلك.
والرقبى بوزنها مأخوذة من الرقبة، لان منهما يرقب الاخر متى بموت لترجع إليه، وكذا ورثته يقومون مقامه.
هذا أصلها لغة قال ابن حجر: ذهب الجمهور إلى أن العمرى إذا وقعت كانت ملكا للآخر، ولا ترجع إلى الاول الا إذا صرح باشتراط ذلك، والى أنها صحيحة جائزة.
وحكى الطبري عن بعض الناس والماوردي عن داود وطائفة وصاحب البحر عن قوم من الفقهاء أنها غير مشروعة، ثم اختلف القائلون بصحتها إلى ما يتوجه التمليك، فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقباء كسائر الهبات حتى لو كان المعمر عبدا فأعتقه الموهوب له نفذ، بخلاف الواهب أو يتوجه إلى المنفعة دون الرقبة، وهو قول مالك والشافعي في القديم، وهل يسلك بها مسلك العارية أو الوقف؟ روايتان عند المالكية، وعند الحنفية التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة، وفى الرقبى إلى المنفعة، وعنهم أنها باطلة.(15/394)
وقد حصل من مجموع الروايات ثلاثة أحوال (الاول) أن يقول أعمرتكها ويطلق.
فهذا تصريح بأنها للموهوب له، وحكمها حكم المؤبدة لا ترجع إلى الواهب.
وبذلك قالت الحنفية.
لان المطلقة عندهم حكمها حكم المؤبدة.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ والجمهور.
وله قول آخر أنها تكون عارية ترجع بعد الموت إلى الملك.
وقد قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن المطلقة للمعمر والوثته من بعده كما تفيده الاحاديث التى مضى ذكرها الحال الثاني: أن يقول هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إلى فهذه عارية مؤقتة ترجح إلى المعير عند موت المعمر.
وبه قال أكثر العلماء، ورجحة جماعة من أصحابنا، والاصح عند أكثرهم لا ترجح إلى الواهب.
واحتجوا بأنه
شرط فاسد فيلغى.
واحتجوا بحديث جابر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الانصاري الذى أعطى أمه الحديقة حياتها أن لا ترجع إليه، بل تكون لورثتها ونصه: أن رجلا من الانصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت فجاء إخوته فقالوا نحن فيه شرع سواء.
قال فأبى، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقسمها بينهم ميراثا) رواه أحمد ويؤيده حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى في العمرى مع الاستثناء بأنها لمن أعطيها، ويعارض ذلك ما في حديث جابر أيضا بلفظ (فأما إذا قلت: هي لك ما عشت فانها ترجع إلى صاحبها) ولكنه قال معمر كان الزهري يفتى به الحال الثالث: أن يقول هي لك ولعقبك من بعدك، أو يأتي بلفظ يشعر بالتأبيد، فهذا حكمها حكم الهبة عند الجمهور: وروى عن مالك أنه يكون حكمها حكم الوقف إذا انقرض المعمر وعقبه رجعت إلى الواهب، والاحاديث القاضية بأنها ملك للموهوب ولسقبه ترد عليه وقد ورد عن على رضى الله عنه أن العمرى والرقبى سواء.
وقال طاوس: من أرقب شيئا فهو على سبيل الميراث.
وقال الزهري: الرقبى وصية يعنى إذا أنا فهذالك وقال الحسن(15/395)
ومالك وأبو حنيفة: الرقبى باطلة، لما روى أنه صلى الله عليه وسلم أجاز العمرى وأبطل الرقبى.
وقال أحمد: هذا حديث لا نعرفه، ولا نسلم أن معناها ما ذكروه.
والخلاصة: إذا شرط في العمرى أنها للمعمر وعقبه فهذا تأكيد لحكمها وتكون للمعمر وورثته، وهذا قول جميع القائلين بها، وإذا أطلقها فهى للمعمر وورثته أيضا
لانها تمليك للرقبة فأشبهت الهبة، شرط أنك إذا مت فهى لى، فعن أحمد في احدى الروايتين عنه والشافعي في القديم والقاسم بن محمد وزيد بن قسط والزهرى ومالك وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن أبى ذئب وأبى ثور وداود: صحة العقد والشرط، ومتى مات المعمر رجعت إلى المعمر وعن أحمد في الرواية الاخرى عنه، وهو ظاهر مذهبه، والشافعي في الجديد وأبى حنيفة أنها تكون للمعمر إذا ثبت هذا فان العمرى يصح في العقار وغيره من الحيوان والثياب لانها نوع هبه فصحت في ذلك كسائر الهبات ومن ثم إذا قال: سكنى هذاه الدار لك عمرك أو اسكنها عمرك أو نحو ذاك فليس ذلك بعقد لازم لانه في التحقيق هبة المنافع، ولمنافع انما تستوفى بمضي الزمان شيئا فشيئا، فلا تلزم الا في قدر ما قبضه منها واستوفاه بالسكنى، وللمسكن الرجوع متى شاء، وأيهما مات بطلت الاباحه، وبهذا قال أكثر العلماء وجماعة أهل الفتوى، ومنهم الشعبى والثوري والنخعي والشافعي واسحاق وأحمد وأصحاب الرأى، وروى معنى ذلك عن حفصه رضى الله عنها، والله تعالى أعلم بالصواب(15/396)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الوصايا
من ثبتت له الخلافة على الامة جاز له أن يوصى بها إلى من يصلح لها، لان أبا بكر رضى الله عنه وصى إلى عمر ووصى عمر رضى الله عنه إلى أهل الشورى رضى الله عنهم ورضيت الصحابة رضى الله عنهم بذلك
(فصل)
ومن ثبتت له الولاية في مال ولده ولم يكن له ولى بعده جاز له أن يوصى إلى من ينظر في ماله لما روى سفيان بن عيينة رضى الله عنه عن هشام بن
عروة قال: أوصى إلى الزبير تسعة مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم عثمان أموالهم والمقداد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود رضى الله عنهم فكان يحفظ عليهم أموالهم وينفق على أبنائهم من ماله، وان كان له جد لم يجز أن يوصى إلى غيره لان ولاية الجد مستحقة بالشرع فلا يجوز نقلها عنه بالوصية (الشرح) الوصايا جمع وصية كعطايا وعطية مأخودة من قولهم: وصيت الشئ أصيبه من باب وعد وصلته، ووصيت إلى فلان توصية وأوصيت إليه ايصاء، وفى السبعة (فمن خاف من موص) بالتخفيف والتثقيل، والاسم الوصاية بالكسر والفتح لغة، وهو وصى فعيل بمعنى مفعول والجمع الاوصياء، وأوصيت إليه بمال جعلته له، وأوصيته عليه وهذا المعنى لا يقتضى الايجاب، وأوصيته بالصلاة أمرته بها.
قال تعالى (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) وقوله (يوصيكم الله في أولادكم.
وفى حديث خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى بتقوى الله، أي أمر فيعم الامر بأى لفظ كان، وهى في الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت والوصية في الخلافة أن يعهد لمن يصلح لها من بعده بتوليها.
والوصية بالمال التبرع به بعد الموت، والاصل فيها الكتاب والسنة والاجماع.
وأما الزبير فإنه ابن عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين مات رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عنهم راض، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم على حراء فتحرك فقال اسكن حراء فما عليك الا نبى أو صديق أو شهيد، وكان عليه أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير.(15/397)
وخبر ابن عيينة الذى ساقه المصنف رويناه في مسند أحمد عن سفيان بن عيينت عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أوصى إلى الزبير سبعة من الصحابة،
منهم عثمان وابن مسعود وعبد الرحمن، فكان ينفق على الورثة من ماله، ويحفظ أموالهم ومناقب الزبير أجل من أن تحصى، ساق الذهبي بعضها في سير أعلام النبلاء.
قال تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية) إلخ.
الاية، قال مجاهد: الخير في القران كله المال (وانه لحب الخير لشديد) (إنى احببت حب الخير عن ذكر ربى) (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) وقال شعيب (إنى أراكم بخير) أي بغنى وأوجه ما قيل في الخير في القرآن ما قاله الشافعي رضى الله عنه: الخير كلمة يراد ما أريد بها بالمخاطبة بها.
قال تعالى (أولئك هم خير البرية) فقلنا: إنهم خير البرية بالايمان وعمل الصالحات لا بالمال، وقال تعالى (أولئك لهم خير) فقلنا: ان الخير المنفعة بالاجر لا ان لهم مالا، وقال (ان ترك خيرا الوصية) فقلنا: ان ترك مالا، لان المال هو المتروك.
وفى الوصية للاقربين ثلاثة تأويلات.
(أحدهما)
انهم الاولاد الذين لا يسقطون في الميراث دون غيرهم من الاقارب الذين يسقطون
(والثانى)
انهم الورثة من الاقارب كلهم.
(والثالث) انهم كل الاقارب من وارث وغير وارث، فدل ذلك على وجوب الوصية للوالدين والاقربين حقا واجبا وفرضا لازما، فلما نزلت آية المواريث فسخ فيها الوصية للوالدين وكل وارث وبقى فرض الوصية لغير الورثة من الاقربين على حاله، وهو قول طاوس وقتادة والحسن البصري وجابر بن زيد.
واختلف في القدر الذى يجب عليه ان يوصى منه على أقاويل.
(أحدها) انه الف درهم، وهو قول على بن ابى طالب
(والثانى)
خمسمائة وهذا قول النخعي (والثالث) تجب في قليل المال وكثيره، وهذا قول الزهري(15/398)
فهدا قول من جعل حكم الآية ثابتا، وذهب الفقهاء وجمهور أهل التفسير إلى نسخها بالمواريث، واختلفوا بأى آية نسخت، فقال ابن عباس نسخت بآية الوصايا بقوله تعالى (للرجال نصيب مما ترك) الخر وقال آخرون نسخت بقوله تعالى (وأولو الارحام بعضهم اولى ببعض) الآية.
والوصية على ثلاثة اقسام قسم لا يجوز وقسم يجوز ولا يجب وقسم مختلف في وجوبه فما التى لا يجوز فالوصية للوارث لحديث شر حبيل بن مسلم عن ابى امامه سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (ان الله تعالى قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصيه لوارث) وأما التى تجوز ولا تجب فالوصية للاجانب وهذا مجمع عليه، وقد أوصى البراء بن معرور للنبى صلى الله عليه وسلم بثلث ماله فقبله ثم رده على ورثته.
واما التى اختلف فيها فالوصية للاقارب، وذهب اهل الظاهر مع من قدمنا ذكره في تفسير الآيه إلى وجوبها للاقارب تعالقا بظاهر قوله تعالى (الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين) وبما ورد عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ مات من غير وصية مات ميتة جاهليه، والدليل على انها غير واجبه للاقارب والاجانب، ماروى ابن عباس وعائشة وابن ابى اوفى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يوص، وحديث سعد بن ابى وقاص الذى فيه (انك ان تدع ورثتك اغنياء خيرا من ان تدعهم فقراء يتكففون الناس) فاقتصر صلى الله على وسلم في الوصيه على ما جعله خارجا مخرج الجواز لا مخرج الايجاب ثم بين ان غنى الورثة بعده أولى من فقرهم إلى الصدقة، ولان الوصيه لو وجبت لاجبر عليها ولاخذت من ماله عند موته ان امتنع منها كالديون والزكوات.
ولان الوصايا عطايا فأشبهت الهبات، فاما الآية فمنع الوالدين من الوصيه مع تقديم ذكرهما فيه دليل على نسخها.
وأما قوله صلى الله على وسلم من مات من غير وصيه مات ميتة جاهلية، فمحمول على أحد أمرين: أما وجوبها قبل النسخ، واما على من كانت عليه ديون وحقوق لا يوصل إلى أربابها الا بالوصية، فتصير بذكرها وادائها واجبه ويجوز الوصيه بتعيين الناظر في ماله بعد موته، فان كان له أب أو جد لم يجز أن يوصى إلى غره بالنظر، لان ولاية الجد مستحقه بالشرع.(15/399)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ومن ثبت له الولاية في تزويج ابنته لم يجز ان يوصى إلى من يزوجها، وقال أبو ثور: يجوز كما يجوز أن يوصى إلى من ينظر في ماله، وهذا خطأ لما روى ابن عمر قال (زوجنى قدامة بن مظمون ابنة اخيه عثمان بن مظعون فأتى قدامة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: انا عمها ووصى ابيها، وقد زوجتها من عبد الله بن عمر، فقال صلى الله عليه وسلم: انها يتيمة لا تنكح الا بإذنها، ولان ولاية النكاح لها من يستحقها بالشرع فلا يجوز نقلها بالوصية كالوصية بالنظر في المال مع وجود الجد.
(فصل)
ومن عليه حق يدخله النيابة من دين آدمى أو حج أو زكاة أو رد وديعه جاز ان يوصى إلى من يؤدى عنه، لان إذا جاز أن يوصى في حق غيره فلان يجوز في خاصة نفسه أولى.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه أحمد والدارقطني واورده الحافظ ابن حجر في التلخيص وسكت عنه، وقال الهيثمى في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات ويؤخذ من الحديث الذى نسوقه كاملا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل وصية عثمان بن مظعون لاخيه قدامه في ابنته.
قال ابن عمر: توفى عثمان بن مظعون وترك ابنه له من خولة بنت حكيم بن أميه بن حارثه بن الاوقصى وأوصى إلى
اخيه قدامه بن مظعون.
قال عبد الله: وهما خالاى، فخطبت إلى قدامه بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبه يعنى إلى امها فارغبها في المال، فحطت إليه وحطت الجارية إلى هوى أمها فأبتا حتى ارتفع أمرهما إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال قدامة بن مظمون: يارسول الله ابنة أخى أوصى بها إلى فزوجتها ابن عمتها فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة ولكنها امرأة وانما حطت إلى هوى أمها قال: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هي يتيمه ولا تنكح الا بإذنها، قال: فانتزعت والله منى بعد أن ملكتها فزوجوها المغيرة بن شعبة) والحديث(15/400)
دليل على ان الولى لا يجوز له ان يوصى إلى أخ له أو غيره لتزويجها خلافا لابي ثور الذى جعل الوصيه إلى من ينظر في تزويجها كالوصية إلى من ينظر في مالها، والحديث صريح وقول أبى ثور خطأ، ولان استحقاق الولاية في النكاح لا يتأسس بوصيه، وسيأتى تفصيل ذلك في أبواب المناكحات ان شاء الله.
(فرع)
إذا كان عليه دين دنيوى من حقوق الادميين أو دين أخروى من حقوق الله تعالى فانه يجوز له أن يوصى إلى من يتولى الاداء عنه لانه إذا كان يجوز له ان يوصى في اداء حقوق غيره فلان يوصى لمن يؤدى ما يتعلق بخاصة نفسه أولى.
وقال بعض الاصحاب: بوجوب الوصيه في مثل من عليه دين أو عنده وديعه أو عليه واجب يوصى بالخروج منه، فان الله تعالى فرض اداء الامانات، وطريقه في هذا الباب الوصيه فتكون فرضا عليه، وأما الوصية بجزء من ماله فليست بواجبه على أحد في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبى والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأى وغيرهم.
وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن الوصية غير واجبة الا على من عليه حقوق بغير بينة، وأمانه بغير اشهاد الا طائفة شذت فأوجبتها وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
ومن ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة مالك الوصية بثلثا في وجوه البر، لما روى عامر بن سعد عن ابيه قال: مرضت مرضا أشرفت منه على الموت فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعودني فقلت: يارسول الله لى مال كثير وليس يرثنى الا ابنتى أفأتصدق بمالى كله قال: لا، قلت: اتصدق بثلثي مالى قال: لا، قلت أتصدق بالشطر قال: لا، قلت أتصدق بالثلث قال: الثلث، والثلث كثير انك أن تترك ورثتك اغنياء خير من ان تتركهم عالة يتكففون الناس ولا يجب ذلك لقوله تعالى (وأولوا الارحام بعضمهم اولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين، الا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) وفسر بالوصية، فجعل ذلك(15/401)
إليهم فد على انها لا تجب، ولانه عطيه لا تلزم في حياته فلم تلزم الوصية به قياسا على ما زاد على الثلث.
(فصل)
وان كانت ورثته فقراء فالمستحب ان لا يستوفى الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم (الثلث كثير انك إن تترك وثتك اغنياء خير من ان تتركهم عالة يتكففون الناس) فاستكثر الثلث وكره أن يترك ورثته فقراء فدل على أن المستحب أن لا يستوفى الثلث.
وعن على رضى الله عنه أنه قال (لان أوصى بالخمس أحب إلى من أن أوصى بالثلث) وإن كان الورثة أغنياء فالمستحب أن يستوفى الثلث لانه لما كره الثلث إذا كانوا فقراء دل على أنه يستحب إذا كانوا أغنياء أن يستوفيه.
(الشرح) حديث عامر بن سعد بن أبى وقاص رواه الستة وأحمد في مسنده
بلفظ (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بى فقلت: يا رسول الله إنى قد بلغ بى من الوجع ما ترى وانا ذو مال ولا يرثنى الا ابتة لى افاتصدق بثلثي مالى؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا، قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير أو كبير، انك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) .
وفى رواية أكثرهم (جاءني يعودني في حجة الوداع) وفى لفظ (عَادَنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مرضى فقال: أوصيت؟ قلت: نعم، قال: بكم قلت: بمالى كله في سبيل الله، قال: فما تركت لولدك؟ قلت: هم أغنياء، قال: أوصى بالعشر، فما زال يقول واقول حتى قال: أوصى بالثلث، والثلث كثير أو كبير) رواه النسائي وأحمد بمعناه الا أنه قال (قلت: نعم جعلت مالى كله في الفقراء والمساكين وابن السبيل) ورواه الشافعي عن سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه بلفظ: مرضت عام الفتح، وساق الحديث.
أما قوله تعالى (واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض) الآية.
قيل انه أراد بالمؤمنين الانصار والمهاجرين قريضا، وفيه قولان
(أحدهما)
انه ناسخ للتوارث بالهجرة.
حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل(15/402)
في سورة الانفال (والذين امنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) فتوارث المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الاعرابي المسلم من قريبه المسلم شيئا حتى يهاجر، ثم نسخ ذلك.
وفى هذه الآية (وأولوا الارحام الخ) (الثاني) ان ذلك ناسخ لتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، روى هشام ابن عروة عن ابيه عن جده واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وذلك انا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الانصار
نعم الاخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر خارجه بن زيد.
وآخيت انا كعب بن مالك، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله، فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورثه غيرى حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا موارثنا وثبت عن عروة ان النبي صلى الله عليه وسلم اخى بين الزبير وبين كعب بن مالك فارثت كعب يوم أحد، فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته، فلو مات يومئذ كعب عن الضح والريح لورثه الزبير، فانزل الله تعالى الآية، فبين تعالى أن القرابة أولى من الحلف، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة قال ابن العربي: وأولوا الارحام بالاجماع لان ذلك يوجب تخصيصا ببعض المؤمنين، ولا خلاف في عمومها، وهذا حل اشكالها وأما أثر على كرم الله وجهه فانه يفيد استحباب النقص عن الثلث وهو من فقهه الذى لا يخلو من أثر عن النبي صلى اله عليه وسلم، وبهذا الفقه أخذ الشافعي رضى الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم (الثلث والثلث كثير) ولحديث ابن عباس قال (لو ان الناس غضوا من الثلث إلى الربع فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الثلث والثلث كثير) رواه أحمد والبخاري ومسلم، وقد اخذ ذلك من وصفه صلى الله عليه وسلم للثلث بالكثرة، ويبدو ان (أو) التى جاءت بين كثير وكبير جاءت من الراوى بعد عهد الترقيم لان ورود (كبير) هكذا بغير اعجام تقرأ كبير وتقرأ كثير فخروجا من حرج أن اللفظ النبوى أحدهما وضع اللفظان مفصولين بأو.
اما الاحكام: فان كل ما جاز الانتفاع به من مال ومنفعة جازت الوصية به(15/403)
وسواء كان المال عينا أو دينا حاضرا أو غائبا معلوما أو مجهولا مشاعا أو محوزا وتقدر الوصية بالثلث، وليس للوصي الزيادة عليه لحديث سعد (الثلث والثلث
كثير) وان نقص من الثلث جاز، وأولى الامرين به أن يعتبر حال الورثة، فان كانوا فقراء كان النقصان من الثلث أولى به من استيعاب الثلث لقول على كرم الله وجهه (لان أوصى بالخمس أحب إلى من أن أوصى بالثلث) وقد أورده الماوردى في الحاوى الكبير عن رواية أخرى (لان أوصى بالسدس أحب إلى من أن أوصى بالربع، وبالربع أحب إلى من الثلث) وان كان ورثته أغنياء وكان في ماله سعة فاستبقاء الثلث أولى به.
وقد قال عمر رضى الله عنه: الثلث وسط، لا بخس ولا شطط.
ولو استوعب الثلث من قليل المال وكثيره، ومع فقر الورثة وغناهم، وصغيرهم وكبيرهم، كانت وصيته ممضاة له.
فأما الزيادة على الثلث فهو ممنوع منها في قليل المال وكثيره، لان النبي صلى الله عليه وسلم منع سعدا من الزيادة عليه، فان وصى بأكثر من الثلث أو بجميع ماله نظرت فان كان له وارث كانت الوصية موقوفة على إجازته ورده.
فان ردها رجعت الوصية إلى الثلث، وان اجازها صحت.
ثم فها قولان
(أحدهما)
ان إجازة الورثة ابتداء عطية منه لا تتم الا بالقبض، وله فيها ما لم يقبض، وان كانت قبل القبض بطلت كالهبات
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وينبغى لمن رأى المريض يجنف في الوصية ان ينهاه لقوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا) قال أهل التفسير: إذا رأى المريض يجنف على ولده أن يقول اتق الله ولا توص بمالك كله، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى سعدا عن الزيادة على الثلث.
(فصل)
والافضل أن يقدم ما يوصى به من البر في حياته لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أفضل؟ قال(15/404)
أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الْفَقْرَ وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قلت لفلان كذا ولفلان كذا، ولانه لا يأمن إذا وصى به أن يفرط به بعد موته فإن اختار أن يوصى فالمستحب ان لا يؤخر الوصية لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (ما حق امرئ مسلم عنده شئ يوصى يبيت ليلتين الا ووصيته مكتوبة عنده) ولانه إذا اخر لم يأمن أن يموت فجاة فتفوته.
(فصل)
وأما من لا يجوز تصرفه في المال - فان كان ممن لا يميز كالمعتوه والمبرسم ومن عاين الموت - لم تصح وصيته لان الوصية تتعلق صحتها بالقول ولا قول لمن لا يميز، ولهذا لا يصح اسلامه ولا توبته فلم تصح وصيته، فان كان صبيا مميزا أو بالغا مبذرا ففيه قولان
(أحدهما)
لا تصح وصيته، لانه تصرف في المال فلم يصح من الصبى والمبذر كالهبة
(والثانى)
تصح، لانه انما منع من التصرف خوفا من اضاعة المال ليس في الوصيه اضاعة المال، لانه ان عاش فهو على ملكه، وان مات لم يحتج إلى غير الثواب، وقد حصل له ذلك بالوصية.
(الشرح) قوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم) الايه.
في هذه الآية وجهان كل وجحه لا يطرد في كل الناس، لان الناس منهم من يصلح لهم ان يكون معنى الآيه ما روى عن سعيد بن جبير: إذا حضر الرجل الوصيه فلا ينبغى ان يقول أوصى بمالك، فان الله تعالى رزاق ولدك، ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك، فذلك قوله تعالى (فليتقوا الله) ومنهم من يصلح له ما قال مقسم وحضرمي: نزلت في عكس هذا، وهو ان يقول للمحتضر من يحضره: امسك
على ورثتك، وابق لولدك، فليس أحد أحق بمالك من أولادك، وينهاه عن الوصيه فيتضرر بذلك ذووا القربى وكل من يستحق ان يوصى له، فقيل لهم، كما تخشون على ذريتكم وتسرون بان يحسن إليهم فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى، واتقوا الله في ضررهم وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث(15/405)
وأحسن ما قيل فيها ما حكاه الشيباني قال: كنا على قسطنطنية في عسكر مسلمة ابن عبد الملك فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمى فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان.
فقلت له: يا أبا بشر، ودى الا يكون لى ولد.
فقال لى: ما عليك، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل الا خرجت أحب أو كره، ولكن ان أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم، ثم تلا الآية.
وقوله (يجنف) من جنف يجنف كسمع يسمع إذا جاز والاسم منه جنف وجانف.
قال الاعشى تجانف عن حجر اليمامة ناقتي
* وما قصدت من أهلها لسوائكا ومنه قوله تعالى (فمن خاف من موص جنفا) قال الشاعر هم المولى وان جنفوا علينا
* وإنا من لقائهم لزور وقال لبيد: إنى امرؤ منعت أرومة عامر
* ضيمي وقد جنفت على خصومى وقال تَعَالَى (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لاثم) أي مائل إليه روى أبو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إنَّ الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار) وترجم النسائي الصلاة على من جنف في وصيته
اخبرنا على بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور - وهو زاذان - عن الحسن ابن سمرة عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ان رجلا اعتق ستة مملوكين له عند موته ولم يكن له مال غيرهم، فلغ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغضب من ذلك وقال (لقد هممت ألا أصلى عليه) ثم دعا مملوكيه فجزاهم ثلاثة اجزاء ثم أقرع بينهم فاعتق اثنين وارق أربعة، واخرجه مسلم بمعناه الا انه قال في آخره وقال قولا شديدا بدل قوله (لقد هممت الا أصلى عليه) قال الماوردى في تأويل قوله تعالى، جنفا أو إثما ثلاثة أقاويل
(أحدهما)
ان الجنف الميل، والاثم أن يأثم في أثرة بعضهم على بعض.
وهذا قول عطاء وابن زيد
(والثانى)
ان الجنف الخطأ والاثم العمد، وهذا قول السدى (والثالث) انه(15/406)
الرجل يوصى لولد بنيه وهو يريد بنيه.
وهذا قول طاوس.
فالاضرار في الوصية ان يوص بأكثر من الثلث، والاضرار في الدين أن يبيع بأقل من ثمن المثل ويشترى بأكثر منه.
وقد روى عكرمة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الاضرار في الوصية من الكبائر، وقال تعالى (ووصى بها ابراهيم بنيه) الآيه والافضل أن يقدم ما يوصى به حال حياته، لحديث أبى هريرة الذى ساقه المصنف قَالَ (سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي الصدقة افضل؟ قال: ان تتصدق وانت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قلت لفلان كذا ولفلان كذا) وقد أخرج هذا الحديث الشيخان وأصحاب السنن الا الترمذي، ورواه أحمد في مسنده ولفظه في كثرها (جاء رجل فقال يارسول الله: أي الصدقة أفضل أو أعظم أجرا؟ قال: أما وأبيك لنفتأن أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخشى
الفقر وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان) وقوله (لتفتأن بالبناء لما لم يسم فاعله من الفتيا.
وفى نسخة لتنبأن من النبأ وقوله (أن تصدق بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين، وأصله أن تتصدق والتشديد على الادغام.
قوله (شحيح) قال صاحب المنتهى: الشح بخل مع حرص، قال الخطابى فيه ان المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال في مرضه لا تمحو عنه سمة البخل، فلذلك شرط صحه البدن في الشح بالمال لانه في الحالتين يجد للمال وقعا في قلبه لما يأمله من البقاء فيخذر معه الفقر قال ابن بطال وغيره، لما كان الشح غالبا في الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق في النية وأعظم للاجر بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير المال لغيره وقوله (حتى إذا بلغت الروح الحلقوم) أي قاربت بلوغه، إذ لو بلغته حقيقة لم يصح شئ من تصرفاته، والحلقوم مجرى النفس(15/407)
قوله (قلت لفلان كذا) قال ابن حجر: الظاهر أن هذا المذكور على سبيل المثال، وقال الخطابين: فلان الاول والثانى الموصى له، وفلان الاخير الوارث لانه إن شاء أبطله وإن شاء أجازه، والمقصود أن الحديث يدل على أن تنجيز وفاء الدين والتصدق في حال الصحة أفضل منه حال المرض لانه في حال الصحة يصعب عليه إخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزينه له من الامل في الحياة والحاجة إلى المال، قال تعالى (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) وفى معنى الحديث قوله تعالى (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) الآية، وفى معنى الحديث أيضا ما أخرجه
الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبى الدرداء مرفوعا (مثل الذى يعتق ويتصدق عنه موته، مثل الذى يهدى إذا شبع) .
وأما حديث ابن عمر فقد أخرجه اصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده بلفظ (ما حق إمرئ مسلم ببيت ليلتين وله شئ يريد أن يوصى فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) ورواه الشافعي بلفظ (ما حق إمرئ يؤمن بالوصية) أي يؤمن بأنها حق كما حكاه ابن عبد البر عن ابن عيينة، ورواه ابن عبد البر والطحاوى بلفظ (لا يحل لامرئ مسلم له مال) وقال الشافعي: معنى الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، وكذا قال الخطابى، قوله: مسلم.
قال ابن حجر في فتح الباري: هذا الوصف خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة إلى الامتثال لما يشعر به من نفى الاسلام عن تارك ذلك، وصية الكافر جائزة في الجملة.
وحكى ابن المنذر فيه الاجماع.
قوله يبيت صفة لمسلم.
قوله ليلتين في رواية البيهقى وأبى عوانه.
ليلة أو ليلتين، ولمسلم والنسائي ثلاث ليال، واختلاف الروايات في هذا يدل على أنه للتقريب لا للتحديد، والمعنى لا يمضى عليه زمان وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن الثلاث غاية الاخير، ولذلك قال ابن عمر رضى الله عنه لم أبت ليلة منذ سمعت(15/408)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذلك إلا ووصيتي عندي، وفى تخصيص الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة، أي لا ينبغى أن يبيت زمنا ما وقد سامحناه في الليلتين والثلاث، فلا ينبغى له أن يتجاوز ذلك.
أما قوله المبرسم وهو الذى أصيب بعلة الورم في الدماغ يصاب صاحبه بصداع وكراهية للضوء
وزوال للعقل، وقيل انه الموت لان بر بالسريانية الابن والسام الموت، ومنه حديث شفاء من كل داء الا السام.
قيل وما السام، قال الموت.
إذا ثبت هذا: فإن الوصايا تشتمل على أربعة شروط وهى موصى وموصى له وموصى به وموصى إليه، فأما الفصل الاول وهو الموصى فمن شرطه أن يكون مميزا حرا، فإذا اجتمع فيه هذان الشرطان صحت وصيته في ماله مسلما كان أو كافرا، فأما المجنون فلا تصح وصيته لانه غير مميز.
وأما الصبى فإن كان طفلا غير مميز فوصيته باطلة، وان كان مراهقا ففى جواز وصيته قولان.
(أحدهما)
لا تجوز، وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني لارتفاع القلم عنه كالمجنون، لان الوصية عقد فأشبهت سائر العقود.
(والقول الثاني) وبه قال مالك ان وصيته جائزة لرواية عمرو بن سليم الزرقى قال سئل عمر بن الخطاب ورضى الله عنه عن غلام يافع من غسان وصى لبنت عمه وله عشر سنين، وله وارث ببلد آخر، فأجاز عمر رضى الله عنه وصيته، ولان المعنى الذى لاجله منعت عقوده هو المعنى الذى أمضيت وصيته لان الحظ له في منع العقود لانه لا يتعجل بها نفعا، ولا يقدر على استدراكها إذا بلغ والحظ له في امضاء الوصية، لانه ان مات فله ثوابها وذلك أحط له من تركه عل ورثته، وان عاش وبلغ قدر على استدراكها والرجوع فيها، فعلى هذا لو أعتق في مرضه أو حابى أو وهب ففى صحة ذلك وجهان.
(أحدهما)
صحيح ممضى لان ذلك وصيه يعتبر من الثلث.
(والوجه الثاني) أنه باطل مردود لان الوصيه بقدر على الوجوع فيها ان صح، والعتق والهبه لا يقدر على الرجوع فيها ان صح.
فأما وصية المحجور عليه بالسفه.
فإن قيل يجواز وصية الصبى فوصية(15/409)
السفيه أجوز، وإن قيل ببطلان وصية الصبى بابطال عقوده بطلت وصية السفيه لبطلان عقوده وأما المحجور عليه بالفلس فإن ردها الغرماء بطلت، وإن أمضوها جازت، فإن قلنا: حجر الفلس كحجر المرض صحت، وإن قلنا: إنه كحجر السفه كان على وجهين، فأما العبد فوصيته باطلة، وكذلك المدبر وأم الولد والمكاتب لان السيد أملك منهم لما في أيديهم.
فأما الكافر فوصيته جائزة ذميا كان أو حربيا إذا أوصى بمثل ما يوصى به المسلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وأما إذا أوصى بما زاد على الثلث، فإن لم يكن له وارث بطلت الوصية فيما زاد على الثلث، لان ماله ميراث للمسلمين، ولا مجيز له منهم فبطلت فإن كان له وارث ففيه قولان.
(أحدهما)
أن الوصية تبطل بما زاد على الثلث لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى سعدا عن الوصية بما زاد على الثلث، والنهى يقتضى الفساد، وليست الزيادة مالا للوارث فلم تصح وصيته به كما لو أوصى بمال للوارث من غير الميراث.
(والثانى)
أنها تصح وتقف على اجازة الوارث، فإن أجاز نفذت، وان ردها بطلت، لان الوصية صادفت ملكه، وانما يتعلق بها حق الوارث في الثاني فصحت ووقفت الاحازة كما لو باع ما فيه شفعه، فإن قلنا: على أنها باطلة كانت الاجازه هبة مبتدأة يعتبر فيها الايجاب والقبول باللفظ الذى تنعقد به الهبة، ويعتبر في لزومها القبض، وان كان الوصية عتقا لم يصح الا بلفظ العتق، ويكون الولاء فيه للوارث، وان قلنا انها تصح كانت الاجازة امضاء لما وصى به الموصى وتصح بلفظ الاجازة كما يصح العفو عن الشفعة بلفظ العفو، فإن كانت الوصيه عتقا كان الولاء للموصى، ولا يصح الرد والاجازة الا بعد الموت لانه لا حق
له قبل الموت فلم يصح اسقاطه كالعفو عن الشفعه قبل البيع.
(فصل)
فإن أجاز الوارث ما زاد على الثلث، ثم قال أجزت لانى ظننت أن المال قليل وأن ثلثه قليل، وقد بان أنه كثير لزمت الاجازة فيما علم والقول(15/410)
قوله فيما لم يعلم مع يمينه فإذا حلف لم يلزمه الاجازة في أحد القولين هبة، وفى الثاني إسقاط والجميع لا يصح مع الجهل به وان وصى بعيد فأجازه الوارث ثم قال أجزت لانى ظننت أن المال كثير، وقد بان أنه قليل ففيه قولان.
(أحدهما)
أن القول قوله كالمسألة قبلها
(والثانى)
أنه يلزمه الوصية لانه عرف ما أجازه ويخالف المسألة قبلها فان هناك لم يعلم ما أجازه.
(الشرح) الاحكام: الزيادة على الثلث ممنوع منها في قليل المال وكثيره لحديث سعد الذى مضى تخريجه وبيان طرقه الذى منع سعدا من الزيادة عليه، فإن وصى بأكثر من الثلث أو بجميع ماله نظر، فان كان له وارث كانت الوصية موقوفة على إجازته ورده، فان ردها رجعت الوصيه إلى الثلث، وان أجازها صحت، ثم فيها قولان.
(أحدهما)
أن اجازة الورثة ابتداء عطية منه لا تتم الا بالقبض وله الرجوع فيها ما لم يقبض، وان كانت قبل القبض بطلت كالهبات.
فان لم يكن للميت وارث فأوصى بجميع ماله ردت وصيته إلى الثلث في حق بيت المال.
وقال أبو حنيفة: وصيته إذا لم يكن له وارث نافذة في جميع ماله استدلالا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع سعدا من الزيادة على الثلث قال: لان تدع ورثتك أغنياء خيرا من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فجعل المنع من الزيادة حقا للورثة، فإذا لم يكن له وارث سقط المنع، وبما روى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال لا وارث لمن وضع ماله حيث شاء، ولانه لما كانت الصدقة بجميع
ماله جازت وصيته بجميع ماله.
ودليلنا ما روى عن أبى الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ان الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم) رواه الدارقطني ورواه أحمد والبيهقي والبزار وابن ماجه من حديث أبى هريرة بلفظ (ان الله تصدق عليكم عند موتكم بثل أموالكم زيادة لكم في أعمالكم) وقد ضعف الحافظ ابن حجر اسناده وأخرجه أيضا(15/411)
الدارقطني والبيهقي من حديث أبى أمامة بلفظ (أن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعل لكم زكاة في أموالكم) وفى اسناده اسماعيل ابن عياش وشيخه عتبه بن حميد.
ولان الانصاري أعتق ستة مملوكين له لا مال له غيرهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء على ما مضى ذكره، ولان مال من لا وارث له يصير إلى بيت المال إرثا لامرين.
أحدهما: أنه يخلف الورثة في الاستحقاق لماله.
والثانى: أنه يعقل عنه كورثته، فلما ردت الوصية إلى الثلث مع الوارث ردت إلى الثلث مع بيت المال لانه وارث، وقد يتحرر منه قياسان
(أحدهما)
أن كل جهة استحقت التركة بالوفاة منعت من الوصية بالجميع كالورثه
(والثانى)
أن ما منع من الوصايا مع الورثة منع منها مع بيت المال كالديون.
فأما الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لان تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة فهو أنه لم يجعل ذلك تعليلا لرد الزيادة على الثلث، ولو كان ذلك تعليلا لجازت الزيادة على الثلث مع غناهم إذا لم يصيروا عالة يتكففون الناس، وإنما قاله صلة في الكلام وتنبيها على الخط.
وأما قول ابن مسعود يضع ماله حيث يشاء، فماله الثلث وحده، وله وضعه حيث شاء، وأما الصدقة فهى كالوصية إن كانت في الصحة أمضيت مع وجود الوارث وعدمه، وإن كانت في المرض ردت إلى الثلث مع وجود الوارث وعدمه والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلف أصحابنا في الوقت الذى يعتبر فيه قدر المال لاخراج الثلث، فمنهم من قال الاعتبار بقدر المال في حال الوصية لانه عقد يقتضى اعتبار قدر المال، فكان الاعتبار فيه بحال العقد، كما لو نذر أن يتصدق بثلث ماله، فعلى هذا لو أوصى وثلث ماله ألف فصار عند الوفاة ألفين لم تلزم الوصية في الزيادة، فان وصى بألف ولا مال له ثم استفاد مالا لم تتعلف به الوصية وان(15/412)
وصى وله مال فهلك ماله بطلت الوصية، ومنهم من قال: الاعتبار بقدر المال عند الموت وهو المذهب، لانه وقت لزوم الوصية واستحقاقها، ولانه لو وصى بثلث ماله ثم باع جميعه تعلقت الوصية بالثمن، فلو كان الاعتبار بحال الوصية لم تتعلق بالثمن، لانه لم يكن حال الوصية فعلى هذا لو وصى بثلث ماله وماله ألف فصار ألفين لزمت الوصية في ثلث الالفين، فإن وصى بمال ولا مال له ثم استفاد مالا تعلقت به الوصية، فان وصى بثلثه وله مال ثم تلف ماله تبطل الوصية.
(الشرح) الاحكام: تجوز الوصية بثلث ماله وإن لم يعلم قدره، واختلف أصحابنا هل يراعى بثلث ماله وقت الوصية أو عند الوفاة على وجهين
(أحدهما)
وهو قول مالك وأكثر البغداديين أنه يراعى ثلثه وقت الوصية، ولا يدخل فيها ما حدث بعده من زيادة لانها عقد، والعقود لا يعتبر فيها ما بعدها.
(والوجه الثاني) وهو قول أبى حنيفة وأكثر البصيريين أنه يراعى ثلث ماله
وقت الموت ويدخل فيه ما حدث قبله من زيادة، لان الوصايا تملك بالموت، فاعتبر بها وقت ملكها، فعلى هذين الوجهين إن وصى بثلث ماله ولا مال له ثم أفاد مالا فعلى الوجه الاول تكون الوصية باطلة اعتبارا بحال الوصية، وعلى الوجه الثاني تكون الوصية جائزة اعتبارا بحال الموت.
وعلى هذا لو وصى بفرس من خيله وهو لا يملك فرسا ولا خيلا ثم ملك قبل الموت خيولا صحت الوصيه ان اعتبر بها حال الموت، وبطلت ان اعتبر بها حال القول، وعلى هذا القول لو وصى بثلث ماله وله مال فهلك ماله وافاد غيره صحت الوصيه في المال المستفاد إن اعتبر بها حال الموت، وبطلت ان اعتبر بها حال الوصيه.
قال المصنف رحمه الله.
(فصل)
وأما الوصية بما لا قربة فيه كالوصيه للكنيسة والوصيه بالسلاح لاهل الحرب فهى باطله لان الوصيه إنما جعلت له ليدرك بها ما فات ويزيد بها الحسنات ولهذا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ان الله تعالى أعطاكم ثلث(15/413)
أموالكم في آخر آجالكم زيادة في حسناتكم) وما ذكرناه ليس من الحسنات فلم تصح فيه الوصية، فإن وصى ببيع ماله من رجل من غير محاباة ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح لانه قصد تخصيصه بالتمليك
(والثانى)
لا يصح لان البيع من غير محاباة ليس بقربة، فلم تصح الوصية به، وإن وصى لذمى جاز، لما روى أن صفية وصت لاخيها بثلثها ثلاثين ألفا وكان يهوديا، ولان الذمي موضع للقربة، ولهذا يجوز التصدق عليه بصدقة التطوع فجازت له الوصية، فإن وصى لحربي ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا تصح الوصية، وهو قول أبى العباس بن القاصر، لان القصد بالوصية نفع الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربى وأخذ ماله فلا معنى
للوصية له
(والثانى)
يصح وهو المذهب لانه تمليك يصح للذمي فصح للحربى كالبيع.
(فصل)
واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى فيمن وصى لقاتله فقال في أحد القولين: لا يجوز لانه مال يستحق بالموت فمنع القتل منه كالميراث، وقال في الثاني يجوز لانه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يمنع القتل منه كالبيع، فإن قتلت أم الولد مولاها عتقت لان عتقها ليس بوصية، بدليل أنه لا يعتبر من الثلث فلم يمنع القتل منه.
فإن قتل المدبر مولاه فإن قلنا ان التدبير عتق بالصفة عتق لانه ليس بوصية، وإنما هو عتق بصفة وقد وجدت الصفه فعتق، وان قلنا إنه وصية وقلنا ان الوصية للقاتل لا تجوز لم يعتق، وان قلنا انها تجوز عتق من الثلث فإن كان على رجل دين مؤجل فقتله صاحب الدين حل الدين، لان الاجل حق للمقتول لا حظ له في بقائه، بل الحظ في إسقاطه ليحل الدين ويقضى فيتخلص منه (الشرح) حديث إن الله تعالى أعطاكم الخ.
فقد رواه الدارقطني عن أبى الدرداء وسكت ولم يتكلم عليه الحافظ بن حجر، ورواه وأخرجه أيضا أحمد وكذلك البيهقى وابن ماجه والبزار من حديث أبى هريرة.
قال الحافظ بن حجر وإسناده ضعيف، ورواه الدارقطني والبيهقي عن أبى أمامة، وفى اسناده اسماعيل ابن عياش، وهو ثقة في الشاميين ضعيف في غيرهم، وهو رواه عن شيخه عتبه(15/414)
ابن حميد الضبى صدوق له أوهام.
ورواه العقيلى في الضعفاء عن أبى بكر الصديق وفى إسناده حفص بن عمرو بن ميمون وهو متروك.
وعن حالد بن عبد الله السلمى عند ابن عاصم وابن السكن وابن قانع وأبى نعيم والطبراني وهو مختلف في صحبته، ورواه عنه ابنه الحارث وهو مجهول وأما وصية أم المؤمنين صفية رضى الله عنها فقد مضى تخريج الخبر في كتاب
الوصي فلا ضرورة لاعادته.
أما الاحكام فإن الوصية للبيع والكنائس باطلة لانها مجمع معاصيهم ومنتدى تأليههم للبشر، ومبادءة التثليث والتجسيد.
وكذلك الوصية لكتب التوراة والاناجيل لتبديلها وتغييرها، وسواء كان الموصى مسلما أو كافرا.
وأجازها أبو حنيفة من الكافر دون المسلم، وهكذا أجاز وصيته بالخمر والخنزيد يتصدقت بها على أهل الذمة.
وهذا فاسد لقوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) وخالف أبا حنيفة صاحباه في الكنيسه ووافقنا فيما عداها.
فأما الوصيه للكافر فجائزة ذميا كان أو حربيا، وقال أبو حنيفة: الوصيه للحربى باطلة لان الله تعالى أباح للمسلمين أموال المشركين فلم يجز أن يبيح للمشركين أموال المسلمين وهذا فاسد من وجهين
(أحدهما)
أنه لما لم يمنع شرك الذمي لم يمنع شرك الحربى من الوصيه كالنكاح
(والثانى)
أنه لما جازت الهبة للحربى وهى أمضى عطية من الوصية كان أولى أن تجوز له الوصيه، وسواء كان الموصى مسلما أو كافرا.
فأما الوصية للمرتد فعلى ثلاثة أقسام ذكرناها في كتاب الوقف
(أحدهما)
أن يوصى لمن يرغب عن الاسلام فالوصية باطله لعقدها على معصية (الثاني) أن يوصى بها لمسلم فيرتد عن الاسلام بعد الوصية له فالوصيه جائزة لانها وصيه صادفت حال الاسلام (والثالث) أن يوصى بها لمرتد معين ففى الوصية وجهان، أحدهما باطلة.
والثانى: جائزة.
أما المحاباة في المرض، وهى أن يعاوض بماله ويسمع لمن عاوضه ببعض عوضه وهى أقسام (أحدها) المحاباة في البيع والشراء، ولا يمنع ذلك صحة في(15/415)
قول جمهور الفقهاء.
وقال أصحاب داود بن على: العقد باطل.
وعموم قوله تعالى: وأحل الله البيع دليل على صحة قول الجمهور، ولانه تصرف صدر من أهله في محله فصح كغير المريض، فلو باع في مرضه فرسا قيمته خمسون بعشرين فقد جابى المشترى بثلاثة أخماسه، وليس له المحاباة بأكثر من الثلث، فإن أجاز الورثة ذلك لزم البيع ن وإن لم يجيزوا واختار المشترى فسخ البيع فله ذلك لان الصفقة تبعضت عليه ن وإن اختار إمضاء البيع فالصحيح عند أصحاب أحمد وهو اختيار ابن قدامه في المغنى أنه يأخذ النصف للبيع بنصف الثمن ويفسخ البيع في الباقي.
وهذا أحد الوجهين عند أصحاب الشافعي.
والوجه الثاني أنه يأخذ ثلثى المبيع بالثمن كله، لانه يستحق الثلث بالمحاباة والثلث الآخر بالثمن.
وعند مالك له أن يفسخ ويأخذ ثلث المبيع بالمحاباة ويسمية أصحابه خلع الثلث ولاصحابنا كما ساق المصنف ذلك إذا وصى ببيع ماله من رجل من غير محاباة.
فإذا قلنا إن مجرد التخصيص بالتمليك يقوم مقام المحاباة صحت الوصية على هذا الوجه.
وإن قلنا إن البيع من غير محاباة ليس قربة والمراعى في الوصيه التقرب إلى الله تعالى لحديث أبى الدرداء لم تصح الوصيه (فرع)
تصح الوصيه للذمي باتفاق أهل العلم لا نعلم في ذلك خلافا، ولان الصدقة عليه جائزة فجازت الوصيه.
أما الحربى ففيه لاصحابنا وجهان
(أحدهما)
وهو المذهب وبه قال أحمد في المنصوص عنه وهو قول مالك أن الوصيه للحربى تصح وهو دار الحرب
(والثانى)
لا تصح وهو قول أبى حنيفه لقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إلى قوله
تعالى انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين) الآيه: فيدل ذلك على أن من قاتلنا لا يحل بره، وهو قول أبى العباس بن القاص من أصحابنا، لان القصد من الوصيه القربة إلى الله بنفع يعود إلى الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربى وأخذ سلبه، فلا معنى للوصيه مع قيام هذا كله.(15/416)
دليلنا: أنه تمليك يصح للذمي فصح للحربى، ولما كانت تصح هبته فقد صحت الوصية له كالذمي، وقد رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى عمر حلة من حرير فقال (يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت، فقال: إنى لم أعطيكها لتلبسها، فكساها عمر أخا مشركا له بمكه) .
وعن أسماء بنت أبى بكر قالت (أتتنى أمي وهى راغبة تعنى عن الاسلام فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتتنى أمي وهى راغبه أفأصلها، قال: نعم وهذان الخبران فيهما صلة أهل الحرب وبرهم، والاية حجة لنا فيمن لم يقاتل، فأما المقاتل فقد نهى عن قوليه لا عن بره والوصية له، وقد رأينا كيف أن صلاح الدين الايوبي كان يبر المقاتلة من الصليبيين حتى كان مضرب المثل في المروءة وعلو الهمة فكان يداوى مرضاهم ويأسو جراحهم، بيد أنه لم يعف عمن طغى وتجبر وقطع طريق الحاج فأقسم لئن أظفره الله به ليضربن عنقه بيده، وعندما وقع في الاسر مع غيره من ملوك أوربة عفا عنهم جمعيا إلا ذلك فقتله بيده، برا بقسمه رغم ما عرضه الفرنجة عليه من فداء سخى بالمال بالغا ما بلغ قدره، فهذا هو طريق الشرع، وإن احتج بالمفهوم فإنه لا يراه حجة ثم قد حصل الاجماع على جواز الهبة.
والوصية في معناها، فأما المرتد فعند أبى الخطاب من أصحاب الامام أحمد تصح الوصية له كما تصح قبته.
وقال ابن أبى موسى: لا تصح لان ملكه غير مستقر ولا يرث ولا يورث فهو كالميت، ولان ملكه يزول عن
ماله بردته في قول جماعه منهم فلا يثبت له الملك بالوصية، وقد مضى مذهبنا فيه في الوقف.
(فرع)
الوصيه للقاتل فيها قولان.
أحدهما - وهو مذهب مالك رضى الله عنه تجوز الوصيه، وإن لم يرث كما تجوز الوصيه للكافر، وإن لم يرث، ولانه تمليك يراعى فيه القبول فلم يمنع منه القتل كالبيع، وهذا أحد الاوجه الثلاثه عند الحنابله حيث قال ابن حامد: تجوز الوصيه له.
وهو قول أبى ثور وابن المنذر أيضا.
والقول الثاني وهو قول أبى حنيفة رضى الله عنه وأحد الاوجه الثلاثة(15/417)
عند الحنابله: لا تصح الوصية له.
لان أحمد رضى الله عنه نص على أن المدبر إذا قتل سيده بطل تدبيره، وعندنا أنه يبطل إذا اعتبر التدبير وصية، أما إذا اعتبر صفة فإن التدبير ماض ويعتق بموت سيده ولو قتلا وهذا أيضا قول الثوري وأصحاب الرأى لان القتل يمنع الميراث الذى هو آكد من الوصية فالوصية أولى، ولان الوصية أجريت مجرى الميراث فيمنعها ما يمنعه، لان الميراث أقوى التمليكات فلما منع منه القتل كان أولى أن يمنع من الوصية.
فإذا تقرر هذان القولان فلا فرق بين أن يوصى له بعد جرحه إياه وجنايته عليه، وبين أن يوصى له قبل الجناية ثم يجنى عليه فيقتله في أن الوصية على قولين ولكن لو قال الموصى وليس بمجروح: قد وصيت بثلثي لمن يقتلين فقتله رجل لم تصح الوصية له قولا واحدا لامرين.
(أحدهما)
أنها وصية عقدت على معصية.
(والثانى)
أن فيها إغراء بقتله، فلو وصى بثلثه لقاتل زيد، فإن كان قبل القتل لم يجز لما ذكرنا، وإن كان بعد قتله جاز، وكان القتل تعريفا، وهكذا لو
وهب في مرضه لقاتله هبة أو حاباه في بيع أو أبرأه من حق فكل ذلك على قولين لانها وصية له تعتبر في الثلث، وهكذا لو أعتق في مرضه عبدا فقتل العبد سيده كان في عتقه قولان لانها وصية له، ولكن لو وهب هبة في صحته أو أبرأ من حق أو حابى في بيع أو أعتق عبدا، ثم إن الموهوب له قتل الواهب أو المبرأ قتل المبرئ أو المحابى قتل المحابى والعبد قتل السيد كان ذلك كله نافذا ماضيا، لان فعله في الصحة جرى مجرى الوصايا، ولو جرح رجل رجلا ثم إن المجروح وصى للجارح بوصية ثم جنى على الموصى آخر فذبحه جازت الوصية للجارح الاول، لان الذابح صار قاتلا، ولو لم يكن الثاني قد ذبحه ولكن لو جرحه صار الثاني والاول قاتلين، فردت الوصية للاول في أحد القولين، وهذا هو قول مالك وأبى ثور وابن المنذر وأحد القولين عند أحمد، وأظهر القولين للشافعي لان الهبة تصح فصحت الوصيه له كالذمي، وقال القاضى أبو بكر من الحنابله: لا تصح الوصيه له وهذا هو قول الثوري وأصحاب الرأى وأحد قولى الشافعي.(15/418)
قال الماوردى في حاويه: وإذا قتل المدبر سيده فإن قيل: إن الدبير عتق بصفة لم يبطل عتقه، وإن قيل: إن التدبير وصيه ففى بطلان عتقه قولان لانه يعتق في الثلث، ولو قتلت أم الولد سيدها بعد عتقها صح عتقها قولا واحدا لامرين.
أحدهما: أن عتقها مستحق من رأس المال.
والثانى: أن في استبقائها على حالها إضرارا بالورثه لانهم لا يقدرون على بيعها، وخالف استبقاء رق المدبر للقدرة على بيعه ثم ينظر في أم الولد إذا كان قتلها عمدا - فان لم يكن ولدها باقيا قتلت قودا، وإن كان باقيا سقط القود عنها لان ولدها شريك للورثه في القود فيها ن وهو لا يستحق القود من أمه فسقط
حقه، وإذا سقط القود عنها في حق بعض الورثة سقط في حق الجميع اه.
ولو أن رجلا وصى لابن قاتله أو لابيه أو لزوجته صحت الوصيه لان القاتل غير الموصى له، ولو أوصى لعبد القاتل لم تجز في أحد القولين لانها وصيه للقاتل، ولو أقر رجل لقاتله بدين كان إقراره نافذا قولا واحدا لان الدين لازم وهو من رأس المال فخالف الوصايا، ولو كان للقاتل على المقتول دين مؤجل حل بموت المقتول ولا يبقى إلى أجله، لان الاجل حق لمن عليه الدين لا يورث عنه، وليس كالمال الموروث إذا منع القاتل منه صار إلى الورثة، وسواء كان القتل في الوصيه عمدا أو خطأ كما أن الميراث يمنع منه قيل العمد والخطأ، فلو أجاز الورثة الوصيه للقاتل، وقد منع منها في أحد القولين كان في إمضائها بإجازته وجهان من اختلاف قولين في إمضائها للوصيه للوارث.
فان قلنا: إن الوصية للوارث مردودة ولا تمضى باجازتهم ردت الوصية للقاتل ولم تمض باجازتهم، وإن قلنا إنه يمضى الوصية للوارث باجازتهم أمضيت الوصيه للقاتل باجازهم، والاصح إمضاء الوصيه للوارث بالاجازة، ورد الوصيه للقاتل مع الاجازة، لان حق الرد في الوصيه للقاتل انما هو للمقتول لما فيه من حسم الذرائع المفضيه إلى قتل نفسه فلم تصح الوصيه له.
باجازتهم،(15/419)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلف قوله في الوصية فقال في أحد القولين لا تصح لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا وصية لوارث) ولانها وصية لا تلزم لحق الوارث فلم تصح، كما لو أوصى بمال لهم من غير الميراث فعلى هذا الاجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها ما يعتبر في الهبة.
والثانى تصح لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: لا تجوز لوارث وصية
إلا ان شاء الورثة، فدل على أنهم إذا شاءوا كانت وصية، وليست الوصية في ملكه وإنما يتعلق بها حق الورثة في الثاني فلم يمنع صحتها كبيع ما فيه شفعة، فعلى هذا إذا أجاز الورثة نفذت الوصية
(فصل)
ولا تصح الوصية لمن لا يملك فإن وصى لميت لم تصح الوصية لانه تمليك فلم يصح للميت كالهبة، وإن وصى لحمل تيقن وجوده حال الوصية بأن وضعته لدون ستة أشهور من حين الوصية أو لستة أشهور وليست بفراش صحت الوصية لانه يملك بالارث فملك بالوصية، وان وضعته لستة أشهر وهى فراش لم تصح الوصية لانه يجوز أن يكون حدث بعد الوصيه فلم تصح الوصيه بالشك فإن ألقتله ميتا لم تصح الوصيه لانه لا يتيقن حياته حال الوصيه، ولهذا لا يحكم له بالارث فلم يحكم له بالملك بالوصية، فإن وصى لما تحمل هذه المرأة لم تصح الوصية.
وقال أبو إسحاق تصح والمذهب الاول لانه تمليك لمن لا يملك فلم يصح
(فصل)
فإن قال وصيت بهذا العبد لاحد هذين الرجلين لم يصح لانه تمليك لغير معين، فإن قال أعطوا هذا العبد أحد هذين الرجلين جاز لانه ليس بتمليك وانما هو وصية بالتمليك، ولهذا لو قال بعت هذا العبد من أحد هذين الرجلين لم يصح ولو قال لوكيله بع هذا العبد أحد هذين الرجلين جاز
(فصل)
فإن أوصى لعبده كانت الوصيه لوارثه، لان العبد لا يملك فكانت الوصيه للوارث، وقد بيناه، فإن وصى لمكاتبه صحت الوصيه، لان المكاتب يملك المال بالعقد فصحت له الوصيه، فإن وصى لام ولده صحت لانها حرة عند الاستحقاق، فإن وصى لمدبره وعتق من الثلث صحت له الوصيه(15/420)
لانه حر عند الموت فهو كأم الولد، فإن لم يعتق كانت الوصيه للوارث وقد بيناه فان وصى لعبد غيره كانت الوصيه لمولاه، وهل يصح قبوله من غير اذن المولى
فيه؟ وجهان
(أحدهما)
وهو الصحيح انه يصح ويملك به المولى يملك ما يصطاده بغير اذنه
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه لا يصح لانه تمليك للسيد يعقد فلم يصح القبول فيه من غير اذنه، وهل يصح قبول السيد؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يصح لان الايجاب للعبد فلم يصح قبول السيد كالايجاب في البيع
(والثانى)
يصح لان القبول في الوصيه يصح لغير من أوجب له وهو الوارث بخلاف البيع.
(الشرح) حديث جابر أخرجه الدارقطني وصوب إرساله، ويبدو أن المصنف ساقه لاحتجاج الشافعي به في أحد قوليه، وإلا فحديث عمرو بن خارجه رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والترمذي وصححه والدارقطني والبيهقي (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ على ناقته وأنا تحت جرانها وهى تقصع بجرتها، وإن لغامها يسيل بين كنفى فسمعته يقول: ان الله قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصيه لوارث) وعن أبى أمامه عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي قَالَ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: إن الله تعالى قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصيه لوارث) وأخرجه الدارقطني عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تجوز وصيه لوارث الا أن يشاء الورثة) وعن عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة) رواه الدارقطني.
وهذا الحديث قال فيه الشافعي رضى الله عنه: إن هذا المتن متواتر.
قال وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون فِي إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عام الفتح: لا وصيه لوارث، ويأثرونه عمن يحفظونه
عنه ممن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافه فهو أقوى من نقل واحد(15/421)
قلت: وقد ضعف الحافظ بن حجر جميع طرقه وقال: لا يخلو واحد منها من مقال ولكنه يسلم بأنها في مجموعها تصل إلى درجة الاحتجاج بها وقد عده السيوطي في الاحاديث المتواترة في كتابه الموسوم بالازهار المتناثرة في الاحاديث المتواترة.
وهو مروى عن أبى أمامة وعمرو بن خارجه وعلى وابن عباس وعمرو بن دينار وأبى جعفر وجابر بن الله وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وزيد بن أرقم والبراء بن عازب.
وقد نازع الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواترا.
قال وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة قال الحافظ بن حجر: لكن الحجة في هذا إجماع العلماء على مقتضاه، كما صرح به الشافعي وغيره.
ثم قال والمراد بعدم صحة وصية الوارث عدم اللزوم، لان الاكثر على أنها موقوفة على إجازة الورثة.
وقال الصنعانى في سبل السلام: الاقرب وجوب العمل به لتعدد طرقه، وإن نازع الفخر في تواتره، ولا يضر ذلك بثبوته.
وقبل إنها لا تصح الوصيه لوارث أصلا، وهو الظاهر لان النفى إما أن يتوجه إلى الذات، والمراد لا وصية شرعية.
وإما إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة، ولا يصح أن يتوجه هاهنا إلى الكمال الذى هو أبعد المجازين.
وقد اختلف في تعيين ناسخ آية الوصية للوالدين، فقبل آية الفرائض، وقيل الاحاديث المذكورة في الباب.
وقيل دل الاجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: أخبرنا ابن عيينه عن سليمان
الاحول عن مجاهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (لا وصية لوارث) وما وصفت من أن الوصية للوارث منسوخة بآى المواريث وأن لا وصية لوارث مما لا أعرف عن احد ممن لقيت خلافا.(15/422)
وإذا كانت الوصايا لمن أمر الله تعالى ذكره بالوصية منسوخة بآى المواريث وكانت السنه تدل على أنها لا تجوز لوارث، وتدل على أنها تجوز لغير قرابة دل ذلك على نسخ الوصية للورثة، وأشبه أن يدل على نسخ الوصايا لغيرهم قال ودل على أن الوصايا للوالدين وغيرهما ممن يرث بكل حال إذا كان في معنى غير وارث فالوصية له جائزة ومن قبل أنها إنما بطلت وصيته إذا كان وارثا، فإذا لم يكن وارثا فليس بمبطل للوصيه.
وإذا كان الموصى يتناول من شاء بوصيته كان والده دون قرابته إذا كانوا غير ورثه في معنى من لا يرث، ولهم حق القرابة وصلة الرحم.
وقال الشافعي رضى الله عنه في باب الوصيه للوارث من الام: ورأيت متظاهرا عند عامة من لقيت من أهل العلم بالمغازي (1) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبته عام الفتح (لا وصية لوارث) فحكم الوصية لوارث حكم ما لم يكن، فمتى أوصى رجل لوارث وقفنا الوصيه، فان مات الموصى والموصى له وارث، فلا وصية له، وإن حدث للموصى وارث يحجبه أو خرج الموصى له من أن يكون يوم يموت وارثا له، بأن يكون أوصى صحيحا لامرأته ثم طلقها ثلاثا ثم مات مكانه، فالوصية لها جائزة لانها غير وارثه، وإنما ترد الوصيه وتجوز إذا كان لها حكم، ولا يكون لها حكم الا بعد موت الموصى حتى تجب أو تبطل.
ولو أوصى لرجل وله دونه وارث يحجبه فمات الوارث قبل الموصى فصار
الموصى له وارثا، أو لامرأة ثم نكحها ومات وهى زوجته بطلت الوصيه لهما معا، لانها صارت وصية لوارث
__________
(1) لما كان أظهر ما في التاريخ من المحولات الاجتماعية والسياسيه هو المغازى فقد كان المؤرخون يسمون (أهل العلم بالمغازي)(15/423)
ولو أوصى لوارث وأجنبى بعيد أو دار أو ثوب أو مال مسمى بطل نصيب الواث وجاز للاجنبي ما يصيبه وهو النصف من جميع ما أوصى به للوارث والاجنبى، ولكن لو قال: أوصيت بكذا لفلان وفلان فإن كان سمى للوارث ثلثا ولاجنبي ثلثى ما أوصى به جاز للاجنبي ما سمى له، ورد عن الوارث ما سمى له، ولو كان له ابن يرثه ولابنه أم ولدته أو حضنته، أو أرضعته أو أب أرضعه أو زوجه أو ولد لا يرثه أو خادم أو غير فأوصى لهؤلاء كلهم أو لبعضهم جازت الوصيه لهم لان كل هؤلاء غير وارث وكل هؤلاء مالك لما أوصى له به لملكه لماله إن شاء منعه ابنه وإن شاء أعطاه إياه.
وقال الصنعانى في سبل السلام: وذهب الهادى وجماعة إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) الآية، قالوا: ونسخ الوجوب لا ينافى بقاء الجواز، قلنا: نعم لو لم يرد هذا الحديث، فإنه ناف لجوازها إذ وجوبها قد علم نسخه من آية المواريث كما قال ابن عباس: كان المال للولد والوصية للوالدين، فنسخ الله سبحانه من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الانثيين، وجعل للابوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع.
وقوله في الحديث: إلا ان يشاء الورثة، دليل على صحة الوصية ونفاذها للوارث إن أجازها الورثة، لانهم قد أسقطوا حقهم.
وهو قول جمهور الفقهاء
ما عدا المزني من أصحاب الشافعي وداود بن على الظاهرى وأصحابه وبعض الحنابلة حيث قالوا: لا أثر لاجازتهم، والظاهر أن لهم أثرا في جوازها، لانه صلى الله عليه وسلم لما نهى عن الوصية للوارث قيدها بقوله إلا ان يشاء الورثة وأطلق لما منع الوصية عن الزائد عن الثلث، وليس لنا تقييد ما أطلقه ومن قيد هنالك قال: إنه يؤخذ القيد من التعليل بقوله (انك ان تذر..الخ) فإنه دل على أن المنع من الزيادة على الثلث كان مراعاة لحق الورثة، فان أجازوا سقط حقهم ولا يخلو عن قوة.
هذا في الوصية للوارث، واختلفوا إذا أقر المريض للوارث بشئ من ماله فأجازه الاوزاعي وجماعة مطلقا.(15/424)
وقال أحمد: لا يجوز اقرار المريض لوارثه مطلقا، واحتج بأنه لا يؤمن بعد المنع من الوصية لوارثه أن يجعلها اقرارا، واحتج الاول بما يتضمن الجواب عن هذه الحجة فقال ان التهمه في حق المحتضر بعيدة وبانه وقع الاتفاق أنه لو أقر بوارث آخر صح اقراره مع أنه يتضمن الاقرار بالمال وبأن مدار الاحكام على الظاهر فلا يترك اقراره للظن المحتمل فإن أمره إلى الله.
(قلت) وهذا القول أقوى دليلا، واستثنى مالك ما إذا أقر لبنته ومعها من يشاركها من غير الولد، كابن العم قال: لانه يتهم في أنه يزيد لابنته، وينقص ابن العم، وكذلك استثنى ما إذا أقر لزوجته المعروف بمحبته لها وميله إليها، وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد لا سيما إذا كان له منها ولد في تلك الحال.
قلت: والاحسن ما قيل عن بعض المالكين واختاره الرويانى في بحر المذهب من أصحابنا: ان مدار الامر على التهمه وعدمها، فإن فقدت جاز والا فلا، وهى تعرف بقرائن الاحوال وغيرها.
وعن بعض الفقهاء: أنه لا يصح اقراره الا للزوجة بمهرها، وسياتى مزيد
ايضاح ان شاء الله.
وفائدة الخلاف أن الوصيه إذا كانت صحيحة فاجازة الورثة تنفيذ، فإذا اجازها الورثة لزمت الوصية، وان كانت باطله كانت هبة مبتدأه تفتقر إلى شروط الهبة من اللفظ والقبول والقبض، ولو رجع المجيز قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض صح رجوعه.
وأما بقية الفصول من الوصيه للعبد والمكاتب وأم الولد وعبد غيره فعلى وجهها.
ولا تفتقر إلى مزيد والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وتجوز الوصيه بالمشاع والمقسوم لانه تمليك جزء من ماله فجاز في المشاع والمقسوم كالبيع، ويجوز بالمجهول كالحمل في البطن واللبن في الضرع وعبد من عبيد وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق لان الموصى له يخلف الميت في ثلثه كما يخلفه الوارث في ثلثه فلما جاز أن يخلف الوارث الميت(15/425)
في هذه الاشياء جاز أن يخلفه الموصى له، فان وصى بمال الكتابة جاز ذكرناه فان وصى برقبته فهو على القولين في بيعه.
(فصل)
فان وصى بما تحمله الجارية أو الشجرة صحت الوصيه لان المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية، ومن أصحابنا من قال: أذا قلنا: ان الاعتبار بحال الوصيه لم تصح لانه لا يملك في الحال ما وصى به.
(فصل)
وتجوز الوصية بالمنافع لانها كالاعيان في الملك بالعقد والارث فكانت كالاعيان في الوصية ويجوز بالعين دون المنفعة وبالعين لواحد وبالمنفعه لآخر لان المنفعة والعين كالعين فجاز فيهما ما جاز في العينين ويجوز بمنفعة مقدرة بالمدة وبمنفعه مؤبدة لان المقدرة كالعين المعلومة والمؤبدة كالعين المجهولة فصحت الوصيه بالجمع.
(فصل)
وتجوز الوصيه بما يجوز الانتفاع به من النجاسات كالسماد والزيت النجس والكلب وجلد الميته لانه يحل اقتناؤها للانتفاع بها فجاز نقل اليد فيها بالوصية، ولا يجوز بما لا يحل الانتفاع به كالخمر والخنزير والكلب العقور لانه لا يحل الانتفاع بها ولا تقر اليد عليها فلم تجز الوصيه بها.
(الشرح) إذا أوصى لرجل بمعين من ماله، ولآخر بجزء مشاع منه كثلث المال وربعه فأجيز لهما، انفرد صاحب المشاع بوصيته من غير المعين ثم يشارك صاحب المعين فيه فيقتسمانه بينهما على قدر حقيهما فيه، ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر ماله في الوصية كمسائل العول وكما لو أوصى لرجل بماله ولاخر بجزء منه، فأما في حال الرد فان كانت وصيتهما لا تجاوز الثلث مثل أن يوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بمعين قيمته سدس المال، فهى بحال الاجازة سواء إذ لا أثر للرد، وان جاوزت ثلثه رددنا وصيتهما إلى الثلث وقسمناه بينهما على قدر وصيتهما الا أن صاحب المعين يأخذ نصيبه من المعين والاخر يأخذ حقه من جميع المال، وقد رجح ابن قدامه من الحنابله أنهما يقتسمان الثلث على حسب مالهما في الاجازة وهذا قول ابن أبى ليلى وقال أبو حنيفة ومالك في الرد: يأخذ صاحب المعين نصيبه منه ويضم الاخر(15/426)
سهامه إلى سهام الورثة ويقتسمون الباقي على خمسة في مثل مسألة الخرقى لان له السدس، وللورثة أربعة أسداس وهو مثل كلام الخرقى من الحنابلة إلا أن الخرقى يعطيه السدس من جميع المال وعندهما أنه يأخذ خمس المائتين وعشر المعين.
واتفقوا على أن كل واحد من الوصيين يرجع إلى نصف وصيته، لان كل واحد منهما قد أوصى له بثلث المال وقد رجع إلى الوصيان إلى الثلث وهو نصف الوصيتين فيرجع كل واحد إلى نصف وصيته، ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر
ماله في الوصية.
قال الشافعي: ولو أوصى له بالثلث من دار أو أرض فأذهب السيل ثلثيها وبقى ثلثها، فالثلث الباقي للموصى له إذا خرج من الثلث، فسوى الشافعي رضى الله عنه بين استحقاق الثلثين مشاعا وبين ذهاب ثلثيها بالسيل محوزا في أن الوصيه تكون بالثلث الباقي بعد الاستحقاق والتلف بالسيل، والذى أراه الفرق بين المسألتين من أن استحقاقه لا يمنع من إمضاء الوصية بالثلث الباقي كله وذهاب الثلثين منها للسيل يمنع ان تكون الوصية بجميع الثلث الباقي، ويوجب أن تكون الوصية بثلث الثلث الباقي، فإذا استحق ثلثيها لم يمنع أن يكون الثلث الباقي شائعا في جميعها فصحت الوصيه في جميعه، فوجبت الوصيه في ثلث ما بقى وثلث ما هلك يكون كحم الاشاعة في الجميع باقيا.
ألا ترى لو أن رجلا اشترى من رجل نصف دار جميعها بيده، ثم استحق بعد الشراء نصفها كان النصف الباقي هو المبيع منها.
(فإن قيل) أفليس لو أوصى له برأس من غنمه فهلك جميعها إلا رأسا منها بقى، فإن الوصيه تتعين فيه ولا يكون الهالك وإن كان متميزا من الوصيه وغيرها فهلا كان ما هلك بالسيل كذلك.
قيل الوصيه برأس من غنمه يوجب الاشاعة في كل رأس منها؟ وإنما جعل إلى الوارث أن يعينه فيما شاء من ميراثه، وليس كذلك الوصيه بثلث الدار لان الثلث شائع في جميعها فافترقا فإذا تقرر ما وصفته من مذهب الشافعي في التسوية بين الاستحقاق والتلف وما رأيته من فافترق بين الاستحقاق والتلف ففرع على ذلك ما صح به الجواب.(15/427)
(فرع)
إذا أوصى بشجرة مدة أو بما تثمر أبدا صحت لجواز ملك المعدوم ومن ثم لم يملك واحد من الموصى له أو الوارث إجبار الآخر على سقيها لانه
لا يجبر على سقى ملكه ولا سقى ملك غيره، وإذا أراد أحدهما سقى الشجرة على وجه لا يضر بصاحبه لم يملك الآخر منعه، وإذا يبست الشجرة كان حطبها للوارث، لان الموصى له ليس له منها إلا الثمرة، وان وصى له بثمرتها سنة بعينها لم يتحمل تلك السنة فلا شئ للموصى له.
وان قال: لك ثمرتها أول العام الذى تثمر فيه صح وله ثمرتها أول عام تثمر وكذلك إذا أوصى له بما تحمل شاته، وان أوصى لرجل بشجرة ولآخر بثمرتها صح وكان صاحب الرقبة قائما مقام الوارث وله ماله، وان وصى بلبن شاة وصوفها صح كما تصح الوصيه بثمرة الشجرة، وكذلك ان وصى بلبنها خاصة أو صوفها خاصة صح، ويقوم الموصى به دون العين.
(فرع)
تجوز الوصية بالمنافع فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى بخدمة عبده أو بغلة داره وثمرة بستانه والثلث يحتمله جاز ذلك اه.
قلت: ان الوصايا بمنافع الاعيان جائزة كالوصايا بالاعيان لانه لما صح عقد الاجارة عليها صح بالاولى الوصيه بها، وسواء قدرت بمدة أو جعلت مؤبدة، وقال ابن أبى ليلى: ان قدرت بمدة تصح فيها الاجارة صحت، وان لم تقدر بمدة تصح فيها الاجارة بطلت، حملا للوصية على الاجارة.
وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء إلى جواز الوصية بها على التأبيد بخلاف الاجارة لان الو صايا تجوز مع الجهالة فإذا صح جوازها مقدرة ومؤبدة فقد ذكر الشافعي رضى الله عنه الوصيه بخدمة العبد وغلة الدار وثمرة البستان، فأما الوصية بخدمة العبد فله أن يؤاجره وله أن يستخدمه كما يجوز له أن يوصى لفلان بفرسه ولآخر بركوبها فيكون لاحدهما عينها وللآخر منفعتها عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فرع)
الوصيه بالميته جائزة لانه قد يدبغ جلدها ويطعم بزاته لحمها، وكذلك
الوصيه بالروث والزبل، لانه قد ينتفع به في تسميد الارض واخصابها للغرس والزرع، ولاشك أن الشرع الحكيم بسماحته واحاطته بمصالح البشر لم يقف من(15/428)
النجاسات موقف العداء المطلق، فإنه متى ثبت أن لها فائدة ما في حياة الناس فلا بد أن تقتنص هذه الفائدة، وإننا في عصر تقدمت فيه العلوم الكيمياوئية حتى صنعت المواد السمادية من الهواء، فإنه يكثف بأجهرة التكثيف وستخرج منه أثقل الاجسام صلابه وثقلا كسلفات النشادر، ومع التطور العظيم في علوم الكيمياء والاسمدة، فان الاجماع بين المتخصصين منعقد على أن أعلى أنواع السماد وأسلمها للارض وأعظمها إخصابا للتربه هو الاسمدة العضوية كالروث والبراز الحيوانى والآدمي لهذا أجاز الوصية بكل نافع ولو كان نجسا.
أما الوصية بالخمر والخنيزير والكلب العقور فباطله، لان الانتفاع بها محرم فلو انه اوصى بجرة فيها خمر قال الشافعي رضى الله عنه: اريق الخمر ودفعت إليه الجرة، لان الجرة مباحة والخمر حرام.
فاما الوصية بالحيات والعقارب وحشرات الارض والسباع والذئاب فباطله لانه لا منفعة فيهجميعا.
فأما الوصية بالفيل فان كان منتفعا به فجائر لجواز ان يبيعه ويقوم في التركة ويعتبر من الثلث، وإن كان غير منتفع به فالوصيه باطلة.
فأما الفهد والنمر والشاهين والصقر فالوصيه بذلك جائزة لانها جوارح ينتفع بها للصيد وتقوم في التركة لجواز بيعها وتعتبر في الثلث، وأما الوصية بما تصيده الكلاب فباطلة لان الصيد لمن صاده
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ويجوز تعليق لوصية على شرط في الحياة لانها تجوز في المجهول فجاز تعليقها بالشرط كالطلاق والعتاق، ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت
لان ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليقها على شرط في الحياة جاز بعد الموت.
(فصل)
وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء لزمت بالموت لانه لا يمكن اعتبار القبول فلم يعتبر، وإن كانت لمعين لم تلزم إلا بالقبول لانه تمليك لمعين(15/429)
فلم يلزم من غير قبول كالبيع، ولا يصح القبول إلا بعد الموت، لان الايجاب بعد الموت فكان القبول بعده.
فان قبل حكم له بالملك.
وفى وقت الملك قولان منصوصان.
(أحدهما)
تمليك بالموت والقبول، لانه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يقع الملك قبله كالهبة.
(والثانى)
أنه موقوف، فان قبل حكمنا بأنه ملك من حين الموت، لانه لا يجوز أن يكون للموصى لان الميت لا يملك، ولا يجوز أن يكون للوارث لان الوارث لا يملك إلا بعد الدين والوصية، ولا يجوز أن يكون للموصى له لانه لو انتقل إليه لم يملك رده كالميراث، فثبت أنه موقوف.
وروى ابن عبد الحكم قولا ثالثا أنه يملك بالموت ووجهه أنه مال مستحق بالموت فانتقل به كالميراث.
(فصل)
وإن رد نظرت، فان كان في حياة الموصى لم يصح الرد لانه لا حق له في حياته فلم يملك اسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعه قبل البيع، وان رد بعد الموت وقبل القبول صح الرد لانه يثبت له الحق فملك اسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعه بعد البيع وان رد بعد القبول وقبل القبض ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح الرد لانه ملكه ملكا تاما فلم يصح رده، كما لو قبضه
(والثانى)
أنه يصح الرد، وهو المنصوص لانه تمليك من جهة الآدمى من غير
بدل فصح رده قبل القبض كالوقف، وان لم يقبل ولم يرد كان للورثه المطالبة بالقبول أو الرد، فان امتنع من القبول والرد حكم عليه بالرد، لان الملك متردد بينه وبين الورثة، كما لو تحجر أرضا فامتنع من احيائها أو وقف في مشرعة ماء فلم يأخذ ولم ينصرف.
(فصل)
وان مات الموص له قبل الموصى بطلت الوصيه ولا يقوم وارثه مقامه لانه مات قبل استحقاق الوصية، وان مات بعد موته وقبل القبول قام وارثه مقامه في القبول والرد لانه خيار ثابت في تملك المال، فقام الوراث مقامه كخيار الشفعه.(15/430)
(الشرح) تصح الوصية مطلقة ومقيدة فالمطلقة أن يقول: إن مت فثلثي للمساكين أو لفلان، والمقيدة أن يقول: إن مت من مرضى هذا أو في هذه البلدة أو في سفري هذا فثلثي للمساكين، فإن برأ من مرضه أو قدم من سفره أو خرج من البدة ثم مات بعد ذلك فليس له وصية، وبهذا قال الحسن والثوري والشافعي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأى.
وقال مالك: إن قال قولا ولم يكتب كتابا فهو كذلك، وإن كتب كتابا ثم صح من مرضه وأقر الكتاب فوصيته بحالها ما لم ينقضها.
ولنا أنها وصية بشرط لم يوجد شرطها فبطلت: كما لو لم يكتب كتابا أو كما لو وصى لقوم فماتوا قبله، ولانه قيد وصينه بقيد فلا يتعداه كما ذكرنا، وإن قال لاحد عبديه: أنت حر بعد موتى، وقال للآخر: أنت حر إن مت في مرضى هذا فمات في مرضه فالعبدان سواء في التدبير.
وإن برأ من مرضه ذلك بطل تدبير المقيد وبقى تدبير المطلق بحاله، ولو وصى لرجل بثلثه وقال: ان مت قبلى فهو لعمرو وصحت وصيته على حسب ما شرطه له، وكذلك في سائر الشروط فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الْمُسْلِمُونَ على شروطهم) .
(فرع)
ولا يملك الموصى له الوصيه الا بالقبول في قول جمهور الفقهاء إذا كانت لمعين يمكن القبول منه لانه تمليك مال لمن هو من أهل الملك متعين، فاعتبر قبوله كالهبة والبيع، فأما ان كانت لغيره معين كالفقراء والمساكين ومن لا يمكن حصرهم كبنى هاشم وتميم أو على مصلحة كمسجد ومستشفى ومدرسة أو حج لم يفتقر إلى قبول ولزمت بمجرد الموت لان اعتبار القبول من جميعهم متعذر، فيسقط اعتباره كالوقف عليهم، ولا يتعين واحد منهم فيكتفى بقبوله، وذلك لو كان فيهم ذو رحم من الموصى به مثل ان يوصى بعبد للفقراء وأبوه فقير لم يعتق عليه، ولان الملك لا يثبت الموصى لهم بدليل ما ذكرنا من المسألة وإنما ثبت لكل واحد منهم بالفيض فيقوم قبضه مقام قبوله.
اما الادمى المعين فيثبت له الملك فيعتبر قبلوله لكن لا يعين القبول باللفظ بل يجزئ ما قام مقامه من الاخذ والفعل الدال على الرضى كقولنا في الهبة والبيع(15/431)
فإذا ثبت هذا: فان الوصية تشتمل على أمرين.
أحدهما: العطية، والثانى الولاية، فاما العطية فهو ما يوصى به الرجل من أمواله لمن أحب، فالوقت الذى يصح فيه قبول ذلك ودره بعد موت الموصى، فان قبل أو رد بعد موته صح، وكان على ما مضى من حكم القبول والرد، فأما في حياة الموصى فلم يصح قبوله ولا رده.
وقال أبو حنيفة: يصح الرد ولا يصح القبول، لان الرد أوسع حكما من القبول، وهذا فاسد لامور، منها ان الرد في مقابلة القبول لانهما معا يرجعان إلى الوصية، فلما امتنع أن يكون ما قبل الموت زمانا للقبول، امتنع أن يكون زمانا للرد وصار كزمان ما قبل الوصية الذى لا يصح فيه قبول ولا رد، وعكسه ما بعد الموت لما صح فيه القبول صح فيه الرد، ومنها ان الرد في حال
الحياة عرف، وقيل: وقت الاستحقاق، فجرى مجرى العفو عن القصاص قبل وجوبه، وعن الشفعة قبل استحقاقها، ومنها انه قبل الموت مردود عن الوصية فلم يكن رده لها مخالفا لحكمها.
وأما الوصية بالولاية على مال طفل أو تفريق ثلثه أو تنفيذ وصية فيصح قبولها وردها في حياة الموصى وبعد موته بخلاف وصايا العطايا، وكان قبوله في حياة العاقد أصح، وذلك عطية تقبل في زمان التمليك، ولو رد الوصية في حياة الموصى لم يكن له قبلوها بعد موته ولا في حياته، ولو قبلها في حياة الموصى صحت وكان له المقام عليها إن شاء والخروج منها إذا شاء في حياة الموصى وبعد موته.
وقال أبو حنيفة.
ليس له الخروج من الوصية بعد موت الموصى، ويجوز له الخروج منها في حياته إذا كان حاضرا، وان غاب لم يجز وهذا فاسد من وجهين
(أحدهما)
ان ما كان لازما من العقود استوى حكمه في الحياة وبعد الموت وما كان غير لازم بطل، فالموت والوصيه ان خرجت عن أحدهما صارت أصلا يفتقر إلى دليل
(والثانى)
لو كان حضور إلى شرطا في الخروج من الوصية لكان رضاه معتبرا، وفى اجماعهم على ان رضاه، وان كان حاضرا غير معتبر دليل على ان الحضور غير معتبر، ولا يخلو إذا رد الوصيه من خمسة أحوال،(15/432)
أ - أن يردها قبل موت الموصى، فلا يصح الرد لعدم وقوع الوصية فأشبه رد المبيع قبل ايجاب البيع، ولانه ليس بمحل للقبول فلا يكون محلا للرد كما قبل الوصية ب - أن يردها بعد الموت وقبل القبول، فيصح الرد وتبطل الوصية لا نعلم فيه خلافا لانه أسقط حقه في حال يملك قبوله واخذه فاشبه عفو الشفيع عن الشفعة بعد البيع.
ج - ان يرد بعد القبول والقبض فلا يصح الرد لان ملكه قد استقر فأشبه رده لسائر ملكه الا أن يرضى الورثة بذلك فتكون هبة
منه لهم تفتقر إلى شروط الهبة.
د - ان يرد بعد القبول وقبل القبض وفيه وجهان
(أحدهما)
يصح الرد لانهم لما ملكوا الرد من غير قبول ملكوا الرد من غير قبض، ولان ملك الوصي لم يستقر عليه قبل القبض فصح رده كما قبل القبول
(والثانى)
لا يصح الرد لان الملك يحصل بالقبول من غير قبض.
هـ - ان يمتنع عن القبول والرد وهذا يكون حكمه حكم الرد، لان الملك متردد بينه وبين الورثة، ومثاله من تحجر أرضا ثم امتنع من إحيائها.
أو وقف على جدول ماء فلم ياخذ ولم ينصرف وعطل مرور الماء على من ينتفعون به لارواء إنسان أو حيوان أو نبات، وفرق الحنابلة في (ج) بين المكيل والموزون وغيرهما وقد اختلف اصحابنا فيما قبل القبول وبعد الموت متى يحصل ملك الوصية للموصى له، وهل تكون باقية على ملك الموصى أو داخلة في ملك الورثة على وجهين.
أحدهما وهو قول ابن سريج وأكثر البصريين ان ملك الوصية منتقل عن الميت إلى ورثته ثم بالقبول تدخل في ملك الموصى له لزوال ملك الموصى بالموت.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وأكثر البغداديين أن الوصيه باقية على ملك الموصى بعد موته حتى يقبلها الموصى له فتدخل في ملكه بقبوله وتنتقل إليه عن الموصى لان الوصية تملك عنه كالميراث، ووجه هذا القول أن الوصية تملك بالقبول فلم يجز أن يتقدم الملك على قبولها كالهبات.
قال الشافعي: وهذا قول ينكسر، والقول الثاني وهو أصحها أن القبول يدل على حصول الملك بالموت فيكون الملك موقوفا مراعى، فان قبل دل على تقدم ملكه، وان لم يقبل دل على عدم ملكه، ووجه هذا القول انه لما امتنع ان يبقى للميت ملك وان الوارصث لا يملك الارث اقتضى أن يكون الملك موقوفا على(15/433)
قبول الموصى له ورده، وحقه في القبول باق ما لم يعلم، فإذا علم فان كان عند انفاذ
الوصايا وقسمة التركة فقبوله على الفور، فان قبل والا بطل حقه في الوصية، فاما بعد علمه وقبل انفاذا الوصايا وقسمة التركة، فمذهب الشافعي وقول جمهور أصحابه أن القول فيه على التراخي لاعلى الفور فيكون ممتدا ما لم يصرح بالرد حتى تنفذ الوصايا وتقسم التركة، وحكى أبو القاسم بن كج عن بعض أصحابنا ان القبول بعد علمه على الفور لانها عطيه كالهبات، وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي قولا ثالثا ان الوصية تدخل في ملك الموصى له بغير قبول ولا اختيار كالميراث، فاختلف أصحابنا في تخرجه قولا ثالثا للشافعي فخرجه أبو على بن أبى هريرة وأكثر متأخرى المتقدمين من أصحابنا قولا ثالثا تعليلا بالميراث، وامتنع أبو اسحاق المروزى واكثر قدامى المتقدمين من أصحابنا من تخريجه قولا ثالثا، وتأولوا رواية ابن عبد الحكم بأحد تأويلين، إما حكاية عن مذهب غيره، وإما على معنى أن بالقبول يعلم دخولها بالموت في ملكه، وفى طبيعة الوصية والفرق بينها وبين الميراث بأن الميراث عطية من الله تعالى فلم يراع فيه القبول، والوصية عطية من آدمى فروعي فيها القبول (فرع)
قال الشافعي: ولو مات قبل أن يقبل أو بعد موته، فإن مات الموصى له في حياة الموصى فالذي عليه جمهور الفقهاء أن الوصية له قد بطلت وليس لوارثه قبولها بعد موت الموصى.
وحكى عن الحسن البصري أن الوصية لا تبطل بموته، ولورثته قبولها.
قال الماوردى: وهذا فاسد من وجهين، أن الوصية في غير حياة الموصى غير لازمة، وما ليس بلازم من العقود يبطل بالموت، ولان الوصية له لا لورثته، وهو لا يملك الوصيه في حياة الموصى.
وإن مات الموصى له بعد موت الموصى لم يخل حال الموصى له قبل موته من ثلاثة أحوال، أحدها: أن يكون قد قبلها قبل موته وبعد موت الموصى فقد
بطلت برده وليس لوارثه قبولها بعد موته إجماعا.
والحال الثانية: أن يكون قد قبلها قبل موته وبعد موت الموصى فقد ملكها أو انتقلت بموته إلى وارثه، وسواء(15/434)
قبضها الموصى له في حياته أم لا، لان القبض ليس بشرط في تملك الوصيه، والحال الثالثة: أن يموت قبل قبوله ورده فعلى مذهب الشافعي يقوم وارثه مقامه في القبول والرد ولا تبطل الوصية بموته قبل القبول.
وقال أبو حنيفة: إذا مات قبل القبول بطلت الوصية له كالهبة، وهذا فاسد، لان ما استحقه في التركة لم يسقط بالموت كالدين، ولان كل سبب استحق به تملك عين بغير اختيار مالكها لم تبطل بموته قبل تملكها كالرد بالعيب، وفارقت الوصية الهبة من حيث إن الهبة قبل القبض غير لازمة فجاز أن تبطل بموت الموصى له قبل القبول لازمة فلم تبطل بالموت، فإذا ثبت أن الوصية لا تبطل بموت الموصى له قبل الرد والقبول فورثته يقومون مقامه في القبو والرد، ولهم ثلاثة أحوال، حال يقبل جميعهم الوصية، وحال يرد جميعهم الوصية، وحال يقبلها بعضهم ويردها بعضهم، فإن قبلوها جميعا فعلى القول الذى يجعل القبول دالا على عدم الملك بالموت، فالمالك للوصية بقبول الورثة هو الموصى له لا الورثة.
فأما على القول الذى يجعل القبلو ملكا، فقد اختلف أصحابنا هل تدخل الوصيه في ملك الموصى له بقبول ورثته أَمْ لَا، عَلَى وَجْهَيْنِ.
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وأبى المرووذى: أن الوصيه يملكها الورثة دون الموصى له لحدوث الملك بقبولهم.
(والوجه الثاني) وهو الظاهر من المذهب، وبه قال أكثر البصريين وحكاه أبو القاسم بن كج عن شيوخه أن الوصيه يملكها الموصى له بقبول ورثته، وان كان القبول مملكا، لانها لو لم تدخل في ملكه لبطلت، لان الورثة غير موصى
لهم، فلم يجز أن يملك الوصيه من لم يوصى له، ولو رد الورثة بأجمعهم الوصية بطلت بردهم لها، والله أعلم وهو الموفق للصواب.(15/435)
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
بَابُ مَا يعتبر من الثلث
ما وصى به من التبرعات كالعتق والهبة والصدقة والمحاباة في البيع يعتبر من الثلث، سواء كانت في حال الصحة أو في حال المرض، أو بعضها في لصحة وبعضها في المرض، لان الزوم الجميع عند الموت، فأما الواجبات من ديون الآدميين وحقوق الله تعالى كالحج والزكاة فإنه إن لم يوص بها وتجب قضاؤها من رأس المال دون الثلث، لانه إنما منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة، ولا حق للورثة مع الديون، فلم تعتبر من الثلث وإن وصى أن يؤدى ذلك من الثلث اعتبر من الثلث، لانها في الاصل من رأس المال فلما جعلها من الثلث علم أنه قصد التوفير على الورثة فاعترت من الثلث، وإن وصى بها ولم يقل إنها من الثلث، ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه تعتبر من الثلث وهو ظاهر النص، لانها من رأس المال، فلما وصى بها علم أنه قصد أن يجعلها من جملة الوصايا فجعل سبيلها سبيل الوصايا.
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنه إن لم يقرن بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من رأس المال، وان قرن بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من الثلث، لانها في الاصل من رأس المال، فإذا عريت عن القرينة بقيت على أصلها، وان قرن بها ما يعتبر من الثلث علم أنه قصد أن يكون مصرفهما واحدا.
(والثالث) أنه تعتبر من رأس المال وهو الصحيح.
لانها في الاصل من رأس المال والوصية بها تقتضي التأكيد والتذكار بها، والقرينة تقتضي التسوية
بينهما في الفعل، لا في السبيل، فبقيت على أصلها.
(فصل)
وأما ما تبرع به في حياته ينظر فيه فإن كان في حال الصحة لم يعتبر من الثلث لانه مطلق التصرف في ماله لا حق لاحد في ماله فاعتبر من رأس المال، وان كان ذلك في مرض غير مخوف لم يعتبر من الثلث، لان الانسان لا يخلو من عوارض فكان حكمه حكم الصحيح، وان كان ذكك في مرض مخوف(15/436)
واتصل به الموت اعتبر من الثلث، لما روى عمران ابن الحصين (أن رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ للرجل قولا شديدا ثم دعاهم فجزأهم فأفرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، ولانه في هذا الحالة لا يأمن الموت فجعل كحال الموت، وإن برئ من المرض لم يعتبر من الثلث لانه قد بان أنه لم يكن في ماله حق أحد، وان وهب في الصحة وأقبض في المرض اعتبر من الثلث لانه لم يلزم الا بالقبض وقد وجد ذلك منه في المرض.
(فصل)
وان باع في المرض بثمن المثل أو تزوج امرأة بمهر المثل صح العقد ولم يعتبر العوض من الثلث لانه ليس بوصية، لان الوصية أن يخرج ولم يخرج ههنا شيئا من غير عوض وان كاتب عبدا اعتبر من الثلث، لان ما يأخذ من العوض من كسب عبده وهو مال له فيصير كالعتق بغير عوض.
وان وهب له من يعتق عليه في المرض المخوف فقبله اعتبر عتقه من الثلث فإذا مات لم يرثه.
وقال أبو العباس: يعتبر عتقه من رأس المال ويرثه، لانه ليس بوصية، لانه لم يخرج من ملكه شيئا بغير عوض، والمذهب الاول، لانه ملكه بالقبول وعتق عليه، والعتق في المرض وصية، والميراث والوصيه لا يجتمعان، فلو
ورثناه بطل عتقه، وإذا بطل العتق بطل الارث فأثبتنا العتق وأبطلنا الارث
(فصل)
والمرض المخوف كالطاعون والقولنج وذات الجنب والرعاف الدائم والاسهال المتواتر، وقيام الدم والسل في انتهائه، والفالج الحادث في ابتدائه، والحمى المطبقه، لان هذه الامراض لا يؤمن معها معاجلة الموت فجعل كحال الموت.
فأما غير المخوف فهو كالجرب ووجع الضرس والصداع اليسير وحمى يوم أو يومين، واسهال يوم أو يومين من غير دم، والسل قبل انتهائه، والفالج إذا طال، لان هذه الامراض يؤمن معها معالجة الموت فإذا اتصل بها الموت علم أنه لم يكن موته من هذه الامراض، وان أشكل شئ من هذه الامراض رجع فيه إلى نفسين من أطباء المسلمين، ولا يقبل فيه قول الكافر، وان ضرب الحامل الطلق(15/437)
فهو مخوف لانه منه الموت، وفيه قول آخر انه مخوف لان السلامة منه أكثر (الشرح) حديث عمران بن حصين رواه أحمد ومسلم وأصحاب الاربعة بلفظ المصنف، وفى رواية لاحمد (أن رجلا أعتق عند موته ستة رجلة له فجاء ورثته من الاعراب، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع.
قال أو فعل ذلك لو علمنا ان شاء الله ما صلينا، فأقرع بينهم فأعتق منهم اثنين وأرق أربعه) ورواه أحمد وأبو داود عن أبى زيد الانصاري (أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأعتق اثنين وأرق أربعه) وفى رواية أبى داود (لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين) وهذا النص تفسير للقول الشديد الذى أبهم في رواية عمران، وفيه تغليض وذم بالغان، لان الله تعالى لم يأذن للمريض بالتصرف الا بالثلث، فإذا تصرف في أكثر منه كان مخالفا لحكمه تعالى ومشابها لمن وهب غير ماله:
والحديثان يدلان على أن تصرفات المريض انما تنفذ من الثلث ولو كانت منجزة في الحال، ولم تضف إلى بعد الموت، وقد أسلفنا القول بالاجماع على عدم جواز الوصيه بأكثر من الثلث لمن كان له وارث، على أن التنجيز حال المرض المخوف حكمه حكم الوصيه.
واختلف الفقهاء هل تعتبر الثلث من التركة حال الوصيه أو حال الموت، وهما وجهان لاصحابنا أصحهما الموت، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وهو قول على كرم الله وجهه وجماعة من التابعين، وقال بحال الوصية مالك وأكثر العراقيين والنخعي وعمر بن عبد العزيز، وتمسكوا بأن الوصيه عقد والعقود تعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله اعتبر ذلك حال النذر اتفاقا، وأجيب بأن الوصيه ليست عقدا من كل وجه، ولذلك لا يعتبر فيها الفورية ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصيه بأنها يصح الرجوع فيها والنذر يلزم، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصيه، واختلفوا أيضا هل يحسب الثلث من جميع المال، أو يتقيد بما علمه الموصى دون ما خفى عليه أو تجدد له ولم يعلم به وبالاول قال الجمهور وبالثانى قال مالك، وحجه الجمهور أنه لا يشترط أن يستحضر مقدار المال حال الوصيه اتفاقا، ولو كان عالما بجنسه فلو كان العلم به شرطا لما جاز ذلك.(15/438)
والكلام على الاحكام أن ما وصى به من التبرعات والهبات والصدقات والمحاباة في البيع بأن يكون المبيع مقوما بعشرة فيوصى ببيعه بخمسة مثلا بعد موته، فإن الخمسة الباقية وهى قدر المحاباة تحسب من الثلث الذى أجاز الله له التصرف فيه بالوصية سواء وقعت الوصية في حال الصحة أم في حال المرض وكذلك إن أسقط عن وارثه دينا أو أوصى بقضاء دينه أو أسقطت المرأة صداقها عن زوجها أو عفا عن جناية موجبها المال فهو كالوصية.
وإن عفا عن القصاص وقلنا: الواجب القصاص عينا سقط إلى غير بدل وإن قلنا: الواجب أحد شيئين سقط القصاص ووجب المال، وإن عفا عن حد القذف سقط مطلقا، وان وصى الغريم وارثه صحت الوصية، وكذلك إن وهب له، وبهذا قال أحمد والشافعي وأبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: هو وصية للوارث، لان الوارث ينتفع بهذه الوصية وتستوفى ديونه منها.
ولنا أنه وصى لاجنبي فصح كما لو وصى لمن عادته الاحسان إلى وارثه، وإن وصى لوالد وارثه صح، فإن كان يقصد بذلك نفع الوارث لم يجز فيما بينه وبين الله تعالى.
قال طاوس في قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا، قال أن يوصى لولد ابنته وهو يريد نفع ابنته (فرع)
قال الشافعي: ويجوز نكاح المريض.
قلت: إذا تزوج إمرأة صح نكاحها ولها الميراث والصداق إن لم يزد على صداق مثلها، فإن زاد ردت الزيادة إن كانت وارثة، وأمضيت ان كانت غير وارثة وهكذا المريضة إذا نكحت رجلا صح نكاحها وورثها الزوج، وعليه صداقتها إن كان مهر المثل فما زاد، فإن نكحته بأقل من صداق مثلها، فالمحاباة بالنقصان وصية له فترد إن كان الزوج وارثا وتمضى في الثلث ان كان غير وارث.
وقال مالك: نكاح المريض فاسد لا يستحق به ميراثا.
ولا يجب فيه صداق الا أن يكون راضيا به، فيلزمه مهر المثل من الثلث مقدم على الوصايا، وكذلك نكاح المريض فاسد ولا ميراث للزوجة.
وقال ابن أبى ليلى: النكاح في المرض جائز والميراث من الثلث.(15/439)
وقال ابن أبى هريرة: النكاح في المرض جائز ولا ميراث.
وقال الحسن البصري: ان ظهر منه الاضرار في تزويجه لم يجز، وان لم يضهر منه الاضرار،
وظهر منه الحاجة إليه في خدمة أو غيرها جاز.
ودليلنا عموم قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء، ولم يفرق بين صحيح ومريض، وقال معاذ بن جبل في مرضه: زوجوني حتى لا ألقى الله عزبا.
وقال عبد الله بن مسعود: لو لم يبق من أجلى الا عشرة أيام ما أوجبت الا أن يكون لى زوجة، وروى هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير رضى الله عنه دخل على قدامة يعوده فبشر عنده بجارية فقال قدامة زوجوني بها فقال: ما تصنع بها وأنت على هذه الحال، فقال ان أنا عشت نسبت الزبير، وان مت فهم أحق من يرثنى، ولانه فراش لا يمنع منه الصحيح فوجب أن لا يمنع منه المريض، ولانه عقد فلم يمنع منه المرض كالبيع والشراء، ولانه لا يخلو عمله أن يكون لحاجة أو شهوة، فإن كان لحاجة لم يجز منعه، وان كان لشهوة فهى مباحة له كما أبيح له أن يلتذ بما شاء من أكل أو لبس.
فإذا ثبت اباحة النكاح في المرض فله أن يتزوج ما أباحه الله تعالى من واحدة إلى أربع كهو في الصحة ولهن الميراث ان مات من ذلك المرض أو غيره.
وأما الصداق فإن كان أمهرهن صداق أمثالهن فلهن الصداق مع الميراث، وان كانت عليه ديون شاركن الغرماء في التركة وضربن معهم بالحصص، وان تزوجهن أو واحدة منهن بأكثر من صداق مثلها كانت الزيادة على صداق المثل وصيه في الثلث فإن كانت الزوجة وارثة ردت الوصية لانه لا وصية لوارث، وان كانت غير وارثه لرق أو كفر دفعت الزيادة إليها ان احتملها الثلث، أو ما احتمله منها يتقدم على الوصايا كلها لانها عطية في الحياة، وهكذا لو كانت الزوجه حرة مسلمه فماتت قبله صحت لها الزيادة ان احتملها الثلث لانها بالموت قبله غير وارثه فلو كانت حين نكاحها في المرض أمة أو ذميه فأعتقت الامه أو أسلمت الذميه صارت وارثه ومنعت من الزيادة على صداق مثلها، ولو صح المريض من مرضه
ثم مات من غيره أو لم يمت صحت الزيادة على صداق المثل من رأس المال لوارثه(15/440)
وغير وارثه، فعلى هذا لو تزوج في مرضه على صداق ألف درهم وصداق مثلها خمسمائة ومات ولا مال له غير الالف التى هي صداقها أعيت من الالف ستمائة وستة وستين درهما وثلثا، لان لها خمسمائة من المال، وتبقى خمسمائة هي جميع التركة وهى وصية لها فأعطيت ثلثها وذلك مائة درهم وستة وستون درهما وثلث درهم تأخذها مع صداق مثلها، ولو خلف مع الصداق خمسمائة صارت التركة بعد صداق المثل ألف درهم فلها ثلثها ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون درهما وثلث، ولو خلف مع الصداق ألف درهم خرجت الزيادة على صداق المثل من الثلث وأخذت الالف كلها.
إذا ثبت هذا: فإن التبرعات المنجزة كالعتق والمحاباة والهبة المقبوضة والصدقه والوقف والابراء من الدين والعفو عن الجناية الموجبه للمال إذا كانت هذه كلها في الصحه فهى من رأس المال لا نعلم في هذا خلافا، وإن كانت في مرض مخوف اتصل به الموت فهى من ثلث المال في قول جمهور العلماء.
وحكى عن أهل الظاهر في الهبة المقبوضة أنها من رأس المال، وليس بصحيح لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم) رواه ابن ماجه وغيره، وهذا يدل بمفهومه على أنه ليس له أكثر من الثلث، وقد أسلفنا القول في بسط ما يكون من رأس المال وما يكون من الثلث فاسدد به يديك.
وحكم العطايا في مرض الموت المخوف حكم في خمسه أشياء.
(أحدها) أن يقف نفوذها على خروجها من الثلث أو إجازة الورثة.
(الثاني) أنها لا تصح لوارث إلا بإجارة بقيه الورثة.
(الثالث) أن فضيلتها ناقصه عن فضيلة الصدقة في الصحه.
(الرابع) أن يزاحم بها الوصايا في الثلث.
(الخامس) أن خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله ولا بعده، ويفارق الوصيه في ستة أشياء.
أحدها: أنها لازمه في حق المعطى ليس له الرجوع فيها وان كثرت، ولان(15/441)
المنع على الزيادة من الثلث إنما كان لحق الورثة لا لحقه فلم يملك إجازتها ولا ردها، وإنما كان له الرجوع في الوصية لان التبرع بها مشروط بالموت فلم يملك إجازتها ولا ردها، وإنما كان له الرجوع في الوصية، لان التبرع مشروط بالموت ففيما قبل الموت لم يوجد التبرع ولا العطية بخلاف العطية في المرض، فانه قد وجدت العطية منه والقبول من المعطى والقبض فلزمت الوصية إذا قبلت بعد الموت وقبضت.
(الثاني) أن قبولها على الفور في حال حياة المعطى وكذلك ردها.
والوصايا لا حكم لقبولها ولا ردها إلا بالموت.
فتعتبر شروطه وقت وجوده والوصية تبرع بعد الموت فتعتبر شروطه بعد الموت (الثالث) أن العطية تفتقر إلى شروطها المشروطة لها في الصحة من العلم وكونها لا يصح تعليقها على شرط وغرر في غير العتق، والوصية بخلافه (الرابع) أنها تقدم على الوصية.
وهذا قول أحمد والشافعي وجمهور العلماء، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر إلا في العتق فانه حكى عنهم تقديمه، لان العتق يتعلق به حق الله تعالى ويسرى وقفه وينفذ في ملك الغير فيجب تقديمه (الخامس) العطايا إذا عجز العتق عن جميعها بدئ بالاول فالاول سواء كان الاول عتيقا أو غيره وبهذا قال أحمد والشافعي.
وقال أبو حنيفة رضى الله عنه: الجميع سواء إذا كانت من جنس واحد.
وإن كانت من أجناس وكانت المحاباة متقدمة قدمت وان تأخرت سوى بينها وبين
العتق.
وإنما كان كذلك لان المحاباة حق آدمى على وجه المعاوضة فقدمت إذا تقدمت كقضاء الدين، وإذا تساوى جنسها سواى بينها لانها عطايا من جنس واحد تعتبر من الثلث فسوى بينها كالوصية وقال أبو يوسف ومحمد: يقدم العتق تقدم أو تأخر.
(السادس) أن الواهب إذا مات قبل القبض للهبة المنجزة كانت الخيرة للورثة ان شاء واقبضوا وان شاء وامنعوا، والوصية تلزم بالقبول بعد الموت بغير رضاهم، وما لزم المريض في مرضه من حق لا يمكنه دفعه واسقاطه كأرش الجناية وما عاوض عليه بثمن المثل.
وما يتغابن الناس بمثله فهو من رأس المال لا نعلم فيه خلافا، وهذا عند الشافعي وأصحاب الرأى وأحمد بن حنبل، وكذلك النكاح بمهر المثل جائز من رأس المال لانه صرف لماله حاجة في نفسه(15/442)
فيقدم بذلك على وارثه.
ويعتبر في المريض الذى هذه أحكامه شرطان أحدهما: أن يتصل بمرضه الموت ولو صح في مرضه الذى أعطى فيه ثم مات بعد ذلك فحكم عطيته حكم عطية الصحيح، لانه ليس بمرض الموت.
(الثاني) أن يكون مخوفا، والامراض على ثلاثة أقسام غير مخوف كوجع الضرس والعين والاطراف والصداع وارتفاع الحرارة الطارئ فهذا حكمه حكم الصحيح لانه لا يخاف منه في العادة.
(والثانى)
الامراض المزمنة كالجذام والربو والفالج والذبحة الصدرية والسل فهذا الضرب ان أضنى صاحبه على فراشه فهو مخوف، وقال الاوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأحمد: ان وصية المجذوم والمفلوج من الثلث لانه محمول على أنهما صاحبي فراش، ومذهب الشافعي.
أنه لا يخاف تعجيل الموت فيه، وان كان لا يبرأ فهو كالهرم لا سيما الفالج إذا أزمن
(الثالث) من تحقق تعجيل موته فينظر فيه فان كان عقله قد اختل مثل نزيف المخ أو الحمى الشوكية أما من اشتد مرضه وصح عقله صح تبرعه عند أصحاب أحمد، وجمله ما مضى أن العطايا في المرض مقدمة على الوصايا إذا ضاق الثلث عنها لان تلك ناجزة وهذه موقوفة، فلو ضاق الثلث عن العطايا للمريض قدم الاسبق فالاسبق، ولو ضاق الثلث عن الوصايا لم يقدم الاسبق لان عطايا المرض تملك بالقبض المترتب فثبت حكم المتقدم.
والوصايا كلها تملك بالموت فاستوى حكم المتقدم والمتأخر إلا أن يرتبها المريض فتمضى على ترتيبه ما لم يتخلل الوصايا عتق، فان تخللها عتق فان كان واجبا في كفارة أو نذر قدم على وصايا التطوع، وان كان تطوفا ففيه قولان أحدهما أن العتق مقدم على جميع الوصايا لقوته بالبراءة في غير الملك وبه قال من الصحابة ابن عمر ومن التابعين شريح والحسن ومن الفقهاء مالك والشورى، والقول الثاني أن العتق والوصايا كلها سواء في مزاحمة الثلث لان جميعها تطوع، وبه قال من التابعين ابن سيرين والشعبى ومن الفقهاء أبو ثور، على أن المريض مرض الموت إذا أشكل أمره رجع في ذلك إلى طبيبين مسلمين، لان الامراض في زماننا هذا قد تشعبت أصنافها وتعددت اختصاصات العالمين من الاطباء بها، فقد يكون المرض في رأى أحدهم(15/443)
مخالف لرأى الآخر، فإذا اجتمعا وتشاورا أمكن اتفاقهما على حكم يؤخذ في الوصية به.
ويا حبذا لو تفقه أطباء المسلمين في أحكام الدين المتصلة بعلمهم ومهنتهم إذن لكانت منهم أمه هاديه ناصحه راشدة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان في الحرب وقد التحمت طائفتان متكافئتان، أو كان في
البحر وتموج، أو في كفار يرون قتل الاسارى، أو قدم للقتل في المحاربة، أو الرجم في الزنا، ففيه قولان.
(أحدهما)
أنه كالمرض المخوف يعتبر تبرعاته فيه من الثلث، لانه لا يأمن الموت كما لا يأمن في المرض المخوف
(والثانى)
أنه كالصحيح لانه لم يحدث في جسمه ما يخاف منه الموت فإن قدم لقتل القصاص فالمنصوص إنه لا تعتبر عطيته من الثلث ما لم يجرح.
واختلف أصحابنا فيه على طريقين، فقال أبو إسحاق: هي على قولين قياسا على الاسير في يد كفار يرون قتل الاسارى، ومن أصحابنا من قال: لا تعتبر عطيته من الثلث لانه غير مخوف لان الغالب من حال المسلم أنه إذا قدر رحم وعفا، فصار كالاسير في يد من لا يرى قتل الاسارى.
(الشرح) الاحكام: يحصل التخويف يغير ما ذكرناه في مواضع خمسة تقوم مقام المرض.
1 - إذا التحم الجيشان واختلط الفريقان في القتال وكانت كل فرقة متكافئة للاخرى أو مقهورة أمامها، فأما الفئة الغالبة منهما فليست حائفة بعد ظهورها، وكذلك إذا لم يلتحما بل كانت كل منهما متميزة، سواء كان بينهما تبادل بالرماية أو لم يكن فليست هذه بحالة خوف، ولا فرق بين كون الطائفتين متفقتين في الدين أو مفترقتين فعن الشافعي رضى الله عنه قولان.
أحدهما: هذا، وبه قال مالك والاوزاعي والثوري، وأحمد، ونحوه عن مكحول، والثانى: ليس بخوف.
ليس بمريض.(15/444)
2 - إذا قدم ليقتل قصاصا أو غيره أو كمن قدم ليرجم في حد الزنا فقولان أيضا.
أحدهما: أنه مخوف.
والثانى: إن حرج فهو مخوف، وإلا فلا، لانه
صحيح البدن، والظاهر العفو عنه، وبالاول قال أحمد، لان التهديد بالقتل جعل إكراها يمنع وقوع الطلاق وصحة البيع، ويبيح كثيرا من المحرمات ولولا الخوف لم تثبت هذه الاحكام.
3 - إذا ركب البحر، فإن كان ساكنا فليس بمخوف، وإن تموج واضطرب وهبت الريح العاصف فهو مخوف، فإن الله تعالى وصفهم بشدة الخوف بقوله تعالى (هو الذى يسيركم في البحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذة لنكونن من الشاكرين) .
4 - الاسير والمحبوس إذا كان من عادته القتل فهو خائف عطيته من الثلث وإلا فلا.
وهذا أحد قولى الشافعي، وبه قال أبو حنيفة ومالك وابن أبى ليلى وأحمد بن حنبل.
وقال الحسن: لما حبس الحجاج إياس ليس له من ماله إلا الثلث، وقال القاضى أبو بكر: عطية الاسير من الثلث، ولم يفرق، وبه قال الزهري والثوري وإسحاق وحكاه ابن المنذر عن أحمد.
وقال الشعبى ومال: الغازى عطيته من الثلث.
وقال مسروق: إذا وضع رجله في الغرز.
وقال الاوزاعي: المحصور في سبيل الله والمحبس ينتظر القتل أو تفقأ عيناه هو في ثلثه، والصحيح إن شاء الله ما ذكرنا من التفضيل، لان مجرد الحبس والاسر من غير خوف القتل ليس بمرض ولا هو في معنى المرض في الخوف فلم يجز إلحاقه به، وإذا كان المريض الذى لا يخاف التلف عطيته من رأس ماله فغيره أولى.
هذا إذا كان مأسورا لطائفة من المسلمين فإن المذهب أنه ليس مخوفا، لان المسلمين لا يقتلون أسراهم من الكفار إلا بشروط فما بالك إذا كان الاسير مسلما 5 - وقوع الطاعون في بلد فعن أحمد أنه مخوف، والمذهب عندنا أنه ليس
بمرض، وإنما يخالف المرض والله تعالى أعلم بالصواب.(15/445)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن عجز الثلث عن التبرعات لم يخل إما أن يكون في التبرعات المنجزة في المرض أو في الوصايا، فإن كان في التبرعات المنجزة في المرض، فإن كانت في وقت واحد نظرت، فان كانت هبات أو محاباة قسم الثلث بين الجميع لتساويهما في اللزوم، فان كانت متفاضلة المقدار قسم الثلث عليها على التفاضل، وإن كانت متساوية قسم بينها على التساوى كما يفعل في الديون ن وإن كان عتقا في عبيد أقرع بينهم لما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين، ولان القصد من العتق تكميل الاحكام، ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه، فان وقعت متفرقة قدم الاول فالاول عتقا كان أو غيره، لان الاول سبق فاستحق به الثلث فلم يجز إسقاطه بما بعده، فان كان له عبدان سالم وغانم فقال لسالم إن أعتقت غانما فأنت حر، ثم أعتق غانما قدم عتق غانم لان عتقه سابق.
فان قال ان أعتقت غانما فأنت حر حال عتق غانم ثم أعتق غانما فقد قال بعض أصحابنا: يعتق غانم، لان عتقه غير متعلق بعتق غيره، وعتق سالم متعلق بعتق غيره، فإذا أعتقناهما في وقت واحد احتجنا أن نقرع بينهما فربما خرجت القرعة على سالم فيبطل عتق غانم، وإذا بطل عتقه بطل عتق سالم فيؤدى إثباته إلى نفيه فسقط ويبقى عتق غانم لانه أصل، ويحتمل عندي أن لا يعتق واحد منهما، لانه جعل عتقهما في وقت واحد، ولا يمكن أن يقرع بينهما لما ذكرناه، ولا يمكن تقديم عتق أحدهما لانه لا مزية لاحدهما على الآخر بالسبق فوجب أن يسقطا وإن كانت التبرعات وصايا وعجز الثلث عنها لم يقدم بعضها على بعض بالسبق لان ما تقدم وما تأخر يلزم في وقت واحد وهو بعد الموت، فان كانت كلها
هبات أو كلها محاباة أو بعضها هبات وبعضها محاباة قسم الثلث بين الجميع على التفاضل إن تفاضلت وعلى التساوى إن تساوت.
وإن كان الجميع عتقا أقرع بين العبيد لما ذكرناه في القسم قبله.
وإن كان بعضها عتقا وبعضها محاباة أو هبات ففيه قولان
(أحدهما)
أن الثلث يقسم بين الجميع، لان الجميع يعتبر من الثلث، ويلزم(15/446)
في وقت واحد
(والثانى)
يقدم العتق بماله من القوة، وان كان بعضها كتابة وبعضها هبات ففيه طريقان
(أحدهما)
أنه لا تقدم الكتابة أنه ليس له قوة وسراية فلم تقدم كالهبات
(والثانى)
أنها على قولين لانها تتضمن العتق فكانت كالعتق.
(فصل)
وإن وصى أن يحج عنه حجة الاسلام من الثلث أو يقضى دينه من الثلث ووصى معها بتبرعات، ففيه وجهان
(أحدهما)
يقسط الثلث على الجميع لان الجميع يعتبر من الثلث، فان كان ما يخص الحج أو الدين من الثلث لا يكفى تمم من رأس المال، لانه في الاصل من رأس المال، وانما اعتبر من الثلث بالوصية، فإذا عجز الثلث عنه وجب أن يتمم من أصل المال
(والثانى)
يقدم الحج والدين، لانه واجب ثم يصرف ما فضل في الوصايا
(فصل)
وان وصى لرجل بمال وله مال حاضر ومال غائب أو له عين ودين دفع إلى الموصى له ثلث الحاضر وثلث العين.
وإلى الورثة الثلثان، وكل ما حضر من الغائب أو نض من الدين شئ قسم بين الورثة والموصى له، لان الموصى له شريك الورثة بالثلث فصار كالشريك في المال.
وان وصى لرجل بمائة دينار وله مائة حاضرة وله ألف غائبة فللموصى له ثلث الحاضرة ويوقف الثلثان، لان الموصى له شريك الوارث في المال، فصار
كالشريك في المال.
وان أراد الموصى له التصرف في ثلث المائة الحاضرة ففيه وجهان
(أحدهما)
تجوز لان الوصية في ثلث الحاضرة ماضية، فمكن من التصرف فيه
(والثانى)
لا يجوز لانا منعنا الورثة من التصرف في الثلثين الموقوفين.
فوجب أن نمنع الموصى له من التصرف في الثلث، وان دبر عبدا قيمته مائة وله مائتان غائبة، ففيه وجهان
(أحدهما)
يعتق ثلث العبد، لان عتق ثلثه مستحق بكل حال
(والثانى)
وهو ظاهر المذهب أنه لا يعتق، لانا لو أعتقنا الثلث حصل للموصى له الثلث، ولم يحصل للورثه مثلاه.
وهذا لا يجوز(15/447)
(الشرح) قال الشافعي: ولو أوصى بغلامه وهو يساوى خمسمائة وبداره لآخر وهى تساوى ألفا وبخمسمائة لآخر والثلث ألف درهم، دخل على كل واحد منهم عول نصف فصار للذى له الغلام نصفه، وللذى له الدار نصفها، وللذى له الخمسمائة نصفها.
قلت: إذا ضاق الثلث عن الوصايا فللورثة حالتان: حالة يجيزون، وحالة يردون، فإن ردوا قسم الثلث بين أهل الوصايا بالحصص، وتسوى منه الوصية بالمعين والمقدر.
وحكى عن أبى حنيفة أن الوصية بالمعين مقدمة على الوصية بالمقدر.
استدلالا بأن المقدر يتعلق بالذمة.
فإذا ضاق الثلث فيها زال تعلقها بالذمة.
وهذا غير صحيح، لان محل الوصايا في التركة سواء ضاق الثلث أو اتسع لها فاقتضى ان يستوى المعين والمقدر مع ضيق الثلث كما يستويان مع اتساعه، ولان الوصية بالمقدر أثبت من الوصية بالمعين، لان المعين إن تلف
بطلت الوصية به، والمقدر إن تلف بعض المال لم تبطل الوصية فإذا تقرر استواء المعين والمقدر مع ضيق الثلث عنها وجب أن يكون عجز الثلث داخلا على أهل الوصايا بالحصص، فإذا أوصى بسيارته لرجل وقيمتها خمسمائة، وبداره لآخر وقيمتها الف وبخمسمائة لآخر، فوصايا الثلاثة كلها تكون ألفين، فان كان الثلث ألفين فصاعدا فلا عجز.
وهى ممضاة، وإن كان الثلث ألفا فقد غجز الثلث عن نصفها فوجب أن يدخل العجز على جميعها.
ويأخذ كل موصى له بشئ نصفه فيعطى الموصى له بالسيارة نصفها، وذلك مائتان وخمسون ويعطى الموصى له بالدار نصفها وذلك خمسمائة.
ويعطى الموصى له بالخمسمائة نصفها وذلك مائتان وخمسون وعلى قول أبى حنيفة تسقط الوصية بالخمسمائة المقدرة، ويجعل الثلث بين الموصى له بالسيارة والدار، فيأخذ كل واحد منهما ثلثى وصيته لدخول العجز بالثلث منها، فلو كان الثلث في هذه الوصايا خمسمائة فهو ربع الوصايا الثلاثه فيعطى كل واحد ربع ما جعل له، ولو كان الثلث ألفا وخمسمائة فيجعل لكل واحد منهم ثلاثة أرباع وصيته ثم على هذا القياس(15/448)
وإن أجازوا الوصايا كلها مع ضيق الثلث عنها ودخول العجز بالنصف عليها ففى إجازتهم قولان.
(أحدهما)
أن إجازتهم ابتداء عطية منهم لامرين.
أحدهما: أن ما زاد على الثلث منهى عنه، والنهى يقتضى فساد المنهى عنه.
(والثانى)
أنهم لما كانو بالمنع مالكين لما منعوه وجب أن يكون بالاجارة معطين لما أجازوه فعلى هذا قد ملك أهل الوصايا نصفا بالوصية لاحتمال الثلث لها ولا يفتقر بملكهم لها إلى قبض ونصفها بالعطية لعجز الثلث عنها، ولا يتم ملكهم
إلا بقبضه.
والثانى: وهو أصح، وبه قال أبو حنيفة: إن إجازة الورثة تنفيذ أو إمضاء لفعل الميت، وإن ذلك مملوك بالوصية دون العطية لامرين
(أحدهما)
أن ما استحقوه من الخيار في عقود الميت لا يكونون بالامضاء عاقدين لها كالمشترى سلعة إذا وجد وارثه به عيبا فأمضى الشراء ولم ينسخه كان تنفيذا ولم يكن عقدا فكذلك خياره في إجازة الوصية
(والثانى)
أن لهم رد ما زاد على الثلث في حقوق القسمة، فإذا أجازوه سقطت حقوقهم منه، فصار الثلث وما زاد عليه سواء في لزومه لهم، فإذا استوى الحكم في الجميع مع اللزوم اقتضى أن يكون جميعه وصية لا عطية فعلى هذا يلزمهم نصف الوصايا بالوصية من غير إجازة لاحتمال الثلث لها، ونصف بالاجازة بعد الوصيه من غير قبض تعيين، ولا رجوع يسوغ (فرع)
قد أسلفنا القول في عطايا المرض وتقديمها على الوصايا إذا ضاق الثلث عنها، وقلنا عن ترتيب المريض لها ما لم يتخلل الوصايا عتق، وأقوال الفقهاء الوارد عليه، أما إذا أوصى أن يحج عنه حجة الاسلام المكتوبة من الثلث أو يقضى دينه من الثلث فقال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى أن يحج عنه ولم يحج حجة الاسلام فإن بلغ ثلثه حجته من بلده أحج عنه من بلده، وان لم يبلغ أحج عنه من حيث بلغ.
قال المزني: والذى يشبه قوله أن يحج عنه من رأس ماله لانه في قوله دين عليه وجملة ذلك أن للمستدل في الحج عنه حالتان، حالة يوصى به وحاله لا يوصى به، فإن لم يوص به فلا يخلو حاله من أحد أمرين اما أن يكون عليه حج واجب(15/449)
أولا حج عليه، فإن لم يكن عليه حج لم يجز أن يتطوع عنه بالحج، وان كان عليه حجة الاسلام فمات من غير أن يوصى بها فواجب أن يحج عنه من رأس ماله بأقل ما يوجد من ميقات بلده، وكذلك يخرج عنه من رأس ماله ما وجب
عليه من زكوات وكفارات، وان لم يوص بها.
وقال أبو حنيفة: لا يصح الحج عنه ولا الزكاة ولا الكفارة الا بوصية منه وهذا فاسد بما ذكره النووي في الحج بأقوى حجاج، ولان ما تعلق وجوبه بالمال ازم أداؤه وان لم يوص به كالديون.
وإذا لزم أداؤه عنه فمن رأس المال كالديون وتخرج منه أجرة المثل من الميقات لا من بلده، وان كانت استطاعته من بلده شرطا وجوب حجه، لانه إذا كان حيا لزمه أداؤه بنفسه فصار نفقة معتبرة في استطاعته، وإذا مات لم يتعين الثلث عنه أن يكون في بلده، وانما لزم أن يؤتى بالحج من ميقات بلده فلذلك اعتبر أجرة المثل من ميقات بلده.
(فرع)
إذا أوصى أن يحج عنه، فإن كان عليه حج فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام.
أحدها: أن يجعل الحج من رأس ماله، فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يذكر قدر ما يحج به عنه، والثانى: أن لا يذكر، فإن لم يذكر أخرج عنه من رأس ماله قدر أجرة المثل من ميقات بلده، ولا يستفاد بوصية الا التذكير والتأكيد، وسواء ذكر القدر أم لم يذكر، فإن أجرة المثل أتم إذا كانت من الميقات وخروجها من رأس المال.
والقسم الثاني: أن يوصى بالحج من ثلثه فهذا على ضربين.
(أحدهما)
أن يجعل كل الثلث مصروفا إلى الحجه الواجبة عليه فهذا الحج عنه بالثلث من بلده أن أمكن، ولا يجوز أن يدفع إلى وارثه ان زاد على أجرة المثل، ويجوز أن يدفع إليه ان لم يزد، فإن عجز الثلث عن الحج من بلده أحج به عنه من حيث أمكن من طريقه فان عجز الا من ميقات البلد أحج به عنه من ميقات البلد، فان عجز عنه وجب اتمام أجرة المثل من ميقات بلده من رأس المال وصار فيها دور، لان ما يتمم به أجرة المثل من رأس ماله يقتضى نقصان رأس المال.
(والضرب الثاني) أن لا يجعل كل الثلث مصروفا إلى الحج بل يقول: أحجوا(15/450)
عنى من ثلثى، فهذا إما أن يذكر قدرا فلا يزاد عليه إن وجد ويستأجر من يؤديه من بلده أو من الميقات فان لم يوجد من يحج بها من ميقاته وجب إتمامها من رأس المال لا من ثلثه لان القدر الذى حدده من الثلث لا يزاد عليه منه وإنما تؤخذ الزيادة من رأس المال، وإما أن لا يذكر القدر فيخرج من ثلثه قدر أجرة المثل ثم فيها وجهان أحدهما وهو قول أبى اسحق المروزى: الظاهر من كلام الشافعي أجرة المثل من بلد الموصى لان الوصية في الثلث تقتضي الكمال.
والوجه الثاني: أجرة مثل الميقات كما لو جعله من رأس المال وما زاد عليه تطوع لا يخرج إلا بالنص، فإن عجز الثلث عن جميع الاجرة تمم الجميع مثل أجرة الميقات من رأس المال.
فلو كان في الثلث مع الحج وصايا وعطايا ففى تقديم الحج على الوصايا وجهان حكاهما أبو إسحق المروزى.
أحدهما، يقدم الحج على جميع الوصايا في الثلث لانه مصروف في فرض ثم يصرف ما فضل بعد الحج في أهل الوصايا، والوجه الثاني أنه يسقط الثلث على الحج والوصايا بالحصص لان الحج وإن وجب فله محل غير الثلث تساوى في الثلث أهل الوصايا ثم تمم أجرة المثل من رأس المال، وعلى هذين الوجهين لو كانت عليه ديون واجبة أوصى بقضائها من ثلثه أحدهما يتقدمون بها على أهل الوصايا.
والثانى: يحاصونهم ثم يستكملون ديونهم من رأس المال فهذا حكم القسم الثاني إذا جعله من ثلثه.
القسم الثالث: أن يطلق الوصية فلا يجعله من الثلث ولا من رأس المال فالذي نص عليه الشافعي في الجديد في مناسك الحج أنه يحج عنه من رأس المال، وقال في الوصايا: يحج عنه من ثلثه، فاختلف أصحابنا فكان أبو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ
وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ يخرجان ذلك على قولين أحدهما: يكون من رأس المال كما لو لم يوص به لوجوبه كالديون، والقول الثاني: أن يكون من الثلث ليستفاد بالوصية ما لم يكن مستفادا بغيرها.
وقال أبو على بن خيران: ليس هذا على اختلاف قولين وإنما هو تبعيض الحكم على حالين فالذين جعله في الثلث هو أجرة(15/451)
مثل المسير من بلده إلى الميقات، والذى جعله من رأس المال هو أجرة المثل من الميقات.
وقال أبو إسحق المروزى وأبو علي بن أبى هريرة: يكون ذلك من رأس المال قولا واحدا، والذى قاله ههنا أنه يكون في الثلث إذا خرج بأنه في الثلث توفيرا على ورثته، ألا تراه قال: فان لم يبلغ تمم من رأس المال.
وإذا وصى بالحج تطوعا عنه بمال ففيه قولان أحدهما: أن الوصية باطلة والثانى: جائزة وقد بسط النووي توجيهها في كتاب الحج.
(فرع)
قال مالك بن أنس رضى الله عنه: إذا أوصى لرجل بمائة دينار له حاضرة وترك غيرها ألف دينار دينا غائبة فالورثة بالخيار بين امضاء الوصية بالمائة كلها عاجلا، سواء حل الدين وسلم الغائب أم لا، وبين أن يسلموا ثلث المائة الحاضرة وثلث الدين من المال الغائب ويصير الموصى له بالمائة شريكا بالثلث في كل التركة، وإن كثرت وسمى ذلك خلع الثلث، استدلالا بأن للموصى ثلث مائة، فإذا غير الوصية بالثلث في بعضه فقد أدخل الضرر عليهم بتعيينه، فصار لهم الخيار بين التزام الضرر بالتعيين وبين العدول إلى ما كان يستحقه الموصى، فهذا دليل مالك، وما عليه في هذا القول.
واستدل اسماعيل بن اسحق بأن تعيين الموصى للمائة الحاضرة من جملة التركة الغائبة بمنزلة العبد الجاني إذا تعلقت الجناية في رقتبه فسيده بالخيار بين افتدائه
بأرش جنايته أو تسليمه، فهذا مذهب مالك ودليلاه.
ومذهب الشافعي رضى الله عنه أن الموصى له ثلث المائة الحاضرة، وثلثاها الباقي موقوف على قبض الدين أو من الغائب ما يخرج المائة كلها من ثلثه أمضيت الوصية بجميع المائة، وإن وكل ما يخرج بعضها أمضى قدر ما احتمله الثلث منها، فإن برئ الدين وتلف الغائب استقرت الوصية في ثلث المائة الحاضرة وتصرف الورثة في ثلثيها، لانها صارت جميع التركة.(15/452)
واختلف أصحابنا إذا انتظر بالوصية قبض الدين ووصول الغئب هل يمكن الموصى له من ثلث المائة؟ على وجهين.
(أحدهما)
يمكن من التصرف فيها لانه ثلث ممضى.
(والوجه الثاني) يمنع من التصرف فيها لانه لا يجوز أن يتصرف الموصى له فيما لا يتصرف الورثة في مثليه، وقد منع الورثة من التصرف في ثلثى المائة الموقوف، فوجب أن يمنع الموصى له من التصرف في الثلث الممضى، والدليل على فساد ما ذهب إليه مالك أنه يؤول إلى أحد أمرين يمنع الوصية منهما، لانه إذا أجبر الورثة بين التزام الوصيه في ثلث كل التركة أو إمضاء الوصية في كل المائة فكل واحد من الامرين خارج عن حكم الوصية لانهم اختاروا منعه من كل المائه فقد ألزمهم ثلث كل التركة، وذلك غير موصى به.
وإن اختاروا أن لا يعطوا ثلث التركة فقط ألزمهم إمضاء الوصية بكل المائه فعلم فساد مذهبه بما يؤول إليه حال كل واحد من الخيارين، فإذا جعلتم تعيين الوصية بالمائة الحاضرية إدخال ضرر أو جنايه فالضرر قد رفعناه يوقف الثلثين على قبض الدين ووصول الغائب، فصار الضرر بذلك مرتفعا، وإذا زال الضرر ارتفت الجناية منه فبطل الخيار فيه.
فإذا تقرر ما وصفنا تفرع على ذلك أن يوصى بمائة دينار حاضرة وباقى تركته التى تخرج كل المائه من ثلثها دين أو غائب، فيخرج ثلث المائة ويوقف ثلثاها على قبض الدين ووصول الغائب، فإذا قبض ووصل منهما أو أحدهما ما يخرج كل المائة من ثلثه خرج جميعها.
وهل يمكن الورثة في حال وقف الثلثين على قبض الدين ووصول الغائب من استخدام فرس إن كان الموصى به فرسا أو سيارة إن كانت وصيه أو غير ذلك، فتركب ويتصرف في منفعتها أم لا، على وجهين.
(أحدهما)
يمكن ذلك لئلا يلزمهم إمضاء الوصيه بما لم ينتفعوا بثلثيه، وهذا على الوجه الذى يقول: إن الموصى له بالمائة إذا وقف ثلثها منع من التصرف في ثلثيها اعتبارا بالتسويه، فعلى هذا ان برئ الدين وتلف الغائب استقر ملكهم على ما وقف من ثلثيها وكان لهم التصرف في الثلثين أو بيع ثلثى الفرس أو السيارة(15/453)
وان اقتضى من الدين أو قدم من الغائب ما يخرج جميعه من ثلثه رجع الموصى له بالفرس أو السيارة عليهم بما أخذوه من كسبهما أو أجرة، وليس للورثة أن يرجعوا على الموصى له بما اتفقوا على الفرس أو السيارة من نفقات السياسه أو الصياية، وقد كان لهم اجازة الوصية فصاروا متطوعين بالنفقه.
(والوجه الثاني) أنهم يمنعون من ذلك كما يمنعون من التصرف بالبيع، لان الظاهر نفوذ الوصية بعتقه، وعلى هذا الوجه الذى يجوز للموصى له التصرف في ثلث المائة، وان منع الورثة من التصرف في ثلثيها، فعلى هذا ان برئ الدين وتلف الغائب ولم يتصرف الورثة في استغلال الموصى به أدى الموصى له ثلثى غلة كسب الموصى به أو أجره مثله للورثة لانه لا يستحق في الوصيه الا ثلثها والباقى للورثة، وقد فوت عليهم منافع ثلثى المال وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
(فصل)
وان وصى له بثلث عبد فاستحق ثلثاه وثلث ماله يحتمل الثلث الباقي من العبد نفذت الوصية فيه على المنصوص، وقال أبو ثور وأبو العباس: لا تنفذ الوصيه الا في ثلث الباقي كما لو وصى بثلث ماله ثم استحق من ماله الثلثان والمذهب الاول، لان ثلث العبد ملكه، وثلث ماله يحتمله، فنفذت الوصيه فيه كما لو أوصى له بعبد يحتمله الثلث، ويخالف هذا إذا أوصى بثلث ماله ثم استحق ثلثاه، لان الوصية هناك بثلث ماله، وماله هو الباقي بعد الاستحقاق، وليس كذلك ههنا لانه يملك الباقي وله مال غيره يخرج الباقي من ثلثه.
(فصل)
وان وصى له بمنفعة عبد سنه، ففى اعتبارها من الثلث وجهان.
أحدهما: يقوم العبد كامل المنفعة، ويقوم مسلوب النفعه في مدة سنه، ويعتبر ما بينهما من الثلث.
والثانى: تقوم المنفعة سنه، فيعتبر قدرها من الثلث.
ولا تقوم الرقبة لان الموصى به هو المنفعة، فلا يقوم غيرها، وان وصى له بمنفعة عبد على التأبيد ففى اعتبار منفعته من الثلث ثلاثة أوجه.
أحدهما: تقوم المنفعة في حق الموصى له والرقبة مسلوبة المنفعة في حق(15/454)
الوارث، لان الموصى له ملك المنفعة، والوارث ملك الرقبة، وينظر كم قدر التركة مع قيمة الرقبه مسلوبة المنفعة، وينظر قيمة المنفعة فتعتبر من الثلث.
والثانى: تقوم المنفعة في حق الموصى له لانه ملكها بالوصية، ولا تقوم الرقبة في حق الموصى له، لانه لم يملكها ولا في حق الوارث لانها مسلوبة المنفعة في حقه لا فائدة له فيها، فعلى هذا ينظركم قدر التركة وقيمة المنفعة، فتعتبر من الثلث، والثالث وهو المنصوص: تقوم الرقبه بمنافعها في حق الموصى له، لان المقصود من الرقبه منفعتها، فصار كما لو كانت الرقبه له فقومت في حقه، وينظر قدر التركة فتعتبر قيمه الرقبه من ثلثها، وإن وصى بالرقبة لواحد وبالمنفعه لواحد
قومت الرقبه في حق من وصى له بها، والمنفعة في حق من اوصى له بها، لان كل واحد منهما يملك ما وصى له به فاعتبر قيمتها من الثلث.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى له بشئ بعينه فاستحق ثلثه كان له الثلث الباقي إذا احتمله الثلث، وإذا أوصى له بتلت دار هو في الظاهر مالك لجميعها فاستحق تلتا الدار وبقى على ملك الموصى تلتها، فالتلت كله للموصى له إذا احتمله التلت، وهو قول الجمهور.
وقال أبو ثور: يكون له تلت التلت استدلالا بأنه لما أوصى له بتلتها، وهو في الظاهر مالك لجميعها تناولت الوصيه ثلث ملكه منها، فإذا بان ان ملكه منها التلت وجب ان تكون الوصيه بتلت التلت، لانه كان ملكه منها كمن أوصى بتلت ماله وهو ثلاثه الاف درهم فاستحق منها الفان كانت الوصيه بتلت الالف الباقيه هكذا قال أبو ثور من الفهاء وابو العباس بن سريج من اصحابنا، وهو فاسد من وجهين، احدهما: ان ما طرأ من استحقاق التلتين ليس بأكثر من أن يكون عند الوصيه غير مالك للتلتين، وقد ثبت انه لو أوصى له بتلت دار هو قدر ملكه منها كان له جميع التلت إذا احتمله التلت، كذلك إذا اوصى له بتلتها فاستحق ما زاد على التلت منها.
والثانى: هو ان رفع يده بالاستحقاق كزوال ملكه بالبيع، وقد ثبت انه لو(15/455)
باع بعد الوصية بالثلت منها ما بقى من ثلثها صحت الوصيه بكل الثلث الباقي بعد البيع، فكذلك تصح بالثلث الباقي بعد المستحق، وليس بما ذكراه من استدلال بثلث المال وجه، لان الوصية لم تعتبر الا في ثلث ملكه، وملكه هو الباقي بعد الاستحقاق، ولو فعل مثل ذلك في الوصية بالدار فقال قد اوصيت لك بثلث
ملكى من هذه الدار فاستحق ثلثا ها كان له ثلث ثلثها الباقي (مسالة) إذا ابتدأ الوصية بتلت ماله لرجل، اوصى ان يحج عنه رجل بمائة درهم، ثم اوصى بالباقي من تلت المال لاخر، فقد اختلف اصحابنا في الموصى له بالباقي في هذه المسالة إذا قدم الوصية بالتلت على وجهين
(أحدهما)
وهو قول أبى اسحاق المروزى: انها باطلة لان تقديم الوصية بالتلت يمنع من ان يبقى شئ من التلت، فجعل نصف اجار الورثة الوصية بالتلت وبالمائة امضيا وان لم يجيزوها ردا إلى التلت، فجعل نصف التلت لصاحب التلت، وكان النصف الاخر بين الموصى له بالمائة وبين الموصى له بالباقي على ما مضى من الوجهين (فرع)
الوصية بالمنفعة كما اسلفنا القول كالوصيه بالعين، فلما كان لموصى له بالرقبة يجوز له المعاوضه عليها لانه قد ملكها بالوصية كان الموصى له بالخدمه ايضا يجوز له المعاوضه عليها لانه قد ملكها بالوصية، فإذا ثبت هذا قالوصيه بالمنفعه ضربان مقدرة بمقدرة بمدة ومؤبدة.
فان قدرت بمدة كان قال: قد اوصيت لزيد بخدمة عبى سنه فالوصيه جائزة له بخدمة سنه، والمعتبر في التلت منفعة السنة دون الرقبه.
وفى كيفيه اعتبارها وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس بن سريج انه يقوم العبد كامل المنفعة في زمانه كله.
فإذا قيل مائة دينار قوم وهو مسلوب المنفعة سنه.
فإذا قيل ثمانون دينارا فالوصيه بعشرين دينارا.
وهى خارجه من التلت ان لم يكن على الموصى دين والوجه الثاني: وهو الذى اراه مذهبنا انه يقوم خدمة مثله سنه فتعتبر من التلت، ولا تقوم الرقبه لان المنافع المستهلكة في العقود والعصوب هي المقومه دون الاعيان، فلو اراد ان يستاجر دكانا فان ذلك يعد معاوضة على المنفعة فلا تقوم العين على حدة والمنفعة على حدة، وانما العقد لا يكون الا على المنفعة فكذلك في الوصايا، فإذا علم القدر الذى تقومت به خدمة السنة اما من العين(15/456)
على الوجه الاول أو من المنافع على الوجه الثاني نظر، فان خرج جميعه من الثلث صحت الوصية له بخدمة جميع السنة.
وان خرج ثلثه من الثلث رجعت الوصية إلى ثلثها واستخدمه ثلث السنة فإذا تقرر انه على هذه العبرة استحق استخدامه جميع السنة، فلا يخلو ان يكون في التركة مال غير العبد أم لا.
فان كان في التركة مال غيره إذا امكن الموصى من استخدامه سنة امكن الورثة أن يتصرفوا من التركة في تلك السنة بما يقابل مثل العبد، فللموصى له ان يستخدم جميع العبد سنة متوالية حتى يستوفى جميع وصيته، والورثة لا يمنعون من التصرف في رقبة العبد حتى تمضى السنة فإن باعوا الموصى بمنافعه عبدا كان أو فرسا أو سيارة أو بينا قبل مضى السنة كان في بيبعه قولان كالعبد المؤاجر.
وان لم يكن في التركة مال غير الموصى بمنافعه ولا خلف الموصى سواه ففى كيفية انتفاع الموصى له سنة ثلاثة اوجه حكاها ابن سريج.
احدها انه ينتفع به سنة متواليه ويمنع الورثة من استخدامه والتصرف فيه حتى يستكمل الموصى له سنة وصيته، ثم حينئذ يخلص للورثة بعد انقضائها.
والوجه الثاني: انه يستخدم ثلث الموصى به ثلاث سنين، ويستخدم الورثة ثلثيه حتى يستوفى الموصى له سنة وصيته في ثلاث سنين لئلا يختص الموصى له بما لم يحصل للورثه مثلاه.
والوجه الثالث: ان يتهايأ عليه الموصى له والورثة، فيستخدمه الموصى له يوما والورثة يومين حتى يستوفى سنة وصيته في ثلاث سنين.
والوجه الاول أصح لانهم قد صاروا إلى ملك الرقبة فلم يلزم ان يقابلوا الموصى له بمثلى المنفعة لان حق الموصى له في استخدام الموصى به جميعه، فلم يجز ان يجعل في ثلثه، ولان حقه مفضل ومعجل فلم يجز ان يجعل مرجأ أو مفرقا وإذا كانت الوصية بالمنفعة على التأبيد، كان قال أوصيت لزيد باستخدام
سيارتي أبدا فالوصيه جائزة إذا حملها التلت واختلف اصحابنا في الذى يعتبر قيمته في التلت على وجهين
(أحدهما)
قاله الشافعي رضى الله عنه في اختلاف العراقيين، وهو اختيار ابى العباس بن سريج انه تقوم جميع الرقبه في التلت، وان اختصت الوصيه بالمنفعة كما تقوم رقبة الوقف في التلت.(15/457)
وان ملك الموقوف عليه المنفعة فعلى هذا هل يصير الموصى له مالكا، وان منع من بيعها أم لا.
على وجهين
(أحدهما)
لا يملكها لاختصاص الوصية بمنافعها
(والثانى)
يملكها كما يملك ام الولد.
وان كان ممنوعا من بيعها لتقويمها عليه في الثلث، وهذا قول ابى حامد المروروذى.
هذا إذا قيل ان الرقبة هي المقرمة والوجه الثاني: انه يقوم مناعفع الموصى به في الثلث دون الرقبة، لان التقويم انما يختص بما تضمنته الوصية، ولا يجوز ان يتجاوز بالتقويم إلى غيره ولانه لو اوصى بالمنفعة لرجل وبالرقبة لرجل لم يقوم في حق صاحب المنفعة الا المنفعة دون الرقبة.
كذلك إذا استبقى الرقبة على ملك الورثة واعتبار ذلك ان يقوم: كم قيمة الموصى به بمنافعه.
فإذا قيل مائة دينار، قيل: وكم قيمته مسلوب المنافع، فذا قيل عشرون دينارا علم ان قيمة منافعه ثمانون دينارا فتكون هي القدر المعتبر من الثلث.
فعلى هذا هل يحتسب الباقي من قيمة الرقبة وهو عشرون دينارا على الورثة في ثلثيهم أم لا.
على وجهين
(أحدهما)
يحتسب به عليهم، لانه قد دخل ملكهم وهذا قول أبى اسحاق المروزى (والوجه الثاني) لا يحتسب به عليهم لان ما زالت عنه المنفعة زال عنه التقويم.
فإذا ثبت ما ذكرناه وخرج القدر الذى اعتبرناه من الثلث صحت الوصية
بجميع المنفعة، وكان للموصى له استخدامه أبدا ما كان حيا وأخذ جميع أكسابه المألوفة، وهل يملك ما كان غير مألوف منها، على وجهين: أصحهما يملكه.
وفى نفقته ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول ابى سعيد الاصطخرى انها على الموصى له بالمنفعة، لان النفقة تختص بالكسب
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ انها على الورثة لوجوبها بحق الملك (والثالث) وهو ما حكاه أبو حامد الاسفرايينى تجب في بيت المال لان كل واحد من مالكى المنفعة والرقبة لم يكمل فيه استحقاق وجوبها عليه فعدل بها إلى بيت المال، فان مات الموصى له فهل تنتقل المنفعة إلى وارثه املا، على وجهين حكاهما أبو على الطبري في الافصاح
(أحدهما)
ان المنفعة تنتقل إلى ورثته لتقويمها على الابد في حقه، فعلى هذا تكون المنفعة مقدرة بحياة العين.(15/458)
والوجه الثاني: قد انقطعت الوصيه بموت الموصى له لانه وصى له في عينه بالخدمة لا لغيره.
فعلى هذا تكون المنفعة مقدرة بحياة الموصى له ثم تعود بعد موته إلى ورثة الموصى فاما بيع الموصى بمنفعته، فان أراد الموصى له بالمنفعة ببيعه لم يجز سواء ملك جميع المنفعة أو بعضها، وسواء قيل انه مالك أو غير مالك.
وان أراد ورثة الموصى بيعه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يجوز لثبوت الملك
(والثانى)
لا يجوز لعدم المنفعة (والثالث) يجوز بيعه من الموصى له بالمنفعة ولا يجوز من غيره، لان الموصى له ينتفع به دون غيره.
والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان وصى له بثمرة بستانه، فان كانت موجودة اعتبرت قيمتها من الثلث، وان لم تخلق - فان كانت على التأبيد - ففى التقويم وجهان:
(أحدهما)
يقوم جميع البستان
(والثانى)
يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مسلوب المنفعة، ويعتبر ما بينهما من الثلث، فان احتلمه الثلث نفذت الوصيه فيما بقى من البستانى.
وان احتمل بعضها كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث يشاركه فيه الورثة، فان كان الذى يحتمله النصف كان للموصى له من ثمرة كل عام النصف وللورثه النصف والله أعلم.
(الشرح) الاحكام: إذا أوصى له بثمرة فذلك ضربان: ان تكون الثمرة موجودة فالوصية جائزة وتعتبر قيمتها من الثلث عند موت الموصى لا حين الوصية فان خرجت من الثلث فهى للموصى له، وان خرج بعضها كان له منها قدر ما احتمله الثلث، وكان الورثة شركاءه فيها بما لم يحتمله الثلث منها والضرب الثاني ان يوصى بثمرة لم تخلق فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يوصى بثمرته على الابد فالوصية جائزة، وفيما يقوم في الثلث وجهان.
احدهما: جميع البستان.
والثانى يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مسلوب المنفعة ثم يعتبر مابين القيمتين من الثلث، فان احتمله نفذت الوصية بجميع الثمرة أبدا ما بقى البستان، وان احتمل بعضه كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث يشارك فيه الورثة، مثل ان يحتمل(15/459)
النصف فيكون للموصى له النصف من ثمره كل عام وللورثه النصف الباقي، وإذا احتمل الثلث جميع القيمه وصارت الثمرة كلها للموصى له فاحتاجت إلى سقى فلا يجب على الورثة السقى بخلاف بائع الثمرة حيث وجب عليه سقيها للمشترى إذا احتاجت إلى السقى، لان البائع عليه تسليم ما تضمنه العقد كاملا والسقى من كماله وليس كذلك الوصية لان الثمرة تحدث على ملك الموصى له ولا يجب على الموصى له سقيها، لانها بخلاف البهيمة الموصى بخدمتها في الحرث والسقى، لان نفقة البيهيمة مستحقة لحرمة نفسها ووجوب حفظها بخلاف الثمرة، وكذلك لو احتاجت
النخل إلى سقي لم يلزم واحدا منهما، وأيهما تطوع به لم يرجع به على صاحبه، فان مات النخل استقطع جذاعه للورثه دون الموصى له، وليس للموصى له أن يغرس مكانه ولا ان غرس الورثة مكانه نخيلا كان له فيه حق، لان حقه كان في النخل الموصى له به دن غيره والضرب الثاني: ان يوصى بثمره مدة مقدرة، كان اوصى له بثمره عشر سنين، فمن أصحابنا من ذهب إلى بطلان الوصية مع التقدير بالمدة بخلاف المنفعة لان تقويم المنفعة المقدرة ممكن، وتقويم الثمار المقدرة المدة غير ممكن.
وذهب سائر اصحابنا إلى جوازها كالمنفعة، وفيما تقدم في الثلث وجهان احدهما: انه يقوم البستان كامل المنفعة، ويقوم مسلوب المنفعة، ثم يعتبر ما بين القيمتين في الثلث.
والوجه الثاني: ان ينظر اوسط ما تثمره النخل غالبا في كل عام ثم تعتبر قيمة الغالب من قيمة الثمرة في أول عام، ولا اعتبار بما حدث بعده من زيادة ونقص.
فان خرج جميعه من الثلث فقد استحق جميع الثمرة في تلك المدة، وان خرج نصفه فله النصف من ثمرة كل عام إلى انقضاء تلك المدة، وليس له ان يستكمل هذه كل عام في نصف تلك المدة، لانه قد تختلف ثمرة كل عام في المقادير والاثمان.
فخالف منافع العبد والبهيمة والدار.
ومثل الوصية بثمرة البستان ان تكون الماشية فيوصى له بدرها ونسلها، وتجب نفقة الماشية كما أسلفنا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ(15/460)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب جامع الوصايا
إذا وصى لجيرانه صرف إلى أربعين دارا من كل جانب، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (حق الجوار أربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا، يمينا وشمالا وقداما وخلفا) .
(فصل)
وان وصى لقراء القرآن صرف إلى من يقرأ جميع القرآن، وهل يدخل فيه من لا يحفط جميعه، في وجهان.
(أحدهما)
يدخل فيه لعموم اللفظ.
(والثانى)
لا يدخل فيه، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف الا على من يحفظه، وان وصى للعلماء صرف إلى علماء الشرع، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف الا عليهم، ولا يدخل فيه من يسمع الحديث ولا يعرف طرقه، لان سماع الحديث من غير علم بطرقه ليس بعلم.
(الشرح) حديث ابى هريرة مرفوعا (حق الجار اربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا يمينا وشمالا وقدام وخلف) هكذا ورد بغير تنوين قدام وخلف وقد سافها المصنف منونا لهما والحديث اخرجه أبو يعلى عن شيخه محمد بن جامع العطار، وهو ضعيف هكذا افاده الهيثمى في مجمع الزوائد على ان القول بهذا الحديد لم ينهض الحديث حجة له يجوز على قول من يقول بتقديم الحديث الضعيف على الاجتهاد، وبه قال احمد وغيره من الفقهاء، على ان المعروف من مذهب الشافعي وبناء على اصله (إذا صح الحديث فهو مذهبي) انه لا عبرة بحديث لم يصح سنده في الاصول ولا في الفروع، والعبرة في هذا بالعرف فهو يقوم مقام النص عند عدمه، الا ان الماوردى قال في حاويه في الغارمين.
قال الشافعي: ويعطى من له الدين عليهم أحب للبر، ولو أعطوه في دينهم رجوت ان يتبع، فان ضمنه في اثنين ضمن حصة الثالث، وفيه وجهان.(15/461)
(أحدهما)
يضمن ثلث الثلث.
(والثانى)
انه يضمن اقل ما يجزئ ان يعطيه ثالثا ويخص به غارما في بلد المال، ومن كان منهم ذا رحم أولى لما في صلتها من زيادة الثواب، فان لم يكونوا فجيران المال لقوله تعالى (والجار ذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) ولقوله صلى الله عليه وسلم (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه) قال الشافعي: واقصى الجوار منهم اربعون دارا من كل ناحية، وهكذا لو أوصى لجيران كان جيرانه منتهى اربعين دارا من كل ناحية، وقال قتادة.
الجار الدار والداران، وقال سعيد بن جبير: هم الذين يسمعون الاقامة، وقال أبو يوسف هم اهل المسجد.
ودليلنا ما روى ان رجال كان نازلا بين قوم فاتى للنبى صلى الله عليه وسلم يشكوهم، فبعث النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وعمر وعليا رضى الله عنهم وقال: اخرجوا إلى باب المسجد وقولوا: الا أن الجوار أربعون دارا.
قلت: فإذا صح ما استدل به الماوردى من بعث الصحابة الثلاثة ليبلغوا عنه صلى الله عليه وسلم هذا كان دليلا مسندا للمذهب والا كان تحديد الاربعون اجتهادا وعرفا يصار اليهما على انه قد استغل بعض السفهاء من واضعى الحديث حث القرآن والسنة على حسن الجوار فجعلوه مرتعا لاحاديث غير شريفة، من ذلك ماروى عن جابر رضى الله عنه مرفوعا (الجيران ثلاثه: جار له حق واحد وهو ادنى الجيران وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق، فاما الذى له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، واما الذى له الحقان فجار مسلم له حق الاسلام وحق الجوار، واما الذى له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الاسلام وحق الجوار وحق الرحم، وهذا الحديث رواه البزار عن شيخه محمد الحارثى وهو وضاع، وفيما روى من الاحاديث الصحيحة غنى، الا ان الحديث الذى ساقه الماوردى قد رواه الطبراني عن كعب بن مالك ولفظه، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فقال: يا رسول الله انى نزلت في محلة بنى فلان، وان أشدهم
لى اذى اقربهم لى جوارا فبعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بكر وعمر وعليا(15/462)
يأتون باب المسجد فيقولون على بابه فيصيحون: الا ان أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه.
وفى إسناده يوسف بن السفر، أبو الفيض الدمشقي كاتب الاوزاعي وراويه كما روى عن مالك.
قال النسائي: ليس بثقة.
وقال الدارقطني متروك يكذب.
وقال ابن عدى: روى بواطيل، وقال البيهقى: هو في عداد من يضع الحديث، وقال أبو زرعة وغيره متروك فإذا وصى لقراءة القرآن وكان المضاف إليه معروفا بال وهو يقتضى إما العهد أو الاستغراق، فان قلنا بالاول، فعلى الوجه الذى يجعل الوصية لمن يحفظ القرآن كله ويخرج بذلك من لا يحفظه جميعا، وان قلنا بالثاني فكل ما قرئ من القرآن فهو قرآن دخل من لا يحفظه كله لاشتماله لفظه عليه، فإذا وصى وقال لقراء القرآن، شمل من يحفظه كله ومن يحفظ آية واحدة قولا واحدا.
فان وصى للعلماء صرف إلى علماء وفقهاء الاحكام، ودارسي الفروع، لانه لا يطلق عرفا عند من يوصون للقربة الا عليهم ولا يدخل فيهم صغار المتعلمين الحديث لانهم يسمعون الحديث، ولا يشتغلون باختلاف اسانيده، واسماء رواته، ومعرفة الثقة العدل الضابط منهم والمجروح بدلس أو سوء حفظ أو تصديق لكل ما يسمع، أو شذوذ أو نكارة أو وضع أو صاحب مقالة في الاسلام أو غلو في مذهب يخرج به عن حد العدالة إلى غير ذلك مما ينبغى العلم به وارتشاف مورده، وبذل الوسع في خدمته، لان الحديث أشرف علوم الدين واعظمها مرتقى، وأرجاها عاقبة، والله تعالى اعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
فإن وصى للايتام لم يدخل فيه من له اب، لان اليتم في بنى آدم
فقد الاب، ولا يدخل فيه بالغ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُتْمَ بَعْدَ الحلم) وهل يدخل فيه الغنى، فيه وجهان.
(أحدهما)
يدخل فيه، لانه تيتم بفقد الاب.
(الثاني) لا يدخل فيه، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف على غنى، فإن وصى للارامل دخل فيه من لا زوج لها من النساء، وهل يدخل فيه من(15/463)
لا زوجة له من الرجال، فيه وجهان (احدهما) لا يدخل فيه، لانه لا يطلق هذا الاسم في العرف على الرجال
(والثانى)
يدخل فيه لانه قد يسمى الرجل أرملا كما قال الشاعر: كل الارامل قد قضيت حاجتهم
* فمن لحاجة هذا الارمل الذكر وهل يدخل فيه من لها مال، على وجهين كما قلنا في الايتام.
(فصل)
وان وصى للشيوخ اعطى من جاوز الاربعين، وان وصى للفتيان والشباب أعطى من جاوز البلوغ إلى الثلاثين، وان وصى للغلمان والصبيان أعطى من لم يبلغ.
لان هذه الاسماء لا تطلق في العرف الا على ما ذكرناه.
(الشرح) حديث (لا يتم بعد الحلم) رواه أبو داود عن على كرم الله وجهه قال (حفظت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلى الليل) وفى إسناده يحيى بن محمد المدنى الجارى، نسبة إلى الجار بلدة على الساحل بالقرب من المدينة المنورة، قال البخاري: يتكلمون فيه، وقال ابن حبان: يجب التنكب عما انفرد به من الروايات.
وقال العقيلى: لا يتابع يحيى المذكور على هذا الحديث، وفى الخلاصة ان العجلى وابن عدى وثقاه.
قال المنذرى: وقد روى هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله وانس بن مالك وليس فيها شئ يثبت، وقد أعل هذا الحديث ايضا عبد الحق وابن القطان
وغيرهما، وحسنه النووي فيما سلف من أجزاء المجموع متمسكا بسكوت ابى داود عليه، ورواه الطبراني بسند آخر عن على، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده واخرج نحوه ايضا ابن عدى عن جابر، وهذه الروايات يقوى بعضها بعضا فترقى بالحديث إلى درجة الحسن.
وقد استدل بالحديث على ان الاحتلام من علامات البلوغ، وتعقب بانه بيان لغاية مدة اليتم، وارتفاع اليتم لا يستلزم البلوغ الذى هو مناط التكليف، إنما يكون عند إدراكه لمصالح آخرته، ويؤيد مفهومه عند القائلين بان الاحتلام من علامات البلوغ روايه احمد وابى داود والحاكم من حديث على رضى الله عنه وفيه (وعن الصبى حتى يحتلم) وقد اسلفنا القول في ابواب الحجر في تعريف اليتيم(15/464)
ما ينفع في هذا فليراجع.
على انه إذا اوصى للايتام ووجد من الايتام الفقراء من يفيدون من وصيته بما لا يبقى منه فضل كانوا أولى من اليتيم الغنى وإن شمله التعريف.
فإن وصى للارامل فهو للنساء اللاتى فارقهن ازواجهن يموت أو غيره، وهو من أرمل المكان إذا صار ذا رمل، وأرمل الرجل إذا صار بغير زاد لنفاده وافتقاره.
وارملت المرأة فهى أرملة، وهى التى لا زوج لها لافتقارها إلى من ينفق عليها.
قال الازهرى: لا يقال لها أرملة الا إذا كانت فقيرة، فإذا كانت موسرة فليست بأرمله، والجمع أرامل حتى قبل: رجل ارمل إذا لم يكن له زوج وهو قليل، لا يذهب زاده بفقد امرأته لانها ام تكن قيمة عليه.
قال ابن السكيت والارامل المساكين رجالا كانوا أو نساء وقال احمد بن حنبل في رواية حرب، وقد سئل عن رجل اوصى لارامل بنى فلان فقال: قد اختلف الناس فيها، فقال قوم هو للرجال والنساء، والذى
يعرف في كلام الناس ان الارامل النساء.
وقال الشعبى واسحاق: هو للرجال والنساء.
وانشد احدهما: هذى الارامل قد قضيت حاجتها
* فمن لحاجة هذا الارمل الذكر وقال الاخر: أحب أن أصطاد ظبيا سخيلا
* رعى الربيع والشتاء أرملا فعلى الوجه بانه لا يدخل في الوصية أرامل الرجال ان المعروف في كلام الناس انه النساء فلا يحمل لفظ الموصى الا عليه، ولان الارامل جمع ارملة فلا يكون جمعا للذكر، لان ما يختلف لفظ الذكر والانثى في واحده يختلف في جمعه، وقد أنكر ابن الانباري على قائل القول الاخر وخطأه، والشعر الذى احتج به حجة عليه بالرواية التى سقناها، اما على الرواية التى ساقها المصنف: كل الارامل قد قضيت حاجتهم فانه يدل على شمول الارامل للذكر والانثى إذ لا خلاف بين أهل اللسان في أن اللفظ متى كان للذكر والانثى ثم رد عليه ضمير غلب فيه لفظ التذكير وضميره، وهذا يؤيد الوجه القائل بشمول الوصية(15/465)
لارامل الرجال.
فيكون ارامل جمع أرمل كأكابر وأعاظم وأصاغر وأسافل جمع أكبر وأعظم وأصغر وأسفل على ان هناك الفاظا مشتركة بين الرجال والنساء غلب استعمالها للنساء لكثرة شيوعها فيهن وقلتها بين الرجال، فالايامي من قوله تعالى (وانكحوا الايامى منكم) وفى الحديث: أعوذ بالله من بوار الايم.
قالوا يطلق ذلك على الرجال والنساء الذين لا أزواج لهم لما روى عن سعيد بن المسيب قال: آمت حفصة بنت عمر من زوجها.
وآم عثمان من رقية.
والعزاب للرجال والنساء، والثيب للرجال والنساء والبكر للرجال والنساء.
فإذا أوصى للارامل فهل يدخل فيه من لها مال.
على الخلاف الذى مضى في اليتيم اما إذا وصى الشيوخ أعطى من جاوز الاربعين لان ما دون الاربعين كهولة وما دون الكهولة فتوة أو شباب وما دون ذلك يفاعة، وما دونه صبى وما دونه طفل، فهو إلى السابعة طفل.
ثم إلى العاشرة صبى.
ثم إلى الخامسة عشرة يافع ثم إلى الثلاثين شاب أو فتى، ثم إلى الاربعين كهل، ثم بعد الاربعين شيخ، ثم بعد الستين هرم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان وصى لفقراء جاز ان يدفع إلى الفقراء والمساكين، وان وصى للمساكين جاز ان يدفع إلى المساكين والفقراء، لان كل واحد من الاسمين يطلق على الفريقين، وان وصى للفقراء والمساكين جمع بين الفريقين في العطية، لان الجمع بينهما يقتضى الجمع في العطيه كما قلنا في آية الصدقات، وان وصى لسبيل الله تعالى ذفع إلى الغزاة من اهل الصدقات، لانه قد ثبت لهم هذا الاسم في عرف الشرع.
فان وصى للرقاب دفع إلى المكاتبين، لان الرقاب في عرف الشرع اسم للمكاتبين.
وان وصى لاحد هذه الاصناف دفع إلى ثلاثة منهم، لانه قد ثبت لهذه الالفاظ عرف الشرع في ثلاثة، وهو في الزكاة، فحملت الوصية عليها، فان وصى لزيد والفقراء فقد قال الشافعي رحمه الله: هو كاحدهم.
فمن اصحابنا من قال: هو بظاهره انه يكون كأحدهم يدفع إليه ما يدفع إلى أحدهم، لانه أضاف(15/466)
إليه واليهم فوجب ان يكون كأحدهم.
ومنهم من قال: يصرف إلى زيد نصف الثلث ويصرف النصف إلى الفقراء، لانه اضاف إليه واليهم، فوجب ان يساويهم.
ومنهم من قال: يصرف إليه الربع ويصرف ثلاثة ارباعه إلى الفقراء لان اقل الفقراء ثلاثة، فكأنه وصى لاربعة، فكان حق كل واحد منهم الربع
وان وصى لزيد بدينار وبثلثه للفقراء - وزيد فقير - لم يعط غير الدينار، لانه قطع الاجتهاد في الدفع بتقدير حقه في الدينار
(فصل)
وان وصى لقبيلة عظيمد كالعلويين والهاشميين وطى وتميم ففيه قولان
(أحدهما)
ان الوصية تصرح وتصرف إلى ثلاثة منهم، كما قلنا في الوصية للفقراء
(والثانى)
ان الوصية باطله، لانه لا يمكن ان يعطى الجميع ولا عرف لهذا اللفظ في بعضهم فبطل بخلاف الفقراء، فانه قد ثبت لهذا اللفظ عرف وهو في ثلاثة في الزكاة.
(الشرح) قال الامام الشافعي: وإذا اوصى الرجل فقال: ثلث مالى في المساكين فكل من لا مال له ولا كسب يغنيه داخل في هذا المعنى وهو للاحرار دون المماليك ممن لم يتم عتقه.
قال وينظر اين كان ماله فيخرج ثلثه في مساكين أهل ذلك البلد الذى به ماله دون غيرهم، كثر حتى يغنيهم نقل إلى أقرب البلدان له، ثم كان هكذا حيث كان له مال صنع به هذا.
وهكذا لو قال: تلت مالى في الفقراء كان مثل المساكين يدخل فيه الفقير والمسكين، لان المسكين فقير، وللفقير مسكين إذا افر الموصى القول هكذا.
ولو قال ثلث مالى في الفقراء والمساكين، علمنا انه أراد التمييز بين الفقراء والمسكنة، فالفقير الذى لا مال له ولا كسب يقع منه موقعا والمسكين من له مال أو كسب يقع منه موقعا ولا يغنيه، فيجعل الثلث بينهم نصفين، ونعنى به مساكين أهل البلد الذى بين اظهرهم ماله، وفقراءهم وان قل.
ومن اعطى في فقراء أو مساكين فانما أعطى لمعنى فقر، فينظر في المساكين فان كان فيهم من يخرجه من المسكنه مائة واخر يخرجه من المسكنة خمسون، اعطى الذى يخرجه من المسكنه مائه سهمين، والذى يخرجه خمسون سهما وهكذا يصنع في الفقراء(15/467)
على هذا الحساب، ولا يدخل فيهم، ولا يفضل ذو قرابة على غيره إلا بما وصفت في غيره من قدر مسكنته أو فقره، لان العطيه له صدقة وصلة، وما جمع ثوابين كان أفضل من التفرد بأحدهما، فان صرف الثلث في أقل من ثلاثة من الفقراء والمساكين ضمن، فان صرفه في إثنين كان في قدر ما يضمنه وجهان
(أحدهما)
وهو الذى نص عليه الشافعي في الام انه يضمن ثلث الثلث، لان أهل الاجزاء ثلاثة.
والظاهر تساويهم فيه والوجه الثاني: انه يضمن من الثلث قدر مالو دفعه إلى ثلاثة أجزأ، ولا ينحصر بالثلث لان له التسوية بينهم والتفضيل، ولو كان اقتصر على واحد فاحد الوجهين ان يضمن ثلثى الثلث.
والوجه الثاني انه يضمن ما يجزئه من دفعه اليهما فلو أوصى بثلث ماله للفقراء أو المساكين صرف الثلث في الصنفين بالسوية ودفع السدس إلى الفقراء وأقلهم ثلاثة، ودفع السدس الاخر إلى المساكين وأقلهم ثلاثة.
فان صرفه في أحد الصنفين ضمن السدس للصنف الاخر وجها واحدا، ثم عليه صرف الثلث في فقراء البلد الذى فيه المال دون المالك كالزكاة، فان تفرق ماله اخرج في كل بلد ثلث ما فيه، فان لم يوجدوا فيه نقل إلى أقرب البلاد به كما سلف القول في زكاة المال من المجموع فأما زكاة الفطر ففيها وجهان:
(أحدهما)
تخرج في بلد المال دون المالك كزكاة المال
(والثانى)
تخرج في بلد المالك دون المال لانها عن فطرد بدنه وطهرة لصومه فان نقل الزكاة من بلد المال إلى غيره كان في الاجزاء قولان فاما نقل الوصية فقد اختلف أصحابنا في اخراجه على قولين كالزكاة، ومنهم من قال يجزئ قولا واحدا وان أساء، لان الوصية عطية من آدمى قد كان له
ان يضعها حيث شاء.(15/468)
فان وصى في سبيل الله صرف في الغزاة لما قلناه في الزكاة ويصرف ذلك في ثلاثة فصعادا من غزاة البلد ومحاربيه أغنى بلد المال على حسب منازلهم في القرب والبعد ومن كان فيهم فدائيا أو نظاميا، طيارا أو آليا أو من المشاة أو الفرسان فان لم يوجدوا في البلد نقل إلى أقرب البلاد به.
(فرع)
إذا أوصى بثلثه في الرقاب صرف في المكاتبين، وبه قال أبو حنيفة وقال مالك: يشترى به رقاب يعتقون، وأصل هذا اختلافهم في سهم الرقاب في الزكاة، هل ينصرف في العتق أو في المكاتبين، والدليل على ذلك قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء) فأثبت ذلك لهم بلام الملك والعبد لا يملك فيصرف إليه والمكاتب يملك فوجب صرفه إليه، ولانه مصروف في ذوى الحاجات، ولان مال الزكاة مصروف لغير نفع يعود إلى ربه، فلو صرف في العتق لعاد إليه الولاء فإذا تقرر ان سهم الرقاب في الزكاة مصروف في المكاتبين، وجب ان يكون سهم الرقاب في الوصايا مصوفا في المكاتبين، لان مطلق الاسماء المشتركة محمولة على عرف الشرع.
(فرع)
إذا اوصى بشئ لزيد وللمساكين فقال الشافعي رضى الله عنه: يكون كأحدهم ان عمهم أعطاه كواحد منهم، ومن أصحابنا من قال: يصرف إليه ربع الوصية وثلاثة ارباعها للفقراء، ومنهم من قال: يصرف لزيد نصف الوصية والباقى للفقراء، لانه جعل الوصية لجهتين فوجبت القسمة بينهما وبهذا قال أحمد وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد.
وعن محمد قول اخر: لزيد ثلثه وللمساكين ثلثاه، لان أقل الجمع اثنان، فان كان اوصى لزيد بدينار وبثلثيه للفقراء، وزيد فقير لم يدفع إليه من سهم الفقراء
شئ، وليس له غير الدينار، وبه قال الحسن البصري واسحاق بن راهويه، لان عطفهم عليه يدل على المغايرة بنهما، إذ الظاهر المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، ولان تجويز ذلك يفضى إلى تجويز دفع الجميع إليه، ولفظه يقتضى خلاف ذلك.
(فرع)
وقوله: فإن وصى لقبيلة عظيمة كالعلويين هم أبناء على كرم الله وجهه(15/469)
وهم يطلقون هذا على من كان من ولد محمد بن الحنفيه، ولذلك أطلق بعض من يريد كمال الشرف منهم لقب الفاطميين على انفسهم حتى ينفوا انهم من ابناء ابن الحنفية فكل فاطمي علوى وليس العكس.
أما الهاشميون فهم بنو هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو وسمى هاشما لهشمه الثريد أيام المجاعه.
عمرو الذى هشم الثريد لقومه ورجال مكه مسنتون عجاف وولده عبد المطلب بن هاشم وكان لعبد المطلب اثنا عشر ولدا، عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب، والزبير، وعبد الكعبة، والعباس وشرار، وحمزة، وحجل، وأبو لهب، وقثم، والغيداق المقب بالمقوم، والحارث أعمام النبي صلى الله عليه وسلم.
والعقب منهم لسته حمزه والعباس وأبو لهب والحارث وأبو طالب وعبد الله وقد ذكر ابن حزم وغيره أن حمزة انقرض عقبه.
أما طئ بفتح الطاء وتشديد الياء بهمزة في الآخر أخذا من الطاءة على وزن الطاعه، وهى الايغال في المرعى وهم بنو طئ بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وإليهم ينسب حاتم الطائى المشهور بالكرم، وأبو تمام الطائى الشاعر المشهور وهم من العرب العاربه من حمير، كانت منازلهم باليمن ثم افترقوا
بعد سيل العرم فنزلوا بنجد والحجاز، ثم غلبوا بنى أسد على جبلى أجأ وسلمى من بلاد نجد فنزلوهما فعرفا بجبلى طئ ثم افترقوا في أول الاسلام زمن الفتوحات في الاقطار، ومنهم بنو ثعل وزيد الخبل، وبنو تميم من العرب المستعربة وكانت منازلهم بأرض نجد ومن بطونهم طانجه ومن بطونها مزينه وهم بنو عثمان وأوس ابني عمر بن أد بن طانجه ومزينه أمهما عرفوا بها وهى بنت وبرة، ومنهم كعب ابن زهير المزني صاحب قصيدة بانت سعاد التى ألقاها أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم الامام إسماعيل بن ابراهيم المزني صاحب الامام الشافعي رضى الله عنه.
أما االاحكام: فانه إن وصى لبنى فلان وهم قبيلة ويدخل فيهم الذكر والانثى والخنثى ففى جواز الوصيه قولان.(15/470)
(أحدهما)
تصح وتصرف إلى ثلاثة منهم فما فوق كما قلنا في الفقراء وبصحتها قال أحمد بن حنبل وقال: لا يدخل ولد البنات فيهم لانهم لا ينتسبون إلى القبيلة (والقول الثاني) لا تصح الوصية لعدم إمكان إعطاء الجميع ولا يطلق اللفظ في العرف على فخذ منهم بحيث لو أوصى لبنى طئ فلا يخص بنى مزينة، ولو أوصى لبنى هاشم فلا يخص بنى أبى طالب، فكان باطلا ويخالف الفقراء فانه ينطبق عرفا على ثلاثة منهم، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن أوصى أن يضع ثلثه حيث يرى لم يجز أن يضعه في نفسه لانه تمليك ملكه بالاذن فلم يملك من نفسه كما لو وكله في البيع، والمستحب أن يصرفه إلى من لا يرث الموصى من أقاربه، فان لم يكن له أقارب صرف إلى أقاربه من الرضاع، فان لم يكونوا صرف إلى جيرانه لانه قائم مقام الموصى، ولمستحب للموصى أن يضع فيما ذكرناه فكذلك الوصي.
(فصل)
وإن وصى بالثلث لزيد ولجبريل، كان لزيد نصف الثلث وتبطل في الباقي، فان وصى لزيد وللرياح ففيه وجهان.
أحدهما: أن الجميع لزيد، لان ذكر الرباح لغو.
والثانى: أن لزيد النصف وتبطل الوصية في الباقي كالمسألة قبلها، فان قال: ثلثى لله ولزيد ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الجميع لزيد، وذكر الله تعالى للتبرك كقوله تعالى: فأن لله خمسه وللرسول
(والثانى)
أنه يدفع إلى زيد نصفه والباقى للفقراء لان عامة ما يجب لله تعالى يصرف إلى الفقراء.
(فصل)
وإن وصى لحمل إمرأة فولدت ذكرا وأنثى صرف اليهما وسوى بينهما، لان ذلك عطية فاستوى فيه الذكر والانثى، وإن وصى إن ولدت ذكرا فله ألف، إن ولدت أنثى فلها مائة فولدت ذكرا وأنثى استحق الذكر الالف والانثى المائة، فان ولدت خنثى دفع إليه المائة لانه يقين ويترك الباقي إلى أن يتبين فان ولدت ذكرين أو أنثيين ففيه ثلاثه أوجه.
أحدها: أن الوارث يدفع الالف إلى من يشاء من الذكرين والمائة إلى من(15/471)
يشاء من الانثيين لان الوصية لاحدهما فلا تدفع اليهما، والاجتهاد في ذلك إلى الوارث كما لو أوصى لرجل بأحد عبديه.
والثانى: أنه يشترط الذكران في الالف والانثيان في المائة، لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر فسوى بينهما، ويخالف العبد فانه جعله إلى الوارث، وههنا لم يجعله إلى الوارث.
الثالث: أنه يوقف الالف بين الذكرين والمائه بين الانثيين إلى أن يبلغا ويصطلحا، لان الوصيه لاحدهما فلا يجوز أن تجعل لهما ولا خيار للوارث، فوجب التوقف، فان قال: ما في بطنك ذكرا فله ألف، وان كان أنثى فله
مائة، فولدت ذكرا وأنثى لم يستحق واحد منهما شيئا لانه شرط أن يكون جميع ما في البطن ذكرا أو جميعه أنثى، ولم يوجد واحد منهما.
(الشرح) الاحكام: إذا أوصى بثلث ماله إلى رجل يضعه حيث يشاء هو أن يضعه أو حيث أراه الله لم يكن له أن يأخذ منه لنفسه شيئا، وان كان محتاجا لانه أمره بصرفه لا بأخذه ولم يكن له أن يصرفه إلى وارث الموصى، وان كان محتاجا لان الوارث ممنوع من الوصية وليس له أن يودعه عند نفسه ولا أن يودعه غيره، قال الشافعي رضى الله عنه: واختار له أن يعطيه أهل الحاجة من قرابة الميت حتى يغنيهم دون غيرهم، وليس الرضاع قرابة، فان لم يكن له قرابة من قبل الاب والام وكان له رضعاء أحببت أن يعطيهم، فان لم يكن له رضيع أحببت أن يعطى جيرانه الاقرب منهم فالاقرب، وأقصى الجوار منتهى أربعين دارا من كل ناحية وأحب أن يعطيه أفقر من يجده وأشدهم تعففا واستثارا، ولا يبقى في يده شيئا يمكن به أن يخرجه من ساعته.
(فرع)
ان وصى بالثلث لله ولزيد فقد كان لاصحابنا فيه وجهان.
أحدهما: أن الثلث لزيد واسم الله تعالى في الوصية ورد التبرك.
والثانى أن يصرف لزيد نصفه ويصرف النصف الباقي للفقراء، فعلى هذا الوجه إذا صرف إلى زيد الثلث كله صمن نصفه.(15/472)
ولو قال: اصرفوا ثلثى الخير أو في سبيل البر أو في سبيل الثواب قال الشافعي رضى الله عنه: جزئ أجزاء فأعطى ذو قرابته فقراء كانوا أو أغنياء، الفقراء والمساكين، وفى الرقاب والغارمين وابن السبيل والحاج، ويدخل الضيف والسائل والمعتر منهم، فان لم يفعل الموصى ضمن سهم من منعه إذا كان موجودا.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: تجوز الوصية لما في البطن وبما في البطن إذا كان يخرج لاقل من ستة إشهر فان خرجوا عددا ذكورا وإناثا فالوصية بينهم سواء وهم لمن أوصى بهم له، وهذه المسألة مشتملة على فصلين.
أحدهما: الوصية للمحمل.
والثانى: الوصية بالحمل، فأما الوصية بالحمل فجائزة، لانه لما ملك بالارث وهو أضيق ملك بالوصية التى هي أوسع، فلو أقر للحمل إقرارا مطلقا بطل في أحد القولين، والفرق بينهما أن الوصية أحمل للجهالة له من الاقرار، ألا ترى لو أوصى لمن في هذه الدار صح، ولو أقر له يصح، فإذا قال: قد أوصيت لحمل هذه المرأة بألف نظر حالها إذا ولدت، فان وضعته لاقل من ستة أشهر من حين تكلم بالوصية لا من حين الموت صحت له الوصية لعلمنا أن الحمل كان موجودا وقت الوصية، وان وضعته لاكثر من أربع سنين من حين الوصية فالوصية باطلة لحدوثه بعدها وأنه لم يكن موجودا وقت التكلم بها، وان وضعته لاكثر من ستة أشهر وقت الوصيه ولاقل من أربع سنين، فان كانت ذات زوج يمكن أن يطأ فيحدث ذلك منه فالوصيه باطله لامكان حدوثه فلم يستحق بالشك وان غير ذات زوج يطأ فالوصيه جائزة لان الظاهر تقدمه، والحمل يجرى عليه حكم الظاهر في اللحوق فكذلك في الوصيه فإذا صحت الوصيه له فان وضعت ذكرا أو انثى فالوصية له وان وضعت ذكر أو أنثى كانت الوصيه بينهما نصفين لانها هبه لا ميراث الا إذا فضل الموصى الذكر على الانثى أو العكس فيحمل على تفضيله، فلو قال إذا ولدت غلاما فله ألف، وان ولدت جاريه فلها مائة فولدت غلاما استحق ألفا أو جاريه استحقت مائه، وان ولدت غلاما وجاريه استحق الغلام ألفا والجاريه مائه،(15/473)
وإن ولدت خنثى دفع إليه مائة لانها يقين ووقف تمام الالف حتى يتبين، وهكذا
لو قال: إن كان في بطنك غلام فله ألف، وإن كان في بطنك جارية فلها مائة، فإن ولدت غلامين أو جاريتين صحت الوصية.
وفيها ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج (أحدها) أن للورثه أن يدفع الالف إلى أي الغلامين شاءوا والمائة إلى أي الجاريتين شاءوا لانها فلم تدفع اليهما، ورجع فيها إلى بيان الوارث كالوصية بأحد عبديه (والوجه الثاني) أنه يشترك الغلامان في الالف والجاريتان في المائة، لانها وصية لغلام وجاريه، وليس أحد الغلامين أولى من الاخر، فشرك بينهما ولم يرجع فيه إلى خيار الوارث بخلاف الوصية باحد العبدين اللذين يملكهما الوارث فجاز أن يرجع إلى خياره فيهما.
(والوجه الثالث) أن الالف موقوفه بين الغلامين، والمائة موقوفة بين الجاريتين حتى يصطلحا عليهما بعد البلوغ، لان الوصيه لواحد فلم يشرك فيها بين اثنين، وليس للوارث فيها خيار فلزم فيها الوقف فلو قال: إن كان الذى في بطنك جاريه فلها مائه، فولدت غلاما وجاريه فلا شئ لواحد منهما، بخلاف قوله ان كان في بطنك غلام فله الالف، لانه إذا قال ان كان الذى في بطنك غلام فقد جعل كون الحمل غلاما شرطا في الحمل والوصيه معا، فإذا كان الحمل غلاما وجاريه لم يوجد الشرط كاملا فلم تصح الوصيه.
وإذا قال إن كان في بطنك غلام فلم يجعل ذلك شرطا في الحمل، وإنما جعله شرطا في الوصيه فصحت الوصيه.
وهكذا لو قال: ان كان ما في بطنك غلاما، فهو كقوله: إن كان الذى في بطنك جاريه، فإذا وضعت غلاما وجاريه فلا وصيه.
وكذلك لو قال: إن كان الذى في بطنك غلاما فله ألف فولدت غلامين ففى الوصيه وجهان
(أحدهما)
باطل كما لو ولدت غلاما وجاريه لانه لم يكن كل حملها غلاما.
والوجه الثاني أنها جائزة لان كل واحد منهما غلام فاشتركا في الصفه ولم تضر الزيادة، فعلى هذا يكون على الوجوه الثلاثه التى حكاها ابن سريج من قبل أنها(15/474)
ترجع إلى بيان الورثة في دفع الالف إلى أحدهما، والثانى يشتركان جميعا فيها.
والثالث توقف الالف بينهما حتى يصطلحا عليها.
(مسألة) لو قال قد أوصيت لحمل هذه المرأة من زوجها فجاءت بولد نفاه زوجها باللعان، ففى الوصية وجهان
(أحدهما)
وهو قول ابن سريج ان الوصية باطلة لان لعانه قد نفى أن يكون منه (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ان الوصية له جائزة، لان لعان الزوج إنما اختص بنفس النسب دون غيره من أحكام الاولاد.
ألا ترى أنها تعتد به.
ولو قذفها به قاذف حدث له.
ولو عاد واعترف به لحق به.
ولكن لو وضعت بعد أن طلقها ذلك الزوج ثلاثا ولاكثر من أربع سنين من وقت الطلاق ولاقل من ستة أشهر من حين الوصيه فلا وصيه لعلمنا أنه ليس منه.
وبخلاف الملاعن الذى يجوز أن يكون الولد منه.
(مسألة أخرى) إذا وضعت الموصى بحملها ولدا ميتا فلا وصية كما لا ميراث له، ولو وضعته حيا فمات صحت الوصية وكان لوارث الحمل كالميراث.
ولو ضرب ضارب بطنها فألقت جنينا ميتا كان فيه على الضارب قود، ولا وصية له كما لا ميراث له.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
فإن أوصى لرجل بسهم أو بسقط أو بنصيب أو بجزء من ماله فالخيار إلى الوارث في القليل والكثير، لان هذه الالفاظ تستعمل في القليل والكثير.
(فصل)
فإن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته أعطى مثل نصيب أقلهم نصيبا لانه نصيب أحدهم، فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كان ذلك وصية بنصف المال، لانه يحتمل أن يكون قد جعل له الكل، ويحتمل أنه جعله مع ابنه فلا يلزمه الا اليقين، ولانه قصد التسوية بينه وبين ابنه ولا توجد التسوية إلا فيما ذكرناه، فإن كان له ابنان فوصى له بمثل نصيب أحد ابنيه جعل له الثلث، وإن وصى له بنصيب ابنه بطلت الوصية، لان نصيب الابن للابن فلا تصح الوصية به كما لو أوصى له بمال إبنه من غير الميراث.(15/475)
ومن أصحابنا من قال: يصح ويجعل المال بينهما، كما أوصى له بمثل نصيب إبنه، فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كافر أو قاتل فالوصية باطله، لانه وصى بمثل نصيب من لا نصيب له، فأشبه إذا وصى بمثل نصيب أخيه وله ابن.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال لفلان نصيب أو حظ أو قليل أو كثير من مالى، فما أعرف لكثير حدا الاحكام: إذا أوصى لرجل بنصيب من ماله أو حظ أو قليل أو كثير ولم يحد ذلك بشئ فالوصية جائزة ويرجع في بيانها إلى الورثة، فما بينوه من شئ كان قولهم فيه مقبولا، فإن ادعى الموصى له أكثر لان هذه الاسماء كلها لا تختص في اللغة ولا في الشرع ولا في العرف بمقدار معلوم لاستعمالها في القليل والكثير ولان القليل والكثير حد، لان الشئ قد يكون قليلا إذا أضيف إلى ما هو أكثر منه، ويكون كثيرا إذا أضيف إلى ما هو أقل منه وحكى عنه عطاء وعكرمة أن الوصية بما ليس بمعلوم من الحظ والنصيب باطلة للجهل بها.
وهذا فاسد لان الجهل بالوصايا لا يمنع من جوازها، ألا ترى أنه لو أوصى بثلث ماله وهو لا يعلم قدره جازت الوصية مع الجهل بها، وقد
أوصى أنس بن مالك لثابت البنانى بمثل نصيب أحد ولده أما إذا أوصى له بسهم من ماله فقد اختلف الناس فيه، فحكى عن عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه والحسن البصري وإياس بن معاويه وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل أن له سدس المال.
وقال شريح بدفع له بينهم واحد من سهام الفريضتين.
وقال أبو حنيفة يدفع إليه مثل نصيب أقل الورثة نصيبا ما لم يجاوز الثلث، فان جاوزه أعطى الثلث.
وقال أبو ثور أعطيه سهما من أربعة وعشرين سهما وقال أبو يوسف ومحمد يعطى مثل نصيب أقلهم نصيبا ما لم يجاوز الثلث فإن جاوزه أعطى الثلث وقال الشافعي السهم اسم عام لا يختص بقدر محدود لانطلاقه على القليل والكثير كالحظ والنصيب فيرجع فيه إلى بيان الوارث، فان قيل روى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ لرجل أوصى له سهما سدسا.
قيل هي قضية(15/476)
في عين يحتمل أن تكون البينة قائمة، فأمر بالسدس أو اعترف به الورثة، فإذا ثبت أنه يرجع فيه إلى بيان الورثة قبل منهم ما بينوه من قليل وكثير، فان نوزعوا أحلفوا، فلو لم يبينوا لم تخل حالهم من أن يكون عندهم بيان أو لا يكون، فان لم يكن عندهم بيان رجع إلى بيان الموصى له، فان نوزع أحلف، وان لم يكن عند الموصى له بيان فأبوا أن يبينوا ففيه وجهان من اختلاف قولين فيمن أقر بمجمل وامتنع أن يبين أحدهما يحبس الوارث حتى يبين، والثانى يرجع إلى بيان الموصى له (فرع)
إذا أوصى بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه قال الشافعي رضى الله عنه (أعطيته مثل أقلهم نصيبا) (قلت) لان الوصايا لا يستحق فيها الا اليقين والاقل، فلا تعين الزيادة على شك، فان كان سهم الزوجة أقل أعطيته مثل سهمها، وان كان سهم غيرها من
البنات أو بنات الابن أقل أعطيته مثله، واعتبار ذلك باعتبار سهام كل واحد من الورثة من أصل فريضتهم، فتجعل للموصى له مثل سهام أقلهم، وتضمه إلى أهل الفريضة، ثم يقسم المال بين الموصى له والورثة على ما اجتمع معك من العددين وقد بيناه.
ولو وصى إليه بمثل أكثرهم نصيبا اعتبرته زودته على سهام الفريضة ثم قسمت ما اجتمع من العددين على ما وصفناه، فعلى هذا لو اختلف الورثة فقال بعضهم أراد مثل أقلنا نصيبا، وقال بعضهم بل أراد مثل أكثرنا نصيبا أعطيته من نصيب كل واحد من الفريقين حصة مما اعترف بها ومثاله أن يكون الورثة ابنين وبنتين فيكون لكل ابن سهمان ولكل بنت سهم وللموصى له بمثل نصيب الذكر، ولو أراد أنثى لكان المال مقسوما على سبعة اسم فريضه ابنين وثلاثة بنات ولو ترك ابنا وبنتا وأوصى لرجل بمثل نصيب البنت فذلك ضربان
(أحدهما)
أن يريد بمثل نصيب البنت قبل دخول الوصية عليها.
فعلى هذا يكون الموصى له بمثل نصيب الابن خمس المال وللموصى له بمثل نصيب البنت ربع المال، فيصير بالوصيتين بخمس المال وربعه فيوقف على اجازتهما.(15/477)
والضرب الثاني: أن يريد بمثل نصيب البنت بعد دخول الوصية عليها فعلى هذا يكون الموصى له بمثل نصيب الابن خمس المال، وللموصى له بمثل نصيب البنت سدس المال فتصير الوصيتان بخمس المال وسدسه فتوقف على اجازتهما فلو ابتدأ فوصى لرجل بمثل نصيب البنت ولآخر بمثل نصيب الابن كان للموصى له بمثل نصيب البنت ربع المال، فأما الموصى له بمثل نصيب الابن،
فان أراد قبل دخول الوصية عليه كان له ثلث المال ثم على هذا القياس.
ولو ترك بنتا وأخا وأوصى لرجل بمثل نصيب البنت فقد اختلف أصحابنا في قدر ما يستحقه الموصى له على وجهين.
(أحدهما)
له الربع نصف حصة البنت، لانه لما استحق مع البنت الواحدة الربع لانه نصف نصيبها.
(والوجه الثاني) وهو اصح، له الثلث لانه يصير مع البنت الواحدة كبنت ثانية كما يصير مع الابن الواحد كابن ثان، وللواحدة من البنتين الثلث فكذلك للموصى له مثل نصيب البنت الواحدة الثلث، وهكذا لو وصى بمثل نصيب أخت مع عم كان فيما يستحقه بالوصية وجهان.
أحدهما: الربع، والثانى الثلث وهكذا لو لم يرث مع البنت والاخت غيرهما، لان لكل واحدة منهما إذا انفردت النصف، والباقى لبيت المال، فعلى هذا لو وصى بمثل نصيب أخ لام فله في أحد الوجهين نصف السدس، وفى الاخر السدس.
وجملة ذلك أن الموصى جعل وارثه أصلا وقاعدة حمل عليها نصيب الموصى له وجعله مثلا له، وهذا يقتضى أن لا يزاد عليه، فان كان الورثة يتساوون في الميراث كالبنين مثلا فله نصيب أحدهم إذا كانت الوصية بمثل نصيب أحد ورثته فان تفاضلوا فله مثل نصيب أقلهم ميراثا يزاد على الفريضة، فان أوصى بنصيب وارث معين فله مثل نصيبه مزادا على الفريضة، وبهذا قال الجمهور، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وقال مالك وابن أبى ليلى وزفر وداود: يعطى مثل نصيب المعين أو مثل نصيب أحدهم إذا كانوا يتساوون من أصل المال غير مزيد، ويقسم الباقي بين الورثة(15/478)
لان نصيب الوارث قبل الوصيه من أصل المال، فلو أوصى بمثل نصيب ابنه،
وله ابن واحد فالوصية بجميع المال، وان كان له ابنان فالوصيه بالنصف، وان كانوا ثلاثه فالوصيه بالثلث.
وقال مالك: إن كانوا يتفاضلون نظر إلى عددهم فأعطى سهما من عددهم لانه لا يمكن اعتبار أنصبائهم لتفاضلهم فاعتبر عدد رؤوسهم، وقد أوضحنا أن الموصى جعل وارثه أصلا وقاعدة، وهذا يدل على فساد ما خالفه، لان قاعدة الجمهور تقتضي أن لا يزاد أحدهما على صاحبه، ومتى أعطى من أصل المال فما أعطى نصيبه ولا حصلت له التسوية، والعبادة تقتضي التسوية، وإنما جعل مثل أقلهم نصيبا لانه اليقين، وما زاد فمشكوك فيه فلا يثبت مع الشك.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: إذا اوصى بمثل نصب ابنه ولا ابن له غيره فله النصف، فإن لم يجز الابن فله الثلث.
قلت وهذا قول أبى حنيفة وصاحبه: فإن أجازها الابن وإلا ردت على الثلث وقال الك وزفر بن الهذيل وداود بن على: هي وصية بجميع المال، استدلالا بأن نصيب ابنه إذا لم يكن له غيره الجميع فاقتضى أن تكون الوصية بمثل نصيبه وصية بجميع المال، ولانه لو كان وصى له بمثل ما كان نصيب ابنه كانت وصية بجميع المال إجماعا وجب إذا وصى له بمثل نصيب ابنه ان تكون وصيته بجميع المال حجاجا، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه.
أحدها: ان نصيب الابن اصل والوصية بمثله فرع فلم يجز أن يكون الفرع رافعا لحكم الاصل.
والثانى: أنه لو جعلت الوصية بكل المال لخرج أن يكون للابن نصيب، وإذا لم يكن للابن نصيب بطلت الوصية التى هي مثله.
والثالث: أن الوصية بمثل نصيب ابنه توجب التسوية بين الموصى له وبين ابنه، فإذا وجب ذلك كانا نصفين ن وفى إعطائه اجميع إبطال للتسوية بينهما كما
قررنا، وأما قولهم.
إن نصيب الابن كل المال، فالجواب: أن له الجميع مع عدم الوصية، فأما مع الوصية فلا يستحق الجميع.(15/479)
وأما قوله: وصيت لك بمثل ما كان نصيب ابني فالفرق بينهما أنه لم يجعل له مع الوصية نصيبا فلذلك كانت بكل المال.
فعلى هذا لو قال: وصيت لك بنصيب ابني فالذي عليه الجمهور من أصحابنا أن الوصية باطلة، وهو قول أبى حنيفة وأحمد لانها وصية بما لا يملك، لان نصيب الابن ملكه لا ملك أبيه.
وقال بعض أصحابنا الوصية جائزة، وهو قول مالك ويجريها مجرى قوله: بمثل نصيب ابنه فيجعلها وصيه بالنصف وعند مالك بالكل ولو أوصى بمثل نصيب ابنه ولا ابن له كانت الوصية باطلة، وكذلك لو كان له ابن كافر أو قاتل لانه لا نصيب له.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: بمثل نصيب أحد ولدى فله مع الابنين الثلث ومع الثلاثة الربع حتى يكون كأحدهم.
قلت: وإلى هذا ذهب أحمد وأصحابه.
وقال مالك: يكون له مع الاثنين النصف ومع الثلاثة الثلث ومع الاربعة الربع، وقد ذكرنا وجه فساده لما فيه من تفضيل الموصى له على ابنه.
(قلت) ولو قال: بمثل نصيب ابني وله ولدان فالوصية باطلة، لانه يوصى بنصيب ابنه الذى هو ملك للابن فلا يملك الاب الوصية به كما لو أوصى بما يملكه ولده من كسبه لا من ميراثه، ومن أصحابنا من صحح الوصية وجعلها كقوله: بمثل نصبي أحد ابني، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
فإن وصى بضعف نصيب أحد أولاده دفع إليه مثلا نصيب أحدهم
لان الضعف عبارة عن الشئ ومثله، ولهذا يروى أن عمر رضى الله عنه أضعف الصدقة على نصارى بنى تغلب، أي أخذ مثلى ما يوخذ من المسلمين فان وصى له بضعفي نصيب أحدهم أعطى ثلاثة أمثال نصيب أحدهم.
وقال أبو ثور يعطى أربعة أمثاله وهذا غلط، لان الضعف عبارة عن الشئ ومثله فوجب أن يكون الضعفان عبارة عن الشئ ومثليه.
(فصل)
فإن وصى لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه وأجار الورثة قسم(15/480)
المال بينهما على خمسة.
للموصى له بالثلث سهمان، وللموصى له النصف ثلاثة أسهم فإن لم يجيز واقسم الثلث بينهما على خمسه على ما ذكرناه لان ما قسم على التفاضل عند اتساع المال قسم على التفاضل عند ضيق المال كالمواريث، والمال بين الغرماء فان أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بثلثه وأجاز الورثة.
قسم المال بينهما على أربعة، للموصى له بالجميع ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث سهم، لان السهام في الوصايا كالسهام في المواريث، ثم السهام في المواريث إذا زادت على قدر المال أعيلت الفريضة بالسهم الزائد، فكذلك في الوصية، فان لم يجيز واقسم الثلث بينهما على ما قسم الجميع.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: ضعف ما يصيب أكثر ولدى نصيبا أعطيته مثله مرتين، ولو قال: ضعفين، فان كان نصيبه مائة أعطيته ثلاثمائة، فأكون قد أضعفت المائة التى تصيبه بميراثه مرة فلذاك ضعفان، وهكذا إن قال ثلاثة أضعاف وأربعة، ولم أزد على أن أنظر أصل الميراث فأضعفه له مرة بعد مرة حتى يستكمل ما أوصى له به اه اللغات: إذا أوصى لرجل بمثل ضعف نصيب أحد أولاده كان الضعف مثلى النصيب، فان كان نصيب الابن مائة كان للموصى له بالضعف مائتين، وبه قال
جمهور الفقهاء.
وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام الضعف المثل، واستدل بقوله تعالى (يضاعف لها العذاب ضعفين) أي مثلين، وقوله تعالى (فآتت أكلها ضعفين) وإذا كان الضعفان مثلين فالواحد مثل.
ولنا ان الضعف مثلان بديل قوله تعالى (إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) وقال (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) ويروى عن عمر انه اضعف الزكاة على نصارى بنى تغلب فكان يأخذ من المائتين عشرة، وقال لحذيفة وعثمان بن حنيفة لعلكما حملتما الارض مالا تطيق؟ فقال عثمان لو أضعفت عليها لاحتملت، قال الازهرى الضعف المثل فما فوقه.
قال الماوردى في حاوية، والدليل عل ان الضعف مثلان هو ان اختلاف الاسماء يوجب اختلاف المسمى إلا ما خص بدليل.
ولان الضعف اعم في اللغة(15/481)
من المثل فلم يجز أن يسوى بينه وبين المثل، ولان انشقاق الضعف من المضاعفة والثنية من قولهم: أضعف الثوب إذا طويته بطاقين فأما الآية ففيها جوابان
(أحدهما)
ما حكاه أبو العباس عن الاثرم عن بعض المفسرين أنه جعل عذابهن إذا أتين بفاحشة ثلاثة أمثال عذاب غيرهن فلم يكن فيه دليل
(والثانى)
أن الضعف قد يستعمل في موضع المثل مجازا إذا صرفه الدليل عن حقيقته، وليست الاحكام تتعلق بالمجاز، وانما تتعلق بالحقائق فأما بيان الاحكام فإنه إذا أوصى له بضعفي نصيب ابنه فقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب (أحدها) وهو مذهب مالك أن له مثلى نصيبه لانه جعل الضعف مثلا فجعل الضعفين مثلين والمذهب الثاني وهو مذهب أبى ثور أن له أربعة أمثال نصيبه، لانه لما استحق بالضعف مثلين استحق بالضعفين أربعة أمثال
والمذهب الثالث وهو مذهب الشافعي رضى الله عنه وجمهور الفقهاء أن له بالضعفين ثلاثة أمثال نصيبه، فإن كان الابن نصيبه مائة استحق بالضعفين ثلاثمائة، لانه لما أخذ بالضعف سهم الابن ومثله حتى استحق مثلين.
وجب أن يأخذ بالضعفين لسهم الابن ومثليه يستحق به ثلاثة أمثاله.
فعلى هذا لو أوصى له بثلاثة أضعاف نصيب ابنه استحق أربعة أمثاله، وبأربعة أضعاف خمسة أمثاله وكذلك فيما زاد (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه ولآخر بربعه فقد عالت وصاياه كل ماله، فلا يخلو حال ورثته من ثلاثة أحوال: إما أن يجيزوا جميعا أو يردوا جميعا، أو يجيزوا بعضها ويردوا بعضها، فان أجازوا جميعها قسم المال بينهم على قدر وصاياهم وأصلها من إثنى عشر لاجتماع الثلث والربع ويعول بسهم، وتصح من ثلثه عشر، لصاحب النصف ستة اسهم، ولصاحب الثلث أربعة أسهم، ولصاحب الربع ثلاثة أسهم، وكان النقص ببسهم العول داخلا على جميعهم كالمواريث.
وهذا متفق عليه ولم يخالف فيه أبو حنيفة ولا غيره(15/482)
(فصل)
فإن قال أعطوه رأسا من رقيقي ولا رقيق له، أو قال أعطوه عبدى الحبشى وله عبد سندى أو عبدى الحبشى وسماه باسمه ووصفه صفة من بياض أو سواد وعنده حبشي يسمى بذلك الاسم ومخالف له في الصفة فالوصية باطلة لانه وصى له بما لا يملكه، فإن كان له رقيق أعطى منه واحدا، سليما كان أو معيبا لانه لا عرف في هبة الرقيق فحمل على ما يقع عليه الاسلم، فإن مات ماله من الرقيق بطلت الوصية لانه فات ما تعلقت به الوصية من غير تفريط، فإن قتلوا فإن كان قبل موت الموصى بطلت الوصية لانه جاء وقت الوجوب ولا
رقيق له ن فإن قتلوا بعد موته وجبت له قيمة واحد منهم لانه يدل ما وجب له.
(فصل)
فإن وصى بعتق عبد أعتق عنه ما يقع عليه الاسم لعموم اللفظ.
ومن أصحابنا من قال: لا يجزى إلا ما يجزى في الكفارة لان العتق في الشرع له عرف وهو ما يجزى في الكفارة فحملت الوصية عليه، فإن وصى أن يعتق عنه رقبة فعجز الثلث عنها ولم تجز الورثة أعتق قدر الثلث من الرقبة لان الوصية تعلقت بجميعها، فإذا تعذر الجميع بقى في قدر الثلث، فان وصى أن يعتق عنه رقاب أعتق ثلاثة لان الرقاب جمع وأقله ثلاثة، فان عجز الثلث عن الثلاثة أعتق عنه ما أمكن، فان اتسع الثلث لرقبتين وتفضل شئ، فان لم يمكن أن يشترى بالفضل بعض الثالثة زيد في ثمن الرقبتين، وإن أمكن أن يشترى به بعض الثالثة ففيه وجهان.
(أحدهما)
يزاد في ثمن الرقبتين لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن أفضل الرقاب فقال (أكثرها ثمنا وأنفسها عند أهلها)
(والثانى)
أنه يشترى به بعض الثالثة لقوله صلى الله عليه وسلم (من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار) ولان ذلك أقرب إلى العدد الموصى به.
(فصل)
فان قال أعتقوا عبدا من عبيدى وله خنثى حكم له بأنه رجل، ففيه وجهان.
أحدهما أنه يجوز لانه محكوم بأنه عبد.
الثاني لا يجوز لان اسم العبد لا ينصرف إليه، فإن قال أعتقوا أحد رقيقي وفيهم خنثى مشكل فقد روى الربيع فيمن وصى بكتابة أحد رقيقه أنه لا يجوز الخنثى المشكل.
وروى المزني أنه يجوز(15/483)
فمن أصحابنا من قال: يجوز كما نقله المزني، لانه من الرقيق، ومنهم من قال لا يجوز كما نقله الربيع لان إطلاق اسم الرقيق لا ينصرف إلى الخنثى المشكل
(فصل)
فان قال أعطوه شاة جاز أن يدفع إليه الصغير والكبير والضأن
والمعز، لان اسم الشاة يقع عليه ولا يدفع إليه تيس ولا كبش على المنصوص ومن أصحابنا من قال يجوز الذكر والانثى، لان الشاة اسم للجنس يقع على الذكر والانثى كالانسان، يقع على الرجل والمرأة فان قال أعطوه شاة من غنمي والغنم إناث لم يدفع إليه ذكر، فان كانت ذكورا لم يدفع إليه أنثى لانه أضاف إلى المال وليس في المال غيره، فان كانت غنمه ذكورا وإناثا فعلى ما ذكرنا من الخلاف فيه إذا أوصى بشاة ولم يضف إلى المال.
فان قال أعطوه ثورا لم يعط بقرة، فان قال أعطوه جملا لم يعط ناقة، فان قال أعطوه بعيرا فالمنصوص أنه لا يعطى ناقة.
ومن أصحابنا من قال يعطى لان البعير كالانسان يقع على الذكر والانثى، فان قال أعطوه رأسا من الابل أو رأسا من البقر أو رأسا من الغنم جاز الذكر والانثى، لان ذلك اسم للجنس
(فصل)
فان قال أعطوه دابة فالمنصوص أنه يعطى فرسا أو بغلا أو حمارا واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس: هذا قاله على عادة أهل مصر، فان الدواب في عرفهم الاجناس الثالثة، فان كان الموصى بمصر أعطى واحدا من الثلاثة.
وان كان في غيرها لم يعط إلا الفرس، لانه لا تطلق الدابة في سائر البلاد إلا على الفرس.
وقال أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يعطى وحدا من الثلاثة في جميع البلاد، لان اسم الدواب يطلق على الجميع، فان قال: أعطوه دابة من دوابى، وليس عنده إلا واحد من الثلاثة أعطى منه، لانه أضاف إلى ماله وليس له غيره فان قال أعطوه دابة ليقاتل عليه العدو لم يعط إلا فرسا.
فان قال ليحمل عليه لم يعط إلا بغلا أو حمارا، فان قال لينتفع بنسله لم يعط إلا فرسا أو حمارا لان القرينة دلت على ما ذكرناه.
(الشرح) حديث (سئل عن أفضل الرقاب) رواه أحمد والبخاري ومسلم(15/484)
من حديث أبى ذر رضى الله عنه، وحديث (من أعتق رقبة) رواه ثلاثتهم أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه.
أما قوله: فإن قال (أعطوه شاة من غنمي الخ) فهو كما قال الشافعي رضى الله عنه: ولو أوصى بشاة من ماله، كأن قيل للورثه أعطوه أو اشتروها له، صغيرة كانت أو كبيرة، ضأنا أو معزا.
اه قلت: ومعنى هذا أن الوصية جائزة ترك غنما أو لم يترك، لانه جعلها في ماله ويعطيه الورثة ما شاءوا، ضأنا أو معزا كبيرا أو صغيرا سمينا أو هزيلا.
وفى استحقاق الانثى وجهان
(أحدهما)
وهو الظاهر من نصر الشافعي أنه لا يعطى إلا أنثى لان الهاء موضوعة للتأنيث (والوجه الثاني) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن للورثة الخيار في إعطئه ذكرا أو أنثى، لان الهاء من أصل الكلمة في اسم الجنس فاستوى فيه الذكر والانثى، ولكن لو قال شاة من غنمي وكانت غنمه كلها إناثا لم يعطى إلا أنثى.
وكذلك لو كانت كلها ذكورا لم يعط لا ذكرا منها.
وهكذا لو دل كلامه على المراد منها حمل عليه.
مثل قوله شاة ينتفع بدرها ونسلها لم يعط إلا كبيرة أنثى لتكون ذات در ونسل، وسواء كانت ضأنية أو معزية.
فان قال شاة ينتفع بصوفها لم يعط إلا من الضأن.
ولو قال ينتفع بشعرها لم يعط إلا من المعز، ولا يجوز إذا أوصى بشاة من ماله أن يعطى غزالا ولا ظبيا وان انطلق عليه اسم الشاة مجازا.
ولكن لو قال شاة من شياهى ولم يكن في ماله إلا ظبى ففيه وجهان
(أحدهما)
أن الوصية باطلة، لان اسم الشاة يتناول الغنم، وليس بتركته فبطت (والوجه الثاني) أنها تصح لانه لما اضاف ذلك إلى شائه وليس في ماله إلا ما ينطلق عليه مجاز الاسم دون الحقيقة حمل عليه، وانصرفت وصيته إلى
الظبى الموجود في تركته حتى لا تبطل وصيته (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: بعيرا أو ثورا لم يكن لهم أن يعطوه ناقة ولا بقرة ولو قال: عشر أنيق وعشر بقرات لم يكن لهم أن يعطوه ذكرا.
ولو قال عشرة أجمال أو أثوار لم يكن لهم أن يعطوه أنثى، ولو قال: عشرة من إبلى أعطوه ما شاءوا(15/485)
قلت: وبهذا نعلم أنه إذا أوصى بثور لم يعط إلا ذكرا.
ولو قال بقرة لم يعط الا أنثى وكان بعض أصحابنا يخرج في البقرة وجها آخر أنه يجوز أن يعطى ذكرا أو أنثى كالشاة لان الهاء من أصل اسم الجنس ولا يجوز أن يعدل في الوصيه بالثور والبقرة إلى الجواميس بخلاف الشياء التى ينطلق عليها اسم الضأن والمعز إلا ان يكون في كلامه ما يدل عليه.
أو يقول بقرة من بقرى وليس له إلا الجواميس فتنصرف إلى الجواميس، وان كان اسم البقر يتناولها مجازا.
لان إضافة الوصية إلى التركة قد صرف الاسم عن حقيقته إلى مجازه.
ولا يجوز ان يعدل به إلى بقر الوحش، فان اضاف الوصية إلى بقره ولم يكن له الا بقر الوحش فعلى ما ذكرنا من الوجهين فأما إذا أوصى ببعين فمذهب الشافعي يانه لا يعطى إلا ذكرا، لان الاسم بالذكور أخص.
وقال بعض أصحابنا هو اسم للجنس فيعطى ما شاء الوارث من ذكر أو انثى.
فأما إذا اوصى له بحمل لم يعط الا ذكرا لاختصاص هذا الاسم بالذكور.
ولو أوصى بعشر من إبله اعطاه ما شاء الوارث من ذكور واناث، وسواء اثبت الهاء في العدد أو أسقطها.
ومن اصحابنا من قال: إذا أثبت الهاء في العدد فقال عشرة من ابلى لم يعط
الا من الذكور لان عددها باثبات الهاء كما هو معروف في قواعد النحو في العدد وان اسقط الهاء في العدد فقال: عشر من ابلى لم يعط الا من الاناث، لان عددها باسقاط الهاء لقوله تعالى (سبع ليال وثمانية أيام حسوما) وقوله (سبع سموات طباقا) وقوله (سبع بقرات سمان يأكلن سبع عجاف) وكما نقول عشر نسوة وعشرة رجال.
وهذا لا وجه له لان اسم الابل إذا كان يتناول الذكور والاناث تناولا واحدا صار العدد فيها محمولا على القدر دون النوع واما إذا قال اعطوه مطية أو راحلة فذلك يتناول الذكور والاناث فيعطيه ما شاء الوارث منها.(15/486)
فأما إذا قال أعطوه دابة فقال الشافعي رضى الله عنه: أعطى من الخيل والبغال والحمير ذكرا أو أنثى صحيحا صغيرا أو كبيرا، أعجف أو سمينا.
(قلت) لان اسم الدواب يطلق على كل ما دب على الارض اشتقاقا من دبيبه غير أنه في العرف مختص ببعضها، فان قال: اعطهوه دابة من دوابى فقد اختلف أصحابنا في قول الشافع: أعطى من الخيل والبغال والحمير الخ، فقال أبو العباس ابن سريج يحمل ذلك على عرف الناس بمصر حيث قال ذلك فيهم، وذكره لهم اعتبارا بعرفهم.
أما بالعراق والحجاز فلا ينطلق إلا على الخيل وحدها ولا يتناول غيرها إلا مجازا يعرف بقرينة، فإن كان الموصى بمصر خير ورثته بين الاصناف الثلاثة، وإن كان بالعراق لم يعطوه إلا من الخيل.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْن أَبِي هريرة: بل الجواب محمول على ظاهره في كل البلاد، بأن اسم الدواب ينطلق على هذه الاجناس الثلاثة، فإن شذ بعض البلاد بتخصيص بعضها بالاسم لم يعتبر به حكم العرف العام، فلو قرن ذلك بما يدل على التخصيص حمل على قرينته، كقوله: اعطوه دابة يقاتل عليها
فلا يعطى إلا من الخيل عتيقا أو هجينا ذكرا أو أنثى ولا يعطى صغيرا ولا مما لا يطيق الركوب، ولو قال: دابة يحمل عليها أعطى من البغال والحمير دون الخيل، ولو قال ينتفع بنتاجها يعطى من الخيل والحمير ولا يعطى من البغال وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
فإن وصى بكلب ولا كلب له فالوصية باطلة، لانه ليس عنده كلب ولا يمكن أن يشترى، فبطلت الوصية، فإن قال: أعطوه كلبا من كلابي وعنده كلاب لا ينتفع بها بطلت الوصية، لان مالا منفعة فيه من الكلاب لا يحل اقتناؤه فان كان ينتفع بها اعطى واحدا منها إلا أن يقرن به قرينة من صيد أو حفظ زرع فيدفع إليه مادلت عليه القرينة، فان كان له ثلاثة كلاب ولا مال له فأوصى بجميعها ولم تجز الوثة ردت إلى الثلث وفى كيفية الرد وجهان.
(أحدهما)
يدفع إليه من كل كلب ثلثه كسائر الاعيان
(والثانى)
يدفع إليه(15/487)
أحدها وتخالف سائر الاعيان لان الاعيان تقوم وتختلف أثمانها والكلاب لا تقوم فاستوى جميها وفيما يأخذ وجهان.
(أحدهما)
وهو قول أبى إسحاق أنه يأخذ واحدا منها بالقرعة.
(والثانى)
يعطيه الوارث ما شاء منها فان كان له كلب واحد فوصى به ولم تجز الورثة ولم يكن له مال أعطى ثلثه، فإن كان له مال ففيه وجهان
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنه يدفع الجميع إلى الموصى له لان أقل المال خير من من الكلب فأمضيت الوصية فيه كما لو أوصى له بشاة وله مال تخرج الشاة من ثلثه
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى انه يدفع إليه ثلث الكلب لانه لا يجوز ان يحصل للموصى له شئ إلا ويحصل للورثه مثلاه ولا يمكن اعتبار
الكلب من ثلث المال لانه لا قيمة له فاعتبر بنفسه.
(فصل)
وان وصى له بطبل من طبوله وليس له الا طبول الحرب اعطى واحدا منها وان لم يكن له إلا طبول اللهو نظرت، فان لم يصلح وهو طبل لغير اللهو، وإن فصل لمباح لم يقع عليه اسم الطبل فالوصية باطله لانه وصية بمحرم وإن كان يصلح لمنفعة مباحه مع بقاء الاسم جازت الوصيه لانه يمكن الانتفاع به في مباح، وإن كان له طبل حرب وطبل لهو ولم يصلح طبل اللهو لغير اللهو اعطى طبل الحرب لان طبل اللهو لا تصح الوصيه به فيصير كالمعدوم، وإن كان يصلح لمنفعه مباحه اعطاه الوارث ما شاء منهما.
(فصل)
فان وصى بعود من عيدانه وعنده عود اللهو وعود القوس وعود البناء كانت الوصيه بعود اللهو، لان اطلاق الاسم ينصرف إليه، فان كان عود اللهو يصلح لمنفعه مباحه دفع إليه ولا يدفع معه الوتر والمضراب لان اسم العود يقع من غير وتر ولا مضراب، وان كان لا يصلح لغير اللهو فالوصيه باطله لانه وصيه بمحرم.
ومن أصحابنا من قال: يعطى من عود القوس والبناء لان المحرم كالمعدوم كما قلنا فيمن وصى بطبل من طبوله، وعنده طبل حرب وطبل لهو انه تجعل الوصيه في طبل الحرب ويجعل طبل اللهو كالمعدوم.
والمذهب انه لا يعطى شيئا(15/488)
لان العود لا يطلع إلا على عود اللهو.
والطبل يطلق على طبل اللهو وطبل الحرب فإذا بطل في طبل اللهو حمل على طبل الحرب، فان قال أعطوه عودا من عيداني وليس عنده إلا عود القوس أو عود البناء أعطى منها لانه أضاف إلى ما عنده وليس عندها سواه.
(فصل)
فان وصى له بقوس كانت الوصية بالقوس الذى يرمى عنه النبل
والنشاب دون قوس الندف والجلاهق وهو قوس البندق، لان اطلاق الاسم ينصر إلى ما يرمى عنه ولا يعطى معه الوتر.
ومن أصحابنا من قال: يعطى معه الوتر لانه لا ينتفع به إلا مع الوتر، والصحيح أنه لا يعطى لان الاسم يقع عليه من غير وتر، فان قال: أعطهوه قوسا من قسى وليس عنده الا قوس الندف أو قوس البندق أعطى مما عنده لانه أضاف إلى ما عنده وليس عنده سواه، وان كان عنده قوس البندق وقوس الندف أعطى قوس البندق لان الاسم إليه أسبق.
(فصل)
فان وصى بعتق مكاتبه أو بالابراء مما عليه من الثلث أقل الامرين من قيمته أو مال الكناية لان الابراء عتق، والعتق إبراء فاعتبر أقلهما وألغى الاخر فان احتملهما الثلث عتق وبرئ من المال، وان لم يحتمل شيئا منه لديون عليه بطلت الوصية وأخذ المكاتب بأداء جميع ما عليه فان أدى عتق وإن عجز رق وتعلق به حق الغرماء والورثة، فان احتمل الثلث بعض ذلك مثل أن يحتمل النصف من أقل الامرين عتق نصفه وبقى نصفه على الكناية فان أددى عتق وان عجز رق، وان احتمل الثلث أحدهما دون الآخر اعتبر الاقل فعتق به فان لم يكن له مال غير العبد نظر، فان كان قد حل عليه مال الكناية عتق ثلثه في الحال وبقى الباقي على الكناية ان أدى عتق وان عجز رق، وان لم يحل عليه مال الكناية ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يتعجل عتق شئ منه لانه يحصل للموصى له الثلث ولم يحصل للورثة مثلاه وهذا لا يجوز كما لو أوصى بالثلث وله مال حاضر ومال غائب فانه لا تمضى الوصية في شئ حتى يحصل للورثة مثلاه.(15/489)
(والثانى)
وهو ظاهر المذهب أنه يتعجل عتق ثلثه ويقف الثلثان على العتق
بالاداء أو الرق بالعجز لان الورثة على يقين من الثلثين اما بالاداء واما بالعجز بخلاف ما لو كان له مال حاضر ومال غائب لانه ليس على يقين من سلامة الغائب
(فصل)
فان قال: ضعوا عن مكاني أكثر ما عليه وضع عنه النصف وشئ لانه هو الاكثر، فان قال: ضعوا عنه ما شاء من كتابته فشاء الجميع فقد روى الربيع رحمه الله أنه يوضع عنه الجميع الا شيئا، وروى المزني أنه إذا قال ضعوا عنه ما شاء فشاءها كلها وضع الجميع لا شيئا، فمن أصحابنا من قال الصحيح ما رواه الربيع، لان قوله من كتابته يقتضى التبعيض وما رواه المزني خطأ في النقف والذى يقتضيه أن يوضع عنه الكل إذا شاء لان قوله ما شاء علم في الكل والبعض، وقال أبو إسحاق ما نقله الربيع صحيح على ما ذكرناه وما نقله المزني أيضا صحيح فانه يقتضى أن يبقى من الكل شئ، لانه لو أراد وضع الجميع لقال ضعوا عنه مال الكتابة فلما علقه على ما شاء دل على أنه لم يرد الكل.
فإن قال: ضعوا عنه ماقل وما كثر وضع الوارث عنه ما شاء من قليل وكثير لانه ما من قدر الا وهو قليل بالاضافة إلى ما هو أكثر وكثير بالاضافة إلى ما هو أقل منه.
فإن قال: ضعوا عنه أكثر نجومه وضع عنه أكثرها مالا لان اطلاق الاكثر ينصرف إلى كثرة المال دون طول المدة.
فإن قال ضعوا عنه أوسط النجوم واجتمع في نجومه أوسط في القدر واوسط في المدة وأوسط في العدد كان للوارث أن يضع أي الثلاثة شاء لان الوسط يقع على الثلاثة فإن استوى الجميع في المدة والقدر وضع عنه الاوسط في العدد، فان كانت النجوم ثلاثه وضع عنه الثاني، فان كانت أربعه وضع عنه الثاني والثالث، فان كانت خمسه وضع عنه الثالث وعلى هذا القياس.
(فصل)
وان كاتب عبده كتابة فاسدة ثم أوصى لرجل بما في ذمته لم تصح الوصيه لانه لا شئ له في ذمته فصار كما لو وصى بماله في ذمة حر ولا شئ له
في ذمته، وان وصى له بما يقبضه منه صحت الوصيه لانه أضاف إلى حال يملكه فصار كما لو وصى له برقبة مكاتب إذا عجزه وفى هذا عندي نظر لانه لا يملكه(15/490)
بالقبض وانما يعتق بحكم الصفة كما يعتق بقبض الخمر إذا كاتبه عليه ثم لا يملكه، وان وصى برقبته والكتابة فاسدة نظرت فان لم يعلم بفساد الكتابة ففيه قولان،
(أحدهما)
أن الوصية جائزة لانها صادفت ملكه.
(والثانى)
أنها باطلة لانه وصى وهو يعتقد أنه يملك الوصيه وان وصى بها وهو يعلم أن الكتابة فاسدة صحت الوصية قولا واحدا كما لو باع من رجل شيئا بيعا فاسدا ثم باعه من غيره وهو يعلم فساد البيع الاول، ومن أصحابنا من قال: القولان في الجميع ويخالف البيع فان فاسده لا يجرى مجرى الصحيح في الملك وفى الكتابة الفاسدة كالصحيح في العتق والصحيح هو الطريقة الاولى.
(فصل)
وان وصى بحج فرض من رأس المال حج عنه من الميقات لان الحج من الميقات.
وما قبله تسبب إليه فان وصى به من الثلث، فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه يحج عنه من بلده، فان عجز الثلث عنه تمم من رأس المال لانه يجب عليه الحج من بلده.
(والثانى)
وهو قول أكثر أصحابنا أنه من الميقات لان الحج يجب بالشرع من الميقات فحملت الوصيه عليه، وان أوصى أن يجعل جميع الثلث في حج الفرض حج عنه من بلده، وان عجز الثلث عن ذلك حج عنه من حيث أمكن من طريقه، وان عجز عن الحج من الميقات تمم من رأس المال ما يحج به من الميقات لان الحج من الميقات مستحق من رأس المال وانما جعله من الثلث توفيرا على الورثة فإذا لم يف الثلث بالجميع بقى فيما لم يف من رأس المال.
(فصل)
وان أوصى بحج التطوع، وقلنا انه تدخله النيابة نظرت، فان
قال أحجوا بمائه من ثلثى حج عنه من حيث أمكن، وان لم يوجد من يحج بهذا القدر بطلت الوصيه وعاد المال إلى الورثة لانها تعذرت فبطلت كما لو أوصى لرجل بمال فرده، وان قال: أحجوا عنى بثلثي صرف الثلث فيما أمكن من عدد الحجج فان اتسع المال لحجة أو حجتين وفضل ما لا يكفى لحجة أخرى من بلده حج من حيث أمكن من دون بلده إلى الميقات، فان عجز الفضل عن حجة من الميقات رد الفضل إلى الورثة، وان أمكن أن يعتمر به لم يفعل لان الموصى له هو الحج(15/491)
دون العمرة، فإن قال أحجوا عنى حج عنه بأجرة المثل من حيث أمكن من بلده إلى الميقات، فإن عجز الثلث عن حجة من الميقات بطلت الوصية لما ذكرناه.
(فصل)
وإن وصى أن يحج عنه رجل بمائة ويدفع ما يبقى من الثلث إلى آخر وأوصى بالثلث لثالث فقد وصى بثلثي ماله، فان كان الثلث مائة سقطت وصيته للموصى له بالباقي لان وصيته فيما يبقى بعد المائة ولم يبق شئ، فان أجاز الورثة دفع إلى الموصى له بالثلث ثلثه وهو مائه وإلى الموصى له بالمائة مائه وان لم يجيزوا قسم الثلث بين الموصى له بالثلث وبين الموصى له بالمائة نصفين لانهما اتفقا في قدر ما يستحقان وهو المائه، فان كان الثلث أكثر من مائه وأجاز الورثة دفع الثلث إلى الموصى له بالثلث ودفع مائه إلى الموصى له بالمائة ودفع ما بقى إلى الموصى له بالباقي، وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث ردت الوصية إلى نصفها وهو الثلث، فيدفع إلى الموصى له بالثلث نصف الثلث، وفى النصف الآخر وجهان:
(أحدهما)
يقدم فيه الموصى له بالمائة ولا يدفع إلى الموصى له بالباقي شئ حتى يأخذ الموصى له بالمائة حقه لانه وإن ككان قد اعتد به مع الموصى له بالمائة
في إحراز الثلث إلا أن حقه فيما يبقى بعد المائة فلا يأخذ شيئا قبل أن يستوفى الموصى له بالمائة حقه كما اعتد بالاخ من الاب مع الاخ من الاب والام على الجد في إحراز ثلثى المال ثم لا يأخذ شيئا مع الاخ من الاب والام، فان كان النصف مائه أو أقل أخذه الموصى له بالمائة، وان كان أكثر أخذ الموصى له بالمائة مائه وأخذ الموصى له بالباقي ما يبقى.
(والوجه الثاني) أن الموصى له بالمائة والموصى له بالباقي يقسمان النصف على قدر وصبتهما من الثلث، فان كان الثلث مائتين اقتسما المائة نصفين لكل واحد منهما خمسون وإن كان مائه وخمسين اقتسما الخمسة والسبعين اثلاثا، الموصى له بالمائة خمسون، وللموصى له بالباقي خمسة وعشرون، وعلى هذا القياس، لانه إنما أوصى له بالمائة من كل الثلث لا من بعضه فلم يجز أن يأخذ(15/492)
من نصف الثلث ما كان يأخذ من جميعه، كأصحاب المواريث إذا زاحمهم من له فرض أو وصية.
(فصل)
وإن بدأ فوصى بثلث ماله لرجل ثم وصى لمن يحج عنه بمائة ووصى لآخر بما يبقى من الثلث فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أن الوصية بالباقي بعد المائة باطلة لان الوصية بالثلث تمنع من أن يبقى شئ من الثلث فعلى هذا إن أجاز الورثة نفذت الوصيتان، وإن لم يجيز واردت الوصية إلى الثلث، فإن كان الثلث مائه استوت وصيتهما فيقتسمان الثلث بينهما نصفين، وإن كان الثلث خمسمائة قسم الثلث بينهما على ستة أسهم للموصى له بالثلث خمسة أسهم وللموصى له بالمائة سهم، فإن كان الثلث ألفا قسم على أحد عشر سهما للموصى له بالثلث عشرة أسهم وللموصى له بالمائة سهم.
والوجه الثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إن الحكم في هذه المسألة
كالحكم في المسألة قبلها لانه إذا أوصى بالمائة بعد الثلث علم أنه لم يرد ذلك الثلث لان الوصيه الاولى قد استوعبته وإنما أراد ثلثا ثانيا، فإذا أوصى بعد المائه بما يبقى من الثلث دل على أنه أراد ما يبقى من الثلث الثاني، فصار موصيا بثلثي ماله كالمسألة قبلها.
(فصل)
وان وصى لرجل بعبد ولآخر بما بقى من الثلث قوم العبد مع التركة بعد موت الموصى، فان خرج من الثلث دفع إلى الموصى له فان بقى من الثلث شئ دفع إلى الآخر وان لم يبق شئ بطلت الوصيه بالباقي لان وصيته فيما في، وإن أصاب العبد عيب بعد موت الموصى قوم سليما ودفع إلى الموصى له الباقي لانه وصى له بالباقي من قيمته وهو سليم.
وإن مات العبد بعد موت الموصى بطلت الوصيه فيه وقوم وقت الموت مع التركة ودفع إلى الموصى له الباقي من الثلث لانهما وصيتان فلا تبطل إحداهما ببطلان الاخرى، كما لو وصى لرجلين فرد أحدهما.
(فصل)
فان وصى له بمنفعة عبد ملك الموصى له منافعه واكتسابه، فان كان(15/493)
جارية ملك مهرها لانه بدل منفعتها، ولا يجوز للمالك وطؤها لانه تملك الرقبه من غير منفعه ولا الموصى له وطؤها لانه تملك المنفعة من غير الرقبه والوطئ لا يجوز إلا في ملك تام ويجوز تزويجها لاكتساب المهر وفيمن يملك العقد ثلاثة أوجه (أحدها) يملكه الموصى له بالمنفعه لان المهر له
(والثانى)
يملكه المالك لانه يملك رقبتها (والثالث) لا يصح العقد إلا باتفاقهما لان لكل واحد منهما حقا فلا ينفرد به أحدهما دون الاخر، فان أتت بولد مملوك ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه للموصى له لانه من جملة فوائدها فصار كالكسب
(والثانى)
أنه كالام رقبته للمالك ومنفعته للموصى له لانه جزء من
الام فكان حكمه حكم الام، فان قتل ففى قيمته وجهان
(أحدهما)
أنها للمالك لانها بدله فكانت له
(والثانى)
وهو الصحيح أنه يشترى به مثله للمالك رقبته وللموصى له منفعته لانه قائم مقام الاصل فكان حكمه حكم الاصل، فان جنى على طرفه ففى أرشه وجهان
(أحدهما)
أنه للمالك لانه يدل ملكه
(والثانى)
وهو الصحيح أن ما قابل منه ما نقص من قيمة الرقبه للمالك وما قابل منه ما نقص من المنفعة للموصى له لانه دخل النقص عليهما فقسط الارش عليهما، فان احتاج العبد إلى نفقة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أن النفقه على الموصى له بالمنفعه لان الكسب له.
(والثانى)
أنها على المالك، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لان النفقة على الرقبه فكانت على مالكها (والثالث) أنها في كسبه فان لم يف الكسب ففى بيت المال لانه لا يمكن ايجابها على المالك لانه لا يملك الانتفاع ولا على الموصى له لانه لا يملك الرقبه فلم يبق الا ما قلناه، فان احتاج البستان الموصى بثمرته إلى سقى أو الدار الموصى بمنفعتها إلى عمارة لم يجب على واحد منهما، لانه لو انفرد كل واحد منهما بملك الجميع لم يجبر على الانفاق فإذا اشتركا لم يجب
(فصل)
فان أراد المالك بيع الرقبه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يجوز لانه يملكها ملكا تاما
(والثانى)
أنه لا يجوز لانها عين مسلوبة المنفعة فلم يجر(15/494)
بيعها كالاعيان التى لا منفعه فيها (والثالث) يجوز بيعها من الموصى له لانه يمكنه الانتفاع بها ولا يجوز من غيره لانه لا يمكنه الانتفاع بها فان أراد أن يعتقه جاز لانه يملكه ملكا تاما وللموصى له أن يستوفى المنفعة بعد العتق لانه تصرف في
الرقبه فلم يبطل به حق الموصى له من المنفعة ولا يرجع العبد على المالك بأجرته كما يرجع العبد المستأجر على مولاه بعد العتق في أحد القولين لان هناك ملك المولى بدل منفعته ولم يملك المولى ههنا بدل المنفعة (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال أعطوه كلبا من كلابي أعطاه الوارث أيها شاء وهذا كما قال، فإن الوصية بالكلب المنتفع به جائزة، لانه لما جاز إقراره في يد صاحبه، وحرم انتزاعه من يد صاحبه جاز أن يكون وصيه وميراثا فإذا أوصى له بكلب ولا كلاب له فالوصية باطلة، لانه لا يصح أن يشترى ولا يلزم أن يستوهب، وإن كان له كلاب فضربان: منتفع به وغير منتفع، فان كانت كلابه كلها غير منتفع بها فالوصية باطله لحظر اقتنائه وتحريم إمساكه، وإن كانت كلها منتفعا بها فكان له كلب حرث وكلب ماشية وكلب صيد نظرت، فان كان الموصى له صاحب حرث وماشية وصيد فالوارث بالخيار في إعطائه أي كلب شاء من حرث أو ماشية أو صيد.
وإن كان الموصى له ليس بصاحب حرث ولا ماشية ولا صيد ففى الوصية وجهان.
أحدهما الوصية باطلة اعتبارا بالموصى له وأنه غير منتفع به، وإن كان الموصى له ممن ينتفع بأخذها بأن كان صاحب حرث لا غير أو صاحب صيد لا غير فالوصية جائزة، وفيها وجهان.
أحدهما: يلزم الوارث أن يعطيه الكلب الذى يختص بالانتفاع به دون غيره اعتبارا بالموصى له.
والثانى أن للوارث الخيار في إعطائه أي الكلاب شاء اعتبارا بالموصى به.
فأما الوصية بالجرو الصغير المعد للتعليم ففى جوازها وجهان من اختلاف الوجهين في اقتنائه.
أحدهما: أن اقتناءه غير جائز والوصية به باطله لانه غير منتفع به في الحال.
والثانى أن اقتناءه جائز والوصية به جائزة لانه سينتفع به في ثانى حال، ولان تعليمه منفعة في الحال.(15/495)
ولو كان لرجل ثلاثة كلاب ولم يترك شيئا سواها فأوصى بجميعها لرجل، فإن أجازها الورثة له وإلا ردت الوصيه إلى الثلث، ثم في كيفية رجوعها إلى الثلث وجهان.
أحدهما أن تستحق من كل كلب ثلثه فيحصل له ثلث الثلاثة، ولا يستحق واحدا بكماله إلا عن مراضاته، والوجه الثاني: أنه قد استحق بالوصية أحدها بخلاف الاموال، لان الاموال مقومه تختلف اثمانها، وليس كالكلاب التى لا تقوم، فاستوى فيه حكم جميعها، فعلى هذا فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزى أنه يأخذ أحدها بالقرعة.
الثاني أن للورثة أن يعطوه أيها شاءوا فأما إن كان له كلب واحد ولا مال له غيره فأوصى به لرجل فهو كمن أوصى بجميع ماله، فإن أجازه الورثة وإلا كان للموصى له ثلثه وللورثه ثلثاه، ويكون بينهما على المهايأة.
وإن ملك مالا فأوصى بهذا الكلب الذى ليس له كلب سواه ففى الوصية وجهان.
أحدهما وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن الوصيه جائزة في الكلب كله للموصى به له، لان قليل المال خير من الكلب الذى ليس بمال.
والوجه الثاني - وهو قول ابى سعيد الاصطخرى - ان للموصى له ثلث الكلب إذا منع الورثة من جميعه.
وإن كثر مال التركة لانه ممالا يمكن أن يشترى فيساويه الورثة فيما صار إليهم من المال، فاختص الكلب بحكمه وصار كأنه جميع التركة، فلو ترك ثلاثة كلاب ومالا، وأوصى بجميع كلابه الثلاثة، فعلى قول أبى على بن أبى هريرة: الوصيه بجميع الكلاب الثلاثه ممضاة وإن قل مال التركة وعلى قول أبى سعيد الاصطخرى تصح الوصيه في أحدها إذا امنع الورثة من جميعها (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال أعطوه طبلا من طبولي وله طبلان للحرب واللهو أعطاه أيهما شاء، فإن لم يصلح الذى للهو الا للطرب لم
يكن لهم أن يعطوا إلا الذى للحرب وأصل هذه المسائل أن الوصيه بما لا منفعة فيه باطله والوصيه بما فيه منفعة مباحه ومنفعة محظورة ومنفعة مشتركة بين الحظر والاباحه ن فإن كانت المنفعة مباحه جاز بيع ذلك والوصيه به، وان كانت المنفعة محظورة لم يجز بيعه ولا الوصيه به وان كانت مشتركة جاز بيعه والوصيه به لاجل الاباحه ونهى عن استعماله في الحظر(15/496)
فإذا ثبت هذا: وأوصى له بطبل من طبوله، فان لم يكن له إلا طبول الحرب فالوصية به جائزة، لان طبل الحرب مباح، ثم ينظر، فإن كان اسم الطبل يطلق عليه بغير جلد دفع إليه الطبل بغير جلد، وإن كان لا يطلق عليه الاسم الا بالجلد دفع إليه مع جلده، وإن كانت طبوله كلها طبول اللهو فإن كانت لا تصلح إلا للهو فالوصية باطله لان طبول اللهو محظورة، وإن كانت تصلح لغير اللهو في غير المنافع المباحة جازت الوصية بها.
وإن كانت طبوله نوعين طبول حرب وطبول لهو فإن كانت طبول اللهو لا تصلح لغير اللهو لم يعط إلا طبل الحرب، وان كانت طبول اللهو تصلح لغيره من المباحات كان الوارث بالخيار في اعطائه ما شاء من طبل لهو أو حرب لانطلاق الاسم عليه، إلا أن يدل كلامه على أحدهما فيحمل عليه، كقوله: أعطوه طبلا للجهاد أو الارهاب فلا يعطى إلا طبل الحرب، وإن قال: طبلا للفرح والسرور لم يعط إلا طبل اللهو.
فأما الوصية بالدف العربي فجائزة لورود الشرع باباحة الضرب به في المناكح (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: عودا من عيداني، وله عبدان يعزف بها وعيدان قسى وعصى وغيرها، فالعود إذا وجه به المتكلم للعود الذى يضرب به دون ما سواه مما يقع عليه اسم عود، فان كان العود يصلح لغير الضرب جازت الوصية ولم يكن عليه إلا اقل ما يقع عليه اسم عود وأصغره بلا
وتر، وان كان لا يصلح لغير الضرب بطلت عندي الوصية.
ومعنى كلام الشافعي أنه إذا قال: اعطوه عودا من عيداني فمطلق هذا الاسم يتناول عيدان الضرب والعزف واللهو دون عيدان القسى والعصى، فان كان عود الضرب لا يصلح لغير الضرب واللهو فالوصيه باطله، وان كان يصلح لغير اللهو فالوصية جائزة، ويعطاه بغير وتر لانطلاق الاسم عليه، وان لم يكن عليه وتر ينظر فان كان لا يصلح لغير اللهو الا بعد تفصيله وتخليعه فصل وخلع ثم دفع إليه، وان كان يصلح لغير اللهو لم يفصل ودفع إليه غير مفصل.
(مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه (وكذلك المزمار) يعنى أنه ان كان(15/497)
لا يصلح الا للهو فالوصية باطله، وان كان يصلح لغير اللهو فالوصية به جائزة، ثم الكلام في التفصيل على ما مضى.
فأما الشبابه التى ينفخ فيها مع طبل الحرب وفى الاسفار، فالوصية بها جائزة.
وقال الشافعي رضى الله عنه: ولو قال: أعطوه قوسا من قسى وله قسى معمولة، وقسى غير معمولة أو ليس منها شئ فقال: اعطوه عودا من القسى كان عليهم أن يعطوه قوسا معمولة أي قوس شاءوا - صغيرة أو كبيرة.
عربية أو أي عمل شاءوا - إذا وقع عليه اسم قوس ترمى بالنبل أو النشاب أو الحسبان ومعنى هذا الكلام أنه إذا أوصى بقوس من القسى فمطلق القوس يتناول قوس السهام والحربة دون قوس النداف والجلاهق الذى هي منها البندق، فلا يعطى الا قوس السهام الحربية سواء أعطاه قوس نشاب وهى الفارسية، أو قوس نبل وهى العربية أو قوس حسبان، والخيار فيها إلى الوارث لاشتراك الاسم في جميعها، ولا يلزم أن يدفع الوتر معه، لانه يسمى قوسا بغير وتر، وهكذا لو أوصى له بدابة لم يعط سرجها.
فأما أن قال: أعطوه قوسا من قسى وله قوس نداف وقوس جلاهق أعطى قوس الجلاهق التى يرمى عنها لانها أخص بالاسم، فان لم يكن له الا قوس نداف دفع إليه، ولو اقترن بكلامه ما يدل على مراده عمل على ما دل عليه كلامه من القسى الثلاث.
أما بقية الفصول فقد مضى الكلام على بعضها، ومنها ما هو على وجهه من كلام المصنف، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(15/498)
قال المصنف رحمه الله تعالى
باب الرجوع في الوصية يجوز الرجوع في الوصية لانها عطية لم تزل الملك فجاز الرجوع فيها كالهبة قبل القبض، ويجوز الرجوع بالقول والتصرف لانه فسخ عقدا قبل تمامه فجاز بالقول والتصرف كفسخ البيع في مدة الخيار، وفسخ الهبة قبل القبض، وإن قال هو حرام عليه فهو رجوع لانه لا يجوز أن يكون وصية له وهو محرم عليه، فان قال: لوارثي فهو رجوع لانه لا يجوز أن يكون للوارث وللموصى له، وإن قال هو تركتي ففيه وجهان.
أحدهما: أنه رجوع لان التركة للورثة، والثانى: أنه ليس برجوع لان الوصية من جملة التركة.
(فصل)
وإن وصى لرجل بعبد ثم وصى به لاخر لم يكن ذلك رجوعا لامكان أن يكون نسى الاول أو قصد الجمع بينهما، فان قال ما وصيت به لفلان فقد وصيت به لاخر فهو رجوع، ومن أصحابنا من قال: ليس برجوع كالمسألة قبلها والمذهب الاول لانه صرح بالرجوع.
(فصل)
وإن باعه أو وهبه وأقبض أو أعتقه أو كاتبه أو أوصى أن يباع أو يوهب ويقبض أو يعتق أو يكاتب قهو رجوع، لانه صرفه عن الموصى له، وإن عرضه للبيع أو رهنه في دين أو وهبه ولم يقبضه فهو رجوع، لان تعريضه
لزوال الملك صرف عن الموصى له.
ومن أصحابنا من قال: إنه ليس برجوع لانه لم يزل الملك، وليس بشئ، وإن وصى بثلث ماله ثم باع ماله لم يكن ذلك رجوعا لان الوصية بثلث المال عند الموت لا بثلث ما باعه، فإن وصى بعبد ثم دبره - فإن قلنا: ان التدبير عتق بصفة - كان ذلك رجوعا، لانه عرضه لزوال الملك، وإن قلنا: إنه وصية وقلنا في أحد القولين: إن العتق يقدم على سائر الوصايا - كان ذلك رجوعا لانه أقوى من الوصية فأبطلها، وان قلنا: إن العتق كسائر الوصايا ففيه وجهان(15/499)
(أحدهما)
أنه ليس برجوع، فيكون نصفه مدبرا ونصفه موصى به، كما لو أوصى به لرجل ثم وصى به لآخر
(والثانى)
أنه رجوع، لان التدبير أقوى، لانه يتنجز من غير قبول، والوصية لا تتم إلا بالقبول، فقدم التدبير كما يقدم ما تنجز في حياته من التبرعات على الوصية.
(فصل)
وان وصى له بعبد ثم زوجه أو أجره أو علمه صنعة أو ختنه لم يكن ذلك رجوعا، لان هذه التصرفات لا تنافى الوصية، فإن كانت جاريه فوطئها لم يكن ذلك رجوعا لانه استيفاء منفعة فلم يكن رجوعا كالاستخدام.
وقال أبو بكر بن الحداد المصرى: ان عزل عنها لم يكن رجوعا، وان لم يعزل عنها كان رجوعا لانه قصد التسرى بها.
(فصل)
وان وصى بطعام معين فخلطه بغيره كان ذلك رجوعا لانه جعله على صفة لا يمكن تسليمه، فإن وصى بقفيز من صبرة ثم خلط الصبرة بمثلها لم يكن ذلك رجوعا، لان الوصية مختلطة بمثلها، والذى خلطه به مثله، فلم يكن رجوعا، فإن خلطه بأجود منه كان رجوعا، لانه أحدث فيه بالخلط زيادة لم يرض بتمليكها، فان خلطه بما دونه ففيه وجهان.
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: انه ليس برجوع، لانه نقص أحدثه فيه فلم يكن رجوعا كما لو أتلف بعضه.
(والثانى)
أنه رجوع لانه يتغير بما دونه كما يتغير بما هو أجود منه، فان نقله إلى بلد أبعد من بلد الموصى له ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه رجوع لانه لو لم يرد الرجوع لما أبعده عنه
(والثانى)
أنه ليس برجوع لانه باق على صفته.
(فصل)
فان وصى بحنطة فقلاها أو بذرها كان ذلك رجوعا، لانه جعله كالمستهلك، وان وصى بحنطة فطحنها أو بدقيق فعجنه، أو بعجين فخبزه، كان ذلك رجوعا، لانه أزال عنه الاسم، ولانه جعله للاستهلاك، وان وصى له بخبز فجعله فتيتا ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه رجوع لانه أزال عنه اطلاق اسم الخبز، فأشبه إذا ثرده.
(والثانى)
ليس برجوع، لان الاسم باق عليه، لانه يقال خبز مدقوق،(15/500)
وان وصى برطب فجعله تمرا ففيه وجهان.
أحدهما: أنه رجوع لانه أزال عنه اسم الرطب.
والثانى: ليس برجوع لانه أبقى له وأحفظ على الموصى له.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وللرجل إذا أوصى بوصية تطوع بها أن ينقضها كلها أو يبدل منها ما شاء التدبير أو غيره ما لم يمت، وإن كان في وصيته إقرار بدين أو غيره أو أعتق بثاث فذلك شئ واجب عليه أوجبه على نفسه في حياته لا بعد موته، فليس له أن يرجع من ذلك في شئ.
ثم قال في باب ما يكون رجوعا في الوصية وتغييرا لها وما لا يكون رجوعا ولا تغييرا: وإذا أوصى رجل بعبد بعينه لرجل ثم أوصى بذلك العبد بعينه لرجل فالعبد بينهما نصفان، ولو قال: العبد الذى أوصيت به لفلان لفلان، أو قد أوصيت بالذى أوصيت به لفلان لفلان كان هذا ردا للوصية الاولى، وكانت وصيته
للآخر منهما، ولو أوصى لرجل بعبد ثم أوصى أن يباع ذلك العبد كان هذا دليلا على إبطال وصيته به للاول، ولو أوصى لرجل بعبد ثم باعه أو كاتبه أو دبره أو وهبه كان هذا كله ابطالا للوصية فيه.
ثم قال: ولو أوصى به لرجل ثم أذن له في التجارة أو بعثه تاجرا إلى بلد أو أجره أو علمه كتابا أو قرآنا أو علما أو صناعة أو كساه أو وهب له مالا أو زوجه لم يكن شئ من هذا رجوعا في الوصية، ولو كان الموصى به طعاما فباعه أو وهبه أو أكله أو كان حنطة فطحنها أو دقيقا فعجنه أو خبزه، أو حنطة فجعلها سويقا كان هذا كله كنقض الوصية، ولو أوصى له بما في هذا البيت من الحنطة ثم خلطها بحنطة غيرها كان هذا ابطالا للوصية، ولو أوصى له بما في البيت بمكيلة حنطة ثم خلطها بحنطة مثلها لم يكن هذا ابطالا للوصية وكانت له المكيلة التى أوصى بها له.
اه قلت: ما أورد الشافعي في هذا الكلام صور لما يمكن أن يكون رجوعا بالصرف وابطالا، أو تصرفا لا يعد رجوعا ولا يؤثر في صحتها، وبيان هذا أنه إذا أوصى لرجل بمعين من ماله ثم وصى به لاخر أو وصى بثله له ثم وصى لآخر بثلثه أو وصى بجميع ماله لرجل ثم وصى به لاخر فهو بينهما، ولا يكون ذلك رجوعا(15/501)
في الوصية الاولى، وبهذا قال ربيعة ومالك والشورى والشافعي وإسحاق وأحمد ابن حنبل وابن المنذر وأصحاب الرأى.
وقال جابر بن زيد والحسن وعطاء وطاوس وداود بن على وصيته للآخر منهما، لانه وصى للثاني بما وصى به للاول فكان رجوعا، كما لو قال: ما وصيت به لبشر فهو لبكر، ولان الثانية تنافى الاولى، فإذا أتى بها كان رجوعا، كما لو قال: هذا لورثتي ولنا أنه وصى لهما فاستويا فيها، كما لو قال لهما: وصيت لكما بسيارتى، وما
قاسوا عليه صرح فيه بالرجوع عن وصيته.
وفى مسألتنا يحتمل أنه قصد التشريك فلم تبطل وصية أحدهما بالشك.
وإن قال: ما أوصيت به لبشر فهو لبكر كان ذلك رجوعا في الوصية لبشر.
وهذا قول الشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى، وهو أيضا مذهب الحسن وعطاء وطاوس ولا نعلم فيه مخالفا، لانه صرح بالرجوع عن الاول بذكره أن ما أوصى به مردود إلى الثاني، فأشبه ما لو قال رجعت عن وصيتى لبشر وأوصيت بها لبكر بخلاف ما إذا أوصى بشئ واحد لرجلين أحدهما بعد الاخر، فانه يحتمل أنه قصد التشريك بينهما، وقد ثبتت وصية الاول يقينا فلا تزول بالشك وإن قال ما أوصيت به لفلان فنصفه أو ثلثه كان رجوعا في القدر الذى وصى به للثاني خاصة وباقيه للاول.
وأجمع أهل العلم على أن للوصي أن يرجع في جميع ما أوصى به وفى بعضه الا الوصية بالاعتاق،، وبعضهم على جواز الرجوع في الوصية به أيضا.
وروى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يغير الرجل ما شاء من وصيته، وبه قال عطاء وجابر بن زيد والزهرى وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقال الشعبى وابن سيرين وشبرمة والنخعي: يغير منها ما شاء الا العتق، لانه اعتاق بعد الموت فلم يملك تغيير تغييره كالتدبير.
ولنا أنها وصيه فملك الرجوع عنها كغير العتق، ولانها عطيه تنجز بالموت فجاز له الرجوع عنها قبل تنجيزها، كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل قبضه، وفارق التدبير فانه تعليق على شرط فلم يملك تغييره كتعليقه على صفه الحياة(15/502)
ويحصل الرجوع بقوله: رجعت في وصيتى أو أبطلتها أو غيرتها أو ما أوصيت به لفلان فهو لفلان أو فهو لورثتي أو في ميراثي، وإن أكله أو أطعمه أو أتلفه
أو وهبه أو تصدق به أو باعه، أو كان ثوبا غير مفصل ففصله ولبسه، أو جارية فأحبلها أو ما أشبه ذلك فهو رجوع ولا يعد من الرجوع جماع الجارية بخلاف ما لو أحبلها.
قال ابن المنذر: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أنه إذا أوصى لرجل بطعام فأكله أو بشئ فأتلفه أو تصدق به أو وهبه أو بجارية فأحبلها أو أولدها أنه يكون رجوعا.
وحكى عن أصحاب الرأى أن بيعه ليس برجوع لانه أخذ بدله بخلاف الهبة، ولانه أزال ملكه عنه فكان رجوعا كما لو وهبه، وإن عرضه على البيع أو وصى ببيعه أو أوجب الهبة فلم يقبلها الموهوب له أو كاتبه أو وصى بإعتاقه أو دبره كان رجوعا، لانه يدل على اختياره للرجوع بعرضه على البيع وإيجابه للهبة ووصيته ببيعه أو إعتاقه لكونه وصى بما ينافى الوصية الاولى، والكتابة، بيع والتدبير أقوى من الوصية لانه ينجز بالموت فيسبق أخذ الموصى له وإن رهنه كان رجوعا لانه علق به حقا يجوز بيعه فكان أعظم من عرضه على البيع، وفيه وجه آخر أنه ليس برجوع، وهو وجه لاصحاب أحمد لانه لا يزيل الملك فأشبه إجارته، وكذلك الحكم في الكتابة.
(فرع)
وإن وصى بجب ثم طحنه أو بدقيق فعجبنه أو بعجين فخبزه أو بخبز ففته كان رجوعا، لانه أزال اسمه وعرضه للاستعمال، فدل على رجوعه، وبهذا قال أحمد وأصحابه.
أما تفتيته ودقه فقد قال أصحاب أحمد: يعد رجوعا ولا صحابنا فيه وجهان حكاهما المصنف.
وإن وصى بشئ معين ثم خلطه بغيره على وجه لا يتميز منه كان رجوعا لانه يتعذر بذلك تسليمه.
وإن وصى بقفيز قمح من صبرة ثم خلطها بغيرها نظرت فإن كان بخير منها كان ذلك رجوعا لانه أحدث فيه زيادة ليست من الوصيه.
أما إذا خلطه بما دونه ففيه وجهان
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
ان ذلك ليس رجوعا قياسا على ما إذا تلف بعضه فصار الباقي على وصته.(15/503)
(والثانى)
انه رجوع، وقد ذهب احمد واصحابه إلى ان الخلط بما هو خير منه أو بما دونه أو بمثله لا يعد رجوعا لانه كان مشاعا وبقى مشاعا وعندهم وجه ضعيف فيما خلط بخير منه انه يكون رجوعا، لانه لا يمكنه تسليم الموصى به إلا بتسليم خير منه، ولا يجب على الوارث تسليم خير منه فصار متعذر التسليم بخلاف ما إذا خلطه بمثله أو دونه، والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وصى بقطن فغزله أو بغزل فنسجه كان ذلك رجوعا، لانه أزال عنه الاسم، وان أوصى له بقطن فحشى به فراشا ففيه وجهان
(أحدهما)
انه رجوع لانه جعله للاستهلاك
(والثانى)
ليس برجوع لان الاسم باق عليه.
(فصل)
وان أوصى له بثوب فقطعه أو بشاة فذبحها، كان رجوعا، لانه ازال عنه الاسم، ولانه جعله للاستهلاك، وان وصى له بحلم فطبخه أو شواه كان ذلك رجوعا، لانه جعله للاكل، وان قدده ففيه وجهان كما قلنا في الرطب إذا جعله تمرا.
(فصل)
وان وصى له بثوب فقطعه قميصا أو بساج فجعله بابا ففيه وجهان
(أحدهما)
انه رجوع، لانه ازال عنه اطلاق اسم الثوب والساج.
ولانه جعله للاستعمال.
(والثانى)
انه ليس برجوع، لان اسم الثوب والساج باق عليه
(فصل)
وان وصى بدار فهدمها كان رجوعا لانه تصرف ازال به الاسم فكان رجوعا، كما لو وصى بحنطة فطحنها، وان تهدمت نظرت لان لم يزل عنها
اسم الدار فالوصية باقية فيما بقى.
وأما ما انفصل عنها فالمنصوص انه خارج من الوصية لانه انفصل عن الموصى به في حياة الموصى.
وحكى القاضى أبو القاسم ابن كج رحمه الله وجهان آخر: انه للموصى له لانه تناولته الوصيه فلم يخرج منها بالانفصال، وإن زال عنها اسم الدار ففى الباقي من العرصة وجهان (احدهما) انه تبطل فيه الوصية لانه ازال عنها اسم الدار
(والثانى)
لا تبطل لانه لم يوجد من جهته ما يدل على الرجوع.(15/504)
(فصل)
وان وصى له بأرض فزرعها لم يكن ذلك رجوعا، لانه لا يراد للبقاء، وقد يحصل قبل الموت فلم يكن رجوعا، وإن غرسها أو بنى فيها ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه رجوع لانه جعلها لمنفعة مؤبدة، فدل على الرجوع،
(والثانى)
ليس برجوع لانه استيفاء منفعة فهو كالزراعة، فعلى هذا في موضع الاساس وقرار الغراس وجهان.
(أحدهما)
أنه لا تبطل فيه الوصية كالبياض الذى بينهما فإذا مات الغراس أو زال البناء عاد إلى الموصى له.
(والثانى)
أنه تبطل الوصية فيه لانه جعله تابعا لما عليه.
(فصل)
وإن أوصى له بسكنى دار سنة فأجرها دون السنة لم يكن ذلك رجوعا، لانه قد تنقضي الاجارة قبل الموت، فان مات قبل انقضاء الاجارة ففيه وجهان
(أحدهما)
يسكن مدة الوصية بعد انقضاء الاجارة
(والثانى)
انه تبطل الوصية بقدر ما بقى من مدة الاجارة وتبقى في مدة الباقي.
(الشرح) إذا وصى بكتان أو قطن فغزله أو وصى بغزل فنسجه أو بثوب فقطعه أو بسبيكة فصاغها أو شاة فذبحها كان ذلك رجوعا، وبهذا قال اصحاب الراى والشافعي في ظاهر المذهب وهو الراجع من أحمد، واختار أبو الخطاب
من الحنابله انه ليس برجوع، وهو قول ابى ثور لانه لا يزيل الاسم.
دلينا: انه عرضة للاستعمال فصار رجوعا كالمسائل قبله، ولا يصح قوله انه لا يزيل الاسم، فان الثوب لا يسمى غزلا، والغزل لا يسمى كتابا.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو اوصى له بدار وقبل كانت له وما ثبت فيها من ابوابها وغيرها دون ما فيها.
قلت لان الوصيه إذا كانت بالدار دخل فيها كل ما كان من الدار ولها ولم يدخل في الوصيه كل ما كان في الدار إذا لم يكن منها، فالداخل في الوصيه حيطانها وسقوفها وابوابها المنصوبة عليها، وما كان متصلا بها من زخرفها ودرجها، ولم يخل فيها ما انفصل عنها من ابوابها ورفوفها وسلاليمها المنفصلة عنها.
وجملة ذلك ان كل ما جعلناه داخلا في البيع معها دخل في الوصيه بها، وكل(15/505)
ما لم نجعله داخلا في البيع لم يدخل في الوصية، فلو كان الموصى به أرضا دخل في الوصيه نخلها وشجرها، ولم يدخل فيه زرعها، ولو كان نخلها عند الوصية مثمرا لم يدخل ثمرها في الوصية إن كان مؤبرا، وفى دخوله فيها إن كان غير مؤبر وجهان
(أحدهما)
يدخل كالبيع
(والثانى)
لا يدخل لخروجه عن الاسم، وان كان متصلا، وهذان الوجهان مخرجان من اختلاف قوليه في دخوله في الرهن.
إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضى الله عنه: ولو انهدمت في حياة الموصى كانت له إلا ما انهدم منها فصار غير ثابت فيها، وصورتها في رجل أوصى لرجل بدار فانهدمت فلا يخلو انهدامها من ثلاثة أحوال.
(أحدهما)
أن تنهدم في حياة الموصى.
(والثانى)
بعد موته وبعد قبول الموصى له.
(والثالث) بعد موته وقبل قبول الموصى، فان انهدمت في حياة الموصى،
فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يزول اسم الدار عنها بالانهدام.
والثانى: أن لا يزول، فان لم يزل اسم الدار عنها لبقاء بنيان فيها تسمى دارا، فالوصية جائزة وله ما كان ثابتا فيها من بنيانها، فأما المنفصل عنها بالهدم فالذي نص عليه الشافعي ان يكون خارجا من الوصية، فذهب الجمهور من أصحابنا إلى حمل ذلك على ظاهره، وأنه خارج من الوصية، لان ما انفصل عنه لا يسمى دارا، فلم يكن للموصى له بالدار فيها حق.
وحكى أبو القاسم بن كج وجها آخر عن بعض أصحابنا أن نص الشافعي على خروج ما نهدم من الوصية محمول على انه هدمه بنفسه فصار بذلك رجوعا فيه، ولو انهدمت بسبب من السماء لا ينسب لفعل الموصى كان للموصى له باقى الدار لانه منهما وانما بان عنها بعد أن تناولته الوصية، وان كانت الدار بعد انهدامها لا تسمى دارا لانها صارت عرصة لا بناء فيها ففى بطلان الوصية وجهان.
(أحدهما)
لا تبطل وهذا قول من جعل الالة بعد انفصالها ملكا للموصى له (والوجه الثاني) أن الوصية بها باطلة وهو الاصح، لانها إذا كانت عرصة لم تسم دارا، ألا ترى لو حلف لا يدخلها لم يحنث بدخول عرصتها بعد ذهاب(15/506)
بنائها، وهذا قول من جعل ما انفصل عنها غير داخل في الوصية، فأما إن كان انهدامها بعد موت الموصى وبعد قبول الموصى له فالوصية بهما ممضاة، وجميع ما انفصل عنها من البناء كالمتصل يكون ملكا للموصى له لاستقرار ملكه عليها بالقبول.
فاما إن كان انهدامها بعد موت الموصى وقبل قبول الموصى له، فان لم يزل اسم الدار عنها فالوصية بحالها، فإذا قبلها الموصى له، فان قيل: ان القبول يبنى عن تقدم الملك بموت الموصى وكل ذلك ملك للموصى له المنفصل منه والمتصل
فان قيل: إن القبول هو المملك فله الدار وما اتصل بها من البناء.
وفى المنفصل وجهان (احدهما) للموصى له
(والثانى)
للورثة، وإن لم تسم الدار بعد انهدامها دارا.
(فان قلنا) إن القبول يبنى عن تقدم الملك، فالوصية جائزة وجهان واحدا وله العرصة وجميع ما فيها من منفصل أو متصل، إذا كان عند الموت متصلا، وان قيل: إن القبول هو المملك مع بطلان الوصية بانهدامها على مضى من الوجهين
(أحدهما)
باطلة
(والثانى)
جائزة وله ما اتصل بها.
وفى المنفصل وجهان: وما بقى من كلام المصنف فعلى وجهه وليس فيه أقاويل تذكر، والله تعالى أعلم بالصواب.(15/507)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الأوصياء
لا تجوز الوصية الا إلى بالغ عاقل حر عدل، فأما الصبى والمجنون والعبد والفاسق فلا تجوز الوصيه إليهم، لانه لاحظ للميت ولا للطفل في نظر هؤلاء ولهذا لم تثبت لهم الولاية، واما الكافر فلا تجوز الوصية إليه في حق المسلم، لقوله عز وجل (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم) ولانه غير مأمون على المسلم، ولهذا قال الله تعالى (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمه) وفى جواز الوصية إليه في حق الكافر وجهان (احدهما) انه يجوز لانه يجوز أن يكون وليا له فجاز ان يكون وصيا له كالمسلم
(والثانى)
لا يجوز كما لا تقبل شهادته للكافر والمسلم.
(فصل)
وتجوز الوصية إلى المرأة لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وصى إلى ابنته حفصة في صدقته ما عاشت، فإذا ماتت فهو إلى ذوى الرأى من أهلها،
ولانها من أهل الشهادة فجازت الوصية إليها كالرجل.
واختلف أصحابنا في الاعمى فمنهم من قال: تجوز الوصية إليه لانه الشهادة فجازت الوصية إليه كالبصير، ومنهم من قال: لا تجوز الوصية لانه تفتقر الوصية إلى عقود لا تصح من الاعمى، وفضل نظر لا يدرك الا بالعين.
(الشرح) تصح الوصيه إلى الرجل العاقل المسلم الحر العدل اجماعا، ولا تصح إلى مجنون ولا طفل ولا وصية مسلم إلى كافر بغير خلاف نعلمه، لان المجنون والطفل ليسا من أهل التصرف في أموالهما، فلا يليان على غيرهما، والكافر ليس من أهل الولاية عن مسلم، لقوله تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر) .
قال ابن أبى حاتم حدثنا أبى حدثنا أبو أيوب محمد بن الوزان حدثنا عيسى ابن يونس عن أبى حيان التيمى عن أبى النباع عن ابن أبى الدهقانة قال: قيل(15/508)
لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخدت إذن بطانة من دون المؤمنين.
فعلى هذا الاثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التى فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التى يخشى أن يفشوها إلى الاعداد من أهل الحرب، ولهذا قال تعالى (لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم) وما هنا مصدرية فيكون المصدر الصريح المفعول لودوا (عنتكم) .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق بن إسرائيل حدثنا هشيم حدثنا العوام عن الازهر بن راشد قال: كانوا أنسا فإذا حدثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن البصري فيفسره لهم قال: فحدث ذات يوم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تستضئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا) فأتوا
الحسن ففسر لهم الاستضاءة: لا تستشيروا المشركين في شئونكم تصديق ذلك في كتاب الله وتلا الاية، ويقول الشافعي رضي الله عنه في الأم في باب الاوصياء ولا تجوز الوصيه الا إلى بالغ مسلم عدل.
وروى ابن اسحاق وغيره عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فانزال الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الاية، وأخرج عبد بن حميد انها نزلت في المنافقين من أهل المدينة، هي المؤمنون ان يتولوهم ومن ثم فلا تصح وصيه مسلم إليه لانه لا يلى على مسلم، ولانه ليس من أهل الشهادة ولا العدالة فلم تصح الوصيه إليه كالمجنون والفاسق، وأما وصيه الكافر إليه، فان لم يكن عدلا في دينه لم تصح الوصيه إليه، لان عدم العدالة في المسلم يمنع صحة الوصية إليه فمع الكفر أولى، وان كان عدلا في دينه ففيه وجهان.
أحدهما: تصح الوصيه إليه، وهو قول أصحاب الرأى لانه يلى بالنسب فيلى الوصية كالمسلم.
والثانى: لا تصح، وهو قول أبى ثور لانه فاسق فلم تصح الوصية إليه كفاسق المسلمين.
ولاصحاب أحمد وجهان كهذين، وأما وصية الكافر إلى المسلم الا أن تكون تركته خمرا أو خنزيزا.(15/509)
أما الوصية إلى المرأة فإنها تصح في قول أكثر أهل العلم، وروى ذلك عن شريح.
وبه قال مالك الثوري والاوزاعي والحسن بن صالح واسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأى وأحمد بن حنبل، ولم يجزه عطاء، لانها لا تكون قاضية فلا تكون وصية.
دليلنا أن عمر رضى الله عنه اوصى إلى حفصة، ولانها من أهل الشهادة فاشبهت الرجل، وتخالف القضاء، فان المعتبر له الكمال في الخلقة والاجتهاد
بخلاف الوصية، وتصح الوصية للاعمى في أحد الوجهين لانه من أهل الشهادة وهو قول أحمد وأصحابه، ولم يسلم القائلون بالجواز لمخالفيهم حكمهم، لانه يمكنه التوكيل فيما يحتاج إلى نظر، ثم انه من أهل الشهادة والولاية في النكاح، والولاية على أولاده الصغار، فصحت الوصية إليه كالبصير.
وعلى الوجه الاخر عند أصحابنا انه لا تصح الوصية إليه بناء على انه لا يصح بيعه ولا شراؤه فلا يوجد فيه معنى الولاية، وقد مضى في البيوع وفى السلم وفى غيرهما مزيد بيان.
أما الصبى العاقل فلا تصح الوصيه إليه لانه ليس من أهل الشهادة والاقرار، ولا يصح تصرفه الا بإذن، فلم يكن من أهل الولاية بطريق الاولى، ولانه مولى عليه، فلا يكون واليا كالطفل والمجنون وهو الصحيح من مذهب الحنابلة وليس عندهم نص عن أحمد فيه، وانما رجح أكثرهم مذهبنا في الصبى الا القاضى فقد قال: قياس المذهب صحة الوصية إليه، لان احمد قد نص على صحة وكالته وأما الفاسق فان الوصيه إليه لا تصح في قول مالك والشافعي واحمد.
وفى رواية عن احمد صحة الوصية إليه في رواية ابن منصور عنه وعند الخرقى من الحنابلة إذا كان خائنا ضم إليه أمين وقال ابن قدامه: وهذا يدل على صحة الوصية إليه ويضم الحاكم إليه امينا.
وقال أبو حنيفة تصح الوصية إليه وينفذ تصرفه وعلى الحاكم عزله لانه بالغ عاقل فصحت الوصيه إليه كالعدل، وبهذا يكون على قول أصحاب الحمد عدم جواز إفراده بالوصية.
وعند ابى حنيفة لا يجوز إقراره على الوصيه.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ(15/510)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلف أصحابنا في الوقت الذى تعتبر فيه الشروط التى تصح بها
الوصية إليه، فمنهم من قال يعتبر ذلك عند الوفاة، فإن وصى إلى صبى فبلغ أو كافر فاسلم أو فاسق فصار عدلا قبل الوفاة صحت الوصية، لان التصرف بعد الموت فاعتبرت الشروط عنده كما تعتبر عدالة الشهود عند الاداء أو الحكم دون التحمل، ومنهم من قال: تعبتر عند العقد وعند الموت، ولا تعتبر فيما بينهما، لان حال العقد حال الايجاب، وحال الموت حال التصرف فاعتبر فيهما.
ومنهم من قال: تعتبر في حال الوصية وفيما بعدها، لان كل وقت من ذلك يجوز ان يستحق فيه التصرف بان يموت، فاعتبرت الشروط في الجميع.
(فصل)
وإن وصى إلى رجل فتغير حاله بعد موت الموصى - فإن كان لضعف - ضم إليه معين امين، وإن تغير بفسق أو جنون بطلت الوصيه إليه ويقيم الحاكم من يقوم مقامه.
(فصل)
ويجوز ان يوصى إلى نفسين.
لما روى أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلت النظر في وقفها إلى على كرم الله وجهه، فإن حدث به حدث رفعه إلى ابنيها فيليانها، ويجوز ان يجعل اليهما والى كل واحد منهما لانه تصرف مستفاد بالاذن، فكان على حسب الاذن، فإن جعل إلى كل واحد منهما جاز لكل واحد منهما ان ينفرد بالتصرف، فان ضعف احدهما أو فسق أو مات جاز للآخر ان ينصرف ولا يقام مقام الاخر غيره لان الموصى رضى بنضر كل واحد منهما وحده، فان وصى اليهما لم يجز لاحدهما ان ينفرد بالتصرف لانه لم يرض بأحدهما، فان ضعف احدهما ضم إليه من يعينه، فان فسق أحدهما أو مات أقام الحاكم من يقوم مقامه لان الموصى لم يرض بنظره وحده، فان اراد الحاكم ان يفوض الجميع إلى الثاني لم يجز لانه لم يرضى الموصى باجتهاده وحده فان ماتا أو فسقا فهل للحاكم ان يفوض إلى واحد.
فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، لانه سقط حكم الوصية بموتهما وفسقهما فكان الامر
فيه إلى الحاكم
(والثانى)
لا يجوز لانه لم يرضى بنظر واحد، وان اختلف(15/511)
الوصيان في حفظ المال جعل بينهما نصفين، فإذا بلغا إلى التصرف - فان كان التصرف إلى كل واحد منهما - تصرف كل واحد منهما في الجميع، وان كان اليهما لم يجز لاحدهما ان ينفرد بالتصرف دون الاخر.
(فصل)
ومن وصى إليه في شئ لم يصر وصيا في غيره ومن وصى إليه إلى مدة لم يصر وصيا بعد المدة لانه تصرف بالاذن فكان على حسب الاذن.
(الشرح) الشروط التى اسلفنا تقريرها هل تعتبر في الوصي حال العقد أو حال الموت أو حال العقد والموت؟ على اختلاف بين اصحابنا، والى اعتبارها حال العقد ذهب أحمد وأصحابه في أحد الوجهين عندهم، لانها شروط لعقد فتعتبر حال وجوده كسائر العقود فلا ينفع وجودها بعده، وعلى الوجه الثاني لو كانت الشروط كلها منتفية أو بعضها حال العقد ثم وجدت حالة الموت لصحت الوصية إليه، وهو الوجه الثاني عند أصحاب أحمد.
والوجه الثالث: ان تعتبر حال صدور العقد عند الوفاة، ولا تعتبر حالة فيما بينهما من الزمن كما سيأتي.
(فرع)
الوصية ولاية وامانة والفاسق ليس من اهلهما، فعلى هذا إذا كان الوصي فاسقا فحكمه حكم من لا وصى له عند أصحاب أحمد، وينظر الحاكم في ماله، وعند أحمد أن الوصية باطلة ابتداء كالذى طرا عليه فسقه بعد الوصية تزول ولايته ويقيم الحاكم مقامه امينا، وهذا هو قول الثوري والشافعي واسحاق واحمد ابن حنبل.
وعلى قول بعض الحنابلة كالخرقي تصح الوصية ويضم إليه امين ينظر معه، وروى ذلك عن الحسن وابن سيرين لانه امكن حفظ المال بالامين، تعين ازالة يد الفاسق الخائن وقطع تصرفه، لان حفظ المال على اليتيم اولى من رعاية قول الموصى الفاسد.
واما العدل الذى يعجز عن النظر لعلة أو ضعف طرا، فان الحاكم يضم إليه امينا، ولا تزول يده عن المال ولا نظره ويكون الاول هو الوصي دون الثاني، وهذا معاون له، لان ولاية الحاكم انما تكون عند عدم الوصي، وهذا قول الشافعي وابى يوسف واحمد بن حنبل ولا اعلم لهم مخالفا.(15/512)
اما إذا تغير حال الوصي بجنون أو كفر أو سفه أو فسق زالت ولايته وصار كانه لم يوص إليه، ويرجع الامر إلى الحاكم فيقيم امينا ناظرا الميت في امره وامر اولاده من بعده كما لو لم يخلف وصيا اما إذا تغيرت حالته بعد الوصية وقبل الموت ثم عاد فكان عند الموت جامعا لشروط الوصية صحت الوصية إليه.
لان الشروط موجودة حال العقد والموت فصحت الوصية كما لو لم تتغير حاله.
هذا وجه ووجه آخر تبطل لان كل حالة منها حالة للقبول والرد فاعتبرت الشروط فيها.
فاما ان زالت بعد الموت وانعزل ثم عاد فكمل الشروط لم تعد وصيته لانها زالت فلا تعود الا بعقد جديد.
إذا ثبت هذا فانه يجوز للرجل الوصية إلى اثنين.
فمتى اوصى اليهما مطلقا لم يجز لواحد منهما الانفراد بالتصرف، فان مات احدهما أو جن أو وجد منه ما يوجب عزله اقام الحاكم مقامه امينا، لان الموصى لم يرض بنظر هذا الباقي منهما وحده، فان اراد الحاكم رد الباقي منهما فوجهان: احدهما: لا يجوز.
والثانى: يجوز.
لان النظر لو كان له لموت الموصى عن غير وصية كان له رده إلى واحد كذلك ههنا، فيكون ناظرا بالوصية من الموصى والامانة من جهة الحاكم.
ولنا ان الموصى لم يرض بتصرف هذا وحده فوجب ضم غيره إليه، لان الوصية مقدمة على نظر الحاكم واجتهاده.
فان كانت الوصية بالاذن لكل واحد منهما ان يتصرف منفردا، فإذا مات
احدهما أو جن أو ارتد أو فسق جاز للاخر ان يتصرف ولا يقام مقام الاخر غيره لان تصرف الباقي منهما على حسب الاذن مستفاد منه، ولانه رضى بنظر كل واحد منهما وحده، فلا سبيل إلى اقامه بديل لمن بطل عقده.
وان تغيرت حالهما جميعا بموت أو غيره فهل للحاكم ان ينصب مكانهما واحدا؟ فيه وجهان احدهما له ذلك، لانه لما عدم الوصيان صار الامر إلى الحاكم بمنزلة ما لم يوص، ولو لم يوص لاكتفى بواحد، كذا ههنا، ويفارق ما إذا كان احدهما حيا لان الموصى بين انه لا يرضى بهذا وحده بخلاف ما إذا ماتا معا(15/513)
والثانى: لا يجوز ان ينصب الا اثنين لان الموصى لم يرض بواحد فلم يقتنع به كما لو كان احدهما حيا فاما ان جعل لكل واحد منهما التصرف منفردا فمات احدهما أو خرج من الوصية لم يكن للحاكم ان يقيم مقامه امينا لان الباقي منهما له النظر بالوصية فلا حاجة إلى غيره، وان ماتا معا أو خرجا عن الوصية فللحاكم ان يقيم واحدا يتصرف، وان تغيرت حال احد الوصيين تغييرا لا يزيله عن الوصية كالعجز عنها لضعف أو علة ونحو ذلك، وكان لكل واحد منهما التصرف منفردا، فليس للحاكم ان يضم اليهما امينا، لان الباقي منهما يكفى، الا ان يكون الباقي منهما يعجز عن التصرف وحده لكثرة العمل ونحوه، فله ان يقيم امينا، وان كانا ممن ليس لاحدهما التصرف على الانفراد فعلى الحاكم ان يقيم مقام من ضعف منهما عنها امينا يتصرف معه على كل حال فيصيرون ثلاثة: الوصيان والامين معهما.
وليس لواحد منهم التصرف وحده (فرع)
قوله: ومن وصى إليه في شئ لم يصر وصيا في غيره الخ.
وهذا
صحيح لانه يجوز ان يوصى إلى رجل بشئ دون شئ، مثل ان يوصى إلى انسان بتفريق وصيته دون غيرها أو بقبض معاشه أو بقضاء ديونه، أو بالنظر في امر أطفاله فحسب، فلا يكون له غير ما جعل إليه ويجوز ان يوصى إلى انسان بقبض معاشه لصغره، وبآخر للانفاق عليهم من هذا المعاش، والى آخر بقضاء ديونه، والى آخر بالانفاق على أطفاله، فلا يكون لكل واحد منهم الا ما جعل له دون غيره، ومتى اوصى إليه بشئ لم يصر وصيا في غيره.
وبهذا قال الشافعي واحمد بن حنبل وقال أبو حنيفة: يصير وصيا في كل ما يملكه الوصي، لان هذه ولاية تنقل من الاب بموته، فلا تتبعض كولاية الجد ولنا انه استفاد التصرف بالاذن من جهة انسان، فكان مقصورا على ما اذن فيه كالوكيل.
وولاية الجد ممنوعة ثم ولاية الجد استفادها بقرابته وهى لاتتبعض والاذن يتبعض فافترقا.
وكذلك إذا اوصى له إلى زمن معين موصوف، كان إذا بلغ الصبى أو قدم(15/514)
المسافر، أو معين كقوله إلى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة بعد الاف، وهو العام الذى نخط فيه هذا الشرح، فانه لا يجوز ان يتجاوزه لان الاذن موقت بالعام المذكور.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وللوصي ان يوكل فيما لم تجربه العادة ان يتولاه بنفسه كما قلنا في الوكيل، ولايجوز ان يوصى إلى غيره، لانه يتصرف بالاذن فلم يملك الوصية كالوكيل، فان قال اوصيت اليك: فان مت فقد اوصيت إلى فلان صح، لان عمر رضى الله عنه وصى إلى حفصة، فإذا ماتت فالى ذوى الراى من اهلها،
ووصت فاطمة رضى الله عنها إلى على كرم الله وجهه، فإذا مات فالى ابنيها، ولانه علق وصية التالى على شرط، فصار كما لو قال وصيت اليك شهرا ثم قال إلى فلان، فان اوصى إليه واذن له ان يوصى إلى من يرى فقد قال في الوصايا لا يجوز.
وقال في اختلاف العراقيين يجوز.
فمن اصحابنا من قال يجوز قولا واحدا لانه ملك الوصية والتصرف في المال، فإذا جاز ان ينقل التصرف في المال إلى الوصي جاز ان ينقل الوصية إليه، وما قال في الوصايا اراد إذا اطلق الوصية ومنهم من قال فيه قولان (احدهما) يجوز لما ذكرناه
(والثانى)
لا يجوز لانه يعقد الوصية عن الموصى في حال لا ولاية له فيه.
وان وصى إليه واذن له ان يوصى بعد موته إلى رجل بعينه ففيه وجهان (احدها) يجوز لانه قطع اجتهاده فيه بالتعيين
(والثانى)
انه كالمسالة الاولى لان علة المسالتين واحدة
(فصل)
ولا تتم الوصية إليه االا بالقبون لانه وصية فلا تتم الا باقبول كالوصيه له.
وفى وقت القبول وجهان (احدهما) يصح القبول في الحال لانه اذن له في التصرف فصح القلو في الحال كالوكالة
(والثانى)
لا يصح الا بعد الموت كالقبول في الوصية له.
(فصل)
وللموصى ان يعزل الوصي إذا شاء، وللوصي ان يعزل(15/515)
نفسه متى شاء، لانه تصرف بالاذن فجاز لكل واحد منهم فسخه كالوكالة.
(فصل)
إذا بلغ الصبى واختلف هو والوصى في الفقه، فقال الوصي انفقت عليك، وقال الصبى لم تنفق على، فالقول قول الوصي لانه امين وتتعذر عليه إقامة البينة على النفقة، فإن اختلفا في قدر النفقة فقال: انفقت عليك في كل سنة مائة دينار.
وقال الصبى بل انفقت على خمسين دينارا، فان كان ما يدعيه
الوصي النفقة بالمعروف فالقول قوله لانه امين، وان كان اكثر من النفقة بالمعروف فعليه الضمان لانه فرط في الزيادة وان اختلفا في المدة فقال الوصي: انفقت عشر سنين، وقال الصبى خمس سنين، ففيه وجهان (أَحَدُهُمَا) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ القول قول الوصي، كما لو اختلفا في قد النفقة
(والثانى)
وهو قول اكثر اصحابنا ان القول قول الصبى، لانه اختلاف في مدة، الاصل عدمها
(فصل)
وان اختلفا في دفع المال إليه فادعى الوصي انه دفعه إليه وانكر الصبى، ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المنصوص ان القول قول الصبى لانه لم ياتمنه على حفظ المال فلم يقبل قوله عليه، كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى وارث المودوع، والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها
(والثانى)
ان القول قول الوصي كما قلنا في النفقة.
(الشرح) الاحكام: إذا اوصى له في شئ لا يحسن القيام به بنفسه جاز له ان يوكل عنه من يتولاه، كان كان ما عهد إليه بالوصية فيه كثير الجوانب متعدد الجهات بحيث يحتاج الوصي إلى من يعينه على ادائه وكذلك لو كان العمل شاقا لا يقدر مثله على القيام به ويحتاج إلى شخص قوى يؤديه، أو كان اغلعمل يفتقر إلى مهارة أو فن خاص له دارسوه والمتخصصون فيه كالهندسة ونحوها جاز له(15/516)
توكيل غيره ممن بمثل هذه الامور، وكذلك لو كان العمل سهلا ولكن من الاعمال التى يترفع الوصي في العادة عن مثلها لدناءتها جاز له أن يوكل من يقوم بها أما الوصية إلى غيره بغيره إذن من الموصى فانه لا يصح ذلك منه قولا واحدا.
أما إذا قال: أوصيت اليك ومن بعدك إلى فلان، فان ذلك جائز ولا كلام لما روينا عن عمر أنه وصى إلى حفصة، فإذا ماتت فالى ذوى الرأى من قومها، ولذا جاز أن وصى إلى من يخلفه بالتعيين كأوصيت إلى فلان فإذا مات فالاى فلان كما أوصيت فاطمة إلى على ومن بعده إلى ولديها السبطين رضى الله عنهما، كما يجوز ان يوصى إلى من يخلفه بالوصف كقول عمر: فالى ذوى الرأى من قومها، وتجرى هذه الوصية مجرى المعلق على شرط كالوصية إلى أجل معين أو موصوف على ما مضى في الفصل قبله.
أما إذا أوصى إليه ثم أذن له أن يوصى إلى من يرى أو إلى من يشاء، أو كل من أوصيت إليه فقد أوصيت إليه أو فهو وصى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الوصايا من الام: ولو أوصى رجل إلى رجل فمات الموصى إليه وأوصى بما أوصى به إلى رجل لم يكن وصى الوصي وصيا للميت الاول، لان الميت الاول لم يرض الموصى الآخر.
ولو قال: أوصيت إلى فلان فان حدث به حدث فقد أوصيت إلى من وصى إليه لم يجز ذلك لانه انما أوصى بمال غيره.
وقال في اختلاف العراقيين في نسخة السراج البلقينى باب الوصي من اختلاف العراقيين، وهى بعد وصية الامام الشافعي رضى الله عنه التى كتبها قبل موته قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولو أن رجلا أوصى إلى رجل فمات الموصى إليه فأوصى إلى آخر، فان أبا حنيفة كان يقول: هذا الاخر وصى الرجلين جميعا وبهذا يأخذ، وكذلك بلغنا عن ابراهيم، وكان ابن أبى ليلى يقول: هذا الآخر وصى الذى أوصى إليه، ولا يكون وصيا للاول الا أن يقول الثاني: قد أوصيت اليك في كل شئ، أو يذكر وصية الاخر.
فمن أصحابنا من قال بالجواز قولا واحدا لانه ملك الوصية والتصرف في المال(15/517)
ورضى الموصى باجتهاده واجتهاد من يراه فصح كما لو وصى اليهما معا، وهذا قول أكثر أهل العلم، واليه ذهب أحمد وأصحابه.
وقالوا لانه مأذون له في الاذن في التصرف فجاز له أن يأذن لغيره كالوكيل إذا أمر بالتوكيل، وما قال الشافعي في الوصايا أراد إذا أطلق الوصية.
ومن أصحابنا من قال: فيه فولان.
أحدهما: يجوز لما أثبتناه، والثانى: لا يجوز لانه ليس له أن يوصى لانه بتوليه فلا يصح أن يولى فيما لا ولاية له فيه.
أما إذا وصى له وأذن له في أن يوصى إلى فلان بعده بعينه ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، لانه لم يترك له اعمال الوصع ولا بذل الجهد في تعيينه فقد أذن له أن يوصى إليه معينا باسمه فصح كما لو أوصى له ثم من بعده إلى فلان، والثانى: أنه كالمسأله قبلها لانه كان بوسعه أن يوصى إليه من بعده، ولكنه أذن له في الوصية فكأنه جعل الوصية من شأنه.
وجملة ذلك أنه لا يجوز للوصي أن يوصى إلى غيره، وهو قول الشافعي واسحاق وأحد قولى أحمد.
والظاهر من مذهب الخرقى من الحنابلة لقوله في ذلك في الوكيل لانه يتصرف بتوليه فلم يكن له التفويض كالوكيل.
وقال مالك وابو حنيفة والثوري وابو يوسف وأحمد في أحد قوليه له أن يوصى إلى غيره.
(فرع)
يصح قبول الوصية وردها في حياة الموصى، لانها اذن في التصرف فصح قبوله بعد العقد كالوكيل، وهى لا تتم الا بالقبول كالوصية له، والفرق بينهما أن الاولى اذن له في التصرف والثاينة تمليك في وقت فلم يصح القبول قبل الوقت، هذا وجه والوجه الاخر أنه يجوز تأخير القبول إلى ما بعد الموت لانها نوع وصية فصح قبولها بعد الموت كالوصية له، ومتى قبل صار وصيا وله عزل نفسه متى شاء مع القدرة والعجز في حياة الموصى، وبعد موته بمشهد منه وفى
غيبته، وبهذا قال الشافعي وأحمد.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز له ذلك بعد الموت بحال ولا يجوز في حياته الا بحضرته: لانه غره بالتزام وصيته ومنعه بذلك الايصاء إلى غيره، وذكر ابن ابى موسى رواية عن أحمد: ليس له عزل نفسه بعد الموت لذلك، وهذا فاسد لانه متصرف باذن فكان له عزل(15/518)
نفسه كلوكيل، فأما اختلاف الوصي والوصى فقد مضى كلامنا فيه في الحجر وفى الوكالة، وبعض صوره في الوديعة، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يلحق الميت مما يفعل عنه بعد موته بغير إذانه إلا دين يقضى عنه أو صدقة يتصدق بها عنه أو دعاء يدعى له، آفأما الدين فالدليل عليه ما روى أن إمرأة من خثعم (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحج عن أبيها فأذن لها، فقالت: أينفعه ذلك؟ قال نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه) وأما الصدقة فالدليل عليها ما روى ابن عباس (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمة توفيت أفينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال: فإن لى مخرفا فأشهدك أبى قد تصدقت به عنها) : وأما الدعاء فالدليل عليه قوله عز وجل (والذين جاؤا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) فأثنى الله عز وجل عليهم بالدعاء لاخوانهم من الموتى، واما ما سوى ذلك من القرب كقراءة القرآن وغيرها فلا يلحق الميت ثوابها.
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذا مات الانسان انقطع عنه عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو له) واختلف أصحابنا فيمن مات وعليه كفارة يمين فأعتق عنه، فمنهم من قال: لا يقع العتق عن الميت بل يكون للعتق لان
العتق غير متحتم على الميت لانه كان يجوز له تركه إلى غيره فلم يقع عنه، كما لو تطوع بالعتق عنه في غير الكفارة، ومنهم من قال: يقع عنه لانه لو أعتق في حياته سقط به الفرض، وبالله التوفيق.
(الشرح) حديث المرأة الخثعمية رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده عن ابن عباس، وأخرجه أحمد والترمذي وصححه والبيهقي من حديث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وعن عبد الله بن الزبير قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ إلَى رَسُولِ الله صلى لله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ(15/519)
لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّحْلِ وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدِهِ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دين فقضيته عنه أكان يجزى ذلك عَنْهُ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاحْجُجْ عَنْهُ) رَوَاهُ أحمد ولنسائي بمعناه ؤ وقال الحافظ ابن حجر سناده صالح.
وعن ابن عباس أيضا أن امرأة من جهينة جاءت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إنَّ أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال نعم حجى عنها.
أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته، اقضوا الله فالله أحق بالوفاء.
رواه البخاري والنسائي بمعناه.
وعند أحمد ورواية أخرى للبخاري بنحو ذلك وفيها قال: جاء رجل فقال إن أختى نذرت أن تحج، وهو يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره حيث لم يستفصله أوارث هو أم لا، وشبهه بالدين وروى الدارقطني عن ابن عباس أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إن أبى مات وعليه حجة الاسلام أفأحج عنه؟ الحديث) أما حديث ابن عباس أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال نعم قال: فإن لى مخرقا فأنا أشهدك أنى قد تصدقت به عنها) فقد رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي وقد
ورد اسم الرجل الذى سأل النبي صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري أنه سعد ابن عبادة، ويؤيد ذلك أن احمد والنسائي أخرجا حديثا عن الحسن عن سعد بن عبادة أن أمه ماتت فقال (يارسول الله إنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ نَعَمْ قلت: فأى الصدقة أفضل؟ قال سقى الماء، قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد بالمدينة) أما حديث (إذا مات ابن آدم) فقد رواه مسلم وأصحاب السنن مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
لفظ مسلم (إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له) أما قوله تعالى من سورة الحشر (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولا خواننا الذين سبقونا بالايمان) فقد روى عن سعد بن أبى وقاص قال: الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان يعنى قوله تعالى (للفقراء المهاجرين الذى أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون(15/520)
الله ورسوله أولئك الصادقون، والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إلى قوله تعالى المفلحون) ثم قال: وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كاثنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التى بقيت، ثم قرأ: والذين جاءوا من بعدهم.
الآيه أما اللغات فقوله: فإن لى مخرفا.
في رواية مخراف، والمخرف والمخراف الحديقة من النخل أو العنب أما أحاديث الفصل فإنها تدل على ان الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل اليهما ثوابها فيخصص العام من قَوْله تَعَالَى (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سعى) اخبرنا الربيع بن سليمان قال حدثنا الشافعي إملاء قال: يلحق الميت من فعل غيره وعمله ثلاث: حج يؤدى عنه، ومال
يتصدق به عنه أو يقضى، ودعاء.
فأما ما سوى ذلك من صلاة أو صيام فهو لفاعله دون الميت، وانما قلنا بهذا دون ما سواه استدلالا بالسنة في الحج خاصة قياسا.
وذلك الواجب دون التطوع ولا يحج احد عن احد تطوعا لانه عمل على البدن.
فأما المال فإن الرجل يجب عليه فيما له الحق من الزكاة وغيرها فيجزيه ان يؤدى عنه بأمره لانه إنما اريد بالفرض فيه تأديته إلى اهله لا عمل البدن، فإذا عمل امرؤ عنى ما فرض من مالى فقد ادى الفرض عنى.
واما الدعاء فإن الله عز وجل ندب العباد إليه.
وامر رسوله صلى الله عليه وسلم به فإذا جاز ان يدعى للاخ حيا جاز ان يدعى له ميتا، ولحقه ان شاء الله تعالى بركة ذلك، مع ان الله عز ذكره واسع لان يوفى الحى اجره ويدخل على الميت منفعته.
وكذلك كلما تطوع رجل عن رجل صدقة تطوع اه وقال شيخنا النووي في كتاب الاذكار في باب ما ينفع الميت من قول وغيره اجمع العلماء على ان الدعاء للاموات ينفعهم ويصلهم ثوابه: واحتجوا بقول الله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم) الآيه وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها.
وفى الاحاديث المشهورة كقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لاهل بقيع الغرقد، وكقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لحينا وميتنا وغير ذلك.
واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي(15/521)
وجماعة أنه لا يصل.
وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، والمختار أن يقول بعد القراءة: اللهم أوصل ثواب ما قرأته، والله أعلم اه وقال ابن النحوي في شرح المنهاج: لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة على المشهور.
والمختار الوصول إذا سأل الله أيصال ثواب قراءته، وينبغى الجزم به لانه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعى، فلان يجوز بما هو له أولى، ويبقى الامر فيه موقوفا على استجابة الدعاء، وهذا المعنى لا يخص بالقراء بل يجرى في سائر الاعمال، والظاهر أن الدعاء متفق عليه انه ينفع الميت والحى القريب والبعيد بوصية وغيرها.
وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل كان أفضل الدعاء ان يدعو لاخيه بظهر الغيب وقد حكى النووي في شرح مسلم الاجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا حكى أيضا الاجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصل ثوابها ولم يقيد ذلك بالولد.
وحكى الاجماع على لحوق قضاء الدين، والحق أنه يخصص عموم الاية بالصدقة من الولد كما في أحاديث الفصل وبالحج من الولد كما في حديث الخثعمية ومن غير الولد أيضا كما في حديث المحرم عن أخيه شبرمة.
وقد نشرت مطبعة الامام رسالة في هذا الموضوع مستوفاة اسمها (تفسير سورة يس) للسيد صديق حسن خان وجعلت في آخرها ما يتعلق بهذا الموضوع وهو يغنى عن التطويل هنا.
تم الجزء الخامس عشر ويليه الجزء السادس عشر وأوله كتاب العتق(15/522)
التكملة الثانية
المجموع شرح المهذب
للامام ابي زكريا محيى الدين بن شرف النووي
المتوفى سنة 676 هـ
الجزء السادس عشر
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع(16/1)
كتاب العتق
(الشارح) الرق ظاهرة اجتماعية سادت في الارض قبل الاسلام، وتوغلت في حياة المجتمعات البشرية حتى صارت لا يقوم المجتمع قائمة إلا بوجوده لان القوى العاملة في المجتمع التى تمثل عصب الانتاج وتحقيق المنجزات الاقتصادية من زراعية وعمرانية وصناعية كانت تقوم على أيدى الارقاء، وقد أدركت الدولة الرومانية أهمية هذه الفئة في حفظ كيان الدولة فحرمت على الافراد في القانون الرومانى أن يعتقوا عبيدهم، وكانت تحكم بالسجن أو التعذيب أو فرض الرق على من يضبط متلبسا بجريمة عتق عبد له، وكانت مصادر الرق متنوعة فشعوب الامم المغلوبة عسكريا تسترق للغالب من القواد والملوك الجبابرة، والجنود توزع عليهم الاسلاب ومنها رجال ونساء هذه الامم المقهورة، وكل إنسان يخطف من بلده ويفر به خاطفوه إلى أحيائهم ومضاربهم ونجوعهم يصير عبدا مسترقا لخاطفيه لهم بيعه وهبته وتوارثه ويملكون حياته وموته وليس له حرمة في تلك المجتمعات الجاهلية فارسية ورومانية وعربية وشرقية وغربية.
فلما جاء الاسلام وهو في منهجه الرصين سماوي الهداية، وفي تغييره الجذري ثورى الوسيلة، في تدرجه الرزين تربوى التعليم، وفي نظرته لهذه الفئة رحيم السلوك، راقى الاحساس، رفيع الغاية، جفف منابع الرق، ويسر مصافيه، وضيق مصادره ووسع موارده، وقصره على الحروب وحدها وجعله بين المحاربين فقط لا يتجاوزه لى الآمنين ممن لم يرفعوا سلاحا، ثم نظم العلاقة بين السيد ومولاه حتى ليتمنى الحر منا أن يكون مولى لاحد هؤلاء النبلاء من حواريى النبوة وجنود الرساله، بل إن الاسلام حين جعل المرء لا يحط عنه وزر القسم الحانث إلا بعتق رقبة، ولا قنداح عنه معرة الظهار حين يجعل إمرأته كظهر أمه إلا بعتق رقبة من قبل أن يتماسا، وجعل في تعمد الطعام في الصوم إعتاق رقبة، وجعل المؤمن الحق الذى اقتحم العقبة، هو الذى يفك الرقاب العانية، ويطعم في المسغبة المساكين الكادحة.(16/3)
بل لقد جعل اللطمة على وجه العبد فكاكا له من الرق وجعل جزاء اللطمه عتقه فمن لم يفعل مسته النار.
ثم إن الاسلام جعل من عوامل تصفيه الرق المكاتبة لقوله تَعَالَى (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ من مال الله الذى آتاكم) فجعل للعبد الحق في أن يطلب من سيده شراء نفسه مكاتبه بنجوم وأقساط يؤديها من صنعته أو عمله، وعلى سيده أن يمنحه كل أسباب اليسر وإعطاؤه بعض المال ليكون بمثابه رأس مال له في الحياة يواجه به أعباء الاستقلال عن سيده، ومن عوامل تصفيته التدبير، وهو ان يجعل رقه في حياته ثم يكون حرا بعد موته، ومن أسباب تصفيته أيضا تحريم ميراث أم الولد، وهو تحرير لها ولا ريب، لذلك نزجى اليك فصول العتق والمكاتب والمدبر شاهدة على صدق هذه القضيه التى بسطناها لك في هذه لكليمه مجزأين بها عن الشرح والتعليق لنوفر مكانا على الورق نبذله فيها لم
تتعطل أحكامه، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين،
قال المصنف رحمه الله تعالى:
العتق قربة مندوب إليه، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه، ولا يصح إلا من مطلق التصرف في المال لانه تصرف في المال كالبيع والهبه، فإن أعتق الموقوف عليه العبد الموقوف لم يصح عتقه لانه لا يملكه في أحد القولين ويملكه في الثاني الا أنه يبطل به حق البطن الثاني فلم يصح، وان أعتق المريض عبدا وعليه دين يستغرقه لم يصح لان العتق في المرض وصيه فلم يصح مع الدين، وان أعتق العبد الجاني، فعلى ما ذكرناه في العبد المرهون.
(فصل)
ويصح بالصريح والكناية وصريح العتق والحريه لانه ثبت لهما عرف الشرع وعرف اللغة والكناية كقوله: سيبتك وخليتك وحبلك على غاربك ولا سبيل لى عليك ولا سلطان لى عليك وأنت لله وأنت طالق وما أشبهها لانها تحتمل العتق فوقع بها العتق مع النية.(16/4)
وفي قوله فككت رقبتك وجهان
(أحدهما)
أنه صريح لانه ورد به القرآن قال الله سبحانه فك رقبة
(والثانى)
أنه كناية لانه يستعمل في العتق وغيره، وان قال لامته: أنت على كظهر أمي ونوى العتق ففيه وجهان.
أحدهما: تعتق لانه لفظ يوجب تحريم الزوجه فكان كناية في العتق كسائر اطلاق.
والثانى: لا تعتق لانه لا يزيل الملك فلم يكن كناية في العتق بخلاف الطلاق.
(فصل)
وان كان بين نفسين عبد فأعتق أحدهما نصيبه، فان كان موسرا قوم عليه نصيب شريكه وعتق، لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال من أعتق شركا له في عبد، فإن كان معه ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل وأعطى شركاه حصصهم وإلا فقد عتق منه ما عتق ورق منه ما رق، وان كان بين مسلم وكافر عبد مسلم فأعتق الكافر حصته وهو موسر فالمنصوص أنه يقوم عليه، فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا ان الكافر لا يملك العبد المسلم لم يقوم عليه لان التقويم يوجب التمليك.
ومنهم من قال: يقوم عليه قولا واحدا لانه تقوم متلف فاستوى فيه المسلم والكافر كتقويم المتلفات، ويخالف البيع لان القصد منه التمليك وفى ذلك صغار على الاسلام والقصد من التقويم العتق ولا صغار فيه، فان كان نصف العبد وقفا ونصفه طلقا فأعتق صاحب الطلق نصيبه لم يقوم عليه الوقف لان التقويم يقتضى التمليك والوقف لا يملك، ولان الوقف لا يعتق بالمباشرة فلان لا يعتق بالتقويم أولى.
(فصل)
وتجب قيمة النصيب عند العتق لانه وقت الاتلاف ومتى يعتق فيه ثلاثه أقوال.
أحدها: يعتق في الحال، فإن كانت جارية فولدت كان الولد حرا، لما روى أبو المليح عن ابيه أن رجلا أعتق شقصا له من غلام فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال ليس لله شريك، وفي بعضها فأجاز عتقه.
والثانى: أنه يقع بدفع القيمة، فان كان جارية فولدت كان نصف الولد حرا ونصفه مملوكا، لما روى سالم عن أبيه يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ(16/5)
العبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه، فان كان موسرا يقوم عليه ولا وكس ولا شطط ثم يعتق، ولانه عتق بعوض فلا يتقدم على العوض، كعتق المكاتب، والثالث إنه مراعى فإن دفع العوض حكمنا بأنه عتق في الحال وإن لم يدفع حكمنا
بأنه لم يعتق لانا إذا أعتقناه في الحال أضررنا بالشريك في إتلاف ماله قبل أن يسلم له العوض، وإن لم نعتقه أضررنا بالعبد في إبقاء أحكام الرق عليه، فإذا قلنا إنه مراعى لم يكن على كل واحد منهما ضرر، فان دفع القيمة كان حكمه حكم القول الاول، وإن لم يدفع كان حكمه حكم القول الثاني، فان بذل المعتق القيمة أجبرنا الشريك على قبضها، وإن طلب الشريك أجبرنا المعتق على دفعها، فان أمسك الشريك عن الطلب والمعتق عن الدفع وقلنا إن العتق يقف على الدفع فللعبد أن يطالب المعتق بالدفع والشريك بالقبض ليصل إلى حقه، فان أمسك أعتق فللحاكم أن يطالب بالدفع والقبض لما في العتق من حق الله تعالى، فان أعتق الشريك نصيبه قبل أخذ القيمة ففيه وجهان
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ انه يعتق لانه صادف ملكه
(والثانى)
وهو المذهب انه لا يعتق لان العتق مستحق من جهة المعتق والولاء مستحق له فلا يجوز إبطاله عليه.
(فصل)
وإن كان بين اثنين جارية فأحبلها أحدهما ثبت حرمة الاستيلاد في نصيبه وفي نصيب الشريك الاقوال التى ذكرناها في العتق، لان الاستيلاد كالعتق في إيجاب الحرية فكان كالاعتاق في التقويم والسرايه
(فصل)
وان اختلف المعتق والشريك في قيمة العبد والبينة متعذرة، فان قلنا انه يسرى في الحال فالقول قول المعتق لانه غارم لما استهلكه فكان القول قوله، كما لو اختلفا في قيمة ما أتلفه بالجناية.
وإن قلنا لا يعتق إلا بدفع القيمة فالقول قول الشريك لان نصيبه باق على ملكه فلا ينزع منه إلا بما يقر به كالمشترى في الشفعة.
وان ادعى الشريك انه كان يحسن صنعة تزيد بها القيمة فأنكر المعتق فَفِيهِ طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ(16/6)
هو كالاختلاف في القيمه، وفيه قولان ومنهم من قال القول قول المعتق قولا واحدا لان الظاهر معه والشريك يدعى صنعة الاصل عدمها، وان ادعى المعتق عيبا في العبد ينقص به القيمه وأنكر الشريك ففيه طريقان أيضا، من أصحابنا من قال هو كالاختلاف في القيمه فيكون على قولين.
ومنهم من قال القول قول الشريك قولا واحدا، لان الظاهر معه، والمعتق يدعى عيبا الاصل عدمه.
(فصل)
وان كان المعتق معسرا عتق نصيبه وبقى نصيب الشريك على الرق والدليل عليه حديث ابن عمر رضى الله عنه: وإلا فقد عتق منه ما عتق ورق منه ما رق: ولان تنفيذ العتق لدفع الضرر عن العبد، فلو أعتقنا نصيب الشريك لاضررنا به لانا نتلف ماله ولا يحصل له عوض، والضرر لا يزال بالضرر، ولهذا لو حضر الشفيع وهو معسر لم يأخذ بالشفعه لانه يزيل الضرر بالضرر.
وإن كان موسرا بقيمة البعض عتق منه بقدره، لان ما وجب بالاستهلاك إذا عجز عن بعضه وجب ما قدر عليه كبدل المتلف، وإن كان معه قيمة الحصة وعليه دين يستغرق ما معه، ففيه قولان، بناء على القولين في الدين هل يمنع وجوب الزكاة، فان قلنا لا يمنع وجب عليه العتق، وان قلنا يمنع لم يجب العتق.
(فصل)
وان ملك عبدا فأعتق بعضه سرى إلى الباقي لانه موسر بالقدر الذى يسرى إليه فسرى إليه، كما لو أعتق شركا له في عبد وهو موسر
(فصل)
وإن أوصى بعتق شرك له في عبد فأعتق عنه لم يقوم عليه نصيب شريكه، وان احتمله الثلث، لانه بالموت زال ملكه فلا ينفذ إلا فيما استثناه بالوصية، وان وصى بعتق نصيبه وبأن يعتق عنه نصيب شريكه والثلث يحتمله قوم عليه وأعتق عنه الجميع، لانه في الوصية بالثلث كالحى، فإذا قوم على الحى قوم على الميت بالوصية.(16/7)
(فصل)
وإن كان عبد بين ثلاثة لاحدهم النصف وللآخر الثلث وللثالث السدس فأعتق صاحب الثلث والسدس نصيبهما في وقت واحد وكانا موسرين قوم نصيب الشريك عليهما بالسوية، لان التقويم استحق بالسراية فقسط على عدد الرؤوس كما لو اشترك اثنان في جراحة رجل فجرحه أحدهما جراحة والآخر جراحات.
(فصل)
وان كان له عبدان فأعتق أحدهما بعينه ثم أشكل أمر بأن يتذكر فإن قال: أعتقت هذا قبل قوله لانه أعرف بما قال فان اتهمه الاخر حلف لجواز أن يكون كاذبا، فإن نكل حلف الاخر وعتق العبدان أحدهما باقراره والاخر بالنكول واليمين، وان قال هذا بل هذا عتقا جميعا لانه صار راجعا عن الاول مقرا بالثاني، فإن مات قبل أن يبين رجع إلى قول الوارث، لان له طريقا إلى معرفته، فإن قال الوارث لا أعلم فالمنصوص أنه يقرع بينهما لانه ليس أحدهما بأولى من الاخر فرجع إلى القرعة، ومن أصحابنا من خرج فيه قولا آخر أنه يوقف إلى أن ينكشف لان القرعة تفضى إلى أن يرق من أعتقه ويعتق من أرق فوجب أن يوقف إلى أن يتبين والاول هو الصحيح، لان البيان قد فات والوقوف يضر بالوارث في رقيقه وبالحر في حق نفسه.
(فصل)
وان أعتق عبدا من أعبد أخذ بتعيينه وله أن يعين من شاء، فان قال: هو سالم بل غانم عتق سالم ولم يعتق غانم لانه تخير لتعيين عتق فإذا عينه في واحد سقط خياره في الثاني، ويخالف القسم قبله لان ذلك أخبار لا خيار له فيه
فلم يسقط حكم خبره.
فان مات قبل أن يعين ففيه وجهان.
أحدهما: لا يقوم الوارث مقامه في التعيين كما لا يقوم مقامه في تعيين الطلاق في احدى المرأتين فعلى هذا يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق، والثانى: يقوم مقامه وهو الصحيح لانه خيار ثابت يتعلق بالمال فقام الوارث فيه مقامه كخيار الشفعه والرد بالعيب.
(فصل)
ومن ملك أحد الوالدين وان علوا أو أحد المولودين وان سفلوا(16/8)
عتقوا عليه لقوله تعالى (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هذا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا ان كل من في السموات والارض الا آتى الرحمن عبدا) فنفى الولادة مع العبودية فدل على انهما لا يجتمعان، ولان الولد بعض منه فيصير كما لو ملك بعضه، وإن ملك بعضه، فان كان بسبب من جهته كالبيع والهبه وهو موسر قوم عليه الباقي لانه عتق بسبب من جهته فصار كما لو أعتق بعض عبد، وان كان بغير سبب من جهته كالارث لم يقوم عليه لانه عتق من غير سبب من جهته، ومن ملك من سوى الوالدين والمولودين من الاقارب ولم يعتق عليه لانه لا بعضيه بينهما فكانوا كالاجانب، وان وجد من يعتق عليه مملوكا فالمستحب أن يشتريه ليعتق عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فيشتريه فيعتقه) ولا يجب عليه ذلك لانه استجلاب مال لقربة لم يتقدم وجوبها فلم يجب كشراء المال للزكاة، وإن وصى للمولى عليه بأبيه، فان كان لا تلزمه نفقته وجب على الولى قبوله لانه يعتق عليه فيحصل له جمال عاجل وثواب آجل من غير اضرار وان كان تلزمه نفقته لم يجب قبوله لانه يعتق عليه ويطالب بنفقته، وفي ذلك اضرار فلم يجز، وإن وصى له ببعضه، فان كان معسرا لزمه قبوله لانه لا ضرر عليه من جهة التقويم ولا من جهة النفقة، وإن كان موسرا والاب ممن تلزمه نفقته لم يجب قبوله لانه تلزمه نفقته وفي ذلك إضرار، وإن كان لا تلزمه نفقته ففيه قولان.
(أحدهما)
لا يجوز قبوله لان ملكه يقتضى التقويم، في ذلك اضرار.
(والثانى)
يلزم قبوله ولا يقوم عليه لانه يعتق عليه بغير اختياره فلم يقوم عليه كما لو ملكه بالارث.
باب القرعة
والقرعة أن تقطع رقاع متساوية ويكتب في كل رقعة ما يراد اخراجه وتجعل في بنادق من طين متساوية الوزن والصفة وتجفف وتغطى بشئ ثم يقال لرجل لم يحضر الكنابة والبندقة أخرج بندقه ويعمل بما فيها فان كان القصد عتق الثلث(16/9)
جزئوا ثلاثة أجزاء، وإن كان القصد عتق الربع جزئوا أربعة أجزاء، وإن كان القصد عتق النصف جزئوا جزأين وتعدل السهام، فإن كان القصد عتق الثلث فإن كان عددهم وقيمتهم متساوية، فإن كانوا ستة أعبد قيمة كل واحد منهم مائة جعل كل اثنين جزءا، ثم الحاكم بالخيار بين أن يكتب في الرقاع الاسماء ويخرج الاسماء على الحريه والرق، وبين أن يكتب الرق والحريه ويخرج على الاسماء، فإن اختار كتب الاسماء كتب كل اسمين في رقعة، فان شاء أخرج القرعة على الحرية، فإذا خرجت القرعة باسم اثنين عتقا ورق الباقون، وإن شاء أخرج على الرق، فإذا خرجت رق من فيها ثم يخرج قرعة أخرى على الرق، فإذا خرجت رق من فيها ويعتق الباقيان، والاخراج على الحريه أولى لانه أقرب إلى فصل الحكم، فان اتفق العدد واختلفت القيم وأمكن تعديل العدد بالقيمه بأن يكونوا ستة قيمة اثنين أربعمائه وقيمة اثنين ستمائة وقيمة اثنين مائتان جعل
اللذان قيمتهما أربعمائه جزءا وضم أحد العبدين المقومين بستمائة إلى أحد العبدين المقومين بمائتين ويجعل العبدان الاخران جزءا ويخرج القرعه على ما ذكرناه من الوجهين.
وإن اختلفت قيمتهم ولم يتفق عددهم بأن كانوا ثمانيه قيمة واحد مائه وقيمة ثلاثه مائه وقيمة أربعه مائه عدلوا بالقيمه، فيجعل العبد جزءا والثلاثه جزءا والاربعه جزءا، فان خرجت قرعة العتق على العبد عتق ورق السبعه.
وان خرجت على الثلاثه عتقوا ورق الخمسه.
وان خرجت على الاربعة عتقوا ورق الاربعة لانه لا يمكن تعديلهم بغير القيمه فعدلوا بالقيمه، وعلى هذا لو كانوا اثنين قيمة أحدهما مائه وقيمة الاخر مائتان جعلا جزأين وأقرع بينهما، فان خرجت قرعة العتق على المقوم بمائة عتق جميعه ورق الاخر، وان خرجت على المقوم بمائتين عتق نصفه ورق نصفه وجميع الاخر، فان اتفق العدد وأختلفت القيم فان عدل بالعدد اختلفت القيم، وان عدل بالقيمه اختلف العدد بأن كانوا ستة قيمة واحد مائه وقيمة اثنين مائه وقيمة ثلاثه مائه فالمنصوص أنهم يعدلون بالقيمه فيجعل العبد جزءا والعبدان جزءا والثلاثه جزءا وتخرج القرعه على ما ذكرناه من الوجهين.(16/10)
ومن أصحابنا من قال يعدلون بالعدد فيجعل اللذان قيمتهما مائة جزءا ويضم أحد الثلاثة إلى المقوم بمائه فيجعلان جزءا وقيمتها مائة وثلث ويجعل الاخران جزءا وقيمتها ثلثمائة وأقرع بينهم فان خرجت القرعة على المقومين بالمائة وقد استكملا الثلث ورق الباقون، وان خرجت على العبدين المقوم أحدهما بمائه والاخر بثلث المائه عتقا ورق الاربعة الباقون ويقرع بين العبدين اللذين خرجت القرعة عليهما لانهما أكثر من الثلث فلم ينفذ العتق فيهما، فان أقرع فخرجت
القرعة على المقوم بمائة عتق ورق الاخر، وإن خرجت على المقوم بثلث المائة عتق وعتق من الاخر الثلثان لاستكمال الثلث ورق الباقي والصحيح هو المنصوص عليه لان فيما قال هذا القائل يحتاج إلى إعادة القرعة وتبعيض الرق والحريه في شخص واحد، فان اختلف العدد والقيم ولم يمكن التعديل بالعدد ولا بالقيمة بأن كانوا خمسه وقيمة أحدهم مائة وقيمة الثاني مائتان وقيمة الثالث ثلثمائة وقيمة الرابع أربعمائه وقيمة الخامس خمسمائه ففيه قولان.
(أحدهما)
أنه يكتب أسماؤهم في رقاع بعددهم ثم يخرج على العتق، فإن خرج المقوم بخمسمائه وهو الثلث عتق ورق الاربعة.
وإن خرج المقوم بأربعمائه عتق وقد بقى من الثلث مائه فيخرج اسم آخر، فان خرج اسم المقوم بثلثمائه عتق منه ثلثه ورق باقيه والثلاثه الباقون، وعلى هذا القياس يعمل في كل ما يخرج.
والقول الثاني انهم يجزأون ثلاثة أجزاء على القيمه دون العدد فيجعل المقوم بخمسمائه جزءا، ويجعل المقوم بثلثمائه والمقوم بالمائتين جزءا، ويجعل المقوم بأربعمائه والمقوم بمائه جزءا ثم يخرج القرعه ويعتق من فيها وهو الثلث ويرق الباقون لان النبي صلى الله عليه وسلم جزأهم ثلاثة أجزاء.
(فصل)
قال الشافعي: وان أعتق ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم فمات واحد ثم مات السيد أقرع بين الحيين والميت، فان خرج سهم الحريه على الميت رق الاثنان وحكم من خرج عليه سهم الحريه حكم الاحرار منذ خوطب بالعتق إلى أن مات وكان له ما اكتسب واستفاد بارث وغيره.
وان خرج سهم الحريه على أحد الحيين لم يعتق منه الا ثلثاء لان الميت قبل موت سيده مات عبدا فلم يكن له حكم ما خلف السيد، وان مات المعتق ولم يقرع بينهم حتى مات اثنان أقرع بين(16/11)
الحى والميتين فان خرج بينهم العتق على الحى عتق كله وأعطى كل ما استفاد من
يوم خوطب بالعتق ورق الميتان
(فصل)
إذا أعتق في مرضه ستة أعبد لا مال له غيرهم فأعتق اثنان بالقرعه ثم ظهر مال يحتمل أن يعتق آخران جعل الاربعة جزأين وأقرع بينهم وأعتق منهم اثنان
(فصل)
وان أعتق في مرضه أعبدا له ومات وعليه دين يستغرق التركة لم ينفذ العتق، لان العتق في المرض وصيه فلا ينفذ الا في ثلث ما يفضل بعد قضاء الدين.
وان استغرق نصفها جعل التركة جزأين ويكتب في رقعة دين، وفي رقعة تركة، وان استغرق الثلث جعلوا ثلاثة أجزاء في رقعة دين وفي رقعتين تركة ويقرع بينهم فمن خرجت عليه قرعة الدين بيع في الدين وما سواه يجعل ثلاثة أجزاء ويعتق منه الثلث لانه اجتمع حق الدين وحق التركة وحق العتق، وليس بعضها بالبيع والارث والعتق بأولى من البعض وللقرعه مدخل في تمييز العتق من غيره فأقرع بينهم (فصل وان أعتقهم ومات وأقرع بينهم وأعتق الثلث ثم ظهر دين مستغرق لم ينفذ العتق لما ذكرناه، فان قال الورثة نحن نقضى الدين وننفذ العتق ففيه وجهان.
(أحدهما)
أن لهم ذلك لان المنع من نفوذ العتق لاجل الدين فإذ قضى الدين زال المنع
(والثانى)
انه ليس لهم ذلك لانهم تقاسموا العبيد بالقرعه وقد تعلق بهم حق الغرماء فلم يصح، كما لو تقاسم شريكان ثم ظهر شريك ثالث، فعلى هذا يقضى الدين ثم يستأنف العتق، وان كان الدين يستغرق نصف التركة فهل يبطل العتق بالجميع، فيه وجهان
(أحدهما)
يبطل كما قلنا في قسمة الشريكين
(والثانى)
يبطل بقدر الدين لان بطلانه بسببه فيقدر بقدره، فان كان الذى أعتق عبدين عتق من كل واحد منهما نصفه ورق النصف ثم يقرع بينهما لجمع الحريه فان خرجت القرعه لاحدهما وكانت قيمتها سواء عتق وبيع الاخر في
الدين، وان كانت قيمة أحدهما أكثر فخرجت القرعه على أكثرهما قيمة عتق منه نصف قيمة العبدين ورق باقيه والعبد الاخر.
وان خرجت على أقلهما قيمة عتق وعتق من الثاني تمام النصف وبيع الباقي في الدين(16/12)
(باب المدبر)
التدبير قربة لانه يقصد به العتق ويعتبر من الثلث في الصحة والمرض، لما رُوِيَ عَنْ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: المدبر من الثلث، ولانه تبرع يتنجز بالموت فاعتبر من الثلث كالوصيه، فإن دبر عبدا وأوصى بعتق آخر وعجز لثلث عنهما أقرع بينهما.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يقدم المدبر لانه يعتق بالموت والموصى بعتقه لا يعتق بالموت والصحيح هو الاول لان لزومهما بالموت فاستويا
(فصل)
ويصح من السفيه لانه إنما منع من التصرف حتى لا يضيع ماله فيفتقر وبالتدبير لا يضيع ماله لانه باق على ملكه، وإن مات استغنى عن المال وحصل له الثواب، وهل يصح من الصبى المميز، فيه قولان (أحدهما أنه يصح لما ذكرناه في السفيه
(والثانى)
لا يصح وهو الصحيح لانه ليس من أهل العقود فلم يصح تدبيره كالمجنون
(فصل)
والتدبير هو أن يقول إن مت فأنت حر، فإن قال دبرتك أو أنت مدبر ونوى العتق صح، وإن لم ينو فالمنصوص في المدبر أنه يصح.
وقال في المكاتب إذا قال كاتبتك على كذا وكذا لم يصح حتى يقول فإذا أديت فأنت حر فمن أصحابنا من نقل جوابه في المدبر إلى المكاتب وجوابه في المكاتب إلى المدبر وجعلهما على قولين
(أحدهما)
أنهما صريحان لانهما موضوعان للعتق في عرف الشرع
(والثانى)
أنهما كنايتان فلا يقع العتق بهما إلا بقرينة أو نية لانهما يستعملان في العتق وغيره، ومنهم من قال في المدبر صريح وفي المكاتب كناية، ولم يذكر فرقا يعتمد عليه.
(فصل)
ويجوز مطلقا وهو أن يقول: إن مت فأنت حر، ويجوز مقيدا وهو أن يقول: إن مت من هذا المرض أو في هذا البلد فأنت حر، لانه عتق معلق على صفة فجاز مطلقا ومقيدا كالعتق المعلق على دخول الدار، ويجوز تعليقه على شرط، بأن يقول إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتى، كما يجوز أن يعلق العتق المعلق على دخول الدار بشرط قبله، فإن وجد الشرط صار مدبرا،(16/13)
وان لم يوجد الشرط حتى مات السيد لم يصر مدبرا لانه علق التدبير على صفة، وقد بطلت الصفه بالموت فسقط ما علق عليه.
(فصل)
ويجوز تدبير المعتق بصفة كما يجوز أن يعلق عتقه على صفة أخرى فإن وجدت الصفة قبل الموت عتق بالصفة وبطل التدبير به، وإن مات قبل وجود الصفه عتق بالتدبير وبطل العتق بالصفة، ويجوز تدبير المكاتب كما يجوز أن يعلق عتقه على صفة، فإذا دبره صار مكاتبا مدبرا ويستحق العتق بالكتابة والتدبير، فإن أدى المال قبل الموت عتق بالكتابة وبطل التدبير، وإن مات قبل الاداء فإن كان يخرج من الثلث عتق بالتدبير وبطلت الكتابة، وإن لم يخرج جميعه عتق منه بقدر الثلث ويسقط من مال الكتابة بقدره وبقى الباقي على الكتابة، ولا يجوز تدبير أم الولد، لان الذى يقتضيه التدبير هو العتق بالموت، وقد استحقت ذلك بالاستيلاد فلم يفد التدبير شيئا، فإذا برها ومات عتقت بالاستيلاد من رأس المال.
(فصل)
ويجوز تدبير الحمل كما يجوز في بعض عبد كما يجوز عتقه، ويجوز في العتق، فإن كان بين رجلين عبد فدبر أحدهما نصيبه وهو موسر فهل يقوم
عليه نصيب شريكه ليصير الجميع مدبرا، فيه قولان
(أحدهما)
يقوم عليه لانه أثبت له شيئا يفضى إلى العتق لا محالة فأوجب التقويم كما لو استولد جاريه بينه وبين غيره
(والثانى)
وهو المنصوص أنه لا يقوم عليه لان التقويم انما يجب بالاتلاف كالعتق أو بسبب يوجب الاتلاف كالاستيلاد والتدبير ليس باتلاف ولا سبب يوجب الاتلاف لانه يمكن نقضه بالتصرف فلم يوجب التقويم، فان كان له عبد فدبر بعضه فالمنصوص أنه لا يسرى إلى الباقي وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يسرى فيصير الجميع مدبرا، ووجههما ما ذكرناه في المسألة قبلها، فان كان عبد بين اثنين فدبراه فأن قال كل واحد منهما إذا مت فأنت حر جاز، كما لو أعتقاه، فان أعتق أحدهما نصيبه بعد التدبير وهو موسر فهو يقوم عليه نصيب شريكه ليعتق، فيه قولان منصوصان:(16/14)
(أحدهما)
لا يقوم عليه لان لنصيب شريكه جهة يعتق بها فاستغنى عن التقويم ولانا إذا قومناه على المعتق أبطلنا على شريكه ما ثبت له من العتق والولاء بحكم التدبير.
(والثانى)
يقوم عليه ليصير الكل حرا لان المدبر كالقن في الملك والتصرف فكان كالقن في التقويم والسراية، فإن كان بين نفسين عبد فقالا إذا متنا فأنت حر لم يعتق حصة واحد منهما إلا بموته وموت شريكه، فان ماتا معا عتق عليهما بوجود الصفة فان مات أحدهما قبل الآخر انتقل نصيب الميت إلى وارثه ووقف عنقه على موت الاخر فإذا مات الاخر عتق، فان قالا: أنت حبيس على آخرنا موتا فالحكم فيها كالحكم في المسألة قبلها إلا في فصل واحد وهو أن في المسألة الاولى إذا مات أحدهما انتقل نصيب الميت إلى وارثه إلى أن يموت الاخر وفي هذه إذا مات أحدهما كان منفعة نصيبه موصى بها للآخر إلى أن يموت لقوله
أنت حبيس على آخرنا موتا فإذا مات الاخر عتق.
(فصل)
ويملك المولى بيع المدبر، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رجلا أعتق غلاما له عن دبر منه ولم يكن له مال غيره فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فبيع بسبعمائة أو بتسعمائة ويملك هبته ووقفه وكتابته قياسا على البيع ويملك أكسابه ومنافعه وأرش ما يجنى عليه لانه لما كان كالعبد القن في التصرف في الرقيه كان كالقن فيما ذكرناه، وان جنى خطا تعلق الارش برقبته وهو بالخيار بين أن يسلمه للبيع وبين أن يفديه كما يفدى العبد القن لانه كالقن في جواز بيعه فكان كالقن في جواز التسليم للبيع والفداء، وان مات السيد قبل أن يفديه.
فإن قلنا: لا يجوز عتق الجاني لم يعتق وللوارث الخيار بين التسليم للبيع وبين الفداء كالسيد في حياته.
وان قلنا: يجوز عتق الجاني عتق من الثلث ووجب أرش الجناية من التركة لانه عتق بسبب من جهته فتعلق الارش بتركته ولا يجب إلا أقل الامرين من قيمته أو أرش الجناية لانه لا يمكن تسليمه للبيع بعد العتق
(فصل)
وإن كان المدبر جارية فأتت بولد من النكاح أو الزنا فهل يتبعها في التدبير فيه قولان.(16/15)
(أحدهما)
يتبعها لانها تستحق الحرية فتبعها الولد كأم الولد، فعلى هذا ان ماتت الام في حياة المولى لم يبطل التدبير في الوالد.
(والثانى)
لا يتبعها لانه عقد يلحقه الفسخ فلم يسر إلى الولد كالرهن والوصية وان دبرها وهى حامل تبعها الولد قولا واحدا كما يتبعها في العتق، وان دبر عبدا ثم ملكه جارية فأتت منه بولد لحقه نسبه لانه يملكها في أحد القولين وله فيها شبهة في القول الثاني لاختلاف الناس في ملكه.
(فإن قلنا) لا يملك الجارية فالولد مملوك للمولى لانه ولد أمته (وان قلنا)
يملكها فالولد ابن المدبر ومملوكه لانه من أمته وهل يكون مدبرا فيه وجهان.
أحدهما: أنه ليس بمدبر لان الولد انما يتبع الام دون الاب والام غير مدبرة، والثانى: أنه مدبر لانها علقت به في ملكه فكان كالاب كولد الحر من أمته.
(فصل)
ويجوز الرجوع في التدبير بما يزيل الملك كالبيع والهبة المقبوضة لما رويناه من حديث جابر رضى الله عنه وهل يجوز بلفظ الفسخ كقوله: فسخت ونقضت ورجعت.
فيه قولان أحدهما: أنه يجرى مجرى الوصية فيجوز له فسخه بلفظ الفسخ وهو اختيار المزني لانه تصرف يتنجز بالموت يعتبره من الثلث فهو كالوصية.
والثانى: أنه يجرى مجرى العتق بالصفة فلا يجوز فسخه بلفظ الفسخ هو الصحيح لانه عتق علقه على صفة فهو كالعتق بالصفات، وان وهبه ولم يقبضه فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ان قلنا: انه كالوصية فهو رجوع، وان قلنا: انه كالعتق بالصفة فليس برجوع لانه لم يزل الملك.
ومنهم من قال: هو رجوع على القولين لانه تصرف يفضى إلى زوال الملك وان كاتبه، فان قلنا ان التدبير كالوصيه كان رجوعا كما لو أوصى بعبد ثم كاتبه، وان قلنا أنه كالعتق بالصفة لم يكن رجوعا بل يصير مدبرا مكاتبا وحكمه ما ذكرناه فيمن دبر مكاتبا، وان دبره ثم قال ان أديت إلى وارثي ألفا فأنت حر.
(فان قلنا) انه كالوصيه كان ذلك رجوعا في التدبير لانه عدل عن العتق بالموت إلى العتق بأداء المال فبطل التدبير ويتعلق العتق بالاداء.
وان قلنا: انه(16/16)
كالعتق بالصفة وخرج من الثلث عتق بالتدبير وسقط حكم الاداء بعده لانه علق عنقه بصفة متقدمة ثم علقه بصفة متأخره فعتق بأسبقهما وأسبقهما الموت فعتق به وإن دبر جارية ثم أولدها بطل التدبير لان العتق بالتدبير والاستيلاد في وقت
واحد والاستيلاد أقوى فاسقط التدبير.
(فصل)
ويجوز الرجوع في تدبير البعض كما يجوز التدبير في الابتداء في البعض، وان دبر جارية فأتت بولد من نكاح أو زنا وقلنا انه يتبعها في التدبير ورجع في تدبير الام لم يتبعها الولد في الرجوع وان يتبعها في التدبير كما أن ولد ام الولد يتبعها حق الحرية ثم لا يتبعها في بطلان حقها من الحرية بموتها، وان دبرها الصبى وقلنا انه يصح تدبيره، فان قلنا: يجوز الرجوع بلفظ الفسخ جاز رجوعه لانه لا حجر عليه في التدبير فجاز رجوعه فيه كالبالغ، وإن قلنا: لا يجوز الرجوع الا بتصرف يزيل الملك لم يصح الرجوع في تدبيره الا بتصرف يزيل الملك من جهة اولى.
(فصل)
وان دبر عبده ثم ارتد فقد قال أبو إسحاق لا يبطل التدبير، فان مات عنق العبد لانه تصرف نفذ قبل الرد فلم تؤثر الردة فيه كما لو باع ماله ثم ارتد، ومن أصحابنا من قال: يبطل التدبير لان المدبر انما يعتق إذا حصل للورثة شئ مثلاه وها هنا لم يحصل للورثة شئ فلم يعتق.
ومنهم من قال: يبنى على الاقوال في ملكه، فان قلنا: يزول ملكه بالردة بطل لانه زال ملكه فيه فأشبه إذا باعه، وان قلنا لا يزول لم يبطل كما لو لم يدبر وإن فلنا: موقوف فالتدبير موقوف وما قال أبو إسحاق غير صحيح لانه ارتد والمدبر على ملكه فزال بالردة بخلاف ما لو باعه قبل الردة وما قال الآخر لا يصح لان ماله بالموت صار للمسلمين وقد حصل لهم مثلاه.
(فصل)
وان دبر الكافر عبدا كافرا ثم أسلم العبد ولم يرجع السيد في التدبير ففيه قولان.
أحدهما: يباع عليه وهو اختيار المزني لانه يجوز بيعه فبيع عليه كالعبد القن والثانى: لا يباع عليه وهو الصحيح لانه لا حظ للعبد في بيعه لانه يبطل به(16/17)
حقه من الحرية فعلى هذا هو بالخيار بين أن يسلمه إلى مسلم وينفق عليه إلى أن يرجع في التدبير فيباع عليه أو يموت فيعتق عليه وبين أن يخارجه على شئ لانه لا سبيل إلى افراره في يده فلم يجز إلا ما ذكرناه، فإن مات السيد وخرج من الثلث عتق، وإن لم يخرج عتق منه بقدر الثلث وبيع الباقي على الورثة لانه صار قنا.
(فصل)
وان اختلف السيد والعبد فادعى العبد أنه دبره وأنكر السيد، فان قلنا إن التدبير كالعتق بالصفة صح الاختلاف لانه لا يمكن الرجوع فيه، والقول قول السيد لان الاصل أنه لم يدبر.
وان قلنا: انه كالوصية ففيه وجهان، أحدهما: أن القول قول السيد لان جحوده رجوع وهو يملك الرجوع، والثانى أنه ليس برجوع وهو المذهب لانه قال في الدعوى والبينات إذا أنكر السيد قلنا له قل رجعت ولا يحتاج إلى اليمين فدل على أن جحوده ليس برجوع، والدليل عليه أن جحود الشئ ليس برجوع كما أن جحود النكاح ليس بطلاق فعلى هذا يصح الاختلاف والحكم فيه كالحكم فيه إذا قلنا انه عتق بلصفة، وان مات السيد واختلف العبد والوارث صح الاختلاف على القولين والقول قول الوارث، وان كان في يده مال فقال كسبته بعد العتق، وقال الوارث بل كسبته قبل العتق قالقول قول المدبر لان الاصل عدم الكسب الا في الوقت الذى وجد فيه وقد وجد وهو في يد المدبر فكان له، وان كان أمة ومعها ولد فادعت أنها ولدته بعد التدبير.
وقال الوارث بل ولدته قبل التدبير فالقول قول الوارث لان الاصل في الولد الرق.
(فصل)
ويجوز تعليق العتق على صفة مثل أن يقول ان دخلت الدار فأنت حر، وان أعطيتني ألفا فأنت حر لانه عتق على صفة فجاز كالتدبير، فان
قال ذلك في المرض اعتبر من الثلث، لانه لو أعتقه اعتبر من الثلث، فإذا عقده اعتبر من الثلث، وان قال ذلك وهو صحيح اعتبر من رأس المال سواء وجدت الصفة وهو صحيح أو وجدت وهو مريض لان العتق انما يعتبر من الثلث في حال المرض لانه قصد إلى الاضرار بالورثة في حال يتعلق حقهم بالمال وههنا لم يقصد إلى ذلك، فان علق العتق على صفة مطلقة ثم مات بطل لان تصرف الانسان(16/18)
مقصور على حال الحياة فحمل إطلاق الصفة عليه، وأن علق عتقه على صفة بعد الموت لم يبطل بالموت لانه يملك العتق بعد الموت في الثلث فملك عقده على صفة بعد الموت.
(فصل)
وإن علق عتق امة على صفة ثم أتت بولد من النكاح أو الزنا فهل يتبعها الولد فيه قولان كما قلنا في المدبرة، فان بطلت الصفه في الام بموتها أو بموته بطلت في الولد لان الولد يتبعها في العتق لا في الصفة بخلاف ولد المدبرة فانه يتبعها في التدبير فإذا بطل فيها بقى فيه، وإن قال لامته أنت حرة بعد موتى بسنة فمات السيد وهى تخرج من الثلث، فللوارث أن يتصرف في كسبها ومنفعتها ولا يتصرف في رقبتها لانها موقوفة على العتق، فان أتت بولد بعد موت السيد فقد قال الشافعي رحمه الله يتبعها الولد قولا واحدا، فمن أصحابنا من قال فيه قولان كالولد الذى تأنى به قبل الموت والذى قاله الشافعي رحمه الله احد القولين، ومنهم من قال يتبعها الولد قولا واحدا لانها أتت به، وقد استقر عتقها بالموت فيتبعها الولد كأم الولد بخلاف ما قبل الموت فان عتقها غير مستقر لانه يلحقه الفسخ.
(فصل)
وان علق عتق عبده على صفة لم يملك الرجوع فيها بالقول لانه كاليمين أو كالنذر والرجوع في الجميع لا يجوز، ويجوز الرجوع فيه بما يزيل الملك كالبيع وغيره، فان علق عتقه على صفة ثم باعه ثم رجع إليه فهل يعود حكم الصفة
فيه قولان بناء على القولين فيمن علق طلاق إمراته على صفة وبانت منه ثم تزوجها، وإن دبر عبده ثم باعه ثم رجع إليه، فان قلنا: ان التدبير كالوصية لم يرجع لان الوصية إذا بطلت لم تعد، وان قلنا انه كالعتق بصفة فهل يعود أم لا على ما ذكرناه من القولين.(16/19)
كتاب المكاتب
الكتابة جائرة لقوله تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) ولا تجوز الكتابة إلا من جائز التصرف في المال لانه عقد على المال فلم يجز إلا من جائز التصرف في المال كالبيع، ولا يجوز أن يكاتب عبد اجيرا لان الكتابة تقتضي التمكين من التصرف والاجارة تمنع من ذلك، ولا يجوز أن يكاتب عبدا مرهونا لان الرهن يقتضى البيع والكتابة تمنع البيع، وتجوز كتابة المدبر وأم الولد لانه عتق بصفة يجوز ان تتقدم على الموت فجاز في المدبر وأم الولد كالعتق المعلق على دخول الدار، فإن كتب مدبرا صار مكاتبا ومدبرا، وقد بينا حكمه في المدبر، وان كاتب أم ولد صارت مكاتبة وأم ولد فان أرت المال قبل موت السيد عتقت بالكتابة، وان مات السيد قبل الاداء عتقت بالاستيلاد وبطلت الكتابة.
(فصل)
وتجوز كتابة بعض العبد إذا كان باقيه حرا لانه كتابة على جميع ما فيه من الرق فأشبه كتابة العبد في جميعه، وإن كان عبد بين اثنين فكاتبه احدهما في نصيبه بغير إذن شريكه لم يصح لانه لا يعطى من الصدقات ولا يمكنه الشريك من الاكتساب بالاسفار، وان كاتبه باذن شريكه ففيه قولان.
(أحدهما)
لا يصح لما ذكرناه من نقصان كسبه.
(والثانى)
يصح لان المنع لحق الشريك فزال بالاذن، وان كان لرجل عبد
فكاتبه في بعضه فالمنصوص انه لا يصح، واختلف أصحابنا فيه فذهب أكثرهم إلى أنه لا يصح قولا واحدا كما لا يصح أن يبعض العتق فيه، ومنهم من قال: إذا قلنا انه يصح أن يكاتب نصيبه في العبد المشترك باذن الشريك صح ههنا لان اتفاقهما على كتابة البعض كاتفاق الشريكين، فإن وصى رجل بكتابة عبد وعجز الثلث عن جميعه فالمنصوص أنه يكاتب القدر الذى يحتمله الثلث، فمن أصحابنا من جعل في الجميع قولين ومنهم من قال: يصح في الوصيه، وقد فرق بينه وبين العبد المشترك بأن(16/20)
الكتابة في العبد المشترك غير مستحقة في جميعه والكتابة في الوصية استحقت في جميعه فإذا تعذرت في البعض لم تسقط في الباقي.
(فصل)
وان طلب العبد الكتابة نظرت فإن كان له كسب وأمانة استحب أن يكاتب لقوله عز وجل (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) وقد فسر الخبر بالكسب والامانة، ولان المقصود بالكتابة العتق على مال، وبالكسب والامانة يتوصل إليه، ولا يجب ذلك لانه عتق فلا يجب بطلب العبد كالعتق في غير الكتابة.
وإن لم يكن له كسب ولا أمانه أو له كسب بلا أمانه لم تستحب لانه لا يحصل المقصود بكتابته ولا تكره لانه سبب للعتق من غير اضرار فلم تكره.
وان كان له امانة بلا كسب ففيه وجهان.
(احدهما) انه لا تستحب لان مع عدم الكسب يتعذر الاداء فلا يحصل المقصود
(والثانى)
تستحب لان الامين يعان ويعطى من الصدقات، وان طلب السيد الكتابة فكره العبد لم يجبر عليه، لانه عتق على مال فلا يجبر العبد عليه كالعتق على مال في غير الكتابة.
(فصل)
ولا يجوز الا بعوض مؤجل لانه إذا كاتبه على عوض حال لم
يقدر على أدائه فينفسخ العقد ويبطل المقصود، ولا يجوز على أقل من نجمين، لما روى عن أمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه أنه غضب على عبد له وقال: لاعاقبنك ولاكتبنك على نجمين، فدل على أنه لا يجوز على أقل من ذلك.
وعن على كرم الله وجهه أنه قال: الكتابة على نجمين والايتاء من الثاني، ولا يجوز الا على نجمين معلومين، وأن يكون ما يؤدى في كل نجم معلوما لانه عوض منجم في عقد، فوجب العلم بمقدار النجم ومقدار ما يؤديه فيه كالسلم إلى أجلين.
(فصل)
ولا يجوز الا على عوض معلوم الصفه، لانه عوض في الذمه فوجب العلم بصفته كالمسلم فيه.
(فصل)
وتجوز الكتابة على المنافع، لانه يجوز أن تثبت في الذمة بالعقد(16/21)
فجاز الكتابة عليها كالمال فان كاتبه على عملين في الذمة في نجمين جاز كما يجوز على مالين في نجمين، وان كاتبه على خدمة شهرين لم يجز لان ذلك نجم واحد، وان كاتبه على خدمة شهر ثم على خدمة شهر بعده لم يجز لان العقد في الشهر الثاني على منفعة معينة في زمان مستقبل فلم يجز كما لو استأجره للخدمة في شهر مستقبل.
وان كاتبه على دينار وخدمة شهر بعده لم يجز لانه لا يقدر على تسليم الدينار في الحال، وان كاتبه على خدمة شهر ودينار في نجم بعده جاز لانه يقدر على تسليم الخدمه فهو مع الدينار كالمالين في نجمين، وإن كاتبه على خدمة شهر ودينار بعد انقضاء الشهر فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق لا يجوز لانه إذا لم يفصل بينهما صارا نجما واحدا.
ومنهم من قال يجوز لانه يستحق الدينار في غير الوقت الذى يستحق فيه الخدمه وانما يتصل استيفاؤهما.
فعلى هذا لو كاتبه على خدمة شهر ودينار في نصف الشهر جاز لانه يستحق الدينار في غير الوقت الذى
يستحق فيه الخدمه.
(فصل)
وان كاتب رجلان عبدا بينهما على مال بينهما على قدر الملكين وعلى نجوم واحدة جاز، وان تفاضلا في المال مع تساوى الملكين أو تساويا في المال مع تفاضل الملكين، أو على أن نجوم أحدهما أكثر من نجوم الآخر أو على أن نجم أحدهما اطول من نجم الآخر ففيه طريقان، من أصحابنا من قال يبنى على القولين فيمن كاتب نصيبه من العبد بإذن شريكه، فإن قلنا يجوز جاز، وان قلنا لا يجوز لم يجز لان اتفاقهما على الكتابة، ككتابة أحدهما في نصيبه بإذن الآخر.
وعلى هذا يدل قول الشافعي رحمه الله تعالى فانه قال في الام: ولو أجزت لاجزت أن ينفرد أحدهما بكتابة نصيبه، فدل على أنه إذا جاز ذلك هذا، وان لم يجز ذلك لم يجز هذا.
ومنهم من قال لا يصح قولا واحدا لانه يؤدى إلى أن ينتفع أحدهما بحق شريكه من الكسب لانه يأخد أكثر مما يستحق وربما عجز المكاتب فيرجع على شريكه بالفاضل بعدما انتفع به.
(فصل)
ولا يصح على شرط فاسد لانه معاوضة يلحقها الفسخ فبطلت(16/22)
بالشرط الفاسد كالبيع، ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل، لانه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع.
(فصل)
وإذا انعقد العقد لم يملك المولى فسخه قبل العجز لانه أسقط حقه منه بالعوض فلم يملك فسخه قبل العجز عن العوض كالبيع، ويجوز للعبد أن يمتنع من أداء المال لان ما لا يلزمه إذا لم يجعل شرطا في عتقه لم يلزمه إذا جعل شرطا في عتقه كالنوافل، وهل يملك أن يفسخ، فيه وجهان من أصحابنا من قال لا يملك لانه لا ضرر عليه في البقاء على العقد ولا فائدة له في الفسخ فلم يملكه،
ومنهم من قال له أن يفسخ لانه عقد لحظه فملك أن ينفرد بالفسخ كالمرتهن، فان مات المولى لم يبطل العقد لانه لازم من جهته فلم يبطل بالموت كالبيع، وينتقل المكاتب إلى الوارث لانه مملوك لا يبطل رقه بموت الموالى فانتقل إلى وارثه كالعبد القن وان مات العبد بطل العقد لانه فات المعقود عليه قبل التسليم فبطل العقد كالمبيع إذا تلف قبل القبض ولا يجوز شرط الخيار فيه، لان الخيار لدفع الغبن عن المال والسيد يعلم أنه مغبون من جهة المملوك لانه يبيع ماله بماله والعبد مخير بين أن يدفع المال وبين أن لا يدفع فلا معنى لشرط الخيار، فان اتفقا على الفسخ جاز، لانه عقد يلحقه الفسخ بالعجز عن المال، فجاز فسخه بالتراضى كالبيع.
(باب ما يملكه المكاتب وما لا يمكله) ويملك المكاتب بالعقد اكتساب المال بالبيع والاجارة والصدقه والهبه والاخذ بالشفعة والاحتشاش والاصطياد وأخذ المباحات، وهو مع المولى كالأجنبي مع الأجنبي في ضمان المال وبذل المنافع وأرش الاطراف لانه صار بما بذله له من العوض عن رقبته كالخارج عن ملكه ويملك التصرف في المال بما يعود إلى مصلحته ومصلحة ماله، فيجوز أن ينفق على نفسه لان ذلك من أهم المصالح وله أن يفدى في حياته نفسه أو رقيقه لان له فيه مصلحة، وله أن يختن غلامه يؤدبه لانه اصلاح للمال.
وأما الحد فالمنصوص أنه لا يملك اقامته لان طريقه الولاية والمكاتب ليس من أهل الولاية(16/23)
ومن أصحابنا من قال: له أن يقيم الحد كما يملك الحر في عبده وله أن يقتص في الجناية عليه وعلى رقيقه.
وذكر الربيع قولا آخر أنه لا يقتص من غير اذن المولى ووجهه أنه ربما عجز فيصير ذلك السيد فيكون قد أتلف الارش الذى كان
للسيد أن يأخذه لو لم يقتص منه.
قال أصحابنا: هذا القول من تخريج الربيع، والمذهب أنه يجوز أن يقتص لان فيه مصلحة له.
(فصل)
وان كان المكاتب جارية فوطئها المولى وجب عليه المهر ولها أن تطالب به لتستعين به على الكتابة لانه يجرى مجرى الكسب وان أذهب بكارتها لزمه الارش لانه اتلاف جزء لا يستحقه فضمن بدله كقطع الطرف وإن أتت منه بولد صارت مكاتبة وأم ولد، وقد بينا حكمهما في أول الباب، وان كانت مكاتبة بين اثنين فأولدها أحدهما نظرت، فإن كان معسرا صار نصيبه أم ولد، وفي الولد وجهان
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن الولد ينعقد جميعه حرا ويثبت للشريك في ذمة الوطئ نصف قيمته لانه يستحيل أن ينعقد نصف الولد حرا ونصفه عبدا.
(والثانى)
وهو قول أبى إسحاق: ان نصفه حر ونصفه مملوك، وهو الصحيح اعتبارا بقدر ما يملك منها ولا يمتنع أن ينعقد نصفه حرا ونصفه عبدا كالمرأة إذا كان نصفها حرا ونصفها مملوكا فأتت بولد فان نصفه حرا ونصفه عبد، وان كان موسرا فالولد حر وصار نصيبه من الجارية أم ولد، ويقوم على الواطئ نصيب شريكه وهل يقوم في الحال فِيهِ طَرِيقَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ: فِيهِ قولان.
(أحدهما)
يقوم في الحال، فإذا قوم انفسخت الكتابة وصار جميعها أم ولد للواطئ ونصفها مكاتبا له فإن أدت المال عتق نصفها وسرى إلى باقيها.
(والقول الثاني) أنه يؤخر التقويم إلى العجز، فإن أدت ما عليها عتقت عليها بالكتابة، وإن عجزت قوم على الواطئ نصيب شريكه وصار الجميع أم ولد وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يقوم في الاستيلاد نصيب الشريك في الحال قولا واحدا، بل يؤخر إلى أن تعجز لان العتق فيه حظ للعبد لانه يتعجل له
الحريه في الباقي ولا حظ لها في التقويم في الاستيلاد بل الحظ في التأخير لانه(16/24)
إذا أخر ربما أدت المال فعتقت وإذا قوم في الحال صارت أم الولد ولا تعتق إلا بالموت، والصحيح هو الاول وأنه على قولين كالعتق لان الاستيلاد كالعتق بل هو أقوى لانه يصح من المجنون والعتق لا يصح منه فإذا كان في التقويم في العتق قولان وجب أن يكون في الاستيلاد مثلاه.
(فصل)
وان أتت المكاتبة بولد من نكاح أو زنا ففيه قولان
(أحدهما)
أنه موقوف، فان رقت الام رق، وإن عتقت عتق لان الكتابة سبب يستحق به العتق فيتبع الولد الام فيه كالاستيلاد
(والثانى)
أنه مملوك يتصرف فيه لانه عقد يلحقه الفسخ فلم يسر إلى الولد كالرهن.
(فإن قلنا) انه للمولى كان حكمه حكم العبد القن في الجناية والكسب والنفقة والوطئ (وان قلنا) انه موقوف فقتل ففى قيمته قولان.
أحدهما: أنها لامه تستعين بها في الكتابة لان القصد بالكتابة طلب حظها والثانى: أنها للمولى لانه تابع للام وقيمة الام للمولى فكذلك قيمة ولدها، فان كسب الولد مالا ففيه قولان.
(أحدهما)
أنه للام لانه تابع لها في حكمها فكسبها لها فكذلك كسب ولدها
(والثانى)
أنه موقوف لان الكسب نماء الذات وذاته موقوفة فكذلك كسبه فعلى هذا يجمع الكسب، فإن عتق ملك الكسب كما تملك الام كسبها إذا عتقت وان رق بعجز الام صار الكسب للمولى، فمن أصحابنا من خرج فيه قولا ثالثا أنه للمولى كما قلنا في قيمته في أحد القولين، وان أشرفت الام على العجز وكان في كسب الولد وفاء بمال الكتابة ففيه قولان.
(أحدهما)
أنه ليس للام أن تستعين به على الاداء لانه موقوف على السيد
أو الولد فلم يكن للام فيه حق.
(والثانى)
أن لها أن تأخذه وتؤديه لانها إذا أدت عتقت وعتق الولد فكان ذلك أحظ للولد من أن ترق ويأخذه المولى، فإن احتاج الولد إلى النفقة ولم يكن في كسبه ما يفى.
فإن قلنا: ان الكسب للمولى فالنفقة عليه، وان قلنا: انه للام فالنفقة عليها وإن قلنا: انه موقوف ففى النفقة وجهان
(أحدهما)
انها على المولى لانه مرصد(16/25)
لملكه
(والثانى)
أنها في بيت المال لان المولى لا يملكه فلم يبق إلا بيت المال، وان كان الولد جارية فوطئها المولى، فإن قلنا: إن كسبه له لم يجب عليه المهر لانه لو وجب لكان له، وإن قلنا: انه للام فالمهر لها، وإن قلنا: انه موقوف وقف المهر، وإن أحبلها صارت أم ولد له بشبهة الملك ولا تلزمه قيمتها، لان القيمة تجب لمن يملكها والام لا تملك رقبتها وإنما هي موقوفة عليها.
(فصل)
وإن حبس السيد المكاتب مدة ففيه قولان
(أحدهما)
يلزمه تخليته في مثل تلك المدة لانه دخل في العقد على التمكين من التصرف في المدة فلزمه الوفاء به
(والثانى)
تلزمه أجرة المثل للمدة التى حبسه فيها وهو الصحيح لان المنافع لا تضمن بالمثل، وإنما تضمن بالاجرة، وإن قهر أهل الحرب المكاتب على نفسه مدة ثم أفلت من أيديهم ففيه قولان.
(أحدهما)
لا تجب تخليته في مثل المدة لانه لم يكن الحبس من جهته.
(والثانى)
تجب لانه فات ما استحقه بالعقد، ولا فرق بين أن يكون بتفريط أو غير تفريط كالبيع إذا هلك في يد البائع، ولا يجئ ههنا ايجاب الاجرة على المولى لانه لم يكن الحبس من جهته فلا تلزمه أجرته.
(فصل)
ولا يملك المكاتب التصرف الا على وجه النظر والاحتياط لان
حق المولى يتعلق باكتسابه، فإن أراد أن يسافر فقد قال في الام: يجوز.
وقال في الامالى: لا يجوز بغير اذن المولى، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
لَا يجوز لان فيه تغريرا
(والثانى)
يجوز لانه من أسباب الكسب، ومنهم من قال: ان كان السفر طويلا لم يجز، وان كان قصيرا جاز، وحمل القولين على هذين الحالين، والصحيح هو الطريق الاول.
(فصل)
ولا يجوز أن يبيع نسيئة، وان كان بأضعاف الثمن ولا على أن يأخذ بالثمن رهنا أو ضمينا لانه يخرج المال من يده من غير عوض والرهن قد يتلف والضمين قد يفلس وان باع ما يساوى مائه بمائة نقدا وعشرين نسيئة جاز لانه لا ضرر فيه، ولا يجوز أن يقرض ولا يضارب ولا يرهن لانه اخراج مال بغير عوض.(16/26)
(فصل)
ولا يجوز أن يشترى من يعتق عليه لانه يخرج ما لا يملك التصرف فيه بمال لا يملك التصرف فيه، وفي ذلك اضرار، وان وصى له بمن يعتق عليه، فان لم يكن له كسب لم يجز قبوله لانه يحتاج أن ينفق عليه وفي ذلك إضرار، وإن كان له كسب جاز قبوله لانه لا ضرر فيه، فان قبله ثم صار زمنا لا كسب له فله أن ينفق عليه لان فيه إصلاحا لماله.
(فصل)
ولا يعتق ولا يكاتب ولا يهب ولا يحابى ولا يبرئ من الدين ولا يكفر بالمال ولا ينفق على أقاربه الاحرار ولا يسرف في نفقة نفسه، وإن كان له أمة مزوجة لم تبذل العوض في الخلع لان ذلك كله استهلاك للمال، وإن كان عليه دين مؤجل لم يملك تعجيله لانه يقطع التصرف فيما يعجله من المال من غير حاجة، وإن كان مكاتبا بين نفسين لم يجز ان يقدم حق احدهما لان ما يقدمه من ذلك يتعلق به حقهما فلا يجوز أن يخص به أحدهما، وإن أقر بجناية خطا،
ففيه قولان.
أحدهما: يقبل لانه اقرار بالمال فقبل كما لو أقر بدين معاملة.
والثانى: لا يقبل لانه يخرج به الكسب من غير عوض فبطل كالهبة، وان جنى هو أو عبد له يملك بيعه على أجنبي لم يجز أن يفديه بأكثر من قيمته لان الفداء كالابتياع فلا يجوز بأكثر من القيمة، وان كان عبدا لا يملك بيعه كالاب والابن لم يجز ان يفديه بشئ قل أو كثر لانه يخرج ما يملك التصرف فيه لاستبقاء ما لا يملك التصرف فيه.
(فصل)
وان فعل ذلك كله باذن المولى ففيه قولان، أحدهما: لا يصح لان المولى لا يملك ما في يده والمكاتب لا يملك ذلك بنفسه فلا يصح باجتماعهما كالاخ إذا زوج أخته الصغيرة باذنها، والثانى: أنه يصح وهو الصحيح لان المال موقوف عليهما، ولا يخرج منهما فصح باجتماعهما كالشريكين في المال المشترك والراهن والمرتهن في الرهن، وان وهب للمولى أو حاباه أو أقرضه أو ضاربه أو عجل له ما تأجل من ديونه أو فدى جنايته عليه بأكثر من قيمته، فإن قلنا يصح للاجنبي بإذن المولى صح، وان قلنا: لا يصح في حق الأجنبي بإذنه لم يصح لان قبوله كالاذن فان وهب أو أقرض وقلنا أنه لا يصح فله أن يسترجع فإن لم يسترجع(16/27)
حتى عتق لم يسترجع على ظاهر النص، لانه إنما لم يصح لنقصانه وقد زال ذلك.
ومن أصحابنا من قال له أن يسترجع لانه قد وقع فاسدا فثبت له الاسترجاع.
(فصل)
ولا يتزوج المكاتب إلا بإذن المولى لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أيما عبد تزوج بغير اذن مولاه فهو عاهر، ولانه يلزمه المهر والنفقة في كسبه، وفي ذلك اضرار بالمولى فلم يجز بغير اذنه، فان أذن له المولى جاز قولا واحدا للخير، ولان الحاجة تدعو إليه بخلاف الهبة
(فصل)
ولا يتسرى بجارية من غير إذن المولى، لانه ربما أحبلها فتلفت بالولادة، فان أذن له المولى وقلنا إن العبد يملك ففيه طريقان، من أصحابنا من قال على قولين كالهبة، ومنهم من قال يجوز قولا واحدا، لانه ربما دعت الحاجة إليه فجاز كالنكاح، فان أولدها فالولد ابنه ومملوكه لانه ولد جاريته وتلزمه نفقته لانه مملوكه بخلاف ولد الحرة ولا يعتق عليه لنقصان ملكه، فان أدى المال عتق معه لانه كمل ملكه وان رق رق معه
(فصل)
ويجب على المولى الايتاء، وهو أن يضع عنه جزأ من المال أو يدفع إليه جزء من المال، لقوله عز وجل " آتوهم من مال الله الذى آتاكم " وعن عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ في هذه الآية: يحط عنه ربع الكتابة، والوضع أولى من الدفع، لانه يتحقق الانتفاع به في الكتابة.
واختلف أصحابنا في القدر الواجب، فمنهم من قال ما يقع عليه الاسم من قليل وكثير، وهو المذهب، لان اسم الايتاء يقع عليه وقال أبو إسحاق: يختلف باختلاف قلة المال وكثرته، فان اختلفا قدره الحاكم باجتهاده كما قلنا في المتعة، فان اختار الدفع جاز بعد العقد للآية، وفي وقت الوجوب وجهان، أحدهما يجب بعد العتق كما تجب المتعة بعد الطلاق، والثانى أنه يجب قبل العتق لانه ايتاء وجب للمكاتب فوجب قبل العتق كالايتاء في الزكاة، ولا يجوز الدفع من غير جنس مال الكتابة لقوله تعالى " وآتوهم من مال الله الذى آتاكم " فان دفع إليه من جنسه من غير ما أداه إليه فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ فِي الزكاة أن يدفع من غير المال الذى وجب فيه(16/28)
الزكاة
(والثانى)
لا يجوز وهو الصحيح للآية، وان سبق المكاتب وأدى المال لزم المولى أن يدفع إليه لانه مال وجب للآدمي فلم يسقط من غير أداء ولا ابراء
كسائر الديون.
وان مات المولى وعليه دين خاص المكاتب أصحاب الديون.
ومن أصحابنا من قال يحاص أصحاب الوصايا لانه دين ضعيف غير مقدر فسوى بينه وبين الوصايا، والصحيح هو الاول لانه دين واجب فحاص به الغرماء كسائر الديون وبالله التوفيق.
(باب الاداء والعجز) ولا يعتق المكاتب ولا شئ منه وقد بقى عليه شئ من المال، لما روى عمرو ابن شعيب رضى الله عنه عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: المكاتب عبد ما بقى عليه من كتابته درهم.
ولانه علق عتقه على دفع مال فلا يعتق شئ منه مع بقاء جزء منه، كما لو قال لعبده: ان دفعت إلى ألفا فأنت حر، فان كاتب رجلان عبدا بينهما ثم أعتق أحدهما نصيبه أو أبرأه مما عليه من مال الكتابة عتق نصيبه لانه برئ من جميع ماله عليه فعتق، كما لو كاتب عبدا فأبرأه، فان كان المعتق موسرا فقد قال أصحابنا يقوم عليه نصيب شريكه كما لو أعتق شركا له في عبد، وعندي أنه يجب أن يكون على قولين
(أحدهما)
يقوم عليه
(والثانى)
لا يقوم، كما قلنا في شريكين دبرا عبدا ثم أعتق أحدهما نصيبه أنه على قولين
(أحدهما)
يقوم
(والثانى)
لا يقوم، فإذا قلنا انه يقوم عليه ففى وقت التقويم قولان
(أحدهما)
يقوم في الحال، كما نقول فيمن أعتق شركا له في عبده
(والثانى)
يؤخر التقويم إلى أن يعجز، لانه قد ثبت للشريك حق العتق والولاء في نصيبه فلا يجوز ابطاله عليه وان كاتب عنده ومات وخلف اثنين فأبرأه أحدهما عن حصته عتق نصيبه لانه أبرأه من جميع ماله عليه، فان كان الذى أبرأه موسرا فهل يقوم عليه نصيب شريكه، فيه قولان
(أحدهما)
لا يقوم لان سبب العتق وجد من الاب ولهذا يثبت الولاء له(16/29)
(والثانى)
يقوم عليه وهو الصحيح لان العتق تعجل بفعله، فعلى هذا هل يتعجل التقويم والسراية، فيه قولان
(أحدهما)
يتعجل لانه عتق يوجب السراية فتعجلت به، كما لو أعتق شركا له في عبد
(والثانى)
يؤخر إلى أن يعجز، لان حق الاب في عتقه وولائه أسبق فلم يجز إبطاله.
وإن كاتب رجلان عبدا بما يجوز وأذن أحدهما للآخر في تعجيل حق شريكه من المال وقلنا إنه يصح الاذن عتق نصيبه، وهل يقوم عليه نصيب شريكه، فيه قولان
(أحدهما)
لا يقوم لتقدم سببه الذى اشركا فيه
(والثانى)
يقوم لانه عتق نصيبه بسبب منه ومتى يقوم؟ فيه قولان
(أحدهما)
يقوم في الحال لانه تعجل عتقه
(والثانى)
يؤخر إلى أن يعجز لانه قد ثبت لشريكه عقد يستحق به العتق والولاء فلم يجز أن يقوم عليه ذلك، فعلى هذا إن أدى عتق باقيه، وإن عجز قوم على المعتق.
وإن مات قبل الاداء والعجز مات ونصفه حر ونصفه مكاتب
(فصل)
وإن حل عليه نجم وعجز عن أداء المال جاز للمولى أن يفسخ العقد لانه اسقط حقه بعوض، فإذا تعذر العوض ووجد عين ماله جاز له أن يفسخ ويرجع إلى عين ماله، كما لو باع سلعة فأفلس المشترى بالثمن ووجد البائع عين ماله، وإن كان معه ما يؤديه فامتنع من أدائه جاز له الفسخ لان تعذر العوض بالامتناع كتعذره بالعجز لانه لا يمكن إجباره على أدائه، وإن عجز عن بعضه أو امتنع من أداء بعضه جاز له أن يفسخ لانا بينا أن العتق في الكتابة لا يتبعض فكان تعذر البعض كتعذر الجميع، ويجوز الفسخ من غير حاكم لانه مجمع عليه فلم يفتقر إلى الحاكم كفسخ البيع بالعيب.
(فصل)
وإن حل عليه نجم ومعه متاع فاستنطر لبيع المتاع وجب إنظاره لا نه قادر على أخذ المال من غير إضرار ولا يلزمه أن ينظر أكثر من ثلاثة أيام لان الثلاثة قليل فلا ضرر عليه في الانتظار وما زاد كثير وفي الانتظار اضرار، وان طلب الانظار لمال غائب، فإن كان على مال غائب، فان كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة وجب انظاره لانه قريب لا ضرر في انظاره، وان كان على مسافة تقصر فيها الصلاة لم يجب لآنه طويل وفي الانتظار اضرار.(16/30)
وان طلب الانظار لاقتضاء دين فان كان حالا على ملئ وجب انظاره لانه كالعين في يد المودع ولهذا تجب فيه الزكاة، وان كان مؤجلا أو على معسر لم يجب الانظار لان عليه أضرارا في الانظار، فان حل عليه المال وهو غائب ففيه وجهان: أحدهما له أن يفسخ لانه تعذر المال فجاز له الفسخ.
والثانى ليس له أن يفسخ، بل يرجع إلى الحاكم ليكتب إلى حاكم البلد الذى فيه المكاتب ليطالبه، فان عجز أو امتنع فسخ لانه لا يتعذر الاداء الا بذلك فلا يفسخ قبله.
وان حل عليه النجم وهو مجنون، فان كان معه مال يسلم إلى المولى عتق لانه قبض ما يستحقه فبرئت به ذمته، وان لم يكن معه شئ فعجزه المولى وفسخ ثم ظهر له مال نقض الحكم بالفسخ لانا حكمنا بالعجز في الظاهر وقد بان خلافه فنقض، كما لو حكم الحاكم ثم وجد النص بخلافه وان كان قد أنفق عليه بعد الفسخ رجع بما أنفق لانه لم يتبرع بل أنفق على أنه عبده، فان أفاق بعد الفسخ وأقام البينة أنه كان قد أدى المال نقض الحكم بالفسخ ولا يرجع المولى بما أنفق عليه بعد الفسخ، لانه تبرع، لانه أنفق وهو يعلم أنه حر.
وان حل النجم فأحضر المال وادعى السيد أنه حرام ولم تكن له بينة فالقول
قول المكاتب مع يمينه لانه في يده والظاهر أنه له، فان حلف خير المولى بين أن يأخذه وبين أن يبرئه منه، فإن لم يفعل قبض عنه السلطان لانه حق يدخله النيابة فإذا امتنع منه قام السلطان مقامه
(فصل)
وان قبض المال وعتق ثم وجد به عيبا فله أن يرد ويطالب بالبدل، فان رضى به استقر العتق لانه برئت ذمة العبد.
وان رده ارتفع العتق لانه يستقر باستقرار الاداء وقد ارتفع الاداء بالرد فارتفع العتق.
وان وجد به العيب وقد حدث به عنده عيب ثبت له الارش، فان دفع الارش استقر العتق وان لم يدفع ارتفع العتق لانه لم يتم براءة الذمة من المال(16/31)
وان كاتبه على خدمة شهر ودينار ثم مرض بطلت الكتابة في قدر الخدمة، وفي الباقي طريقان
(أحدهما)
أنه على قولين
(والثانى)
أنه يبطل قولا واحدا بناء على الطريقين فيمن ابتاع عينين ثم تلفت احداهما قبل القبض.
(فصل)
فإن أدى المال وعتق ثم خرج المال مستحقا بطل الحكم بعتقه لان العتق يقع بالاداء، وقد بان أنه لم يؤد، وإن كان الاستحقاق بعد موت المكاتب كان ما ترك للمولى دون الورثة لانا قد حكمنا بأنه مات رقيقا.
(فصل)
فان باع المولى ما في ذمة المكاتب، وقلنا انه لا يصح فقبضه المشترى فقد قال في موضع يعتق، وقال في موضع لا يعتق، واختلف أصحابنا فيه، فقال أبو العباس فيه قولان.
(أحدهما)
يعتق لانه قبضه بإذنه فأشبه إذا دفعه إلى وكيله.
(والثانى)
وهو الصحيح أنه لا يعتق لانه لم يقبضه للمولى وإنما قبضه لنفسه ولم يصح قبضه لنفسه لانه لم يستحقه فصار كما لو لم يؤخذ، وقال أبو إسحاق: هي على اختلاف حالين فالذي قال يعتق إذا أمره المكاتب بالدفع إليه لانه قبضه بإذنه
والذى قال لا يعتق إذا لم يأمره بالدفع إليه لانه لم يأخذه بإذنه وإنما أخذه بما تضمنه البيع من الاذن والبيع باطل فبطل ما تضمنه.
(فصل)
إذا اجتماع على المكاتب دين الكتابة ودين المعاملة وأرش الجناية وضاق ما في يده عن الجميع قدم دين المعاملة لانه يختص بما في يده والسيد والمجني عليه يرجعان إلى الرقبة، فان فضل عن الدين شئ قدم حق المجني عليه لان حقه يقدم على حق المالك في العبد القن فكذلك في المكاتب، وان لم يكن له شئ فأراد صاحب الدين تعجيزه لم يكن له ذلك لان حقه في الذمة فلا فائدة في تعجيزه بل تركه على الكتابة أنفع له لانه ربما كسب ما يعطيه وإذا عجزه بقى حقه في الذمة إلى أن يعتق فان أراد المولى أو المجني عليه تعجيزه كان له ذلك لان المولى يرجع بالتعجيز إلى رقبته، والمجني عليه يبيعه في الجناية، فان عجزه المولى انفسخت الكتابة وسقط دينه وهو بالخيار بين أن يسلمه للبيع في الجناية وبين أن يفديه(16/32)
فان عجزه المجني عليه نظرت، فإن كان الارش يحيط بالثمن بيع وقضى حقه، وان كان دون الثمن بيع منه ما يقضى منه الارش وبقى الباقي على الكتابة، وان أدى كتابة باقية عتق وهل يقوم الباقي عليه ان كان موسرا فيه وجهان.
أحدهما لا يقوم لانه وجد سبب العتق قبل التبعيض.
والثانى: يقوم عليه لان اختياره للانظار كابتداء العتق.
(باب الكتابة الفاسدة) إذا كاتب على عوض محرم أو شرط باطل فللسيد أن يرجع فيها لانه دخل على أن يسلم له ما شرط ولم يسلم فثبت له الرجوع وله أن يفسخ بنفسه لانه مجمع عليه، وان مات المولى أو جن أو حجر عليه بطل العقد لانه غير لازم من جهته فبطل بهذه الاشياء كالعقود الجائزة، فإن مات العبد بطل لانه لا يلحقه العتق
بعد الموت، وان جن لم تبطل لانه لازم من جهة العبد فلم تبطل بجنونه كالعتق المعلق على دخول الدار.
(فصل)
وان أدى ما كاتبه عليه قبل الفسخ عتق لان الكتابة تشتمل على معاوضه وهو قوله كاتبتك على كذا وعلى صفه، وهو قوله فإذا أديت فأنت حر فإذا بطلت المعاوضة بقيت الصفة فعتق بها، وان أداه إلى غير من كاتبه لم يعتق لانه لم توجد الصفه، فإذا عتق تبعه ما فضل في يده من الكسب، وان كانت جارية تبعها الولد لانه جعل كالكناية الصحيحة في العتق فكانت كالصحيحة في الكسب والولد.
(فصل)
ويرجع السيد عليه بقيمته لانه أزال ملكه عنه بشرط ولم يسلم له الشرط وتعذر الرجوع إليه فرجع ببدله كما لو باع سلعة بشرط فاسد فتلفت في يد المشترى ويرجع العبد على المولى بما أداه إليه لانه دفعه عما عليه فإذا لم يقع عما عليه ثبت له الرجوع، فان كان ما دفع من جنس القيمة وعلى صفتها كالاثمان وغيرها من ذوات الامثال ففيه أربعة أقوال.
(أحدها) انها يتقاصان فسقط أحدهما بالآخر لانه لا فائدة في أخذه ورده(16/33)
(والثانى)
انه ان رضى أحدهما تقاصا، وإن لم يرض واحد منهما لم يتقاصا لانه إذا رضى أحدهما فقد اختار الراضي منهما قضاء ما عليه بالذى له على الآخر ومن عليه حق يجوز أن يقضيه من أي جهة شاء.
(والثالث) انهما ان تراضيا تقاصا، وان لم يتراضيا لم يتقاصا لانه إسقاط حق بحق فلم يجز إلا بالتراضى كالحوالة.
(والرابع) انهما لا يتقاصان بحال لانه بيع دين بدين، وان أخذ من سهم الرقاب في الزكاة، فان لم يكن فيه وفاء استرجع منه، وان كان فيه وفاء فقد قال
في الام: يسترجع ولا يعتق لانه بالفساد خرج عن أن يكون من الرقاب، ومن أصحابنا من قال: لا يسترجع لانه كالكتابة الصحيحة في العتق والكسب.
(فصل)
فإن كاتب عبدا صغيرا أو مجنونا فأدى ما كاتبه عليه عتق بوجود الصفة وهل يكون حكمها حكم الكتابة الفاسدة مع البالغ في ملك ما فضل في يده من الكسب وفي التراجع، فِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: انه لا يملك ما فضل ف ي يده من الكسب ولا يثبت التراجع وهو رواية المزني في المجنون لانه العقد مع الصبى ليس بعقد ولهذا لو ابتاع شيئا وقبضه وتلف في يده لم يلزمه الضمان بخلاف البالغ، فان عقده عقد يقتضى الضمان، ولهذا لو اشترى شيئا ببيع فاسد وتلف عنده لزمه الضمان
(والثانى)
وهو قول أبى العباس أنه يملك ما فضل من الكسب ويثبت بينهما التراجع، وهو رواية الربيع في المجنون لانه كتابة فاسدة فأشبهت كتابة البالغ بشرط فاسد.
(فصل)
وإن كاتب بعض عبده، وقلنا انه لا يصح فلم يفسخ حتى أدى المال عتق لوجود الصفة وتراجعا وسرى العتق إلى باقيه لانه عتق بسبب منه، فان كاتب شركا له في عبد من غير إذن شريكه نظرت، فإن جمع كسبه ودفع نصفه إلى الشريك ونصفه إلى الذى كاتبه عتق لوجود الصفة فان جمع الكسب كله وأداه ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يعتق لان الاداء يقتضى أداء ما يملك التصرف فيه وما أداه من مال الشريك لا يملك التصرف فيه.(16/34)
(والثانى)
يعتق لان الصفة قد وجدت، فإن كاتبه بإذن شريكه، فان قلنا: انه باطل فالحكم فيه كالحكم فيه إذا كاتبه بغير اذنه، وان قلنا: انه صحيح ودفع
نصف الكسب إلى الشريك ونصفه إلى الذى كاتبه عتق، فان جمع الكسب كله ودفعه إلى الذى كاتبه فقد قال بعض أصحابنا فيه وجهان كالقسم قبله، والمذهب انه لا يعتق لان الكتابة صحيحة والمغلب فيها حكم المعاوضة، فإذا دفع فيها ما لا يملكه صار كما لو لم يؤد بخلاف القسم قبله فانها كتابة فاسدة والمغلب فيها الصفه وإذا حكمنا بالعتق في هذه المسائل في نصيبه، فان كان المعتق موسرا سرى إلى نصيب الشريك وقوم عليه لانه عتق بسبب منه، ولا يلزم العبد ضمان السراية لانه لم يلتزم ضمان ما سرى إليه.
(فصل)
وان كاتب عبيدا على مال واحد، وقلنا ان الكتابة صحيحة فأدى بعضهم عتق لانه برئ مما عليه، وان قلنا: ان الكتابة فاسدة فأدى بعضهم، فالمنصوص انه يعتق لان الكتابة الفاسدة محمولة على الكتابة الصحيحة في الاحكام فكلذلك في العتق بالاداء.
ومن أصحابنا من قال: لا يعتق، وهو الاظهر لان العتق في الكتابة الفاسدة بالصفة وذلك لم يوجد باداء بعضهم.
(باب اختلاف المولى والمكاتب) إذا اختلفا فقال السيد: كاتبتك وأنا مغلوب على عقلي أو محجور على فأنكر العبد، فان كان قد عرف له جنون أو حجر فالقول قوله مع يمينه لان الاصل بقاؤه على الجنون أو الحجر، وان لم يعرف له ذلك فالقول قول العبد، لان الظاهر عدم الجنون والحجر.
وان اختلفا في قدر المال أو في نجومه تحالفا قياسا على المتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن أو في الاجل، فان كان ذلك قبل العتق فهل تنفسخ بنفس التحالف أو يفتقر إلى الفسخ فيه وجهان كما ذكرناه في المتبايعين وان كان التحالف بعد العتق لم يرتفع العتق ويرجع المولى بقيمته ويرجع المكاتب بالفصل كما نقول في البيع الفاسد.
(فصل)
وان وضع شيئا عنه من مال الكتابة، ثم اختلفا فقال السيد:(16/35)
وضعت النجم الاخير، وقال المكاتب بل الاول فالقول قول السيد، وان كاتبه على ألف درهم فوضع عنه خمسين دينارا لم يصح لانه أبرأه مما لا يملكه، فان قال أردت ألف درهم بقيمة خمسين دينارا صح، وان اختلفا فيما عنى فادعى المكاتب أنه عنى ألف درهم بقيمة خمسين دينارا وأنكر السيد ذلك فالقول قول السيد لان الظاهر معه ولانه أعرف بما عنى، وان أدى المكاتب ما عليه فقال له المولى أنت حر، وخرج المال مستحقا فادعى العبدان عتقه بقوله: أنت حر، وقال المولى: أردت أنك حر بما أديت، وقد بان أنه مستحق فالقول قول السيد لانه يحتمل الوجهين وهو أعرف بقصده، وان قال السيد استوفيت أو قال العبد أليس أوفيتك فقال بلى، فادعى المكاتب انه وفاه الجميع، وقال المولى: بل وفانى البعض فالقول قول السيد لان الاستيفاء لا يقتضى الجميع.
(فصل)
وان كان المكاتب جارية وأتت بولد فاختلفا في ولدها، وقلنا ان الولد يتبعها، فقالت الجارية ولدته بعد الكتابة فهو موقوف معى، وقال المولى بل ولدته قبل الكتابة فهو لى فالقول قول السيد لان هذا اختلاف في وقت العقد والسيد يقول العقد بعد الولادة والمكاتبة تقول قبل الولادة، والاصل عدم العقد، وان كاتب عبدا ثم زوجه أمة له ثم اشترى المكاتب زوجته وأتت بولد فقال السيد: أتت به قبل الشراء فهو لى، وقال العبد: بل أتت به بعد ما اشتريتها فهو لى فالقول قول العبد لان هذا الاختلاف في الملك، والظاهر مع العبد لانه في يده بخلاف المسألة قبلها، فان هناك لم يختلفا في الملك، وإنما اختلفا في وقت العقد.
(فصل)
وإن كاتب عبدين فأقر انه استوفى ما على أحدهما أو أبرأ أحدهما، واختلف العبدان فادعى كل واحد منهما انه هو الذى استوفى منه أو أبرأه رجع
إلى المولى، فان أخبر أنه أحدهما قبل منه لانه أعرف بمن استوفى منه أو أبرأه، فان طلب الآخر يمينه حلف له، وان ادعى المولى أنه أشكل عليه لم يقرع بينهما لانه قد يتذكر، فان ادعيا أنه يعلم حلف لكل واحد منهما وبقيا على الكتابة، ومن أصحابنا من قال: ترد الدعوى عليهما، فان حلفا أو نكلا بقيا(16/36)
على الكتابة، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عتق الحالف وبقى الاخر على الكتابة.
وإن مات المولى قبل أن يعين ففيه قولان.
أحدهما يقرع بينهما لان الحرية تعينت لاحدهما ولا يمكن التعيين بغير القرعة فوجب تمييزها بالقرعة، كما لو قال لعبدين أحدكما حر، والثانى أنه لا يقرع لان الحرية تعينت في أحدهما فإذا أقرع لم يؤمن أن تخرج القرعة على غيره، فعلى هذا يرجع إلى الوارث، فان قال لا أعلم حلف لكل واحد منهما وبقيا على الكتابة على ما ذكرناه في المولى.
(فصل)
وإن كاتب ثلاثة أعبد في عقود أو في عقد على مائه وقلنا إنه يصح وقيمة أحدهم مائة وقيمة كل واحد من الاخرين خمسون فأدوا مالا من أيديهم ثم اختلفوا، فقال من كثرت قيمته النصف لى ولكل واحد منكما الربع.
وقال الآخران بل المال بيننا أثلاثا ويبقى عليك تمام النصف ويفضل لكل واحد منا ما زاد على الربع فقد قال في موضع القول قول من كثرت قيمته.
وقال في موضع القول قول من قلت قيمته، فمن أصحابنا من قال هي على قولين.
أحدهما أن القول قول من قلت قيمته وان المؤدى بينهم أثلاثا، لان يد كل واحد منهم على ثلث المال.
والثانى أن القول قول من كثرت قيمته لان الظاهر معه، فان العادة أن الانسان لا يؤدى أكثر مما عليه.
ومنهم من قال هي على اختلاف حالين، فالذي قال القول قول من كثرت قيمته إذا وقع العتق بالاداء لان الظاهر أنه لا يؤدي أكثر مما عليه.
والذى قال
ان القول قول من قلت قيمته إذا لم يقع العتق بالاداء فيؤدى من قلت قيمته أكثر مما عليه ليكون الفاضل له من النجم الثاني.
والدليل عليه انه قال في الام: إذا كاتبهم على مائة فأدوا ستين، فإذا قلنا انه بينهم على العدد أثلاثا فأراد العبدان أن يرجعا بما فضل لهما لم يجز لان الظاهر أنهما تطوعا بالتعجيل فلا يرجعان به ويحتسب لهما من النجم الثاني.
(فصل)
وان كاتب رجلان عبدا بينهما فادعى المكاتب أنه أدعى اليهما مال الكتابة فأقر أحدهما وأنكر الاخر عتق حصة المقر والقول قول المنكر مع يمينه فإذا حلف بقيت حصته على الكتابة فله أن يطالب المقر بنصف ما أقر بقبضه(16/37)
وهو الربع لحصول حقه في يده ويطالب المكاتب بالباقي، وله أن يطالب المكاتب بالجميع وهو النصف، فإن قبض حقه منهما أو من أحدهما عتق المكاتب، وليس لاحد من المقر والمكاتب أن يرجع على صاحبه بما أخذه منه لان كل واحد منهما يدعى أن الذى ظلمه هو المنكر فلا يرجع على غيره وإن وجد المكاتب عاجزا فعجزه أحدهما رق نصفه.
قال الشافعي رحمه الله: ولا يقوم على المقر، لان التقويم لحق العبد وهو يقول أنا حر مسترق ظلما فلا يقوم ولا تقبل شهادة المصدق على المكذب لانه يدفع بها ضررا من استرجاع نصف ما في يده، فإن ادعى المكاتب انه دفع جميع المال إلى أحدهما ليأخذ منه النصف ويدفع إلى شريكه النصف نظرت فإن قال المدعى عليه دفعت إلى كل واحد منا النصف وأنكره الاخر عتق حصة المدعى عليه بإقراره وبقيت حصة المنكر على الكتابة من غير يمين، لانه لا يدعى عليه واحد منهما تسليم المال إليه، وله أن يطالب المكاتب بجميع حقه، وله أن يطالب المقر بنصفه والمكاتب بنصفه ولا يرجع واحد منهما بما يؤخد منه على الاخر لان
كل واحد منهما يدعى أن الذى ظلمه هو المنكر فلا يرجع على غيره، فإن استوفى المنكر حقه منهما أو من المكاتب عتقت حصته وصار المكاتب حرا.
وان عجز المكاتب فاسترقه فقد قال الشافعي رحمه الله إنه يقوم على المقر، ووجهه انه عتق نصيبه بسبب من جهته.
وقال في المسألة قبلها لا يقوم، فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الاخرى فجعلهما على قولين، ومنهم من قال يقوم ههنا ولا يقوم في المسألة قبلها على ما نص عليه، لان في المسألة قبلها يقول المكاتب أنا حر فلا أستحق التقويم على أحد، وههنا يقول صفى مملوك فأستحق التقويم وإن قال المدعى عليه قبضت المال وسلمت نصفه إلى شريكي وأمسكت النصف لنفسي وأنكر الشريك القبض عتق حصة المدعى عليه والقول قول المنكر مع يمينه لان المقر يدعى التسليم إليه، فإذا حلف بقيت حصته على الكتابة وله أن يطالب المكاتب بجميع حقه بالعقد، وله أن يطالب المقر بإقراره بالقبض فان رجع على المقر لم يرجع المقر على المكاتب لانه يقول إن شريكي ظلمنى.
وان رجع على المكاتب رجع المكاتب على المقر صدقه على الدفع أو كذبه لانه فرط(16/38)
في ترك الاشهاد فإن حصل للمنكر ماله من أحدهما عتق المكاتب، وإن عجز المكاتب عن أداء حصة المنكر كان للمنكر أن يستقرق نصيبه، فإذا رق قوم على المقر لانه عتق بسبب كانه منه وهو الكتابة ويرجع المنكر على المقر بنصف ما أقر بقبضه، لانه بالتعجيز استحق نصف كسبه، وإن حصل المال من جهة المكاتب عتق باقيه ورجع المكاتب على المقر ما أقر بقبضه لانه كسبه.
(كتاب عتق أمهات الاولاد) إذا علقت الامة بولد حر في ملك الواطئ صارت أم ولد له فلا يملك بيعها ولا هبتها ولا الوصية بها لما ذكرناه في البيوع، فان مات السيد عتقت لما روى
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: من ولدت منه أمته فهى حرة من بعد موته وتعتق من رأس المال، لانه إتلاف حصل بالاستمتاع فاعتبر من رأس المال كالاتلاف بأكل الطيب ولبس الناعم، وإن علقت بولد مملوك في غير ملك من زوج أو زنا لم تصر أم ولد له لان حرمة الاستيلاد إنما تثبت للام بحرية الولد.
والدليل عليه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرت له مارية القبطية فقال أعتقها ولدها، والولد ههنا مملوك فلا يجوز أن تعتق الام بسببه، وإن علقت بولد حر بشبهة من غير ملك لم تصر أم ولد في الحال، فإذا ملكها ففيه قولان.
(أحدهما)
لا تصير أم ولد لانها علقت منه في غير ملكه فأشبه إذا علقت منه في نكاح فاسد أو زنا.
(والثانى)
إنها تصير أم ولد لانها علقت منه بحر، فأشبه إذا علقت منه في ملكه، وان علقت بولد مملوك في ملك ناقص وهى جارية المكاتب إذا علت من مولاها ففيه قولان
(أحدهما)
أنها لا تصير أم ولد لانها علقت منه بمملوك
(والثانى)
انها تصير أم ولد لانه قد ثبت لهذا الولد حق الحريه، ولهذا لا يجوز بيعه فثبت هذا الحق لامه
(فصل)
وإن وطئ أمته فأسقطت جنينا ميتا كان حكمه حكم الولد الحى في الاستيلاد لانه ولد.
وإن أسقطت جزءا من الادمى كالعين والظفر أو مضغة(16/39)
فشهد أربع نسوة من أهل المعرفة والعدالة انه تخطط وتصور ثبت له حكم الولد لانه قد علم انه ولد، وان ألقت مضغه لم تتصور ولم تتخطط وشهد أربع من أهل العدالة والمعرفة انه مبتدأ خلق الادمى، ولو بقى لكان آدميا، فقد قال ههنا ما يدل على أنها لا تصير أم ولد، وقال في العدد تنقضي به العدة، فمن أصحابنا من
نقل جواب كل واحدة منهما إلى الاخرى وجعلها على قولين، أحدهما لا يثبت له حكم الولد في الاستيلاد ولا في انقضاء العدة لانه ليس بولد، والثانى يثبت له حكم الولد في الجميع لانه خلق بشر فأشبه إذا تخطط، ومنهم من قال: لا يثبت له حكم الولد في الاستيلاد وتنقضي به العدة، لان حرمة الاستيلاد تتعلق بوجود الولد، ولم يوجد الولد، والعدة تراد لبراءة الرحم، وبراءة الرحم تحصل بذلك.
(فصل)
ويملك استخدام أم الولد وإجارتها ويملك وطأها لانها باقية على ملكه، وانما ثبت لها حق الحرية بعد الموت، وهذه التصرفات لا تمنع العتق فبقيت على ملكه، وهل يملك تزويجها؟ فيه ثلاثة أقوال (أحدها) يملك لانه يملك رقبتها ومنفعتها فملك تزويجها كالامة القنة
(والثانى)
يملك تزويجها برضاها ولا يملك من غير رضاها لانها تستحق الحرية بسبب لا يملك المولى ابطاله فملك تزويجها برضاها ولا ملك بغير رضاها كالمكاتبة (والثالث) لا يملك تزويجها بحال لانها ناقصة في نفسها وولاية المولى عليها ناقصة فلم يملك تزويجها كالاخ في تزويج أخته الصغيرة، فعلى هذا هل يجوز للحاكم تزويجها باذنهما، فيه وجهان
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه لا يملك لانه قائم مقامهما ويعقد باذنهما، فإذا لم يملك العقد باجتماعهما لم يملك مع من قوم مقامهما
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى انه يملك تزويجها لانه يملك بالحكم مالا يملك بالولاية وهو تزويج الكافرة.
(فصل)
وإن أتت أم الولد بولد من نكاح أو زنا تبعها في حقها من العتق بموت السيد لان الاستيلاد كالعتق المنجز ثم الولد يتبع الام في العتق فكذلك في(16/40)
الاستيلاد، فإن ماتت الام قبل موت السيد لم يبطل الحكم في ولدها لانه حق استقر له في حياة الام فلم يسقط بموتها.
(فصل)
وإن جنت أم الولد لزم المولى أن يفيدها لانه منع من بيعها بالاحبال ولم يبلغ بها إلى حال يتعلق الارش بذمتها فلزمه ضمنا جنايتها كالعبد القن إذا جنى وامتنع المولى من بيعه ويفديها بأقل الامرين من قيمتها أو أرش الجناية قولا واحدا، لان في العبد القن إنما فداه بأرش الجناية بالغا ما بلغ في أحد القولين، لانه يمكن بيعه فربما رغب فيه من يشتريه بأكثر من قيمته وأم الولد لا يمكن بيعها فلا يلزمه أن يفديها بأكثر من قيمتها.
وإن جنت ففداها بجميع القيمة ثم جنت ففيه قولان
(أحدهما)
يلزمه أن يفديها لانه إنما لزمه أن يفديها في الجناية الاولى لانه منع من بيعها ولم يبلغ بها حالة يتعلق الارش بذمتها.
وهذا موجود في الجناية الثانية فوجب أن تفدى كالعبد القن إذا جنى وامتنع من بيعه ثم جنى وامتنع من بيعه والقول الثاني وهو الصحيح إنه لا يلزمه أن يفديها بل يقسم القيمة التى فدى بها الجناية الاولى بين الجنايتين على قدر أرشهما، لانه بالاحبال صار كالمتلف لرقبتها فلم يضمن أكثر من قيمتها، وتخالف العبد القن فإنه فاده لانه امتنع من بيعه والامتناع يتكرر فتكرر الفداء، وههنا لزمه الفداء للاتلاف بالاحبال.
وذلك لا يتكرر فلم يتكرر الفداء وإن جنت ففداها ببعض قيمتها ثم جنت، فإن بقى من قدر قيمتها ما يفدى به الجناية الثانية لزمه أن يفديها، وإن بقى ما يفدى به بعض الجناية الثانية فعلى القولين، وإن قلنا يلزمه أن يفدى الجناية الثانية لزمه أن يفديها.
وان قلنا يشارك الثاني الاول في القيمة ضمن ما بقى من قيمتها إلى ما فدى به الجناية الاولى ثم يقسم الجميع بين الجنايتين على قدر أرشهما.
(فصل)
وإن أسلمت أم ولد نصراني تركت على يد أمرأة ثقة وأخذ المولى بنفقتها إلى
أن تموت فتعتق، لانه لا يمكن بيعها لما فيه من إبطال حقها من العتق المستحق(16/41)
بالاستيلاد ولا يمكن إعتاقها لما فيه من إبطال حق المولى، ولا يمكن إقرارها في يده لما فيه من الصغار على الاسلام فلم يبق إلا ما ذكرناه.
وإن كاتب كافر عبدا كافرا ثم أسلم العبد بقى على الكتابة لانه أسلم في حال لا يمكن مطالبة المالك ببيعه أو اعتاقه وهو خارج عن يده وتصرفه فبقى على حالته، فإن عجز ورق أمر ببيعه.
باب الولاء
إذا عتق الحر مملوكا ثبت له عليه الولاء لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اشتريت بريرة واشترط أهلها ولاءها، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتق فانما الولاء لمن أعتق وإن عتق عليه بتدبير أو كتابة أو استيلاد أو قرابة، أو أعتق عنه غيره ثبت له عليه الولاء لانه عتق عليه فثبت له الولاء، كما لو باشر عتقه.
وإن باع الرجل عبده من نفسه ففيه وجهان:
(أحدهما)
إنه يثبت له عليه الولاء، لانه لم يثبت عليه رق غيره
(والثانى)
لا ولاء عليه لاحد، لانه لم يعتق عليه في ملكه ولا يملك العبد الولاء على نفسه فلم يكن عليه ولاء
(فصل)
وإن أعتق المكاتب عبدا بإذن المولى وصححنا عتقه ففى ولائه قولان: أحدهما أنه للسيد لان العتق لا ينفك من الولاء والمكاتب ليس من أهله فوجب أن يكون للسيد.
(والثانى)
انه موقوف فإن عتق فهو له فان عجز فهو للسيد لان المعتق هو المكاتب فوقف الولاء عليه، فان مات العبد المعتق قبل عجز المكاتب أو عتقه
ففى ماله قولان:
(أحدهما)
أنه موقوف على ما يكون من أمر المكاتب كالولاء
(والثانى)
إنه للسيد لان الولاء يجوز أن ينتقل فجاز أن يقف والارث لا يجوز أن ينتقل فلم يجز أن يقف.(16/42)
(فصل)
وإن أعتق مسلم نصرانيا أو أعتق نصراني مسلما ثبت له الولاء، لان الولاء كالنسب، والنسب يثبت مع اختلاف الدين فكذلك الولاء، وان أعتق المسلم نصرانيا فلحق بدار الحرب فسبى لم يجز استرقاقه لان عليه ولاء المسلم فلا يجوز إبطاله وان أعتق ذمى عبده فلحق بدار الحرب وسبى ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز أن يسترق لانه لا يلزمنا حفظ ماله فلم يجز إبطال ولائه بالاسترقاق كالمسلم.
(والثانى)
يجوز لان معتقه لو لحق بدار الحرب جاز استرقاقه فكذلك عتيقه وإن أعتق حربى عبدا حربيا ثبت له عليه الولاء، فإن سبى العبد المعتق أو سبى مولاه واسترق بطل ولاؤه لانه لا حرمة له في نفسه ولا ماله، وان أعتق ذمى عبدا ثم لحق بدار الحرب فملكه عبده وأعتقه صار كل واحد منهما مولى للآخر لان كل واحد منهما أعتق الآخر.
(فصل)
وان اشترك اثنان في عتق عبد اشتركا في الولاء لاشتراكهما في العتق، وإن كاتب رجل عبدا ومات وخلف اثنين فأعتق أحدهما نصيبه أو أبراه مما له عليه، فإن قلنا: لا يقوم عليه فأدى ما عليه للآخر كان ولاؤه للاثنين لانه عتق بالكتابة على الاب، وقد ثبت له الولاء فانتقل اليهما، وان عجز عما عليه للآخر فرق نصيبه ففى ولاء النصف المعتق وجهان.
(أحدهما)
انه بينهما لانه عتق بحكم الكتابة فثبت الولاء للاب وانتقل اليهما
(والثانى)
أنه للمعتق خاصة لانه هو الذى أعتقه ووقف الاخر عن العتق، وان قلنا انه يقوم في الحال فقوم عليه ثبت الولاء للمقوم عليه في المقوم لان بالتقويم انفسخت الكتابة فيه وعتق عليه، وأما النصف الآخر فانه عتق بالكتابة وفى ولائه وجهان
(أحدهما)
أنه بينهما
(والثانى)
أنه للمعتق خاصة، وان قلنا يؤخر التقويم، فإن أدى عتق بالكتابة وكان الولاء لهما، وان عجز ورق قوم على المعتق وثبت له الولاء على النصف المقوم لانه عتق عليه، والنصف الاخر عتق بالكتابة وفى ولائه وجهان.
(فصل)
ولا يثبت الولاء لغير المعتق، فإن أسلم رجل على يد رجل(16/43)
أو التقط لقيطا لم يثبت له عليه الولاء لحديث عائشة رضى الله عنها، فانما الولاء لمن أعتق، وإنما في اللغة موضوع لاثبات المذكور ونفى ما عداه فدل على اثبات الولاء للمعتق ونفيه عمن عداه ولان الولاء ثبت بالشرع ولم يرد الشرع في الولاء الا لمن أعتق وهذا المعنى لا يوجد في غيره فلا يلحق به.
(فصل)
ولا يجوز بيع الولاء ولا هبته لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بيع الولاء وعن هبته ولان الولاء كالنسب وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الولاء لحمة كلحمة النسب والنسب لا يصح بيعه وهبته فكذلك الولاء، وان أعتق عبدا سائبة على ان لا ولاء عليه عتق وثبت له الولاء لقوله عز وجل (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ ولا وصيلة ولا حام) ولان هذا في معنى الهبة وقد بينا أنه لا يصح هبته.
(فصل)
وإن مات العبد المعتق وله مال ولا وارث له ورثه المولى لما روى يونس عن الحسن أن رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقال: اشتريته وأعتقته فقال هو مولاك ان شكرك فهو خير له، وان كفرك فهو شر له وخير
لك فقال فما أمر ميراثه فقال: ان ترك عصبة فالعصبة أحق وإلا فالولاء، وان كان له عصبة لم يرث للخبر ولان الولاء فرع للنسب فلا يورث به مع وجوده، وإن كان له من يرث الفرض، فان كان ممن يستغرق المال بالفرض لم يرثه لانه إذا لم ترث العصبات مع من يستغرق المال بالفرض فلان لا يرث المولى أولى، وان كان ممن لا يستغرق المال ورث ما فضل عن أهل الفرض، لما روى عبد الله ابن شداد قال: أعتقت ابنة حمزة مولى لها فمات وترك ابنته وابنة حمزة فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة النصف وابنته النصف.
(فصل)
وإن مات العبد والمولى ميت كان الولاء لعصبات المولى دون سائر الورثة، لان الولاء كالنسب لما ذكرناه من الخبر، والنسب إلى العصبات دون غيرهم ويقدم الاقرب فالاقرب، لما روى سعيد بن المسيب رحمة الله عَلَيْهِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: المولى أخ في الدين ونعمة يرثه أولى الناس بالمعتق ولان في عصبات الميت يقدم الاقرب فالاقرب وكذلك في عصبات المولى(16/44)
فإن كان للمولى ابن وابنة كان الميراث للابن دون البنت لانا بينا أنه لا يرث الولاء غير العصبات والبنت ليست من العصبات ولان الولاء كالنسب ثم المرأة لا ترث بالقرابة من الميت إذا تباعد نسبها منه وهى بنت الاخ العمه فلان لا ترث بنت المولى وهو مؤخر عن النسب أولى، وإن كان له أب وابن أو أب وابن ابن فالميراث للابن لان تعصيب الابن أقوى لانه يسقط تعصيب الاب، فان لم يكن بنون فالولاء للاب دون الجد والاخ لانه أقرب منهما، وان ترك جدا وأخا، ففيه قولان.
(أحدهما)
انهما يشتركان كما يشتركان في ارث النسب.
(والثانى)
بقدم الاخ لان تعصيبه كتعصيب الابن وتعصيب الجد كتعصيب
الاب، وإنما لم قدم في ارث النسب للاجمع وليس في الولاء إجماع فوجب ان يقدم فان ترك جدا وابن أخ فهو على القولين، ان قلنا ان الجد والاخ يشتركان قدم الجد، وإن قلنا: ان الاخ يقدم قدم ابنه، وان ترك أبا الجد والعم، فعلى القولين، ان قلنا ان الجد والاخ يشتركان قدم أبو الجد، وان قلنا ان الاخ يقدم قدم العم، وان اجتمع الاخ من الاب والام والاخ من الاب قدم الاخ من الاب والام كما يقدم في الارث بالنسب.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
يقدم لما قلناه.
(والثانى)
انهما سواء لان الام لا ترث بالولاء فلا يرجح بها من يدلى بها فان لم يكن للمولى عصبة وله مولى فالولاء لمولاه لان المولى كالعصبة، فان لم يكن له مولى فلعصبة مولاه، فان لم يكن له مولى ولا عصبة مولى، وهناك مولى لعصبة المولى نظرت، فإن كان مولى أخيه أو مولى ولده لم يرث، لان انعامه على أخيه لا يتعدى إليه، وإن كان مولى أبيه أو جده ورث، لان انعامه عليه انعامه على نسله.
(فصل)
فان أعتق عبدا ثم مات وخلف اثنين ثم مات أحدهما وترك ابنا ثم مات العبد وله مال ورثه الكبر من عصبة المولى وهو الابن دون ابن الابن(16/45)
لما روى الشعبى قال: قضى عمر وعلي وزيد رضى الله عنهم ان الولاء للكبر ولان الولاء يورث به ولا يورث.
والدليل عليه ما رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث، فإذا ثبت أنه لا يورث ثبت أنه انما يورث بما ثبت للمولى من الولاء فوجب أن يكون للكبر لانه أقرب
إلى المولى، وان مات المولى وخلف ثلاثة بنين ثم مات أحدهم وخلف ابنا ومات الثاني وخلف أربعة ومات الثالث وخلف خمسة ثم مات العبد المعتق كان ماله بين العشرة بالسوية لتساويهم في القرب، ولو ظهر للمولى مال كان بينهم اثلاثا لابن الابن الثلث وللاربعة الثلث وللخمسة الثلث، لان المال انتقل إلى أولاده اثلاثا ثم انتقل ما ورث كل واحد منهم إلى أولاده والولاء لم ينتقل إلى أولاده، وإنما ورثوا مال العبد لقربهم من المولى الذى ثبت له الولاء وهم في القرب منه سواء فتساووا في الميراث.
(فصل)
إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لرجل فأتت منه بولد ثبت المولى الام الولاء على الولد لانه عتق باعتقا الام فكان ولاؤه لمولاها، فان أعتق بعد ذلك مولى العبد عبده انجر ولاء الولد من موالى الام إلى موالى العبد.
والدليل عليه ما روى هشام بن عروة عن أبيه قال: مر الزبير بموال لرافع ابن خديج فأعجبوه فقال لمن هؤلاء، فقالوا هؤلاء موال لرافع بن خديج أمهم لرافع بن خديج وأبوهم عبد لفلان فاشترى الزبير أباهم فأعتقه ثم قال أنتم موالى فاختصم الزبير ورافع إلى عثمان رضى الله عنه فقضى عثمان للزبير.
قال هشام: فلما كان معاوية خاصمونا فيهم أيضا فقضى لنا معاوية، ولان الولاء فرع للنسب والنسب معتبر بالارث، وإنما ثبت لمولى الام لعدم الولاء من جهة الاب كولد الملاعنة نسب إلى الام لعدم النسب من جهة الاب، فإذا ثبت الولاء على الاب عاد الولاء إلى موضعه كولد الملاعنة إذا اعترف به الزوج وان أعتق جد الولد دون الاب ففى ولائه ثلاثة أوجه.(16/46)
(أحدها) ينجر الولاء إلى معتقه لانه كالاب في الانتساب إليه والولاية، فكان كالاب في جز الولاء إلى معتقه.
(والثانى)
لا ينجر، لان بينه وبين الولد الاب فلا ينجر الولاء إلى معتقه كالاخ (والثالث) ان كان الاب حيا لم ينجر الولاء إلى معتقه، وان كان ميتا انجر لان مع موته ليس غيره أحق ومع حياته من هو أحق، فإن قلنا: انه ينجر الولاء إلى معتقه فانجر ثم أعتق الاب انجر من مولى الجد إلى مولى الاب لانه أقوى من الجد في النسب وأحكامه.
(فصل)
وان تزوج عبد رجل بأمة آخر فأتت منه بولد ثم أعتق السيد الامة وولدها ثبت له عليها الولاء، فان أعتق العبد بعد ذلك لم ينجر ولاء الولد إلى مولى العبد والفرضيون يعبرون عن علة ذلك أنه ولد مسه الرق ثم ناله العتق والعلة في ذلك ان المعتق أنعم على الولد بالعتق فكان أحق بولائه ممن أنعم على أبيه وتخالف ما قبلها، فان أحدهما أنعم على الام،، والاخر أنعم على الاب فقدم المنعم على الاب لان النسب إليه والولاء فرع للنسب، وههنا أحدهما أنعم على الولد نفسه والآخر أنعم على أبيه فقدم المنعم عليه على المنعم على أبيه، وان تزوج عبد لرجل بجارية آخر فحبلت منه ثم أعتقت الجارية وهى حامل ثبت الولاء على الجارية وحملها، فان أعتق العبد بعد ذلك لم ينجر الولاء إلى مولاه لما ذكرناه من العلة، وان تزوج حر لا ولاء عليه بمعتقة رجل فأتت منه بولد لم يثبت عليه الولاء لمولى الام لان الاستدامة في الاصول أقوى من الابتداء ثم ابتداء الحرية في الاب تسقط استدامه الولاء لمولى الام فلان تمنع استدامة الحرية في الاب ابتداء الولاء لمولى الام أولى، وان تزوج عبد لرجل بمعتقة لاخر وأولدها ولدا ثبت الولاء على الولد لموالى الام، فان اشترى الولد اباه عتق عليه وثبت له الولاء عليه وهل ينجر ولاء نفسه بعتق الاب فيه وجهان.
أحدهما: لا ينجر، لانه لا يملك ولاء نفسه، فعلى هذا يكون ولاؤه باقيا لموالى الام.
والثانى: أنه ينجر ولاء نفسه بعتق أبيه ولا يملكه على نفسه ولكن يزبل به الولاء
عن نفسه ويصير حرا لا ولاء عليه لان عتق الاب يزيل الولاء عن معتق الام.(16/47)
(فصل)
إذا مات رجل وخلف اثنين وعبدا فادعى العبد أن المولى كاتبه فصدقه أحدهما وكذبه الآخر، فأدى إلى المصدق كتابته عتق نصفه، وفى ولائه وجهان:
(أحدهما)
أن الولاء بينهما لانه عتق بسبب كان من أبيهما فكان الولاء بينهما
(والثانى)
أن الولاء للمصدق لان المكذب أسقط حقه بالتكذيب فصار كما لو حلف أحد الاخوين على دين لابيهما فأخذ نصفه فإن الآخر لا يشارك في نصفه وإن تزوج المكاتب بحرة فأولدها، فإن كان على الحرة ولاء لمعتق كان له ولاء الولد، فإن عتق الاب بالاداء جر ولاء ولده من معتق الام إلى معتقه، فإن اختلف مولاه ومولى الام، فقال مولى المكاتب قد عتق المكاتب بالاداء وجر إلى ولاء الولد.
وقال مولى الام لم يعتق وولاء الولد لى نظرت فإن كان المكاتب حيا عتق بإقرار سيده وانجر الولاء إلى معتقه ولا يمين عليه ولا على السيد، وإن كان قد مات واختلف السيد ومولى الام، فإن كان للسيد المكاتب بينة شاهدان، أو شاهد وامرأتان، أو شاهد ويمين قضى له لانها بينة على المال وإن لم تكن له بينة فالقول قول مولى الام مع يمينه لانا تيقنا رق المكاتب وثبوت الولاء لمعتق الام فلا ينتقل عنه من غير بينة وبالله التوفيق(16/48)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الفرائض
الفرائض باب من أبواب العلم وتعلمها فرض من فروض الدين، والدليل عليه ما رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإنى امرؤ مقبوض، وان العلم سيقبض، وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدا من يفصل بينهما)
(فصل)
وإذا مات الميت بدئ من ماله بكفنه ومؤنة تجهيزه، لما روى حباب بن الارت قال: قتل مصعب ابن عمير رضى الله عنه يوم أحد وليس له الا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجله، وإذا غطينا رجله خرج رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله من الاذخر ولان الميراث انما انتقل إلى الورثة لانه استغنى عنه الميت وفضل عن حاجته، والكفن ومؤنة التجهيز لا يستغنى عنه فقدم على الارث، ويعتبر ذلك من رأس المال لانه حق واجب فاعتبر من رأس المال كالدين
(فصل)
ثم يقضى دينه لقوله عز وجل من بعد وصية يوصى بها أو دين ولان الدين تستغرقه حاجته فقدم على الارث، وهل ينتقل ماله إلى الورثة قبل قضاء الدين، اختلف أصحابنا فيه: فذهب أبو سعيد الاصطخرى رحمه الله إلى أنه لا ينتقل بل هو باق على ملكه إلى أن يقضى دينه، فإن حدثت منه فوائد ككسب العبد وولد الامة ونتاج البهيمة تعلق بها حق الغرماء، لانه لو بيع كانت العهدة على الميت دون الورثة، فدل على أنه باق على ملكه.
وذهب سائر أصحابنا إلى أنه ينتقل إلى الورثة، فان حدثت منها فوائد لم يتعلق با حق الغرماء، وهو المذهب، لانه لو كان باقيا على ملك الميت لوجب أن يرثه من أسلم أو أعتق من أقاربه قبل قضاء الدين ولوجب أن لا يرثه من مات من الورثة قبل قضاء الدين.
وان كان الدين أكثر من قيمة التركة فقال الوارث أنا أفكها بقيمتها وطالب(16/49)
الغرماء ببيعها ففيه وجهان بناء القولين فيما يفدى به للولى جناية العبد، أحدهما
لا يجب بيعها، لان الظاهر أنها لا تشترى بأكثر من قيمتها، وقد بذل الوارث قيمتها فوجب أن تقبل.
والثانى: يجب بيعها، لانه قد يرغب فيها من يزيد على القيمة فوجب بيعها.
(فصل)
ثم تنفذ وصاياه لقوله عز وجل من بعد وصية بوصى بها أو دين ولان الثلث بقى على حكم ملكه ليصرفه في حاجاته فقدم على المراث كالدين.
(الشرح) حديث عبد الله بن مسعود ذكره أحمد في رواية إبنه عبد الله بسنده إلى الاحوص عن عبد الله ولفظه (تعلموا القرآن وعلموه الناس، وتعلموا الفرائض وعلموها، فإنى امرؤ مقبوض، والعلم مرفوع، ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة والمسألة فلا يجدان أحدا يخبرهما) وقد أخرجه أيضا النسائي والحاكم والدارمى والدارقطني من رواية عوف عن سليمان بن جابر عنه، وفيه انقطاع بين عوف وسليمان.
ورواه النضر بن شميل وشريك وغيرهما متصلا.
وأخرجه الطبراني في الاوسط وفى إسناده محمد بن عقبة السدوسى وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم، وفيه أيضا سعيد بن أبى بن كعب، وقد ذكره ابن حبان في الثقات.
وقد أخرجه أيضا أبو يعلى والبزار وفى إسنادهما من لا يعرف، وقد أخرج نحوه الطبراني في الاوسط عن أبى بكر والترمذي عن أبى هريرة وحديث خباب رواه الشيخان وأحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه وله طرق عن جابر وأنس وعبد الرحمن بن عوف والفرائض جمع فريضة كحدائق جمع حديقه، وهى فعيله بمعنى مفعولة مأخوذة من الفرض وهو القطع، يقال فرضت لفلان كذا، أي قطعت له شيئا من المال.
وقيل هي من فرض القوس، وهو الحز الذى في طرفه حيث يوضع
الوتر ليثبت فيه ويلزمه ولا يزول كذا قاله الخطابى وقبل الثاني خاص بفرائض الله تعالى وهى ما ألزم به عباده لمناسبة اللزوم لما كان الوتر يلزم محله من القوس.(16/50)
وقد روى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه (تعلموا الفرائض وعلموها، فإنها نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شئ ينزع من أمتى) رواه ابن ماجه والدارقطني والحاكم.
وروى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذا لهوتم فالهو بالرمي، وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض، ورواه سعيد بن منصور عن جرير عن عاصم الاحول عن مورق العجلى عن عمر بن الخطاب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: تعلموا الفرائض واللحن والسنة كما تعلمون القرآن.
وروى أحمد في مسنده وغيره عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ إمرأة سعد بن الربيع جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلا ولهما مال، قال: فنزلت آية الميراث فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عمهما فقال: أعط إمرأة سعد الثمن وابنتي سعد الثلثين وما بقى فهو لك) .
وقال علقمة: إذا أردت أن تعلم الفرائض فأمت جيرانك.
إذ ثبت هذا: فإن التوارث في الجاهلية كان بالحلف والنصرة، فكان الرجل يقول للرجل: تنصرنى وأنصرك وترثني وأرثك وتعقل عنى وأعقل عنك، وربما تحالفوا على ذلك، فإذا كان لاحدهما ولد كان الحليف كأحد أولاد حليفه، إن لم يكن له ولد فإن جميع المال للحليف، فجاء الاسلام الناس على هذا، فأقرهم الله تعالى على صدر الاسلام بقوله: والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم.
وروى أن أبا بكر رضى الله عنه حالف رجلا فمات فورثه أبو بكر ثم نسخ ذلك وجعل التوراث بالاسلام والهجرة، فكان الرجل إذا أسلم وهاجر معه من مناسبيه دون لم يهاجر معه من مناسبيه، مثل أن يكون له أخ وابن مسلمان فهاجر معه الاخ دون الابن فيرثه أخوه دون ابنه، والدليل عليه قوله تعالى (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين(16/51)
آووا ونصروا، أولئك بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) ثم نسخ ذلك ربنا عز وجل بالميراث بالرحم بقوله تبارك اسمه (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) وفسر المعروف بالوصية، وقال تعالى: للرجال نصيب مما ترك الولدان والاقربون، فذكر أن لهم نصيبا في هذه الآية، ولم يبين قدره، ثم بين قدر ما يستحقه كل وارث في ثلاثة مواضع من كتابه على ما نذكره في مواضعه ان شاء الله.
وإذا تقرر هذا فان الميت إذا مات أخرج من ماله كفنه وحنوطه ومؤنة تجهيزة من رأسماله مقدما على دينه ووصيته، موسرا كان أو معسرا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم.
وقال الزهري: ان كان موسرا حسب ذلك من رأس المال، وان كان معسرا احتسب من ثلثه.
وقال خلاس بن عمرو: يحتسب من ثلثه بكل حال.
دليلنا ما روى خباب في الحديث الذى ساقه المصنف ولم يسل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثلث ماله، وروى أن الرجل الذى قضى وهو محرم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما، ولم يعتبر الثلث، ولان الميراث انما نقل إلى الورثة لاستغناء الميت عنه، وهذا غير ما استقر من كفنه ومؤنة
تجهيزه، فقدم على الارث ثم يقضى دينه ان كان عليه دين ثم تخرج وصاياه لقوله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) وأجمعت الامة على أن الدين مقدم على الوصية، وهل ينتقل ماله إلى ورثته قبل قضاء الدين؟ اختلف أصحابنا فيه فذهب أكثرهم إلى أنه ينتقل إليهم قبل قضاء الدين.
وقال أبو سعيد الاصطخرى: لا ينتقل إليهم حتى يقضى الدين، هكذا ذكر الشيخان أبو حامد الاسفرايينى وأبو إسحاق المروزى عن أبى سعيد من غير تفصيل، وأما بن الصباغ فحكى عنه: ان كان الدين لا يحيط بالتركة لم يمنع الدين من انتقال المال إلى الورثة الا بقدره، واحتج بأنه لو بيع شئ من ماله بعد موته لكانت العهدة على الميت دون الورثة، فدل على بقاء ملكه.(16/52)
فعلى هذا إذا حدث من المال فوائد أو نماء قبل الدين كان ذلك ملكا للميت فيقضى منه دينه، وينفذ منه وصاياه.
وقال أبو حنيفة: ان كان الدين يحيط بالتركة منع انتقال الملك إلى الورثة وان كان الدين لا يحيط بالتركة لم يمنع الملك إلى الورثة بحال، لقوله تعالى (ولكم نصف ما ترك أزواجكم الآية) ولم يفرق، ولانه لا خلاف أن رجلا مات وخلف ابنين وعليه دين فمات أحدهما قبل قضاء الدين، وخلف ابنا ثم أبرأ من له الدين الميت عن الدين، فإن تركة من عليه الدين تقسم بين الابن وابن الابن، فلو كان الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة لكانت التركة للابن وحده، فعلى هذا لو حل من التركة فوائد قبل قضاء الدين فإنها للورثة، لا يتعلق بها حق الغرماء ولا الوصية، وان كان الدين: أكثر من التركة: فقال الوارث أنا أدفع قيمة التركة من مالى ولا تباع التركة، وطلب الغرماء بيعها، فهل يجب بيعها؟ فيه وجهان بناء على العبد الجاني إذا بذل سيده قيمته وطلب
المجني عليه بيعه: وكان الارش أكثر من قيمته، فهل يجب بيعه؟ فيه وجهان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ثم تقسم التركة بين الورثة والاسباب التى يتوارث بها الورثة المعينون ثلاثة: رحم، ولاء، ونكاح، لان الشرع ورد بالارث بها، وأما المؤاخاة في الدين والموالاة في النصرة والارث فلا يورث بها، لان هذا كان في ابتداء الاسلام ثم نسخ بقوله عز وجل (وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) .
(فصل)
والوارثون من الرجال عشرة الابن وابن الابن وان سفل، والاب والجد أبو الأب وان علا، والاخ وابن الاخ والعم وابن العم والزوج ومولى النعمة، والوارثات من النساء سبع: البنت وبنت الابن والام والجدة والاخت والزوجة ومولاة النعمة: لان الشرع ورد بتوريثهم على ما نذكره ان شاء الله تعالى.(16/53)
فأما ذوو الارحام وهم الذين لا فرض لهم ولا تعصيب فانهم لا يرثون، وهم عشرة: ولد البنات وولد الاخوات وبنات الاخوة وبنات الاعمام وولد الاخوة من الام والعم من الام والعمة والخال والخالة والجد أبو الأم ومن يدلى بهم.
والدليل عليه ما رَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ الله تعالى أعطى كل ذى حق حقه، ولا وصية لوارث) فأخبر أنه أعطى كل ذى حق حقه، فدل على أن كل من لم يعطه شيئا فلا حق له: ولان بنت الاخ لا ترث مع أخيها فلم ترث كبنت المولى، ولا يرث العبد المعتق من مولاه لما ذكرناه من حديث أبى أمامة، ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أعتق)
(الشرح) حديث أبى امامة الاول مضى تخريجه والكلام عليه في كتاب الوصايا، وأما الحديث الثاني (الولاء لمن أعتق) فهو من حديث عائشة عند أحمد والبخاري ومسلم ولفظه (أن بريرة جاءت تستعينها في كتابها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فان أحبوا أن أقضى عنك كتابتك ويكون ولاؤك لى فعلت، فذكرت بريرة ذلك لاهلها فأبوا وقالوا إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون لنا ولاؤك، فذكرت ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابتاعى فأعتقي، فانما الولاء لمن أعتق، ثم قام فقال: ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرطه مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق) أما الاحكام فانه يصرف مال اليتيم بعد قضاء الدين وإخراج وصيته إلى ورثته.
والارث ضربان: عام وخاص، فأما العام فهو أن يموت رجل من المسلمين ولا وارث له خاص، فان ماله ينتقل إلى المسلمين ارثا بالتعصيب، يستوى فيه الذكر والانثى، وهل يدخل فيه العامل؟ فيه وجهان وأما الارث الخاص فيكون بأحد أمرين بسبب أو نسب، فأما السبب فينقسم قسمين ولاء ونكاح، فأما الولاء فقد مضى بيانه، وأما النكاح فهو ارث أحد(16/54)
الزوجين من الآخر على ما يأتي بيانه.
وأما النسب فهم الوارثون من القرابة من الرجال والنساء، فالرجال المجمع على توريثهم خمسة عشر، منهم أحد عشر لا يرثون الا بالتعصيب.
وهم الابن وابن الابن وان سفل والاخ للاب والام، والاخ للاب، وابن الاخ للاب والام، وابن الاخ للاب، والعم للاب والام والعم للاب، وابن العم للاب، والمولى المنعم.
فكل هؤلاء لا يرث واحد منهم
فرضا وانما يرث تعصيبا، الا الاخ للاب والام فانه يرث بالفرض في التركة على ما نذكره.
واثنان من الرجال الوارثين تارة بالفرض وتارة بالتعصيب، وهما الاب والجد أبو الأب وان علا.
واثنان لا يرثان الا بالفرض لا غير، وهما الاخ للام والزوج.
وأما النساء المجمع على توريثهن فعشر: وهى الابنة وابنة الابن وان سفلت والام والجدة أم الاب والاخت للاب والاخت للام والزوجة والموالاة المنعمة فأربع منهن يرثن تارة بالفرض وتارة بالتعصيب، وهن الابنة، وابنة الابن، والاخت للاب والام والاخت للاب، والاخت للام، والزوجة.
واحدة منهن لا ترث الا بالتعصيب وهى المولاة المنعمة والورثة من الرجال والنساء ينقسمون ثلاثة أقسام: قسم يدلى بنفسه، وقسم يدلى بغيره، وقسم يدلى بنفسه وقد يدلى بغيره.
فأما القسم الذى يدلى بنفسه فهم ستة.
الاب والام والابن والابنة والزوج والزوجة وهؤلاء لا يحجبون بحال.
وأما القسم الذى يدلى بغيره فهو من عدا من ذكر من القرابات وقد يحجبون.
وأما القسم الذى يدلى بنفسه مرة وبغيره أخرى فهو من يرث بالولاء، وقد يحجب أيضا، وقد ورد الشرع بتوريث جميع ما ذكرنا على ما يأتي بيانه.
وأما ذوو الارحام، وهم ولد البنات وولد الاخوات، وبنات الاخوة وولد الاخوة للام، والخال والخالة، والعمة والعم للام وبنات الاعمام وكل أحد بينه وبين الميت أم، ومن يدلى بها ولاء.
فاختلف أهل العلم في توريثهم على ثلاثة مذاهب، فذهب الشافعي رضى الله عنه إلى أنهم لا يرثون بحال.
وبه قال في الصحابة زيد بن ثابت وابن عمر وهى احدى الروايتين عن عمر، ومن الفقهاء الزهري ومالك الاوزاعي واهل الشام وأبو ثور(16/55)
وذهبت طائفة إلى أنهم يرثون ويقدمون على الموالى والرد، ذهب إليه من الصحابة على بن أبي طالب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وهو الصحيح عن عمر، وذهب النووي وأبو حنيفة إلى أن ذوى الارحام يرثون، ولكن يقدم عليهم المولى والرد، فإن كان له مولى منعم ورث، وإن لم يكن له منعم وهناك من له فرض كالابنة والاخت كان الباقي لصاحب الفرض بالرد، وإن لم يكن هناك أحد من أهل الفروض ورث ذوو الارحام، وبه قال بعض أصحابنا إن لم يكن هناك إمام عادل، وهى إحدى الروايتين عن علي كرم الله وجهه إلا أنها رواية شاذة، ولا سند لابي حنيفة في مذهبه غير هذه الرواية الشاذة.
دليلنا ما روى أبو أمامة الباهلى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إن الله تعالى قد أعطى لكل ذى حق حقه الحديث، فظاهر النص يقتضى انه لا حق في الميراث لمن لم يعطه الله شيئا، وجميع ذوى الارحام لم يعطهم الله في كتابه شيئا فثبت أنه لا ميراث.
وروى أبو سلمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن ميراث العمة والخالة فقال: لا أدري حتى يأتي جبريل، ثم قال: أين السائل عن ميراث العمه والخالة؟ أتاني جبريل فسارني أن لا ميراث لهما.
وروى عطاء بن يسار عَنْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كان يأتي قباء على حمار أو حمارة يستخير الله في ميراث العمة والخالة، فأنزل الله عز وجل (أن لا ميراث لهما، ولان كل من لم ترث مع من هو أبعد لم يرث إذا انفرد كابنة المولى، لان ابنة المولى لما لم ترث مع ابن المولى، وهو أبعد منها لم ترث أيضا إذا انفردت كذلك، ولهذا لم ترث مع ابن العم وهو أبعد منها، ولم ترث أيضا إذا انفردت، ولان ابنة الاخ لما لم ترث مع أختها لم ترث إذا انفردت كابنة المولى وعكسه الابنة والاخت فانهما لما ورثتا مع أخيهما ورثتا إذا انفردتا.
(فرع)
مولى الموالاة لا يرث عندنا وهو أن يقول رجل لآخر: واليتك على أن ترثى وأرثك وتنصرني وأنصرك وتعقل عني وأعقل عنك ولا يتعلق بهذه الموالاة عندنا حكم ارث ولا عقل وغيره، وبه قال زيد بن ثابت ومن التابعين(16/56)
الحسن البصري والشعبي ومن الفقهاء الاوزاعي ومالك، وذهب النخعي إلى أن هذا العقد يلزم بكل حال ويتعلق به التوارث والعقل ولا يكون لاحدهما فسخه بحال، وقال أبو حنيفة مولى الموالاة يرث ولكنه يؤخر عن المناسبين والموالاة وهى عقد جائز لكل واحد منهما فسخه ما لم يعقل أحدهما عن الاخر، فإذا عقل لزمه ذلك ولم يكن له سبيل إلى فسخه.
دليلنا حديث بريرة (الولاء لمن أعتق) فجعل حسن الولاء للعتق فلم يبق ولاء يثبت لغيره لان كل سبب لم يورث به مع وجود النسب لم يورث به مع فقده كما لو أسلم رجل على يد رجل، ولان عقد الموالاة لو كان سببا يورث به لم يجز فسخه وابطاله كالنسب والولاء.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يرث المسلم من الكافر ولا الكافر من المسلم أصليا كان أو مرتدا لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ويرث الذمي من الذمي) وان اختلفت أديانهم كاليهودي من النصراني والنصراني من المجوسي، لانه حقن دمهم بسبب واحد فورث بعضهم من بعض كالمسلمين، ولا يرث الحربي من الذمي ولا الذمي من الحرب، لان الموالاة انقطعت بينهما فلم يرث أحدهما من الاخر كالمسلم والكافر.
(فصل)
ولا يرث الحر من العبد، لان ما معه من المال لا يملكه في أحد
القولين، وفى الثاني: يملكه ملكا ضعيفا، ولهذا لو باعه رجع إلى مالكه فكذلك إذا مات ولا يرث العبد من الحر لانه لا يورث بحال فلم يرث كالمرتد، ومن نصفه حر ونصفه عبد لا يرث، وقال المزني: يرث بقدر ما فيه من الحرية ويحجب بقدر ما فيه من الرق، والدليل على أنه لا يرث أنه ناقص بالرق في النكاح والطلاق والولاية، فلم يرث كالعبد، وهل يورث منه ما جمعه بالحرية؟ فيه قولان: قال في الجديد: يرثه ورثته، لانه مال ملكه بالحرية فورث عنه كمال الحر.
وقال في القديم: لا يورث لانه إذا لم يرث بحريته لم يورث بها، وما الذي(16/57)
يصنع بماله.
قال الشافعي رضى الله عنه: يكون لسيده وقال أبو سعيد الاصطخري: يكون لبيت المال، لانه لا يجوز أن يكون لسيده لانه جمعه بالحرية فلا يجوز أن يورث لرقه، فجعل لبيت المال ليصرف في المصالح كمال لا مالك له.
(فصل)
ومن أسلم أو أعتق على ميراث لم يقسم لم يرث لانه لم يكن وارثا عند الموت فلم يرث، كما لو أسلم أو أعتق بعد القسمة.
وإن دبر رجل أخاه فعنق بموته لم يرثه، لانه صار حرا بعد الموت، وإن قال له أنت حر في آخر جزء من أجزاء حياتي المتصل بالموت، ثم مات عتق من ثلثه، وهل يرثه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يرثه لان العتق في المرض وصية، والارث والوصية لا يجتمعان (والثاني) يرثه ولا يكون عتقه وصية، لان الوصية ملك بموت الموصي، وهذا لم يملك نفسه بموته.
وإن قال في مرضه: إن مت بعد شهر فأنت اليوم حر، فمات بعد شهر عتق يوم تلفظ، وهل يرثه؟ على الوجهين (الشرح) حديث أسامة رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وفي رواية عند الشيخين قال (يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة؟
قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، ولم يرث جعفر ولا على شيئا، لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ) الاحكام: لا يرث الكافر من المسلم بلا خلاف، وأما المسلم فلا يرث الكافر عندنا، وبه قال علي وزيد بن ثابت وهو قول الفقهاء كافة.
وقال معاذ ومعاوية: يرث المسلم من الكافر، دليلنا حديث أسامة بن زيد وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يتوارث أهل ملتين شيئا، والاسلام والكفر ملتان شتى فوجب أن لا يتوارثا ويرث الكافر من الكافر إذا اجتمعا في الذمة أو فالحرب، فيرث اليهودي من النصراني والعكس وكذا المجوسي إذا جمعتهم الذمة أو كانوا حربا لنا.
فأما أهل الحرب وأهل الذمة فإنهم لا يتوارثون، وإن كانوا من اليهود أو(16/58)
النصارى.
وبه قال من الصحابة عمر وعلي وزيد بن ثابت.
ومن الفقهاء مالك والثوري وأبو حنيفة.
هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: الذمي هل يرث الحربي؟ فيه قولان، أحدهما يرثه، لان ملتهما واحدة، والثاني: لا يرثه لان حكمنا لا يجري على الحربي.
هذا مذهبنا.
وذهب الزهري والاوزاعي وأبن أبى ليلى وأحمد وإسحاق إلى أن اليهودي لا يرث من النصراني وكذلك العكس وإن جمعتهم الملة، وإنما يرث النصراني من النصراني واليهودي من اليهودي، كما يرث أهل الحرب بعضهم بعضا إذا تحاكموا إلينا، وإن اختلفت دارهما وكان بعضهم يرى قتل بعض، وحكم من دخل الينا بأمان أو تجارة أو رسالة حكم أهل الذمة ويرث بعضهم من بعض ومتى كانت امرأة الكافر ذات رحم منه من نسب أو رضاع لم يتوارثا بالنكاح، وإن كانت غير ذات رحم محرم منه لو اسلما أقرا على
نكاحهما وتوارثا بالنكاح، وإن عقدا بغير ولي ولا شهود (فرع)
قال الشافعي: وميراث المرتد لبيت المال.
قال العمراني: وجملة ذلك أن العلماء اختلفوا في الارث بعد موته على أربعة مذاهب، فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن ماله لا يورث بل يكون فيئا لبيت المال.
سواء في ذلك ما اكتسبه في حال إسلامه أو في حال ردته، وسواء قلنا إن ملكه يزول أو لا يزول أو موقوف.
وبهذا قال ابن عباس وهى إحدى الروايتين عن علي وبه قال الاوزاعي وأبو يوسف ومحمد، وذهب قتادة وعمر بن عبد العزيز إلى أن ماله يكون لاهل الذمة التي انتقل إليها، فإن انتقل إلى اليهود كان ماله لهم.
وإن انتقل إلى النصارى كان ماله لهم.
وقال أبو حنيفة والثوري: ما اكتسبه قبل الردة ورث عنه، وما اكتسبه بعد الردة يكون فيئا.
ودليلنا حديث اسامة في الفصل، والمرتد كافر، ولانه لا يرث بحال فلم يورث كالكافر، والجواب على أبي حنيفة هو أن من لم يرث المسلم ما اكتسبه في حالة إباحة دمه لم يرث ما اكتسبه في حال حقن دمه كالذمي إذا لحق بدار الحرب.
إذا ثبت هذا فهل يخمس مال المرتد؟ فيه قولان يأتيان.
(فرع)
إذا مات العبد وفي يده مال لم يرثه قرابته الاحرار، لان من الناس(16/59)
من يقول: انه لا يملك المال، ومنهم من قال انه يملكه إذا ملكه السيد، وهذا ملك ضعيف يزول بزوال ملك سيده وأما من نصفه حر ومن نصفه عبد فهو على وجهه ما أورده المصنف أما إذا مات مسلم حر وخلف أولادا أحرارا مسلمين وأولادا مملوكين ورثه الاولاد المسلمون الاحرار، فإن أسلم الكفار أو أعتق العبيد بعد قسمة الميراث لم يشاركوا في الارث بلا خلاف، وإن أسلموا أو عتقوا بعد موت أبيهم وقبل
قسمة تركته لم يشاركوا في الميراث عندنا، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال أكثر أهل العلم: إذا اسلموا أو عتقوا بعد موت أبيهم وقبل قسمة تركته لم يشاركوا في الميراث عندنا وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال عمر وعثمان رضى الله عنهما: إذا أسلموا أو عتقوا قبل القمسة شاركوا في الارث.
دليلنا أن كل من لم يرث حال الموت لم يرث بعد ذلك، كما لو أسلم أو أعتق بعد القسمه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلف أصحابنا فيمن قتل مورثه فمنهم من قال: ان كان القتل مضمونا لم يرثه لانه قتل بغير حق وان لم يكن مضمونا ورثه لانه قتل بحق فلا يحرم به الارث.
ومنهم من قال: ان كان متهما كالمخطئ أو كان حاكما فقتله في الزنا بالبينه لم يرثه لانه متهم في قتله لاستعجال الميراث، وان كان غير متهم بأن قتله بإقراره بالزنا ورثه لانه غير متهم لاستعجال الميراث.
ومنهم من قال لا يرث القاتل بحال، وهو الصحيح لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لا يرث القاتل شيئا) ولان القاتل حرم الارث حتى لا يجعل ذريعة إلى استعجال الميراث فوجب أن يحرم بكل حال لحسم الباب (الشرح) حديث ابن عباس رواه الدارقطني وفى اسناده كثير من مسلم وهو ضعيف، وعند البيهقى حديث آخر بلفظ: من قتل قتيلا فانه لا يرثه.
وان لم يكن له وارث غيره.
وفى اسناده عمرو بن برق وهو ضعيف، وعن أبى هريرة عند الترمذي وابن ماجه (القاتل لا يرث) وفى اسناده إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ تركه أحمد وغيره وأخرجه النسائي في السنن الكبرى وقال: اسحاق متروك(16/60)
ورواه أبو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (لا يرث القاتل شيئا) وأخرجه النسائي وأعله، الدارقطني وقواه ابن عبد البر.
ورواه مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي عن عمر: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ (ليس لقاتل ميراث) وفى سنده انقطاع.
وقال البيهقي: ورواه محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مرفوعا، قال الحافظ بن حجر: وكذا أخرجه النسائي من وجه آخر عن عمر وقال: انه خطأ وأخرجه ابن ماجه والدارقطني من وجه آخر عن عمر أيضا أما الاحكام: فقد قال الشافعي رضى الله عنه: والقاتلون عمدا أو خطأ لا يرثون، وجملة ذلك أن العلماء اختلفوا في ميراث القاتل من المقتول، فذهب الشافعي إلى أن القاتل لا يرث المقتول لا من ماله ولا من ديته، سواء قتله عمدا أو خطأ أو مباشرة أو بسبب مصلحه.
كسقي الدواء أو ربط الجرح أو لغير مصلحه متهما كان أو غير متهم، وسواء كان القاتل صغيرا أو كبيرا، عاقلا أو مجنونا، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وعمر بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل.
وقال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا: إذا كان القاتل غير متهم بأن كان حاكما فجاء مورثه فأقر عنده بقتل رجل عمدا وطلب وليه القود، فمكنه الحاكم من قتله، أو اعترف عندنا بالزنا وهو محصن فرجمه أو أعترف بقتل الحرابة فقتل فإنه يرثه لانه غير متهم في قتله.
ومن أصحابنا من قال: إن كان القتل مضمونا لم يرث القاتل لانه قتل بغير حق، وإن كان غير مضمون بأن قتله قصاصا أو في الزنا أو كان باغيا فقتله العادل وما أشبه ذلك ورث، لانه قتل بحق فلا يمنع الارث.
وقال عطاء وابن المسيب ومالك والاوزاعي ان كان القتل عمدا لم يرث القاتل لا من ماله ولا من ديته.
وإن كان القتل خطأ ورث ماله ولم يرث من ديته.
وقال أبو حنيفة وأصحابه إن قتله مباشرة فلا يرثه سواء قتله عمدا أو خطأ إلا ان كان القاتل صبيا أو مجنونا أو عادلا فقتل الباغي فإنهم يرثون، وإن قتله بسبب، مثل أن حفر بئرا أو نصب سكينا فوقع عليها مورثه أو كان يقود دابة أو يسرقها فرفسته فإنه يرثه
وإن كان راكبا الدابة فرفست مورثه أو وطئته فمات فقال أبو حنيفة لا يرثه،(16/61)
وقال أبو يوسف ومحمد يرثه.
أما نحن فدليلنا ما رويناه من حديث ابن عباس (لا يرث القاتل شيئا) وحديث عمر وحديث أبي هريرة وحديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وكلها نصوص في أن القاتل لا يرث.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
واختلف قول الشافعي رحمه الله فيمن بت طلاق امرأته في المرض المخوف واتصل به الموت، فقال في أحد القولين انها ترثه لانه متهم في قطع ارثها فورثت، كالقاتل لما كانت متهما في استعجال الميراث لم يرث.
والثاني أنها لا ترث وهو الصحيح، لانها بينونة قبل الموت فقطعت الارث كالطلاق في الصحة، فإذا قلنا انها ترث فإلى أي وقت ترث؟ فيه ثلاثة أقوال، أحدها ان مات وهى في العدة ورثت لان حكم الزوجية باق، وان مات وقد انقضت العدة لم ترث لانه لم يبق حكم الزوجية، والثاني انها ترث ما لم تتزوح، لانها إذا تزوجت علمنا انها اختارت ذلك، والثالث أنها ترث أبدا، لان توريثها للفرار، وذلك لا يزول بالتزويج فلم يبطل حقها.
وأما إذا طلقها في المرض ومات بسبب آخر لم ترث لانه بطل حكم المرض، وان سألته الطلاق لم ترث لانه غير متهم.
وقال أبو علي بن ابي هريرة ترث لان عثمان بن عفان رضى الله عنه ورث تماضر بنت الاصبع من عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وكانت سألته الطلاق، وهذا غير صحيح.
فإن ابن الزبير خالف عثمان في ذلك، وان علق طلاقها في الصحة على صفة تجوز ان توجد قبل المرض فوجدت الصفة في حال المرض لم ترث، لانه غير متهم في عقد الصفة، وان علق طلاقها في المرض على فعل من جهتها، فإن كان فعلا يمكنها تركه ففعلت لم ترث
لانه غير متهم في ميراثها، وان كان فعلا لا يمكنها تركه كالصلاة وغيرها فهو على القولين، وان قذفها في الصحة ثم لاعنها في المرض لم ترث، لانه مضطر إلى اللعان لدرء الحد فلا تلحقه التهمة، وان فسخ نكاحها في مرضه بأحد العيوب ففيه وجهان، أحدهما انه كالطلاق في المرض، والثاني انها لا ترث لانه يستند إلى معنى من جهتها ولانه محتاج إلى الفسخ لما عليه من الضرر في المقام معها على العيب(16/62)
(فصل)
وإن طلقها في المرض ثم صح ثم مرض ومات، أو طلقها في مرض ثم ارتدت ثم عادت إلى الاسلام ثم مات لم ترثه قولا احدا لانه أتت عليها حالة أو مات سقط إرثها فلم يعد.
(الشرح) إذا طلق الرجل إمرأته في مرض موته وقع الطلاق رجعيا فمات وهي في العدة أو ماتت قبله في العدة ورث أحدهما صاحبه بلا خلاف أيضا، لان الرجعية حكمها حكم الزوجة إلا في إباحة وطئها، وهى كالحائض، وان كان الطلاق بائنا، فإن ماتت قبل الزوج لم يرثها الزوج وهو إجماع أيضا لا خلاف فيه، فإن مات الزوج قبلها فهل ترثه؟ فيه قولان، قال في القديم: ترثه، وبه قال عمر وعثمان وعلي، ومن الفقهاء شعبة ومالك والاوزاعي والليث وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد، ووجه هذا ما روى أن عمر قال: المبتوتة في حال المرض ترث من زوجها، وروى أن عبد الرحمن بن عوف طلق إمرأته تماضر بنت أصبع الكلبية في مرض موته فورثها منه عثمان بن عفان، وروى أن عثمان لما حصر طلق إمرأته فورثها منه علي بن أبي طالب وقال: قد كان أشرف على موت، ولانه متهم في قطع ميراثها فغلظ عليه وورثت منه كالقاتل لما كان متهما في القتل لاستعجال الميراث غلظ عليه فلم يرث.
وقال في الجديد: لا ترثه، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَابْنُ الزبير وأبو ثور وهو الصحيح، لانها فرقة يقطع ميراثه منها فقطعت ميراثها عنه كما أبائها في حال الصحة عكسه الرجعية، ولانها فرقة لو وقعت في الصحة لقطعت ميراثها عنه فإذا وقعت في المرض قطعت ميراثها عنه كاللعان، ولانها ليست بزوجه له بدليل أنه لا يلحقها طلاقه ولا إيلاؤه ولا ظهاره ولا عدة وفاته فلم ترثه كالاجنبية.
وأما ما روى عن عمر وعثمان وعلي، فإن ابن الزبير وعبد الرحمن بن عوف خالفاهم في ذلك فقال ابن الزبير: أما أنا فلا أرى أن ترث مبتوتة، وعبد الرحمن ابن عوف إنما طلق إمرأته في مرض موته ليقطع ميراثها عنه، فإذا قلنا في الجديد فلا نفرع عليه، وان قلنا بقوله القديم قال: متى ترثه؟ فيه ثلاثة أقوال.(16/63)
أحدها: ترثه ما دامت في عدتها منه، فإذا انقضت عدتها لم ترثه، وبه قال أبو حنيفة وسفيان والليث والاوزعي وإحدى الروايتين عن أحمد، لان الميراث للزوجة إنما يكون لزوجة أو لمن هي في حكم الزوجات، فما دامت في عدتها منه فهي في حكم الزوجات.
والثاني: أنها ترثه ما لم تتزوج بغيره، فإذا تزوجت بغيره لم ترثه، وبه قال ابن أبي ليلى، وهى الرواية الصحيحة عن أحمد، لان حقها قد ثبت في ماله، فإذا لم يسقط ببينونتها لم يسقط بانقضاء عدتها، وإنما يسقط برضاها، فإذا تزوجت فقد رضيت بفراقه وقطع حقها عنه.
والثالث: أنها ترثه ابدا سواء تزوجت أو لم تتزوج، وبه قال مالك لانها قد ثبت لها حق في ماله فلم ينقص بانقضاء عدتها ولا بتزويجها كمهرها.
(فرع)
إذا أقر في مرض موته أنه قد كان طلق إمرأته في صحته ثلاثا بانت منه، قال الشيخ أبو حامد: ولا ترثه قولا واحدا، لان ما أقر به في مرض موته
وإضافته إلى الصحة كالذي فعله في الصحة كما لو أقر في مرض موته أنه كان وهب ماله في صحته وأقبضه، فان ذلك يعتبر من التلت.
وحكى القاضي أبو الطيب عن بعض أصحابنا في ذلك قولين كما لو طلقها ثلاثا في مرض موته لانه متهم في اسقاط حقها فلم يسقط بدليل أنه لا يسقط بهذا الاقرار نفقتها ولا سكناها في حال النكاح وان اضاف ذلك إلى وقت ماض.
(فرع)
إذا كان الرجل مريضا فسألته امرأته أن يطلقها ثلاثا ومات في مرضه ذلك، أو قال لها في مرض موته: أنت طالق ثلاثا ان شئت، فقالت: شئت، طلقت، وهل ترثه؟ اختلف أصحابنا فيه، فقال أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: هِيَ عَلَى القولين، لان الاصل في هذا قصة عثمان في توريثه تماضر زوجها عبد الرحمن بن عوف في مرض موته، وقد كانت سألته الطلاق.
وقال الشيخ أبو حامد: لا ترثه قولا واحدا، وهو المذهب لانها إذا سألته الطلاق فلا تهمة عليه في طلاقها، وأما قصة تماضر لا حجه فيها لان عبد الرحمن قال لنسائه: من اختارت منكن أن أطلقها طلقتها، فقالت تماضر: طلقني،(16/64)
فقال لها: إذا حضت فأعلميني فأعلمته فطلقها.
وليس طلاقه لها في هذ الوقت جوابا لكلامها لان قولها طلقني يقتضي الجواب في الحال، فإذا تأخر ثم طلقها كان ذلك إبتداء طلاق.
وان سألته في مرض موته أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثا ثم مات فهل ترثه فيه قولان، لانها سألته تطليقها فإذا طلقها ثلاثا صار متهما بذلك لانه قصد قطع ميراثها، فصار كما لو طلقها ثلاثا ابتداء من غير سؤالها.
(فرع)
إذا علق المريض طلاق امرأته ثلاثا بصفة ثم وجدت تلك الصفه في مرضه ومات، فهل ترثه؟ نظرت فان كان صفة لها منه بد مثل أن قال لها:
ان دخلت الدار أو خرجت منها أو كلمت فلانا أو صليت النافلة أو صمت النافلة فأنت طالق ثلاثا، ففعلت ذلك في مرض موته لم ترثه قولا واحدا، لانها إذا فعلت ذلك مع علمها بالطلاق فقد اختارت وقوع الطلاق عليها بما لها منه بد فصارت كما لو سألته الطلاق، وان كانت صفة لا بد منها بأن قال: ان تنفست أو صليت الفرض أو كلمت أباك أو أمك فأنت طالق ثلاثا ففعلت ذلك في مرض موته ومات فهل ترثه؟ على القولين لانها لابد لها من فعل هذه الاشياء فصار كما لو طلقها ثلاثا طلاقا منجزا.
وقال الشيخ أبو حامد: ان قال لها ان مرضت فأنت طالق ثلاثا فمات في مرضه فيه قولان، لانه لما جعل مرض موته شرطا في وقوع الطلاق عليها كان متهما في ذلك، فان قال لها وهو صحيح: ان جاء رأس الشهر أو جاء الحاج أو طلعت الشمس وما أشبه ذلك فأنت طالق ثلاثا، فوجدت هذه الصفات في مرضه موته فهل ترثه، قال البغداديون من أصحابنا: لا ترثه قولا واحدا لانه غير متهم في ذلك، لان انفاق ذلك في مرضه مع هذه الصفات لم يكن من قصده.
أما إذ قال أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر، فان عاش هذا الزوج بعد هذا القول أقل من شهر ثم مات لم يحكم بوقوع الطلاق لانا لا نحكم بوقوعه قبل محله، وان عاش بعد ذلك شهرا ومات مع الشهر لم يقع الطلاق لان الطلاق انما يقع عقيب الايقاع مما معه، وان عاش شهرا واحدا طلقت قبل موته بشهر.(16/65)
قال الشيخ أبو حامد: وهل ترثه، فيه قولان لانه متهم في ذلك، ثم إنه بذلك منعها من الميراث.
(فرع)
إذا طلقها ثلاثا في مرضه، ثم صح ثم مرض ثم مات فانها لا ترثه قولا واحدا، لانه قد تخلل بين المرض والموت حالة لو طلقها ثلاثا فيها لم ترث
شيئا، فكذلك إذا طلقها قبل تلك الحالة فوجب أن لا ترث، وهكذا إذا طلقها في مرض موته ثلاثا ثم ارتد الزوج أو الزوجه، ثم رجعا ثم مات الزوج لم ترثه قولا واحدا.
(فرع)
إذا طلق إمرأته في الصحة ثم لاعنها في مرض موته لم ترثه قولا واحدا لانه مضطر إلى اللعان لدرء الحد فلا تلحقه التهمة، وإن قذفها في مرض موته ولاعنها قال ابن الصباغ: فإنها لا ترثه قولا واحدا لانه في حاجة إلى اللعان لاسقاط الحد عن نفسه.
قال ابن اللبان.
ويحتمل أن يقال: إن كان قد نفى الحمل فإنها لا ترث لانه مضطر إلى قذفها، وان لم ينف الولد ورثته في أحد القولين، لانه لم يضطر إلى قذفها، وان فسخ نكاحها في مرض موته بأحد العيوب ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو إسحاق، أحدهما: أنه كالطلاق في المرض فيكون في ميراثها منه قولان.
والثاني لا ترثه قولا واحدا، لانه يستند إلى معنى من جهتها، ولان به حاجة إلى الفسخ لما عليه من الضرر في المقام معها على العيب.
(فرع)
إذا كانت تحته أربع نسوة وطلقهن في مرض موته طلاقا بائنا ثم تزوج بعدهن أربعا سواهن ثم مات من مرضه ذلك فإن قلنا بالجديد: وأن المبتوتة في مرض الموت لا ترث كان ميراثه للاربع زوجات دون المطلقات، وان قلنا بالقديم: وأن المبتوتة في مرض الموت ترث فمتى ترث فيه ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبو حامد.
(أحدها) أنه للزوجات الجديدات دون المطلقات لانه لا يجوز أن يرث الرجل أكثر من أربع زوجات ولا بد من تقديم بعضهن على بعض، فكان تقديم الزوجات أولى، لان ميراثهن ثابت بنص القرآن، وميراث المطلقات ثبت بالاجتهاد.(16/66)
(والثاني) أنه للزوجات المطلقات دون الزوجات الجديدات، لانه لا يجوز أن يرثه أكثر من أربع، فكان تقديم المطلقات أولى لان حقهن أسبق.
(والثالث) أنه يكون بين المزوجات والمطلقات بالسوية لان ارث الزوجات ثابت بنص القرآن، وارث المطلقات ثابت بالاجتهاد فشرك بينهن، وقول من قال: لا يجوز أن يرثه أكثر من أربع زوجات ليس بصحيح لان الشرع انما منع من نكاح ما زاد على أربع، وأما توريث ما زاد على أربع فلم يمنع الشرع منه، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان مات متوارثان بالغرق أو الهدم، فإن عرف موت أحدهما قبل الاخر ونسى، وقف الميراث إلى أن يتذكر، لانه يرجى أن يتذكر، وان علم أنهما ماتا معا أو لم يعلم موت أحدهما قبل الآخر، أو علم موت أحدهما قبل موت الآخر، ولم يعرف بعينه، جعل ميراث كل واحد منهما لمن بقى من ورثته ولم يورث أحدهما من الآخر، لانه لا تعلم حياته عند موت صاحبه، فلم يرثه، كالجنين إذا خرج ميتا.
(فصل)
وان أسر رجل أو فقد ولم يعلم موته لم يقسم ماله حتى يمضى زمان لا يجوز أن يعيش فيه مثله، وان مات له من يرثه دفع إلى كل وارث أقل ما يصيبه ووقف الباقي إلى أن يتبين أمره.
(الشرح) إذا مات متوارثان كالرجل وابنه أو كالزوجين بالغرق أو الهدم فإن علم أن أحدهما مات أو لا وعرف عينه وورث الثاني من الاول، وان علم ان احدهما مات اولا وعرف عينه ثم نسى، وقف الامر إلى ان يتذكر من الاول منهما فيرث منه الثاني، لان الظاهر ممن علم ثم نسى انه يتذكر، وهذا لا خلاف فيه، وان علم انهما ماتا معا أو علم ان احدهما اولا ولم يعرف عينه.
قال الشيخ أبو حامد: مثل ان غرقا في ماء فرأى أحدهما يصعد من الماء وينزل(16/67)
ولم يعرف عينه، والآخر قد نزل ولا يصعد، فإنه يعلم لا محالة أن الذي يصعد وينزل لم يمت، وأن الذي نزل ولا يصعد قد مات، أو لم يعلم هل ماتا في حالة واحدة أو مات أحدهما قبل الآخر، فمذهبنا في هذه الثلاث المسائل أنه لا يرث أحدهما من الآخر، ولكن يرث كل واحد منهما ورثته غير الميت معه.
وبه قال أبو بكر وعمر وابن عباس وزيد بن ثابت ومالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم.
وذهب علي بن أبي طالب إلى أن يرث كل واحد منهما الآخر ثم يرثهما ورثتهما وبه قال داود.
دليلنا ما روى عن زيد بن ثابت أنه قال: ولانى أبو بكر موارث قتلى اليمامة فكنت أورث الاحياء من الموتى ولا أورث الموتى من الموتى، ولا كل من لم تعلم حياته عند موت مورثه لم يرثه، أصله الحمل، وهو أن رجل إذا مات وخلف امرأة حاملا فإنه إن خرج حيا ورث، لانا تيقنا حياته عند موت مورثه، وإن خرج ميتا لم يرث، لانا لا نعلم حياته عند موت مورثه، ولان توريث كل واحد منهما من الاخر خطا بيقين، لانهما إن ماتا معا في حالة واحدة لم يرث أحدهما الآخر وان مات أحدهما قبل الآخر فتوريث الساق منهما وتأمن الاخر خطا فإذا كان كذلك لم يرث أحدهما من الآخر لانه ليس أحدهما أن يكون مات أولا بأولى من الاخر (فرع)
إذا مات رجل وخلف ولدا أسيرا في أيدى الكفار فإنه يرث ما دام يعلم حياته، وبه قال أهل العلم كافة، وقال النخعي لا يرث الاسير دليلنا قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) ولم يفرق بين الاسير وغيره، فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود، وإذا فقد رجل وانقطع خبره لم يقسم ماله حتى يعلم موته أو يمضى عليه من الزمان من حين ولد زمان لا يعيش
فيه مثله فحينئذ يحكم الحاكم بموته ويقسم ماله بين ورثته الاحياء يومئذ دون من مات من ورثته قبل ذلك.
وقال مالك (إذا مضى له من العمر ثمانون سنة قسم ماله) وقال عبد الملك بن الماجشون (إذا مضى له تسعون سنة حكم الحاكم بموته) وقال أبو حنيفة (إذا مضى له مائة وعشرون سنة) وحكى بعضهم أن ذلك مذهب الشافعي.
وإن مات المفقود من يرثه قبل أن يحكم بموته أعطى كل وارث من ورثته(16/68)
ما يتيقن أنه له ووقف المشكوك فيه إلى أن يتيقن أمر المفقود، مثل أن تموت امرأة وتخلف زوجا وأختين وأخا لاب وأم مفقودا، فإن الزوج لا يستحق النصف كاملا إلا إذا تيقنا حياة الاخ عند موت المرأة، ولا يستحق الاختان أربعة اسباع المال إلا إذا تيقنا موت الاخ عند موت المرأة، والعمل في هذه وما أشبهها أن يقال لو كان الاخ ميتا وقت موت أخته لكانت الفريضة من سبعة، للزوج ثلاثة وللاختين للاب والام أربعة، ولو كان الاخ حيا وقت موت أخته لكانت الفريضة من ثمانية، للزوج أربعة ولكل أخت سهم وللاخ سهمان، والثمانية لا توافق السبعة، فيضرب ثمانية في سبعة فذلك ستة وخمسون، فيعطى الزوج نصيبه وهو عند موت الاخ، فله حينئذ ثلاثة من سبعه مضروب في ثمانية فذلك أربعة وعشرون وتعطى كل أخت نصيبها وهو عند وجود الاخ حيا عند موت أخته، وذلك سهم من ثمانية مضروب في سبعة، فذلك سبعة ويبقى من المال ثمانية عشر سهما، فيوقف ذلك إلى أن يتبين أمر الاخ، فان بان أنه كان حيا وقت موت أخته كان له سهمان من ثمانية في سبعه فذلك أربعة عشر سهما يأخذها من الموقوف وللزوج اربعة من ثمانيه في سبعه فذلك ثمانية وعشرون فمعه اربعة وعشرون ويبقى له اربعه فيأخذها من الموقوف وقد استوفى الاختيان نصيبهما،
وان بان أن الاخ كان ميتا وقت موت أخته كان للاختين اربعه من سبعه في ثمانيه فذلك اثنان وثلاثون فمعهما أربعة عشر ويبقى لهما ثمانية عشر وهو الموقوف فيأخذانه وقد استوفى الزوج نصيبه هذا هو المشهور من المذهب وخرج ابن اللبان في ذلك وما أشبهه وجهين آخرين
(أحدهما)
أن يجعل حكم الاخ المفقود حكم الحى، لان الاصل بقاء حياته، فلا ينتقص الزوج من النصف كاملا وان لكل اخت الثمن ويوقف ربع المال، فإن بان ان الاخ كان حيا وقت موت اخته دفع إليه الربع أو إلى ورثته ان كان قد مات.
وان بان انه ميت وقت موت أخته أخذ من الزوج نصف السبع ودفع ذلك مع الربع الموقوف إلى الاختين وهل يؤخذ من الزوج ضامن في نصف السبع.
فيه قولان
(أحدهما)
يؤخذ منه ضمان بجواز ان يكون الاخ ميتا
(والثانى)
لا يؤخذ منه ضمين كما يقسم مال الغرماء على الاحباء من ورثتهم ولا يؤخذ منهم ضمان وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ(16/69)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب ميراث أهل الفرائض
وأهل الفرائض هم الذين يرثون الفروض المذكورة في كتاب الله عزوجل، وهى النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس، وهم عشرة، الزوج والزوجه والام والجدة، والبنت وبنت الابن، والاخت وولد الام والاب مع الابن وابن الابن والجد مع الابن وابن الابن.
فأما الزوج فله فرضان النصف، وهو إذا لم يكن معه ولد ولا ولد ابن، والربع وهو إذا كان معه ولد أو ولد ابن.
والدليل عليه قوله عز وجل (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين)
فأما الزوجة فلها أيضا فرضان: الربع إذا لم يكن معها ولد ولا ولد ابن.
والثمن إذا كان معها ولد أو ولد ابن.
والدليل عليه قوله تعالى (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين) فنص على فرضها مع وجود الولد وعدم الولد، وقسنا ولد الابن في ذلك على ولد الصلب، لاجماعهم على أنه كولد الصلب في الارث والتعصيب، فكذلك في حجب الزوجين، وللزوجتين والثلاث والاربع ما للواحدة من الربع والثمن لعموم الاية.
(الشرح) الفروض المذكورة في كتاب الله تعالى سنة، النصف ونصفه ونصف نصفه الثلثان ونصفه ونصف نصفه وأهل الفروض عشرة 1 - الزوج 2 - الزوجة 3 - الام 4 - الجدة 5 - البنت 6 - بنت الابن 7 - الاخت 8 - ولد الام 9 - الاب مع الابن أو ابن الابن 10 - الجد مع الابن أو ابن الابن فأما الزوج فله فرضان، النصف مع عدم الولد، وولد الابن، والربع مع(16/70)
وجود الولد أو ولد الابن وإن سفل، ذكرا كان أو أنثى، لقوله تعالى (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن) فأما الزوجة فلها الربع من زوجها إذا لم يكن له ولد ابن وإن سفل، ولها منه الثمن إذا كان له ولد أو ولد ابن وان سفل.
ذكرا كان أو أنثى لقوله تعالى (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم) وللزوجتين والثلاث والاربع ما للزوجة الواحدة لقوله تعالى (ولهن) وجعل سبحانه لهن نصف ميراث الذكر
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وأما الام فلها ثلاثة فروض (أحدها) الثلث.
وهو إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان فصاعدا من الاخوة والاخوات لقوله عز وجل (وورثه أبواه فلامه الثلث) (والفرض الثاني) السدس، وذلك في حالين
(أحدهما)
أن يكون للميت ولد أو ولد ابن.
والدليل عليه قوله تعالى (ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) ففرض لها السدس مع الولد، وقسنا عليه ولد الابن
(والثانى)
أن يكون له اثنان فصاعدا من الاخوة والاخوات.
والدليل عليه قوله عز وجل (فان كان له اخوة فلامه السدس) ففرض لها السدس مع الاخوة، وأقلهم ثلاثه.
وقسنا عليهم الاخوين لان كل فرض تغير بعدد كان الاثنان فيه كالثلاثه كفرض البنات (والفرض الثالث) ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين، وذلك في مسألتين، في زوج وأبوين، أو زوجة وأبوين، للام ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين، والباقى للاب.
والدليل عليه أن الاب والام إذا اجتمعا كان للاب الثلثان وللام الثلث، فإذا زاحمهما ذو فرض قسم الباقي بعد الفرض بينهما على الثلث والثلثين، كما لو اجتمعا مع بنت(16/71)
(الشرح) الام لها ثلاثة فروض الثلث أو السدس أو ثلث ما يبقى، ولها سبعة أحوال.
أحدها: أن يكون معها ولد ذكر أو أنثى أو ولد ابن ذكر أو أنثى وإن سفل، فلها السدس لقوله تعالى (ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) .
ثانيها: أن لا يكون مع الام ولد ولا ولد ابن ولا أحد من الاخوة والاخوات
فللام الثلث لقوله تعالى (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث) .
ثالثها: أن يكون مع الام ثلاثة إخوة أو ثلاث أخوات أو منهما فلها السدس لقوله تعالى (فإن كان له إخوة فلامه السدس) وقوله تعالى: إخوة لفظ جمع وأقله ثلاثة.
رابعها: أن يكون مع الام أخ أو أخت فلها الثلث أيضا لقوله تعالى (فإن كان له إخوة فلامه السدس فحجبها عن الثلث إلى السدس بالاخوة، وذلك جمع ولا خلاف أن الواحد ليس بجمع.
خامسها: أن يكون مع الام اثنان من الاخوة والاخوات أو منهما فللام السدس، وبه قال الصحابة والفقهاء عامة الا ابن عباس فانه قال: لها الثلث، وله خمس مسائل في الفرائض انفرد بها، هذه احداهن.
دليلنا: أنه حجب لا يقع بواحد، وينحصر بعدد، فوجب أن يوقف على اثنين، أصله حجب بنات الابن بالبنات، فقولنا: حجب لا يقع بواحد احتراز من حجب الزوج والزوجة فانه يقع الواحد من الاول، وقولنا ينحصر بعد احتراز من حجب البنتين للبنات والاخوة والاخوات لان الابنة فرضها النصف والاخت فرضها النصف، وإذا حصل مع احداهما أخوها حجبها من النصف، ولا ينحصر هذا الحجب بعدد، بل كلما كثر الاخوة حجبوها أكثر، ولانا وجدنا الاثنين من الاخوات كالثلاث في استحقاق الثلثين، فوجب أن يكون حجب الاثنين من الاخوة للام حجب الثلاثة.
وروى أن ابن عباس دخل على عثمان فقال له.
قال الله تعالى (فإن كان له اخوة فلامه السدس) وليس الاخوات اخوة بلسان قومك، فقال عثمان:(16/72)
لا استطيع أن أرد ما كان قبلى، وانتشر في الامصار، وثوارث به الناس، فدل
بهذا أنهم أجمعوا على ذلك.
سادسها: إذا كان هناك زوج وأبوان، قال أصحابنا: فللزوج النصف وللاب ثلث ما بقى، وأصلها من ستة للزوج ثلاثة، وللام ثلث ما بقى وهو سهم وللاب سهمان، وقال بعض أصحابنا كما أفاده صاحب البيان: للام ها هنا الثلت، ولا يقال لها ثلت ما بقى، قلت: ومعنى العبارتين واحد لان العبارة الواحدة هي المشهورة وبه قال عامة الصحابة والفقهاء.
وقال ابن عباس: للزوج النصف، وللام ثلت جميع المال، وللاب ما بقى، وأصلها من ستة للزوج ثلاثة، وللام سهمان وللاب سهم وتابعه على هذا شريح سابعها إذا كان زوجة وأبوان فللزوجة الربع، وللام ثلت ما بقى وهو سهم وللاب ما بقى وهو سهمان، وبه قال عامة الصحابة وأكثر الفقهاء.
وقال ابن عباس للزوجة الربع وللام قلت جميع المال، وللاب ما بقى وأصلها من اثنى عشر للزوج ثلاثة، وللام أربعة، وللاب خمسة، وهاتان المسألتان في المسائل التى انفرد بها ابن عباس عن الصحابة، وتابعه عليها شريح وابن سيرين ودليلنا أن في الاوله يؤدى إلى تفضيل الام على الاب، وهذا لا يجوز، ولانهما معهما أو سهم فوجب أن يكون للام تلت ما بقى بعد ذلك السهم، كما لو كان مع الابوين بنت، ولان كل ذكر وأنثى لو انفرد كان للذكر الثلثان والانثى التلت، وجب إذا كان معهما زوج أو زوجة ان يكون ما بقى بعد فرض الزوج والزوجة بينهما كما كان بينهما إذا انفرد كالابن والابنة والاخ والاخت.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واما الجدة فان كانت ام الام أو ام الاب فلها السدس، لما روى قبيصة بن ذؤيب قال (جاءت الجدة إلى أبى بكر رضى الله عنه فسألته عن ميراثها فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه ليس لك في كتاب الله شئ وما علمت لك
في سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا فارجعي حتى اسأل الناس فسأل عنها فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها السدس،(16/73)
فقال أبو بكر رضى الله عنه هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الانصاري رضى الله عنه فقال مثل ما قال، فأنفذه لها أبو بكر رضى الله عنه ثم جاءت الجدة الاخرى إلى عمر رضى الله عنه فسألته ميراثها، فقال لها: مالك في كتاب الله عز وجل شئ، وما كان القضاء الذى قضى به إلا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض شيئا، ولكن هو ذلك السدس، فان اجتمعتما فيه فهو بينكما فأيكما خلت به فهو لها) وإن كات أم أبى الام لم ترث لانها تدلى بغير وارث، وان كانت أم أبى الاب ففيه قولان.
(أحدهما)
أنها ترث هو الصحيح، لانها جدة تدلى بوارث فورثت كأم الام وأم الاب.
(والثانى)
أنها لا ترث لانها جدة تدلى بجد فلم ترث كأم أبى الام، فإن اجتمعت جدتان متحاذيتان كأم الام وأم الاب فالسدس بينهما لما ذكرناه، فان كانت إحداهما أقرب نظرت، فان كانتا من جهة واحدة ورثت القربى دون البعدى لان البعدى تدلى بالقربى فلم ترث معها كالجد مع الاب وأم الام مع الام، وإن كانت القربى من جهة الاب والبعدى من جهة الام ففيه قولان.
(أحدهما)
أن القربى تحجب البعدى، لانهما جدتان ترث كل واحدة منهما إذا انفردت فحجبت القربى منهما البعدى، كما لو كانت القربى من جهة الام.
(والثانى)
لا تحجبها وهو الصحيح، لان الاب لا يحجب الجدة من جهة الام، فلان لا تحجبها الجدة التى تدلى به أولى، وتخالف القربى من جهة الام، فان الام تحجب الجدة من قبل الاب فحجبتها أمها والاب لا يحجب الجدة من قبل
الام فلم تحجبها أمه، فان اجتمعت جدتان إحداهما تدلى بولادتين بأن كانت أم أم أب، أو أم أم أم، والاخرى تدلى بولادة واحدة كأم أبى أب ففيه وجهان.
(أحدهما)
وهو قول أبى العباس: أن السدس يقسم بين الجدتين على ثلاثة فتأخذ التى تدلى بولادة سهما وتأخذ التى تدلى بولادتين سهمين.
(والثانى)
وهو الصحيح أنهما سواء لانه شخص واحد فلا يأخذ فرضين.
(الشرح) حديث قبيصة بن ذؤيب رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود(16/74)
والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم.
قال الحافظ ابن حجر: وإسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل، فان قبيصة لا يصح سماعه من الصديق ولا يمكن شهوده القصة، أفاده ابن عبد البر، وقد اختلف في مولده، والصحيح أنه ولد عام الفتح فيبعد شهوده القصة، وقد أعله ابن عبد الحق تبعا لابن حزم بالانقطاع، وقال الدارقطني في العلل بعد أن ذكر الاختلاف فيه على الزهري: يشبه أن يكون الصواب قول مالك ومن تابعه.
وقد وردت أحاديث متصلة صحيحة تؤيد قصة قبيصة عند الطبراني والبيهقي والدارقطني وابن ماجه وأبى القاسم ابن منده، وقد نقل محمد بن نصر من أصحاب الشافعي اتفاق الصحابة عليه.
أما الاحكام: فان الجدة أم الام أو ام الاب وارثة بما روى خارجة بن زيد عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم اعطى الجدة ام الام السدس.
واجمعت الامة على توريث الجدة.
إذا ثبت هذا: فان فرضها السدس، سواء كانت ام ام أو ام اب، وبه قال الصحابة كافه كما قررنا والفقهاء اجمع، وروى عن ابن عباس رواية شاذة انه قال ام الام ترث التلت لانها تدلى بالام فورثت ميراثها كالجد يرث ميراث الاب.
ودليلنا ما ذكرناه من الخبرين، وبما رواه قبيصة بن ذؤيب في قصة الجدة
المذكورة في الفصل.
قال الشيخ ابو حامد والجدة التى اتت ابا بكر هي ام الام، والجدة التى اتت عمر هي ام الاب، ومعنى قول ابى بكر رضى الله عنه.
مالك في كتاب الله شئ لان الكتاب محصور، وليس فيه ذكر الجدة، ولهذا قلنا ان اسم الام لا ينطلق على الجدة لانه قال.
ما لك في الكتاب شئ، وفى الكتاب ذكر الام، ثم قال وما علمت لك في السنة شيئا فلم يقطع به، لان السنة لا تنحصر، ولكن اراد على مبلغ علمه ومعنى قول عمر لست بزائد في الفرائض أي لا ازيد في الفريضة لاجلك، وإنما هو ذلك السدس الذى قضى به، واما الاحتجاج بقول ابن عباس لما كانت تدلى بالام اخذت ميراثها يبطل بالاخ من الام، فانه يدلى بها، ولا يأخذ ميراثها.
إذا ثبت هذا فان أول منازل(16/75)
الجدات يجتمع فيه جدتان أم الام وأم الاب، فان عدمت إحداهما ووجدت الاخرى كان السدس للموجودة منهما، وإن اجتمعا كان السدس بينهما.
قال الشيخ أبو حامد لما روى الحكم عن علي بن أبي طالب رض اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أعطى الجدتين السدس، وروى القاسم بن محمد قال (أتت الجدتان أم الام وأم الاب أبا بكر الصديق فأراد أن يجعل السدس للتى من قبل الام، فقال له رجل من الانصار أما أنك تترك التى لو ماتت وهو حى كان إياها يرث فجعل السدس بينهما) رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سعيد عن القاسم ورواه الدارقطني من طريق ابن عيينة.
قال الشيخ أبو حامد: وأصحابنا يحكون أن هذه القضيه كانت لعمر، وإنما هي قضية أبى بكر، ومعنى قول الانصاري تترك التى لو ماتت وهو حى كان إياها يرث لانه ابن ابنها، فإذا ارتفع الجدات إلى المنزله الثانيه، اجتمع أربع جدات
اثنتان من جهة الام، وهما أم أم الام، وأم أب الام، واثنتان من جهة الاب فأما أم أم الام، وأم أم ألاب فهما وارثتان بلا خلاف، وأما أم أب الام فانها غير وارثة، وهو قول الفقهاء كافة، إلا ما روى عن ابن سيرين أنه ورثها وهذا خطأ لانها تدلى (1) بمن ليس بوارث فلم تكن وارثة كابنة الخال، وأما الجدة أم أب الاب فهل ترثه، ففيه قولان.
(أحدهما)
لا ترث، وبه قال اهل الحجاز الزهري وربيعة ومالك لانها جدة تدلى بجد فلم ترث كأم اب الام، فعلى هذا لا يرث قط إلا جدتان.
(والثانى)
انها ترث، وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس، وهى احدى الروايتين عن زيد بن ثابت، وبه قال الحسن البصري وابن سيرين واهل الكوفة والثوري وابو حنيفة واصحابه وهو الصحيح، لانها جده تدلى بوارث فورثت كأم الام، ولان تعليل الصحابة رضى الله عنهم موجود فيها حيث قال لابي بكر في ام الاب ورثتها عمن لو ماتت لم يرثها ولم تورثها عمن لو ماتت ورثها فورثها ابو بكر رضى الله عنه لهذه العلة، وهى ام الاب فعلى هذا ترث في الدرجة الثانيه
__________
(1) تدلى أي تتوصل وتمت وهو من إدلاء الدلو، وأدلى بحجته أثبتها.(16/76)
ثلاث جدات، فإذا ارتفع الجدات إلى المنزلة الثالثة اجتمعن ثمانى جدات فيرث منهن أربع ولا ترث أربع، وانما كان كذلك لان الميت واحد فله في المنزلة الاولى جدتان، فإذا ارتفعن إلى الدرجة الثانية كان للميت أبوان، ولكل واحد منهما جدتان فيجتمع له في الدرجة الثالثة ثمانى جدات ثم في الرابعة ستة عشر جدة، وكلما ارتفع الميت درجة ازداد عدد الجدات ضعفا.
وأما الوارثات منهن فيورث في الدرجة الاولى جدتان، وفى الثانية ثلاث، وفى الثالثة أربع، وفى الرابعة خمس إلى أن ترثه مائة جدة.
في الدرجة الاولى جدتان وفى الثانية ثلاث
وفى الثالثة أربع، وفى الرابعة خمس إلى أن ترثه مائة جدة في الدرجة التاسعة والتسعين يزيد على عدد الدرجات بواحدة.
وإذا اجتمع الجدات الوارثات وهن متحاذيات كان السدس بينهن لما ذكرناه في الحد بين أم الام وأم الاب.
وإن اجتمع جدتان إحداهما أبعد من الاخرى نظرت.
فان كانتا من جهة واحدة بأن كان هناك أم أم وأم أم أم كان السدس لام الام، لان البعدى تدلى هذه القربى.
وكل من أدلى بغيره فانه لا يشاركه في فرضه كالجد مع الاب وابن الابن مع الابن.
وعلى هذا جميع الاصول فان قيل: أليس الاخ للام يدلى بالام ومع ذلك فانه يرث معها.
فالجواب أنه لا يرث أخاه بالادلاء إليه بالام، ولكن لاجل أنه ركض معه في رحم واحد وأنه وإن أدلى بها فقد احترزنا عنه بقولنا لا يشاركه في إرثه، وهو أن السدس إرث للقربى لو انفردت الجدة البعدى لشاركتها في ذلك السدس، وليس كذلك الاخ للام.
وإن اجتمع أم أب وأم أب الاب فان السدس يكون لام أب الاب ويسقط أم أب الاب، وبه قال علي وزيد والفقهاء أجمع.
وقال ابن مسعود في إحدى الروايتين عنه يشتركان في السدس، وهذا ليس بصحيح لانهما من جهة واحدة إذ أنهما يدليان بالاب، وإحداهما أقرب من الاخرى فسقطت البعدى كأم الام إذا اجتمعت مع أم أم الام، وان كانتا من جهتين إحداهما من جهة الام والاخرى من جهة الاب نظرت، فان كانت القربى من جهة الام والبعدى من(16/77)
جهة الاب، فإن القربى تسقط البعدى وقال ابن مسعود لا تسقطها، وإنما يشتركان في السدس، دليلنا أن إحداهما أقرب من الاخرى فسقطت البعدى
بالقربى، كما لو كانا من جهة واحدة وإن كانت القربى من جهة الاب والبعدى من جهة الام ففيه قولان: أحدهما أن البعدى منهما تسقط القربى.
وبه قال علي بن أبى طالب، وهو قول أهل الكوفة، ورووا ذلك عن زيد بن ثابت لانهما جدتان لو انفردت كل واحدة منهما لكان لها السدس، فإذا اجتمعا وجب أن تسقط البعدى بالقربى، كما لو كانت القربى من جهة الام، والثانى لا تسقط البعدى بالقربى بل يشتركان في السدس، وهى الرواية الثانية عن زيد، رواه المدنيون عنه، وهو الصحيح، لان الاب لو اجتمع مع الام لم يحجبها وإن كان أقرب منها، فلان لا يسقط الجدة التى يدلى به من هو أبعد منها لان جهة الام أولى (فرع)
وإن اجتمع جدتان متحاذيتان وإحداهما تدلى بقرابة والاخرى تدلى بقرابتين بأن تزوج رجل بابنة عمته فولد منها ولدا فإن جدة هذا الولد أم أبى أبيه وهى جدته أم أم أمه، وان اجتمع معها أم أم إلى هذا الولد ففيه وجهان، أحدهما وهو قول أبى العباس بن سريح وبه قال الحسن بن صالح ومحمد بن الحسن وزفر أن السدس يقسم بين هاتين الجدتين على ثلاثة.
فتأخذ التى تدلى بولادتين بسهمين وتأخذ التى تدلى بولادة سهما لانها تدلى بنسب واحد.
والثانى يقسم السدس بينهما نصفين.
وبه قال أبو يوسف هو الصحيح لانها شخص واحد فلا تأخذ فرضين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وأما البنت فلها النصف إذا انفردت لقوله تعالى: وان كانت واحدة فلها النصف.
وللاثنتين فصاعدا الثلثان.
لما روى جابر بن عبد الله قال (جاءت امرأة سعد بن الربيع إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد، قتل أبوهما معك يوم أحد ولم يدع عمهما لهما مالا الا أخذه.
فما ترى
يا رسول الله.
والله لا تنكحان الا ولهما مال، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الله(16/78)
في ذلك.
فنزلت إليه سورة النساء (يوصيكم الله في أولادكم) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادعوا لى المرأة وصاحبها.
فقال لعمهما: أعطهما الثلثين.
وأعط أمهما الثمن وما بقى فلك) فدلت الآية.
وهو قوله تعالى (فان كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) على فرض ما زاد على الاثنتين.
ودلت السنة على فرض الثنتين.
(فصل)
وأما بنت الابن فلها النصف إذا انفردت وللاثنتين فصاعدا الثلثان لاجماع الامة على ذلك.
ولبنت الابن مع بنت الصلب السدس تكملة الثلثين.
لها روى الهزيل بن شرحبيل قال: جاء رجل إلى أبى موسى وسلمان بن ربيعة رضى الله عنهما فسألهما عن بنت وبنت ابن وأخت فقالا: للبنت النصف وللاخت النصف.
وأت عبد الله فانه سيتابعنا.
فأتى عبد الله فقال: انى قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
لاقضين بينهما بما قضى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (للبنت النصف.
ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقى فللاخت) ولان بنت الابن ترث فرض البنات ولم يبق من فرض البنات الا السدس وهكذا لو ترك بنتا وعشر بنات ابن كان للبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين لما ذكرناه من المعنى.
وان ترك بنتا وبنت ابن ابن أو بنات ابن ابن أسفل من البنت بدرج كان لهن السدس لانه بقية فرض البنات ولبنت ابن الابن أو بنات ابن الابن مع بنت الابن من السدس تكملة الثلثين ما لبنت الابن وبنات الابن مع بنت الصلب وعلى هذا أبدا (الشرح) حديث جابر مضى تخريجه، وأما حديث هذيل بن شرحبيل فقد رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وفى رواية البخاري فأتينا
أبا موسى وفى رواية غيره (جاء رجل إلى أبى موسى وسلمان بن ربيعة) وهذه الواقعة كانت في عهد عثمان لان أبا موسى كان وقت السؤال أميرا على الكوفه وسلمان قاضيا بها.
وقد اختلف في صحبته أما الاحكام فان البنت لها النصف لقوله تعالى (وان كانت واحدة فلها النصف) وان كانتا اثنتين فلهما الثلثان وبه قال الصحابة والفقهاء كافة، وروى عن ابن عباس(16/79)
رواية شاذة أنه قال للابنتين النصف لقوله تعالى (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) دليلنا حديث جابر الذى ساقه المصنف الذى دل على أن للبنتين الثلثين، ولان الاية وردت على سبب وهو ابنتا سعد بن الربيع، فلا يجوز إخراج السبب عن حكم الاية.
وأيضا فان الله تعالى فرض للابنة الواحدة النصف وفرض للاخت الواحدة النصف في آية أخرى وجعل حكمهما واحدا، ثم جعل للاختين الثلثين، ووجدنا أن البنات أقوى من الاخوات بدليل أن البنات لا يسقطن مع الاب ولا مع البنين والاخوات يسقطن مع الاب والبنتين، فإذا كان للاختين الثلثان فالابنتان بذلك أولى.
والجواب عن قوله: فإن كن نساء فوق اثنتين فان قوله (فوق) صلة في الكلام لقوله تعالى (فاضربوا فوق الاعناق) وإن كان البنات أكثر من اثنتين فلهما الثلثان للآية.
أما مسألة إبنة الابن فان لها النصف إذا انفردت ولابنتي الابن فصاعدا الثلثان، لان الامة أجمعت على أن ولد البنبن يقومون مقام الاولاد، ذكورهم كذكور الاولاد وإناثهم كاناثهم، فإذا اجتمع ابنة وابنه ابن كان للابنه النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين لما رواه هزيل بن شرحبيل في قصه سؤال
أبى موسى وسلمان بن ربيعه ثم فتوى ابن مسعود.
وقولهما: وأت عبد الله فانه سيتابعنا، جعل ابن مسعود يقول قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين، يعنى إذا تابعنهما أو أفتيت بقولهما.
ثم قال لاقضين فيهما بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للابنة النصف ولابنة الابن السدس والباقى للاخت.
فأخبر أن هذا قضاء رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَنَّ بنات الابن يرثن فرض البنات، ولم يبق من فروض البنات إلا السدس فكان لابنة الابن.
وان ترك ابنة وبنات ابن كان للابنة النصف ولبنات الابن السدس لانه هو الباقي عن فرض البنات، وهكذا لو ترك بنتا وبنت ابن ابن ابن بدرج أو بنات ابن ابن بدرج كان للابنة النصف ولمن بعدها من بنات الابن وان بعدت السدس إذا تحاذين وان كان بعضهن أعلى من بعض كان السدس لمن أعلا منهن.(16/80)
وقال ابن مسعود: لبنات الابن الاقل من المقاسمة وهو السدس، فإن كان السدس قل كان لهن السدس والباقى لابن الابن، وإن كانت المقاسمة أقل من السدس فلهن المقاسمة، ودليلنا عليه ما ذكرناه في الاولة.
(فرع)
فإن خلف بنتا وابن ابن وبنت ابن ابن فللابنة النصف والباقى لابن الابن وسقط بنت ابن الابن لانه أقرب منها، وإن خلف بنتين وبنت ابن وابن ابن ابن كان للبنتين الثلثان، والباقى بين بنت الابن وابن ابن الابن للذكر مثل حظ الانثيين، وقال بعض الناس: لابن ابن الابن وسقط بنت الابن.
ودليلنا: أنا وجدنا أن بنت الابن لو كانت في درجة ابن الابن لم تسقط معه بل يعصبها، فلما لم يسقطها إذا كانت في درجته فلان لا يسقطها إذا كانت أعلا منه أولى، وإن خلف بننا وبنات ابن وابن ابن ابن كان للبنت النصف، ولبنات الابن السدس، تكملة الثلثين والباقى لابن ابن الابن، لان من فوقه من بنات
الابن قد أخذت شيئا من فرض البنات فلا يجوز أن يرث بالتعصيب فكان الباقي له دونهن، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وأما الاخت للاب والام فلها النصف إذا انفردت، وللاثنتين فصاعدا الثلثان لقوله عز وجل (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن إمرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) وللثلاث فصاعدا ما للاثنتين لان كل فرض يغير بالعدد كان الثلاث فيه كالاثنتين كالبنات، وللاخت من الاب عند عدم الاخت من الاب والام النصف إذا انفردت، وللاثنتين فصاعدا الثلثان، لان ولد الاب مع ولد الاب والام كولد الابن مع ولد الصلب فكان ميراثهم كميراثهم
(فصل)
والاخوات من الاب والام مع البنات عصبة ومع بنات الابن والدليل عليه ما ذكرناه من حديث الهزيل بن شرحبيل.
وروى إبراهيم عن الاسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل رضى الله عنه على(16/81)
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إمرأة تركت بنتها وأختها للبنت النصف، وللاخت النصف.
وعن الاسود قال: كان ابن الزبير لا يعطى الاخت مع البنت شيئا فقلت: إن معاذا قضى فينا باليمن فأعطى البنت النصف والاخت النصف، قال: فأنت رسولي بذلك، فان لم تكن أخوات من الاب والام فالاخوات من الاب لانهن يرثن ما يرث الاخوات من الاب والام عند عدمهن
(فصل)
وأما ولد الام فللواحد السدس وللاثنين فصاعدا الثلث، والدليل عليه قوله عز وجل (وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو
أخت فكل واحد منهما السدس، فان كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) والمراد به ولد الام، والدليل عليه ما روى أن عبد الله وسعدا كانا يقرآن (وله أخ أو أخت من أم) وسوى بين الذكور والاناث للآية، ولانه ارث بالرحم المحض فاستوى فيه الذكر والانثى كميراث الابوين مع الابن.
(فصل)
وأما الاب فله السدس مع الابن وابن الابن، لقوله عز وجل (ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) ففرض له السدس مع الابن، وقيس عليه إذا كان مع ابن الابن، لان ابن الابن كالابن في الحجب والتعصيب، وأما الجد فله السدس مع الابن وابن الابن لاجماع الامة.
(فصل)
ولا ترث بنت الابن مع الابن، ولا الجدة أم الاب مع الاب.
لانها تدلى به، ومن أدلى بعصبة لم يرث معه كابن الابن مع الابن، والجد مع الاب، ولا ترث لجدة من الام مع الام، لانها تدلى بها، ولا الجدة من الاب لان الام في درجة الاب والجدة في درجة الجد، فلم ترث معها، كما لا يرث الجد مع الاب.
(الشرح) حديث إبراهيم عن الاسود رواه أبو داود وكذا البخاري بمعناه أما مسألة الاخوات للاب والام فترتيبهن كترتيب البنات.
فان خلف أختا واحدة فلها النصف فأن خلف أختين فصاعدا فلهن الثلثان لقوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلاله، إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها(16/82)
نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد، فان كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك، وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين) ليس في الآية ذكر ثلاث أخوات فما زاد، ولكن قد ذكر في البنات إذا كن فوق اثنتين أن لهن الثلثين، ولم يذكر الثلاث في الاخوات اكتفاء بما ذكره في البنات، كما أنه لم
يذكر ما للابنتين اكتفاء بما ذكره للاختين، لان حكم البنات والاخوات واحد وأيضا قد روى جابر قال: اشتكيت وعندي ثلاث أخوات فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعودني، فقلت يا رسول الله كيف أصنع بمالى وليس يرثنى الا الكلالة، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رجع فقال: قد أنزل في أخواتك وبين، فجعل لهن الثلثين، قال جابر فنزلت قوله (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) فذكر أن الاية نزلت في أخواته وهن تسع على مافى الصحيح وانما وردت بإبنتين، فدل على أن المراد بالايه الابنتان وما زاد عليهما (فرع)
وأما الاخوات للاب والام كبنات الابن مع البنات لانهن قد تساوين في الاخوة، لان الاخوات للاب والام فضلن في الادلاء بالام فكن كالبنات فضلن على بنات الابن إذا ثبت هذا فان لم يكن هناك أحد من الاخوة للاب والام وهناك أخت واحدة لاب فلها النصف، وان كانتا أختين فصاعدا فلهما الثلثان.
وان كان هناك أخت لاب وأم وأخت لاب كان للاخت للاب والام النصف والاخت للاب السدس قياسا على ابنة الابن مع ابنة الصلب.
وان كان هناك أخت لاب وأم وأخ وأخت كان للاخت للاب والام النصف وللاخ والاخت للاب الباقي للذكر مثل حظ الانثيين، وان خلف أختين لاب وأم وأختا لاب كان للاختين للاب والام الثلثان ولا شئ للاخت للاب لانه لا يجوز أن يأخذ للاخوات الفرض أكثر من الثلثين.
وأن خلف أختين لاب وأم وأخا وأخوات لاب فللاختين للاب والام الثلثان وما بقى للاخ والاخوات للاب، للذكر مثل حظ الانثيين، وبه قال عامة الصحابة والفقهاء الا ابن مسعود فإنه قال: لهن الاقل من المقاسمة أو سدس المال وقد مضى الدليل على ذلك في بنات الابن(16/83)
وان خلف أختين لاب وأم وأختا لاب وابن أخ لاب، وأم أم لاب فللاختين للاب والام الثلثان والباقى لابن الاخ، ولا يعصب الاخت للاب.
والفرق بينه وبين ابن الابن حيث عصب عمته أن ابن الابن يعصب أخته فعصب عمته وابن الاخ لا يعصب أخته فلم يعصب عمته (فرع)
وان خلف ابنة وأختا لاب وأم أو لاب أو ابنة ابن وأختا لاب وأم أو لاب كان للابنة أو لابنة الابن النصف وما بقى للاخت.
وهكذا ان خلف ابنتين وأختا لاب وأم أو لاب كان للابنة النصف ولابنة الابن السدس وللاخت ما بقى.
وكذلك ان كان في هذه المسائل مع الاخت ابن أخ أو عم، فإن ما بقى عن فرض البنات للاخت دون ابن الاخ والعم، وبه قال عامة الصحابة والفقهاء الا ابن عباس فانه لم يجعل للاخت مع البنت مع ابنة الابن شيئا، بل جعل ذلك لابن الاخ أو للعم لقوله تعالى (قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) فورث الاخ شرط أن لا يكون للميت ولد، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ما أبقت الفرائض فلاولى عصبة ذكر دليلنا ما ذكرناه من حديث هذيل بن شرحبيل، قال ابن مسعود لاقضين فيها بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للابنة النصف ولابنة الابن السدس وللاخت ما بقى.
وأما الجواب عن قوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة، ان امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) فان الاية تدل على أنه لا فرض لها إذا كان للميت ولد، ونحن نقول كذلك لان هذا النصف الذى يأخذه مع عدم الولد يأخذه بالفرض وهذا الذى يأخذه مع وجود الولد يأخذه بالتعصيب بدليل ما ذكرناه من الخبر.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم: ما أبقت الفرائض فلاولى عصبة ذكر، فيحتمل إذا لم يكن هناك أخوات، بدليل ما ذكرناه من خبر ابن مسعود، ولان للاخت تعصيبا ولابن الاخ تعصيبا، وتعصيب الاخت أولى لانها أقرب من ابن الاخ والعم وابن العم.(16/84)
وأما مسألة ولد الام فللواحد منهم السدس ذكرا كان أو أنثى وللاثنين فما زاد منهم الثلث، ويستوى فيه بين الذكر والانثى لقوله تعالى (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، وهذه الاية نزلت في الاخوة والاخوات للام، بدليل ما روى أن سعد بن أبى وقاص وابن مسعود كانا يقرآنها (وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس) والقراءة الشاذة تحل محل الاخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أو التفسير، فيجب العمل به، ولان إرث الاخوة للام إرث بالرحم المحض ولا تعصيب لهم فاستوى ذكرهم وأنثاهم كالابوين مع الابن وأما مسألة الاب فله ثلاث حالات: حالة يرث بالفرض لا غير، وحاله يرث فيها بالتعصيب لا غير.
وحاله يرث فيها بالفرض والتعصيب فأما الحاله التى يرث فيها بالفرض لا غير فهو إذا كان مع الابن أو ابن الابن فإن فرض الاب السدس لقوله تعالى (ولابويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) والمراد بالولد هنا الذكر.
وأما الحالة التى يرث فيها بالتعصيب لا غير فتنقسم قسمين: أحدهما ينفرد بجميع المال وهو إذا لم يكن معه من له فرض غير الابنة، مثل ان كان معه أم أو أم أم أو زوج أو زوجة فإنه يأخذ ما بقى عن فرض هؤلاء بالتعصيب لقوله تعالى (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث) فأضاف المال إلى الابوين ثم قطع
للام منه الثلث ولم يذكر حكم الباقي، فدل على أن جميعه للاب وأما الحالة الثالثة التى يرث فيها بالفرض والتعصيب فهو إذا كان أب وإبنة أو إبنة ابن فإن للاب السدس بالفرض وللابنة أو لابنه الابن النصف والباقى للاب بالتعصيب.
وقيل ان رجل سأل الشعبى عن رجل مات وخلف بنتا وأبا فقال له: للابنة النصف والباقى للاب، فقال أصبت المعنى وأخطأت العبارة.
قل للاب السدس وللابنة النصف والباقى للاب.
وهكذا لو خلف ابنتين وأبا، أو إبنة ابن وأبا، فللاب السدس وللابنتين الثلثان والباقى للاب.(16/85)
(فرع)
وأما الجد ففرضه السدس مع الابن أو ابن الابن لاجماع الامة على ذلك.
وإن مات رجل وخلف جدا أو ابنة ابن قال المسعودي فمن أصحابنا من قال للجد السدس بالفرض وللابنة أو ابنة الابن النصف والباقى للجد بالتعصيب كما قلنا في ابنة وأب.
ومنهم من قال يجوز أن يقال للابنة النصف والباقى للجد.
وأما مسألة الجدة فقد قال الشافعي رضى الله عنه (ولا يرث مع الاب أبواه ولا مع الام جده.
وجملة ذلك أن الام تحجب الجدات من جهتها ومن جهة الاب، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أعطى الجدة السدس إذا لم يكن دونها أم، فشرط في إرث الجدة إذا لم يكن هناك أم.
فدل على أنه إذا كان هناك أم انه لا شئ للجدة.
ولان أم لام تدلى بالام.
ومن ادلى بشخص لم يشاركه في الميراث كابن الابن مع الابن.
وأم أم الاب فإنه لا يرث معه أبواه، لان الجد يدلى بالاب، ومن أدلى بعصبة لم يشاركه في الميراث كابن الابن لا يشاركه الابن، وكذلك لا يرث مع
الاب أحد من أجداده لما ذكرناه في الجد.
ولا يحجب الاب ام الام لانها تدلى بالام، والاب لا يحجب الام فلم يحجب أمها كما لا يحجب الاب ابن الابن، وكذلك أم الام ترث مع الجد لان الاب إذا لم يحجبها فلان لا يحجبها الجد أولى.
وكذلك الجد لا يحجب أم الاب لانها تساويه في الدرجة والادلاء إلى الميت قال أصحابنا وجميع هذه المسائل في الحجب لا خلاف فيها، وأما الاب فهل يحجب أم نفسه؟ اختلف اصحابنا فيه، فذهب الشافعي إلى انه لا يحجبها، وبه قال من الصحابة عثمان وعلي وزيد بن ثابت.
ومن التابعين شريح.
ومن الفقهاء الاوزاعي والليث ومالك وابو حنيفة وأصحابه.
وذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابو موسى وعمران بن الحصين إلى أنه لا يحجبها بل ترث معه من ولده، وبه قال احمد وإسحاق وابن جرير الطبري لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورث امرأة من ثقيف مع ابنها، دليلنا انها تدلى بولدها فلم يشاركه في الميراث كأم الام لا ترث مع الام(16/86)
وأما الخبر في الجدة التى ورثت مع ابنها فيجوز أن يكون لها ابنان فمات أحدهما وخلف ابنا ثم مات ابن ابنها وخلف عمه وجدته أو يجوز أن يكون الابن كافرا أو قاتلا أو مملوكا، إذا ثبت هذا ومات رجل وخلف أباه وأم أمه وأم أبيه فإن البغداديين من أصحابنا قالوا: لام الام السدس والباقى للاب.
قال المسعودي فيه وجهان.
أحدهما هذا، والثانى أن الجدة أم الاب تحجب أم الام عن نصف السدس ويأخذه الاب مع باقى المال، ووجهه أنهما لو اجتمعتا لشاركتها في نصف السدس واستحقته، فإذا كان هناك الاب استحق ما كانت تستحقه لانها تدلى به، والاول هو المشهور، ولا ترث ابنة الابن مع الابن لما ذكرناه في أم الاب وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا يرث ولد الام مع أربعة مع الولد وولد الابن والاب والجد لقوله عز وجل (وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) فورثهم في الكلاله، والكلاله من سوى الوالد والولد، والدليل عليه ما روى جابر رضى الله عنه قال (جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب من وضوئه على فعقلت، فقلت يا رسول الله لمن الميراث وانما يرثنى كلالة، قال فنزلت آية الفرض) وروى أنه قال كيف أصنع في مالى ولى أخوات، فنزلت آية المواريث: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة، والكلالة هو من ليس له ولد ولا والد، وله اخوة، ولان الكلاله مشتق من الاكليل وهو الذى يحتاط بالرأس من الجوانب، والذين يحيطون بالميت من الجوانب الاخوة، فأما الوالد والولد فليسا من الجوانب، بل أحدهما من أعلاه والاخر من أسفله، ولهذا قال الشاعر يمدح بنى أمية: ورثتم قناة الملك لا عن كلالة
* عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
(فصل)
ولا يرث ولد الاب والام مع ثلاثة، مع الابن وابن الابن والاب، والدليل عليه قوله عز وجل (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة(16/87)
إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، فورثهم في الكلالة، وقد بينا ان الكلالة أن لا تكون والدا ولا ولدا.
(فصل)
وإذا استكمل البنات الثلثين ولم يكن مع من دونهن من بنات الابن ذكر لم يرثن.
لما روى الاعمش عن إبراهيم قال: قال زيد رضى الله عنه إذا استكمل البنات الثلثين فليس لبنات الابن شئ إلا أن يلحق بهن ذكر، فيرد عليهن بقية المال، إذا كان أسفل منهن رد على من فوقه للذكر مثل حظ
الانثيين، وان كن أسفل منه فليس لهن شئ، وبقية المال له دونهن، ولانا لو ورثنا من دونهن من بنات الابن فرضا مستأنفا لم يجز لانه ليس للبنات بالبنوة أكثر من الثلثين، وان شركنا بينهن وبين بنات الابن لم يجز، لانهن أنزل منهن بدرجة فلا يجوز أن يشاركنهن، وان استكمل الاخوات للاب والام الثلثين ولم يكن مع الاخوات للاب ذكر يعصبهن لم يرثن لما ذكرناه من المعنى في البنات وبنات الابن.
(فصل)
ومن لا يرث ممن ذكرناه من ذوى الارحام أو كان عبدا أو قاتلا أو كافرا لم يحجب غيره من الميراث، لانه ليس بوارث فلم يحجب كالأجنبي.
(الشرح) حديث جابر أخرجه أحمد قال ثنا سفيان أنبأنا ابن المنكدر أنه سمع جابرا يقول: مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني هو وأبو بكر ماشيين، وقد أغمى على فلم أكلمه، فتوضأ فصبه على فأفقت وقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالى ولى أخوات؟ قال: فنزلت آية الميراث (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة، كان ليس له ولد وله أخوات) .
وفى رواية الصحيحين عن جابر رضى الله عنه قَالَ (عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر في بنى سلمة يمشيان، فوجدني لا أعقل زاد في رواية الكشميهنى: شيئا) وقد ترجم البخاري له في صحيحه: باب عيادة المغمى عليه وفى باب الاعتصام من صحيح البخاري بأنه صب عليه نفس الماء الذى توضأ به، وفى باب عبادة المريض: فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صب وضوءه على وفى لفظ عند أبى داود: فنفخ في وجهى فأفقت، وفى الصحيحين من رواية رافع(16/88)
ابن خديج: فنزلت: يوصيكم الله في أولادكم.
فقد قيل: انه وهم وأن الصواب أن الآية التى نزلت في قصة جابر هي الآية الاخيرة من سورة النساء وهى:
يستفتونك.
قال شعبة: قلت لمحمد بن المنكدر: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة؟ قال: هكذا أنزلت.
أما الاحكام: فإن الاخوة والاخوات للام فيسقطون عن الارث مع أحد أربعة، مع الاب أو الجد الوارث أو مع الولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر أو مع ولد البنين، سواء كان ولد الابن ذكرا أو أنثى، واحدا كان أو أكثر، والدليل عليه قوله تعالى (وان كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) فورثهم بالكلالة، والكلالة هو من لا ولد له ولا والد.
والدليل عليه الكتاب والسنه والاجماع واللغة.
فالكتاب يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له ولد، فنص على أن الكلالة من لا ولد له، والاستدلال من الآية أن الكلاله أيضا من لا والد له لقوله تعالى (وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد) فورث الاخت نصف مال الاخ وورث الاخ جميع مال الاخت إذا لم يكن لها ولد ولا والد.
وأما السنة: فرواية جابر كيف أصنع بمالى؟ انما ترثني كلاله، ولم يكن له ولد ولا والد، فأقره النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ.
وأما الاجماع فروى عن أبى بكر وعلى وابن مسعود وابن عمر رضى الله عنهم أنهم قالوا الكلاله من لا ولد له ولا والد، ولا مخالف لهم.
وأما اللغه، فإن الكلاله مأخوذة من الاكليل، والاكليل انما يحيط بالرأس من الجوانب، ولا يتعلق عليه ولا ينزل عنه، والاب يعلو الميت، وولده ينزل عنه، كذلك الكلاله له يحيط بالميت من الجوانب ولا تعلو عليه ولا تنزل عنه، ولهذا قال الشاعر الاموى يمدحهم: ورثتم قناة الملك لا عن كلاله
* عن ابني مناف عبد شمس وهاشم أي لم ترثوا الملك عمن هو مثلكم، وانما ورثتموه عمن هو أعلى منكم،(16/89)
عن عثمان بن عفان جدكم وعثمان ورثه عن جده عبد شمس وعبد شمس ورثه عن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن بطال: لان بنى أمية ورثوا الخلافة عن عثمان رضى الله عنه وأبوه من بنى عبد شمس وأم أمه من بنى هاشم، وهى البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم فجدته لامه عمة النبي صلى الله عليه وسلم أما مسألة الاخوة والاخوات للاب والام فإنهم لا يرثون مع أحد ثلاثة، مع الاب أو مع الابن أو ابن الابن لقوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك) الايه.
فورث للاخت من أخيها بالكلالة، وقد دللنا على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد ثم دل الدليل على أنهم يرثون مع البنات وبنات الابن ومع الجد، وبقى الاب والابن وابن الابن على ظاهر الآية، ولا ترث الاخوة والاخوات للاب مع مع أحد أربعة: الاب والابن وابن الابن لما ذكرناه، ولا مع الاخت للاب والام لانها أقرب منهم أما مسألة الحجب فإنه حجبان: حجب إسقاط وحجب نقصان.
فأما حجب الاسقاط فمثل حجب الابن للاخوة والاخوات وبنيهم.
والاعمام وبنيهم.
ومثل حجب الاخوة لبنى الاخوة والاعمام وبنيهم، ومثل حجب الاب للاخوة.
وأما حجب النقصان فمثل حجب الولد للزوج من النصف إلى الربع، وحجب الزوجة من الربع إلى الثمن، ومثل حجب الام من الثلث إلى السدس.
إذا ثبت هذا فإن جميع من ذكرنا ممن لا يرث من ذوى الارحام والكفار والمملوكين والقاتلين ومن عمى موته فإنه لا يحجب غيره.
وبه قال الصحابة والفقهاء كافة إلا ابن مسعود فإنه قال.
يحجبون حجب النقصان.
ووافق أنهم لا يحجبون حجب الاسقاط.
ودليلنا أن كل من لا يحجب حجب الاسقاط لم يحجب حجب النقصان كابن البنت، ولانه ليس بوارث فلم يحجب غيره كالأجنبي، فإن قيل الاخوان لا يرثان مع الاب ويحجبان الام فالجواب أنهما وارثان، وإنما أسقطهما من هو أقرب منهما، وهؤلاء ليسوا بورثة في الجملة (فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وبنو الاخوة لا يحجبون الام عن الثلث(16/90)
ولا يرثون مع الجد، وهذا صحيح.
بنو الاخوة لا يحجبون الام من الثلث إلى السدس، سواء كان بنى إخوة لاب وأم أو لاب لقوله تعالى (وورثه أبواه) أليس لما حجبها الاولاد حجبها أولاد الاولاد، هلا قلتم لما حجبها الاخوة حجبها اولادهم؟ قلنا: الفرق بينهما أن حجب الاولاد أقوى من حجب الاخوة، بدليل أن الواحد من الاولاد حجب الام، فمن حيث هو أقوى تعدى حجبه ذلك إلى ولده، وحجب الاخوة أضعف لانه لا يحجبها إلا إثنان منهم عندنا.
وعند ابن عباس لا يحجبها إلا ثلاثة.
فمن حيث ضعف حجبهم لم يتعد حجبهم إلى أولادهم، ولان كل من حجبه الولد حجبه ولد الابن، لان الولد يحجب الاخوة فحجبهم ولده، والولد يحجب الاب فحجبه ولده، وليس كذلك ولد الاخوة فانهم لا يحجبون من يحجب أبوهم، ألا ترى أن الاخ للاب والام يحجب الاخ للاب ومعلوم أن ابن الاخ للاب والام لا يحجب الاخ للاب، بل الاخ للاب يسقط ابن الاخ للاب والام ولا يرث بنو الاخوة من الجد لان الجد أقرب منهم فأسقطهم.
والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن اجتمع أصحاب فروض ولم يحجب بعضهم بعضا فرض لكل واحد منهم فرضه فإن زادت سهامهم على سهام المال أعيلت بالسهم الزائد ودخل
النقص على كل واحد منهم بقدر فرضه، فإن ماتت امرأة وخلفت زوجا وأما وأختين من الام وأختين من الاب والام فللزوج النصف وللام السدس وللاختين من الام الثلث وللاختين من الاب والام الثلثان، وأصل الفريضة من ستة وتعول إلى عشرة، وهو أكثر ما تعول إليه الفرائض لانها عالت بثلثيها وتسمى أم الفروخ لكثرة السهام العائلة، وتسمى الشريحية لانها حدثت في أيام شريح وقضى فيها.
وإن مات رجل وخلف ثلاث زوجات وجدتين وأربع أخوات من الام وثماني أخوات من الاب والام، فللزوجات الربع وللجدتين السدس وللاخوات من الام الثلث وللاخوات من الاب والام الثلثان، وأصلها من إثنى عشر وتعول(16/91)
إلى سبعة عشر وهو أكثر ما يعول إليه هذا الاصل وتسمى أم الارامل، وإن مات رجل وخلف زوجة وأبوين وابنتين فللزوجة الثمن وللابوين السدسان وللابنتين الثلثان وأصلها من أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين وتسمى المنبرية، لانه روى أن عليا كرم الله وجهه سئل عن ذلك وهو على المنبر فقال صار ثمنها تسعا.
وإن ماتت امرأة وخلفت زوجا وأما وأختا من أب وأم فللزوج النصف وللاخت النصف وللام الثلث، وأصلها من ستة وتعول إلى ثمانيه وهى أول مسألة أعيلت في خلافة عمر رضى الله عنه وتعرف بالمباهلة، فإن ابن عباس رضى الله عنه أنكر العول وقال هذان النصفان ذهبا بالمال فأبن موضع الثلث فقيل له والله لئن مت أو متنا فيقسم ميراثنا إلا على ما عليه القوم، قال فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) والدليل على إثبات العول أنها حقوق مقدرة متفقة في الوجوب،
ضاقت التركة عن جميعها فقسمت التركة على قدرها كالديون (الشرح) إذا اجتمع أصحاب الفروض وضاقت سهام المال عن أنصبتهم، أعليت الفريضة التى زيد في حسابها ليدخل النقص على كل واحد منهم بقدر حقه.
والعول هو الرفع.
قال الفيومى في المصباح: عالت الفريضة عولا ارتفع حسابها وزادت سهامها فنقصت الانصباء، فالعول نقيص الرد، ويتعدى بالالف في الاكثر، وبنفسه في لغة، فيقال أعال زيد الفريضة وعالها، وعال الرجل عولا جار وظلم.
وقوله تعالى: ذلك أدنى ألا تعولوا.
قيل معناه ألا يكثر من تعولون.
وقال مجاهد: لا تميلوا ولا؟ وروا.
وقال العمرانى في البيان: وانما سمى عولا للرفع في الحساب إلى الزيادة فيه.
إذا ثبت هذا فأصول حساب الفرائض سبعه: الاثنان، والثلاثة، والاربعه، والسته، والثمانية، والاثنا عشر، والاربعة وعشرون.
فأربعة من هذه الاصول لا يعول قط، وهى الاثنان والثلاثة والاربعة والثمانيه، وثلاثه من(16/92)
هذه الاصول يعول، وهى الستة والاثنا عشر والاربعة وعشرون فأما أصل الستة فإنه يعول إلى سبعه وثمانية وسبعه وعشرة.
فأما التى تعول إلى سبعه فهى إذا ماتت امرأة وخلفت زوجا وأختين لاب وأم، فللزوج النصف ثلاثه وللاختين الثلثان أربعه فذلك سبعه.
أو مات رجل وخلف أختين لاب وأم وأختين لام وأما أو جدة فللاختين للاب والام الثلثان أربعه وللاختين للام الثلث سهمان وللام أو الجدة سهم وهو السدس فذلك سبعه، فنتصور أن يكون الميت فيها رجلا أو امرأة.
وأما التى تعول إلى ثمانيه، فمثل أن يكون هناك أختان لاب وأم وأخ لام
وزوج فللاختين للاب والام الثلثان أربعه والاخ للام السدس سهم وللزوج النصف ثلاثه.
وكذلك إذا خلفت زوجا وأختا لاب وأم أو لاب وأما فللزوج النصف ثلاثه وللاخت النصف ثلاثه وللام الثلث سهمان وتعرف هذه المسألة بالمباهلة، فإنها حدثت في أيام عمر رضى الله عنه، فقضى فيها عمر كذلك فأنكره ابن عباس وقال: من شاء باهلته فيها، والبهلة اللعنه.
وأما التى تعول إلى تسعه فمثل ان تموت امرأة وتخلف اختين لاب وأم وزوجا فللاختين الثلثان اربعه وللاخوين للام الثلث وللزوج النصف.
وأما التى تعول إلى عشرة، فمثل ان تموت امرأة وتخلف زوجا واختين لاب وام واخوين لام واما أو جدة فللزوج النصف ثلاثه وللاخوين للاب والام الثلثان اربعه.
وللاخوين للام الثلث سهمان وللام أو للجدة سهم فذلك عشرة.
وهى أكثر ما تعول إليه الفرائض لانها عالت بثلثيها.
وتسمى ام الفروخ لكثرة ما فرخت وعالت به من السهام، وتسمى الشريحيه لانها حدثت في زمان شريح فقضى بها كذلك وكان الزوج يقول: جعل لى شريح النصف لما كان وقت القسمه لم يعط النصف ولا الثلث.
وقال شريح: اراك رجلا جائرا تذكر الفتوى ولا تذكر القصه.(16/93)
وإذا عالت الفريضة إلى ثمانية أو تسعة أو عشرة فلا يحتمل أن يكون ذكرا وأما اصل الاثنى عشر فإنها تعول إلى ثلاثة عشر وخمسة عشر وسبعة عشر، فأما التى تعول إلى ثلاثة عشر فمثل أن يموت رجل ويخلف زوجة وأختين لاب وأم وأما أو جدة فللاختين الثلثان ثمانية وللزوجة الربع ثلاثة وللام أو الجدة السدس سهمان فيتصور في التى تعول إلى ثلاثة عشر أن يكون الميت رجلا أو إمرأة، وأما التى تعول إلى خمسة عشر فمثل أن يكون هناك زوجة وأختان لاب
وأم وأخوان لام فللزوجة الربع ثلاثة وللاختين للاب والام الثلثان ثمانية وللاخوين للام الثلث أربعة.
أو تموت امرأة فتخلف زوجا وابنتين وأبوين فللزوج الربع ثلاثة وللابنتين الثلثان ثمانية وللابوين السدسان أربعة، فنتصور أن يكون الميت فيها رجلا أو امرأة.
وأما التى تعول إلى سبعة عشر كأن يكون هناك زوجة وأختان لاب وأم وأخوان لام وأم أو جدة، فللزوجة الربع ثلاثة وللاختين للاب والام الثلثان ثمانية وللاخوين للام الثلث أربعة، وللام أو الجدة السدس سهمان فذلك سبعة عشر، وهذا أكثر ما يعول إليه هذا الاصل، وتسمى أم الارامل لانه لا يتصور أن يكون الميت فيها الا رجلا.
وأما أصل أربعة وعشرين فإنه يعول إلى سبعة وعشرين لا غير، وهو أن يكون هناك زوجة وابنتان وأبوان، فللزوجة الثمن ثلاثة وللابنتين الثلثان ستة عشر وللابوين السدسان ثمانية، ولا يتصور أن يكون الميت معها الا رجلا وتسمى المنبرية، لان عليا رضى الله عنه سئل عنها وهو على المنبر فقال: عاد ثمنها تسعا.
إذا ثبت هذا: فقد قال بالعول الصحابة كافه وذلك أنه حدث في أيام عمر رضى الله عنه أن امرأة ماتت وخلفت زوجا وأختا لاب وأم وأما فاستشار الصحابة فيها فأشار العباس عليه بالعول فقالوا: صدقت، وكان ابن عباس يومئذ صبيا فلما بلغ أنكر العول وقال: من شاء باهلته، وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: التقيت أنا وزفر بن أوس الطائى فذهبنا إلى ابن عباس وتحدثنا معه فقال(16/94)
ان الذى أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا فالنصفان ذهبا بالمال، فأين الثلث، فقال له زفر من أول من أعال المسائل، فقال عمر
فقال ابن عباس: وايم الله لو قدموا من قدم الله وأخروا من أخره الله، ما عالت فريضه قط، فقال له زفر: من المقدم ومن المؤخر، فقال: من أهبط من فرض إلى فرض فهو المقدم، ومن أهبط من فرض إلى ما بقى فهو المؤخر، فقال زفر: هلا اشرت عليه، فقال: هبته، وكان امرءا مهيبا، فكان ابن عباس يدخل النقص على البنات والاخوات ويقدم الزوج والزوجه والام، لانهم يستحقون الفرض بكل حال، والبنات والاخوات تارة يفرض لهن وتارة لا يفرض لهن، فيقول في زوجة، وابنتين وابوين: للزوجة الثمن وللابوين السدسان ثمانيه وللابنتين ما بقى هو ثلاثه عشر.
ودليلنا ما رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اقسموا الفرائض على كتاب الله عزوجل، ووجدنا ان الله فرض لكل واحد ممن ذكرنا من البنات والاخوات فرضا فوجب ان يقسم ذلك لهن، ولان الاخوات اقوى حالا من الام، والبنات اقوى حالا من الزوج والزوجه بدليل ان البنات يحجبن الزوج والزوجة، من النصف والربع إلى الربع والثمن، والزوجان لا يحجبانهن، والاخوات يحجبن الام والام لا تحجبهن، فكيف يجوز تقديم الضعيف على من هو أقوى منه، ولانه لا خلاف ان رجلا لو اوصى لرجل بثلث ماله ولم يجز الورثة يقسم الثلث بينهما، وإذا ضاق مال المفلس عن ديونه قسم بينهم على قدر ديونهم، فوجب إذا ضاقت التركة عن سهام التركة ان يجعل لكل واحد منهم على قدر سهمه حسب قانون النسبه ويضرب به، ولانه إذا كان هناك زوج واختان لام وأم فلا بد ان ينتقض فيها بعض اصول ابن عباس، لانه قال للزوج النصف وللام السدس وللاختين الثلث نقض اصله في ان الاختين تحجبان الام من الثلث إلى السدس، وان قال: للزوج النصف وللام الثلث وللاختين للام الثلث نقض اصله لانه ادخل النقص على من له فرض مقدر لا ينقص عنه، وان قال: للزوج
النصف وللام الثلث وللاختين للام الثلث اعال الفريضة فنقض اصله في العول، والله تعالى اعلم بالصواب.(16/95)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن اجتمع في شخص جهتا فرض، كالمجوسي إذا تزوج ابنته فأتت منه ببنت، فإن الزوجة صارت أم البنت وأختها من الاب، والبنت بنت الزوجة وأختها، فإن ماتت البنت ورثتها الزوجة بأقوى القرابتين وهى بكونها أما، ولا ترث بكونا أختا، لانها شخص واحد اجتمع فيه شيئآن يورث بكل واحد منهما الفرض فورث بأقواهما ولم ترث بهما، كالاخت من الاب والام وإن ماتت الزوجة ورثتها البنت النصف بكونها بنتا، وهل ترث الباقي بكونها أختا، فيه وجهان.
(أحدهما)
لا ترث، لما ذكرناه من العلة.
(والثانى)
ترث، لان إرثها بكونها بنتا بالفرض إرثها بكونها أختا بالتعصيب لان الاخت مع البنت عصبة، فجاز أن ترث بهما كأخ من أم وهو ابن عم.
(الشرح) كان في بعض الشعوب القديمة إباحة التزوج بالابنة والاخت كالمصريين فقد كان فراعيينهم يتزوجون بأخواتهم كزواج توت عنخ آمون من شقيقته نفرتيتى، وكذلك فعل رعمسيس وغيره من هؤلاء، وكذلك المجوس في فارس وخراسان والهند، وقد شبب المتنبي في شعره وتغزل في اخته فقال لا سامحه الله: يا أخت معتنق الفوارس في الوغى
* لاخوك ثم ارق منك وارحم يرنو اليك مع العفاف وعنده
* ان المجوس تصيب فيما تحكم اما الاحكام: فإنه إذا ادلى شخص بنسبين أو سببين إلى مورثه فإنه يورث
بكل واحد منهما فرضا مقدرا مثل ان يتزوج المجوسى ابنته فأولدها بنتا فلا خلاف انهما لا يورثان بالزوجية، واما القرابة فإنهما قد صارتا اختين لاب واحداهما ام الاخرى، فإن مات الاب كان لابنته الثلثان وما بقى لعصبته، فإن ماتت السفلى ورثتها الاخرى بأقوى القرابتين، وهى كونها اما، وهكذا لو وطئ مسلم ابنته بشبهة فأتت ببنت فإنها بنتها واختها لاب، فان ماتت البنت السفلى ورثتها امها(16/96)
بكونها أما لا بكونها أختا، وبه قال زيد بن ثابت ومن الفقهاء مالك.
وذهب علي وابن مسعود وابن ابى ليلى وابو حنيفة وأصحابه إلى أنها ترث بالقرابتين.
دليلنا أنهما قرابتان يورث بكل واحدة منهما فرض مقدر فوجب ان لا يرث بهما معا، كالاخت للاب والام لا ترث بكونها أختا لاب وأختا لام، وإن ماتت الام ورثتها بكونها بنتا النصف.
وهل ترث الباقي بكونها أختا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا ترث للعلة الاولى
(والثانى)
وهو قول أبى حنيفة أنها ترث بكونها بنتا النصف بالفرض، وترث بكونها أختا الباقي بالتعصيب، فجاز أن ترث بهما كأخ من أم هو ابن عم.
وإن اتت منه بإبن وابنة ثم مات الاب كان ماله لابنه وابنته للذكر مثل حظ الانثيين.
وإن ماتت بعد ذلك البنت التى هو زوجة كان مالها لابنتها وابنها ولا يرثان بالاخوة.
وإن مات الابن وخلف أما وهى أخت لاب وأختا لاب وأم فعندنا للام الثلث ولا شئ لها بكونها أختا لاب وللاخت للاب والام النصف والباقى للعصبة وعند ابى حنيفة للاخت للاب والام النصف، وللام بكونها أما السدس، ولها بكونها أختا لاب السدس فوافقنا في الجواب وخالفنا في المعنى، والله اعلم
قال المصنف رحمه الله:
باب ميراث العصبة
العصبة كل ذكر ليس بينه وبين الميت انثى وهم الاب والابن ومن يدلى بهما وأولى العصبات الابن والاب لانهما يدليان بأنفسهما، وغيرهما يدلى بهما، فإن اجتمعا قدم الابن لان الله عز وجل بدأ به فقال (يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) والعرب تبدأ بالاهم فالاهم، ولان الاب إذا اجتمع مع الابن فرض له السدس وجعل الباقي للابن ولان الابن يعصب اخته والاب لا يعصب اخته، ثم ابن الابن وان سفل لانه يقوم مقام الابن في الارث والتعصيب، ثم الاب لان سائر العصبات يدلون به، ثم الجد ان لم يكن اخ لانه أب الاب ثم ابو الجد وان علا، وان لم يكن جد فالاخ لانه ابن الاب ثم ابن الاخ وان سفل(16/97)
ثم العم لانه ابن الجد ثم ابن العم وإن سفل ثم عم الاب لانه ابن ابى الجد ثم ابنه وإن سفل، وعلى هذا أبدا.
(فصل)
وإن انفرد الواحد منهم أخذ جيمع المال، والدليل عليه قوله عز وجل: ان امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) فورث الاخ جميع مال الاخت إذا لم يكن لها ولد، وإن اجتمع مع ذى فرض أخد ما بقى، لما رويناه من حَدِيثُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ورث أخا سعد بن الربيع ما بقى من فرض البنات والزوجة، فدل على أن هذا حكم العصبة.
(فصل)
وان اجتمع إثنان قدم أقربهما في الدرجة لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: الحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فهو لاولى عصبة ذكر.
وإن اجتمع إثنان في الدرجة وأحدهما يدلى بالاب والام والآخر يدلى بالاب قدم من يدلى بالاب والام، لانه أقرب، وإن استويا في الدرجة والادلاء استويا في الميراث لتساويهما
(فصل)
ولا يعصب أحد منهم أنثى إلا الابن وابن الابن والاخ فإنهم يعصبون أخواتهم.
فأما الابن فإنه يعصب اخواته للذكر مثل حظ الانثيين، لقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) وأما ابن الابن فإنه يعصب من يحاذيه من أخواته وبنات عمه، سواء كان لهن شئ من فرائض البنات أو لم يكن.
وقال أبو ثور: إذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لابن الابن ولا شئ لبنات الابن، لان البنات لا يرثن بالبنوة أكثر من الثلثين، فلو عصبنا بنت الابن بابن الابن بعد استكمال البنات الثلثين صار ما تأخذه بالتعصيب زيادة على الثلثين وهذا خطأ لقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) والولد يطلق على الاولاد وأولاد الاولاد والدليل عليه قوله تعالى (يا بنى آدم) وقوله صلى الله عليه وسلم لقوم من أصحابه يا بنى اسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا ولانه يقال لمن ينتسب إلى تميم وطئ بنو تميم وبنو طئ.(16/98)
وقوله: انهن لا يرثن بالبنوة أكثر من الثلثين، فإنما يمتنع ذلك من جهة الفرض، فأما في التعصيب فلا يمتنع، كما لو ترك إبنا وعشر بنات فإن للابن السدس وللبنات خمسة أسداس وهو أكثر من الثلثين وأما.
ابن ابن الابن وإن سفل فإنه يعصب من يحاذيه من أخواته وبنات عمه، سواء بقى لهن من فرض البنات شئ أو لم يبق كما يعصب ابن الابن من يحاذيه.
وأما من فوقه من العمات فينظر فيه فان كان لهن من فرض البنات من الثلثين أو السدس شئ أخذ الباقي ولم يعصبهن لانهن يرثن بالفرض، ومن ورث بالفرض بقرابة لم يرث بالتعصيب بتلك القرابة، وان لم يكن لهن من فرض البنات شئ عصبهن، لما روى عن زيد ابن ثابت رضى الله عنه أنه قال: إذا استكمل البنات الثلثين فليس لبنات الابن
شئ إلا أن يلحق بهن ذكر فيرد عليهن بقية المال إذا كان أسفل منهن رد على من فوقه للذكر مثل حظ الانثيين، وإن كن أسفل منه فليس لهن شئ وبقية المال له دونهن ولانه لا يجوز أن يرث بالبنوة مع البعد، ولا يرث عماته مع القرب، ولا يعصب من هو أنزل منه من بنات أخيه، بل يكون الباقي له لما ذكرناه من قول زيد بن ثابت، فان كن أسفل منه فليس لهن شئ وبقية المال له دونهن، ولانه عصبة فلا يرث معه من هو دونه كالابن مع بنت الابن.
وأما الاخ فانه يعصب أخواته، لقوله تعالى (وان كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين.
(فصل)
ولا يشارك أحد من العصبات أهل الفروض في فروضهم الا ولد الاب والام فانهم يشاركون ولد الام في ثلثهم في المشتركة، وهى زوج وأم أو جدة واثنان من ولد الام وولد الاب والام، واحدا كان أو أكثر، فيفرض للزوج النصف وللام أو الجدة السدس ولولد الام الثلث يشاركهم ولد الاب والام في الثلث، لانهم يشاركونهم في الرحم الذى ورثوا بها الفرض، فلا يجوز أن يرث ولد الام ويسقط ولد الاب والام كالاب لما شارك الام في الرحم بالولادة لم يجز أن ترث الام ويسقط الاب، وتعرف هذه المسألة بالمشركة لما فيها من التشريك بين ولد الاب والام وولد الام في الفرض وتعرف بالحمارية، فانه يحكى فيها عن ولد الاب والام أنهم قالوا: احسب أن أبانا كان حمارا أليس أمنا وأمهم واحدة.(16/99)
(الشرح) حديث سعد بن الربيع ومجئ إمرأته للنبى صلى الله عليه وسلم تشكوا أخاه مضى تخريجه، وحديث ابن عباس رواه الشيخان وأحمد في مسنده وحديث يا بنى إسماعيل ارموا مضى تخريجه في كتاب السبق والرمى، أما العصبة فهى القرابة الذكور الذين يدلون بالذكور، هذا معنى ما قاله علماء اللغة، وهو
جمع عاصب مثل كفرة جمع كافر، وقد استعمل الفقهاء العصبة في الواحد إذا لم يكن غيره لانه قام مقام الجماعة في إحراز جميع المال، والشرع جعل الانثى عصبة في مسألة الاعتاق وفى مسألة من المواريث فقلنا بمقتضاه في مورد النص، وقلنا في غيره: لا تكون المرأة عصبة لا لغة ولا شرعا وعصب القوم بالرجل عصبا من باب ضرب احاطوا به لقتال أو حماية، فلهذا اختص الذكور بهذا الاسم لقوله عليه السلام (فلاولى عصبة ذكر) فذكر صفة الاولى وفيه معنى التوكيد كما في قوله تعالى (إلهين اثنين) .
قال في البيان: العصبة كل ذكر لا يدلى إلى الميت بأنثى، وانما سميت عصبة لانه يجمع المال ويحوزه مشتق من العصابة لانها تحيط الرأس وتجمعه، والاصل في توريث العصبة قوله تعالى (ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم) قال مجاهد: الاقربون ههنا هم العصبة.
إذا ثبت هذا: فأقرب العصبة الابن وان سفل ثم الاب قال المسعودي: ومنهم من لا يسمى الابن عصبة وليس بشئ، والدليل على أن الابن أقرب تعصيبا من الاب قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) فبدأ بذكر الولد قبل الوالد والعرب لا تبدأ الا بالاهم فالاهم، ولان الله تعالى فرض للاب مع الولد السدس فدل على ان الابن اسقط تعصيب الاب، لانه انما يأخذ السدس بالفرض، ولان الابن بعصب اخته بخلاف الاب فان عدم البنون وبنوهم وبنوهم وان سفلوا كان التعصيب للاب وكان احق من سائر العصبات لان سائر العصبات يدلون به، فان عدم الاب كان التعصيب للجد ان لم يكن اخ لانه يدلى بالاب ثم اب الجد وان علا يقدمون على الاعمام وان لم يكن جد وهناك اخ لاب وام أو لاب كان التعصيب له لانه بدلى بالاب، فان اجتمع الاب والاخ كان المال بينهما عندنا على ما يأتي(16/100)
بيانه، وإن اجتمع أخ لاب وأم وأخ لاب فالاخ للاب والام أولى لِمَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وقال: ان أعيان بنى الاخ يتوارثون دون بنى العلات يرث الرجل أخاه لابيه وأمه دون أبيه ولانه يدلى بقرابتين فكان أولى ممن يدلى بقرابة، فإن عدم الاخ للاب والام كان التعصيب للاخ للاب، ويقدم على ابن الاخ للاب والام لانه أقرب، فإن عدم الاعمام وبنوهم كان التعصيب لاعمام الجد الاقرب فالاقرب منهم، ثم بعدهم يكون لبنيهم وعلى هذا فإذا انفرد الواحد من العصبة أخذ جميع المال لقوله تعالى: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فورث الاخ جميع مال الاخت، وان كان هناك اثنان من العصبة في درجة واحدة اقتسما المال بينهما لاستوائهما في النسب، وان كان مع العصبة من له فرض اعطى صاحب الفرض فرضه وكان الباقي للعصبة لما ذكرناه في حديث ابنتى سعد بن الربيع وزوجته وأخته، ويعصب الابن أخته وأخواته، لقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين) وكذلك ابن الابن يعصب أخواته لقوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) إلى قوله (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين) ومن عدا هؤلاء من العصبة لا يعصب أخواته لانه لافرض لهن عند انفرادهن فلم يعصبهن.
(فرع)
وان ماتت إمرأة وخلفت زوجا وأما واثنتين من ولد الام وأخا وأختا لاب وأم كان للام السدس وهو سهم من ستة، وللزوج النصف ثلاثة وللاخوين للام الثلث سهمان ويشاركهما في هذين السهمين الاخ والاخت للاب والام يقتسمونه بينهم الذكر والانثى فيه سواء، وتصح من اثنى عشر للام سهمان وللزوج ستة ولكل واحد من الاخوة والاخوات سهم، وبه قال عمر وعثمان وابن مسعود وزيد بن ثابت وشريح ومالك وإسحاق.
وقال علي بن أبى طالب وابن عباس وأبو موسى الاشعري وأبى بن كعب والشعبى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد: يسقط الاخ والاخت للاب والام(16/101)
دليلنا: أنها فريضة جمعت ولد أم وولد أب وأم يرث كل واحد منهما إذا انفرد، فإذا ورث ولد الام لم يسقط ولد الاب والام كما لو انفرد ولد الام وولد الاب والام، ولم يكن معهم ذو سهم غيرهم، وهذه المسألة تعرف بالحمارية لانه يحكى فيها أن ولد الاب قالوا: هب أن أبانا كان حمارا أليس أمنا وأمهم واحدة؟ وتعرف بالمشتركة أيضا لما فيها من التشريك بين الاخوة للام والاخوة للاب والام في الثلث، وقد مضى لنا في العول تفصيل يشرح مسائل هذه الفصول فلا داعى للتكرار، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
وان اجتمع في شخص واحد جهة فرض وجهه تعصيب كابن عم هو زوج أو ابن عم هو أخ من أم ورث بالفرض والتعصيب لانهما ارثان مختلفان بسببين مختلفين، فان اجتمع ابنا عم أحدهما أخ من الام ورث الاخ من الام السدس والباقى بينه وبين الاخر.
وقال أبو ثور: المال كله للذى هو أخ من الام لانهما عصبتان يدلى أحدهما بالابوين والآخر بأحدهما فقدم من يدلى بهما كالاخوين أحدهما من الاب والآخر من الاب والام، وهذا خطأ لانه استحق الفرض بقرابة الام فلا يقدم بها في التعصيب كابنى عم احدهما زوج.
(فصل)
وان لاعن الزوج ونفى نسب الولد انقطع التوارث بينهما لا نتفاء النسب بينهما، ويبقى التوارث بين الام والولد لبقاء النسب بينهما، وإن مات الولد ولا وارث له غير الام كان لها الثلث، وإن اتت بولدين توأمين فنفاهما
الزوج باللعان ثم مات احدهما وخلف اخاه ففيه وجهان
(أحدهما)
انه يرثه ميراث الاخ من الام لانه لا نسب بينهما من جهة الاب فلم يرث بقرابته كالتوأمين من الزنا إذا مات احدهما وخلف اخاه
(والثانى)
إنه يرثه ميراث الاخ من الاب والام لان اللعان ثبت في حق الزوجين دون غيرهما، ولهذا لو قذفها الزوج لم يحد ولو قذفها غيره حد، والصحيح هو الاول، لان النسب قد انتفى بينهما في حق كل واحد كما انقطع الفراش بينهما في حق كل أحد كما يجوز لكل احد ان يتزوجها.(16/102)
(فصل)
وإن كان الوارث خنثى، وهو الذى له فرج الرجال وفرج النساء فإن عرف أنه ذكر ورث ميراث ذكر.
وإن عرف أنه أنثى ورث ميراث أنثى.
وإن لم يعرف فهو الخنثى المشكل وورث ميراث أنثى.
فإن كان أنثى وحده ورث النصف، فإن كان معه ابن ورث الثلث وورث الابن النصف لانه يقين ووقف السدس لانه مشكوك فيه، وإن كانا خنثيين ورثا الثلثين لانه يقين ووقف الباقي لانه مشكوك فيه، ويعرف أنه ذكر أو أنثى بالبول، فإن كان يبول من الذكر فهو ذكر، وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أنه قال: يورث الخنثى من حيث يبول، وروى عنه أنه قال: إن خرج بوله من مبال الذكر فهو ذكر.
وإن خرج من مبال الانثى فهو أنثى، ولان الله تعالى جعل بول الذكر من الذكر، وبول الانثى من الفرج، فرجع في التمييز إليه.
وإن كان يبول منهما نظرت فإن كان يبول من أحدهما أكثر فقد روى المزني في الجامع أن الحكم للاكثر.
وهو قول بعض أصحابنا، لان الاكثر هو الاقوى في الدلالة.
والثانى أنه لا تعتبر الكثرة لان اعتبار الكثرة يشق فسقط، وإن لم يعرف بالبول سئل عما يميل إليه طبعه، فإن قال أميل إلى النساء فهو ذكر، وإن قال أميل إلى الرجال فهو أنثى.
وإن قال أميل اليهما فهو المشكل، وقد بيناه.
ومن أصحابنا من قال: إن لم يكن في البول دلالة اعتبر عدد الاضلاع، فإن نقص من الجانب الايسر ضلع فهو ذكر، فإن أضلاع الرجل من الجانب الايسر أنقص، فإن الله عز وجل خلق حواء من ضلع آدم الايسر، فمن ذلك نقص من الجانب الايسر ضلع.
ولهذا قال الشاعر: هي الضلع العوجاء لست تقيمها
* ألا ان تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى؟
* أليس عجيبا ضعفها واقتدارها (الشرح) قوله (توأمين) واحدهما توأم، ولا يقال للاثنين توأم، على ما اشتهر على ألسنة العامة خطأ، وإنما يقال للواحد توأم وللاثنين توأمين كالذكر والانثى يقال لهما زوجان وكل واحد منهما زوج، والانثى توأمة والجمع توائم(16/103)
وتؤام كدخان قال الشاعر: قالت لنا ودمعها تؤام
* على الذين ارتحلوا اسلام أما الاحكام فإذا ماتت امرأة وخلفت ابني عم أحدهما زوج ورث الزوج النصف بالفرض والباقى بينه وبين الاخر بالتعصيب.
وان مات رجل وخلف ابني عم أحدهما أخ لام فإن للذى هو أخ لام السدس بالفرض والباقى بينه وبين الاخر نصفان بالتعصيب، وبه قال علي وزيد بن ثابت ومالك والاوزاعي والثوري وأبو حنيفة وذهب عمر وابن مسعود وشريح وأبو ثور أن المال كله لابن العم الذى هو أخ لام من الرجال الاقربين، فينبغي أن يكون له نصيب، ولانه يدلى بنسب يفرض له به فوجب أن لا يقوى به تعصيبه أحدهما زوج (فرع)
إذا قذف رجل امرأته بالزنا وانتفى عنه نسب ولدها، ونفاه باللعان فإن النسب ينقطع بين الاب والولد فلا يثبت بينهما توارث، لان الارث بينهما بالنسب ولا نسب بينهما بعد اللعان، ولا ينقطع التوارث بين الولد والام لانه
لا ينتفى عنها، فإن ماتت الام ورث ولدها جميع مالها إن كان ذكرا، وإن مات الولد ولم يخلف غير الام كان لها الثلث والباقى لمولاه إن كان له مولى، وإن لم يكن له مولى كان الباقي لبيت المال، وان كان له أخ كان له السدس ولامه الثلث والباقى لمولاه أو لبيت المال، وان كان له أخوان لاب وأم كان لامه السدس ولاخويه لابيه وأمه الثلث والباقى لبيت المال، وبه قال ابن عباس وزيد بن ثابت، وهى إحدى الروايتين عن علي وقال أبو حنيفة: يكون للام فرضها ويأخذ الباقي بالارث بناء على أصله في ذلك وذهب ابن مسعود إلى أن الام عصبة له فتأخذ ثلثها بالفرض والباقى بالتعصيب.
وذهب بعض الناس إلى أن عصبته عصبة الام.
دليلنا ما روى البخاري ومسلم عن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال فرق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرجل والمرأة يعنى باللعان وكانت حاملا فانتفى حملها فكان الولد يدعى لامه، وجرت السنة أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها.
والذى(16/104)
فرض الله للام من الولد الثلث أو السدس، فالظاهر يقتضى أنها لا تزاد على ذلك ولان من ورث سهما من فريضة لم يستحق زيادة منها إلا بتعصيبه قياسا على الزوجة، ولان الام لو كانت عصبة لم يسقطها المولى لان العصبة لا تسقط بالمولى فدل على أنها ليست بعصبة.
وأما الدليل على أن عصبتها ليس عصبة لولدها أن الام ليست عصبة للولد فلم يكن من يدلى بها عصبة له كابن الاخ للام إذا ثبت هذا فإن حكم ولد الزنا حكم ولد الملاعنة لانه ثابت النسب من أمه وغير ثابت النسب من أبيه فكان حكمه حم ولد الملاعنة
(فرع)
وإن أتت المرأة بولدين توأمين من الزنا، أو أتت امرأة رجل بولدين توأمين فنفاهما الاب باللعان فكان التوارث بينهما وبين الاب ينقطع لما ذكرناه في الولد ولا ينقطع توارثهما بينهما وبين الام واما إرث أحدهما من الآخر فهل يتوارثان بكونهما أخوين لام لا غير؟ أو بكونهما أخوين لاب وأم؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
يتوارثان بكونهما أخوين لاب وأم، ولان حكم اللعان إنما يتعلق بالزوجين دون غيرهما.
ألا ترى أن الزوج إذا قذفها بعد اللعان لم يحد، وإذا قذفها غيره حد
(والثانى)
انهما يتوارثان بكونهما أخوين لام لا غير وهو الاصح، لان نسبهما قد انقطع عن الاب فكيف يتوارثان به؟ وقد روى أبو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جعل ميراث ابن الملاعنة لامه ولورثتها من بعدها) (مسألة) إذا مات ميت وخلف وارثا خنثى وهو الذى له ذكر رجل وفرج امرأة فإن كان يبول من الذكر لا غير فهو رجل، وان كان يبول من الفرج لا غير فهو امرأة، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أنه قال: ان خرج بوله من مبال الذكر فهو ذكر.
وان خرج من مبال الانثى فهو أنثى.
ولان الله تعالى أجرى العادة في الرجل أنه يبول من ذكره وأن الانثى تبول من فرجها فنرجع في التمييز إليه.(16/105)
وان كان يبول منهما سواء أو خلق الله له موضعا آخر يبول منه فهو مشكل وان كان يبول منهما الا أنه يبول من أحدهما أكثر ففيه وجهان:
(أحدهما)
يعتبر بالاكثر لانه أقوى في الدلالة.
(والثانى)
لا يعتبر به، ولان اعتبار ذلك يشق.
وحكى أن أبا حنيفة سئل عن الخنثى المشكل فقال: يحكم بالمبال، وقال أبو يوسف: ان كان يبول بهما.
قال: لا أدرى قال أبو يوسف: لكى أرى أن يحكم بأسبقهما بولا.
قال أبو حنيفة أرأيت لو استويا في الخروج؟ فقال أبو يوسف بأكثرهما، فقال أبو حنيفة يكل أو يوزن؟ فسكت أبو يوسف.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الخنثى يورث من حيث يبول.
وممن روى عنه ذلك علي ومعاوية وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وأهل الكوفة وسائر أهل العلم.
وقال ابن قدامة في المغنى: قال ابن اللبان: رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عن مولود له قبل وذكر من أبن يورث؟ قال من حيث يبول) وروى أنه عليه السلام أتى بخنثى من الانصار فقال (ورثوه من أول ما يبول منه) قلت: وان لم يكن فيه دلالة من المبال فهل يعتبر فيه نبات اللحية ونهود الثديين وعدد الاضلاع؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يعتبر بنبات اللحية للرجال ونهود الثديين للنساء، وان استوت أضلاعه من الجانبين فهو امرأة، وان نقص أحد جانبيه ضلعا فهو رجل، لان المرأة لها في كل جانب سبع عشرة ضلعا، والرجل من الجانب الايمن سبعة عشر ضلعا ومن الجانب الايسر ستة عشر ضلعا، لانه يقال ان حواء خلقت من ضلع من جانب آدم الايسر، فلذلك نقصت من الجانب الايسر من الرجال، وراثة عن أبيهم.(16/106)
ومنهم من قال: لا يعتبر بذلك، وهو قول أكثر أصحابنا لان اللحية قد نبتت لبعض النساء ولا تنبت لبعض الرجال، وروى أن بعض الرجال كان له ثدى يرضع به في مجلس هرون الرشيد، وأما اعتبار الاضلاع فإنه يشق ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالتشريح الطبى وقد يخفى الضلع فلا يمكن اعتبار ذلك.
إذا ثبت هذا: أو تعذر اعتباره من هذه الاشياء فإنه يرجع إلى قوله وإلى ماذا يميل طبعه، فإن قال: أميل إلى جماع النساء فهو رجل، وإن قال أميل إلى جماع الرجال فهو امرأة وليس ذلك مميزا له وانما هو سؤال له عن ميلان طبعه، فإن أخبر بأحدهما ثم رجع عنه لم يقبل رجوعه لانه إذا أخبر بأحدهما تعلقت به أحكام، وفى قبول قوله في الرجوع اسقاط لتلك الاحكام فلم يجز.
والانسان وقد خلق الله فيه مركبات من الغدد التى منحها سبحانه خصائص الذكورة وأخرى منحها خصائص الانوثة، فبعض هذه الغدد له افرازات في الجسم ونشاط في تشكيل شكل الجسم، فغدد الانوثة يتضح عملها في كبر الارداف ونتوء الثديين وتجرد الوجه من الشعر كاللحية والشارب، ورخامة الصوت في لين ونعومة وارتخاء.
أما غدد الذكورة فيتضح عملها في نبات اللحية والشارب وضمور الارداف وامتشاق الجسم وثخانة شعر الرجل وخشونته عن شعر المرأة، وخشونة صوت الرجل واستقامة نبراته وصحة نطقه، وهذه الغدد يكون مركزها في بيضتي المذاكير عند الرجال ومبائض المرأة القريبة من رحمها، وقد قرأنا كثيرا من أخبار اللائى يتحولن من الاناث إلى الذكران، والذين يتحولون من الذكران اناثا ويحدث اشكال في تغيير هوياتهم وشهادات ميلادهم وشهادات دراساتهم.
وسبيل الطب إلى تحويل هؤلاء هو دراسة أعضائهم السفلى وتحديد النشاط الغالب على هذه الغدد فقد تكون مذاكير الرجل مطوية في عمق يظن أنه فرج
ثم يقوم الطبيب بإجراء جراحة يخلص بها مذاكير الرجل الذى كان في نظر الناس امرأة لاختفاء مذاكيره وانعكاسها إلى أسفل، وقد تكون غدد الانوثة أقوى بمعنى أن تكون له مبايض امرأة مرتخيه في شكل الانثيين للرجل ولكن تصرفات(16/107)
هذا الشخص، وميوله تنبئ عن أنوثة حبيسة حتى إذا أجريت له جراحة لوضع غدده في مكانها الطبيعي صار امرأة.
أما بعد: فقد وصل الطب إلى تحديد حقيقة الخنثى المشكل بالاشعة والتشريح ودراسة الظواهر الخارجية التى تدل على اتجاه الغدد نحو الانوثة أو الذكورة، فإذا رؤى اختفاء الشارب واللحية وبروز الثديين واختفاء المذاكير وتغير الصوت وكبر الارداف عرفنا أنه امرأة وإذا عملت للشخص جراحة تخلص من الاشكال وكذلك إذا كان نشاط الغدد عكس ما قررنا كان للجراحة أيضا دورها في تحديد نوع الشخص كرجل.
بقى بعد ذلك حكم الفقهاء في كثير من الصور الشاذة التى يحتمل وقوعها ولا يحيل العقل أو العلم حدوثها.
قال المسعودي: ان قال: أنا رجل فزوج بإمرأة فحبلت امرأته وحبل هو تبينا أنه امرأة وان كان نكاحه باطلا وأن ولد المرأة غير لاحق به لان حمله يدل على الانوثة قطعا.
وان قال الخنثى: أنا أشتهى جماع الرجال والنساء أو لا أشتهى واحدا منهما فهو مشكل، والحكم في توريث المشكل أنه يعطى ما يتبين أنه له، وان كان معه ورثه أعطى كل واحد منهم ما يتيقن أنه له وهو أقل حقيه ووقف الباقي حتى يتبين امر الخنثى بأى طريق من الطرق والتى أضبطها وادقها طرق الطب الحديث التى يمتزج فيها علم النفس مع علم وظائف الاعضاء والتشريح، وان مات ميت
وخلف ابنا خنثى مشكلا لا غير اعطى نصيب ماله، وان كانا خنثيين اعطيا الثلثين ووقف الباقي إلى ان يتبين امرهما أو يصطلحوا عليه.
وقال ابو حنيفة: يعطى الخنثى المشكل ما يتبين انه له، ويصرف الباقي إلى العصبة، وخرج ابن اللبان وجها آخر وليس بمشهور، وذهبت طائفه من البصريين إلى انه إذا خلف ابنا خنثى مشكلا لا غير اعطى ثلاثه ارباع المال.
واختلفوا في تنزيل حاله، فمنهم من قال: يترك حاله لانه يحتمل ان يكون ذكرا فيكون له جميع المال، ويحتمل ان يكون انثى فيكون له نصف(16/108)
المال، والباقى للعصبه، فالنصف متيقن له والنصف الاخر يتنازعه هو والعصبه فيكون بينهما.
ومنهم من قال: ينزل لانه يحتمل أن يكون ذكرا فيكون له جميع المال، ويحتمل أنه أنثى فيكون له نصف المال فأعطى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى دليلنا أنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى فأعطيناه اليقين وهو ميراث الانثى لانه متيقن له ولم نورثه ما زاد لانه توريث بالشك، وعلى أبى حنيفة أنا لا نتيقن استحقاق العصبة للموقوف له فلم يجز ذلك إليهم وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وان مات رجل وترك حملا وله وارث غير الحمل نظرت، فإن كان له سهم مقدر لا ينقص كالزوجة دفع إليها الفرض، ووقف الباقي إلى أن ينكشف، وإن لم يكن له سهم مقدر كالابن وقف الجميع لانه لا يعلم أكثر ما تحمله المرأة، والدليل عليه أن الشافعي رحمه الله قال: دخلت إلى شيخ باليمن لاسمع منه الحديث فجاءه خمسة كهول فسلموا عليه وقبلوا رأسه، ثم جاءه خمسة شباب فسلموا عليه وقبلوا رأسه، ثم جاءه خمسة فتيان فسلموا عليه وقبلوا رأسه، ثم
جاءه خمسة صبيان فسلموا عليه وقبلوا رأسه، فقلت: من هؤلاء؟ فقال: أولادي كل خمسة منهم في بطن، وفى المهد خمسة أطفال.
وقال ابن المرزبان: أسقطت إمرأة بالانبار كبسا فيه اثنا عشر ولدا كل اثنين متقابلان، فإذا انفصل الحمل واستهل ورث لما روى سعيد بن المسيب رحمة الله عليه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إن من السنه أن لا يرث المنفوس ولا يورث حتى يستهل صارخا، فإن تحرك حركة حى أو عطس ورث، لانه عرف حياته فورث كما لو استهل، وإن خرج ميتا لم يرث لانا لا نعلم أنه كان وارثا عند موت مورثه، وان تحرك حركة مذبوح لم يرث لانه لم يعرف حياته، وان خرج بعضه وفيه حياة ومات قبل خروج الباقي لم يرث لانه لا يثبت له حكم الدنيا قبل انفصال جميعه، ولهذا لا تنقضي به العدة ولا يسقط حق الزوج عن الرجعة قبل انفصال جميعه.(16/109)
(الشرح) حديث أبى هريرة بلفظه هكذا مرفوع المعنى لقوله: من السنة، وقد ورد الحديث مرفوع اللفظ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إذا استهل المولود ورث.
وعن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله والمسور بن مخرمة قالا (قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يرث الصبي حتى يستهل) ذكره أحمد بن حنبل من رواية ابنه عبد الله وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي بلفظ (إذا استهل السقط صلى عليه وورث) وفى إسناده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف.
قال الترمذي: وروى مرفوعا والموقوف أصح، وبه جزم النسائي.
وقال الدارقطني في العلل: لا يصح رفعه.
وحديث أبى هريرة عند أبى داود في إسناده محمد بن اسحاق وفيه مقال معروف، وقد روى عن ابن حبان تصحيح الحديث.
وقد تقدم في كتاب الجنائز الكلام على السقط، وقد اختلف في الامر الذى تعلم به حياة المولود فأهل الفرائض قالوا بالصوت أو الحركة، وهو قول الكرخي.
وروى عن على وزفر والشافعي.
وروى عن ابن عباس وجابر وشريح والنخعي ومالك وأهل المدينة أنه لا يرث ما لم يستهل صارخا.
قال العمراني في البيان: ان مات وخلف حملا وارثا نظرت فإن استهل صارخا فإنه يرث سواء كان فيه روح حال الموت مورثه أو كان يومئذ نطفة لما روى أبو الزبير عَنْ جَابِرٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذا استهل الصبى ورث وصلى عليه.
وقال الشيخ أبو حامد: ولا خلاف في هذا، وان خرج ولم يستهل ولكن علمت حياته بحركة أو غير ذلك، ثم مات فإنه يرث عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لا يرث.
دليلنا: أن كل من تحققت حياته بعد انفصاله وجب أن يرث كما لو خرج واستهل صارخا، ولان النبي صلى الله عليه وسلم انما نص على الاستهلال لان ذلك يعلم به الحياة، فكل ما علمت به الحياة كالحركة والبكاء قام مقامه، وان خرج ميتا لم يرث، لانا لا نعلم أنه نفخ فيه الروح وصار من أهل الميراث أو لم ينفخ(16/110)
وإن انفصل ميتا وتحرك بعد الانفصال حركة لا تدل على الحياة لم يرث.
لان بهذه الحركة لم يعلم حياته لان المذبوح قد يتحرك، واللحم قد يختلج ولا روح فيه وإن خرج بعضه فصرخ ثم مات قبل أن ينفصل لم يرث لانه ما لم ينفصل جميعه لا تثبت له أحكام الدنيا.
إذا ثبت هذا فما حكم مال الميت قبل انفصال الحمل؟ ينظر فيه، فإن كان مع الحمل وارث له فرض لا ينقص الحمل عنه كالزوج والزوجة والام والجدة أعطى
صاحب الفرض فرضه ووقف الباقي من ماله، وإن كان الوارث معه ممن لا سهم له مقدر كالابن والابنة، فاختلف أصحابنا فيه، فذهب المسعودي وابن اللبان وغيرهما إلى أنه يدفع إلى الابن الموجود خمس المال ويوقف الباقي وحكى الشيخ ابو حامد أن هذا مذهب أبى حنيفة لان أكثر ما تلد المرأة في بطن أربعة.
وقال الشيخان أبو حامد الاسفرايينى وأبو إسحاق المروزى: لا يعطى الابن الموجود شيئا من المال بل يوقف جميعه.
وحكى المسعودي أن هذا مذهب أبى حنيفة وقال محمد بن الحسن: يدفع إليه ثلث المال لان أكثر ما تلده المرأة إثنان.
وقال أبو يوسف: يدفع إليه نصف لان الظاهر أنها لا تلد أكثر من واحد.
فإذا قلنا إنه يوقف جميع المال فوجهه أنه لا يعلم أكثر ما تحمله المرأة، وحكى عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قدمت اليمن عند شيخ بها أسمع عليه الحديث.
قال ابن بطال: هذا الشيخ من بادية صنعاء من قرية تسمى خيرة.
قال الشافعي: فبينما هو جالس على بابه إذ جاء خمسة كهول إلى آخر ما قال ووجه سوق القصة أن بعض النساء يمكن أن تلد خمسة توائم، وقد طالعتنا الانباء منذ حين قريب بامرأة ولدت ستة توائم.
وحكى ابن المرزبان أنه قال: أسقطت امرأة عندنا بالانبار كيسا به اثنا عشر ولدا كل اثنين متحاذيان، فعلم أنه ليس لما تلده المرأة حد، واستطرادا على مناسبة الكيس فإن ولدينا الانور وعبد الناصر قد رزقني الله بهما توأمين، وكان الأنور في كيس رائق شفاف فتبارك الله أحسن الخالقين(16/111)
(فرع)
ميت مات فقالت امرأة حامل: إن ولدت أنثى لم ترث منه، وإن ولدت ذكرا ورث منه، وان ولدت ذكرا وأنثى ورث الذكر دون الانثى فهذه
امرأة أخ الميت أو امرأة ابن أخيه أو امرأة عمه أو امرأة ابن عمه.
وان قالت: ان ولدت أنثى ورثت وان ولدت ذكرا لم يرث وإن ولدت ذكرا وأنثى لم يرثا، فهذه امرأة ماتت وخلفت زوجا وبنتا وأبوين وزوجة ابنها حاملا من ابنها، وان ولدت ذكرا وأنثى لم يرثا وان قالت امرأة حامل: ان ولدت ذكرا ورث وان ولدت أنثى لم ترث، وان ولدت ذكرا وأنثى ورثا، فهذا ميت مات وخلف ابنين وزوجة ابن حاملا منه، أو ميت مات وخلف أختين لاب وأم وزوجة أب حاملا منه ولو قالت الحامل: ان ولدت ذكرا ورث وورثت منه، وان ولدت ذكرا وأنثى ورثا وورثت معهما، وان ولدت ابنا لم يرث ولم أرث، فهذا رجل مات وخلف ابنتين وابنة ابن حاملا من ابن ابن آخر قد مات ولو قالت الحامل: ان ولدت أنثى ورثت وورثت معها، وان ولدت ذكرا أو ذكرا وأنثى لم يرث واحد منا، فهذه امرأة ماتت وخلفت ابنة وأبوبن وزوجا وهذه الحامل ابنة ابن ابن هذه الميتة من ابن ابن لها آخر، أفاده العمرانى (فرع)
ان مات رجل وخلف أخا وامرأة حاملا فولدت ابنا وبنتا فاستهلا ثم مات احدهما ثم ماتت المرأة بعده ثم مات الولد الاخر ولم يعلم أيهما مات قبل الام، قال ابن اللبان: وقد قيل القياس لا يرث الولدان أمهما، ولا يرثهما لانه لا يعلم على الانفراد أيهما مات قبلها كالغرقى، فيكون ثمن المرأة لعصبتها والسبعة الاثمان التى للولدين للاخ بميراثه منهما وقيل بل ينزل فيقال: ان الذى مات قبل المرأة وهى البنت، والمال كله للاخ، وان كان الذى مات قبل المرأة هو الابن ورثت المرأة منه ثلث سهامه وهو أربعة أسهم وثلثا سهم من أربعة وعشرين.
وورثت الاخت نصفها والعم سدسها، فلما ماتت المرأة كان ما بيدها وهو سبعة أسهم وثلثا سهم بين ابنتها وعصبتها
نصفين، فيصح لعصبتها ثلاثة أسهم وخمسة أسداس سهم، فلما ماتت البنت صار ما في يدها للعم، فاجتمع للعم بميراثه من الابن والبنت عشرون سهما وسدس(16/112)
سهم، وهذا نصيب الاخ بيقين والباقى من المال وهو ثلاثة أسهم وخمسة أسداس سهم لعصبة المرأة، فيوقف ذلك حتى يصطلحا عليه، فتضرب الفريضة وهى أربعة وعشرون في مخرج السدس وهو سنة، فذلك مائة وأربعة وأربعون.
والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن مات رجل ولم تكن له عصبة ورثه المولى المعتق كما ترثه العصبة على ما ذكرناه في باب الولاء، فإن لم يكن له وارث نظرت، فإن كان كافرا صار ماله لمصالح المسلمين، وإن كان مسلما صار ماله ميراثا للمسلمين، لانهم يعقلونه إذا قتل، فانتقل ماله إليهم بالموت ميراثا كالعصبة، فإن كان للمسلمين إمام عادل سلم إليه ليضعه في بيت المال لمصالح المسلمين، وان لم يكن إمام عادل ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يرد على أهل الفرض على قدر فروضهم إلا على الزوجين فإن لم يكن أهل الفرض قسم على ذوى الارحام على مذهب أهل التنزيل، فيقام كل واحد منهم مقام من يدلى به، فيجعل ولد البنات والاخوات بمنزلة أمهاتهم، وبنات الاخوة والاعمام بمنزلة آبائهم، وأبوالام والخال بمنزلة الام، والعمة والعم من الام بمنزلة الاب، لان الامة أجمعت على الارث بإحدى الجهتين، فإذا عدمت إحداهما تعينت الاخرى.
(والثاني) وهو المذهب: أنه لا يرد على أهل السهام، ولا يقسم المال على ذوى الارحام، لانا دللنا أنه للمسلمين، والمسلمون لم يعدموا، وإنما عدم من
يقبض لهم فلم يسقط حقهم، كما لو كان الميراث لصبى وليس له ولى، فعلى هذا يصرفه من في يده المال إلى المصالح (الشرح) الاحكام: إن مات ميت وخلف من الورثة من له فرض لا يستغرق جميع ماله كالام والابنة والاخت، فان صاحب الفرض يأخذ فرضه وما بقى عن فرضه يكون لعصبته إن كان له عصبة، وان لم يكن له عصبة كان(16/113)
للمولى إن كان له مولى، وإن لم يكن له مولى كان الباقي لبيت المال، فيصرف إلى الامام ليصرفه في مصالح المسلمين.
وبه قال زيد بن ثابت والزهرى والاوزاعي ومالك وذهب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى أنه يرد ذلك إلى ذوى الفروض إلا على الزوجين فانه لا يرد عليهما، فان لم يكن له أحد من أهل الفروض صرف ذلك إلى ذوى الارحام، فيقام كل واحد من ذوى الارحام مقام من يدلى به، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، واختاره بعض أصحابنا إذا لم يكن هناك امام عادل، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقر أن تحوز المرأة ثلاثة مواريث عتيقها ولقيطها وابنها الذى لاعنت به، فأخبر أنها تحوز ميراث ابنها الذى لاعنت عليه، وهذا نص.
ودليلنا قوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) ولم يفرق بين أن يكون هناك وارث غيرها أو لم يكن.
فمن قال ان لها جميع المال فقد خالف ظاهر القرآن.
وكذلك جعل للابنتين الثلثين ولم يفرق، ولان كل من استحق من فريضة سهما مقدرا لم يرث شيئا آخر الا بتعصيب كالزوج والزوجة فعلى هذا ان كان هناك امام عادل يسلم المال إليه، وان لم يكن هناك امام عادل
صرفه من هو بيده إلى مصالح المسلمين، والله أعلم(16/114)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الجد والأخوة
إذا اجتمع الجد أو أبو الجد وإن علا مع ولد الاب والام أو ولد الاب، ولم تنقصه المقاسمة من الثلث، قاسمهم وعصب إناثهم، وقال المزني: يسقطهم، ووجهه أن له ولادة وتعصيبا بالرحم، فأسقط ولد الاب والام كالاب، وهذا خطأ لان ولد الاب يدلى بالاب فلم يسقطه الجد كأم الاب، ويخالف الاب، فإن الاخ يدلى به، ومن أدلى بعصبة لم يرث معه كابن الاخ مع الاخ، وأم الاب مع الاب، والجد والاخ بدليان بالاب فلم يسقط أحدهما الاخر، كالاخوين من الاب وأم الاب مع الجد، ولان الاب يحجب الام من الثلث إلى ثلث الباقي مع الزوجين، والجد لا يحجبها.
(فصل)
وإن اجتمع مع الجد ولد الاب والام وولد الاب عاد ولد الاب والام الجد بولد الاب، لان من حجب بولد الاب والام وولد الاب إذا انفرد حجب بهما إذا اجتمعا كالام، فان كان له جد وأخ من أب وأم، وأخ من أب، قسم المال على ثلاثة أسهم، للجد سهم، ولكل واحد من الاخوين سهم، ثم يرد الاخ من الاب سهمه على الاخ من الاب والام، لانه لا يرث معه فلم يشاركه فيما حجبا عنه، كما لا يشارك الاخ من الاب، الاخ من الاب والام فيما حجبا عنه الام، وتعرف هذه المسألة بالمعاذة لان الاخ من الاب والام عاد الجد بالاخ من الاب، ثم أخذ منه ما حصل له، وان اجتمع مع الجد أخ من الاب وأخت من الاب والام قسم المال على خمسة أسهم، للجد سهمان وللاخ سهمان وللاخت سهم، ثم يرد الاخ على الاخت تمام النصف وهو سهم ونصف، ويأخذ
ما بقى وهو نصف سهم، لان الاخ من الاب إنما يرث مع الاخت من الاب والام ما يبقى بعد استكمال الاخت النصف، وتصح من عشرة وتسمى عشرية زيد رضى الله عنه، وإن اجتمع مع أختين من الاب وأختين من الاب والام قسم المال بينهم على ستة أسهم للجد سهمان، ولكل أخت سهم، ثم ترد الاختان(16/115)
من الاب جميع ما حصل لهما على الاختين من الاب والام، لانهما لا يرثان قبل أن تستكمل الاختان من الاب والام الثلثين.
(الشرح) الجد أبو الأب وان علا وارث بلا خلاف بين أهل العلم، وروى عن عمر رضى الله عنه أنه سأل الصحابة هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل في الجد شيئا؟ فقال معقل بن يسار المزني: نعم شهدت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورثه السدس فقال له عمر: مع من؟ قال: لا أدرى فقال: لا دريت إذن، رواه أبو القاسم بن منده.
فإن اجتمع الجد مع الاخوة أو الاخوات للام أسقطهم بالاجماع، وقد مضى بيان ذلك، وان اجتمع مع الاخوة والاخوات للاب والام أو للاب فقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم يتحرجون من الكلام فيه لما روى سعيد بن المسيب إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أجرؤكم على الجد أجرؤكم على النار، وروى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والاخوة، وروى عن ابن مسعود أنه قال: سلونا عن كل شئ ودعونا من الجد لا حياه الله ولا بياه.
إذا ثبت هذا: فقد اختلف الناس في الجد إذا اجتمع مع الاخوة والاخوات للاب والام أو للاب: فذهب الشافعي رضى الله عنه إلى أن الجد لا يسقطهم، وروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وبه قال مالك
والا وزاعى وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل، وذهبت طائفة إلى أن الجد يسقطهم، وروى ذلك عن أبى بكر وابن عباس وعائشة وأبى الدرداء، وبه قال أبو حنيفة وعثمان البتى وابن جرير الطبري وداود وإسحاق، واخباره المزني.
قال المسعودي: واليه ذهب ابن سريج.
دليلنا قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون، فجعل للرجال والنساء الاقارب نصيبا، والاخوة والاخوات للاب إذا اجتمعوا مع الجد وهم من الاقارب، فمن قال: لا نصيب لهم فقد ترك ظاهر القرآن، وأن الاخ تعصيب أخيه فلم يسقطه الجد(16/116)
كالابن، لان الاخت تأخذ النصف بالفرض فلم يسقطها الجد كالبنت، ولان الجد والاخ على منزلة واحدة من الميت لان الجد أبو أبيه والاخ ابن أبيه، والجد له تعصيب ورحم، والاخ له تعصيب من غير رحم فلم يسقطه الجد كالابن والبنت إذا اجتمعا.
إذا ثبت هذا: فإن الجد كالاب في عامة أحكامه، فيرث بالتعصيب إذا انفرد كالاب ويرث بالفرض مع الابن وابن الابن ويرث بالفرض والتعصيب مع البنت وبنت الابن إلا أن الجد يخالف الاب في أربع مسائل: منها أن الاب يحجب الاخوة للاب والام، أو للاب، والجد لا يحجبهم، والثانية والثالثة: أن الاب يحجب الام عن كمال الثلث إلى ثلث ما يبقى في زوج وأبوين أو زوجه وأبوين فإن الجد لا يحجبها، بل يكون لها ثلث جميع المال مع الجد فيها.
الرابعة: أن الاب يحجب أم نفسه، والجد لا يحجب أم الاب، لانها تساويه في الدرجة إلى الميت، وتدلى بالاب فلم ترث معه.
(فرع)
إذا اجتمع الجد والاخوة أو الاخوات للاب والام أو للاب وليس
معهم من له فرض فللجد الاحظ من المقاسمة، أو ثلث جميع المال، فإن كان معه أخ واحد فالا حظ له ههنا المقاسمه، لانه يأخذ نصف المال، وان كان معه أخوان استوت له المقاسمة والثلث، وان كان معه ثلاثة اخوة فما زاد فالا حظ له ههنا أن يفرد بثلث جميع المال، هذا مذهبنا، وبه قال زيد بن ثابت وابن مسعود.
وروى عن علي رضى الله عنه روايتان.
احداهما: وهى المشهورة أن له الا حظ من المقاسمة أو سدس جميع المال، فإذا كان معه اربعة اخوة فالمقاسمة احظ له، وان كانوا خمسة استوت المقاسمة والسدس، وان كانوا ستة فالسدس احظ له.
والثانية: ان له الا حظ من المقاسمة أو سبع جميع المال، وروى عن عمران ابن الحصين وابى موسى الاشعري انهما قالا: له الا حظ من المقاسمة أو نصف سدس جميع المال، فإذا كان معه عشرة اخوة فالمقاسمة خير له، وان كانوا أحد عشر استوت المقاسمة ونصف السدس.(16/117)
ودليلنا عليهم: أن البنين أقوى حالا من الاخوة، بدليل أن الاخوة يسقطون بالبنين ثم ثبت أن البنين لا يسقطون.
وأما الدليل على ما قلناه فلان حجب الاخوة للجد لا يقع بواحد، وينحصر بعدد، فوجب أن يكون غاية ذلك اثنين قياسا على حجب الاخوة للام عن الثلث، وحجب البنات لبنات الابن، وحجب الاخوات للاب والام للاخوات للاب.
وأما إذا اجتمع مع الجد الاخوات للاب والام أو للاب منفردا فمذهبنا أن حكمهن حكم الاخوة مع الجد فيقاسمهن ويكون المال بينه وبينهن للذكر مثل حظ الانثيين ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث، فإذا نقصته عن الثلث أفرد بثلث جميع المال، وبه قال زيد بن ثابت.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ: يفرض للاخوات فرضهن، ويكون الباقي للجد، ودليلنا أنها فريضة جمعت أبا أب وولد أب فوجب أن لا يأخذ ولد الاب بالفرض كما لو كان مع الجد إخوة واخوات لاب وأم أو للاب، فإن الجد يقاسمهم للذكر مثل حظ الانثيين ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث، فإذا انقصته عن ذلك فرض له الثلث كما ذكرنا والله اعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن كانت المقاسمة تنقص الجد من الثلث بأن زاد الاخوة على اثنين والاخوات على اربع فرض للجد الثلث وقسم الباقي بين الاخوة والاخوات لانا قد دللنا على انه يقاسم الواحد، ولا خلاف انهم لا يقاسمونه ابدا فكان التقدير بالاثنين اشبه بالاصول، فإن الحجب إذا اختلف فيه الواحد والجماعة وجب التقدير فيه بالاثنين كحجب الام من الثلث، وحجب البنات لبنات الابن وحجب الاخوات للاب والام للاخوات للاب، ولا يعاد ولد الاب والام الجد بولد الاب في هذا الفصل، لان المعاذة تحجب الجد ولا سبيل إلى حجبه عن الثلث.
(فصل)
وان اجتمع مع الجد والاخوة من له فرض اخذ صاحب الفرض فرضه وجعل للجد أوفر الامرين من المقاسمة أو ثلث الباقي ما لم ينقص عن سدس(16/118)
جميع المال لان الفرض كالمستحق من المال فيصير الباقي كأنه جميع المال، وقد بينا أن حكمه في جميع المال أن يجعل له أوفر الامرين من المقاسمة أو ثلث المال فكذلك فيما بقى بعد الفرض، فإن نقصته المقاسمة أو ثلث الباقي عن السدس فرض له السدس لان ولد الاب والام ليس بأكثر من ولد الصلب، ولو اجتمع الجد مع ولد الصلب لم ينقص حقه من السدس، فلان لا ينقص مع ولد الاب
والام أولى.
وإن مات رجل وخلف بنتا وجدا وأختا فللبنت النصف والباقى بين الجد والاخت، للذكر مثل حظ الانثيين، وهى من مربعات عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فإنه قال: للبنت النصف والباقى بين الجد والاخت نصفان، وتصح من أربعة، وإن ماتت امرأة وخلفت زوجا وأما وجدا فللزوج النصف وللام الثلث والباقى للجد وهو السدس، وهى من مربعات عبد الله رضى الله عنه لانه يروى عنه أنه قال: للزوج النصف والباقى بين الجد والام نصفان.
وتصح من أربعة.
هذا خطأ.
لان الجد أبعد من الام فلم يجز أن يحجبها كجد الاب مع أم الاب.
وإن مات رجل وخلف زوجة وأما وأخا وجدا فللزوجة الربع وللام الثلث والباقى بين الجد والاخ نصفان، وتصح من أربعة وعشرين، للزوجة ستة أسهم وللام ثمانية والباقى بين الجد والاخ لكل واحد منهما خمسه، وهى من مربعات عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فانه روى عنه أنه جعل للزوجة الربع وللام ثلث ما بقى والباقى بين الجد والاخ نصفان وتصح من أربعة، للزوجة سهم وللام سهم وللاخ سهم وللجد سهم وإن مات رجل وخلف امرأة وجدا وأختا، فللمرأة الربع والباقى بين الجد والاخت للذكر مثل حظ الانثيين وتعرف بالمربعة، لان مذهب زيد ما ذكرناه ومذهب أبى بكر وابن عباس رضى الله عنهما: للمرأة الربع، والباقى للجد.
ومذهب علي وعبد الله رضى الله عنهما: للمرأة الربع وللاخت النصف والباقى للجد واختلفوا فيها على ثلاثة مذاهب واتفقوا على القسمة من أربعة.
وإن مات رجل وخلف أما وأختا وجدا، فللام الثلث، والباقى بين الجد والاخت للذكر مثل(16/119)
حظ الانثيين، وتسمى الخرقاء لكثرة اختلاف الصحابة فيها، فان زيدا ذهب إلى ما قلناه وذهب أبو بكر وابن عباس رضى الله عنهما إلى أن للام الثلث والباقى للجد.
وذهب عمر إلى أن للاخت النصف وللام ثلث الباقي وهو السدس والباقى للجد وذهب عثمان رضى الله عنه إلى أن للام الثلث والباقى بين الجد والاخت نصفان وتصح من ثلاثة.
وذهب علي عليه السلام إلى أن للاخت النصف وللام الثلث والباقى للجد، وعن ابن مسعود روايتان: إحداهما مثل قول عمر رضى الله عنه، والثانية للاخت النصف والباقى بين الام والجد نصفان، وتصح من أربعة وتعرف بمثلثة عثمان ومربعة عبد الله رضى الله عن الجميع
(فصل)
ولا يفرض للاخت مع الجد الا في مسألة واحدة وهى: إذا ماتت امرأة وخلفت زوجا وأما وأختا وجدا، فللزوج النصب وللام الثلث وللاخت النصف وللجد السدس.
وأصلها من ستة وتعول إلى تسعه، ويجمع نصف الاخت وسدس الجد فيقسم بينهما للذكر مثل حظ الانثيين، وتصح من سبعة وعشرين، للزوج تسعة وللام ستة وللجد ثمانية وللاخت أربعة، لانه لا بد من أن يعطى الزوج النصف لانه ليس ههنا من يحجبه، ولا بد من أن تعطى الام الثلث لانه ليس ههنا من يحجبها، ولا بد من أن يعطى الجد السدس لان أقل حقه السدس، ولا يمكن اسقاط الاخت لانه ليس ههنا من يسقطها ولا يمكن أن تعطى النصف كاملا، لانه لا يمكن تفضيلها عن الجد، فوجب أن يقسم مالهما بينهما للذكر مثل حظ الانثيين، وتعرف هذه المسألة بالاكدرية لان عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلا اسمه الاكدر فنسبت إليه وقيل سميت أكدرية لانها كدرت على زيد أصله لانه لا يعيل مسائل الجد وقد أعال ولا يفرض للاخت مع الجد وقد فرض، فان كان مكان الاخت في الاكدرية أخ لم يرث لان للزوج النصف وللام الثلث وللجد السدس، ولا
يجوز أن يشارك الجد في السدس لان الجد يأخذ السدس بالفرض، والاخ لا يرث بالفرض وانما يرث بالتعصيب ولم يبق ما يرثه بالتعصيب فسقط.
وبالله التوفيق.(16/120)
(الشرح) الاحكام: إذا اجتمع مع الجد والاخوة من له فرض وهم ستة: البنت وبنت الابن والزوج والزوجة والام والجدة فان صاحب الفرض يعطى فرضه ويكون للجد أوفى ثلاثة أشياء: المقاسمة.
أو ثلث ما يبقى أو سدس جميع المال، وإن كان الفرض أقل من نصف جميع المال فثلث ما يبقى خير له من السدس فيكون له الاحظ من المقاسمة أو ثلث ما يبقى، وإن كان الفرض النصف فثلث ما يبقى والسدس واحد، وإن كان الفرض أكثر من النصف فالسدس أكثر من ثلث ما يبقى فيكون للجد الاحظ من المقاسمة أو السدس إذا ثب هذا فمات الرجل وخلف بنتا وأختا لاب وأم وجدا فللبنت النصف والباقى بين الجد والاخت للذكر مثل حظ الانثيين.
والمقاسمة ههنا خير للجد هذا مذهبنا، وبه قال زيد بن ثابت وقال علي بن أبي طالب: للبنت النصف وللجد السدس والباقى للاخت دليلنا: أنه فريضة جمعت أبا أب وولد أب فاشتركا في الفاضل من فرض ذوى السهام كما لو كان بدل الاخت أخا مع البنت والجد (فرع)
زوج وجد وأم فالتركة من ستة: للزوج ثلاثة وللام الثلث سهمان وللجد سهم وبه قال زيد بن ثابت.
فان كان بدل الزوج زوجة كان لها الربع وللام الثلث الباقي للجد وروى عن عمر روايتان (إحداهما) أن للزوج النصف وللام ثلث ما بقى والباقى للجد (والثانية) للزوج النصف وللام السدس والباقى للجد.
ويفيد اختلاف الروايتين إذا كان مكان الزوج زوجة، فعلى
إحدى الروايتين يكون للزوجة الربع وللام الثلث مما بقى للجد وروى عن ابن مسعود ثلاث روايات، روايتان كروايتي عمر، والثالثة للزوج النصف والباقى بين الجد والام، فيكون على هذه الرواية من مربعات ابن مسعود.
وإن مات رجل وخلف زوجة وأما وأخا وجدا كان أصلها من إثنى عشر: للزوجة ثلاثة وللام أربعة وللاخ وللجد ما بقى وهى خمسة.
وتصح من أربعة وعشرين وهى من مربعات ابن مسعود فانه قال: للزوجة الربع وللام ثلث ما بقى وللاخ سهمان.
وإن خلف رجل زوجه وأختا وجدا كان للزوجة الربع سهم من أربعه(16/121)
والباقى بين الجد والاخت للذكر مثل حظ الانثيين، ويصح من أربعه، وبه قال زيد بن ثابت.
وقال أبو بكر وابن عباس: للزوجه الربع والباقى للجد.
وقال عمر وابن مسعود: للزوجه الربع سهم من أربعه، وللاخت النصف سهمان وللجد ما بقى وهو سهم وتعرف هذه المسألة بالمربعة، فانهم اختلفوا في قدر ما يرث كل واحد من الجد والاخت واتفقوا على أن أصلها من أربعه.
(فرع)
وإن مات رجل وخلف أما وأختا وجدا فهذه تسمى الخرقاء لتخرق أقاويل الصحابة فيها.
قال ابن بطال (لعلها مأخوذة من الخرق، وهى الارض الواسعه) وأن فيها سبعة أقاويل فأبو بكر وابن عباس وعائشة وهم من قالوا إن الجد مسقط للاخوة، فللام الثلث والباقى للجد ويسقط الاخت.
وعن عمر فيها روايتان (إحداهما) للاخت النصف وللام السدس والباقى للجد (والثانيه) أن للاخت النصف وللام ثلث ما يبقى والباقى بين الجد والاخت نصفا.
وعن ابن مسعود فيها ثلاث روايات، روايتان مثل روايتي عمر والثالثه
للاخت النصف والباقى بين الجد والام نصفان، فيكون على هذه الرواية من مربعته.
وعن عثمان يقسم المال كله على ثلاثة للام سهم وللاخت سهم وللجد سهم.
وقال على للام الثلث وللاخت النصف وللجد السدس، وقال زيد بن ثابت للام الثلث والباقى بين الجد والاخت للذكر مثل حظ الانثيين.
وتصح من تسعه، وبه قال الشافعي وأصحابه.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه، وليس يقال لاحد من الاخوة والاخوات مع الجد الا في الاكدريه، وهو زوج وأم وأخت لاب وأم أو لاب وجد، وقد اختلف الصحابة رضى الله عنهم فيها، فذهب أبو بكر وابن عباس أن للزوج النصف وللام الثلث والباقى للجد، وتسقط الاخت.
وقال عمر وابن مسعود للزوج النصف وللاخت النصف وللجد السدس فيعول إلى تسعه، فتأخذ الاخت ثلاثه.
وقال زيد بن ثابت تعول إلى تسعه كما قال على، ولكن يجمع الثلاثه التى للاخت والسهم الذى للجد فتصير أربعة، فيقسمان للذكر مثل حظ الانثيين.
وتصح من سبعه وعشرين للزوج وللام سته وللجد(16/122)
ثمانية وللاخت أربعة، وبهذا قال الشافعي وأصحابه، وإنما كان كذلك لانه ليس ههنا من يحجب الزوج عن النصف ولا من يحجب الام عن الثلث، ولا يمكن أن ينتقص الجد عن السدس لان الابن لا يسقط عنه فهؤلاء أولى، وقد استكملت الفريضة ولا سبيل إلى إسقاط الاخت لانه ليس ههنا من يسقطها ففرض لها النصف، ولا يمكن أن يأخذ جميعه لانه لا يجوز تفضيلها على الجد فوجب أن يجتمع نصيبها ويقسماه للذكر مثل حظ الانثيين، كما قلنا في غير هذا الموضع.
وإختلف الناس لاى معنى سميت أكدرية، فروى عن الاعمش أنه قال إنما سميت أكدرية لان عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلا يقال له أكدر فذكر
له اختلاف الصحابة فيها فنسبت إليه.
وقيل سميت أكدرية لانها كدرت على زيد أصله، لانه لا يفرض للاخوات مع الجد وقد فرض لها ههنا، ولا يعيل مسائل الجد وقد أعال ههنا.
وقال ابن بطال يقال إنه اسم المرأة في المسألة فنسبت إليها، وإن كان بدل الاخت أخا فإن للزوج النصف وللام الثلث وللجد السدس، ويسقط الاخ لان الاخ له تعصيب محض ولا يمكن أن يفرض له.
ولم يبق في الفريضة شئ فسقط وإن كان هناك زوج وأم وأختان وجد فليست بأكدرية، بل للزوج النصف وللام السدس والباقى بين الجد والاختين للذكر مثل حظ الانثيين، فيصح من إثنى عشر، فإن كان هناك زوج وأم وبنت وأخت وجد كان أصلها من إثنى عشر للزوج ثلاثة وللبنت سته، وللام سهمان وللجد سهمان ولا شئ للاخت لان المسألة قد عالت ولا يفرض لها لانها انما تأخذ مع البنت بالتعصيب ولا تعصيب ههنا (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه والاخوة للاب والام معادون الجد بالاخوة والاخوات للاب.
وجملة ذلك أنه إذا اجتمع جد وأخ لاب وأم وأخ لاب فان الاخ للاب والام يعاد الجد بالاخ للاب فيقسم المال بينهم على ثلاثة لكل واحد سهم ثم يرجع الاخ للاب والام فيأخذ سهم الذى بيد الاخ للاب، وبه قال زيد بن ثابت ومالك بن أنس.
وذهب على وابن مسعود إلى أن الاخ للاب يسقط ويكون المال بين الجد والاخ للاب والام نصفين(16/123)
دليلنا أن الجد إذا حجب بأخوين وارثين جاز أن يحجب بأخوين أحدهما وارث والآخر غير وارث، كالام تحجب بالاخوين أحدهما لاب والآخر لاب وأم، فإن كان هناك أخ لاب وأم وأخت لاب وجد عاد الاخ للاب والام الجد بالاخت للاب فيقسم المال على خمسة، للجد سهمان وللاخ للاب والام سهمان
وللاخت سهم، ثم يرجع الاخ فيأخذ سهم الاخت، وان كان هناك أخوات لاب وأم وأخ لاب وجد ولا حاجة ههنا إلى المعادة لان الجد لا يجوز أن ينقص عن الثلث.
(فرع)
وان اجتمع أخت لاب وأم وأخت لاب وجد كان المال بينهم على أربعة أسهم، للجد سهمان ولكل أخت سهم ثم تأخذ الاخت للاب والام السهم الذى بيد الاخت للاب وقد حصل معها نصف المال، وان كان هناك أخت لام وأب وأخ لاب وجد كان المال بينهم على خمسة، للجد سهمان وللاخت سهم وللاخ سهمان ثم تأخذ الاخت من الاخ تمام النصف وهو سهم ونصف: لانه لا يجوز أن ترث أكثر من نصف المال.
فبضرب الخمسة في اثنين فتصبح من عشرة للجد اثنان في اثنين فذلك أربعة وللاخت سهمان ونصف في اثنين فذلك خمسة وللاخ النصف في اثنين فذلك سهم، وتعرف هذه المسألة بعشرية زيد، لانه يبقى للاختين سهم من عشرة فتضرب في العشرة اثنين فذلك عشرون، وتعرف بالعشرينيه.
وان اجتمع مع الجد والاخوة للاب والام والاخوة للاب من له فرض كان الحكم فيه حكم ما لو كان للجد والاخوة للاب والام من له فرض في أن يجعل للجد الاوفر من المقاسمه بعد الفرض أو ثلث ما يبقى أو سدس جميع المال ويعاد الاخوة للاب والام الجد بالاخوة للاب على ما ذكرنا.
والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل(16/124)
قال المصنف رحمه الله:
كتاب النكاح
النكاح جائز لقوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) ولما روى علقمة عن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فأنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) .
(الشرح) قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم مرتبط بأول الآية (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خقتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) .
قال الشافعي رضى الله عنه: أن لا يكثر عيالكم، فدل على أن قلة العيال أدنى وقيل: قد قال الشافعي ذلك وخالف جمهور المفسرين وقالوا: معنى الآية: ذلك أدنى أن لا تجوروا ولا تميلوا، فانه يقال: عال الرجل يعول عولا إذا مال وجار ومنه عول الفرائض، لان سهامها زادت: ويقال عال يعيل عيلة إذا احتاج.
قال تعالى ((وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) .
وقال الشاعر: وما يدرى الفقير متى غناه
* وما يدرى الغنى متى يعيل قال ابن القيم: وأما كثرة العيال فليس من هذا ولا من هذا أي لا من الفقر ولا من الجور قلت: إن ما ذكره الشافعي لغة حكاها الفراء عن الكسائي قال: ومن الصحابة من يقول: عال يعول إذا كثر عياله، قال الكسائي وهى لغة فصيحة سمعتها من العرب، على أن قصد المصنف من سوق الآية هو الاستشهاد بها على جواز النكاح، وسنعود إليه.
أما حديث علقمة عن عبد الله بن مسعود فقد رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده، وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن سعد بن أبى وقاص قال(16/125)
((رد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أنس (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: أصلى ولا أنام، وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا بال اقوام قالوا كذا وكذا، لكنى اصوم وافطر، واصلي وانام، واتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس منى) وفى مسند احمد وصحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال لى ابن عباس: هل تزوجت، قلت: لا، قال: تزوج فان خير هذه الامة اكثرها نساء.
وفى سنن الترمذي وابن ماجه عن قتادة عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَهَى عن التبتل) وقرأ قتادة (ولقد ارسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم ازواجا وذرية) قال الترمذي: إنه حسن غريب قال: وروى الاشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن سعد بن هشام عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقال: كلا الحديثين صحيح.
(قلت) وفى سماع الحسن من سمرة خلاف مشهور مضى في غير موضع، وحديث عائشة الذى ذكره الترمذي رواه النسائي ايضا، وفى مسند الفردوس عن ابن عمر مرفوعا (حجوا تستغنوا، وسافروا تصحوا، وتناكحوا تكثروا فانى اباهى بكم الامم) وفى إسناده محمد بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمن البيلمانى وهما ضعيفان، ورواه البيهقى عن الشافعي انه ذكره بلاغا وزاد في آخره حتى بالسقط، ورواه البيهقى عن ابى امامة بلفظ (تزوجوا فانى مكاثر بكم الامم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى) وفى اسناده محمد بن ثابت وهو ضعيف، وعند الدارقطني في المؤتلف وابن قانع في الصحابة عن حرملة بن النعمان بلفظ (امرأة ولود احب إلى الله من امرأة حسناء لا تلد، انى مكاثر بكم الامم يوم القيامة) وقد ضعف اسناده ابن حجر، وعند ابن ماجه عَنْ عَائِشَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (النكاح من سنتى، فمن لم يعمل بسنتى فليس منى، وتزوجوا فانى مكاثر
بكم الامم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فان الصوم له وجاء) وفى اسناده عيسى بن ميمون وهو ضعيف.(16/126)
وفى مسلم عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (الدنيا متاع وخير متاعها لمرأة الصالحة) وعند النسائي والطبراني بإسناد حسن عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عينى في الصلاة) وعند الترمذي والدارقطني والحاكم عن أبى هريرة مرفوعا (ثلاثة حق على الله إعانتهم، المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد أن يستعف، والمكاتب يريد الاداء) وعند الحاكم عن أنس بلفظ (من رزقة الله إمرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني) .
قال ابن حجر: وإسناده ضعيف وروى بلفظ (من تزوج إمرأة صالحة فقد أعطى نصف العبادة) وفى إسناده زيد العمى وهو ضعيف.
وعند أبى داود والحاكم عن ابن عباس مرفوعا بلفظ (ألا أخبركم بخير ما يكن المرء؟ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إذَا نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها اطاعته) وعند الترمذي نحوه بإسناد منقطع، وعند البغوي في معجم الصحابة بلفظ (من كان موسرا فلم ينكح فليس منا) ورواه البيهقى وقال: هو مرسل، وكذا جزم به أبو داود والدولابى.
وقد روى ابن ماجه والحاكم عن ابن عباس (لم ير المتحابين مثل التزويج) وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم وصححه والطبراني من رواية عطاء عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا (لا صرورة في الاسلام) ولا رواية لعطاء عن عكرمة ولعله من رواية عمرو بن عطاء بن وراز، وهو مجهول أو عمرو بن أبى الجوار، والصرورة الذى لم يتزوج والذى لم يحج، وعند الحاكم من حديث عياض بن
غنم مرفوعا (لا تزوجوا عاقرا ولا عجوزا فإنى مكاثر بكم الامم) وإسناده ضعيف وقد قال ابن حجر في الفتح: وفيه أيضا عن الصنابح بن الاعسر وسهل بن حنيف وحرملة بن النعمان ومعاوية بن حيدة.
أما لغات الفصل وغريبه، فإن الباءة بالد النكاح والتزوج وقد تطلق الباءة على الجماع نفسه، ويقال أيضا: الباهة والباه بالالف مع الهاء وابن قتيبة يجعل هذه الاخيرة تصحيفا وليس كذلك، بل حكاه الازهرى عن ابن الانباري،(16/127)
وبعضهم يقول الهاء مبدلة من الهمزة يقال: فلان حريص على الباءة والباء والباه بالهاء والقصر أي على النكاح.
قال ابن الانباري: الباه الواحدة والباء الجمع ثم حكاها الازهرى عن ابن الاعرابي أيضا ويقال إن الباءة هو الموضع الذى تبوء إليه الابل ثم جعل عبادة عن المنزل ثم كنى به عن الجماع إما لانه لا يكون إلا في الباءة غالبا أو لان الرجل يتبوأ من أهله أي يستمكن كما يتبوأ من داره، وقوله عليه الصلاة والسلام (من استطاع منكم الباءة) على حذف مضاف والتقدير من وجد مؤنة النكاح فليتزوج ومن لم يستطع أي من لم يجد أهبة فعليه بالصوم، وقيل الباءة بالمد القدرة على مؤن النكاح وبالقصر الوطئ.
قال أبو العلاء المعرى.
والباء مثل الباء يخ
* - فض للدناءة أو يجر قال ابن حجر: ولا مانع من الحمل على المعنى الاعم بأن يراد بالباءة القدرة على الوطئ ومؤن التزويج، وقد وقع في رواية عند الاسماعيلي من طريق أبى عوانه بلفظ (من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج) وفى رواية للنسائي (من كان ذا طول فلينكح) وقوله (اغض للبصر وأحصن للفرج) أي أشد غضا للبصر وأشد
إحصانا ومنعا من الفاحشه، وقوله (فعليه) قيل هذا من إغراء الغائب، ولا تكاد العرب تغرى إلا الشاهد، تقول عليك زيدا، ولا تقول عليه زيدا.
قال الطيبى وجوابه أنه لما كان الضمير للغائب راجعا إلى لفظة من وهى عبارة عن المخاطبين في قوله (يا معشر الشباب) والشباب جمع شاب.
قال الازهرى لم يجمع فاعل على فعال غيره، وبيان لقوله (منكم) جاز قوله عليه لانه بمنزلة الخطاب، وأجاب القاضى عياض بأن الحديث ليس فيه اغراء الغائب، بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولا بقوله (من استطاع منكم) وقد استحسنه القرطبى والحافظ ابن حجر، وقوله: وجاء بكسر الواو والمد وأصله الغمز ومنه وجأ في عنقه أذا غمزه، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، ووجأ أنثييه غمزهما حتى رضهما وتسمية الصيام وجاء استعارة، والعلاقه المشابهة،(16/128)
لان الصوم لما كان مؤثرا في ضعف شهوة النكاح شبه بالصوم.
وقد يقال: إن الصوم بما فيه من عبادة في ذاته وفيما يلابسه من ترك لشهواته الحسية والمعنوية فإنه صارف عن مقارفة الشهوات أو التجانف للمآثم، وهو بما يحيط بالمرء من فيض نور الطاعة وقاية من الفحشاء أي وقاية.
(أما الاحكام) فان النكاح مشروع بالكتاب والسنة كما أوردنا من نصوصهما وقد اختلف الفقهاء في كونه واجبا أو جائزا فمذهبنا جوازه، وهو المشهور من مذهب أحمد بن حنبل رضى الله عنه إلا أن يخاف أحد على نفسه الوقوع في محظور بتركه فيلزمه إعفاف نفسه.
وحكى عن داود أنه واجب في العمر مرة واحدة للآية والخبر.
دليلنا أن الله تعالى حين أمر به علقه على الاستطابه بقوله (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) والواجب لا يقف على الاستطابة، وقال.
مثنى وثلاث ورباع.
ولا يجب ذلك
بحال بالاتفاق.
قالت عائشة رضى الله عنها كانت مناكح أهل الجاهلية على أربعة أقسام.
(أحدها) مناكح الرايات وهو أن المرأة كانت تنصب على بابها راية لتعرف أنها عاهرة، فيأتيها الناس.
(والثانى)
أن الرهط من القبيله أو الناحية كانوا يجتمعون على وطئ إمرأة لا يخالطهم غيرهم، فإذا جاءت بولد ألحق بأشبههم (الثالث) نكاح الاستخبار، وهو ان المرأة إذا ارادت ان يكون ولدها كريما بذلت نفسها لعدة من فحول القبائل ليكون ولدها كأحدهم (الرابع) النكاح الصحيح وهو الذى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه ولدت من نكاح لا سفاحا، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد قبل النبوة من عمها ورقة بن نوفل، وكان الذى خطبها له عمه ابو طالب وخطب فقال الحمد لله الذى جعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا وجعلنا سدنته، وهذا محمد قد علمتم مكانه من العقل والنبل، وان كان في المال قل، الا ان المال ظل زائل،(16/129)
وعارية مسترجعة.
وما أردتم من المال فعلى، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك، فزوجها منه عمها.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا يصح النكاح إلا من جائز التصرف.
فأما الصبى والمجنون فلا يصح منهما عقد النكاح لانه عقد معاوضة فلم يصح من الصبى والمجنون كالبيع.
وأما المحجور عليه لسفه فلا يصح نكاحه بغير إذن الولى لانه عقد يستحق به المال فلم يصح منه من غير اذن الولى ويصح منه بإذن الولى لانه لا يأذن له إلا فيما يرى الحظ فيه.
وأما العبد فلا يصح نكاحه بغير إذن المولى لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (إذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل) ولانه بالنكاح تنقص قيمته ويستحق بالمهر والنفقة كسبه، وفى ذلك إضرار بالمولى فلم يجز من غير إذنه، ويصح منه باذن المولى لانه لما أبطل النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه بغير إذنه دل على أنه يصح باذنه، ولان المنع لحق المولى فزال باذنه.
(فصل)
ومن جاز له النكاح وتاقت نفسه إليه وقدر على المهر والنفقة فالمستحب له أن يتزوج لحديث عبد الله، ولانه أحصن لفرجه وأسلم لدينه، ولا يجب ذلك لما روى ابراهيم بن ميسرة رضى الله عنه عن عبيد بن سعد يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مِنْ أحب فطرتي فليستن بسنتى، ومن سنتى النكاح) ولانه ابتغاء لذة تصبر النفس عنها فلم يجب كلبس الناعم وأكل الطيب، ومن لم تق نفسه إليه، فالمستحب له أن لا يتزوج لانه تتوجه عليه حقوق هو غنى عن التزامها ويحتاج أن يشتغل عن العبادة بسببها، وإذا تركه تخلى للعبادة فكان تركه أسلم لدينه.
(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه ابن ماجه.
قال الترمذي (لا يصح انما هو عن جابر، ورواية جابر عند أحمد وأبى داود والترمذي وحسنه بلفظ.
(أيما عبد تزوج بغير اذن سيده فهو عاهر) أما حديث عبيد بن سعد فأصح طرقه رواينا عائشة وأنس في الرهط الذين(16/130)
جاءوا إلى البيت، وقد مضى تخريجه.
أما الاحكام فإنه لا يصح النكاح إلا من حر بالغ عاقل مطلق التصرف.
فأما العبد فلا يصح نكاحه بغير إذن السيد.
وأما الصبى والمجنون فلا يصح نكاحهما لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ.
وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يفيق)
ولانه عقد معاوضة فلم يصح من الصبى والمجنون كالبيع.
وأما السفيه فلا يصح نكاحه بغير إذن الولى، لانه لا يأذن له إلا فيما فيه مصلحة من ذلك (فرع)
النكاح مستحب غير واجب عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ في المشهور من مذهبه وأكثر أهل العلم وقال داود بن على الظاهرى: هو واجب على الرجل والمرأة مرة في العمر دليلنا كما قلنا قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء فعلقه بالاستطابة وما كان واجبا لا يتعلق بالاستطابة.
وروى أبو أيوب الانصاري إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أربع من سنن المرسلين: الختان والتعطر والسواك والنكاح) وقوله (من أحب فطرتي) فعلقه على المحبة وسماه سنة، فإذا أطلقت السنة اقتضت المندوب إليه.
وروى أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رسول الله ما حق الزوج على المرأة؟ فبين لها ذلك، فقالت لا والله لا تزوجت أبدا، فلو كان النكاح واجبا لانكر عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، وروى أن جماعة من الصحابة ماتوا ولم يتزوجوا ولم ينكر عليهم إذا ثبت هذا فالناس في النكاح على أربعة أضرب: ضرب تتوق نفسه إليه، أي اشتاقت ويجد أهبته وهو المهر والنفقة وما يحتاج إليه، فيستحب له أن يتزوج لما رواه عبد الله بن مسعود حديث (يا معشر الشباب) والضرب الثاني: من تتوق نفسه إلى الجماع ولا يقدر على المهر والنفقة فالمستحب له أن لا يتزوج، بل يتعاهد نفسه بالصوم فإنه له وقاية.
ولا يشغل ذمته بالمهر والنفقة.
والضرب الثالث: من لا تتوق نفسه إلى الجماع ويريد التخلي إلى عبادة الله تعالى فيستحب له أن لا يتزوج، لانه يلزم ذمته حقوقا هو مستغن عن التزامها(16/131)
والضرب الرابع، من لا تتوق نفسه وهو قادر على المهر والنفقة ولا يريد العبادة فهل يستحب له أن يتزوج؟ فيه قولان حكاهما العمرانى في الفروع،
(أحدهما)
لا يستحب له أن يتزوج لانه يشغل ذمته بما لا حاجة به إليه.
(والثانى)
يستحب له لقوله صلى الله عليه وسلم (من أحب فطرتي فليستن بسنتى، ومن سنتى النكاح.
وقال أبو حنيفة النكاح مستحب بكل حال، وبه قال بعض أصحابنا، بل قال أبو عوانة الاسفرايينى من محدثي أصحاب الشافعي (انه يجب للثائق إليه القادر على مؤنته) وصرح به في صحيحه، ونقله المصعبى في شرح مختصر الجوبنى وجها وقال ابن حزم في المحلى وفرض على كل قادر على الوطئ إن وجد ما يتزوج به أو يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن لم يجد فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة من السلف.
انتهى.
وقال الماوردى من أصحابنا الذى نطق به مذهب مالك أنه مندوب، وقد يجب عندنا في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به.
وقال القاضى عياض هو مندوب في حق كل من يرجى منه النسل، ولو لم يكن في الوطئ شهوة، وكذا في حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطئ.
فأما من لا نسل له ولا إرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك ورضيت.
وقد يقال انه مندوب أيضا لعموم (لا رهبانيه في الاسلام) قال الحافظ بن حجر ولم أره بهذا اللفظ.
لكن في حديث سعد بن أبى وقاص عند الطبراني (إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفيه السمحه)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والمستحب أن لا يتزوج إلا ذات دين لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (تنكح المرأة لاربع، لمالها وحسبها وجمالها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) ولا يتزوج إلا ذات عقل، لان القصد بالنكاح العشرة وطيب العيش، ولا يكون ذلك الا مع ذات عقل، ولا يتزوج إلا من يستحسنها لما روى أبو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عن(16/132)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال (إنما النساء لعب، فإذا اتخذ أحدكم لعبة فليستحسنها)
(فصل)
وإذا أراد نكاح امرأة فله أن ينظر وجهها وكفيها، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رجلا أراد أن يتزوج امرأة من نساء الانصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم (انظر إليها فإن أعين الانصار شيئا) ولا ينظر إلى ما سوى الوجه والكفين لانه عورة، ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه، لانه يعجبها من الرجل ما يعجب الرجل منها.
ولهذا قال عمر رضى الله عنه (لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم، فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن) ويجوز لكل واحد منهما أن ينظر إلى وجه الآخر عند المعاملة، لانه يحتاج إليه للمطالبة بحقوق العقد والرجوع بالعهدة.
ويجوز ذلك عند الشهادة للحاجة إلى معرفتها في التحمل والاداء.
ويجوز لمن اشترى جارية أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها للحاجة إلى معرفتها ويجوز للطبيب أن ينظر إلى الفرج للمداواة لانه موضع ضرورة فجاز له النظر إلى الفرج كالنظر في حال الختان.
وأما من غير حاجة فلا يجوز للاجنبي أن ينظر إلى الاجنبية، ولا للاجنبية أن تنظر إلى الأجنبي، لقوله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم.
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن)
وروت أم سملة رضى الله عنها قالت: كنت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده ميمونة، فأقبل ابن أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجبن عنه، فقلت (يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال أفعمياوان أنتما أليس تبصرانه؟) وروى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْدَفَ الفضل فاستقبلته جارية من خثعم فلوى عنق الفضل، فقال أبوه العباس: لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ؟ قَالَ رَأَيْتُ شَابًّا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما) ولا يجوز النظر إلى الامرد من غير حاجة لانه يخاف الافتتان به كما يخاف الافتتان بالمرأة(16/133)
(فصل)
ويجوز لذوى المحارم النظر إلى ما فوق السرة ودون الركبة من ذوات المحارم لقوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الاربة من الرجال) ويجوز للرجل أن ينظر إلى ذلك من الرجل وللمرأة أن تنظر إلى ذلك من المرأة لانهم كذوى المحارم في تحريم النكاح على التأييد فكذلك في جواز النظر.
واختلف أصحابنا في مملوك المرأة، فمنهم من قال هو محرم لها في جواز النظر والخلوة، وهو المنصوص لقوله عز وجل (أو ما ملكت أيمانهن) فذكره مع ذوى المحارم في إباحة النظر.
وروى أنس رضى الله عنه قال (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة غلاما فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الغلام فتقنعت بثوب إذا قنعت رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك) ومنهم من قال ليس بمحرم، لان المحرم من يحرم على التأييد، وهذا لا يحرم على التأييد فلم يكن محرما، واختلفوا في المراهق مع الاجنبية، فمنهم من
قال هو كالبالغ في تحريم النظر لقوله تعالى (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) فدل على أنه لا يجوز لمن ظهر على عورات النساء، ولانه كالبالغ في الشهوة فكان كالبالغ في تحريم النظر.
ومن أصحابنا من قال يجوز له النظر إلى ما ينظر ذو محرم، وهو قول أبى عبد الله الزبيري لقوله عز وجل (وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم فليستأذنوا) فدل على أنهم إذا لم يبلغوا الحلم لم يستأذنوا،
(فصل)
ومن تزوج امرأة أو ملك جارية يملك وطأها فله أن ينظر منها إلى غير الفرج، وهل يجوز أن ينظر إلى الفرج؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (النظر إلى الفرج يورث الطمس)
(والثانى)
يجوز، وهو الصحيح، لانه يملك الاستمتاع به فجاز له النظر إليه كالفخذ وإن زوج أمته حرم عليه النظر إلى مابين السرة والركبة لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة والركبة)(16/134)
(الشرح) حديث أبى هريرة رواه الشيخان وأحمد في مسنده وأصحاب السنن ما عدا الترمذي، وحديث أنس رواه أبو داود والبيهقي وابن مردويه وفى إسناده أبو جميع سالم بن دينار الهجيمى البصري، قال ابن معين ثقة، وقال أبو زرعة الرازي: بصرى لين الحديث.
وقوله (إذا قنعت) بفتح النون المشددة سترت وغطت.
وأما حديث النظر إلى الفرج يورث الطمس، فقد مضى في العبادات في ستر العورة وضعفه النووي وغيره، وكذلك حد العورة من الجارية مضى في ستر العورة فليراجع.
أما غريبه فقوله (لاربع) أي لاجل أربع، وقوله (لحسبها) بفتح الحاء والسين أي شرفها، والحسب في الاصل الشرف بالآباء وبالاقارب مأخوذ من
الحساب، لانهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها فيحكم فان زاد عدده على غيره، وقيل المراد بالحسب هنا الافعال الحسنة، وقيل المال، وهو مردود بذكره قبله، ويؤخذ من الحديث أن الشريف النسيب يستحب له أن يتزوج نسيبة، إلا ان تعارض نسيبة غير ذات دين، وغير نسيبة ذات دين، فتقدم ذات الدين، وهكذا كل الصفات وأما ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة رفعه (إن أحساب أهل الدنيا الذى يذهبون إليه المال) فقال ابن حجر: يحتمل أن يكون المراد أنه حسب من لا حسب له فيقوم النسب الشريف لصاحبه مقام المال لمن لا نسب له، ومنه حديث سمرة يرفعه (الحسب المال والكرم التقوى) أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم.
قوله (وجمالها) يؤخذ منه استحباب نكاح الجميلة، ويلحق بالجمال في الذات الجمال في الصفات، قوله (فاظفر بذات الدين) فيه دليل على أن اللائق بذى الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شئ لاسيما فيما تطول صحبته كالزوجه وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه والبزار والبيهقي يرفعه (لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لاموالهن فعسى أموالهن أن تطغبهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولامة سوداء ذات دين أفضل)(16/135)
والحديث يكشف البشر وما استقر في طباعهم من قصد هذه الخصال الاربع وآخرها عندهم ذات الدين فاظفر أيها الحصيف بذات الدين تربت يداك أي لصقت بالتراب وهى كناية عن الفقر، وهو خبر بمعنى الدعاء، لكن لا يراد به حقيقته وبهذا جزم صاحب العمدة.
وحكى ابن العربي أن المعنى: استغنت يداك، ورد بأن المعروف أترب إذا استغنى، وترب إذا افتقر، وقيل: معناه ضعف عقلك، وقيل: افتقرت من العلم وقيل: فيه شرط مقدر أي وقع ذلك لك إن لم تفعل ورجحه ابن العربي.
وحديث إنما النساء لعب مضى تخريجه.
أما حديث أبى هريرة فقد رواه أحمد والنسائي، وأخرجه مسلم من حديث أبى حازم عنه ولفظه (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج إمرأة من الانصار فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الانصار شيئا) أما حديث أم سلمة فقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان وفى إسناده نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري وقد وثق، وقد روى مالك في موطئه عن عائشة أنها احتجبت من أعمى فقيل لها: إنه لا ينظر اليك قالت: لكنى أنظر إليه.
أما حديث على كرم الله وجهه فقد أخرجه الترمذي وصححه، ورواه البخاري من حديث عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه، وفيه قصة المرأة الخثعمية التى سألته صلى الله عليه وسلم عن أمها التى لم تحج، وقد مضى في كتاب الحج تفصيله وطرقه وفحواه.
أما الاحكام: فإنه يستحب له أن يتزوج ذات العقل، لان القصد بالنكاح طيب العيش معها ولا يحصل ذلك مع من لا عقل لها، ويستحب له أن يتزوج بكرا لما روى جابر قال: تزوجت إمرأة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتزوجت يا جابر؟ فقلت: نعم، فقال: بكرا أم ثيبا؟ فقلت له ثيبا، فقال هلا جارية بكرا تلاعبها وتلاعبك إلخ الحديث، ويستحب له أن لا يتزوج إلا من(16/136)
يستحسنها لحديث (فإذا اتخذ أحدكم لعبة فليستحسنها) ويستحب له أن يتزوج ذات نسب لحديث تنكح المرأة الاربع ولقوله صلى الله عليه وسلم (تخيروا لطفكم) ولقوله صلى الله عليه وسلم (إياكم وخضراء الدمن، قيل وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) .
والاولى أن يتزوج من غير عشيرته لان الشافعي رضى الله عنه قال إذا تزوج الرجل من عشيرته فالغالب على ولده الحمق، ومن المقرر في علم الاجناس أن من أسباب انقراض الجنس حصره في أسرة واحدة فان ذلك يفضى بتدهور السلالات وضعف النسل، ويستحب له أن يتزوج الولود، لقوله صلى الله عليه وسلم (تناكحوا تكثروا) وقوله صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الولود الودود) وقوله صلى الله عليه وسلم (سوداء ولود خير من حسناء عقيم) ويستحب له أن يتزوج في شوال، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تزوجني رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شوال، وبنى بى في شوال، فكانت عائشة رضى الله عنها تستحب أن يبتنى بنسائها في شوال.
(فرع)
ويجوز للحر أن يجمع بين أربع زوجات حرائر، ولا يجوز له أن يجمع بين أكثر من أربع لقوله: مثنى وثلاث ورباع، قال الصيمري من أصحابنا إلا أن المستحب أن لا يزيد على واحدة لاسيما في زماننا هذا أي في زمان الصيمري وقال القاسم وشيعته (القاسمية) يجوز أن يجمع بين تسع ولا يجوز له أكثر من ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات عن تسع زوجات، ولان قوله تعالى (مثنى وثلاث ورباع فيكون المجموع تسعا.
وذهبت طائفة من الرافضة إلى أنه يتزوج أي عدد شاء.
دليلنا أن غيلان بن سلمة الثقفى أسلم وتحته عشر نسوة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امسك منهن أربعا وفارق سائرهن.
وروى عن نوفل بن معاوية قال: اسلمت
وتحتي خمس نسوة فقال لى النبي صلى الله عليه وسلم (امسك اربعا منهن وفارق واحدة منهن.
واما الآية فالمراد بها التخيير بين الاثنتين والثلاث والاربع، ولم يرد به الجمع، كقوله تعالى (اولى اجنحة مثنى وثلاث ورباع في صفة الملائكه(16/137)
وتقول.
جاء في القوم مثنى وثلاث ورباع، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان مخصوصا بذلك، وما روى أن أحدا من الصحابة جمع بين أكثر من اربع زوجات.
(فرع)
وإذا أراد الرجل خطبة إمرأة جاز له النظر منها إلى ما ليس بعورة منها وهو وجهها وكفاها بإذنها وبغير اذنها ولا يجوز له أن ينظر إلى ما هو عورة منها وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وحكى عن مالك أنه لا يجوز له ذلك الا بإذنها.
وقال المزني: لا يجوز أن ينظر إلى شئ منها.
وقال داود بن على: يجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها إلا إلى فرجها.
دليلنا على المزني حديث أبى هريرة مرفوعا (أنظر إليها فإن في أعين الانصار شيئا) .
وروى عن المغيرة بن شعبة قال: أردت أن أنكح إمرأة من الانصار فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (اذهب فانظر إليها فانه أحرى يؤدم بينكما قال فذهبت فأخبرت أباها بذلك، فذكر أبوها ذلك لها فرفعت الخدر فقالت: إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذن لك أن تنظر فانظر، وإلا فإنى أخرج عليك ان كنت تؤمن بالله ورسوله.
وأما الدليل على داود فقوله تَعَالَى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ منها) قبل في التفسير: الوجه والكفان، وظاهر الاية يقتضى أنه لا يجوز للمرأة أن تبدى الا وجهها وكفيها.
وروى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ
تزويج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها، فدل على أنه لا يجوز له النظر إلى غير ذلك، ولان ذلك يدل على سائر بدنها.
إذا ثبت هذا: فله أن يكرر النظر إلى وجهها وكفيها، لما روى أبو الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: إذا قذف الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن يتأمل محاسن وجهها.
ولا يمكنه تأمل ذلك الا بأن يكرر إليها النظر.
قال الصيمري: فإذا نظر إليها ولم توافقه فالمستحب له أن يسكت ولا يقول(16/138)
لا أريدها.
قال: وقد جرت عادة الرجال في وقتنا هذا أن يبعث بامرأة ثقة لتنظر إلى المرأة التى يريدون خطبتها، وهو خلاف السنة، وذلك في كتاب الافصاح.
(فرع)
قال الشيخ أبو إسحاق: ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه لانه يعجبها منه ما يعجبه منها، ولهذا قال عمر رضى الله عنه: لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم فانه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن وإذا أراد الرجل أن ينظر إلى امرأة اجنبية منه من غير سبب فلا يجوز له ذلك لا إلى العورة ولا إلى غير العورة لقوله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم) ولحديث على في ارداف الرسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس خلفه في حجة الوداع في قصة الخثعمية.
وَرُوِيَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لعلى (يا على لا تتبع النظرة النظرة فانما لك الاولى وليست لك الآخرة) اخرجه احمد وابو داود والترمذي من حدث بريدة.
ولا يجوز للمرأة ان تنظر إلى الرجل الأجنبي لا إلى العورة ولا إلى غيرها من غير سبب، لقوله تعالى (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) ولحديث دخول ابن ام مكتوم على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ام سلمة
وميمونة، وقيل عائشة وحفصة فأمرهما صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب، قائلا افعمياوان انتما، أليس تبصرانه، ولان المعنى الذى منع الرجل لاجله هو صرف الافتتان، وهذا موجود في المرأة لانها اسرع إلى الافتتان لغلبة شهوتها فحرم عليها ذلك.
(فرع)
ويجوز للرجل ان ينظر إلى وجه المرأة الاجنبية عند الشهادة وعند البيع منها والشراء، ويجوز لها ان تنظر إلى وجهه لذلك، لان هذا يحتاج إليه فجاز النظر لاجله، ويجوز لكل واحد منهما ان ينظر إلى بدن الآخر إذا كان طبيبا واراد مداواته لانه موضع ضرورة فزال تحريم النظر لذلك.
(فرع)
واختلف اصحابنا في الصبى المراهق مع المرأة الاجنبية، فمنهم من قال: هو كالرجل البالغ الأجنبي معها فلا يحل لها ان تبرز له لقوله تعالى: أو الطفل الذين لم يتطهروا على عورات النساء.
ومعناه لم يقووا على مواقعة النساء(16/139)
والمراهق يقوى على المواقعة والجماع فهو كالبالغ، ومنهم من قال: هو معها كالبالغ من ذوى محارمها لقوله تَعَالَى (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) فأمر بالاستئذان إذا بلغوا الحلم: فدل على أنه قبل أن يبلغ الحلم يجوز دخولهم من غير استئذان.
ولا يجوز للرجل الخصئ أن ينظر إلى بدن المرأة الاجنبية.
قال ابن الصباغ: إلى أن يكبر ويهرم وتذهب منه شهوته، قال: وكذلك المخنث لقوله تعالى (أو التابعين غير أولى الاربة من الرجال) وروى أن مخنثا كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يعدونه من غير أولى الاربة.
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه هو ينعت امرأة لعبد الله بن أمية أخى أم سلمة يقول: يا عبد الله ان فتح الله
عليكم الطائف فإنى أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يدخلن هؤلاء عليكم.
رواه البخاري ومسلم وأخرجه أحمد في مسنده عن أم سلمة، ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث عائشة.
وقوله (تقبل بأربع) يعنى أربع عكن في مقدم بطنها، وقوله (تدبر بثمان) لان الاربع محيطة ببطنها وجنبيها فتبدو العكن من خلفها ثمان أربع من اليمين وأربع من اليسار.
وهذا هو تفسير مالك رضى الله عنه للحديث، وتابعه عليه جمهور العلماء في اللغة والحديث.
(فرع)
ويجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة من ذوات محارمه، وكذلك يجوز لها النظر إليه من غير سبب ولا ضرورة، لقوله تعالى (ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن) الآية وفى الموضع الذى يجوز له النظر إليها منها وجهان حكاهما المسعودي
(أحدهما)
وهو قول البغداديين من أصحابنا أنه يجوز له النظر إلى جميع بدنها الا ما بين السرة والركبة، لانه لا يحل له نكاحها بحال، فجاز له النظر إلى ذلك كالرجل مع الرجل.
(والثانى)
وهو اختيار القفال أنه يجوز له النظر إلى ما يبدو منها عند المهنه (1)
__________
(1) المهنه بفتح الميم بعدها هاء ساكنة ثم نون مفتوحه فهاء وهى الخدمة.(16/140)
لانه لا ضرورة به إلى النظر إلى ما زاد على ذلك.
قال المسعودي: وهكذا الوجهان في النظر إلى أمة غيره.
ويجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن الرجل الا إلى ما بين السرة والركبة من غير سبب ولا ضرورة، لانه لا يخاف الافتتان بذلك (فرع)
إذا امتلكت المرأة خادما فهل يكون كالمحرم لها في جواز النظر والخلوة به؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يصير محرما لها، وقد مال في المهذب إلى
ذلك، وهو المنصوص لقوله تعالى (أو ما ملكت أيمانهن) فعده من ذوى المحارم وروت أُمِّ سَلَمَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إذا كان مع احداكن مكاتب وفى فلتحتجب عنه) فلولا أن الاحتجاب لم يكن واجبا عليهن قبل ذلك لما أمرهن به.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى فاطمة رضى الله عنها غلاما فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليها ومعه على والغلام وليس عليها الا ثوب واحد، فأرادت أن تغطى رأسها به ورجليها فلم يبلغ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بأس عليك انما هو أبوك وزوجك وخادمك، ولان الملك سبب يحرم الزوجية بينهما فوجب أن يكون محرما له كالنسب والرضاع.
والثانى لا يكون محرما لها.
قال الشيخ ابو حامد وهو الصحيح عند أصحابنا لان الحرمة انما تثبت بين شخصين لم تخلق بينهما شهوه كالاخ والاخت.
والخادم وسيدته شخصان خلقت بينهما الشهوة فهو كالأجنبي.
وأما الآية فقال أهل التفسير، والمراد بها الا ما دون العبيد.
وأما الخبر فيحتمل أن يكون الغلام الَّذِي أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفاطمة صغيرا.
اه (فرع)
وإذا تزوج الرجل امرأة يحل له الاستمتاع بها كان لكل واحد منهما النظر إلى جميع بدن الآخر، لانه يملك الاستمتاع به، وهل يجوز له النظر إلى الفرج؟، فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه موضع يجوز الاستمتاع به فجاز له النظر إليه كالفخذ
(والثانى)
لا يجوز لما روى من ان النظر إلى الفرج يورث الطمس وهو العمى، قال تعالى (فطمسنا أعينهم) ولان فيه دناءة وسخفا.
وقال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، يعنى بالطمس العمى أي في النظر، وقال الطبري في العدة(16/141)
أي أن الولد بينهما يولد أعمى.
وإذا زوج الرجل أمته كانت كذوات محارمه فلا
يجوز له أن ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة للحديث: إذا زوج أحدكم أمته فلا ينظر منها إلى مابين السرة والركبه، ولانه إذا زوجها فحكم الملك ثابت بينهما وإنما حرم عليه الاستمتاع بها فصارت كذوات محارمه.
(مسألة (1) قال الشافعي رضى الله عنه: ان الله عز وجل لما خص به رسوله صلى الله عليه وسلم من وحيه وأنابه بينه وبين خلقه بما فرضه عليهم من طاعته افترض عليه أشياء خففها على خلقه ليزيده بها إن شاء الله قربة، وأباح له أشياء حظرها على خلقه زيادة في كرامته وتبيينا لفضيلته.
وجملة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خص بأحكام في النكاح وغيره ولم يشاركه غيره فيها فأما ما خص به في غير النكاح فأوجب الله تعالى عليه أشياء لم يوجبها على غيره ليكون ذلك أكثر لثوابه، فأوجب عليه السواك والوتر والاضحية.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاث كتبهن الله على ولم تكتب عليكم: السواك والوتر والاضحية.
وكان يجب عليه إذا لبس لامة حربه أن لا ينزعها حتى يلقى العدو.
الدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ما كان لنبى إذا لبس لامته أن ينزعها حتى حكم الله بينه وبين عدوه وأما قيام الليل فمن أصحابنا من قال كان واجبا عليه إلى أن مات لقوله تعالى (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) الايه.
والمنصوص أنه كان واجبا عليه ثم نسخ بقوله تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) وبعض أهل العلم يرى أن الاية ليست ناسخه.
وأن قوله نافلة لك تجرى مجرى معناها اللغوى، أي زيادة خاصة بك وليست نافلة بمعناها الاصطلاحي أمن كونها دون الواجب.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى منكرا أنكره وأظهره، لان إقراره لغيره على ذلك يدل على جوازه، وقد ضمن الله تعالى له النصر.
وحرم عليه أشياء لم يحرمها على
__________
(1) هو فصل محذوف من النسخة المطبوعة أورده العمرانى في كشف ما في
المهذب من الاشكال، وكم في النسخة المطبوعة من نقص استدركناه في فروعنا.(16/142)
غيره تنزيها له وتطهيرا، فحرم على الكتابة وقول الشعر وتعليمه تأكيدا لحجته وبيانا لمعجزته: قال تبارك وتعالى (وما كنت تنلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون.
وذكر النقاش من أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما مات حتى كتب، والاول هو المشهور: وحرمت عليه الصدقة المفروضة قولا واحدا.
وفى صدقة التطوع قولان وقد مضى بيانه مفصلا في الزكاة وحرم عليه خائنة الاعين وهو الرمز بالعين، لما روى أن رجلا دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما خرج قال: هلا قتلتموه، فقالوا هلا رمزت الينا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما كان لنبى أن يكون له خائنة الاعين.
وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرت به إبل عست بأبوالها وأبعارها فغطى عينيه، فقيل له في ذلك، فقال قال الله تعالى (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) وأباح الله تعالى له أشياء لم يبحها لغيره تفضيلا له واختصاصا، منها انه أباح له الوصال في الصوم.
والدليل عليه أنه نهى عن الوصال، فقيل له يا رسول الله انك تواصل، فقال (انى لست مثلكم، انى أطعم وأسقى) وفى رواية (انى أبيت عند ربى فيطعمني ويسقيني) وأبيح له أربعة أخماس الغنيمة، وخمس الخمس من الفئ والغنيمة، وأبيح له أن يختار منها ما شاء، وأكرمه الله تعالى بأشياء منها أحل له الغنائم ولامته وكانت لا تحل لمن قبله من الانبياء.
ويزعم اليهود في توراتهم أن السبى والفئ والغنيمة حلال لهم بالحرب.
وفى التلمود كل اموال ودماء ونساء وأطفال غير اليهود مستباحه لليهود، وقالوا ليس
علينا في الاميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وجعلت له الارض مسجدا وطهورا ولامته وكان من قبله من الانبياء لا تصح صلاتهم إلا في المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم (فضلنا على الناس بثلاث، جعلت الارض لنا مسجدا وترابها طهورا وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكه وجعل له معجزات كمعجزات الانبياء قبله وزيادة، فكانت معجزة موسى العصا وانبجاس الماء من الصخرة.(16/143)
وقد انشق القمر للنبى صلى الله عليه وسلم وخرج الماء من بين أصابعه وكانت معجزة عيسى إحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص، وقد سبحت الحصى بيد النبي صلى الله عليه وسلم وحن الجذع إليه، وفضله الله تعالى عليهم بأن جعل القرآن معجزته وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا كانت نبوته مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة، ونصر بالرعب مسيرة شهر، وبعث إلى الخلق كافة، وقد كان كل نبى يبعث في نسب قومه خاصة، وقال صلى الله عليه وسلم: تنام عيناى ولا ينام قلبى، وكان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، وأما ما خص بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الاحكام في النكاح فاختلف أصحابنا في المنع من الكلام فيه فحكى الصيمري أبا على بن خيران منع من الكلام فيه وفى الامامة لان ذلك قد انقضى فلا معنى للكلام فيه.
وقال سائر أصحابنا: لا بأس في الكلام بذلك وهو المشهور من المذهب لما فيه من زيادة العلم، وقد تكلم العلماء فيما لا يكون كما بسط الفرضيون مسائل الوصايا وقالوا: إذا ترك أربعمائة جدة وأكثر.
وإذا ثبت هذا فانه أبيح للنبى صلى الله عليه وسلم أن ينكح من النساء أي عدد شاء.
وحكى الطبري في العدة وجها آخر أنه لم يبح له أن يجمع بين أكثر من تسع
والاول هو المشهور، قال تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) قيل في التفسير: أن لا تجوروا في حقوقهن فحرم الزيادة على الاربع وندب إلى الاقتصار على واحدة خوفا من الجور وترك العدل، وهذا مأمون من النبي صلى الله عليه وسلم ولان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ثمانى عشرة امرأة، وقيل: بل خمسة عشر وجمع بين أربعة عشر، وقيل بل بين أحد عشر، ومات عن تسع هن عائشة بنت أبى بكر الصديق، وحفصة بنت عمر، وأم سلمه بنت أبى أمية، وأم حبيبة بنت أبى سفيان وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حي، وزينب بنت جحش، فهؤلاء ثمان نسوه كان يقسم لهن إلى أن مات صلى الله عليه وسلم والتاسعة سودة بنت زمعة كانت وهبت ليلتها لعائشة حتى قال له ربه تعالى(16/144)
(لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن) ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى (يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك اللائى هاجرن معك) الاية.
قال الشافعي رضى الله عنه فمن ذلك أن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها وأمر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ يخير نساءه فاخترته، ومن ذلك أن الله تعالى خيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا وبين أن يكون نبيا مسكينا فاختار المسكنة وهى أعلى المنزلتين ومن ثم أمره الله تعالى أن يخير زوجاته فربما كان فيهن من تكره المقام على الشدة تنزيها له، ومما خص به النبي صلى الله عليه وسلم أن جعل أزواجه أمهات المؤمنين.
قال الشافعي.
معنى قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم) في معنى دون معنى وأراد به أن أزواجه اللاتى مات عنهن لا يحل لاحد نكاحهن ومن استحل ذلك كان كافرا.
أما إذا تزوجها ولم يدخل بها ثم فارقها كالكلبيه التى قالت أعوذ بالله منك.
فقال لها لقد استعذت بمعاذ الحقى بأهلك، فقيل انه تزوجها عكرمة بن أبى جهل في خلافة الصديق أو خلافة عمر فهم برجمها، فقيل له انه لم يدخل بها فخلى عنها وقيل ان الذى تزوج منها الاشعث بن قيس الكندى.
وقال القاضى أبو الطيب الذى تزوجها المهاجر ابن أبى أميه ولم ينكر أحد ذلك فدل على انه اجماع، ومما خص به النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ فضل زوجاته على نساء العالمين.
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن، وقوله (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينه يضاعف لها العذاب ضعفين) إلى قوله تعالى (وتعمل صالحا نؤتها اجرها مرتين) فجعل حدهن مثل حد غيرهن لكمالهن وفضيلتهن كما جعل حد الحر مثلى حد العبد وكذلك حسناتهن مضاعفه لهن تفضيلا لهن وتشريفا، وقد قال الشافعي في كتاب احكام القرآن الذى رواه عنه البيهقى، وابان من فضله من المباينه بينه وبين خلقه فرض عليهم طاعته في غير آية من كتابه، وافترض عليه اشياء خففها عن خلقه، قال العمرانى وهذا أوضح معنى مما نقله المزني وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(16/145)
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
بَابُ مَا يصح به النكاح
لا يصح النكاح إلا بولي فان عقدت المرأة لم يصح، وقال أبو ثور: إن عقدت بإذن الولى صح، ووجهه أنها من أهل التصرف، وإنما منعت من النكاح لحق الولى، فإذا أذن زال المنع كالعبد إذا أذن له المولى في النكاح، وهذا خطأ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رفعه (لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها) ولانها غير مأمونة على البضع لنقصان عقلها، وسرعة انخداعها، فلم يجز تفويضه إليها كالمبذر في المال، ويخالف العبد فانه منع لحق المولى، فانه ينقض قيمته بالنكاح، ويستحق كسبه في المهر والنفقة فزال المنع باذنه، فان عقد النكاح بغير
ولى وحكم به الحاكم ففيه وجهان.
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى: أنه ينقض حكمه، لان مخالف لنص الخبر: وهو ما رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل: فنكاحها باطل، فان اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له فان أصابها فلها مهرها بما استحل من فرجها) .
(والثانى)
لا ينقض، وهو الصحيح، لانه مختلف فيه فلم ينقض فيه حكم الحاكم كالشفعة للجار.
وأما الخبر فليس بنص لانه محتمل للتأويل، فهو كالخبر في شفعة الجار، فان وطئها الزوج قبل الحكم بصحته لم يجب الحد.
وقال أبو بكر الصيرفى: إن كان الزوج شافعيا يعتقد تحريمه وجب عليه الحد كما لو وطئ إمرأة في فراشه وهو يعلم أنها أجنبية، والمذهب الاول لانه وطئ مختلف في إباحته فلم يجب به الحد، كالوطئ في النكاح بغير شهود، ويخالف من وطئ امرأة في فراشه وهو يعلم أنها أجنبية لانه لا شبهة له في وطئها، وان طلقها لم يقع الطلاق.
وقال أبو إسحاق: يقع لانه نكاح مختلف في صحته، فوقع(16/146)
فيه الطلاق كنكاح المرأة في عدة أختها، والمذهب الاول، لانه طلاق في غير ملكه فلم يصح كما لو طلق أجنبية.
(فصل)
وان كانت المنكوحة أمة فوليها مولاها لانه عقد على منفعتها فكان إلى المولى كالاجارة، وان كانت الامه لامرأة زوجها من يزوج مولاتها، لانه نكاح في حقها فكان إلى وليها كنكاحها، ولا يزوجها الولى الا باذنها لانه تصرف في منفعتها فلم يجز من غير اذنها، فان كانت المولاة غير رشيدة نظرت، فان إن وليها غير الاب والجد، لم يملك تزويجها، لانه لا يملك التصرف في مالها
وان كان الاب أو الجد ففيه وجهان:
(أحدهما)
لا يملك، لان فيه تغريرا بمالها لانها ربما حبلت وتلفت،
(والثانى)
وهو قول أبى اسحاق: انه يملك تزويجها لانها تستفيد به المهر والنفقه واسترقاق ولدها، وان كانت المنكوحة حرة فوليها عصباتها وأولاهم الاب ثم الجد ثُمَّ الْأَخُ ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ ثُمَّ الْعَمُّ ثم ابن العم، لان الولاية في النكاح تثبت لدفع العار عن النسب، والنسب إلى العصبات، فان لم يكن لها عصبه زوجها المولى المعتق، ثم عصبة المولى، ثم مولى المولى، ثم عصبته، لان الولاء كالنسب في التعصيب فكان كالنسب في التزويج، فان لم يكن فوليها السلطان، لقوله صلى الله عليه وسلم (فان اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له) ولا يزوج أحد من الاولياء وهناك من هو أقرب منه، لانه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه الاقرب فالاقرب كالميراث، وان استوى اثنان في الدرجه وأحدهما يدلى بالابوين والآخر بأحدهما كأخوين أحدهما من الاب والام والآخر من الاب ففيه قولان.
قال في القديم: هما سواء، لان الولاية بقرابة الاب وهما في قرابة الاب سواء، وقال في الجديد: يقدم من يدلى بالابوين لانه حق يستحق بالتعصيب فقدم من يدلى بالابوين على من يدلى بأحدهما كالميراث، فان استويا في الدرجة، والادلاء فالمستحب ان يقدم اسنهما واعلمهما واورعهما، لان الاسن اخبر، والاعلم اعرف بشروط العقد، والاورع احرص على طلب الحظ، فان زوج الآخر صح لان ولايته ثابته، وان تشاحا اقرع بينهما لانهما تساويا في الحق(16/147)
فقدم بالقرعة كما لو أراد أن يسافر بإحدى المرأتين، فإن خرجت القرعة لاحدهما فزوج الآخر ففيه وجهان.
(أحدهما)
يصح لان خروج القرعة لاحدهما لا يبطل ولاية الاخر
(والثانى)
لا يصح لانه يبطل فائدة القرعة.
(الشرح) حديث أبى هريرة رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي لفظة (لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التى تزوج نفسها) قال ابن كثير: الصحيح وقفه على أبى هريرة، وقال ابن حجر: رجاله ثقات وفى لفظ للدارقطني: كنا نقول: التى تزوج نفسها هي الزانية.
قال ابن حجر: فتبين أن هذه الزيادة من قول أبى هريرة: وكذلك رواها البيهقى موقوفة في طريق ورواها مرفوعة في أخرى.
أما حديث عائشة رضى الله عنها رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه وأبو عوانة وابن حبان والحاكم عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة، وقد أعل بالارسال وتكلم فيه بعضهم من جهة أن ابن جريج قال: ثم لقيت الزهري فسألته عنه فأنكره.
وقد عد أبو القاسم بن مندة عدة من رواه عن ابن جريج فبلغوا عشرين رجلا، وذكر أن معمرا وعبيد الله بن زحر تابعا ابن جريج على روايته إياه عن سليمان بن موسى، وأن قرة وموسى ابن عقبه ومحمد بن إسحاق وأيوب بن موسى وهشام بن سعد وجماعه تابعوا سليمان ابن موسى عن الزهري، قال: ورواه أبو مالك الجنبى ونوح بن دراج ومندل وجعفر بن برقان وجماعه عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة وقد أعل ابن حبان وابن عدى وابن عبد البر والحاكم وغيره الحكايه عن ابن جريج بانكار الزهري، وعلى تقدير الصحه لا يلزم نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى وهم فيه، ويؤيد هذا الحديث ما رواه عن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (لانكاح إلا بولي) وما رواه أبو داود الطيالسي بلفظ (لا نكاح إلا بولي، وأيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، باطل، باطل، فان لم يكن لها ولى فالسلطان ولى من لا ولى له) .(16/148)
على أن حديث (لا نكاح إلا بولي، هل يعد النفى متوجها إلى الذات الشرعية لان الذات الموجودة، أعنى صورة العقد بدون ولى ليست شرعية؟ أم يتوجه إلى الصحة التى هي أقرب المجازين إلى الذات فيكون النكاح بغير ولى باطلا كما هو مصرح به في حديث عائشة، وكما يدل عليه حديث أبى هريرة المذكور في أول الفصل، لان النهى يدل على الفساد والمرادف للبطلان.
وقد ذهب إلى هذا على وعمر وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو هريرة وعائشة والحسن البصري وابن المسيب وابن شبرمة وابن أبى ليلى والعترة وأحمد وإسحاق والشافعي وجمهور أهل العلم: فقالوا لا يصح العقد بدون ولى.
وقال ابن المنذر: إنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.
وحكى في البحر عن أبى حنيفة أنه لا يعتبر الولى مطلقا لحديث (الثيب أحق بنفسها من وليها) وسيأتى.
وأجيب بأن المراد اعتبار الرضى منها جمعا بين الاخبار وعن أبى يوسف ومحمد للولى الخيار في غير الكفء وتلزمه الاجازة في الكفء.
وعن مالك يعتبر الولى في الرفيعة دون الوضيعة.
وأجيب عن ذلك بأن الادلة لم تفصل وعن الظاهرية أنه يعتبر في البكر فقط، وأجيب عنه بأن الادلة لم تفرق.
وقال أبو ثور يجوز لها أن تزوج نفسها بإذن وليها أخذا بمفهوم قوله (وأيما امرأة نكحت بغير إذن وليها) ويجاب عن ذلك بحديث أبى هريرة الذى ساقه المصنف في أول الفصل، والمراد بالولي هو الاقرب من العصبة من النسب ثم من السبب ثم من عصبته.
وليس لذوى السهام ولا لذوى الارحام ولايه.
وهذه مذهب الجمهور.
وروى عن أبى حنيفة أن ذوى الارحام من الاولياء، فإذا لم يكن ثم ولى أو كان موجودا وعضل انتقل الامر إلى السلطان لانه ولى من لا ولى له كما أخرجه الطبراني من
حديث ابن عباس، وفى إسناده الحجاج بن أرطاة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَابِ (لا نكاح إلا بولي) من الام، زعم بعض أهل العلم بالقرآن أن معقل بن يسار كان زوج أختا له ابن عم له، فطلقها ثم أراد الزوج وأرادت نكاحه بعد مضى عدتها فأبى معقل.
وقال زوجتك(16/149)
وآثرئك على غيرك فطلقتها، لا أزوجكها أبدا فنزل (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) يعنى فانقضى أجلهن يعنى عدتهن (فلا تعضلوهن) يعنى أولياءهن (أن ينكحن أزواجهن) إن طلقوهن ولم يبتوا طلاقهن، وما أشبه معنى ما قالوا من هذا بما قالوا، ولا أعلم الآية تحتمل غيره لانه إنما يؤمر بأن لا يعضل المرأة من له سبب إلى العضل بأن يكون يتم به نكاحها من الاولياء، والزوج إذا طلقها فانقضت عدتها فليس بسبيل منها فيعضلها، وإن لم تنقض عدتها فقد يحرم عليها أن تنكح غيره وهو لا يعضلها عن نفسه، وهذا أبين مافى القرآن من أن للولى مع المرأة في نفسها حقا، وأن على الولى أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف.
قال الشافعي وجاءت السنه بمثل معنى كتاب الله عز وجل أخبرنا مسلم وسعيد وعبد المجيد عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن ابن شهاب عن عروة ابن الزبير عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها الصداق بما استحل من فرجها) وقال بعضهم في الحديث فإن اشتجروا وقال غيره منهم، فإن اختلفوا فالسلطان ولى من لا ولى له أخبرنا مسلم وسعيد عن ابن جريج.
قال أخبرني عكرمه بن خالد قال جمعت الطريق ركبا فيهم امرأة ثيب فولت رجلا منهم أمرها فزوجها رجلا فجلد عمر بن الخطاب الناكح ورد نكاحها.
قال الشافعي فأى امرأة نكحت بغير اذن وليها فلا نكاح لها، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ فنكاحها باطل، وان أصابها فلها صداق مثلها بما اصاب منها بما قضى لها به النبي صلى الله عليه وسلم وقال العمرانى في البيان وهذا الخبر يعنى حديث عائشة دليل على من خالفنا الا ابا ثور فإنه يقول، لما ابطل النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها بغير اذن وليها دل على انه يصح بإذن وليها.
ودليلنا عليه ان المراد ههنا بالاذن لغيرها من الرجال بدليل قوله صلى الله عليه لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها ولم يفرق بين ان يكون ذلك بإذن الولى أو بغير اذنه.
إذا ثبت هذا فإن اصحابنا قد ذكروا في حديث عائشة فوائد (1) ان للولى(16/150)
شركا في بعضها لانه أبطل نكاحها بغير إذنه (2) ان الولاية ثابته على جميع النساء لان لفظ أي مراد به العموم (3) ان الصلة جائزة في الكلام لقوله (أيما) ومعناه أي امرأة (4) ان للولى أن يوكل في عقد النكاح (5) ان مطلق النكاح في الشريعة ينصرف إلى العقد، لان المعين أيما امرأة عقدت (6) جواز إضافة النكاح إليها (7) ان اسم النكاح يقع على الصحيح والفاسد (8) ان النكاح الموقوف لا يصح لانه لو كان صحيحا لما ابطله (9) ان الشئ إذا كان بينا في نفسه جاز أن يؤكد بغيره لانه لو اقتصر على قوله فنكاحها باطل لكان بينا، فأكد بالتكرار، وهو كقوله تعالى (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رجعتم تلك عشرة كاملة) وكقوله تعالى (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة (10) وطئ الشبهة يوجب المهر (11) ان اللمس كناية عن الوطئ (12) انه إذا مس سائر بدنها غير الفرج فلا مهر عليه (13) قال الصيمري: إن القبل والدبر سواء لان كله فرج (14) انه لا فرق بين الخصى والفحل (15) لا فرق بين قوى الجماع وضعيفه (16) انه لا فرق بين أن ينزل أو لا ينزل
(17) لا فرق بين أن يجامعها مرة أو مرارا (18) انه يجوز ان يثبت له وعليه حتى يجهل قدره (19) ان النكاح الفاسد إذا لم يكن فيه جماع فلا مهر فيه (20) أن مهر المثل يتوصل إلى العلم به (21) أن المهر يجب مع العلم بتحريم الوطئ ومع الجهل به لانه لم يفرق (22) المكره يجب عليه المهر، لان المكره مستحل لفرج المكرهة (23) أن المهر لا يجب إلا بخلوة، لانه شرط اللمس في الفرج (24) أنه لا حد في وطئ الشبهة (25) قال الشيخ أبو حامد: إن النسب يثبت بالوطئ في الشبهة (26) إن العدة تجب على الموطوءة بالشبهة لان النسب إذا لحق به أوجب العدة.
(27) أن تحريم المصاهرة يثبت بوطئ الشبهة (28) أن المرأة يجوز أن يكون لها جماعة أولياء لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن اشتجروا) فهذا إخبار عن جمع (29) أن السلطان ولى من لا ولى لها (30) ان الاولياء إذا عضلوا المرأة عن النكاح انتقلت إلى السلطان، لان الاختلاف المراد في الخبر أن يقول كل واحد منهم: لا أزوجها بل زوجها أنت(16/151)
فأما إذا قال كل واحد منهم: أنا أزوجها دونك: فلا تنتقل إلى السلطان (فرع)
إذا تزوج الرجل امرأة من نفسها ثم ترافعا إلى حاكم شافعي أو حنبلي لان الظاهر من مذهب أحمد بطلان النكاح بغير ولى وشاهدين كما في المغنى لابن قدامة فإن كانا لم يترافعا إلى حاكم حنفى قبله حكم الشافعي بفساده وفرق بينهما لانه يعتقد بطلانه، وان كانا قد ترافعا قبله إلى حاكم حنفى فحكم بصحته فهل ينقض الشافعي حكمه.
فيه وجهان قال أبو سعيد الاصطخرى: ينقض حكمه ويحكم بفساده، لان حكمه مخالف لنص النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم فنكاحها باطل،
والثانى وهو الاصح أنه لا يصح حكمه بفساده، لان حكم الاول وقع بما يسوغ فيه الاجتهاد فهو كالحكم بالشفعة للجار (فرع)
وإن تزوج رجل امرأة من نفسها ووطئها، فان لم يعلم بتحريم الوطئ بأن كان جاهلا لا يعلم تحريمه أو عاميا فقلد مجتهدا يرى تحليله، أو كان الوطئ حنفيا يرى تحليله فلا حد عليه لانه موضع شبهة.
وان كان الواطئ شافعيا يعتقد تحريمه ففيه وجهان.
قال أبو بكر الصيرفى: عليه الحد لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (البغى من انكحت نفهسا بغير ولى ولا بينة) قال في المغنى شرح مختصر الخرقى: ولا حد في وطئ النكاح الفاسد سواء اعتقد حله أو حرمته وعن أحمد ما يدل على أنه يجب الحد بالوطئ في النكاح بلا ولى إذا اعتقد حرمته، وهو اختيار السمرقندى من أصحاب الشافعي لما روى الدارقطني بإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، ان الزانية هي التى تزوج نفسها) وبإسناده عن الشعبى قال: ماكان أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشد في النكاح بغير ولى من على رضى الله عنه كان يضرب فيه.
اه ولخبر عمر الذى فيه انه جلد الناكح، ولا مخالف له، ولان أكثر ما فيه حصول الاختلاف في إباحته، وذلك لا يوجب اسقاط الحد فيه كشرب النبيذ(16/152)
والثانى وهو قول أكثر أصحابنا، وهو المذهب أنه لا حد عليه لقوله صلى الله عليه وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات.
وحصول الاختلاف في إباحته من أعظم الشبهات ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الحد في حديث عائشة.
وأما قوله في رواية الدارقطني (فإن الزانية هي التى تزوج نفسها) فقد
أخرجه أيضا البيهقى.
قال ابن كثير: الصحيح وقفه على أبى هريرة.
وفى لفظ: للدارقطني كنا نقول التى تزوج نفسها هي الزانية.
قال الحافظ ابن حجر: فنبين أن هذه الزيادة من قول ابى هريرة، وكذلك رواها البيهقى موقوفة في طريق ورواها مرفوعة في أخرى.
فتسميتها بالبغى أو الزانية إذا صحت روايات الرفع حمل على سبيل المجاز لتعلق بعض حكم البغى عليها وهو تحريم الوطئ.
فأما جلد عمر لها فكان على جهة التعزير لا على جهة الحد، بدليل أنه جلد المنكح وهو بالاجماع لا حد عليه.
وأما النبيذ فالفرق بينهما أن هذا الوطئ بين الزنا والوطئ في النكاح الصحيح وشبهه بالوطئ في النكاح الصحيح أكثر بدليل أنه يجب فيه المهر والعدة ويلحق به النسب، وانما يشبه الزنا بتحريم الوطئ لا غير، فكان إلحاقه بالوطئ في النكاح الصحيح في اسقاط الحد أولى والنبيذ ليس له الا أصل واحد يشبهه وهو الخمر لانه شراب فيه شدة مطربة وليس في الاشربة ما يشبه الخمر غيره فألحقناه به.
(فرع)
ولو تزوج رجل امرأة من نفسها ثم طلقها فهل يقع الطلاق عليها فيه وجهان: قال أبو إسحاق المروزى: يقع عليها طلاقه لانه نكاح مختلف في صحته فوقع فيه الطلاق، كما لو تزوج امرأة ودخل بها وطلقها طلاقا بائنا ثم يتزوج أختها أو عمتها قبل انقضاء عدة الاولى، فإن نكاح الثانية مختلف في صحته، لان مذهبنا أنه يصح، ومذهب ابى حنيفة واصحابه انه لا يصح، ولو طلق الثانية لوقع عليها الطلاق وان كان مختلفا في نكاحها فكذلك هذه مثلها.(16/153)
والوجه الثاني وهو المنصوص: أنه لا يقع عليها طلاقه، لان الطلاق قطع
الملك، فإذا لم يقع هناك ملك لم يقع الطلاق، كما لو اشترى عبدا شراء فاسدا ثم اعتقه، ويخالف إذا تزوج إمرأة ودخل بها في عدة أختها فإن النكاح عندنا صحيح فلذلك وقع عليها الطلاق وههنا النكاح عندنا غير صحيح فلم يقع عليها الطلاق.
(فرع)
النكاح الموقوف على الاجازة لا يصح عندنا سواء كان موقوفا على إجازة الولى أو الزوج أو الزوجة، فالموقوف على إجازة الولى أن يتزوج الرجل إمرأة من رجل ليس بولي لها ويكون موقوفا على إجازة وليها، أو تزوج الامة نفسها أو العبد نفسه بغير إذن السيد، ويكون موقوفا على إذن السيد.
وأما الموقوف على إجازة الزوج بأن يزوج الرجل إمرأة بغير إذنه، ويكون ذلك موقوفا على إجازته.
وأما الموقوف على اذن الزوجة بأن يزوج الولى امرأة يشترط اذنها في النكاح بغير اذنها ويكون موقوفا على اجازتها: فجميع هذه الانكحة لا تصح عندنا، وبه قال أحمد رضى الله عنه.
وقال أبو حنيفة: تصح هذه الانكحة، فإن أجاز ذلك الموقوف على رضاه لزم، وان رده بطل.
وقال مالك: يجوز أن يقف النكاح مدة قريبة، فان تطاول الزمان بطل.
دليلنا ما قدمنا من أحاديث (فنكاحها باطل) وحديث (أيما عبد تزوج بغير اذن سيده فهو عاهر) : (فرع)
المرأة لا تتوكل في قبول النكاح ولا في ايجابه، وقال أبو حنيفة: إذا وكل الولى امرأة في ايجاب النكاح أو وكلها الزوج في القبول صح.
دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تنكح المرأة ولا تنكح المرأة نفسها) وهذا عام وروى عن ابن عمر وابن عباس وأبى موسى الاشعري وأبى هريرة رضى الله عنهم أنهم قالوا: المرأة لا تقبل عقد النكاح، ولا مخالف لهم، وروى عن عائشة رضى الله عنها انها حضرت نكاحا فخطبت ثم قالت: اعقدوا فإن النساء لا يعقدن
فدل على انه اجماع.
(فرع)
إذا كانت المنكوحة حرة فأولى الولاة بتزويجها الاب لان سائر(16/154)
الاولياء يدلون به، ولان القصد بالولي طلب الحظ لها والاب أشفق عليها، وأطلب للحظ لها من غيره، فإن لم يكن أب وهناك جد أو أب أوجد من أجداد الاب الوارثين وإن علا فهو أولى من الاخ.
وحكى عن مالك أنه قال: الاخ أولى من الجد.
دليلنا أن الجد له ولادة وتعصيب فكان مقدما على الاخ كالاب، فإن قيل هلا قلتم إن الجد يساوى الاخ في الولاية كما قلتم في الميراث؟ قلنا الفرق بينهما أن الميراث مستحق بالتعصيب المحض، ولهذا قدم الابن على الاب في الميراث والاخ يساوى الجد في التعصيب أو هو أقوى من الجد في التعصيب بدليل أنه يعصب أخواته وإنما لم يقدم عليه في الميراث للاجماع فلذلك سوينا بينهما في الارث، والولاية في النكاح تستحق بالشفقة وطلب الحظ، بدليل أن الابن لا ولاية له على أمه لذلك.
والجد أكثر شفقه عليها من الاخ فكان أولى، فإن عدم الاجداد من قبل الاب انتقلت الولاية إلى الاخوة للاب والام أو الاب ثم إلى بنيهم ويقدمون على الاعمام وبنيهم لانهم يدلون بالاب، والاعمام يدلون بالجد، والاب أقرب من الجد، فإن عدم الاخ وبنوهم انتقلت الولاية للاعمام ثم إلى بنيهم، ويقدمون على أعمام الاب وبنيهم، لان الاعمام يدلون بالجد، وأعمام الاب يدلون بابن الجد وعلى هذا يقدم الاقرب فالاقرب كما قلنا في الميراث.
(فرع)
وإن اجتمع وليان أحدهما يدلى بالاب والام، والاخر يدلى بالاب كأخوين أو عمين، أو ابنا عم أحدهما لاب وأم والاخر لاب ففيه قولان، قال في القديم هما سواء، وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور، لان ولاية النكاح تستفاد
بالانتساب إلى الاب بدليل أن الاخ للام لا ولاية له في النكاح، وهما في الانتساب إلى الاب سواء فاستويا في الولاية.
وقال في الجديد ان المدلى بالاب والام أولى، وبه قال أبو حنيفة وهو الصحيح لقوله تعالى (فقد جعلنا لوليه سلطانا) ولو قتل رجل وله أخ لاب وأم أو أخ لاب كان القصاص للاخ للاب والام دون الاخ للاب فثبت انه لا ولاية له معه(16/155)
ولانه حق يستحق بالتعصيب فقدم المدلى بالابوين على المدلى بأحدهما كالارث وهكذا القولان في التقدم في الصلاة على الميت وفى العقل، وأما الارث والولاء والوصية للاقرب، فان المدلى بالاب والام أولى قولا واحدا، وإن اجتمع ابنا عم أحدهما معتق أو أخ فهل يقدم في ولاية النكاح والصلاة على الميت والعقل فيه قولان كأخوين أحدهما لاب وأم والآخر لاب، وإن اجتمع ابنا عم أحدهما خال لم يقدم قولا واحدا: إلا انه لا مدخل الخئولة في الميراث.
(فرع)
وإن اجتمع للمرأة اولياء في درجة واحدة كالاخوة أو بنيهم والاعمام أو بنيهم فالمستحب ان يقدم اكبرهم سنا واعلمهم واورعهم لما روى أن حويصة ومحيصه دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ محيصه بالكلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كبر كبر: يعنى قدم اخاك في الكلام لانه أكبر سنا منك، ولان الاكبر اخبر بالناس فكان اولى، والاعلم اعرف بشروط العقد، والاورع احرص على طلب الحظ لها، فإن زوجها احدهم باذنها من غير إذن الباقين صح، وإن كان اصغرهم سنا لقوله صلى الله عليه وسلم إذا انكح الوليان فالاول احق، ولان كل واحد منهم ولى، وان تشاجرا وقال كل واحد منهم انا ازوج ولم يقدموا الاكبر الاعلم الاورع اقرع بينهم لاستواء استحقاقهم في الولاية كما رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اراد ان يسافر باحدى نسائه اقرع بينهن،
فان خرجت القرعة لاحدهم فزوج أو اذن لغيره من الاولياء الباقين أو غيرهم صح وان زوج واحد ممن لم تخرج عليه القرعة باذن المرأة ففيه وجهان.
(أحدهما)
يصح لان خروج القرعة لاحدهم لا تبطل ولاية الباقين كما لو زوجها أحدهم قبل القرعة.
(والثانى)
لا يصح لان الفائدة في خروج القرعة ان تتعين الولاية لمن خرجت له، فلو صححنا عقد غيره بغير اذنه لبطلت فائدة القرعة، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا يجوز للابن ان يزوج أمه بالبنوة لان الولاية ثبتت للاولياء لدفع العار عن النسب ولا نسب بين الابن والام، وان كان للابن تعصيب بأن(16/156)
كان ابن ابن عمها جاز له أن بزوج لانهما يشتركان في النسب.
فان كان لها ابنا ابن عم أحدهما ابنها فعلى القولين في أخوين أحدهما من الاب والام والآخر من الاب
(فصل)
ولا يجوز أن يكون الولى صغيرا ولا مجنونا ولا عبدا لانه لا يملك العقد لنفسه فلا يملكه لغيره، واختلف أصحابنا في المحجور عليه لسفه، فمنهم من قال: يجوز أن يكون وليا لانه إنما حجر عليه في المال خوفا من اضاعته وقد أمن ذلك في تزويج ابنته فجاز له ان يعقد كالمحجور عليه للفلس، ومنهم من قال: لا يجوز لانه ممنوع من عقد النكاح لنفسه فلم يجز أن يكون وليا لغيره، ولا يجوز أن يكون فاسقا على المنصوص، لانها ولاية فلم تثبت مع الفسق كولاية المال.
ومن أصحابنا من قال: إن كان أبا أو جدا لم يجز، وإن كان غيرهما من العصبات جاز، لانه يعقد بالاذن فجاز أن يكون فاسقا كالوكيل.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
لا يجوز لما ذكرناه
(والثانى)
يجوز لانه حق يستحق بالتعصيب فلم يمنع منه الفسق كالميراث والتقدم في الصلاة
على الميت، وهل يجوز أن يكون أعمى؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
يجوز، لان شعيبا عليه السلام كان أعمى وزوج ابنته من موسى صلى الله على نبينا وعليهم وسلم.
(والثانى)
لا يجوز، لانه يحتاج إلى البصر في اختيار الزوج، ولا يجوز للمسلم أن يزوج ابنته الكافرة، ولا للكافر أن يزوج ابنته المسلمة لان الموالاة بينهما منقطعة، والدليل عليه قوله تعالى (والمؤمنون المؤمنات بعضهم أولياء بعض) وقوله سبحانه (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ولهذا لا يتوارثان ويجوز للسلطان أن يزوج نساء أهل الذمة، لان ولايته تعم المسلمين وأهل الذمة ولا يجوز للكافر أن يزوج أمته المسلمة، وهل يجوز للمسلم أن يزوج أمه الكافرة فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، وهو قول أبى إسحاق وأبى سعيد الاصطخرى وهو المنصوص، لانها ولاية مستفادة بالملك فلم يمنع منها اخلاف الدين كالولاية في البيع والاجارة
(والثانى)
لا يجوز، وهو قول أبى القاسم الداركى لانه إذا لم يملك تزويج الكافرة بالنسب فلان لا يملك بالملك أولى.(16/157)
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولا يزوج المرأة ابنها إلا أن يكون عصبه، وبيان ذلك أن الابن لا ولاية له على أمه في النكاح من جهة البنوة.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ بن حنبل وإسحاق رحمهم الله تعالى: يثبت له عليها ولاية النكاح بالبنوة، واختلفوا في ترتيب ولايته فذهب مالك وابو يوسف وإسحاق إلى انه مقدم على الاب، وذهب محمد واحمد إلى ان الاب مقدم عليه، وذهب ابو حنيفة إلى انهما سواء.
دليلنا على انه لا ولاية له ان بين الابن وأمه قرابة لا ينسب أحدهما إلى الآخر ولا ينتسبان إلى من هو اعلى منهما: فلم يكن له عليها ولاية كابن الاخت.
قال الشافعي رضى الله عنه: ولان ولاية النكاح انما وضعت طلبا لحظ المرأة والاشفاق عليها والابن يعتقد ان تزويج أمه عار عليه فلا يطلب لها الحظ، ولا يشفق عليها فلم يستحق الولاية عليها، وان كان ابنها من عصبتها بأن كان ابن ابن عمها كان وليا لها في النكاح لانهما لا ينسبان إلى من هو اعلى منهما فجاز له تزويجها كتزويج الاخ لاخته للاب، وان كان لها ابنا ابن عم احدهما ابنها ففيه قولان.
(احدهما) انهما سواء
(والثانى)
ان ابنها اولى كالقولين في الاخوين احدهما لاب وام والآخر لاب، وهكذا إذا كان ابنها مولاها أو كان حاكما فله عليها ولاية من جهة الولاء والحكم لا من جهة البنوة.
(فرع)
وان كانت له اخت لام لا قرابه بينهما غير ذلك لم يملك تزويجها، وقال ابو حنيفة في احدى الروايتين: له تزويجها دليلنا أنه لا تعصيب بينهما فلم يملك تزويجها كالأجنبي.
(فرع)
قال الشافعي في البويطى: لا يكون الولى الا مرشدا.
وقال في موضع آخر وولى الكافرة كافر، وهو يقتضى ثبوت الولاية للفاسق، واختلف أصحابنا في الفاسق هل هو ولى في النكاح ام لا؟ على خمسة طرق فقال الشيخ ابو حامد: الفاسق ليس بولي في النكاح قولا واحدا.
وقال القفال: الفاسق بولي في النكاح قولا واحدا.
وقال ابو اسحاق المروزى(16/158)
ان كان الولى ممن يجبر على النكاح كالاب والجد في تزويج البكر لم يصح أن يكون فاسقا لانه يزوج بالولاية، والولاية لا تثبت مع الفسق، كفسق الحاكم والوصى وان كان ممن لا يجبر على النكاح كمن عدا الاب والجد من الاولياء، وكتزويج الاب والجد للثيب صح تزويجه، وان كان فاسقا، لانه يزوج بإذنها فهو كالوكيل
ومن أصحابنا من قال: ان كان الفاسق مبذرا في ماله لم يجز أن يكون وليا في النكاح، وان كان رشيدا في أمر دنياه كان وليا في النكاح، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
أن الفاسق ولى في النكاح بكل حال.
وهو قول مالك وأبى حنيفة لقوله تعالى (وأنكحوا الايامى منكم) وهذا خطاب للاولياء، ولم يفرق بين العدل والفاسق، ولان الكافر لما ملك تزويج ابنته الكافرة والمسلم الفاسق أعلا منه فلان يملك تزويج وليته أولى
(والثانى)
لا يصح أن يكون وليا بحال، وهو المشهور من المذهب لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا نكاح الا بولي.
وروى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قال (لا نكاح الا بولي مرشد وشاهدي عدل، ولا مخالف له، والمرشد من أسماء المدح، والفاسق ليس بممدوح، ولانه تزويج في حق غيره فنافاه الفسق في دينه كفسق الحاكم، فقولنا تزويج، احتراز من ولاية القصاص، وقولنا في حق غيره، احتراز من تزويج الفاسق لامته فإنه تزويج في حقه، بدليل أنه يجب له المهر.
وقولنا في دينه، احتراز من تزويج الكافر لابنته الكافرة، لانه ليس بفسق في دينه، ولان الولى انما اشترط في العقد لئلا تحمل المرأة شهوتها على أن تلقى نفسها في أحضان غير كفء، وتزوج نفسها في العدة، فيلحق العار بأهلها.
وهذا المعنى موجود في الفاسق لانه لا يؤمن أن يحمله فسقه على أن يضع المرأة في أحضان غير كفء، ويزوجها في العدة، فيلحق العار بأهلها، فلم يجز أن يكون وليا وأما الآية فلا نسلم له أنها تنصرف إلى الفاسق لانه ليس بولي عندنا، فإن سلمنا فإن عمومها مخصص بالخبر وأما الكافر فإنما يصح أن يزوج ابنته الكافرة إذا كان رشيدا في دينه لانه مقر عليه بخلاف الفاسق.
إذا ثبت هذا وقلنا الفاسق ليس بولي فقد قال المسعودي: واختلف أصحابنا(16/159)
في الفسق الذى يخرجه عن ولاية النكاح، فمنهم من قال: شرب الخمر فحسب، لانه إذا كان يشربها فإنه يميل إلى من هو في مثل حاله، ومنهم من قال: جميع الفسق بمثابته.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وإن كان الولى سفيها أو ضعيفا غير عالم بموضع الحظ، أو سفيها مؤلما أو به علة تخرجه عن الولاية فهو كمن مات، فإذا صلح صار وليا.
قال أصحابنا: أما السفيه فله تأويلان
(أحدهما)
أنه أراد الصغير
(والثانى)
أنه أراد به الشيخ الذى قد ضعف نظره عن معرفة موضع الحظ.
وأما السقيم فمن كان به سقم شديد قد نقص نظره وأخرجه عن طلب الحظ.
وأما المؤلم وهو صفة السقيم، وهو السقيم الذى اشتد به الالم إلى أن أخرجه عن النظر.
وروى أو سقيما موليا، فيكون معناه السقيم الذى صار مولى من قلة تمييزه.
وأما الذى به علة فالمراد به إذا قطعت يده أو رجله أو أصابه جرح عظيم أخرجه عن حد التمييز فإن ولايته تزول، فإن زالت هذه الاسباب عادت ولايته، لان المانع وجود هذه الاسباب فزال المنع بزوالها (فرع)
قال أبو على الطبري: إذا كان الولى يجن يوما ويفيق يوما، أو يغمى عليه يوما ويفيق يوما، فهل يخرجه ذلك من الولاية؟ فيه وجهان.
وأما السكران فان قلنا إن الفاسق ليس بولي وهذا فاسق.
وإن قلنا الفاسق ولى فهل يخرج السكران من الولاية؟ فيه وجهان كالجنون غير المطبق والاحرام في الحج هل يخرجه من الولاية؟ فيه وجهان، فان قلنا يخرجه زوجها من دونه من الاولياء، وإن قلنا لا يخرجه زوجها السلطان.
وأما الاخرس إذا كان له إشارة مفهومة كان وليا في النكاح، وإن لم يكن له اشارة مفهومة فليس بولي في النكاح.
(فرع)
وهل يصح أن يكون الاعمى وليا في النكاح؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يصح لانه قد يحتاج إلى النظر في اختيار الزوج لها، لئلا يزوجها بمعيب أو دميم
(والثانى)
يصح، وهو الصحيح، لان شعيبا عليه السلام كان أعمى وزوج ابنته من موسى عليه السلام.(16/160)
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: وولى الكافرة كافر، ولا يكون المسلم ولى الكافرة إلا على أمته.
وبيان ذلك أنه إذا كان للكافر ابنة مسلمة فإنه لا ولاية له عليها، فإن كان لها ولى مسلم زوجها وإلا زوجها الحاكم لقوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أراد أن يتزوج أم حبيبة بنت أبى سفيان وكانت مسلمة وأبو سفيان لم يسلم، وكل صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمرى فتزوجها من ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص، وكان مسلما، وإن كان للمسلم ابنة كافرة فلا ولاية له عليها لقوله تعالى (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) فدل على أنه لا ولاية للمسلم عليها، فإن كان لها ولى كافر زوجها للآيه، وإن لم يكن لها ولى كافر زوجها الحاكم لقوله صلى الله عليه وسلم: فالسلطان ولى من لا ولى له.
ولم يفرق بين المسلم وغيره، ولان ولايته عامة فدخل فيها المسلم والكافر.
وإن كان للمسلم أمة كافرة فهل له عليها ولاية في النكاح، فيه وجهان: من أصحابنا من قال له عليها ولاية، وهو المنصوص في الام، لانها ولاية مستفادة بالملك فلم يمنع اختلاف الدين كالفسق لما لم يؤثر في منع تزويج أمته، فكذلك كفرها.
ومنهم من قال ليس بولي لها، لانه إذا لم يملك تزويج ابنته الكافرة
فلان لا يملك تزويج أمته الكافرة أولى.
وحمل النص على الولاية في عقد البيع والاجارة، والاول أصح، وان كان للكافر أمة مسلمة فهل له أن يزوجها.
قال ابن الصباغ فيه وجهان كما قلنا في تزويج المسلم لامته الكافرة، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان خرج الولى عن أن يكون من أهل الولاية بفسق أو جنون انتقلت الولاية من بعده من الاولياء لانه بطلت ولايته فانتقلت الولاية إلى من بعده، كما لو مات، فان زال السبب الذى بطلت به الولاية عادت الولاية لزوال السبب الذى أبطل ولايته، فإن زوجها من انتقلت إليه قبل أن يعلم بعود ولاية الاول ففيه وجهان بناء على القولين في الوكيل إذا باع ما وكل في بيعه قبل(16/161)
أن يعلم بالعزل، وان دعت المنكوحة إلى كفؤ فعضلها الولى زوجها السلطان لقوله صلى الله عليه وسلم: فان اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له، ولانه حق توجه عليه تدخله النيابة، فادا امتنع قام السلطان مقامه كما لو كان عليه دين فامتنع من أدائه، وان غاب الولى إلى مسافة تقصر فيها الصلاة زوجها السلطان ولم يكن لمن بعده من الاولياء أن يزوج لان ولاية الغائب باقية، ولهذا لو زوجها في مكانه صح العقد وإنما تعذر من جهته فقام السلطان مقامه، كما لو حضر وامتنع من تزويجها، فان كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز تزويجها الا باذنه لانه كالحاضر.
(والثانى)
يجوز للسلطان أن يزوجها لانه تعذر استئذانه فأشبه إذا كان في سفر بعيد، ويستحب للحاكم إذا غاب الولى وصار التزويج إليه أن يأذن لمن تنتقل الولاية إليه ليزوجها ليخرج من الخلاف، فان عند أبى حنيفة أن الذى يملك التزويج هو الذى تنتقل الولاية إليه.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: ولا ولاية لاحد وثم أولى منه، وجملة ذلك أنه إذا كان للمرأة وليان أحدهما أقرب من الآخر، فان الولاية للاقرب فان زوجها من بعده لم يصح.
وقال مالك يصح.
دليلنا أنه حق مستحق بالتعصيب فلم يثبت للابعد مع الاقرب كالميراث، فان خرج الاقرب عن أن يكون وليا باختلاف الدين أو الفسق أو الجنون أو الصغر انتقلت الولاية إلى الولى الا بعد، لان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة من ابن عمها مع وجود أبيها لكون أبيها كافرا.
وإذا ثبت ذلك في الكفر كان الفسق والجنون والصغر مثله، لان الجميع يمنع ثبوت ولاية النكاح.
وان أعتق رجل أمة ومات وخلفت ابنا صغيرا وأخا لاب كبيرا وأرادت الجارية النكاح ولا مناسب لها فلا أعلم فيها نصا، والذى يقتضى المذهب أن ولاية نكاحها لاخ المعتق، لان الولاية في الولاء فرع عن ولاية النسب وولاية أبيه الميت لاخيه مادام الابن صغيرا.
وكذلك ولاية المعتقة (فرع)
وان زال السبب الذى أوجب قطع الولاية في الاقرب عادت ولايته(16/162)
لان المانع قد زال فان كان الولى الابعد قد زوجها قبل زوال المانع صح النكاح وإن زوجها بعد زوال المانع وبعد علمه بزوال المانع لم يصح كما لو باع الوكيل ما وكل في بيعه بعد العزل وبعد علمه بالعزل، وإن زوج بعد زوال المانع وقبل علمه بزواله ففيه وجهان بناء على القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل وقبل علمه بالعزل (فرع)
وان دعت المرأة أن تزوج لكفؤ فامتنع الولى زوجها الحاكم، ولا تنتقل إلى من عدا العاضل من الاولياء لقوله صلى الله عليه وسلم (فان اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له) ولان النكاح حق لها فإذا تعذر ذلك من جهة وليها كان على الحاكم استيفاؤه، كما لو كان على رجل دين فامتنع من بذله فان الحاكم
ينوب عنه في الدفع من مال الممتنع.
(فرع)
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنْ كَانَ أولاهم به مفقودا أو غائبا غيبة بعيدة كانت أو قريبة زوجها السلطان، وجملة ذلك أنه إذا كان للمرأة أب أو جد فغاب الاب وحضر الجد ودعت المرأة إلى تزويجها نظرت، فان كان الاب مفقودا بأن انقطع خبره ولا يعلم أنه حى أو ميت فان الولاية لا تنتقل إلى الجد، وانما يزوجها السلطان، لان ولاية الاب باقية عليها، بدليل أنه لو زوجها في مكانه لصح، وانما تعذر بغيبته فناب الحاكم عنه، كما لو غاب وعليه دين، فان الحاكم ينوب عنه في الدفع من ماله دون الاب وان غاب غيبه غير منقطعه بأن يعلم أنه حى نظرت فان كان على مسافة تقصر فيها الصلاة جاز للسلطان تزويجها، لان في استئذانه مشقة فصار كالمفقود.
وان كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال يجوز للحاكم تزويجها، وهو المذهب، لان في استئذانه الحاق مشقه، فهو كما لو كان على مسافة القصر(16/163)
ومنهم من قال لا يجوز تزويجها لانه في حكم الحاضر، بدليل أنه لا يجوز له القصر والفطر، فهو كما لو كان في البلد.
هذا مذهبنا وبه قال زفر.
وحكى ابن القاص قولا آخر أن الولاية تنتقل إلى من بعده من الاولياء، وليس بمشهور وقال أبو حنيفة ومحمد وأحمد بن حنبل (أن غاب الاب غيبة منقطعة جاز للجد تزويجها.
وان كانت غيبة غير منقطعه لم يجز للجد تزويجها
واختلف أصحاب أبى حنيفة في حد المنقطعة، فمنهم من قال من الرقة إلى البصرة، ومنهم من قال من بغداد إلى البصرة وقال محمد (إذا سافر من اقليم إلى اقليم، كمن سافر من الكوفة إلى بغداد فهى منقطعه، وان كان في اقليم واحد فهى غير منقطعه ومنهم من قال المنقطعة الذى لا تجئ منه القافلة في السنة الا مرة واحدة.
ودليلنا أن كل ولايه لم تنقطع بالغيبة القريبه لم تنقطع بالغيبة البعيدة كولاية المال.
إذا ثبت هذا فان الشافعي رضى الله عنه قال (وان غاب الولى وأراد الحاكم تزويجها استحب له أن يستدعى عصباتها، وان لم يكونوا أولياء، فان لم يكن لها عصبات فذوي الارحام والقرابات لها، فيسألهم عن حال الزوج ويستشيرهم في أمره ليستطيب بذلك نفوسهم، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر نعيما أن يشاور أم ابنته في تزويجها، وان لم يكن لها ولاية، فان قالوا انه كفء زوجها قال الشيخ أبو إسحاق ويستحب له أن يأذن لمن تنتقل الولاية إليه ليزوجها ليخرج من الخلاف، فإن زوجها الحاكم بنفسه أو أذن لاحد أو لم يشاورهم صح ذلك، لان الولاية له.
قال الشافعي: ولا يزوجها ما لم يشهد شاهدان أنه ليس لها ولى وليست في نكاح أحد ولا عدة.
قال المسعودي: من أصحابنا من قال: هذا واجب، ومنهم من قال: هذا مستحب والله أعلم بالصواب.(16/164)
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويجوز للاب والجد تزويج البكر من غير رضاها صغيرة كانت أو كبيرة: لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأمرها أبوها في نفسها) فدل على أن الولى
أحق بالبكر وإن كانت بالغة فالمستحب أن يستأذنها للخبر وإذنها صماتها لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (الايم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها) ولانها تستحى أن تأذن لابيها بالنطق فجعل صماتها إذنا، ولا يجوز لغير الاب والجد تزويجها إلا أن تبلغ وتأذن، لما روى نافع (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه تزوج بنت خاله عثمان ابن مظعون فذهبت أمها إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالت: إن ابنتى تكره ذلك فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يفارقها.
وقال: لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن، فإن سكتن فهو إذنهن فتزوجت بعد عبد الله، المغيرة ابن شعبة) ولانه ناقص الشفقة ولهذا لا يملك التصرف في مالها بنفسه، ولا يبيع مالها من نفسه، فلا يملك التصرف في بضعها بنفسه، فان زوجها بعد البلوغ ففى اذنها وجهان.
(أحدهما)
أن اذنها بالنطق لانه لما افتقر تزويجها إلى اذنها افتقر إلى نطقها بخلاف الاب والجد.
(والثانى)
وهو المنصوص في الاملاء وهو الصحيح: أن اذنها بالسكوت لحديث نافع، وأما الثيب فإنها ان ذهبت بكارتها بالوطئ فان كانت بالغة عاقلة لم يجز لاحد تزويجها إلا بإذنها، لما روت خنساء بنت خدام الانصارية (أن أباها زوجها وهى ثيب فكرهت ذلك، فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها) وإذنها بالنطق لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال (والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها) فدل على ان اذن الثيب بالنطق، وان كانت صغيرة لم يجز تزويجها حتى تبلغ وتأذن لان اذنها معتبر في حال الكبر(16/165)
فلا يجوز الافتيات عليها في حال الصغر، وإن كانت مجنونة جاز للاب والجد
تزويجها صغيرة كانت أو كبيرة لانه لا يرجى لها حال تستأذن فيها ولا يجوز لسائر العصبات تزويجها لان تزويجها إجبار وليس لسائر العصبات غير الاب والجد ولاية الاجبار، فأما الحاكم فانها ان كانت صغيرة لم يملك تزويجها لانه لا حاجة بها إلى النكاح، وان كانت كبيرة جاز له تزويجها ان رأى ذلك لانه قد يكون في تزويجها شفاء لها، وان ذهبت بكارتها بغير الوطئ ففيه وجهان.
(أحدهما)
انها كالموطوءة لعموم الخبر.
(والثانى)
وهو المذهب انها تزوج تزويج الابكار لان الثيب انما اعتبر اذنها لذهاب الحياء بالوطئ والحياء لا يذهب بغير الوطئ.
(فصل)
وإن كانت المنكوحة أمة فللمولى أن يزوجها بكرا كانت أو ثيبا، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مجنونة، لانه عقد يملكه عليها بحكم الملك، فكان إلى المولى كالاجارة.
وان دعت الامة المولى إلى النكاح، فان كان يملك وطأها لم يلزمه تزويجها لانه يبطل عليه حقه من الاستمتاع، وان لم يملك وطأها ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يلزمه تزويجها لانه تنقص قيمتها بالنكاح.
(والثانى)
يلزمه لانه لا حق له في وطئها، وإن كانت مكاتبة لم يملك السيد تزويجها بغير إذنها لانه لا حق له في منفعتها، فإن دعت السيد إلى تزويجها ففيه وجهان.
(أحدهما)
يجبر لانها تستعين بالمهر والنفقة على الكتابة
(والثانى)
لا يجبر لانها ربما عادت إليه وهى ناقصه بالنكاح.
(الشرح) حديث ابن عباس رواه أحمد ومسلم وأبى داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبى شيبة بلفظ (الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها) وفى رواية لاحمد ومسلم وأبى داود والنسائي (والبكر
يستأمرها أبوها) وفى رواية لاحمد والنسائي (واليتيمة تستأذن في نفسها) وفى(16/166)
رواية لابي داود والنسائي (ليس للولى مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها) قال الحافظ: ورجاله ثقات وأعل بالارسال، وبتفرد جرير بن حازم عن أيوب وبتفرد حسين عن جرير، وأجيب بأن أيوب بن سويد رواه عن الثوري عن أيوب موصولا، وكذلك رواه معمر بن سليمان الرقى عن زيد بن حباب عن أيوب موصولا، وإذا اختلف في وصل الحديث وارساله حكم لمن وصله على طريقة الفقهاء، وعن الثاني بأن جريرا توبع عن أيوب كما ترى.
وعن الثالث بأن سليمان بن حرب تابع حسين بن محمد عن جرير، وانفصل البيهقى عن ذلك بأنه محمول على أنه زوجها من غير كفء.
وقد أخرج أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن خنساء بنت خدام الانصارية أن أباها زوجها وهى ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها، وروى أحمد والشيخان وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تنكح الايم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله وكيف اذنها، قال: أن تسكت) وأخرج أحمد والشيخان عن عائشة قالت (قلت: يا رسول الله تستأمر النساء في أبضاعهن قال: نعم، قلت: ان البكر تستأمر فتستحي فتسكت فقال سكاتها اذنها) وهو من أحاديث الفصل.
أما حديث نافع من قصة زواج عبد الله بن عمر من ابنة خاله فقد أخرجه أحمد والدارقطني عن ابن عمر بلفظ (توفى عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الاوقصى، وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون، قال عبد الله: وهما خالاى فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن
مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة يعنى إلى أمها فأرغبها في المال فحطت إليه، وحطت هوى الجارية إلى هوى أمها فأبتا حتى ارتفع أمرهما إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله ابنة أخى أوصى بها إلى فزوجتها ابن عمتها فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها إمرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها قال: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(16/167)
وسلم: هي يتيمة ولا تنكح الا بإذنها، قال: فانتزعت والله منى بعد أن ملكتها فزوجوها لمغيرة بن شعبة، وقد أورده الحافظ ابن حجر في التلخيص وسكت عنه، وقال الهيثمى في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات.
أما الاحكام: فإنه لا يخلو حال المراد زواجها من أن تكون حرة أو أمة، فإن كانت حرة نظرت، فإن كانت عافلة فلا تخلو إما أن تكون بكرأ أو ثيبا، فان كانت بكرا فلا يخلو إما أن تكون صغيرة أو كبيرة، فإن كانت صغيرة جاز للاب تزويجها بغير إذنها بغير خلاف، والدليل عليه قوله تعالى (واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائى لم يحضن) وتقديره وكذلك عدة اللائى لم يحضن، وإنما يجب على الزوجة الاعداد من الطلاق بعد الوطئ فدل على أن الصغيرة التى لم تحض يصح نكاحها، ولا جهة يصح نكاحها معها إلا أن يزوجها أبوها.
وروت عائشة رضى الله عنها قالت: تزوجني رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابنة سبع سنين ودخل بى وأنا ابنة تسع سنين، ومعلوم أنه لم يكن بإذنها حكم في تلك الحال، فعلم أن أباها زوجها بغير إذنها فيجوز للاب والجد إجبارها على النكاح ولا يجوز لغيرهما من الاولياء تزويجها قبل أن تبلغ.
وقال مالك: لا يجوز للجد.
وقال أبو حنيفة، يجوز للاب والجد وسائر
العصبات، وللحاكم إجبارها على النكاح إلا أنه إذا زوجها غير الاب والجد ثبت لها الخيار في فسخ النكاح إذا بلغت.
دليلنا على مالك ان للجد ولادة وتعصيبا فجاز له اجبار البكر كالاب، وعلى أبى حنيفة بما روى ان عمر من حديث زواجه بابنة خاله عثمان بن مظعون، وقول النبي صلى الله عليه وسلم.
انها يتيمة وانها لا تنكح الا بإذنها.
ولان غير الاب والجد لا بلى مالها بنفسه فلم يملك اجبارها على النكاح كالأجنبي.
إذا ثبت هذا: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ.
استحب للاب أن لا يزوجها حتى تبلغ لتكون من أهل الاذن.
لانه يلزمها بالنكاح حقوق.
قال الصيمري.
إذا قاربت البلوغ وأراد تزويجها فالمستحب أن يرسل إليها نساء(16/168)
ثقات ينظرن ما عندها، فإن كانت البكر بالغا فللاب والجد اجبارها على النكاح وان أظهرت الكراهية، وبه قال ابن أبى ليلى وأحمد واسحاق.
وقال مالك.
للاب اجبارها دون الجد، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والاوزاعي لا يجوز لاحد اجبارها.
دليلنا على مالك أن الجد له تعصيب وولادة فملك اجبار البكر على النكاح كالاب، وعلى أبى حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم (الثيت أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها واذنها صماتها) فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثيب أحق بنفسها من وليها دل على أن الولى أحق بالبكر، والمراد بالولي هنا الاب والجد بدليل قوله صلى الله عليه وسلم (اليتيمة تستأمر في نفسها، فان صمتت فهو اذنها، وان أبت فلا جواز عليها) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وأراد باليتيمة التى لا أب لها وسماها يتيمة بعد البلوغ استصحابا لاسمها قبل البلوغ، فلما أوجب استئذان اليتيمة دل على أن غير اليتيمة لا تستأذن، ومن لها أب أو جد فليست بيتيمة
إذا ثبت هذا فان زوج الاب أو الجد البكر البالغ فالمستحب لهما استئذانها واذنها صماتها للخبر، ولانها تستحى أن تأذن بالنطق، فان لم يستأذنها جاز لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن فقصد بذلك التفرقة بينهما، فلو قلنا: أن استئذان البكر واجب لما كان بينهما فرق، وان زوج البكر البالغ غير الاب والجد من الاولياء لم يصح حتى يستأذن وهو اجماع لا خلاف فيه، وفى اذنها وجهان.
(أحدهما)
لا يحصل الا بنطقها، لان كل من يفتقر نكاحها إلى اذنها افتقر إلى نطقها مع قدرتها على النطق كالثيب وهو المذهب انها إذا استؤذنت فصمتت كان ذلك اذنا منها في النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم اليتيمة تستأمر في نفسها فان صمتت فهو اذنها لانها تستحى ان تأذن بالنطق بخلاف الثيب.
قال العمرانى في البيان، قال أصحابنا المتأخرون فان استأذنها وليها أن يزوجها بأقل من مهر مثلها أو بغير نقد البلد وصمتت لم يكن ذلك اذنا منها في ذلك، لان ذلك مال فلا يكون صمتها اذنا فيه، كما لو استأذنها في بيع مالها فصمتت، بخلاف النكاح.(16/169)
وإن كانت المراد تزويجها ثيبا نظرت فان ذهبت بكارتها بالوطئ في نكاح أو ملك أو شبهة.
فإن كانت بالغا لم يجز لاحد من الاولياء إجبارها على النكاح سواء كان الولى أبا أو جدا أو غيرهما، لما روى أن خنساء بنت خدام الانصارية زوجها أبوها وهى ثيب، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرد نكاحها.
وَرُوِيَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ليس للولى مع الثيب أمر.
قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع لا خلاف فيه.
ولا يصح نكاحها إلا باذنها، ولا يصح إذنها إلا بنطقها مع قدرتها على النطق لقوله صلى الله عليه وسلم: والبكر تستأذن
في نفسها وإذنها صماتها.
فلما جعل اذن البكر الصمت دل على أن اذن الثيب بالنطق، فان كانت خرساء وأشارت إلى الاذن بما يفهم منها صح تزويجها، وان كانت الثيب صغيرة لم يجز لاحد من الاولياء تزويجها قبل البلوغ، سواء كان الولى أبا أو جدا أو غيرهما.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز للاب والجد وغيرهما من الاولياء اجبارها على النكاح، والاجبار عندهم يختلف بصغر المنكوحة وكبرها، وعندنا يختلف ببكارتها وثيوبتها.
دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ للولى مع الثيب أمر، ولم يفرق، ولانها حرة سليمة ذهبت بكارتها بجماع فلم تجبر على النكاح كالثيب الكبيرة.
وقولنا (حرة) احتراز من الامة، وقولنا سليمة احتراز من المجنونة: وقولنا بجماع احتراز ممن ذهبت بكارتها بوثبة أو غيرها (فرع)
وان ذهبت بكارتها بالزنا فهو كما لو ذهبت بالجماع في النكاح، فيكون حكمها حكم الثيب في الاذن.
وقال أبو حنيفة: حكمها حكم البكر.
دليلنا أنها حرة سليمة ذهبت بكارتها بجماع، فهو كما لو ذهبت بنكاح وان ذهبت بكارتها بوثبة أو تعنيس ففيه وجهان:
(أحدهما)
حكمها حكم الموطوءة بنكاح لانها ثيب
(والثانى)
حكمها حكم البكر في الاذن، وهو المذهب، لان الثيب انما اعتبر اذنها بالنطق لذهاب الحياء بالوطئ وهذا الحياء لا يذهب بغير الوطئ بخلاف الزانية فانها إذا لم تستح من مباضعة الرجال على الزنا والاقدام عليه لم تستح من النطق بالاذن(16/170)
وقال الصيمري: وان خلقت المرأة لا بكارة لها فهى كالبكر، وان ادعت المرأة البكارة أو الثيوبه قال الصيمري: القول قولها.
ولا يكشف عن الحال
لانها أعلم بحالها.
(فرع)
قال ابن الحداد: إذا زوج الرجل ابنته البكر البالغ بغير اذنها فلما بلغها ذلك قالت (أنا أخته من الرضاع) يعنى الزوج، أو تزوجني أبوه قبله أو غير ذلك من الاسباب المحرمة فالقول قولها مع يمينها، ويبطل النكاح.
وان كانت ثيبا فزوجها وليها باذنها أو زوجها أبوها وهى بكر بغير اذنها فمكن الزوج من وطئها ثم ذكرت سببا يوجب التحريم لم يقبل قولها كما قال الشافعي رضى الله عنه فيمن ضل له عبد فأخذه الحاكم ورأى المصلحة في بيعه فباعه أو باعه عليه الحاكم لدين عليه وهو غائب ثم قدم وادعى أنه أعتقه قبل ذلك قبل قوله فيه مع يمينه.
ولو بلغه المالك بنفسه أو باعه الحاكم عليه وهو حاضر لدين عليه امتنع منه ثم ادعى بعد البيع أنه كان أعتقه أو أوقفه لم يقبل قوله في ذلك، فمن أصحابنا من صوب ابن الحداد ومنهم من خطأه وقال لا يقبل قولها بحال، لان لها غرضا في اجبار الازواج، وربما كرهت زوجها وطلبت غيره، ولا تصدق على ما يوجب بطلان نكاحها، كما إذا أقر العبد بجناية خطأ أو اتلاف مال فانه لا يقبل (فرع)
قال ابن الحداد (وان قالت امرأة وهى بالغ عاقلة زوجنى أبى زيدا بشهادة شاهدين وصادقها زيد على ذلك فأنكر الاب أو الشاهدان ذلك لم يلتفت إلى انكار الاب أو الشاهدين لان الحق للزوجين، ولا حق للاب ولا للشاهدين في ذلك، فهو كما لو قال رجل باع وكيلى دارى من فلان وادعاه المشترى وأنكر الوكيل لم يلتفت إلى انكاره فكذلك هذا مثله قال القاضى أبو الطيب هذا على قول الشافعي رحمه الله الجديد أن النكاح ثبت بتصادق الزوجين، وهو المشهور وأما على القول القديم فانه لا يثبت بتصادقهما الا ان كانا عربيين
(فرع)
وان كانت المراد نكاحها مجنونة فان كان وليها أباها أو جدها فزوجها(16/171)
على أي صفة كانت، صغيرة أو كبيرة، بكرا أو ثيبا لانهما يملكان إجبارها على النكاح، وإنما لم يجز لهما تزويج الثيب الصغيرة العاقلة لانه يرجى لها أن تبلغ وتأذن، ولم يجز لهما تزويج الثيب البالغة إلا بإذنها لانها من أهل الاذن والمجنونة ليست من أهل الاذن ولا يرجى لها حال تصير فيه من أهل الاذن، وإن كان وليها غير الاب والجد من العصبات لم يملك تزويجها، لان تزويجها إجبار وهم لا يملكون إجبارها على النكاح.
وإن كان وليها الحاكم قال الشيخ أبو حامد، بأن لا يكون لها ولى مناسب، أو كان لها ولى مناسب غير الاب والجد فإنه لا ولاية لهم عليها في هذه الحالة، وتنتقل الولاية إلى الحاكم، فإن كانت صغيرة لم يجز للحاكم تزويجها لانها لا حاجة بها إلى التزوج في هذه الحال.
وإن كانت كبيرة جاز له تزويجها لان لها في ذلك حظا لانها تحتاج إليه للعفه ويكسبها غنى، وربما كان لها فيه شفاء، والفرق بين الحاكم وبين غير الاب والجد من العصبات أنه يزوجها حكما، وبهذا يجوز له التصرف في مالها، والعصبات غير الاب والجد يزوجونها بالولاية ولا ولاية لهم عليها، هذا نقل أصحابنا البغداديين وقال الخراسانيون: المجنونة المطبقه إن كانت بكرا فللاب والجد تزويجها، صغيرة كانت أو كبيرة، وإن كانت ثيبا، فإن بلغت مجنونة فلهما ذلك، وإن بلغت عاقلة فهل لهما تزويجها؟ فيه وجهان بناء على أنه هل تعود ولاية المال لهما؟ وفيه وجهان.
وإن كانت صغيرة ثيبا فوجهان، وان كان جنونها غير مطبق وهى ثيب فهل لهما تزويجها في يوم الجنون؟ على وجهين، وأما غير الاب والجد من العصبات فليس له تزويجها بحال، وللحاكم أن يزوجها إذا كانت بالغة، وهل
يستأذن الحاكم غيره من العصبات؟ فيه وجهان وأما إذا كان المراد تزويجها أمة فعلى ما ذكر المصنف.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن كان ولى المرأة ممن يجوز له أن يتزوجها كابن عم، والمولى المعتق، لم يجز أن يزوجها من نفسه، فيكون موجبا قابلا لانه يملك الايجاب(16/172)
بالاذن فلم يجز أن يملك شطرى العقد كالوكيل في البيع، فإن أراد أن يتزوجها، فإن كان هناك من يشاركه في الولاية زوجها منه، وإن لم يكن من يشاركه في الولاية زوجها الحاكم منه، وإن أراد الامام أن يتزوج امرأة لا ولى لها غيره ففيه وجهان.
(أحدهما)
أن له أن يزوجها من نفسه، لانه إذا فوض إلى غيره كان غيره وكيلا، والوكيل قائم مقامه فكان إيجابه كايجابه
(والثانى)
يرفعه إلى حاكم ليزوجها منه، لان الحاكم يزوج بولاية الحكم فيصير كما لو زوجها منه، ولى، ويخالف الوكيل لانه يزوجها بوكالته، ولهذا يملك عزله إذا شاء، ولا يملك عزل الحاكم من غير سبب وإذا مات انعزل الوكيل ولا ينعزل الحاكم.
وان كان لرجل ابن ابن وبنت ابن وهما صغيران فزوج بنت الابن بابن الابن.
ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز، وهو قول أبى العباس ابن القاص، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (كل نكاح لم يحضره أربعه فهو سفاح خاطب وولى وشاهدان)
(والثانى)
وهو قول أبى بكر بن الحداد المصرى أنه يجوز كما يجوز أن بلى شطرى العقد في بيع ماله من ابنه، فعلى هذا يحتاج أن يقول زوجت بنت ابني
بابن ابني، وهل يحتاج إلى القبول.
فيه وجهان
(أحدهما)
يحتاج إلى القبول، وهو أن يقول بعد الايجاب وقبلت نكاحها له وهو قول أبى بكر بن الحداد، لانه يتولى ذلك بولايتين فقام فيه مقام الاثنين.
(والثانى)
لا يحتاج إلى لفظ القبول، وهو قول أبى بكر القفال، لانه قائم مقام اثنين فقام لفظه مقام لفظين.
(فصل)
وان وكل الولى رجلا في التزويج فهل يلزمه أن يعين الزوج فيه قولان أحدهما لا يلزمه لان من ملك التوكيل في عقد لم يلزمه تعيين من يعقد معه كالموكل في البيع.
والثانى يلزمه لان الولى انما جعل إليه اختيار الزوج لكمال شفقته ولا يوجد كمال الشفقه في الوكيل فلم يجعل اختيار الزوج إليه(16/173)
(الشرح) حديث عائشة أخرجه الدارقطني بلفظ (لا بد في النكاح من أربعة، الولى والزوج والشاهدين) وفى إسناده أبو الخصيب نافع بن ميسرة مجهول وروى نحوه البيهقى في الخلافيات عن ابن عباس موقوفا وصححه، وابن أبى شيبة بنحوه أيضا، وعن أنس أشار إليه الترمذي، وأخرج الدارقطني رواية أخرى عن عائشة بلفظ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فان تشاجروا فالسلطان ولى من لا ولى له) وقد أخرجه أيضا البيهقى من طريق محمد بن أحمد بن الحجاج الرقى عن عيسى بن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة كذلك وقد توبع الرقى عن عيسى، ورواه سعيد بن خالد بن عبد الله ابن عمر وبن عثمان، ويزيد بن سنان ونوح بن دراج، وعبد الله بن حكيم عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة كذلك، وقد ضعف ابن معين ذلك كله، وأقره البيهقى، وقد تقدم في فصل لا نكاح إلا بولي طرف منه، ويؤيد هذا الحديث ما رواه الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: البغايا اللاتى
ينكحن أنفسهن بغير بينة) .
وذكر الترمذي أنه لم يرفعه غير عبد الاعلى وأنه قد وقفه مرة وأن الوقف أصح، وهذا لا يقدح لان عبد الاعلى ثقة فيقبل رفعه وزيادته، وقد يرفع الراوى الحديث وقد يقفه، وقال الترمذي: هذا الحديث غير محفوظ لا نعلم أحدا رفعه إلا ما روى عن عبد الاعلى عن سعيد عن قتادة مرفوعا.
وروى عن عبد الاعلى عن سعيد هذا الحديث موقوفا، والصحيح ما روى ابن عباس (لا نكاح إلا ببينة) ويؤيده حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل) ذكره أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله وقد أشار إليه الترمذي، وأخرجه الدارقطني والبيهقي في العلل من حديث الحسن عنه، وفى إسناده عبد الله بن محرز وهو متروك.
ورواه الشافعي من وجه آخر عن الحسن مرسلا وقال: هذا، وإن كان منقطعا فإن أكثر أهل العلم يقولون به.
وقد روى الشافعي والبيهقي من طريق ابن خيثم عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ(16/174)
ابن عباس موقوفا بلفظ (لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل) وقال البيهقى بعد أن رواه من طريق أخرى عن أبى خيثم بسنده مرفوعا بلفظ (لا نكاح إلا بإذن ولى مرشد أو سلطان) قال: والمحفوظ الموقوف، ثم رواه من طريق الثوري عن أبى خيثم، ومن طريق عدى بن الفضل عن أبى خيثم بسنده مرفوعا بلفظ.
(لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، فإن نكحها ولى مسخوط عليه فنكاحها باطل) وعدى بن الفضل ضعيف.
وعن أبى هريرة مرفوعا وموقوفا عند البيهقى بلفظ (لا نكاح إلا بأربعة خاطب وولى وشاهدين، وفى إسناده المغيرة بن موسى البصري قال البخاري: منكر الحديث.
وهذه الاحاديث تفيد شرطية الاشهاد في النكاح، وهو قول على وعمر وابن عباس والعترة والشعبى وابن المسيب والاوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ قالوا (لا نكاح الا بشهود) لم يختلفوا في ذلك من مضى منهم إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم، وانما اختلف أهل العلم في هذا إذا شهد واحد بعد واحد، فقال أكثر أهل العلم من الكوفة وغيرهم، لا يجوز النكاح حتى يشهد الشاهدان معا عند عقدة النكاح وقد روى بعض أهل المدينة إذا شهد واحد بعد واحد فإنه جائز إذا أعلنوا ذلك وهو قول مالك بن أنس وغيره.
وقال بعض أهل العلم: يجوز شهادة رجل وامرأتين في النكاح، وهو قول أحمد واسحاق.
انتهى كلام الترمذي وحكى عن ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن مهدى وداود بن على أنه لا يعتبر الاشهاد.
وحكى أيضا عن مالك انه يكفى الاعلان بالنكاح، والحق ما ذهب إليه الاولون لان الاحاديث التى سقناها يؤيد بعضها بعضا.
(اما احكام الفصل) فانه إذا اراد الرجل ان يتزوج امرأة بلى عليها امر النكاح من نفسه كابن العم والمعتقة أو وكل الولى رجلا يزوج وليته فيزوجها الوكيل من نفسه لم يصح.(16/175)
وقال ربيعه ومالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: يصح، دليلنا ما روت عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا نِكَاحَ إلَّا بولي وشاهدي عدل فان تشاجروا فالسلطان ولى من لا ولى له) .
وحديث أبى هريرة (لا نكاح إلا بأربعة خاطب وولى وشاهدان) وهذا لم
يحضره الا ثلاثة، وشرط أن يكون ولى وخاطب ولم يوجد ذلك، ولانه لو وكل وكيلا ليبيع له سلعة لم يجز للوكيل أن يبتاعها من نفسه، فكذلك هذا مثله، وقد وفقنا أبو حنيفة على البيع، وخلفنا مالك فيه وقد مضى في البيع.
إذا ثبت هذا: فأراد ابن العم أن يتزوجها فان كان هناك ولى لها في درجته تزوجها منه، وان لم يكن هناك ولى في درجته بل كان أبعد منه أو لا ولى لها تزوجها من السلطان لانها تصير في حقه بمنزلة من لا ولى لها فيتزوجها من السلطان.
(فرع)
إذا أراد الحاكم أن يتزوج امرأة لا ولى لها فانه يتزوجها من الامام قال ابن الصباغ: أو يرد ذلك إلى من يزوجه اياها ويتولى طرفي العقد لانه إذا تزوجها من الحاكم فهو قائم من جهته فصح أن يتولى ذلك.
والثانى: لا يصح أن يتولى العقد بنفسه بل يتزوجها الحاكم لان الحاكم ليس بوكيل له، وانما هو نائب عن المسلمين، ولهذا لا يملك الامام عزله من غير سبب.
(فرع)
وان أراد الجد أن يزوج ابنه الصغير بابنة ابن له آخر ففيه وجهان أحدهما: لا يصح، وهو اختيار ابن القاص لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا نِكَاحَ إلَّا بولي وخاطب وشاهدي عدل) والثانى: يصح، وهو اختيار ابن الحداد والقاضى أبى الطيب لانه يملك طرفي العقد بغير تولية فجاز أن يتولاه ههنا كبيع مال الصغير من نفسه، وأما الخبر فمحمول إذا كان الولى غير الخاطب فعلى هذا لا تصح الولاية الا بشروط.
(أحدها) إذا كان أبواهما ميتين أو فاسقين أو أحدهما ميتا والآخر فاسقا لانه لا ولاية للجد الرشيد عليهما مع ثبوت ولاية الابوين عليهما.
(الشرط الثاني) أن يكون ابن الابن صغيرا أو مجنونا (الثالث) أن تكون الابنة بكرا فأما إذا كانت ثيبا فلا يملك تزويجها بحال(16/176)
الا باذنها، وقد اشترط ابن الحداد أن تكون صغيره، وليس بصحيح لان الجد يملك اجبارها على النكاح إذا كانت بكرا بكل حال الا أن تكون الابنة مجنونة فيملك الجد اجبارها على النكاح بكل حال.
إذا ثبت هذا: فان الجد يقول زوجت فلانة بفلان أو فلانا بفلانة، وهل يفتقر إلى لفظ القبول؟ وهو أن يقول: وقبلت نكاح فلانة لفلان؟ فيه وجهان من أصحابنا من قال: لا يفتقر إلى ذلك لان الا يجاب يتضمن القبول، وهو قول ابن الحداد، وهو المشهور، لان كل عقد افتقر إلى الايجاب افتقر إلى القبول كما لو كان بين شخصين.
(فرع)
وان تزوج الولى وليته من ابنه الكبير صح لانه هو الذى يوجب النكاح على المرأة وبقبله لابنه، والشخص الواحد لا يجوز أن يكون قابلا موجبا في النكاح.
(فرع قال الشافعي رضى الله عنه: وكيل الولى يقوم مقامه، وجملة ذلك أن الولى إذا كان ممن يملك اجبار المرأة على النكاح فله ان يوكل من يزوجها بغير اذنها كما يجوز ان يعقد عليها بنفسه بغير اذنها، فان وكل في تزويجها من رجل بعينه صح، وان قال الوكيل وكلتك في تزويجها واطلق فهل يصح؟ حكى الشيخان ابو حامد وابو إسحاق فيها قولين، وحكاهما ابن الصباغ والمسعودي وجهان.
احدهما: يصح، لان من جاز ان يوكل وكالة معينه جاز ان يوكل وكالة مطلقه كالوكالة في البيع.
والثانى: لا يصح هذا التوكيل لان الولى انما فوض إليه اختيار الزوج لكمال شفقته وهذا لا يوجد في الوكيل، وان كان الولى لا يملك التزويج الا باذنها، فان اذنت له في التزويج والتوكيل صح توكيله، وان اذنت في التزويج لا غير فهل يملك التوكيل؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الوكالة.
(فرع)
إذا كان الولى لا يملك ان يعقد على المرأة الا باذنها، فان أذنت له أن يزوجها من رجل معين صح، وان أذنت أن يزوجها مطلقا قال الشيخ أبو حامد: يصح ذلك قولا واحدا لكمال شفقته.
وقال الطبري في العدة.
هو كالوكيل إذا وكله الولى في التزويج وأطلق على(16/177)
ما مضى، ويجوز للمرأة أن يأذن لوليها بلفظ الاذن، ويجوز بلفظ الوكالة نص عليه الشافعي رضى الله عنه لان المعنى فيهما واحد، وإن أذنت لوليها أن يزوجها ثم رجعت لم يصح تزويجها كالموكل إذا عزل وكيله، فان زوجها الولى بعد العزل وقبل أن يعلم به فهل يصح، فيه وجهان مأخوذان من القولين إذا باع بعد العزل وقبل العلم به، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز للولى أن يزوج المنكوحة من غير كفء إلا برضاها ورضى سائر الاولياء، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تخيروا لنطفكم، فانكحوا الاكفاء وانكحوا إليهم) ولان في ذلك إلحاق عار بها وبسائر الاولياء فلم يجز من غير رضاهم.
(فصل)
وإن دعت المنكوحة إلى غير كفء لم يلزم الولى تزويجها لانه يلحقه العار، فان رضيا جميعا جاز تزويجها لما روت فاطمة بنت قيس قَالَتْ (أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته أن أبا الجهم يخطبني ومعاوية، فقال: أما أبو الجهم فأخاف عليك عصاه وأما معاوية فشاب من شباب قريش لا شئ له ولكني أدلك على من هو خير لك منهما، قلت: من يا رسول الله، قال: أسامة قلت، أسامة، قال نعم أسامة فتزوجت أبا زيد فبورك لابي زيد في وبورك لى في أبى زيد) وقال عبد الرحمن بن مهدى، وأسامة من الموالى وفاطمة قرشية،
ولان المنع من نكاح غير الكف، لحقهما، فإذا رضيا زال المنع، فان زوجت المرأة من غير كفء من غير رضاها أو من غير رضا سائر الاولياء، فقد قال في الام النكاح باطل.
وقال في الاملاء كان للباقين الرد، وهذا يدل على أنه صحيح فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ
(أَحَدُهُمَا)
أنه باطل لانه عقد في حق غيره من غير إذن فبطل كما لو باع مال غيره بغير اذنه
(والثانى)
أنه صحيح ويثبت فيه الخيار، لان النقص يوجب الخيار دون البطلان، كما لو اشترى شيئا معيبا.
ومنهم من قال: العقد باطل قولا واحدا لما ذكرناه، وتأول قوله في الاملاء(16/178)
على أنه أراد بالرد المنع من العقد، ومنهم من قال إن عقد وهو يعلم أنه ليس بكفء بطل العقد، كما لو اشترى الوكيل سلعة وهو يعلم بعيبها، وإن لم يعلم صح العقد وثبت الخيار، كما لو اشترى الوكيل سلعة ولم يعلم بعيبها، وحمل القولين على هذين الحالين.
(الشرح) حديث عائشة أورده السيوطي في الجامع الصغير مرموزا له بابن ماجه والبيهقي والحاكم، كما أورد ما أخرجه ابن عدى في الكامل وعبد الرزاق وابن عساكر عن عائشة بلفظ (تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن) وقد ضعفه السيوطي.
وأخرج أبو نعيم في حلية الأولياء عن أنس (تخيروا لنطفكم واجتنبوا هذا السواد فإنه لون مشوه) وقد رد الذهبي حديث عائشة بأن الحارث بن عمران الجعفري عن هشام عن أبيه عن عائشة مرفوعا (تخيروا لنطفكم وانكحوا الاكفاء) تابعه عكرمة بن ابراهيم بأن الحارث كان يضع الحديث، قال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات.
وكذلك عكرمة عن هشام ضعيف أيضا.
وقال ابن حجر: مداره على
أناس ضعفاء أمثلهم صالح بن موسى الطلحى والحارث الجعفري.
وقال في الفتح رواه أبو نعيم وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث عمر أيضا وفى إسناده مقال ويقوى أحد الاسنادين الآخر.
وقال ابن الديبع الشيباني في تمييز الطيب من الخبيث: مداره على أناس ضعفاء وكل طرقه ضعيفه وحديث عائشة (تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن الخ) الذى سقناه.
قال ابن الجوزى: حديث لا يصح فيه عيسى بن ميمون.
قال ابن حبان منكر الحديث لا يحتج بروايته.
وقال الخطيب: حديث غريب وكل طرقه واهيه.
وقال السخاوى هو ضعيف، وبالجملة كل ما ورد من طرق هذا الحديث على مختلف صوره وطرقه وألفاظه ليس فيها صحيح.
أما حديث فاطمة بنت قيس فقد أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الاربعة بلفظ (أن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكنى ولا نفقة، قالت: وقال لى رسول الله إذا حللت فأذني، فأذنته فخطبها معاوية(16/179)
وأبو جهم وأسامة بن زيد، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما معاوية فرجل ترب لا مال له.
وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، ولكن أسامة، فقالت بيدها هكذا أسامة أسامة؟ فقال لَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طاعة الله وطاعة رسوله قالت فتزوجته فاغتبطت) وقد اختلف في معاوية هذا فقيل هو ابن أبى سفيان بن حرب وقيل غيره.
وفى صحيح مسلم التصريح بأنه هو، وقوله: فرجل ضراب.
وفى روايه: لا يضع عصاه عن عاتقه، وهو كنايه عن كثرة ضربه للنساء.
وقال أبو عبيد في قوله صلى الله عليه وسلم (أنفق على أهلك ولا ترفع عصاك عنهم) لم يرد العصا التى يضرب بها ولا أمر أحدا بذلك، وإنما أراد يمنعها من الفساد، يقال للرجل إذا
كان رفيقا حسن السياسه لين العصا.
وقيل السفر.
كنى بالعصا عنه قال الشاعر: فألقت عصاها واستقر بها النوى وقيل كما أفاده ابن بطال كنى به عن كثرة الجماع وليس بشئ.
قال الازهرى معناه أنه شديد على أهله خشن الجانب في معاشرتهن مستقص عليهن في باب الغيرة أما الاحكام فقد ذكرنا أن للزوج أن يوكل من يتزوج له، لان النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أميه الضمرى أن يتزوج له أم حبيبه رضى الله عنها بنت أبى سفيان من ابن عمها من أرض الحبشه، ووكل أبا رافع في تزويج ميمونه، فان وكله أن يزوج له امرأة بعينها صح، فان وكله أن يتزوج له ممن شاء، ففيه وجهان.
مضى ذكرهما في الوكالة، قال أبو العباس بن سريج وأبو عبد الله الزبيري لا يجوز، لان الاغراض تخلف في ذلك.
قال القاضى أبو حامد المروروذى يجوز، واليه ذهب الصيمري فانه قال، لو وكله أن يزوجه امرأة من العرب فزوجه امرأة من قريش جاز، ولو وكله أن يزوجه امرأة من قريش فزوجه امرأة من العرب لم يصح، ولو وكله أن يزوجه امرأة من الانصار فزوجه امرأة من الاوس أو الخزرج من بنات الانصار جاز، ولو وكله أن يزوجه امرأة من الاوس فزوجه امرأة من الخزرج لم يجز، ولو وكله أن يزوجه امرأة بعينها فتزوجها الموكل لنفسه ثم طلقها قبل الدخول أو بعد الدخول وانقضت عدتها ثم تزوجها الوكيل للموكل(16/180)
قال الصيمري لم يصح، لان وكالته قد بطلت لما تزوجها الموكل لنفسه فإن وكله أن يتزوج امرأة بمائة فتزوجها له بخمسين صح، فإن تزوجها له بأكثر من مائة قال الصيمري: فقد قال شيخ من أصحابنا: يبطل النكاح، والصحيح أنه يصح ولها مهر مثلها.
(فرع)
فإن جاء رجل وادعى أن فلانا وكله أن يتزوج له امرأه فتزوجها له
وضمن عنه المهر ثم أنكر الموكل الوكالة ولا بينة فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف لم يلزمه النكاح، ولا يقع النكاح للوكيل بخلاف وكيل الشراء لان الغرض من النكاح أعيان الزوجين فلا يقع بغير من عقد له، وترجع الزوجة على الوكيل بنصف المهر.
وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف، لانها تدعى وجوبه على الزوج والوكيل ضامن به وهو مقر به.
وقال محمد بن الحسن يرجع على الوكيل بجميع الصداق، لان الفرقة لم تقع في الباطن بانكاره، وهذا ليس بشئ، لانه يملك الطلاق، فإذا أنكر النكاح فقد أقر بتحريمها عليه، فصار بمنزلة إيقاعه للطلاق، ولو مات الزوج قبل المصادقة على النكاح لم ترث هذه الزوجة إلا أن يصدقها سائر ورثته على التوكيل أو يقدم لها بينة على ذلك.
ولو غاب رجل عن امرأته فجاءها رجل فذكر أن زوجها طلقها طلاقا بانت به منه بدون الثلاث وأنه وكله في استئناف عقد النكاح عليها؟ ؟ ؟ فعقد عليها النكاح بألف وضمن لها الوكيل الالف ثم قدم الزوج فأنكر ذلك فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف فهل للزوجة أن ترجع على الوكيل بالالف فيه وجهان: قال الساجى والقاضى أبو الطيب: لا ترجع عليه بشئ، وبه قال أبو حنيفة لان الضامن فرع على المضمون عنه، فإذا لم يلزم المضمون عنه شئ لم يلزم الضامن
(والثانى)
يرجع عليه بالالف.
قال الشيخ أبو حامد: وقد نصر عليه الشافعي رحمه الله في الاملاء وهو الاصح لان الوكيل مقر بوجوبها عليه كما قلنا في التى قبلها، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ(16/181)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والكفاءة في الدين والنسب والحرية والصنعة، فأما الدين فهو
معتبر، فالفاسق ليس بكفء للعفيفة، لما روى أبو حاتم المزني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد عريض، وأما النسب فهو معتبر فالأعجمي ليس بكفء للعربيه، لما روى عن سلمان رضى الله عنه أنه قال (لا نؤمكم في صلاتكم، ولا ننكح نساءكم) وغير القرشى ليس بكفء للقرشيه لقوله صلى الله عليه وسلم (قدموا قريشا ولا تتقدموها) وهل تكون قريش كلها أكفاء؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
أن الجميع أكفاء، كما أن الجميع في الخلافه أكفاء
(والثانى)
أنهم يتفاضلون، فعلى هذا غير الهاشمي والمطلبى ليس بكفء للهاشمية والمطلبيه، لما روى واثلة بن الاسقع أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (إن الله اصطفى كنانة من بنى اسماعيل واصطفى من كنانه قريشا، واصطفى من قريش بنى هاشم واصطفانى من بنى هاشم) وأما بنو هاشم وبنو المطلب فهم أكفاء، لان النبي صلى الله عليه وسلم سوى بينهم في الخمس، وقال (إن بنى هاشم وبنى عبد المطلب شئ واحد) وأما الحرية فهى معتبرة، فالعبد ليس بكفء للحرة، لقوله تعالى (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا، هل يستوون؟ ولان الحرة يلحقها العار بكونها تحت عبد.
وأما الصنعه فهى معتبرة فالحائك ليس بكفء للبزاز، والحجام ليس بكفء للخراز، لان الحياكة والحجامه يستر ذل أصحابها.
واختلف أصحابنا في اليسار فمنهم من قال يعتبر، فالفقير ليس بكفء للموسرة لما روى سمرة قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الحسب المال والكرم التقوى) ولان نفقة الفقير دون نفقة الموسر، ومنهم من قال لا يعتبر لان المال يروح ويغدو ولا يفتخر به ذوو المروءات.
ولهذا قال الشاعر
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى
* وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر فما زادنا بغيا على ذى قرابة
* غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر(16/182)
(الشرح) حديث أبى حاتم المزني رواه الترمذي بلفظ (إن أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنه في الارض وفساد كبير، قالوا: يا رسول الله وان كان فيه، قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، ثلاث مرات) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
ونقل المناوى عن البخاري أنه لم يعده محفوظا، وعده أبو داود في المراسيل، وأعله ابن القطان بالارسال، وضعف راويه، وأبو حاتم المزني له صحبة، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير هذا الحديث، وقد أخرج الترمذي أيضا هذا الحديث من حديث أبى هريرة ولفظه قَالَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: إذا خطب اليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد عريض) ومن ثم ندرك أن المصنف أخطأ في عزو لفظ رواية أبى هريرة إلى عائشة.
وقال المناوى: قد خولف عبد الحميد بن سليمان في هذا الحديث، ورواه الليث بن سعد عن أبى عجلان عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ البخاري: وحديث الليث اشبه، ولم يعد حديث عبد الحميد محفوظا.
وعن ابن عمر عند الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال: العرب أكفاء بعضهم لبعض، قبيلة لقبيلة، وحى لحى، ورجل لرجل، إلا حائك أو حجام) وفى اسناده رجل مجهول وهو راويه عن ابن جريج، وقد سأل ابن أبى حاتم أباه عن هذا الحديث فقال: هذا كذب لا أصل له، وقال في موضع آخر باطل.
ورواه ابن عبد البر في التمهيد من طريق أخرى عنه.
قال الدارقطني في العلل لا يصح اه.
وله طريق آخر عن غير ابن عمر رواها البزار في مسنده من حديث معاذ رفعه (العرب بعضها لبعض أكفاء) وفيه سليمان بن أبى الجون.
قال ابن القطان لا يعرف ثم هو من رواية خالد بن معدان عن معاذ ولم يسمع منه، وفى المنفق عليه من حديث أبى هريرة (خياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام إذا فقهوا) وأما قول سلمان فقد مضى الاشارة إليه في الامامة، ولعل أبا حنيفة حين قال قريش أكفاء بعضهم بعضا العرب كذلك وليس أحد من العرب كفؤا لقريش كما ليس(16/183)
أحد من غير العرب كفؤا للعرب، كان متأثرا بقول سلمان هذا.
وقال الثوري: إذا نكح المولى العربية يفسخ النكاح، وبه قال أحمد في رواية.
وقال الشافعي: ليس نكاح غير الاكفاء حراما فأرد به النكاح، وانما هو تقصير بالمرأة والاولياء، فإذا رضوا صح ويكون حقا لهم تركوه، فلو رضوا الا واحد فله فسخ.
قال: ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب من حديث، وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه (العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء بعض) فإسناده ضعيف، واحتج البيهقى بحديث (ان الله اصطفى بنى كناية من بنى اسماعيل الخ الحديث) الذى ساقه المصنف في هذا الفصل وهو صحيح أخرجه مسلم لكن في الاحتجاج به لذلك نظر، وقد ضم إليه بعضهم حديث (قدموا قريشا ولا تقدموها) .
ونقل ابن المنذر عن البويطى أن الشافعي قال: الكفاءة في الدين، وهو كذلك في مختصر البويطى، قال الرافعى: وهو خلاف مشهور.
قال في الفتح: واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه، فلا تحل المسلمة لكافر.
قال الخطابى: ان الكفاءة معتبرة فقول أكثر العلماء بأربعة أشياء.
الدين والحرية، والنسب، والصناعة، ومنهم من اعتبر السلامة من العيوب، واعتبر
بعضهم اليسار.
ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة رفعه (أن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه المال) وما أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم من حديث سمرة رفعه (الحسب المال والكرم التقوى) وقد ساقه المصنف في الفصل.
قال ابن حجر.
يحتمل أن يكون المراد أنه حسب من لا حسب له فيقوم النسب الشريف لصاحبه مقام الاول لمن لا نسب له.
(اللاحكام) ليس المولى أن يزوج المرأة من غير كفؤ الا برضاها ورضا سائر الاولياء لحديث عائشة، ولان في ذلك الحاق عار بها وسائر الاولياء فلم يجز من غير رضاهم قال الشيخ أبو حامد.
والاولياء الذين يعتبر رضاهم في نكاح المرأة من غير كفؤ هو كل من كان وليا للعقد حال التزوج، فأما من يجوز أن تنتقل إليه(16/184)
الولاية فلا يعتبر رضاه، فإن دعت المرأة أولياءها أن يزوجوها من غير كفؤ فامتنعوا لم يجبروا على ذلك، ولا ينوب الحاكم منابهم في تزويجها لحديث عائشة (فانكحوا الاكفاء وانكحوا إليهم) .
قال العزيزي في شرح الجامع الصغير: يحتمل أن المراد تزوجوا الخيرات وانضموا اليهن فالهمزة همزة وصل في الفعلين وأطلق ضمير المذكر على المؤنث، وفيه رد على من لم يشترط الكفاءة.
وقال الشيخ الحفنى في شرحه على الجامع الصغير: أي تزوجوا النساء المكافئات لكم من النساء، وانكحوا إليهم أي ميلوا إليهم من قولنا تناكحت الاشجار إذا مال بعضها على بعض، وقد استعير ضمير الذكور للاناث في قوله إليهم، ولو كان المراد من الثاني، وزوجوا بناتكم الاكفاء لقال: وأنكحوهن ولم يقل إليهم فهو بوصل الهمزة في الموضعين لا يقطعها في الثاني.
(قلت) لم يجبروا على تزويجها ولا ينوب الحاكم منابهم في تزويجها ولما روى عَنْ عَلَى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (ثلاثة لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والايم إذا وجدت كفؤا) رواه الترمذي، فدل على أنها إذا وجدت غير كفؤ جاز أن تؤخر، وإن دعت المرأة الولى أن يزوجها من كفؤ بأقل من مهر مثلها وجب عليه إجابتها، فإن زوجها وإلا زوجها الحاكم، فإن كان لها أولياء فزوجها أحدهم بأقل من مهر مثلها، أو زوجها واحد منهم بذلك ألزموا الزوج مهر مثلها ولم يكن لهم فسخ النكاح.
دليلنا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: من استحل بدرهمين فقد استحل، ولان كل من لا يملك الاعتراض عليها في جنس المهر لم يكن له الاعتراض عليها في قدره كأباعد الاولياء والاجانب، ولان المهر حق لها ولا عار عليهم بذلك فلم يكن لهم الاعتراض عليها.
(فرع)
فإن زوجت المرأة من غير كفؤ برضاها ورضى سائر الاولياء صح النكاح، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم.
وقال سفيان وأحمد وعبد الملك بن الماجشون: لا يصح.(16/185)
دليلنا: ما روى أن فاطمة بنت قيس أَتَتْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ الله إن معاوية وأبا الجهم خطباني على حد الرواية التى ساقها المصنف أو على حد الرواية التى أخرجها أكثر الجماعة باشراك أسامة في خطبتها ثم اختار النبي صلى الله عليه وسلم أسامة لها لخلوه من صعلكة معاوية وقسوة أبى الجهم مع أنه كان من الموالى، قالت فتزوجت أبا زيد، وفاطمة قرشية وأسامة مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى أبو هريرة رضى الله عنه قال: حجم أبو هند رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اليافوخ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بنى بياضة أنكحوا أبا هند
وانكحوا إليه) رواه أبو داود والحاكم وحسنه ابن حجر في التلخيص فندبهم إلى التزوج من حجام وليس بكفؤ لهم.
وروى أن بلالا رضى الله عنه تزوج بهالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهم، وقيل: بل هو حذيفة، روى الدارقطني عن حنظلة بن أبى سفيان الجمحى عن أمه قالت رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلال.
وروى أن سلمان الفارسى خطب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنهما ابنته فأنعم له عمر رضى الله عنه فكره ذلك عبد الله بن عمر، فلقى عمرو بن العاص فأخبره بذلك فقال أنا أكفيك هذا فلقى سلمان فقال له عمرو: هنيئا لك فقال بماذا؟ فقال: تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سلمان: المثلى يتواضع؟ والله لا تزوجتها أبدا.
وعن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه الوليد ابن عتبة بن ربيعة وهو مولى إمرأة من الانصار.
(فرع)
فإن زوج الاب أو الجد البكر من غير كفؤ بغير رضاها أو زوجها أحد الاولياء بغير كفؤ برضاها من غير رضا سائر الاولياء، فقد قال الشافعي النكاح باطل.
وقال في موضع كان للباقين الرد، وهذا يدل على أنه وقع صحيحا واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق، فمنهم من قال فيها قولان، وهو اختيار الشيخ أبو حامد.
(أحدههما) أن النكاح صحيح ويثبت لها ولسائر الاولياء الخيار في فسخه، لان(16/186)
النقص دخل عليها، وحصول النقص لا يمنع صحة العقد، وإنما يثبت الخيار كما لو اشترى لموكله شيئا معيبا.
(والثانى)
أن العقد لا يصح، لان العاقد تصرف في حق غيره، فإذا فرط
بطل العقد، كما لو باع الوكيل بأقل من ثمن المثل.
ومنهم من قال: العقد باطل قولا واحدا، وحيث قال: كان للباقين الرد، أي المنع من العقد، ومنهم من قال هي على حالين، فحيث قال: يبطل العقد أراد إذا عقد وهو يعلم أنه ليس بكفؤ، وحيث قال: لا يبطل العقد أراد إذا عقد ولم يعلم أنه غير كفؤ، كما قلنا في الوكيل إذا اشترى شيئا معيبا يعلم بعيبه لم يصح في حق الموكل، وإن اشتراه وهو لا يعلم بعيبه صح في حق موكله، هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: إذا زوجها أحد الاولياء بغير كفؤ برضاها لم يكن للباقين في ذلك اعتراض.
دليلنا: أن رضا جميعهم معتبر فلم يسقط برضا بعضهم.
(فرع)
وإن دعت المرأة وليها إلى تزويجها برجل وزعمت أنه كفؤ لها فقال الولى: ليس بكفؤ لها رفع ذلك إلى الحاكم ونظر فيه.
فإن كان كفؤا لها لزمه تزويجها به فإن امتنع زوجها منه، وإن كان ليس بكفؤ لها لم يلزم الولى إجابتها إليه (مسألة) الكفؤ معتبر في خمسة أشياء كما قررنا النسب، والدين، والحرية والصنعة، والسلامة من العيوب، فأما النسب فان الاعجمي ليس بكفؤ للعربية، وأما العجم فهم أكفاء لا فضل لبعضهم على بعض لما روى نافع عَنْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ العرب أكفاء حى لحى الخ، فدل على أن العجم ليسوا بأكفاء للعرب.
وأما العرب فان غير قريش ليس بكفؤ للقرشيه.
وقال أبو حنيفة: بل هم أكفاء لهم، دليلنا ما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله عز وجل اختار العرب من سائر الامم، واختار من العرب قريش، واختار من قريش بنى هاشم وبنى المطلب) وأما قريش فان بنى هاشم وبنى المطلب أكفاء لقوله صلى الله عليه وسلم (أن بنى هاشم وبنى المطلب شئ واحد، وشبك بين أصابعه) وهل يكون سائر قبائل قريش أكفاء لبنى هاشم وبنى المطلب؟ فيه وجهان حكاهما المصنف.(16/187)
(أحدهما)
أنهم أكفاء كما أنهم في الخلافة أكفاء
(والثانى)
إنهم ليسوا بأكفاء لهم، ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره لما روت عَائِشَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، قال لى جبريل: لم أجد في مشارق الارض ومغاربها أفضل من بنى هاشم اه.
فأما سائر قبائل العرب فلا فضل لبعضهم على بعض لحديث (العرب بعضهم أكفاء بعض حى لحى وقبيلة لقبيله ورجل لرجل إلا الحائك والحجام) قال الصيمري: وموالى قريش أكفاء لقريش لقوله صلى الله عليه وسلم (موالى القوم من أنفسهم) قال العمرانى وهذا الذى ذكره الصيمري مخالف لظاهر قول سائر أصحابنا لانهم يحتجون على جواز نكاح المرأة بمن ليس بكفء لها بتزويج أسامة ابن زيد لفاطمة بنت قيس وأسامة مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة قرشية، ولو قيل فيها وجهان كالوجهين هل تحل الصدقة المفروضة لموالى بنى هاشم وبنى المطلب لكان محتملا.
فأما إذا وطئ الرجل أمته فأولدها ولدا كان كفؤا لمن أمه عربية لان الولد يتبع الاب في النسب دون الام بدليل أن الهاشمي لو تزوج أعجمية كان ولده منها هاشميا، ولو تزوج الاعجمي هاشمية فإن ولده منها أعجمى، وأما الدين فهو معتبر فالفاسق الذى يشرب الخمر ويزنى أو لا يصلى ليس بكفء للحرة العفيفة، وقال محمد بن الحسن هو كفؤ لها إلا أن يكون مظاهرأ بسكره مولعا بالصبيان.
دليلنا قوله تعالى (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) فنفى المساواة بينهما في جميع الوجوه.
ولقوله صلى الله عليه وسلم (إذا خطب اليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير) ولان الفاسق لا يؤمن أن يحمله فسقه على أن يجنى على المرأة، فثبت لها الخيار
في فسخ نكاحه.
وأما الحرية فهى معتبرة، فالحرة ليست بكفء للعبد، والحر لا يكافئ الامة لقوله تعالى (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا) إلى قوله تعالى (هل يستوون) فنفى المساواة بينهما، ولان بريرة أعتقت تحت عبد فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا ثبت الخيار إذا طرأت عليها الحرية، فلان يثبت لها الخيار إذا كانت حرة(16/188)
عند ابتداء النكاح أولى، ولان عليه النفقة لها ولعيالها منه فلا يستطيع أن ينفق نفقة الموسرين.
وأما أهل الصنعة الدنيئة، كالحمامي والزبال وما أشبههم، وقد كانوا يعتبرون الحائك منهم لنص الحديث (إلا الحائك والحجام) فإن للصنعة تأثيرا في الكفاءة ولان الصنعة الدنيئة نقص في العادة فاعتبرت.
فأما اليسار فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال إنه معتبر بالمعسر ليس بكفء للموسرة لقوله صلى الله عليه وسلم (الحسب المال) ولانه لما ثبت أن العبد لا يكافئ الحرة لعجزه عن الانفاق عليها نفقة الموسر فكذلك المعسر، فعلى هذا لا يعتبر أن يكون الرجل مثل المرأة في اليسار في جميع الوجوه، بل إذا كان كل واحد موسرا يسارا ما تكافأ، وان اختلفا في المال.
ومنهم من قال اليسار غير معتبر في الكفاءة، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يكن من أهل اليسار ومات ودرعه مرهونة عند يهودى في طعام أهله، ولان الفقر ليس بنقص في الكفاءة في العادة لان المال يغدو ويروح، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنى خالد لا تيأسا من رزق الله تعالى.
وأما السلامه من العيوب فهى معتبرة في الكفاءة، والعيوب في الرجال الجنون والجذام والبرص والجب والعنة، والعيوب في النساء الجنون والجذاء والبرص
والرتق (1) والقرن ولها أحكام تأتى في بابها.
قال الصيمري واعتبر قوم البلدان، فقالوا ساكنوا مكة والمدينة والبصرة والكوفة ليسوا بأكفاء لمن يسكن الجبال.
وهذا ليس بشئ، وليس للحسن والقبح والطول والقصر والسخاء والبخل ونحو ذلك مدخل في الكفاءة، لان ذلك ليس بنقص في العادة ولا عار فيه ولا ضرر، واليتان لرجل يدعى عروة الصعاليك كان يجمع الفقراء في حظيرة ويرزقهم مما يغنم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
__________
(1) الرتقاء التى لا يستطاع جماعها أو لا خرق لها إلا المبال خاصة.(16/189)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن كان للمرأة وليان وأذنت لكل واحد منهما في تزويجها، فزوجها كل واحد منهما من رجل نظرت، فإن كان العقدان في وقت واحد، أو لم يعلم متى عقدا؟ أو علم أن أحدهما قبل الآخر، ولكن لم يعلم عين الساق منهما بطل العقدان، لانه لا مزية لاحدهما على الآخر.
وإن علم السابق ثم نسى وقف الامر لانه قد يتذكر.
وإن علم السابق وتعين فالنكاح هو الاول والثانى باطل، لما روى سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيُّمَا امْرَأَةٍ زوجها وليان فهى للاول منهما) فان ادعى كل واحد من الزوجين أنه هو الاول وادعيا علم المرأة به، فإن أنكرت العلم فالقول قولها مع يمينها، لان الاصل عدم العلم.
وإن أقرت لاحدهما سلت إليه، وهل تحلف للآخر.
فيه قولان.
(أحدهما)
لا تحلف، لان اليمين تعرض على المنكر حتى يقر.
ولو أقرت للثاني بعدما أقرت للاول لم يقبل فلم يكن في تحليفها له فائدة.
(والثانى)
تحلف لانها ربما نكلت وأقرت للثاني فيلزمها المهر، فعلى هذا إن حلفت سقطت دعوى الثاني، وإن أقرت للثاني لم يقبل رجوعها ويجب علهيا المهر
للثاني.
وإن نكلت رددنا اليمين على الثاني، فان لم يحلف استقر النكاح للاول وإن حلف حصل مع الاول إقرار، ومع الثاني يمين، ونكول المدعى عليه، فان قلنا إنه كالبينة حكم بالنكاح للثاني، لان البينة تقدم على الاقرار، وإن قلنا انه بمنزلة الاقرار وهو الصحيح ففيه وجهان.
(أحدهما)
يحكم ببطلان النكاحين، لان مع الاول إقرارا ومع الثاني ما يقوم مقام الاقرار، فصار كما لو أقرت لهما في وقت واحد
(والثانى)
أن النكاح للاول لانه سبق الاقرار له فلم يبطل باقرار بعده ويجب عليها المهر للثاني كما لو أقرت للاول ثم أقرت للثاني.
(الشرح) الاحكام: إذا كان للمرأة وليان في درجة واحدة فأذنت لكل(16/190)
واحد منهما أن يزوجها برجل غير الذى أذنت به للآخر، أو أذنت لكل واحد منهما أن يزوجها برجل ولم يعين.
وقلنا يجوز، فزوجها كل واحد منهما برجل.
ففيه خمس مسائل: (1) أن يعلم أن العقدين وقعا معا في حالة واحدة فهما باطلان، لانه لا يمكن الجمع بينهما، إذ المرأة لا يجوز أن يكون لها زوجان لاختلاط النسب وفساده، وليس أحدهما أولى من الاخر في التقديم فبطلا كما لو تزوج أختين في عقد واحد (2) أن لا يعلم هل وقع العقدان في حالة واحدة أو سبق أحدهما الاخر، فقال أصحابنا البغداديون بطل العقدان، لانه لا يمكن الجمع بينهما، ولا مزية لاحدهما على الاخر في التقديم.
وقال الخراسانيون: بطل العقدان في الظاهر، وهل يبطلان في الباطن.
فيه وجهان.
(3) أن يعلم أن أحدهما سبق الاخر إلا أنه أشكل عين السابق منهما، فقال أصحابنا البغداديون بطل العقدان لما ذكرنا في الذى قبلها.
ومن أصحابنا من
قال فيها قولان
(أحدهما)
أنهما باطلان
(والثانى)
يتوقف فيهما بناء على القولين في الجمعتين إذا وقعتا معا في بلدة وعلم بسبق إحداهما، ولم يتيقن السابقة، وهذا اختيار الجوبنى.
(4) أن يعلم أحد العقدين سبق الاخر، ونسى السابق منهما، فيتوقفان إلى أن يتذكر السابق، لان الظاهر مما علم ثم نسى أن يتذكر (5) أن يعلم السابق منهما ويتعين ويذكر، فإن النكاح الصحيح هو الاول، والثانى باطل، سواء دخلا بها أو لم يدخلا بها.
أو دخل بها أحدهما، وبه قال في الصحابة على رضى الله عنه، ومن التابعين شريح والحسن البصري.
ومن الفقهاء الاوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وذهبت طائفة إلى أنه ان لم يطأها أحدهما أو وطئاها معا أو وطئها الاول دون الثاني فهى للاول كقولنا.
وان وطئها الاول دون الثاني فالنكاح للثاني دون الاول وبه قال عمر (رض) وعطاء والزهرى ومالك دليلنا قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم) إلى قوله (والمحصنات من النساء) والمراد به المزوجات ولم يفرق وروى سَمُرَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إذا نكح الوليان فهى للاول منهما ولانه نكاح لو عرى عن الوطئ لم يصح، فإذا كان فيه الوطئ لم يصح كنكاح المعتدة والمحرمة بالحج(16/191)
(فرع)
إذا زوج المرأة وليان من رجلين ولم يعلم السابق منهما، وادعى كل واحد من الزوجين أنه هو السابق منهما نظرت، فإن ادعى أحد الزوجين، قال المسعودي: لم تسمع دعواه، لانه لا شئ في يده، وإن ادعيا على الولى فإن كان غير مستبد بنفسه بأن لا يصح إنكاحه إلا بإذنها، لم تسمع دعواهما عليه وإن كان مستبدا بنفسه كالاب والجد في تزويج البكر، هل تسمع الدعوى عليه؟ فيه قولان، فان ادعيا على المرأة، وادعيا علمها بذلك، هل تسمع الدعوى عليها فيه قولان بناء على القولين في اقرارها لاحدهما بالسبق، هل يقبل؟ قال في القديم
يقبل إقرارها، فعلى هذا تسمع الدعوى عليها.
وقال في الجديد: لا يقبل إقرارها فعلى هذا لا تسمع الدعوى عليها.
وأما الشيخ أبو حامد والبغداديون من أصحابنا فقالوا: تسمع الدعوى عليها من غير تفسير، فإذا قلنا: تسمع الدعوى عليها نظرت فان أنكرت أنها لا تعرف السابق منهما فالقول قولها مع يمينها أنها لا تعرف السابق، فإذا حلفت سقطت دعواهما وبطل النكاحان فإن نكلت عن اليمين ردت اليمين عليها فيحلف كل واحد منهما أنه هو السابق بالعقد، فإذا حلفا بطل النكاحان، لان كل واحد قد اثبت بيمينه أنه هو السابق، ولا مزية لاحدهما على الآخر فبطلا، وان حلف أحدهما ونكل الآخر ثبت نكاح الحالف وبطل نكاح الناكل، فان نكلا جميعا بطل النكاحان أيضا، لانه لا مزية لاحدهما على الآخر، وإن أقرت أنها تعلم السابق منهما نظرت، فان أقرت لكل واحد منهما سابقا فيكون دعواهما عليها باقية فيطالب بالجواب، وإن أقرت لاحدهما أنه هو السابق حكم بالنكاح له لانه لم يثبت عليها نكاح غير المقر له حال الاقرار، فقبل اقرارها على نفهسا، فان أراد الثاني أن يحلفها بعد اقرارها للاول أنها لا تعلم، لانه هو السابق، فهل يلزمها أن تحلف له، فيه قولان بناء على أنها أقرت للثاني هل يلزمها غرم، فيه قولان كالقولين فيمن أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو، فهل يلزمه الغرم لعمرو، فيه قولان.
(أحدهما)
لا يلزمها أن تحلف للثاني لانها لو أقرت له لم يقبل اقرارها له، فلا معنى لعرض اليمين عليها.(16/192)
(والثانى)
يلزمها أن تحلف للثاني بجواز أن تخاف من اليمين فتقر له فيلزمها الغرم، فان قلنا: لا يلزمها أن تحلف للثاني ثبت النكاح للاول وانصرف الثاني
وان قلنا: يلزمها أن تحلف للثاني نظرت، فان حلفت له انصرف، وان أقرت للثاني بأنه هو السابق لم يقبل قولها في النكاح لان في ذلك اسقاط حق للاول الذى قد ثبت، ولكنها قد أقرت أنها حالت بين الثاني وبين بضعها باقرارها الاول وهل يلزمها أن تغرم له.
قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان كما لو أقرت بدار لزيد ثم أقرت به لعمرو.
قال المحاملى وابن الصباغ: يلزمها له الغرم قولا واحدا، لانا انما عرضنا عليها اليمين على القول الذى يقول يلزمها الغرم فإذا أقرت له لزمها أن تغرم له عوض ما حالت بينه وبينه، وكم يلزمها من الغرم.
قال الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا: يلزمها أن تغرم جميع مهر المثل.
والثانى نصف مهر مثلها كالقولين في المرأة إذا أرضعت زوجة لرجل وانفسخ نكاحها بذلك، وان لم تقر للثاني ولا حلفت له، بل نكلت عن اليمين ردت اليمين عليه، فان قلنا ان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه يحل محل البينة ثبت النكاح للثاني وانفسخ نكاح الاول.
قال الشيخ أبو حامد وهذا القول ضعيف جدا، وان قلنا ان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه يحل محل اقرار المدعى عليه وهو الصحيح، ففيه وجهان.
قال الشيخ أبو إسحاق ببطل النكاحان، لان مع الاول اقرارا ومع الثاني ما يقوم مقام الاقرار، وليس أحدهما أولى من الاخر فبطلا.
ومن أصحابنا من قال يثبت نكاح الاول لان اقرارها له أسبق.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي صاحب المهذب وابن الصباغ والمحاملى يلزمها عل هذا أن تقوم مهر مثلها للثاني وذكر الشيخ أبو حامد في التعليق هل يلزمها الغرم للثاني محل هذا، فيه قولان.
قال ابن الصباغ فعلى قول أبى اسحاق لا تعرض عليها اليمين، لانه لا فائدة فيها
هذا ترتيب البغداديين.
وقال المسعودي: إذا نكحت وحلف الثاني فهل ينفسخ(16/193)
نكاح الاول فيه وجهان: فإذا قلنا ينفسخ، قال القفال: فانه لا يثبت نكاح الثاني، والاول المشهور.
(فرع)
قال الشافعي رحمه الله في الاملاء: إذا زوج الرجل أخته من رجل ثم مات الزوج فادعى ورثته أن الاخ زوجها بغير إذنها، فالنكاح باطل ولا ترث وإذا ادعت المرأة أنه زوجها بإذنها فالقول قولها وترث: لان هذا اختلاف في إذنها وهى أعلم به، ولان الاصل في النكاح أنه يقع صحيحا، فإذا ادعى الورثة بفساده كان القول قولها لان الظاهر صحته.
قال في الاملاء: إذا قال رجل: هذه المرأة زوجتى وصدقته على ذلك تمت الزوجية بينهما، وأيهما مات ورثه الآخر لان الزوجية قد ثبتت، وإن قال رجل هذه زوجتى فسكتت، فان ماتت لم يرثها، لان إقراره عليها لا يقبل، فإن مات ورثته لان إقراره على نفسه مقبول، وكذلك إذا أقرت المرأة بالزوجية من رجل ولم يسمع منه إقرار فإن مات لم ترثه، وإن ماتت ورثها كما ذكرناه في التى قبلها وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
ويجوز لولى الصبى أن يزوجه إذا رأى ذلك، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زوج ابنا له صغيرا، ولانه يحتاج إليه إذا بلغ، فإذا زوجه ألف حفظ الفرج، وهل له أن يزوجه بأكثر من إمرأة، فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لان حفظ الفرج يحصل بامرأة.
(والثانى)
يجوز أن يزوجه بأربع، لانه قد يكون له فيه حفظ، وأما المجنون فانه ان كان له حال افاقة لم يجز تزويجه بغير اذنه، لانه يمكن اسثئذانه فلا يجوز الافتيات عليه، وان لم يكن له حال افاقة ورأى الولى تزويجه للعفة أو الخدمة
زوجه، لان له فيه مصلحة.
وأما المحجور عليه لسفه فانه ان رأى الولى تزويجه زوجه، لان ذلك من مصلحته فان كان كثير الطلاق سراه بجارية، لانه لا يقدر على اعتاقها، وان طلب التزويج وهو محتاج إليه فامتنع الولى فتزوج بغير اذنه ففيه وجهان.(16/194)
(أحدهما)
أنه لا يصح لانه تزوج بغير اذنه فلم يصح منه، كما لو تزوج قبل الطلب
(والثانى)
يصح لانه حق وجب له يجوز له أن يستوفيه باذن من هو عليه فإذا امتنع جاز له أن يستوفيه بنفسه، كما لو كان له على رجل دين وامتنع من أدائه وأما العبد فانه ان كان بالغا فهل يجوز لمولاه أن يزوجه بغير رضاه، فيه قولان.
(أحدهما)
له ذلك لانه مملوك يمك بيعه واجارته، فملك تزويجه من غير رضاه كالامة
(والثانى)
ليس له ذلك لان النكاح معنى يقصد به الاستمتاع فلم يملك اجباره عليه كالقسم، وان كان صغيرا ففيه طريقان.
(أحدهما)
أنه على القولين لانه تصرف بحق الملك فاستوى فيه الصغير والكبير كالبيع والاجارة.
(والثانى)
أنه يملك تزويجه قولا واحدا، لانه ليس من أهل التصرف فجاز تزويجه كالابن الصغير، وان دعا العبد البالغ مولاه إلى النكاح ففيه قولان.
أحدهما: يلزمه تزويجه لانه مكلف مولى عليه، فإذا طلب التزويج وجب تزويجه كالسفيه.
والثانى: لا يلزمه لانه يملك بيعه واجارته فلم يلزمه تزويجه كالامة، وأما المكاتب فلا يملك المولى اجباره على النكاح لانه سقط حقه من رقبته ومنفعته، فان دعا المكاتب المولى إلى التزويج، فان قلنا يجب عليه تزويج العبد فالمكاتب أولى.
وان قلنا: لا يجب عليه تزويج العبد ففى المكاتب وجهان
(أحدهما)
لا يجب
لانه مملوك، فلم يلزمه تزويجه كالعبد
(والثانى)
يجب لانه لا حق له في كسبه بخلاف العبد، فان كسبه للمولى فإذا زوجه بطل عليه كسبه للمهر والنفقة.
(الشرح) الاحكام: يجوز للاب والجد أن يزوج ابنه الصغير إذا كان عاقلا لما روى أن ابن عمر زوج ابنا له صغير، ولانه يملك التصرف في مصلحته والنكاح مصلحة له، لانه ان بلغ وهو محتاج إلى النكاح وجد شريكة تحته يستمتع بها وينتفع بخدمتها وتقوم على حوائجه فيكون ذلك سكنا له، وان بلضع وهو غير محتاج إلى النكاح فان المرأة تكون سكنا له، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: هل يزوج الصغير، فيه وجهان، الاصح لا يزوجه لانه(16/195)
لا حاجة به إليه، وكم يجوز للاب والجد أن يزوجا الصغير؟ حكى الشيخ أبو حامد أن الشافعي رضى الله عنه قال: له أن يزوجه بزوجة واحدة واثنتين وثلاثا وأربعا كالبالغ، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز له أن يزوجه بأكثر من واحدة، لانه لا حاجة به إلى ما زاد عليها، ويجوز للولى والحاكم أن يزوجا الصغير كما قلنا في الاب والجد.
(فرع)
ولا يجوز للاب والجد ولا للوصي ولا للحاكم تزويج الصغير المجنون لانه لا يحتاج إلى النكاح في الحال، ولا يدرى إذا بلضع هل يحتاج إلى النكاح أم لا، بخلاف الصغير العاقل، لان الظاهر أن يحتاج إلى النكاح عقد بلوغه، فان كان المجنون بالغا نظرت، فان كان يجن ويفيق، لم يجز للولى تزويجه لان له حالة يمكن استئذانه فيها وهى حال إفاقته، وإن لم يكن له حال الافاقة، فان كان خصيا أو مجبوبا أو علم أنه لا يشتهى النكاح لم يجز للولى تزويجه لانه لا حاجة به إلى النكاح، وان علم أنه يشتهى بأن يراه يتبع نظره النساء أو علم ذلك بانتشار ذكره أو غير ذلك جاز للاب والجد تزويجه لان فيه مصلحة له، وهو ما يحصل
له به من العفاف، فان لم يكن له أب ولا جد زوجه الحاكم.
(مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه: وليس له أن يزوج ابنته الصغيره عبدا ولا غير كفؤ ولا مجنونا ولا مخبولا ولا مجذوما ولا أبرص.
وهذا كما قال: لا يجوز للرجل أن يزوجها لغير كفؤ، وقد مضى شروط الكفاءة.
والمريض بمرض عقلي أن جسماني مزمن لا يجوز له أن يرضى به زوجا لابنته الصغيرة.
لان القصد من النكاح الاستمتاع وهذا متعذر منه ولانه لا يؤمن ان يجنى عليها.
والمخبول هو الذى تقادم جنونه وسكن.
فلا يتأذى الناس به، أو يكون أبله لا يحصل منه أذية، وهذا يحدث من خلل في تلافيف المخ يترتب عليها أعراض ظاهرة كارتخاء الشفتين أو انفراج الفم وسيلان اللعاب والعى والفهاهة في النطق، لان مراكز المخ إذا اختلت بعض خلاياها وما أكثرها ظهرت أعراضها فان بعضها مختص بحواس البشرة واللمس وبعضها بحواس الشم وبعضها بحواس الذوق إلى آخر ما عند الانسان من آفاق حيويه مادية ومعنوية(16/196)
كل خلجة منها لها خلية في المخ تعطى إشاراتها إلى بقية أجزاء الجسم فأى خلل في خلية منها يعطل وظيفتها فيظهر ذلك في وجهه أو تصرفاته أو صوته، فينبغي مراعاة جانب الصحة النفسية لمن أراد أن يزوج صغيرته حتى لا تشقى بسوء اختيار أبيها أو جدها أو وليها.
وقال الشيخ أبو حامد في الابرص والمجذوم: ولانه يقال إن هذه العيوب تعدى.
وربما اعدت إليها أو إلى ولدها منه، وكذلك لا يزوجها بخصى ولا مجبوب.
لان المقصود من النكاح الاستمتاع.
وذلك لا يوجد منه.
فان خالف الاب وزوج ابنته الصغيرة ممن به أحد هذه العيوب فهل يصح النكاح على الطرق الثلاث إذا زوج المرأة من غير كفء بغير رضاها أو من غير رضى سائر الاولياء
فإذا قلنا ان النكاح باطل فلا كلام.
وان قلنا ان النكاح صحيح فهل يجب على الاب أن يختار فسخ النكاح أو يدعه حتى تبلغ فتختار.
حكى القاضى أبو الطيب فيه قولان وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين.
(أحدهما)
يجب عليه ذلك لانه قد فرط فكان عليه أن يتلافى تفريطه كالوكيل إذا اشترى شيئا معيبا.
(والثانى)
لا يجب عليه وليس له ذلك.
لان الشهوات والميول تختلف.
وقد تختار المرأة التزوج ممن به هذه العيوب، فعلى هذا إذا بلغت كانت بالخيار إن شاءت فسخته وان شاءت أقرته قال ابن الصباغ (هذا إذا كان المزوج هو الولى وحده.
فأما إذا كان معه غيره فلهم الاعتراض على العقد وفسخه قولا واحدا.
لان العاقد أسقط حقه برضاه والباقون لم يرضوا.
وان أراد أن يزوج أمته من عبد جاز لانه مكافئ لها أما إذا أرادت ان تتزوج بمجنون أو مجذوم أو ابرص أو مجبوب أو خصى لم يكن له ذلك، لان الضرر الذى يلحق الحرة في ذلك يلحق الامة (فرع)
ولا يزوج ابنه الصغير بامرأة ليست بكفء له.
ولا بمجنونة ولا مخبولة ولا مجذومة ولا برصاء ولا رتقاء لانه لا مصلحة له في تزويج احداهن.
فان زوجه بأمة لم يصح قولا واحد.
لان تزويج الامة انما يصح للحر إذا لم يجد طول حرة ويخاف العنت.(16/197)
وإن زوج إبنه المجنون برتقاء، فإن قلنا يصح تزويج الصغير العاقل بها صح بالمجنون، وإن قلنا لا يصح تزويج الصغير العاقل بها ففى المجنون وجهان.
(أحدهما)
لا يصح كما لو زوجها من الصغير العاقل
(والثانى)
يصح لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لا يحتاج إلى الوطئ.
(فرع)
قال الصيمري: ولا يزوج ابنه الصغير بعجوز هرمة ولا بمقطوعة اليدين والرجلين ولا عمياء ولا زمنة ولا يهودية ولا نصرانية، ولا يزوج ابنته الصغيرة بشيخ هرم، ولا بمقطوع اليدين والرجلين، ولا بأعمى ولا زمن ولا بفقير وهى غنية، فإن فعل ذلك فسخ.
وعندي أنها تحتمل وجها آخر أنه لا يكون له الفسخ لانه ليس بأعظم ممن زوج ابنته الصغيرة بمجذوم أو أبرص
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح النكاح إلا بشاهدين.
وقال أبو ثور يصح من غير شهادة لانه عقد فصح من غير شهادة كالبيع.
وهذا خطأ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح.
خاطب وولى وشاهدان، ويخالف البيع فإن القصد منه المال والقصد من النكاح الاستمتاع وطلب الولد، ومبناهما على الاحتياط ولا يصح إلا بشاهدين ذكرين فإن عقد برجل وامرأتين لم يصح لحديث عائشة رضى الله عنها، ولا يصح إلا بعدلين لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) فان عقد بمجهولى الحال ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه لا يصح، لان ما افتقر ثبوته إلى الشهادة لم يثبت بمجهولين كالاثبات عند الحاكم
(والثانى)
يصح وهو المذهب لانا لو اعتبرنا العدالة الباطنة لم تصح أنكحة العامة إلا بحضرة الحاكم لانهم لا يعرفون شروط العدالة، وفى ذلك مشقة فاكتفى بالعدالة الظاهرة كما اكتفى في الحوادث في حقهم بالتقليد حين شق عليهم ادراكها بالدليل، فإن عقد بمجهولين ثم بان انهما كانا فاسقين لم يصح لانا حكمنا بصحته في الظاهر، فإذا بان خلافه حكم بإبطاله، كما لو حكم الحاكم(16/198)
باجتهاده ثم وجد النص بخلافه.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان بناء على القولين
في الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ثم بان أنهما كانا فاسقين، وإن عقد بشهادة أعميين ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه يصح، لان الاعمى يجوز يكون شاهدا،
(والثانى)
لا يصح، لانه لا يعرف العاقد فهو كالاصم الذى لا يسمع لفظ العاقد ويصح بشهادة ابني أحد الزوجين، لانه يجوز أن يثبت النكاح بشهادتهما وهو إذا جحد الزوج الآخر وهل يصح بشهادة ابنيهما؟ أو بشهادة ابن الزوج وابن الزوجة، فيه وجهان
(أحدهما)
يصح لانهما من أهل الشهادة
(والثانى)
لا يصح لانه لا يثبت هذا النكاح بشهادتهما بحال.
(فصل)
وإذا اختلف الزوجان فقالت الزوجة: عقدنا بشاهدين فاسقين وقال الزوج: عقدنا بعدلين، ففيه وجهان
(أحدهما)
ان القول قول الزوج لان الاصل بقاء العداله
(والثانى)
أن القول قول الزوجة، لان الاصل عدم النكاح وإن تصادقا على أنهما تزوجا بولي وشاهدين، وأنكر الولى والشاهدان لم يلفت إلى انكارهم لان الحق لهما دون الولى والشاهدين.
(الشرح) حديثا عائشة وابن مسعود رضى الله عنهما مضى تخريجهما في بحث النكاح بولي.
أما الاحكام: فإنه لا يصح النكاح إلا بحضرة شاهدين ذكرين عدلين، وروى ذلك عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وابن عباس والحسن البصري وابن المسيب والنخعي والشعبى والاوزاعي وأحمد بن حنبل.
وقال ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن مهدى وداود وأهل الظاهر.
لا يفتقر النكاح إلى الشهادة، وبه قال مالك، إلا أنه قال من شرطه أن لا يتواصوا بكتمانه، وان تواصوا على كتمانه لم يصح النكاح وان حضره شهود، وبه قال الزهري.
وقال أبو حنيفة: من شرطه الشهادة الا أنه ينعقد بشهادة رجلين فاسقين وعدوين ومحدودين، وشاهد وامرأتين.
دليلنا ما روى عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل) رواه أحمد في رواية ابنه عبد الله ورواه الدارقطني، وأشار إليه الترمذي، وروت عَائِشَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ(16/199)
(كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح: خاطب وولى وشاهدان) وعنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل) وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم (البغايا اللاتى ينكحن أنفسهن بغير بينة) رواه الترمذي، وهذه الاحاديث وغيرها مضى تخريجها في الولى، ولانه عقد فلم يكن من شرطه ترك التواصي بالكتمان كالبيع ولان كل ما لم يثبت بشهادة عدلين بم يثبت بشهادة فاسقين كالاثبات عند الحاكم.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: والشهود على العدل حتى يعلم الجرح يوم وقع النكاح.
وجملة ذلك أنه إذا عقد بحضرة شاهدين فإن علمت عدالتهما ظاهرا وباطنا انعقد النكاح بشهادتهما، وإن علمت عدالتهما في الظاهر وجهلت في الباطن ففيه وجهان حكاهما المصنف.
قال أبو سعيد الاصطخرى: لا يصح لان ما افتقر ثبوته إلى الشهادة لم يثبت بمجهول الحال كالاثبات عند الحاكم، والثانى وهو المذهب ولم يحك الشيخ أبو حامد وابن الصباع غيره أن النكاح صحيح لان الظاهر العداله، ولانا لو اعتبرنا العدالة الباطنة لم ينعقد النكاح إلا بحضرة الحاكم، لان العامة لا يعرفون شروط العدالة، وقد أجمع المسلمون على جواز انعقاده بغير حضور الحاكم.
فإذا قلنا بهذا فبان أنهما فاسقاق، فان حدث هذا الفسق بعد العقد لم يؤثر، لان الاعتبار وجود العداله حال العقد، وإن بان أنهما فاسقان حال العقد لم يصح
النكاح، لان فسقهما ينافى قبول شهادتهما على النكاح.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان كالقولين في الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ظاهرهما العدالة، ثم بان فسقهما حال الشهادة وليس بشئ، فإن ترافع الزوجان إلى الحاكم وأقرا بالنكاح وأنه عقد بشهادة رجلين ظاهرهما العدالة واختصما في حق من حقوق الزوجية كالنفقة والكسوة وما أشبههما، فإن الحاكم يحكم بينهما فيما احتكما فيه، ولا ينظر في حال عدالة شاهدين في الباطن إلا أن يعلم أنهما فاسقان فلا يحكم بينهما، وإن جحد أحد الزوجين الآخر فأما المدعى منهما بشاهدين فإن علم الحاكم عدالتهما ظاهرا وباطنا حين عقد النكاح حكم(16/200)
بصحة النكاح، وإن علم فسقهما حال الشهادة لم يحكم بصحة العقد بل يحكم بفساده على المذهب، فإن عرف أنهما كانا عدلين في الظاهر وجهل عدالتهما في الباطن فلا يجوز أن يحكم بصحة العقد ولا بفساده بل يتوقف إلى أن يعلم عدالتهما في الباطن، لانه لا يجوز أن يحكم بشهادة شاهد الا بعد معرفة حاله ظاهرا وباطنا، بخلاف ما لو أقر بالنكاح، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في التعليق.
وذكر ابن الصباغ أن الرجل إذا ادعى نكاح امرأة بولي وشاهدي عدل فأقام شاهدين عدلين عند الحاكم فإنه يبحث عن حالهما عند الحاكم ولا يبحث عن حالهما حين العقد، والاول أصح.
وهل ينعقد النكاح بشهادة أعميين أو أعمى وبصير؟ فيه وجهان أحدهما ينعقد، لان الاعمى من اهل الشهادة، والثانى: لا يصح لانه لا يعرف العاقد فهو كالاصم الذى لا يسمع لفظ العاقد، وهل ينعقد بشهادة أخرسين أو أخرس وناطق؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا ينعقد، قال الشيخ أبو حامد: وهو المذهب، لان الشهادة تفتقر إلى صريح اللفظ، والاخرس لا يتأتى منه ذلك.
(والثانى)
ينعقد.
قال القاضى أبو الطيب: وهو المذهب لان اشارته إذا كانت
مفهومة تقوم مقام عبارة غيره، وهل تنعقد شهادة أصحاب الصنع الدنيئة مثل الحجام والقصاب والكناس وغيرهم؟ فيه وجهان بناء على جواز قبول شهادتهم في سائر الحقوق؟ ويأتى بيانهما في موضعهما، وان عقد النكاح بشهادة ابني أحد الزوجين أو بشهادة ابنه وحده أو بشهادة عدوى أحد الزوجين صح النكاح لانه يثبت بشهادتهما، وهو إذا شهد الابنان على والدهما أو شهد العدوان لعدوهما، وان عقد النكاح بشهادة ابني الزوجين أو ابن لهذا وابن لهذه أو جد هذا وجد هذه أو عدوين لهما ففيه وجهان، أحدهما ينعقد لانهما من أهل الشهادة في النكاح في الجملة، والثانى: لا ينعقد لانه لا يثبت بشهادتهما بحال من الاحوال، من أصحابنا الخراسانين من قال: ينعقد بشهادة العدوين وجها واحدا، لان العداوة قد تزول (فرع)
وليس من شرط الشهادة احضار الشاهدين بل لو حضر الشاهدان لانفسهما وسمعا الايجاب والقبول صح ذلك ولو سمعا الايجاب والقبول ولم يسععا الصداق صح النكاح لان الصداق ليس بشرط في النكاح، وان سمع أحد الشاهدين الايجاب وسمع الآخر القبول لم يصح النكاح، لانهما شرط في الايجاب والقبول(16/201)
(فرع)
وإذا تزوج المسلم كتابية فانه يتزوجها من وليها الكافر إذا كان عدلا في دينه، ولا يصح إلا بحضرة شاهدين مسلمين عدلين.
وقال أحمد: لا يصح أن يتزوجها إلا من المسلم.
وقال أبو حنيفة: يتزوجها من وليها الكافر، ويصح أن يكون بشهادة كافرين.
دليلنا على أحمد قوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فدل ذلك على أنه لا ولاية لهم على الكافرين.
وعلى أبى حنيفة لانهما شاهدان لا يثبت بهما نكاح المسلمه، فلم يثبت بهما نكاح الكافرة كالعبدين، وكالفرق بين الولى والشاهدين لان الولى اريد لدفع العار عن النسب، والكافر كالمسلم في دفع العار
والشاهدان يرادان لاثبات الفراش عند جحد أحد الزوجين، وليس الكافر كالمسلم في إثبات الفراش، لانه لا يثبت بشهادته الفراش، ولان الولى بتعين في العقد فتأكد حاله فجاز أن يكون كافرا، والشاهد لا يتعين فلم يجز أن يكون كافرا قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يصح إلا على زوجين معينين لان المقصود بالنكاح أعيانهما فوجب تعيينهما: فإن كانت المنكوحة حاضرة فقال: زوجتك هذه صح.
وان قال: زوجتك هذه فاطمة واسمها عائشة صح، لان مع التعيين بالاشارة لا حكم للاسم، فلم يؤثر الغلط فيه، وإن كانت المنكوحة غائبة فقال: زوجتك ابنتى وليس له غيرها صح، وإن قال: زوجتك ابنتى فاطمة وهى عائشة صح، لانه لا حكم للاسم مع التعيين بالنسب، فلم يؤثر الخطأ فيه، وإن كان له اثنتان فقال: زوجتك ابنتى لم يصح حتى يعينها بالاسم أو بالصفة، وإن قال: زوجتك عائشة وقبل الزوج ونويا ابنته، أو قال زوجتك ابنتى وقبل الزوج ونويا الكبيرة صح لانها تعينت بالنية، وان قال زوجتك ابنتى ونوى الكبيرة وقبل الزوج ونوى الصغيرة لم يصح، لان الايجاب في إمرأة والقبول في أخرى.
وان قال زوجتك ابنتى عائشة، ونوى الصغيرة وقبل الزوج، ونوى الكبيرة، صح النكاح في عائشة في الظاهر، ولم يصح في الباطن، لان الزوج قبل في غير ما أوجب الولى.(16/202)
(فصل)
ويستحب أن يخطب قبل العقد، لما روى عن عبد الله قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خطبة الحاجة (الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يظل فلا هادى له، وأشهد أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله، قال عبد الله ثم تصل خطبتك بثلاث آيات: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم
مسلمون، اتقوا الله الذى تساءلون به والارحام ان الله كان عليكم رقيبا، اتقوا الله وقولوا قولا سديدا) فإن عقد من غير خطبة جاز لما روى سهل بن سعد الساعدي (إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للذى خطب الواهبة، زوجتكها بما معك من القرآن) ولم يذكر الخطبة، ويستحب أن يدعى لهما بعد العقد، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رفأ الانسان إذا تزوج قال: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير) .
(الشرح) حديث عبد الله بن مسعود أخرجه الترمذي وحسنه وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ ولم يسمع منه، وقد رواه الحاكم من طريق أخرى عن قتادة عن عبد ربه عن أبى عياض عن ابن مسعود وليس فيه الآيات، ورواه أيضا من طريق اسرائيل عن أبى اسحاق عن أبى الاحوص وأبى عبيدة أن عبد الله قال فذكر نحوه، ورواه البيهقى من حديث واصل الاحدب عن شقيق عن ابن مسعود بتمامه، وفى رواية للبيهقي (إذا أراد أحدكم أن يخطب لحاجة من النكاح أو غيره فليقل: الحمد لله نحمده ونستعينه الخ) ، ورواية الترمذي أردفها بعد التحسين بقوله.
رواه الاعمش عن أبى اسحاق عن أبى الاحوص عن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلا الحديثين صحيح لان اسرائيل جمعهما فقال.
عن أبى اسحاق عن أبى الاحوص وأبى عبيدة عن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ النووي في كتاب الاذكار: يستحب أن يخطب بين يدى العقد خطبة(16/203)
تشتمل على ما ذكرنا في الباب الذى قبل هذا وتكون أطول من تلك، وسواء خطب العاقد أو غيره، وأفضلها ما روينا في سنن أبى داود والترمذي والنسائي
وابن ماجه وغيرها بالاسانيد الصحيحة عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خطبة الحاجة الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدا عبده ورسوله، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام، إن الله كان عليكم رقيبا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم وبغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) ثم قال هذا لفظ إحدى روايات أبى داود.
وفى رواية له أخرى بعد قوله (ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدى الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا) قال الترمذي حديث حسن.
اه أما حديث سهل بن سعد الساعدي فقد رواه أحمد والبخاري ومسلم، وَلَفْظُهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امرأة فقالت يا رسول الله إنى قد وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل عندك من شئ تصدقها إياه؟ فقال ما عندي إلا إزارى هذا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا، فقال ما أجد شيئا، فقال التمس ولو خاتما من حديد، فالتمس فلم يجد شيئا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل معك من القرآن شئ؟ قال نعم، سورة كذا وسورة كذا لسور يسميها، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد زوجتكها بما معك من القرآن)
وقد روى سعيد بن منصور في سننه عن أبى النعمان الازدي قال (زوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن ثم قال لا يكون لاحد بعدك مهرا)(16/204)
وهو مع إرساله فيه من لا يعرف.
ومن ثم فلا يحتج به في تخصيص الحكم بهذه المرأة أما حديث أبى هريرة أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وحسنه وابن ماجه وقال النووي في الاذكار (ويستحب أن يقال لكل واحد من الزوجين بارك الله لكل واحد منكما في صاحبه وجمع بينكما في خير) روينا في صحيحي البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه حين أخبره أنه تزوج (بارك الله لك) وروينا في الصحيح أيضا أنه صلى الله عليه لجابر رضى الله عنه حين أخبره أنه تزوج (بارك الله عليك) أما اللغات فقوله (رفأ) قال في الفتح بفتح الراء وتشديد الفاء مهموز، معناه دعا له.
وفى القاموس رفأه ترفئة وترفيا، قال له بالرفاء والبنين.
أي بالالتئام وجمع الشمل اه.
والترفئة في الاصل الالتئام.
يقال رفأ الفتق لام خرقه وضم بعضه إلى بعض، وكانت ترفئة الجاهلية أن يقال (بالرفاء والبنين) ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها وأرشد إلى ما في الاحاديث الواردة على ما سيأتي في الاحكام.
أما الاحكام فإنه إذا أراد عقد النكاح على امرأة فلا بد أن تتميز عن غيرها بالمشاهدة أو بالصفة أو بالتسمية، فإذا كان له ابنة واحدة وهى حاضرة، فإن قال زوجتك هذه صح ولم يحتج إلى ذكر اسمها ولا إلى صفتها وان قال زوجتك ابنتى وزوجتك هذه عائشة صح لانها تميزت بالاشارة، وكان ما زاد تأكيدا، وان كان اسمها عائشة فقال زوجتك هذه فاطمة، فقال البغداديون من أصحابنا
يصح، لانه لا حكم لتغيير الاسم مع الاشارة وقال المسعودي هل يصح؟ فيه وجهان بناء على الوجهين فيما لو قال بعتك هذا البغل وكان حمارا أو فرسا.
وإن كان له ابنة واحدة اسمها عائشة وهى غائبة عنهما، فان قال زوجتك ابنتى صح، لان قوله ابنتى صفة لازمة لها وليس له غيرها.
وان قال زوجتك ابنتى عائشة صح، لان النكاح ينعقد بقوله ابنتى، فإذا سماها باسمها كان تأكيدا، وان قال زوجتك ابنتى فاطمة فغير اسمها، فقال البغداديون من أصحابنا يصح، لان قوله ابنتى صفة لازمة لها لا تختلف ولا تتغير، والاسم يتغير ويختلف، فاعتبر حكم(16/205)
الصفة اللازمة وألغى الاسم، قال المسعودي لا يصح، ولم يذكر له وجها.
وان قال زوجتك عائشة وقصد ابنته فذكر الشيخ أبو إسحاق والطبري في العدة وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبى حامد أنه يصح لانها تتميز بالنية، وإن لم يقصد ابنته لم يصح، قال ابن الصباغ، وهذا فيه نظر، لان هذا العقد تعتبر فيه الشهادة فلا بد أن يكون العقد مما يصح أداء الشهادة على وجه يثبت به العقد وهذا متعذر في النية ولم أجد فيما قرأت من تعليق الشيخ أبى حامد وغيره أنه لا يصح من غير تفصيل لان هذا الاسم يقع على ابنتيه وعلى من اسمها عائشة فلا تتميز بذلك عن غيرها، فإن كانت له ابنتان كبيرة اسمها عائشة وصغيرة اسمها فاطمة، فان قال زوجتك ابنتى أو إحدى إبنتى لم يصح لان المزوجة غير متميزة.
وإن قال زوجتك ابنتى عائشة أو ابنتى الكبيرة صح لانه قد بينها بالصفة أو بالاسم وإن قال زوجتك ابنتى الكبيرة فاطمة فغير اسمها صح النكاح على الصغيرة ولا يضر تغييره للاسم، وعلى قول المسعودي في التى قبلها لا يصح هاهنا.
وإن قال زوجتك ابنتى عائشة وهو ينوى الصغيرة واسم الصغيرة فاطمة فقبل الزوج وهو ينوى الصغيرة، قال الشيخ أبو حامد ينعقد النكاح على الصغيرة لاتفاق
نيتهما ولا يضر تغيير الاسم.
وإن قال زوجتك ابنتى عائشة وهو ينوى الصغيرة وقبل الزوج وهو ينوى الكبيرة انعقد النكاح في الظاهر على الكبيرة لانه أوجب نكاحها له فقبلها في الباطن، وهو مفسوخ لانه أوجب له النكاح في الصغيرة فقبل في الكبيرة: فإن قال زوجتك ابنتى فقبل الزوج ونويا الكبيرة فقال الشيخ أبو إسحاق يصح لانها تميزت بالنية.
وقال ابن الصباغ لا يصح لانه لا يمكن اذن الشهادة في هذا.
(فرع)
وان كان لرجل ابنتان فزوج رجل احداهما بعينها ثم مات الاب وادعت كل واحدة من الابنتين على الزوج أنها هي التى زوجها أبوها منه.
فان أنكرهما حلف لكل واحدة يمينا، وان أقر لاحداهما تثبت زوجيتهما.
فان ادعت عليه الاخرى النكاح بعد ذلك قال ابن الحداد لم تسمع دعواها لانه قد أقر بتحريمها على نفسه، وان ادعت عليه نصف المهر فالقول قوله مع يمينه، فان حلف لها فلا كلام، وان نكل حلفت ووجب المسمى لها الذى ادعت.(16/206)
وإن لم يدعيا عليه ولكنه أدعى على إحداهما أنها زوجته فإن أقرت له ثبت النكاح بينهما، وإن أنكرت حلفت له وسقطت دعواه قال ابن الحداد: ووجب عليه لها نصف مهرها.
قلت: وينبغى أنه لا يثبت لها ذلك إلا إذا ادعته، فأما إذا لم تدعيه لم يثبت لها.
قال ابن الحداد: ويكون ذلك إبطالا لنكاح التى أقر بنكاحها أولا، ويجب لها نصف مهرها إن لم يدخل بها، وجميع مهرها أن دخل بها.
(فرع)
إذا قال: زوجتك حمل هذه المرأة إن كان ابنة لم يصح النكاح لانه قد يكون ريحا أو حملا موهوما فلا يتحقق وجوده، وقد يكون ذكرا، وقد يكون ابنتين، فلا يعلم أيتهما المعقود عليها وهذا غرر من غير حاجة، فلا يصح
كما إذا كتب رجل إلى الولى: زوجنى ابنتك فقرأه الولى أو غيره بحضرة شاهدين فقال الولى: زوجته لم ينعقد النكاح.
وحكى ابن الصباغ أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: يصح، دليلنا أنه لم يوكل القارى فلم يصح كما لو استدعاه من غائب فبلغه فأوجب.
(مسألة) وإذا أراد العقد خطب الولى أو الزوج أو أجنبي من الحاضرين فيحمد الله تعالى ويصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم ووصى بتقوى الله ويرغب في النكاح لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بحمد الله فهو ابتر) فالنكاح من الامور التى لها بال، والخطبة مستحبة غير واجبة، وبه قال عامة أهل العلم الا داود فإنه قال: انها شرط في النكاح.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (لانكاح الا بولي مرشد وشاهدي عدل) ولم يشترط الخطبة، ولان النبي صلى الله عليه وسلم زوج الواهبة ولم يخطب، وتزوج عائشة رضى الله عنها ولم يخطب.
قال الشيخ أبو حامد: وقد روى في بعض الروايات أنه قال في الثلاث الايات يا أيها الناس، قال: وحكى عن بعض المتأخرين أنه كان يقول: المحمود الله والمصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير ما عمل به كتاب الله قال: وزاد بعضهم فكان يقول: المحمود الله ذو الجلال والاكرام، والمصطفى رسول الله(16/207)
صلى الله عليه وسلم وخير ما عمل به كتاب الله المفرق بين الحلال والحرام، ثم يقول والنكاح مما أمر الله بن وندب إليه.
وأما الخطبة التى تحلل العقد بأن يقول الولى: بسم الله والحمد لله وصلى الله على رسول الله، أوصيكم بتقوى الله ويقول كما روى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أنكحتك على ما أمر الله به من امساك بمعروف أو تسريح بإحسان،
ثم يقول الزوج، بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أوصيكم بتقوى، قبلت نكاحها فاختلف أصحابنا في صحة العقد مع ذلك، فذكر الشيخ أبو حامد والمحاملى وابن الصباغ أن ذلك يصح، لان الخطبة متعلقة بالنكاح فلم يؤثر فصلها بين الايجاب والقبول، كالتيمم بين صلاتي الجمع.
وحكى الشيخ مصنف المهذب عن بعض أصحابنا ان الفصل بين الايجاب والقبول بالخطبة يبطل العقد كما لو فصل بينهما بغير الخطبة، ويخالف التيمم، فإنه مأمور به بين الصلاتين، والخطبة مأمور بها قبل العقد.
قال النووي في الاذكار، فلو قال، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله قبلت نكاحها صح، ولم يضر هذا الكلام بين الايجاب والقبول لانه فصل يسير له تعلق بالعقد، ويكره أن يقال للزوج بعد العقد بالرفاء والبنين، لما روى أحمد والنسائي وابن ماجه عن عقيل بن أبى طالب أنه تزوج امرأة من بنى جشم فقالوا بالرفاء والبنين، فقال لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللهم بارك لهم وبارك عليهم) وفى رواية له، لا تقولوا ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهانا عن ذلك، قولوا بارك الله لها فيك وبارك لك فيها، وأخرجه أيضا أبو يعلى والطبراني وهو من رواية الحسن عن عقيل، قال في الفتح ورجاله ثقات الا أن الحسن لم يسمع من عقيل فيما يقال، وقد اختلف في علة النهى عن الترفئه التى كانت تفعلها الجاهلية فقيل لانه لا حمد فيها ولا ثناء ولا ذكر لله، وقيل لما فيه من الاشارة إلى بغض البنات لتخصيص البنين بالذكر، والا فهو دعاء للزوجين بالالتئام والائتلاف فلا كراهة فيه.
وقال ابن المنير: الذى يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كره اللفظ لما فيه من(16/208)
موافقة الجاهلية لانهم كانوا يقولونه تفاؤلا لا دعاء فيظهر أنه لو قيل بصورة
الدعاء لم يكره كأن يقول: اللهم ألف بينهما وارزقهما بنين صالحين وقال العمرانى من أصحابنا: ويكره أن يقال للزوج بعد العقد بالرفاء والبنين والمستحب أن يقول ما ورد في حديث أبى هريرة وساقه، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا يصح العقد إلا بلفظ التزويج أو الانكاح، لان ما سواهما من الالفاظ كالتمليك والهبة لا يأتي على معنى النكاح، ولان الشهادة شرط في النكاح فإذا عقد بلفظ الهبة لم تقع الشهادة على النكاح، واختلف أصحابنا في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة، فمنهم من قال: لا يصح لان كل لفظ لا ينعقد به نكاح غيره لم ينعقد به نكاحه كلفظ الاحلال.
ومنهم من قال: يصح لانه لما خص بهبة البضع من غير بدل خص بلفظها، وإن قال: زوجنى فقال: زوجتك صح، لان الذى خطب الواهبة مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ زوجنيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم (زوجتكها بما معك من القرآن، وإن قال زوجتك، فقال قبلت، ففيه قولان.
(أحدهما)
يصح لان القبول يرجع إلى ما أوجبه الولى كما يرجع في البيع إلى ما أوجبه البائع.
(والثانى)
لا يصح لان قوله، قبلت ليس بصريح في النكاح فلم يصح به، كما لو قال، زوجك فقال نعم.
وان عقد بالعجمية ففيه ثلاثه أوجه (أحدها) لا يصح لقوله صلى الله عليه وسلم (استحللتم فروجهن بكلمة الله) وكلمة الله بالعربية فلا تقوم العجمية مقامها كالقرآن
(والثانى)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى أنه إن كان يحسن بالعربية لم يصح، وإن لم يحسن صح، لان ما اختص بلفظ غير معجز جاز بالعجمية عند العجز عن العربية، ولم يجز عند القدرة كتكبيرة الصلاة (والثالث) وهو الصحيح أنه يصح، سواء أحسن بالعربية أو لم يحسن، لان لفظ النكاح بالعجمية يأتي على ما يأتي عليه لفظه بالعربية، فقام مقامه، ويخالف
القرآن فان القصد منه النظم المعجز، وذلك لا يوجد في غيره، والقصد بالتكبيرة(16/209)
العبادة ففرق فيه بين العجز والقدرة كأفعال الصلاه، والقصد بالنكاح ثمليك ما يقصد بالنكاح، والعجمية كالعربيه في ذلك، فإن فصل بين القبول والايجاب بخطبة بأن قال الولى، زوجتك.
وقال الزوج: بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله قبلت نكاحها، ففيه وجهان.
(أحدهما)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفرابنى رحمه الله: إنه يصح لان الخطبة مأمور بها للعقد فلم تمنع صحته كالتيمم بين صلاتي الجمع.
(والثانى)
لا يصح، لانه فصل بين الايجاب والقبول فلم يصح كما لو فصل بينهما بغير الخطبة، ويخالف التيمم فإنه مأمور به بين الصلاتين والخطبة مأمور بها قبل العقد.
(فصل)
وإذا انعقد العقد لزم ولم يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَلَا خِيَارُ الشَّرْطِ لان العادة في النكاح أنه يسئل عما يحتاج إليه قبل العقد فلا حاجة فيه إلى الخيار بعده، والله تعالى أعلم.
(الشرح) الاحكام: لا ينعقد النكاح عندنا إلا بلفظ النكاح أو التزويج، وهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن، وهو قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) وقوله تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) فأما لفظ البيع والتمليك والهبة والاجارة وغيرها من الالفاظ فلا ينعقد به النكاح، وبه قال عطاء وابن المسيب والزهرى وربيعة وأحمد بن حنبل.
وقال أبو حنيفة: ينعقد النكاح بكل لفظ يقتضى التمليك كالبيع والتمليك والهبة والصدقه، وفى لفظ الاجارة عنه روايتان، ولا ينعقد بالاباحة والتحليل وقال مالك إن ذكر المهر مع الالفاظ التى تقتضي التمليك انعقد بها النكاح، وإن
لم يذكر المهر لم ينعقد بها النكاح.
دليلنا قوله تعالى (وإمرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بالنكاح بلفظ الهبة، وأن غيره لا يساويه، ولانه لفظ ينعقد به غير النكاح فلم ينعقد به النكاح كالاجارة والاباحة(16/210)
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: والفرج محرم قبل العقد فلا يحل أبدا إلا بأن يقول الولى: قد زوجتكها أو أنكحتكها، ويقول الزوج: قد قبلت التزويج أو النكاح.
أو قال أنكحتك ابنتى، فقال الزوج: قبلت النكاح والتزويج صح ذلك، لانه قد وجد الايجاب والقبول في النكاح والتزويج، فإن قال الولى زوجتك ابنتى أن أنكحتك، فقال الزوج: قبلت، ولم يقل النكاح ولا التزويج فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي موضع: يصح.
وقال في موضع لا يصح، واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق، فمنهم من قال.
لا يصح قولا واحدا وحيث قال يصح أراد إذا قبل الزوج قبولا تاما.
ومنهم من قال يصح قولا واحدا، وحيث شرط الشافعي رضى الله عنه لفظ النكاح أو التزويج في القبول فأراد على سبيل التأكيد، وهذا لا يصح لانه قال لا ينعقد النكاح، فقال أكثر أصحابنا: هي على قولين، وهذا اختيار الشيخ ابى إسحاق وابن الصباغ.
(أحدهما)
يصح، وهو قول أبى حنفية وأحمد لان قوله قبلت إذا ورد على وجه الجواب عن إيجاب متقدم كان المراد به قبول ما تقدم، فصح كما لو قال بعتك دارى أو وهبتكها، فقال قبلت، فإنه يصح.
(والثانى)
لا يصح، قال الشيخ أبو حامد وهو الصحيح، لان الاعتبار في
النكاح أن يحصل الايجاب والقبول فيه بلفظ النكاح أو التزويج، فإذا عرى القبول منه لم يصح كما لو قال رجل لآخر زوجت ابنتك من فلان؟ فقال الولى نعم، وقال الزوج.
قبلت النكاح، فإن هذا لا يصح بلا خلاف.
وان قال الولى زوجتك ابنتى، فقال الزوج نعم.
قال الصيمري.
هو كما لو قال الزوج.
قبلت على الطرق الثلاث.
وقال الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا لا يصح قولا واحدا.
وإن قال الزوج زوجنى ابنتك.
فقال الولى.
زوجتك صح ذلك، ولا يفتقر الزوج إلى أن يقول قبلت نكاحها، وقد وافقنا أبو حنيفة ههنا وخالفنا في البيع، لما روى أن الذى تزوج الواهبة قال للنبى صلى الله عليه وسلم زوجنيها يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم(16/211)
زوجتكها ولم يأمره بالقبول بعد هذا.
وإن قال الزوج أتزوجني ابنتك، فقال الولى زوجتك لم يصح حتى يقول الزوج قبلت التزويج أو النكاح، لان قوله: أتزوجني استفهام ليس باستدعاء، ولو قال الولى أتستنكحها؟ فقال الزوج قد استنكحت أو قد تزوجت لم يكن بد من قول الولى بعد هذا زوجتك أو أنكحتك لان ما تقدم إنما كان استفهاما ولم يكن تقريرا.
(فرع)
وإن عقد النكاح بالعجمية فاختلف أصحابنا فيه، فقال الشيخ أبو حامد: إن كانا يحسنان العربية لم يصح العقد بالعجمية وجها واحدا.
وإن كانا لا يحسنان العربية فهل يصح العقد بالعجمية؟ فيه وجهان، المذهب أنه يصح.
وقال القاضى أبو الطيب: إن كانا لا يحسنان العربية صح العقد بالعجمية وجها واحدا، وان كانا يحسنان بالعربية فهل يصح العقد بالعجمية؟ فيه وجهان وقال المصنف فيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) لا يصح العقد بالعجمية لقوله صلى الله عليه وسلم: استحللتم
فروجهن بكلمة الله، وكلمة الله انما هي بالعربية
(والثانى)
ان كانا يحسنان العربية لم يصح العقد بالعجمية.
وان كانا لا يحسنان العربية صح بالعجمية كما قلنا في تكبيرة الاحرام (والثالث) يصح العقد بالعجمية بكل حال.
لان لفظ العجمية يأتي على ما يأتي عليه العربية في ذلك.
وان كان أحدهما يحسن العربية ولا يحسن العجمية، والآخر يحسن العجمية ولا يحسن العربية، وقلنا يصح العقد بالعجمية صح العقد بينهما شرط أن يفهم القائل أن الولى أوجب له النكاح، لانه إذا لم يفهم لا يصح أن يقبل، وهكذا إذا حضر شاهدان أعجميان وعقد بالعربية، أو عربيان وعقد بالعجمية فلا يصح الا إذا فهما أن العاقدين عقد النكاح، لان الغرض بالشاهدين معرفتهما بالعقد وتحملهما الشهادة.
(فرع)
وإذا وكل الزوج من يقبل له النكاح، أو قبل الاب لابنه الصغير، فإن النكاح لا يصح حتى يسمى الزوج في الايجاب والقبول، فيقول الولى زوجت فلانة فلانا ويسمى الزوج، ويقول القائل من قبل الزوج قبلت النكاح لفلان ويسمى الزوج بخلاف الوكيل في الشراء فانه لا يجب ذكر الموكل، لان النكاح(16/212)
لا يقبل نقل الملك فيه.
أي أن الرجل لا يجوز أن يتزوج امرأة ثم ينتقل نكاحها منه إلى غيره.
والملك في المال من قبل النقل.
أي أنه يجوز أن يتملك الرجل عينا ثم ينتقل ملكها منه إلى غيره قال الطبري: ولهذا قال أصحابنا: لو قال رجل لآخر وكلتك أن تزوج ابنتى من زيد فزوجها من وكيل زيد صح لانه في الحقيقة زوجها من زيد.
ولو قال وكلتك أن تبيع سيارتي هذه من زيد فباعها من وكيل زيد لم يصح لهذا المعنى.
فإذا انعقد النكاح لزم ولم يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الثلاث.
وقد
مضى تفصيل ذلك في البيع وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
بَابُ مَا يحرم من النكاح وما لا يحرم
من ارتد عن الدين لم يصح نكاحه.
لان النكاح يراد للاستمتاع ولا يوجد ذلك في نكاح المرتد.
ولا يصح نكاح الخنثى المشكل لانه ان تزوج امرأة لم يؤمن أن يكون امرأة.
وان تزوج رجلا لم يؤمن أن يكون رجلا ولا يصح نكاح المحرم لما بيناه في الحج.
(فصل)
ويحرم على الرجل من جهة النسب الام والبنت والاخت والعمة والخالة وبنت الاخ وبنت الاخت لقوله (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الاخ وبنات الاخت) ومن حرم عليه مما ذكرناه بنسب حرم عليه بذلك النسب كل من يدلى به.
وان بعد فتحرم عليه الام وكل من يدلى بالامومة من الجدات من الاب والام وان علون.
تحرم عليه البنت وكل من ينتسب إليه بالبنوة من بنات الاولاد وأولاد الاولاد وان سفلن وتحرم عليه الاخت من الاب والاخت من الام والاخت من الاب والام.
وتحرم عليه العمه وكل من يدلى إليه بالعمومه من أخوات الآباء والاجداد من الاب والام أو من الاب أو من الام وان علون.
وتحرم عليه الخالة وكل من يدلى إليه بالخئولة من أخوات الجدات من الاب والام أو من الاب أو من الام وان علون(16/213)
ويحرم عليه بنت الاخ وكل من ينتسب إليه ببنوة الاخ من بنات أولاده وأولاد أولاده وإن سفلن، وتحرم عليه بنت الاخت وكل من ينتسب إليه ببنوة الاخت من أولادها وأولاد أولادها وان سفلن، لان الاسم يطلق على ما قرب وبعد، والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى (يا بنى آدم) وقوله تعالى (ملة أبيكم ابراهيم)
وقوله سبحانه وتعالى (ملة آبائى إبراهيم وإسحاق ويعقوب) فأطلق عليهم اسم الاباء مع البعد، وقال صلى الله عليه وسلم لقوم من أصحابه يرمون (ارموا فإن أباكم اسماعيل عليه السلام كان راميا) فسمى اسماعيل أباهم مع البعد، ولان من بعد منهم كمن قرب في الحكم، والدليل عليه أن ابن الابن كالابن، والجد كالاب في الميراث والولاية والعتق بالملك ورد الشهادة، فلان يكون كالابن والاب في التحريم ومبناه على التغليب أولى (الشرح) لا يصح نكاح المرتد والمرتدة لان القصد بالنكاح الاستمتاع ولما كان دمهما مهدرا ووجب قتلهما فلا يتحقق الاستمتاع، ولان الرحمة تقتضي إبطال النكاح قبل الدخول فلا ينعقد النكاح معها كالرضاع، ولا يصح نكاح الخنثى المشكل لانه لا يدرى هل هو رجل أم امرأة، فان حمل هذا الخنثى تبينا أنه امرأة، وأن نكاحه كان باطلا لان الحمل دليل على الانوثة من طريق القطع (مسألة) النساء اللائى نص القرآن على تحريمهن أربع عشرة امرأة، ثلاث عشرة بقوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) الايه، وواحدة في قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) فسبع منهن حرمت بالنسب وثنتان بالرضاع وأربع بالمصاهرة وواحدة بالجمع، فالسبع المحرمات بالنسب: الام والبنت والاخت والعمة والخالة وبنت الاخ وبنت الاخت للآية: حرمت عليكم أمهاتكم الخ فأما الام فيحرم عقد النكاح عليها ووطئها.
قال الصيمري: ومن أصحابنا من قال تحريم وطئها علم بالعقل، وليس بشئ وسواء في التحريم الا حقيقة وهى التى ولدته، والام مجازا وهى جدته أم أمه وأم أبيه، وكذلك كل جد من قبل أبيه أو أمه وان علت، وأما البنت فتحرم عليه التى يقع عليها اسم البنت حقيقة وهى بنته لصلبه، والبنت التى يقع عليها اسم(16/214)
البنت مجازا وهى بنت بنته وبنت ابنه وإن سفلت.
وأما الاخت فتحرم عليه سواء أكانت لاب وأم أو لاب أو لام لعموم قوله تعالى (وأخواتكم) وأما العمة فيحرم عليه من يقع عليه اسم العمه حقيقة وهى أخت أبيه، سواء كانت أخته لابيه وأمه أو لابيه أو لامه، ويحرم عليه من يقع عليها اسم العمة مجازا وهى أخت لجد من أجداده من قبل أبيه أو من قبل أمه وأما الخاله فيحرم عليه نكاح من يقع عليه اسم الخاله حقيقة.
وهى أخت أمه لابيها وأمها أو لابيها أو لامها، ويحرم عليه من يقع عليها اسم الخاله مجازا وهى أخت كل جدة له من قبل أمه وأبيه.
وأما بنت الاخ فتحرم عليه نكاح بنت أخيه حقيقة وهى بنت أخيه لصلبه ويحرم عليه بنت أخيه مجازا وهى كل من تنسب إلى أخيه بالبنوة من قبل أبنائه وبناته وإن سفلت.
وأما بنت الاخت فتحرم عليه بنت أخته حقيقة، وهى بنت أخته لصلبها، ويحرم عليه بنت أخته مجازا، وهى كل من ينسب إلى أخته بالبنوة من بنات أبنائها وبناتها وإن سفلن.
وهل يحرم عليه كل من وقع عليها الاسم مجازا بالاسم أو بالقياس على من وقع عليها الاسم حقيقة؟ فيه وجهان.
الصحيح أنه يحرم بوقوع الاسم عليها لقوله تعالى (يا بنى آدم) وقوله تعالى (ملة أبيكم ابراهيم) وقوله (ملة آبائى ابراهيم وإسحاق ويعقوب) فأطلق عليهم اسم البنوة والابوة مع البعد إذا ثبت هذا فقد عبر بعض أصحابنا عن المحرمات بالنسب فقال (يحرم على الرجل أصوله وفصوله، وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعده وهى عبارة عن حسبه، لان أصوله من ينسب الرجل إليه بالبنوة، ومن الامهات وفصوله من ينسب إلى الرجل بالبنوة، وفصول أول أصوله الاخوات وأولادهم وبنات الاخوة، وأول فصل من كل أصل بعده العمات والخالات
فاحترز عن بنات العمات وبنات الخالات وأول فصل من كل أصل بعده.(16/215)
(مسألة) وأما الاثنتان المنصوص على تحريمهما بالرضاع فالام والاخت لقوله تعالى (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) فمتى كان للرجل زوجة وانبثق منها لبن من وطئه فأرضعت به طفلا، له دون الحولين خمس رضعات متفرقات صار كالولد لهما من النسب، وصارا كالوالدين له من النسب في تحريم النكاح وجواز الخلوة، ويحرم عليها نكاحه ونكاح أولاده وأولاد أولاده وإن سفلوا لانه ولدهما، ويحرم على الرضيع نكاح الام من الرضاع الحقيقة والمجاز والاخت من الرضاع والعمة من الرضاع الحقيقة والمجاز، وبنت الاخت من الرضاع الحقيقة والمجاز على ما ذكرناه في المحرمات من النسب، لان الله تعالى نص على السبع المحرمات بالنسب، ونص على الام والاخت من الرضاع لينبه بهما على من تقدم ذكرهن من المحرمات والنسب.
وروت عَائِشَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
وفى رواية ما يحرم من الولادة، ويقال: الرضاع بكسر الراء وفتحها، فأما الرضاعة بالهاء فبفتح الراء لا غير.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وتحرم عليه من جهة المصاهرة أم المرأة دخل بها أو لم يدخل، لقوله تعالى ((وأمهات نسائكم) ويحرم عليه كل من يدلى إلى إمرأته بالامومة من الجدات من الاب والام لما بيناه في الفصل قبله، ويحرم عليه ابنة المرأة بنفس العقد تحريم جمع، لانه إذا حرم عليه الجمع بين المرأة وأختها، فلان يحرم الجمع بين المرأة وابنتها أولى.
فإن بانت الام قبل الدخول حلت له البنت، وإن دخل بالام حرمت عليه البنت على التأبيد، لقوله تعالى (وربائبكم اللاتى في حجوركم
من نسائكم اللاتى دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم، وتحرم عليه كل من ينتسب إلى إمرأته بالبنوة من بنات أولادها وأولاد أولادها وإن سفلن من وجد منهن ومن لم يوجد، كما تحرم البنت وتحرم عليه حليلة الابن لقوله تعالى (وحلائل أبنائكم) وتحرم عليه حليلة كل من ينتسب إليه بالبنوة من(16/216)
بنى الاولاد وأولاد الاولاد لما بيناه، وتحرم عليه حليلة الاب لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) وتحرم عليه حليلة كل من يدلى إليه بالابوة من الاجداد لما ذكرناه.
ومن حرم عليه بنكاحه أو بنكاح أبيه أو ابنه حرم عليه بوطئه أو وطئ أبيه أو إبنه في ملك أو شبهة لان الوطئ معنى تصير به المرأة فراشا فتعلق به تحريم المصاهرة كالنكاح ولان الوطئ في إيجاب التحريم آكد من العقد، بدليل أن الربيبة تحرم بالعقد تحريم جمع وتحرم بالوطئ على التأبيد، فإذا ثبت تحريم المصاهرة بالعقد فلان يثبت بالوطئ أولى، واختلف قوله في المباشرة فيما دون الفرج بشهوة في ملك أو شبهة فقال في أحد القولين هو كالوطئ في التحريم لانها مباشرة لا تستباح إلا بملك فتعلق بها تحريم المصاهرة كالوطئ، والثانى لا يحرم بها ما يحرم بالوطئ، لقوله تعالى (فان لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) ولانها مباشرة لا توجب العدة فلا يتعلق بها التحريم كالمباشرة بغير شهوة، وإن تزوج إمرأة ثم وطئ أمها أو بنتها أو وطئها أبوه أو ابنه بشبهة انفسخ النكاح لانه معنى يوجب تحريما مؤبدا فإذا طرأ على النكاح أبطله كالرضاع.
(الشرح) الاربع المنصوص على تحريمهن بالمصاهرة، فأما الزوجة والربيبة وحليلة الابن وحليلة الاب لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) وقوله تعالى (وأمهات نسائكم وربائكم اللاتى في حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم
بهن) فأما أم الزوجة فإن الرجل إذا عقد النكاح على إمرأة حرمت عليه كل أم لها حقيقة أو مجازا من جهة النسب أو من جهة الرضاع سواء دخل بها أو لم يدخل وبه قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأرضاه أنه قال: لا تحرم عليه الا بالدخول بالبنت كالربيبه، وبه قال مجاهد.
وقال زيد: الموت يقوم مقام الدخول.
دليلنا قوله تعالى (وأمهات نسائكم) وبالعقد عليها تدخل في اسم نساء العاقد عليها وروى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نكح امرأة طلقها قبل الدخول بها حرمت عليه أمها ولم تحرم عليه بنتها.(16/217)
وأما الربيبة فهى بنت زوجته فإذا عقد النكاح على إمرأة حرمت عليه ابنتها حقيقة ومجازا من النسب والرضاع ثم الجمع، فإن دخل بالام حرمت عليه ابنتها على التأبيد، وإن ماتت الزوجة أو طلقها قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بابنتها، وسواء كانت الربيبة في حجره وكفالته أو لم تكن، وبه قال عامه أهل العلم وقال داود: إنما تحرم عليه الربيبة إذا كانت في حجره وكفالته، فإن لم تكن في حجره وكفالته لم تحرم عليه، وإن دخل بأمها.
وروى ذلك عن على بن أبى طالب وقال زيد بن ثابت: تحرم عليه إذا دخل بأمها أو ماتت.
دليلنا ما رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال (من نكح إمرأة ثم طلقها قبل الدخول بها حرمت عليه أمها ولم تحرم عليه ابنتها) .
فأما التربية فلا تأثير لها في التحريم كتربية الاجنبية، وأما الآية فلم يخرج ذلك مخرج الشرط، وإنما وصفها بذلك تعريفا لها، كأن العادة أن الربية تكون في حجره، وأما حليلة الابن، فإن الرجل إذا عقد النكاح على إمرأة حرمت على
أب الزوج سواء دخل بها الزوج أو لم يدخل بها لقوله تعالى (وحلائل ابنائكم الذين من أصلابكم) وبالعقد عليها يقع عليها اسم الحليلة، وسواء كان ابنه حقيقة أو مجازا، وسواء كان ابنه من الرضاع حقيقة أو مجازا لما ذكرناه في المحرمات من النسب.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى (وحلائل ابنائكم الآية) فدليل خطابه يدل على أنه لا تحرم حلائل الابناء من الرضاع.
فالجواب أن دليل الخطاب إنما يكون حجه إذا لم يعارضه نص وههنا نص أقوى منه فقدم عليه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة) رواه أبو داود وغيره من حديث عائشة رضى الله عنهما.
وأما حليلة الاب فإن الرجل إذا تزوج إمرأة حرمت على ابن الزوج سواء دخل بها أو لم يدخل بها لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الا ما قد سلف) ولا فرق بين الاب حقيقة أو مجازا، وسواء كان الاب من الرضاع حقيقة أو مجازا لما ذكرناه في المحرمات من النسب والله أعلم.(16/218)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن زنى بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لقوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها، فقال لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح ولا تحرم بالزنا أمها ولا ابنتها ولا تحرم هي على ابنه ولا على أبيه للآية والخبر، ولانه معنى لا تصير به المرأة فراشا فلم يتعلق به تحريم المصاهرة كالمباشرة بغير شهوة، وإن لاط بغلام لم تحرم عليه أمه وابنته للآية والخبر، وإن زنى بامرأة فأتت منه بابنة فقد قال الشافعي رحمه الله أكره أن يتزوجها، فان تزوجها
لم أفسخ، فمن أصحابنا من قال: إنما كره خوفا من أن تكون منه، فعلى هذا إن علم قطعا أنها منه بأن أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه لم تحل له.
ومنهم من قال: إنما كره ليخرج من الخلاف، لان أبا حنيفه يحرمها، فعلى هذا لو تحقق أنها منه لم تحرم، وهو الصحيح، لانها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب فلم يتعلق بها التحريم، كالولادة لما دون ستة أشهر من وقت الزنا، واختلف أصحابنا في المنفية باللعان، فمنهم من قال: يجوز للملاعن نكاحها لانها منفيه عنه فهى كالبنت من الزنا، ومنهم من قال: لا يجوز للملاعن نكاحها لانها غير منفية عنه قطعا، ولهذا لو أقر بها ثبت النسب.
(الشرح) حديث عائشة أخرجه البيهقى في السنن وضعفه وأخرجه ابن ماجه عن ابن عمر، قال العلقمي: قال الدميري: هذا يدل لمذهب الشافعي أن الزنا لا يثبت حرمة المصاهرة حتى يجوز للزاني أن ينكح أم المزني بها، وقد ورد في هذا المعنى أحاديث لكل واحد منها مدلوله عند المخالفين فعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (الزانى المجلود لا ينكح إلا مثله) رواه أحمد وأبو داود، وقال في الفتح رجاله ثقات.
وعن عبد الله بن عمرو (أن رجلا من المسلمين اسْتَأْذَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إمرأة يقال لها: أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه فاستأذن(16/219)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ذكر له أمرها فقرأ عليه نبى الله صلى الله عليه وسلم (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) رواه أحمد والطبراني في الكبير والاوسط، قال الهيثمى في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (أن مرثد بن أبى مرثد الغنوى كان يحمل الاسارى بمكة، وكان بمكه بغى يقال لها عناق وكانت صديقته قال: فجئت
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت: يَا رسول الله أنكح عناقا؟ قال: فسكت عنى فنزلت (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) فدعاني فقرأها على وقال: لا تنكحها) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه.
ويمكن الجمع بين الاحاديث بأن المنع لمن كانت مستمرة في مزاولة البغاء يدل على هذا ما روى عن ابن عباس عند أبى داود والنسائي قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال (إن امرأتي لا تمنع يد لامس قال: غربها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي قال فاستمتع بها) قال المنذرى: ورجال إسناده يحتج بهم في الصحيحين.
وذكر الدارقطني أن الحسن بن واقد تفرد به عن عمارة بن أبى حفصة وأن الفضل بن موسى السينانى تفرد به عن الحسن بن واقد، وأخرجه النسائي من حديث عبد الله بن عبيد الله بن عمير عن ابن عباس وبوب عليه في سننه تزويج الزانية وقال: هذا الحديث ليس بنابت، وذكر أن المرسل فيه أولى بالصواب.
وقال الامام أحمد: لا تمنع يد لامس تعطى من ماله.
قلت: فإن أبا عبيدة يقول: من الفجور، قال ليس عندنا إلا أنها تعطى من ماله، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليأمره بإمساكها وهى تفجر، وسئل عنه ابن الاعرابي فقال: من الفجور.
وقال الخطابى معناه الزانية وأنها مطاوعه لمن أرادها لا ترد يده.
وعن جابر عند البيهقى بنحو حديث ابن عباس هذا، وفى الادلة التى ساقوها ما يمنع أن تتزوج المرأة من ظهر منه الزنا، والرجل أن يتزوج من ظهر منها الزنا ويدل على ذلك قوله تعالى (وحرم ذلك على المؤمنين فإنه صريح في التحريم.
قال ابن رشد: اختلفوا في قوله تعالى (وحرم ذلك على المؤمنين) هل خرج مخرج الذم(16/220)
أو مخرج التحريم، وهل الاشارة في قوله ذلك إلى الزنا أو إلى النكاح، قال وانما صار الجمهور إلى حمل الآية على الذم لا على التحريم لحديث ابن عباس الذى
سقناه.
وقد حكى الرويانى عن على وابن عباس وابن عمر وجابر وسعيد بن المسيب وعروة والزهرى والعترة ومالك والشافعي وربيعة وأبى ثور أنها لا تحرم على من زنى بها لقوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحرم الحلال الحرام) أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر وحكى عن الحسن البصري انه يحرم على الرجل نكاح من زنى بها على التأبيد واستدل بالاية.
وحكى أيضا عن قتادة وأحمد إلا إذا تابا لارتفاع سبب التحريم، وأجاب عنه في البحر بأنه أراد بالآية الزانى المشرك، واستدل بقوله تعالى (أو مشركة) قال وهى تحرم على الفاسق المسلم بالاجماع، ولا يخفى ما في هذا من تأويل يعطل فائدة الآية إذ منع النكاح مع الشرك والزنا حاصل بغير الاية، ويستلزم أيضا امتناع عطف المشرك والمشركة على الزانى والزانية.
وقال في البيان: إذا زنى بامرأة لم ينتشئ بهذا الزنا تحريم المصاهرة.
فلا يحرم على الزانى نكاح المرأة التى زنى بها ولا أمها ولا ابنتها ولا تحرم الزانية على أبى الزانى ولا على أبنائه، وكذلك إذا قبلها بشهوة حراما، أو لمسها أو نظر إلى فرجها بشهوة حراما.
ثم قال وانفرد الاوزاعي وأحمد رحمه الله عليهما انه إذا لاط بغلام حرم عليه بنته وأمه.
وقال أبو حنيفة: إذا قبل امرأة بشهوة حراما أو لمسها بشهوة حراما أو كشف عن فرجها ونظر إليه تعلق به تحريم المصاهرة، وان قبل أم امرأته انفسخ به نكاح امرأته.
وإن قبل رجل امرأة ابنه انفسخ نكاح الاب.
دليلنا قَوْله تَعَالَى (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) وقوله تعالى (وهو الذى خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) فأثبت تعالى الصهر في الموضع الذى أثبت فيه النسب.
فلما لم يثبت بالزنا النسب فلم يثبت به الصهر ولحديث عائشة وابن عمر مرفوعا
عند البيهقى وابن ماجه (لا يحرم الحرام الحلال) والعقد قبل الزنا حلال.
وروى أن عمر رضى الله عنه جلد رجلا وامرأة وحرص أن يجمع بينهما في النكاح.(16/221)
وسئل ابن عباس رضى الله عنه عن رجل زنى بامرأة وأراد ان يتزوجها فقال يجوز، أرأيت لو سرق رجل من كرم رجل ثم ابتاعه أكان يجوز؟ (فرع)
فإن زنى بامرأة فأتته بإبنة يمكن ان تكون منه بأن تأتى بها لستة أشهر من وقت الزنا فلا خلاف بين أهل العلم انه لا يثبت نسبها من الزانى ولا يتوارثان، وأما نكاحه لها فقد قال الشافعي رضى الله عنه أكره له ان يتزوجها فإن تزوجها لم أفسخ، واختلف اصحابنا في العلة التى لاجلها كره الزانى ان يتزوج بها، فمنهم من قال انما كره ذلك ليخرج من الخلاف، فإن من الناس من قال لا يجوز له نكاحها فهلى هذا لو تحقق انها من مائه بأن اخبره النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه انها من مائه لم يحرم عليه نكاحها، لان علة الكراهة حصول الاختلاف لا غير.
ومنهم من قال إنما كره له ذلك بإمكان ان يكون من مائه لانه لم يتحقق ذلك، فلو تحقق انها من مائه بأن اخبره النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه انها من مائه لم يجز له تزويجها، هذا مذهبنا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ لا يجوز له تزويجها، واختلف اصحاب ابى حنيفة في علة تحريمها، فقال المتقدمون من أصحابه إنما حرم نكاحها لكونها ابنة من زنى بها لا انها ابنته من الزنا، وانما الزنا عنده ثبت به تحريم المصاهرة على ما مضى.
فعلى هذا لا تحرم على آبائه ولا ابنائه.
وقال المتأخرون من اصحابه انما حرم نكاحها لكونها مخلوقة من مائه، فعلى هذا تحرم على آبائه وابنائه، وهذا اصح عندهم، دليلنا أنها منفية عنه قطعا بدليل انه
لا يثبت بينهما التوارث ولا حكم في احكام الولادة، فلم يحرم عليه نكاحها كالاجنبية وان أكره رجل امرأة على الزنا فأتت منه بإبنة فحكمه حكم ما لو طاوعته على الزنا لانه زنا في حقه.
(فرع)
وان اتت امرأة بإبنة فنفاها باللعان فان كان قد دخل بالزوجة لم يجز له التزوج بإبنتها لانها بنت امرأة دخل بها، وان لم يدخل بالام فهل يجوز له نكاح الابنه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز له تزويجها لانها منفية عنه فهى كالابنة من الزنا.(16/222)
(والثانى)
لا يجوز له تزويجها لانها غير منفية عنه قطعا، بدليل أنه لو أقر بها لحقته نسبتها، والابنة من الزنا لو عاد الزانى فأقر بنسبها لم يلحقه نسبها.
(فرع)
وإن زنى رجل بزوجة رجل لم ينفسخ نكاحها، وبه قال عامة العلماء وقال على بن أبى طالب: ينفسخ نكاحها وبه قال الحسن البصري.
دليلنا حديث ابن عباس في الرجل الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن امرأتي لا ترد يد لامس، وقد مضى تخريجه في أول الفصل، فكنى الرجل عن الزنا بقوله (لا ترد يد لامس) ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بانفساخ نكاحها.
(فرع)
ولو قال رجل: أنا أحيط علما أن لى في هذه البلدة امرأة يحرم على نكاحها بنسب أو رضاع أو صهر ولا أعلم عينها، جاز له أن يتزوج من تلك البلدة لان في المنع من ذلك مشقة، كما لو كان في يد رجل صيد فانفلت واختلط بصيد ناحية ولم يتميز، فإنه لا يحرم على الناس أن يصطادوا من تلك الناحية، وان اختلطت هذه المرأة بعدد محصور من النساء قل ذلك العدد أو كثر حرم عليه أن يتزوج بواحدة منهن، لانه لا مشقة عليه في اجتناب التزويج من العدد المحصور هكذا أفاده ابن الحداد المصرى من أصحابنا.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ويحرم عليه أن يجمع بين أختين في النكاح لقوله عز وجل (وأن تجمعوا بين الاختين) ولان الجمع بينهما يؤدى إلى العداوة وقطع الرحم، ويحرم عليه أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ولانهما امرأتان لو كانت احدهما ذكرا لم يحل له نكاح الاخرى، فلم يجز الجمع بينهما في النكاح كالاختين، فإن جمع بين الاختين أو بين المرأة وعمتها أو بين المرأة وخالتها في عقد واحد بطل نكاحهما لانه ليست احداهما بأولى من الاخرى فبطل نكاحهما، وان تزوج احداهما بعد الاخرى بطل نكاح الثانية لانها اختصت بالتحريم، وان تزوج احداهما ثم طلقها فإن كان طلاقا بائنا حلت له الاخرى لانه لم يجمع بينهما في الفراش، وان كان رجعيا لم تحل لانها باقية على الفراش.(16/223)
وان قال أخبرتني بانقضاء العدة وأنكرت المرأة لم يقبل قوله في اسقاط النفقة والسكنى لانه حق لها، ويقبل قوله في جواز نكاح أختها لانه الحق لله تعالى، وهو مقلد فيما بينه وبينه، فان نكح وثنى وثنية ودخل بها أسلم وتزوج بأختها في عدتها لم يصح.
وقال المزني: النكاح موقوف على اسلامها، فان لم تسلم حتى انقضت العدة صح، كما يقف نكاحها على اسلامها.
وهذا خطأ لانها جارية إلى بينونة فلم يصح نكاح أختها كالرجعية، ويخالف هذا نكاحها، فإن الموقوف هناك الحل، والنكاح يجوز ان يقف حله ولا يقف عقده، ولهذا يقف حل نكاح المرتدة على انقضاء العدة ولا يقف نكاحها على الاسلام، ويقف حل نكاح الرجعية على العدة ولا يقف نكاح أختها على العدة.
(الشرح) حديث ابن هريرة رواه احمد والشيخان واصحاب السنن الاربعة
والدارقطني.
قال ابن عبد البر: أكثر طرقه متواترة عنه.
وزعم قوم انه تفرد به وليس كذلك.
قلت: رواه احمد والبخاري والترمذي من حديث جابر، وقال البيهقى عن الشافعي: ان هذا الحديث لم يرو من وجه يثبته أهل الحديث الا عن ابى هريرة، وما ذكرناه من رواية جابر يدفعه.
قال البيهقى: هو كما قال الشافعي قد جاء من حديث عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وعبد الله بن عمرو وأنس وأبى سعيد وعائشة، وليس فيها شئ على شرط الصحيح، وإنما اتفقنا على اثبات حديث أبى هريرة.
وأخرج البخاري رواية عاصم عن الشعبى عن جابر وبين الاختلاف على الشعبى فيه، قال والحفاظ يرون رواية عاصم خطأ والصواب رواية ابن عون وداود بن أبى هند اه.
قال الحافظ بن حجر: وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاري لان الشعبى أشهر بجابر منه بأبى هريرة، وللحديث طريق أخرى عن جابر بشرط الصحيح أخرجها النسائي من طريق ابن ابى جريج عن ابى الزبير عن جابر وقول من نقل عنهم البيهقى تضعيف حديث جابر معارض بتصحيح الترمذي وابن حبان وغيرهما له وكفى بتخريج البخاري له موصولا قوة(16/224)
قال ابن عبد البر: كان بعض أهل الحديث يزعم أنه لم يرو هذا الحديث غير أبى هريرة، يعنى من وجه يصح، وكأنه لم يصح حديث الشعبى عن جابر وصححه عن ابى هريرة والحديثان جميعا صحيحان.
قال ابن حجر.
وأما من نقل البيهقى أنهم رووه من الصحابة غير هذين فقد ذكر مثل ذلك الترمذي بقوله، وفى الباب لكن لم يذكر ابن مسعود ولا ابن عباس ولا أنسا وزاد بدلهم أبا موسى وأبا أمامة وسمرة، قال وقع لى أيضا من حديث أبى الدرداء ومن حديث عتاب بن أسيد ومن حديث سعد بن أبى وقاص
ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود.
قال وأحاديثهم موجودة عند ابن أبى شيبة وأحمد وأبى داود والنسائي وابن ماجه وابى يعلى والبزار والطبراني وابن حبان وغيرهم، ولولا خشية التطويل لاوردتها مفصله.
قال ولكن في لفظ حديث ابن عباس عند ابى داود أنه كره أن يجمع بين المرأة على العمة والخالة وقال إنكن إذا فعلتن قطعتن أرحامكن.
اه وأخرج أبو داود في المراسيل عن عيسى بن طلحة قَالَ (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة) وأخرجه أيضا ابن ابى شيبة.
وأخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن ابيه عن ابى بكر وعثمان أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافة الضغائن ولكن الاحاديث التى مضى لنا ذكرها تدل على تحريم الجمع بين من ذكر في حديث ابى هريرة، لان ذلك هو معنى النهى حقيقة.
وقد حكاه الترمذي عن عامة أهل العلم.
وقال لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك وكذلك حكاه الشافعي عن جميع المفتين وقال لا اختلاف بينهم في ذلك، وقال ابن المنذر لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج.
وهكذا حكى الاجماع القرطبى واستثنى الخوارج.
قال ولا يعتد بخلافهم.
وهكذا نقل الاجماع ابن عبد البر ولم يستثن، ونقل الاجماع ان حزم واستثنى عثمان البتى.
ونقله النووي في الروضة والمنهاج واستثنى في الروضة طائفة من الخوارج والشيعه.
ونقله ابن دقيق العيد عن جمهور العلماء ولم يعين المخالف أما أحكام الفصل فإن المنصوص على تحريمها بالجمع فهى أخت الزوجة،(16/225)
فلا يجوز للرجل أن يجمع بين الاختين في النكاح، سواء ان كانتا أختين لاب وأم أو لاب أو لام، وسواء كانتا أختين من النسب أو من الرضاع لقوله تعالى
(وأن تجمعوا بين الاختين) الايه، ولان العادة جارية ان الرجل إذا جمع ضرتين تباغضا وتحاسدا وتتبعت كل واحدة عيوب الاخرى وعوراتها، فلو جوزنا الجمع بين الاختين لادى ذلك إلى تباغضهما وتحاسدهما فيكون في ذلك قطع الرحم بينهما ولا سبيل إليه، وهو إجماع لا خلاف فيه، فإن تزوجهما معا في عقد واحد لم يصح نكاح واحدة منهما، لانه لا مزية لاحداهما على الاخرى، فبطل الجمع كما لو ابتاع درهمين بدرهمين، وان تزوج إحداهما ثم تزوج الثانية بطل نكاح الثانية دون الاولة، لان الجمع اختص بالثانية.
(فرع)
ويحرم عليه الجمع بين المرأة وعمتها الحقيقة والمجاز من الرضاع أو من النسب، ويحرم عليه الجمع بين المرأة وخالتها الحقيقة والمجاز من الرضاع أو من النسب.
دليلنا ما سقناه من أحاديث بلغت حد التواتر من طرفها الاول إلى مخرجيها ومدونيها.
قال العمرانى من أصحابنا.
ولان كل امرأتين منهما لو قلبت إحداهما ذكرا لم يجز له ان يتزوج بالاخرى بالنسب، فوجب ان لا يجوز الجمع بينهما في النكاح كالاختين، ولا يجوز أن يجمع بين المرأة وخالة أمها أو عمة أمها اه.
ويجوز الجمع بين امرأة كانت لرجل وبين ابنة زوجها الاول من غيرهما.
وقال ابن ابى ليلى (لا يجوز لانه لو قلبت ابنة الرجل ذكرا لم يحل له نكاح امرأة ابنه فهما كالاختين.
دليلنا قَوْله تَعَالَى (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) لانه لو قلبت امرأة الرجل ذكرا لحل له نكاح الاخرى، ويخالف الاختين لانك لو قلبت كل واحدة منهما ذكرا لم يحل له الاخرى، ويجوز ان يجمع بين المرأة وبين زوجة ابيها لانه لا قرابه بينهما ولا رضاع، وكذلك إذا تزوج رجل له ابنة امرأة لها أبنه فيجوز لآخران يجمع بين ابنة الزوج وابنة الزوجه، لانه إذا جاز ان يجمع
بين المرأة وبين ابنة ضرتها لانه لا قرابة بينهما ولا رضاع(16/226)
وإن تزوج رجل له ابن بامرأة لها ابنة جاز لابن الزوج أن يتزوج بابنة الزوجة لما روى أن رجلا له ابن تزوج إمرأة لها ابنة ففجر الغلام بالصبية فسألهما عمر رضى الله عنه فاعترفا فجلدهما وعرض أن يجمع بينهما، فأبى الغلام، ولانه لا نسب بينهما ولا رضاع.
فان قيل: أليس الرجل لو أولد من المرأة ولدا كان أخا أو أختا له فكيف يجوز له أن يتزوج بأخت أخيه؟ قلنا: إنه لا يجوز له التزوج بأخت نفسه، فأما بأخت أخيه فلا يمنع منه، فان رزق كل واحد منهما ولدا من امرأته كان ولد الاب ثم ولد الابن وخاله، فان تزوج بامرأة وتزوج ابنه بأمها جاز، لان أمها محرمة على أبيه دونه، فان رزق كل واحد منهما ولدا كان ولد الاب عم ولد الابن وولد الابن خال ولد الاب.
(فرع)
وإن تزوج بامرأة ثم طلقها وأراد أن يتزوج بأختها أو عمتها أو خالتها أو تزوج أربع نسوة وطلقهن واراد أن ينكح أربعا غيرهن أو طلق واحدة منهن وأراد أن يتزوج غيرها فان كان الطلاق قبل الدخول يصح تزويجه بلا خلاف، لانه لا عدة له على المطلقة، وان كان بعد الدخول فان كان الطلاق رجعيا لم يصح تزويجه قبل انقضاء العدة، لان المطلقة في حكم الزوجات، وإن كان الطلاق بائنا صح تزويجه عندنا قبل انقضاء العدة، وبه قال زيد بن ثابت رضى الله عنه والزهرى ومالك.
وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يصح، وروى ذلك عن على وابن عباس.
دليلنا أن المطلقة بائن منه فجاز له عقد النكاح على أختها كالبائن قبل الدخول.
(فرع)
قال الشافعي في الام: فان تزوج رجل إمرأة فطلقها طلاقا رجعيا
ثم قال الزوج: قد أخبرتني بانقضاء عدتها فأنكرت لم يقبل قوله في إسقاط نفقتها وكسوتها وسائر حقوقها، لانه حق لها فلم يقبل قوله في إسقاطه، وإن أراد أن يتزوج بأختها أو عمتها وصادقته التى تزوجها على ذلك صح تزويجه، لان الحق لله تعالى وهو مقدر فيما بينه وبينه.(16/227)
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ومن حرم عليه نكاح امرأة بالنسب له أو بالمصاهرة أو بالجمع حرم عليه وطؤها بملك اليمين لانه إذا حرم النكاح فلان يحرم الوطئ وهو المقصود أولى وان ملك أختين فوطئ إحداهما حرمت عليه الاخرى حتى تحرم الموطوءة ببيع أو عتق أو كتابة أو نكاح.
فان خالف ووطئها لم يعد إلى وطئها حتى تحرم الاولى، والمستحب أن لا يطأ الاولى حتى يستبرئ الثانية حتى لا يكون جامعا للماء في رحم أختين، وإن تزوج إمرأة ثم ملك أختها لم تحل له المملوكة، لان أختها على فراشه، وإن وطئ مملوكة ثم تزوج أختها حرمت المملوكة وحلت المنكوحة، لان فراش المنكوحة أقوى، لان يملك به حقوق لا تملك بفراش المملوكة من الطلاق والظهار والايلاء واللعان.
فثبت الاقوى وسقط الاضعف كملك اليمين لما ملك به ما لا يملك بالنكاح من الرقبة والمنفعة إذا طرأ على النكاح ثبت وسقط النكاح.
(فصل)
وما حرم النكاح والوطئ بالقرابه حرم بالرضاع، لقوله تعالى (وأمهاتكم اللاتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعه) فنص على الام والاخت وقسنا عليهما من سواهما، وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة) .
(فصل)
ومن حرم عليه نكاح امرأة على التأبيد برضاع أو نكاح أو وطئ مباح صار لها محرما في جواز النظر والخلوة، لانها محرمه عليه على التأبيد بسبب
غير محرم فصار محرما لها كالام والبنت، ومن حرمت عليه بوطئ شبهة لم يصر محرما لها لانها حرمت عليه بسبب غير مباح، ولم تلحق بذوات المحارم والانساب (الشرح) حديث عائشة رضى الله عنها مضى تخريجه.
اما الاحكام: فان الشرع ساوى بين الامة والحرة في تحريم الجمع بين الاختين كما لا يحل له نكاحها بنسب أو رضاع أو مصاهرة، لم يحل له وطؤها واسم النكاح يقع على الوطئ، ولان المقصود بعقد النكاح هو الوطئ، فإذا حرم عقد النكاح(16/228)
فلان يحرم الوطئ أولى، ويسرى على الاماء تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها في الوطئ، وإن كان يحل في الملك، لان الاستمتاع ليس غاية للملك، وإنما المقصود بالملك المنفعة وما ذكره المصنف فعلى وجهه.
(مسألة) إذا حرم عليه نكاح المرأة على التأبيد بنكاح أو رضاع أو وطئ مباح صار محرما لها في جواز النظر والخلوة، لانها محرمة عليه على التأبيد بسبب غير محرم فصار محرما لها كالام والابنة، وان حرم عليه نكاحها بوطئ شبهة فهل تصير محرما له؟ فيه قولان حكاهما الصيمري، المشهور أنها لا تصير محرما له لانها حرمت عليه بسبب غير مباح فلم يلحق بذوات الانساب.
والثانى: أنها تصير محرما له لانها لما ساوت من وطئت وطئا مباحا في تحريم النكاح ولحوق النسب من هذا الوطئ ساوتها في الخلوة والنظر.
(مسألة) إذا وطئ الرجل إمرأة بملك صحيح أو بشبه ملك أو بشبهة عقد نكاح أو وطئها زوجة أو أمة حرمت عليه أمهاتها وبناتها على التأبيد لانه وطئ يتعلق به لحوق النسب فتعلق به تحريم المصاهرة كالوطئ في النكاح، ولانه معنى تصير به المرأة فراشا فتعلق به تحريم المصاهرة كعقد النكاح، وهذا هو المشهور من المذهب.
وحكى المسعودي قولا آخر أنه لا يتعلق به تحريم المصاهرة بوطئ شبهة، وليس بشئ عن أصحابنا منهم صاحب البيان وغيره.
وإن باشر امرأة دون الفرج بشهوة في ملك أو شبهة بأن قبلها أو لمس شيئا من بدنها فهل يتعلق بذلك تحريم المصاهرة وتحرم عليه الربيبة على التأبيد؟ فيه قولان
(أحدهما)
يتعلق به التحريم، وبه قال ابو حنيفة ومالك.
وقالا: انه روى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وليس له مخالف في الصحابة، ولانه تلذذ بمباشرة فتلعق به تحريم المصاهرة والربيبة كالوطئ فقولنا: تلذذ احتراز من المباشرة بغير شهوة، وقولنا: بمباشرة احتراز من النظر.
(والثانى)
لا يتعلق به تحريم المصاهرة ولا الربيبة، وبه قال احمد بن حنبل لقوله تعالى (وربائبكم اللاتى في حجوركم من نسائكم اللاتى دخلتم بهن) وهذا(16/229)
ليس بدخول، ولانه لمس لا يوجب الغسل فلم يتعلق بن تحريم كالمباشرة بغير شهوة وإن نظر إلى فرجها بشهوة لم يتعلق به تحريم المصاهرة ولا تحريم الربيبة.
وقال الثوري وأبو حنيفة: يتعلق بها التحريم، وحكاه المسعودي قولا آخر للشافعي وليس بمشهور.
دليلنا أنه نظر إلى بعض بدنها فلم يتعلق به التحريم كما لو نظر إلى وجهها.
(فرع)
وإن تزوج إمرأة ثم وطئ بنتها أو أمها بشبهة أو وطئ الاب زوجة الابن بشبهة أو وطئ الابن زوجة الاب بشبهة انفسخ النكاح، لانه معنى يوجب تحريما مؤبدا، فإذا طرأ على النكاح أبطله كالرضاع.
إذا ثبت هذا: فإن تزوج رجل امرأة، وتزوج ابنه ابنتها، وزفت إلى كل منهما زوجة صاحبه ووطئها ولم يعلما، فان الاول لما وطئ غير زوجته منهما لزمه لها مهر مثلها وانفسخ نكاح الموطوءة من زوجها لانها صارت فراشا لابيه أو ابنه، ويجب عليه الغرم لزوجها، لانه حال بينه وبين بضع امرأة، وفيما يلزمه
قولان
(أحدهما)
جميع مهر المثل
(والثانى)
نصفه، كالقولين فيما يلزم المرضعة لزوج الرضيعة إذا انفسخ النكاح بإرضاع، وينفسخ نكاح الواطئ الاول من زوجته لان أمها أو ابنتها صارت فراشا له، فيجب عليه لامرأته نصف المسمى لان الفرقة جاءت من جهته.
وأما الواطئ الثاني فيلزمه مهر المثل للتى وطئها، ولا يجب عليه لزوجها شئ لانه لم يحل بينه وبين بضعها لان الحيلولة بينهما حصلت بوطئ الاول، ولا يجب على الثاني لزوجته أيضا شئ، لان الفرقة بينهما جاءت من قبلها بتمكينها الاول من نفسها، فإن عرف الاول منها أو الثاني، تعلق بوطئ كل واحدة منهما مهر المثل على الذى وطئها وينفسخ النكاحان، ويجب لكل واحدة منهما على زوجها نصف المسمى لها، لانا نتيقن وجوبه فلا يسقط بالشك ولا يرجع أحدهما على الآخر بشئ، لان ذلك انما وجب للثاني على الاول ولم يعلم الاول من الثاني، ويجب على كل واحدة منهما العدة، وان جاءت كل واحدة بولد لحق الولد بواطئها ولا حد على أحدهما، وهذا ان كان الواطئ والموطوءة جاهلين بالتحريم، وان(16/230)