الماء الا بالحفر، فليس له الحفر في ملك غيره، لان ذلك اجارة لساقية غير موجودة، فان حفر الساقية وصالحه جاز قال العمرانى " وان كانت الارض في يد المقر باجارة جاز له أن يصالحه على اجراء الماء في ساقية فيها محفورة مدة لا تجاوز مدة اجارته، وان لم تكن الساقية محفورة لم يجز أن يصالحه على ذلك، لانه لا يجوز له احداث ساقية في أرض في يده باجارة، وكذلك إذا كانت الارض وقفا عليه جاز أن يصالحه على إجراء الماء في ساقية في أرض في يده وان أراد أن يحفر ساقية لم يكن له ذلك لانه لا يملكها، وانما له أن يستوفى منفعتها كالارض المستأجرة، وان صالحه على اجراء الماء على سطحه جاز إذا
كان السطح الذى يجرى ماؤه فيه معلوما، لان الماء يختلف بكبر السطح وصغره وقال ابن الصباغ ولا يحتاج إلى ذكر المدة، ويكون ذلك فرعا للاجارة لان ذلك لا يستوفى به منافع السطح بخلاف الساقية فانه يستوفى منفعتها فكانت مدتها مقدرة ولانهما يختلفان أيضا فان الماء الذى يجرى في الساقية لا يحتاج إلى تقدير لانه لا يجرى فيها أكثر من ملئها، ويحتاج إلى ذكر السطح الذى يجرى منه لانه يجرى فيه القليل والكثير.
وان صالحه على أن يسقى زرعه أو ماشيته من مائه سقية أو سقيتين لم يصح، لان القدر من الماء الذى يسقى به الزرع والماشية مجهول، فان صالحه على ربع العين أو ثلثها صح كما قلنا في البيع
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وفى وضع الجذوع على حائط الجار والحائط بينه وبين شريكه قولان، قال في القديم " يجوز " فإذا امتنع الجار أو الشريك اجبر عليه إذا كان الجذع خفيفا لا يضر بالحائط، ولا يقدر على التسقيف الا به.
لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على جداره " قال أبو هريرة رضى الله عنه " انى لاراكم عنها معرضين، والله لارمينها بين أظهركم " ولانه إذا وجب بذل فضل الماء للكلا لاستغنائه عنه وحاجة غيره وجب بذل فضل(13/405)
الحائط لاستغنائه عنه وحاجة جاره.
وقال في الجديد: لا يجوز بغير إذن، وهو الصحيح: لقوله صلى الله عليه وسلم " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه " ولانه انتفاع بملك غيره من غير ضرورة فلا يجوز بغير اذنه كالحمل على بهيمته، والبناء في أرضه، وحديث أبى هريرة تحمله على الاستحباب.
وأما الماء فإنه غير مملوك في قول بعض أصحابنا.
والحائط مملوك، ولان الماء لا تنقطع
مادته، والحائط بخلافه.
فان كان الجذع ثقيلا يضر بالحائط لم يجز وضعه من غير اذنه قولا واحدا، لان الارتفاق بحق الغير لا يجوز مع الاضرار، ولهذا لا يجوز أن يخرج إلى الطريق جناحا يضر بالمارة.
وان كان لا حاجة به إليه لم يجبر عليه، لان الفضل انما يجب بذله عند الحاجة إليه، ولهذا يجب بذلك فضل الماء عند الحاجة إليه للكلا ولا يجب مع عدم الحاجة.
فان قلنا يجبر عليه فصالح منه على مال لم يجز، لان من وجب له حق لا يؤخذ منه عوضه، وان قلنا: لا يجبر عليه فصالح منه على مال جاز على ما بيناه في أجذاع الساباط.
(فصل)
وإذا وضع الخشب على حائط الجار أو الحائط المشترك، وقلنا انه يجبر في قوله القديم، أو صالح عنه على مال في قوله الجديد فرفعه جاز له أن يعيده، فان صالحه صاحب الحائط عن حقه بعوض ليسقط حقه من الوضع جاز لان ما جاز بيعه جاز ابتياعه كسائر الاموال.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه، وقد أخرجه أيضا ابن ماجه والبيهقي وأحمد والطبراني وعبد الرزاق من طريق ابن عباس بلفظ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يضع خشبة في حائط جاره، وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع " وأخرجه أحمد وابن ماجه أيضا من حديث عكرمة بن سلمة بن ربيعة " أن أخوين من بنى المغيرة أعتق أحدهما أن(13/406)
لا يغرز خشبا في جداره، فلقيا مجمع بن يزيد الانصاري ورجالا كثيرا فقالوا: نشهد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبا في
جداره، فقال الحالف: أي أخى قد علمت أنك مقضى لك على، وقد حلفت فاجعل اسطونا دون جدارى ففعل الآخر، فغرز في الاسطوان خشبة " وهو أيضا عند ابن ماجه والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث أبى سعيد، وعند البيهقى من طريق عبادة.
وعند الطبراني في الكبير وأبى نعيم من حديث ثعلبة بن مالك القرظى، وما جاء في بعض ألفاظه من جعل الطريق سبعة أذرع ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة، وعكرمة بن سلمة بن ربيعة مجهول وقوله " لا يمنع " بالجزم على النهى.
وفى رواية لاحمد " لا يمنعن " وفى لفظ للبخاري بالرفع على الخبرية، وهى في معنى النهى.
وقوله " خشبة " قال القاضى عياض رويناه في مسلم وغيره من الاصول بصيغة الجمع والافراد، ثم قال: وقال عبد الغنى بن سعيد: كل الناس تقوله بالجمع الا الطحاوي، فانه قال عن روح بن الفرج.
سألت أبا زيد والحرث بن بكير ويونس بن عبد الاعلى عنه.
فقالوا كلهم خشبة بالتنوين، ورواية مجمع تشهد لمن رواه بلفظ الجمع.
ويؤيدها أيضا ما رواه البيهقى من طريق شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ " إذا سأل أحدكم جاره أن يدعم جذوعه على حائطه فلا يمنعه ".
قال القرطبى وانما اعتنى هؤلاء الائمة بتحقيق الرواية في هذا الحرف، لان أمر الخشبة الواحدة يخف على الجار المسامحة به بخلاف الاخشاب الكثيرة أما الاحكام فان هذه الاحاديث تدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب في جداره، ويجبره الحاكم إذا امتنع وبهذا قال الشافعي في القديم وأحد قولى الجديد، وأحمد واسحاق وابن حبيب من المالكية وأهل الحديث وقال الشافعي في أحد قولى الجديد والحنفية ومالك والجمهور من الفقهاء انه يشترط اذن المالك، ولا يجبر صاحب الجدار إذا امتنع، وحملوا النهى على
التنزيه جمعا بينه وبين الادلة القاضية بأنه " لا يحل مال امرئ " مسلم الا بطيبة من نفسه "(13/407)
وأجيب بأن هذا الحديث أخص من تلك الادلة مطلقا فيبنى العام على الخاص قال البيهقى: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلا عمومات لا يستنكر أن يخصها.
وحمل بعضهم الحديث على ما إذا تقدم استئذان الجار، كما وقع في رواية لابي داود بلفظ " إذا استأذن أحدكم أخاه " وفى رواية لاحمد " من سأله جاره " وكذا في رواية لابن حبان، فإذا تقدم الاستئذان لم يكن للجار المنع، لا إذا لم يتقدم، وبهذا يصح الجمع بين الاحاديث العامة والخاصة، والمطلقة والمقيدة والله تعالى أعلم.
والمذهب انه إذا أراد رجل أن يضع أجذاعه على حائط جاره أو حائط مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه، فإن كان به إلى ذلك حاجة، مثل أن يكون له براح من الارض ويحيط له بالبراح ثلاثة جدر ولجاره أو شريكه جدار رابع، أو أراد صاحب الجدر الثلاثة أن يضع عليها سقفا فهل يجبر صاحب الجدار الرابع على تمكينه من ذلك، فيه قولان قال في القديم: يجبر إذا كان ما يضعه لا يضر بالحائط ضررا بينا.
وبه قال أحمد وغيره ممن مضى ذكرهم لحديث أبى هريرة الذى نكس فيه القوم رؤوسهم، فقال أبو هريرة: مالى أراكم عنها معرضين، والله لارمينها بين أظهركم، يعنى هذه السنة التى أنتم عنها معرضون.
فإذا قلنا بهذا فلم يبذل الجار له أجبره الامام أن يضع خشبه على جداره.
وقال في الجديد: لا يجبر على ذلك.
قال العمرانى: وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة لحديث " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه " ولانه انتفاع
بملك غيره من غير ضرورة فلم يجز من غير إذنه، كزراعة أرضه والبناء في أرضه (قلت) قد ذهب المصنف إلى أن للخبر تأويلين
(أحدهما)
أنه محمول على الاستحباب
(والثانى)
أن معناه إذا أراد الرجل أن يضع خشبة على جدار له لاخراج روشن أو شرفة أو جناح إلى شارع نافذ فليس لجاره المحاذي له أن يمنعه من ذلك، لانه قال: لا يمنع أحدكم جاره ان يضع خشبه على جداره، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو الجار.(13/408)
فأما إذا أراد أن يبنى على الحائط أو يضع عليه خشبا يضر به ضررا بينا أو جدار آخر يمكنه أن يسقف عليه، لم يجبر الجار قولا واحدا، فإذا قلنا بقوله في الجديد فأعاره صاحب الحائط فوضع الخشب عليه لم يكن لصاحب الحائط أن يطالبه بقلعه، لان اذنه يقتضى البقاء على التأبيد، فان قلع المستعير خشبه أو سقطت فهل له أن يعيد مثلها؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
له ذلك، لانه قد استحق دوام بقائها.
(والثانى)
ليس له بغير اذن مالك الحائط وهو الصحيح، لان السقف إذا سقط فلا ضرر على المعير في الرجوع.
وان أراد صاحب الحائط هدم حائطه، فإن لم يكن مستهدما لم يكن له ذلك، لان المستعير قد استحق تبقية خشبه عليه، وان كان مستهدما فله ذلك، وعلى صاحب الخشب نقله، فإذا أعاد صاحب الحائط حائطه - فان بناه بمادة أخرى - لم يكن لصاحب الخشب اعادة خشبه من غير اذنه، لان هذا الحائط غير الاول.
وقال الحنابلة: يجوز اعادة وضعه بغير اذنه.
وان بناه بمادته الاولى بعينها بأن كانت عضادته خشبا فأقامه أو حجرا فرصه، فهل له أن يعيد خشبه بغير اذن على الوجهين الاولين، فان صالحه بمال ليضع أجذاعه على جداره في قوله الجديد
أو قلنا يجبر الجار على تمكينه من وضعها على القديم فصالح مالك الجدار مالك الخشب ليضع عن جداره الخشب صح الصلح، لان ما صح بيعه صح ابتياعه كسائر الاموال، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان كان في ملكه شجرة فاستعلت وانتشرت أغصانها وحصلت في دار جاره جاز للجار مطالبته بازالة ما حصل في ملكه، فان لم يزله جاز للجار ازالته عن ملكه، كما لو دخل رجل إلى داره بغير اذنه، فان له أن يطالبه بالخروج، فان لم يخرج أخرجه، فان صالحه منه على مال فان كان يابسا لم يجز لانه عقد على الهواء، والهواء لا يفرد بالعقد، وان كان رطبا لم يجز لما ذكرناه ولانه صلح على مجهول، لانه يزيد في كل وقت.(13/409)
(الشرح) الاحكام: إذا كانت له شجرة في ملكه فانتشرت أغصانها فوق ملك جاره فللجار أن يطالب مالك الشجرة بازالة ما انتشر فوق ملكه لان الهواء تابع للقرار، وليس له أن ينتفع بقرار أرض جاره بغير اذنه، فكذلك هواء أرض جاره، فان لم يزل مالك الشجرة ذلك فللجار أن يزيل ذلك عن هواء أرضه بغير اذن الحاكم كما لو دخلت بهيمة لغيره إلى أرضه فله أن يخرجها بنفسه وقال أصحاب أحمد: إذا امتنع المالك من ازالته لم يجبر لان ذلك ليس من فعله، وعلى كلا الامرين إذا امتنع من ازالته كان لصحاب الهواء ازالته مع عدم الاتلاف، فإذا أتلف شيئا ضمنه كما لو دخلت البهيمة داره فعليه اخراجها بغير اتلاف فإذا أتلفها ضمنها، فان لم يمكنه ازالتها الا بالاتلاف فلا شئ عليه لانه لا يلزمه اقرار مال غيره في ملكه.
قال العمرانى في البيان: ينظر فيه فان كان ما انتشر لينا يمكنه أن يزيل ذلك
عن ملكه من غير قطع، لواه عن ملكه، فان قطعه لزمه أرش ما نقصت الشجرة بذلك لانه متعد بالقطع، وان كان يابسا لا يمكنه ازالة ذلك عن ملكه الا بقطعه فله أن يقطع ذلك ولا ضمان عليه اه.
(قلت) فان صالحه على اقرارها بعوض معلوم، فان كان غير معتمد على حائطه لم يجز ذلك لانه افراد للهواء بالعقد ان كان يابسا، وان كان رطبا لم يجز أيضا لهذه العلة، ولانه يزيد في كل وقت بنمو الاغصان.
وقال أصحاب أحمد كابن حامد وابن عقيل وابن قدامة: يجوز ذلك رطبا كان الغصن أو يابسا، لان الجهالة في المصالح عنه لا تمنع الصحة لكونها لا تمنع التسليم بخلاف العوض فانه يفتقر إلى العلم لوجوب تسليمه، لان الحاجة داعية إلى الصلح عنه لكون ذلك يكثر في الاملاك المتجاورة في القطع اتلاف وضرر قالوا: والزيادة المتجددة يعفى عنها كالسمن الحادث في المستأجر للركوب.
(قلت) والصلح لا يجوز عندنا الا في حالة ما إذا كان الغصن يابسا معتمدا على حائط الجار كما لو صالحه على وضع خشبة على حائطه، وأما الرطب فانه يمكن ليه، ويمكن تهذيبه.(13/410)
(فرع)
إذا كان سطح داره أعلا من سطح دار جاره لم يجبر من علا سطحه على بناء سترة.
وقال أحمد رضى الله عنه: يجبر من علا سطحه على بناء سترة، لانه إذا صعد سطحه أشرف على دار جاره، والانسان ممنوع من الانتفاع بملكه على وجه يستضر به غيره، كما لا يجوز أن يدق في ملكه ما يهتز به حائط جاره.
دليلنا: أنه حاجز بين ملكيهما فلا يجبر أحدهما على ستره كالاسفل وما ذكره فغير صحيح، لان الاعلى ليس له أن يشرف على الاسفل، وإنما يستضر الاسفل بالاشراف عليه دون انتفاعه بملكه، ويخالف الدق، لانه يضر بملك جاره،
قاله في البيان.
(فرع)
قال الشيخ أبو حامد الاسفرايينى: يجوز للانسان أن يفتح في ملكه كوة مشرفة على جاره، وعلى جسر عليه، ولا يجوز للجار منعه لانه لو أراد رفع جميع الحائط لم يمنع فكذلك إذا رفع بعضه لم يمنع اه.
(قلت) إلا إذا ترتب على ذلك إضرار بجاره وإزالة للجدار الفاصل بين المسكنين مما يترتب عليه كشف سوءات البيت أو تعريض المال للضياع أو زوال صفة الصلاحية للسكنى أجبر على إزالة ذلك فان كان كوة سدها، وإن كان جدارا أقامه، وسيأتى مزيد لذلك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن كان لرجل في زقاق لا ينفذ دار، وظهرها إلى الشارع ففتح بابا من الدار إلى الشارع جاز، لان له حق الاستطراق في الشارع فجاز أن يفتح إليه بابا من الدار، وان كان باب الدار إلى الشارع وظهرها إلى الزقاق ففتح بابا من الدار إلى الزقاق نظرت، فإن فتحه ليستطرق الزقاق لم يجز لانه يجعل لنفسه حتى الاستطراق في درب مملوك لاهله لا حق له في طريق، فان قال: أفتحه ولا أجعله طريقا، بل أغلقه وأسمره، ففيه وجهان.
(أحدهما)
أن له ذلك، لانه إذا جاز له أن يرفع جميع حائط الدار، فلان يجوز أن يفتح فيه بابا أولى.
(والثانى)
لا يجوز، لان الباب دليل على الاستطراق، فمنع منه، وان فتح(13/411)
في الحائط كوة إلى الزقاق جاز، لانه ليس بطريق ولا دليل عليه، فان كان له داران في زقاقين غير نافذين، وظهر كل واحدة من الدارين إلى الاخرى، فأنفذ احدى الدارين إلى الاخرى ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يجوز، لانه يجعل الزقاقين نافذين، ولانه يجعل لنفسه الاستطراق من كل واحد من الزقاقين إلى الدار التى ليست فيه، ويثبت لاهل كل واحد من الزقاقين الشفعة في دور الزقاق الآخر على قول من يوجب الشفعة بالطريق
(والثانى)
يجوز، وهو اختيار شيخنا القاضى رحمه الله، لان له أن يزيل الحاجز بين الدارين، ويجعلهما دارا واحدة، ويترك البابين على حالهما، فجاز أن ينفذ احداهما إلى الاخرى.
(الشرح) الاحكام: إذا كان لرجل دار في زقاق غير نافذ وظهر الدار إلى شارع عام فأراد أن يفتح بابا في ظهر بيته إلى الشارع فإن فتحه وسد الباب الذى في الزقاق جاز له ذلك قولا واحدا، أما إذا أبقى الباب الذى في الزقاق نظرت فإذا جعله لاستطراق المارة من الشارع إلى الزقاق لم يجز له ذلك، لان الدرب مملوك لاهله لا يعبر أحد أجنبي من زقاقهم، فإذا استأذن أصحاب الزقاق وقال لهم أفتحه ولا أجعله طريقا، بل أجعل بابى ذا أقفال وترابيس لا يمر فيه الا أهل بيتى وضيفاني ففيه وجهان.
(أحدهما)
يجوز، لانه إذا جاز أن يهدم الحائط جاز له أن يهدم بعضه.
(والثانى)
لا يجوز، لان الباب ثغرة يمكن أن يستدل منها المارة على الاستطراق إلى الزقاق فمنع منه.
وقال الحنابلة: يجوز له ذلك قولا واحدا، ولانه يرتفق بما لم يتعين ملك أحد عليه وعلى القول بالجواز ان قيل: في هذا اضرار بأهل الدرب، لانه يجعله نافذا يستطرق إليه من الشارع (قلنا) لا يصير نافذا، وانما تصير داره نافذة، وليس لاحد استطراق داره، فاما ان كان باب داره إلى الشارع، وليس له باب إلى الدرب فأراد أن يفتح بابا في ظهر داره إلى الزقاق للاستطراق لم يكن له ذلك،(13/412)
لانه ليس له حق في الدرب الذى قد تعين ملك أربابه، ويحتمل الجواز كما ذكرنا في الوجه الذى تقدم.
(فرع)
إذا أراد أن يفتح إلى الدرب كوة أو شباكا لم يمنع منه، لانه يتصرف في ملكه، وربما أراد ذلك للهواء أو النور أو الشمس.
(فرع)
فإن كان لرجل داران وباب كل واحدة منهما إلى زقاق غير نافذ وظهر كل واحدة منهما إلى ظهر الاخرى، فإن أراد صاحب الدارين رفع الحائط بينهما وجعلهما دارا واحدة جاز، وإن أراد أن يفتح من أحدهما بابا إلى الاخرى ليدخل من كل واحدة من الدارين إلى الاخرى، ويدخل من كل واحدة من الدارين ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا أنه لا يجوز، لانه يجعل لكل واحدة من الدارين طريقا من كل واحدة من الدارين، ويجعل الدار كالدرب الواحد، ولانه يثبت الشفعة لكل واحد من الدربين لاهل الدرب الآخر في قول من يثبت الشفعة في الدار لاشتراكهما في الطريق، وهذا لا يجوز.
وقال القاضى أبو الطيب: يجوز، لانه يجوز له أن يرفع الحائط كله، فجاز له أن يفتح فيه بابا.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
إذا كان لداره باب في وسط درب لا ينفذ، فأراد أن ينقل الباب نظرت فإن أراد نقله إلى أول الدرب جاز له لانه يترك بعض حقه من الاستطراق وإن أراد أن ينقله إلى آخر الدرب ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يجوز، لانه يريد أن أن يجعل لنفسه حق الاستطراق في موضع لم يكن له
(والثانى)
يجوز، لان حقه ثابت في جميع الدرب، ولهذا لو أرادوا قسمته كان له حق في جميعه، فإن كان بابه في آخر الدرب وأراد أن ينقل الباب إلى وسطه، ويجعل إلى عند الباب دهليزا - إن قلنا: ان من بابه في وسط
الدرب - يجوز أن يؤخره إلى آخر الدرب، لم يجز لهذا أن يقدمه، لانه مشترك بين الجميع، فلا يجوز أن يختص به، وان قلنا: لا يجوز جاز لهذا أن يقدمه لانه يختص به.(13/413)
(الشرح) الاحكام: إذا كان لرجلين داران في زقاق غير نافذ وباب دار أحدهما قريب من أول الدرب، ولداره فناء يمتد إلى آخر الدرب، وباب دار الآخر في وسط الدرب، فان أراد من باب داره قريب من أول الدرب أن يقدم بابه إلى أول الدرب جاز لانه يترك بعض ما كان له من استحقاق، وإن أراد أن يؤخر بابه إلى داخل الدرب الذى له فناء داره هناك ففيه وجهان
(أحدهما)
له ذلك لان فناء داره يمتد فكان له تأخير بابه إلى هناك، ولان له يدا في الدرب، فكان الجميع في يدهما
(والثانى)
ليس له ذلك وهو الصحيح، لانه يريد أن يجعل لنفسه الاستطراق في موضع لم يكن له وإن أراد من باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه.
قال الشيخ أبو حامد فان أراد أن يقدمه إلى الموضع الذى لا فناء لصاحبه فيه كان له ذلك وجها واحدا وإن أراد أن يقدمه إلى الموضع الذى لصاحبه هناك فناء فهل له ذلك؟ يبنى على الوجهين الاولين.
فإن قلنا ليس لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه فلمن باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه وهو الصحيح.
وإن قلنا لمن باب داره في أول الدرب أن يؤخر بابه إلى وسط الدرب، فليس لمن باب داره في وسط الدرب أن يقدم بابه إلى فناء دار جاره وقال ابن الصباغ: ينبغى له أن يقدم بابه في فنائه إلى فناء صاحبه وجها واحدا لانه انما يفتح الباب في فناء نفسه، ولا حق له فيما جاوز ذلك
وقال أصحاب أحمد: إذا كان لرجلين بابان في زقاق غير نافذ أحدهما قريب من باب الزقاق والآخر في داخله، فللقريب من الباب نقل بابه إلى ما يلى باب الزقاق، لان له الاستطراق إلى بابه القديم، فقد نقص من استطراقه، ومتى أراد رد بابه إلى موضعه الاول جاز لان حقه لم يسقط، وإن أراد نقل بابه تلقاء صدر الزقاق لم يكن له ذلك.
قال ابن قدامة نص عليه أحمد اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا كان بين رجلين حائط مشترك فانهدم، فدعا أحدهما صاحبه إلى العمارة وامتنع الآخر، ففيه قولان، قال في القديم يجبر لانه إنفاق على(13/414)
مشترك يزول به الضرر عنه وعن شريكه فأجبر عليه كالانفاق على العبد.
وقال في الجديد: لا يجبر لانه إنفاق على ملك لو انفرد به لم يجب، فإذا اشتركا لم يجب كزراعة الارض.
فإن قلنا بقوله القديم أجبر الحاكم الممتنع على الانفاق، فان لم يفعل وله مال باعه وأنفق عليه، فإن لم يكن له مال اقترض عليه وأنفق عليه، فإذا بنى الحائط كان بينهما كما كان.
ومن له رسم خشب أو غيره أعاده كما كان.
وإن أراد الشريك أن يبنيه لم يمنع منه، لانه يعيد رسما في ملك مشترك فلم يمنع منه، كما لو كان على الحائط رسم خشب فوقع، فإن بنى الحائط من غير إذن الحاكم نظرت فإن بناه بآلته ونقضه معا عاد الحائط بينهما كما كان برسومه وحقوقه لان الحائط عاد بعينه وليس للبانى فيه إلا أثر في تأليفه، وإن بناه بغير آلته كان الحائط للبانى، لا يجوز لشريكه أن ينتفع من غير اذنه، فإن أراد البانى نقضه كان له ذلك لانه ملكه لا حق لغيره فيه فجاز له نقضه، فان قال له الممتنع لا تنقض وأنا أعطيك نصف القيمة لم يجز له نقضه، لان على هذا القول يجبر على البناء.
فإذا بناه أحدهما وبذل له الآخر نصف القيمة وجب تبقينه وأجبر عليه، كما أجبر
على البناء.
وإن قلنا بقوله الجديد فأراد الشريك أن يبنيه لم يمنع، لانه يعيد رسما في ملك مشترك وهو عرصة الحائط فلم يمنع منه، فان بناه بآلته فهو بينهما، ولكل واحد منهما أن ينتفع به ويعيد ماله من رسم خشب.
وان بناه بآلة أخرى فالحائط له، وله أن يمنع الشريك من الانتفاع به، وان أراد نقضه كان له، لانه لا حق لغيره فيه.
فان قال له الشريك لا تنقضه وأنا أعطيك نصف القيمة لم يمنع من نقضه، لان على هذا القول لو امتنع من البناء في الابتداء لم يجبر.
فإذا بناه لم يجبر على تبقيته.
وان قال: قد كان لى عليه رسم خشب وأعطيك نصف القيمة وأعيد رسم الخشب، قلنا للبانى: اما أن تمكنه من اعادة رسمه وتأخذ نصف القيمة.
واما أن تنقضه ليبنى معك، لان القرار مشترك بينهما، فلا يجوز أن يعيد رسمه، ويسقط حق شريكه.(13/415)
(الشرح) الاحكام: إذا كان بينهما حائط مشترك فانهدم أو هدماه، فدعا أحدهما إلى بنائه وامتنع الآخر، فهل يجبر الممتنع؟ فيه قولان.
هكذا لو كان بينهما نهر عظيم، أو بئر فاجتمع فيه الطين، فهل يجبر الممتنع من كسحها على ذلك؟ فيه قولان.
وقال أبو حنيفة: لا يجبر الممتنع على بناء الحائط، ويجبر على كسح النهر والبئر.
وقال أحمد لا يجبر على البناء لانه إذا كان الممتنع مالكه لم يجبر على البناء في ملكه المختص به، وإن كان الممتنع الآخر لم يجبر على بناء ملك غيره ولا المساعدة فيه.
وقال مالك وأبو ثور: وأحد القولين عندنا يجبر قال العمرانى في البيان: وعندنا الجميع على قولين - وهو يعنى بالجميع الحائط
والبئر والنهر في البناء وكسح الطين قال في القديم: يجبر الممتنع منهما.
وبه قال مالك رحمه الله تعالى.
واختاره ابن الصباغ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " فإذا لم يجبر الممتنع أضررنا بشريكه، ولانه إنفاق على ملك مشترك لازالة الضرر فأجبر الممتنع منهما، كالانفاق على الحيوان المشترك.
وقال في الجديد: لا يجبر الممتنع، لانه إنفاق على ملك لو انفرد بملكه لم يجبر عليه، فإذا كان مشاركا لغيره لم يجبر عليه، كما لو كان بينهما براح من الارض لا بناء عليه فدعا أحدهما الآخر إلى البناء فامتنع فانه لا يجبر، وعكس ذلك البهيمة والعبد المشتركين، لما لزم صاحبه الانفاق عليه عند الانفراد بملكه أجبر على الانفاق عليه إذا شارك غيره.
وأما الخبر فلا حجة فيه، لانا لو أجبرنا الشريك لاضررنا به، والضرر لا يزال بالضرر، فإذا قلنا بقوله القديم فطالب الشريك شريكه بالبناء لزمه الانفاق معه بقسط ما يملك من الحائط، فان امتنع أجبره الحاكم، فإن كان له مال أخذ الحاكم منه وأنفق عليه ما يخصه، وإن كان معسرا اقترض له الحاكم من الشريك أو من غيره.
وإن بناه الشريك بإذن الحاكم أو بإذن الممتنع كان الحائط ملكا بينهما كما كان(13/416)
ويرجع الذى بناه على شريكه بحصته من النفقة، وان بناه بغير اذن شريكه لا ان الحاكم لم يرجع بما أنفق، لانه متطوع بالانفاق، ثم ينظر فان بنى الحائط بآلته ومادته الاولى كان ملكا بينهما كما كان، لان المنفق انما أنفق على التأليف، وذلك أثر لا عين يملكها.
وان أراد الذى بناه نقضه لم يكن له ذلك لان الحائط ملك لهما، وان بنى له بآلة أخرى كان الحائط للذى بناه، وله أن يمنع شريكه من
الارتفاق به، فان أراد الذى بناه نقضه كان له ذلك لانه منفرد بملكه وان قال له الممتنع لا تنقض وأنا أدفع ما يخصنى من النفقة أجبر الذى بناه على التبقية، لانه لما أجبر الشريك على البناء أجبر الذى بنى على التبقية ببذل النفقة وان كان بينهما نهر أو بئر وأنفق أحدهما بغير اذن شريكه أو اذن الحاكم فانه لا يرجع بما أنفق، وليس له أن يمنع شريكه من نصيبه من الماء، لان الماء ينبع في ملكيهما، وليس له الا نقل الطين، وذلك أثر لا عين بخلاف الحائط.
وان قلنا بقوله الجديد لم يجبر الممتنع منهما.
فان أراد أحدهما بناءه لم يكن للآخر منعه من ذلك لانه يزول به الضرر عن الثاني، فان بناه بآلته كان الحائط ملكا لهما كما كان، فلو أراد الذى بناه أن ينقضه لم يكن له ذلك لان الحائط ملكهما، فهو كما لو لم ينفرد ببنائه.
وان بناه بآلة له فهو ملك الذى بناه وله أن يمنع شريكه من الارتفاق به.
فان أراد الذى بناه أن ينقضه كان له ذلك لانه ملك له ينفرد به، فان قال له الممتنع: لا تنقض وأنا أدفع اليك ما يخصنى من النفقة لم يجبر الذى بنى على التبقية لانه لما لم يجبر على البناء في الابتداء لم يجبر على التبقية في الانتهاء فإن طالب الشريك الممتنع بنقضه لم يكن له ذلك الا أن يكون له خشب فيقول له اما أن تأخذ منى ما يخصنى من النفقة وتمكنني من وضع خشبي أو تقلع حائطك لنبنيه جميعا فيكون له ذلك لانه ليس للذى بناه ابطال رسوم شريكه، هذا إذا انهدم أو هدماه من غير شرط البناء.
فأما إذا هدماه على أن يبنيه أحدهما، أو هدمه أحدهما متعديا.
قال الشافعي رضى الله عنه أجبرته على البناء واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال هي على قولين، كما لو هدماه من غير شرط(13/417)
والذى نص عليه الشافعي رضى الله عنه إنما هو على القول القديم، وهو اختيار
المحاملى، لان الحائط لا يضمن بالمثل، ومنهم من قال يجبر قولا واحدا.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ في الجديد، ولانه هدمه بهذا الشرط فلزمه الوفاء به.
(فرع)
وإن كان الحائط بينهما نصفين فهدماه أو انهدم ثم اصطلحا على أن يبنياه وينفقا عليه بالسوية ويكون لاحدهما ثلث الحائط وللآخر ثلثاه، ويحمل عليه كل واحد منهما ما شاء فلا يصح هذا الصلح، لان الصلح هو أن يترك بعض حقه بعوض.
وههنا قد ترك أحدهما لصاحبه سدس الحائط بغير عوض فلم يصح كما لو ادعى على رجل دارا فأقر له بها ثم صالحه المدعى منها على سكناها فلا يصح لانه ملكه الدار والمنفعة، ثم مصالحته على منفعتها ترك حق له بلا عوض كذلك ههنا مثله، ولان هذا شرط فاسد، لان كل واحد منهما شرط أن يحمل عليه ما شاء والحائط لا يحمل ما شاء فلم يصح، كما لو صالحه على أن يبنى على حائطة ما شاء فانه لا يصح لان ذلك مجهول.
وإن اصطلحا على أن يبنيا وينفق عليه أحدهما ثلث النفقة، وينفق عليه الآخر ثلثى النفقة، ويحمل على الحائط خشبا معلومة، فقد قال الشيخ أبو حامد في دراسة أولى يصح الصالح، لانه لما زاد في الانفاق ترك الآخر بعض حقه بعوض.
وقال في درسه مرة ثانية: لا يصح هذا الصلح لان النفقة التى تزيد على نفقة حقه مجهولة، والصلح على عوض مجهول لا يصح، ولانه صلح على ما ليس بموجود، لان الحائط وقت العقد معدوم اه قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان كان لاحدهما علو وللآخر سفل والسقف بينهما، فانهدم حيطان السفل لم يكن لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء قولا واحدا لان حيطان السفل لصاحب السفل فلا يجبر صاحب العلو على بنائه، وهل لصاحب
العلو إجبار صاحب السفل على البناء؟ فيه قولان.
فإن قلنا يجبر ألزمه الحاكم، فإن لم يفعل وله مال باع الحاكم عليه ماله وأنفق عليه.
وإن لم يكن له مال اقترض(13/418)
عليه، فإذا بنى الحائط كان الحائط ملكا لصاحب السفل لانه بنى له وتكون النفقة في ذمته ويعيد صاحب العلو غرفته عليه وتكون النفقة على الغرفة وحيطانها من ملك صاحب العلو دون صاحب السفل لانها ملكه لا حق لصاحب السفل فيه وأما السقف فهو بينهما وما ينفق عليه فهو من مالهما، فان تبرع صاحب العلو وبنى من غير اذن الحاكم لم يرجع صاحب العلو على صاحب السفل بشئ، ثم ينظر فإن كان قد بناها بآلتها كانت الحيطان لصاحب السفل لان الآلة كلها له وليس لصاحب العلو منعه من الانتفاع بها ولا يملك نقضها لانها لصاحب السفل وله أن يعيد حقه من الغرفة، وإن بناها بغير آلتها كانت الحيطان لصاحب العلو وليس لصاحب السفل أن ينتفع بها ولا أن يتد فيها وتدا ولا يفتح فيها كوة من غير إذن صاحب العلو، ولكن له أن يسكن في قرار السفل لان القرار له ولصاحب العلو أن ينقض ما بناه من الحيطان لانه لا حق لغيره فيها، فإن بذل صاحب السفل القيمه ليترك نقضها لم يلزمه قبولها، لانه لا يلزمه بناؤها قولا واحدا فلا يلزمه تبقيتها ببذل العوض.
والله أعلم (الشرح) قوله " يتد " مثل يعد ويزن، وهو الفعل المسمى عند النحاة بالمثال تحذف فاء مضارعة.
أما الاحكام: فإن كان حيطان العلو لرجل وحيطان السفل لآخر، والسقف بينهما فانهدم الجميع فليس لصاحب السفل أن يجبر صاحب العلو على البناء قولا واحدا، لان حيطان السفل لصاحب السفل فلا يجبر غيره على بنائها، وهل لصاحب العلو المطالبة بإجبار صاحب السفل على بناء السفل؟ على القولين في
الحائط، فإن قلنا بقوله القديم أجبر الحاكم صاحب السفل على البناء، وان لم يكن له مال اقترض عليه من صاحب العلو ومن غيره وبنى له سقفه، وكان ذلك دينا في ذمته إلى أن يوسر.
وهكذا إذا بنى صاحب العلو حيطان السفل باذن صاحب السفل أو باذن الحاكم جاز، وكانت حيطان السفل لصاحب السفل، ولصاحب العلو أن يرجع بما أنفقه على حيطان السفل على صاحب السفل، ثم يعيد علوه كما كان.(13/419)
فان أراد صاحب العلو أن يبنى من غير إذن الحاكم وأذن صاحب السفل لم يمنع من ذلك لانه يستحق الحمل على حيطان السفل، ولا يرجع بما انفق عليها لانه متطوع، فان بنى السفل بآلته كان ملكا لصاحب السفل كما كان، ويرجع لصاحب العلو نقضها، ولكن يعيد علوه عليها.
وإن بناه بآلة أخرى كانت الحيطان ملكا لصاحب العلو، وليس لصاحب السفل أن يضع عليها شيئا، ولا يتد فيها وتدا، ولكن له أن يسكن في قرار السفل، لان ذلك قرار ملكه، فان أراد صاحب العلو نقض ذلك كان له ذلك لانه له أن يسكن في قرار السفل، لان ذلك قرار ملكه، فان أراد صاحب العلو نقض ذلك كان له ذلك لانه ملكه فان بذل صاحب السفل ما أنفق ولا ينقض لم يجبر صاحب العلو على التبقية لانه لم يجبر على البناء في الابتداء فلم يجبر على التبقية في الانتهاء (مسألة) قال الشافعي رضى الله عنه: ولو ادعى على رجل بيتا في يده فاصطلحا بعد الاقرار على أن يكون لاحدهما سطحه، والبناء على جدرانه بناء معلوما فجائز، واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة، فقال أبو العباس بن سريج وصورتها أن يدعى رجل على رجل دارا في يده علوها وسفلها فيقر له بها، ثم
اصطلحا على أن يكون السفل والعلو للمقر له.
ويبنى المقر على العلو بناء معلوما.
فيصح الصلح، ويكون ذلك فرعا للعارية وليس بصلح معاوضة، لان صلح المعاوضة إسقاط بعض حقه بعوض، وهذا ترك بعض حقه بلا عوض، لانه ملك العلو والسفل بالاقرار، ثم ترك المقر له للمقر العلو بغير عوض فيكون عارية له الرجوع فيها قبل البناء، وليس له الرجوع بعد البناء، كما قال الشافعي رضى الله عنه: إذا ادعى على رجل دارا فأقر له بها ثم صالحه منها على سكناها فلا يكون صلحا وإنما يكون عارية ومنهم من قال صورتها أن يدعى رجل على رجل سفل بيت عليه علو ويقر أن العلو للمدعى، فيقر المدعى عليه للمدعى بالسفل، ثم اصطلحا على أن يكون السفل للمدعى عليه، على أن المدعى يبنى على العلو غرفة معلومة البناء فيصح(13/420)
قال الشيخ أبو حامد الاسفراينى: وهذا أصح التأويلين، وقال ابن الصباغ: الاول أشبه بكلام الشافعي رحمه الله تعالى.
(مسألة ثانية) إذا ادعى رجل دارا في يد رجلين فأقر له أحدهما بنصفها، وانكر الآخر وحلف له.
فصالح المقر للمدعى عن نصف الدار على عوض وصار ذلك النصف للمقر، فهل لشريكه المنكر أن يأخذ ذلك بالشفعة؟ قال الشيخ أبو حامد: إن كان ملكا بجهتين مختلفتين، مثل أن كان أحدهما ورث ما بيده والآخر ابتاع ما بيده، فللشريك المنكر الشفعة، لان الجهتين إذا اختلفتا أمكن أن يكون نصيب أحدهما مستحقا، فيدعيه صاحبه فيعطيه ثم يملكه بالصلح فتثبت فيه الشفعة.
وإن اتفقت جهة الملك لهما بالارث مثلا أو الابتياع.
ففيه وجهان
(أحدهما)
ليس للمنكر الاخذ بالشفعة، لانه يقر بأن أخاه أقر بنصف
الدار بغير حق ولم يملكه بالصلح.
وهذا يمنعه من المطالبة بالشفعة
(والثانى)
له المطالبة بالشفعة وهو الصحيح، لانه قد حكم بنصفها للمقر له وحكم بأنه انتقل إلى المقر له بالصلح، مع أنه يحتمل أن يكون قد انتقل إليه نصيب المقر من غير أن يعلم الآخر.
وأما ترتيب ابن الصباغ فيها فقال: إن كان إنكار المنكر مطلقا، كأن أنكر ما ادعاه فله الاخذ بالشفعة.
وان قال: هذه الدار لنا ورثناها عن أبينا، فهل له الاخذ بالشفعة؟ فيه وجهان (مسألة ثالثة) قال الشافعي رضى الله عنه: إذا أقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق لرجل ثم صالحه منه على شئ بعينه فالصلح جائز، والوارث المقر متطوع ولا يرجع على إخوته بشئ، واختلف أصحابنا في صورتها، فمنهم من قال: صورتها أن يدعى رجل على جماعة ورثة لرجل دارا في أيديهم كان أبوهم قد غصبه إياها فأقر له أحدهم بذلك وقال صدقت في دعواك وقد وكلنى شركائي على مصالحتك بشئ معلوم، فحكم هذا في حق شركائه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه عينا مع الانكار، على ما مضى بيانه وقال أبو على الطبري: تأويلها أن يدعى رجل على جماعة ورثة دينا على(13/421)
مورثهم، وأن هذه الدار رهن عنده بالدين، فيقر له أحدهم بصحة دعواه ويصالحه عن ذلك بشئ، فحكمه حكم الأجنبي إذا صالح عن المدعى عليه بالدين مع إنكاره، قال لان الشافعي رحمه الله قال: وأقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق.
ولو أقر بالدار يقال: أقر بالدار، وإنما أراد رهن الدار، وأيهما كان فقد مضى حكمه.
قال الشيخ أبو حامد: والتأويل الاول أصح، وقد بين الشافعي رحمه الله
ذلك في الام.
(مسألة رابعة) قال الشافعي في الام: ولو ادعى رجل على رجل زرعا في الارض فصالحه من ذلك على دراهم فجائز، وهذا كما قال: إذا ادعى رجل على رجل زرعا في أرض فأقر له به فصالحه منع بعوض، فان كان بشرط القطع صح الصلح، وإن كانت الارض للمقر كان له تبقية الزرع، لان الزرع له، والارض له.
فان قيل هلا كان للمدعى إجباره على القطع، لان له عوضا في ذلك، وهو أنه ربما أصابته جائحة فرفعه إلى الحاكم، يرى إيجاب وضع الجوائح فيضمنه ذلك؟ قال ابن الصباغ: فالجواب أن ذلك إنما يكون إذا لم يشرط القطع.
فأما مع شرط القطع فلا يضمن البائع الجوائح، وان صالحه من غير شرط القطع، فان كانت الارض لغير المقر لم يصح الصلح، وان كانت الارض للمقر فهل يصح الصلح؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في البيع وان كان الزرع بين رجلين، فادعى عليهما رجل به فأقر له أحدهما بنصفه وصالحه منه على عوض، فان كانت الارض لغير المقر لم يصح، سواء كان مطلقا أو بشرط القطع، لانه ان كان مطلقا فلا يصح لانه زرع أخضر فلا يصح بيعه من غير شرط القطع، وان كان شرط القطع لم يصح أيضا لان نصيبه لم يتميز عن نصيب شريكه، ولا يجبر شريكه على قلع زرعه، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، وقد مضى ذكر أقوالهما في البيوع وذكر القاضى أبو الطيب أن ذلك يبنى على القولين في القسمة، هل هي بيع أو اقرار حق؟ وان كانت الارض للمقر - فان قلنا من اشترى زرعا في أرضه(13/422)
يصح من غير شرط القطع صح الصلح ههنا، وان قلنا لا يصح أن يشترى زرعا
في أرضه الا بشرط القطع لم يصح ههنا (فرع)
قال ابن الصباغ: وان ادعى على رجل زرعا في أرضه فأقر له بنصفه ثم صالحه منه على نصفه على نصف الارض لم يجز، لان من شرط بيع الزرع قطعه.
وذلك لا يمكن في المشاع، وان صالحه منه عى جميع الارض بشرط القطع على أن يسلم إليه الارض فارغة صح، لان قطع جميع الزرع واجب نصفه بحكم الصلح والباقى لتفريغ الارض فأمكن القطع وجرى مجرى من اشترى أرضا فيها زرع وشرط تفريغ الارض فانه يجوز، كذلك ههنا وان أقر له بجميع الزرع وصالحه من نصفه على نصف الارض ليكون الزرع والارض بينهما نصفين، وشرط القطع في الجميع، فان كان الزرع زرع في الارض بغير حق جاز الصلح لان الزرع يجب قطع جميعه، وان كان الزرع زرع لحق لم يصح الصلح، لانه لا يمكن قطع الجميع وذكر الشيخ أبو حامد الاسفراينى في التعليق أن أصحابنا قالوا: إذا كان له زرع أرض غيره فصالح صاحب الزرع صاحب الارض من نصف الزرع على نصف الارض بشرط القطع جاز، لان نصف الزرع قد استحق قطعه بالشرط، والنصف الاخر قد استحق أيضا قطعه لانه يحتاج إلى تفريغ الارض ليسلها فوجب أن يجوز.
قال وهذا ضعيف.
أما النصف فقد استحق قطعه.
وأما النصف الاخر فلا يحتاج إلى قطعه.
لانه يمكن تسليم الارض وفيها زرع قال ابن الصباغ: ولان باقى الزرع ليس يمنع فلا يصح شرط قطعه في العقد، ويفارق ما ذكرناه إذا أقر بنصف الزرع وصالحه على جميع الارض، لانه بشرط تفريغ المبيع، والله أعلم وبه التوفيق ومنه العون سبحانه(13/423)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الحوالة
تجوز الحوالة بالدين، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مطل الغنى ظلم، فإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع " (الشرح) الحول: الحيلة أو القوة أو السنة، وحال الغلام وحالت الدار أتى عليها الحول.
وحالت القوس اعوجت، وحال اللون تغير.
والحال: الطين.
والتحول التنقل والاسم الحول، ومنه قوله تعالى (لا يبغون عنها حولا) وذكر الازهرى عن الزجاج أن الحول مصدر كالصغر، وأحال الرجل أتى بالمحال، وأحال عليه بدينه، والاسم الحوالة بفتح الحاء، المحالة في قولهم: لا محالة.
أي لابد.
والملئ: الغنى الواسع الثراء، ومن هنا تكون الحوالة نقل حق من ذمة إلى ذمة من قولهم: حولت الشئ من موضع إلى موضع إذا نقله إليه.
أما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَاهُ البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه باللفظ الذى ساقه المصنف، ورواه أحمد بلفظ " مطل الغنى ظلم، ومن أحيل على ملئ فليحتل " وعند ابن ماجه من حديث ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مطل الغنى ظلم وإذا أحلت على ملئ فاتبعه " وإسناده: حدثنا اسماعيل بن توبة ثنا هشيم عن يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر.
واسماعيل بن توبة قال ابن أبى حاتم صدوق وبقية رجاله رجال الصحيح.
وقد أخرجه الترمذي وأحمد أيضا والحوالة لا تتم إلا بثلاثة أنفس، محيل.
وهو من يحيل بما عليه، ومحتال.
وهو من يحتال بما له من الحق، ومحال عليه، وهو من ينتقل حق المحتال إليه.
واختلفوا هل هي بيع دين بدين، ورخص فيه فاستثنى عن بيع الدين بالدين.
أو هي استيفاء.
وقيل هي عقد إرفاق مستقبل، ويشترط في صحتها رضا المحيل بلا خلاف.
والمحتال عند الاكثر، والمحال عليه عند بعض، ويشترط أيضا تماثل التقدير(13/424)
في الصفات وأن يكون في شئ معلوم، ومنهم من خصها بالنقدين ومنعها في الطعام لانها بيع طعام قبل أن يستوفى.
قوله " مطل الغنى " الجمهور على أنه من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمعنى أنه يحرم على الغنى القادر أن يمطل صاحب الدين، بخلاف العاجز.
وقيل هو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي يجب على المستدين أن يوفى صاحب الدين.
ولو كان المستحق للدين غنيا فإن مطله ظلم، فكيف إذا كان فقيرا، فإنه يكون ظلما بالاولى، ولا يخفى بعد هذا.
كما قال الحافظ بن حجر والمطل في الاصل المد.
وقال الازهرى: المدافعة قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر.
قوله " وإذا أتبع " بهمز القطع وإسكان التاء المثناة الفوقية على البناء للمجهول قال الامام النووي: هذا هو المشهور في الرواية واللغة.
وقال القرطبى: أما أتبع فبضم الهمزة وسكون التاء مبنيا لما لم يسم فاعله عند الجميع.
وأما فليتبع فالاكثر على التخفيف.
وقيده بعضهم بالتشديد، والاول أجود، وتعقب الحافظ ما ادعاه من الاتفاق.
يقول الخطابى: إن أكثر المحدثين يقولونه.
يعنى اتبع بتشديد التاء والصواب التخفيف.
والمعنى إذا أحيل فليحتل كما وقع في الرواية الاخرى قوله " على ملئ " قيل هو بالهمز، وقيل بغير همز، ويدل على ذلك قول الكرماني: الملئ كالغنئ لفظا ومعنى وقال الخطابى: إنه في الاصل بالهمز.
ومن رواه بتركها فقد سهله قوله " فاتبعه " قال الحافظ بن حجر: هذا بتشديد التاء بلا خلاف
(قلت) وحديث أبى هريرة وحديث ابن عمر يدلان على أنه يجب على من أحيل بحقه على ملئ أن يحتال، والى هذا ذهب أهل الظاهر وأكثر الحنابلة وأبو ثور وابن جرير، وحمله الجمهور على الاستحباب.
قال ابن حجر: ووهم من نقل فيه الاجماع.
وقد اختلف في المطل من الغنى هل هو كبيرة أم لا؟ وقد ذهب الجمهور إلى أنه موجب للفسق، واختلفوا هل يفسق بمرة أو يشترط التكرار؟ وهل تعتبر(13/425)
الطلب من المستحق أم لا؟ قال في فتح الباري: وهل يتصف بالمطل من ليس القدر الذى عليه حاضرا عنده، لكنه قادر على تحصيله بالتكسب مثلا؟ قولان عندنا (أولهما) عدم الوجوب
(والثانى)
الوجوب مطلقا، وفصل أصحاب قول ثالث بين أن يكون أصل الدين بسبب يعصى به فيجب وإلا فلا.
قال الشوكاني: والظاهر الاول لان القادر على التكسب ليس بملئ، والوجوب إنما هو عليه فقط، لان تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا تجوز إلا على دين يجوز بيعه، كعوض القرض، وبدل المتلف، فأما مالا يجوز بيعه كدين السلم ومال الكتابة فلا تجوز الحوالة به، لان الحوالة بيع في الحقيقة، لان المحتال يبيع ماله في ذمة المحيل بما له في ذمة المحال عليه، والمحيل يبيع ماله في ذمة المحال عليه بما عليه من الدين، فلا يجوز إلا فيما يجوز بيعه.
(الشرح) الاحكام: تجوز الحوالة بعوض القرض وبدل المتلف، لانه حق ثابت مستقر في الذمة، فجازت الحوالة به كبيعه قال الشيخ أبو حامد الاسفرايينى: وتجوز الحوالة بثمن المبيع لانه دين
مستقر.
وهل تجوز الحوالة بالثمن في مدة الخيار؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما)
وهو قول القاضى أبى حامد: لا تصح الحوالة به لانه ليس بثابت.
(والثانى)
يصح لانه يؤول إلى اللزوم ولا تجوز الحوالة بالمبيع لانه غير مستقر، لانه قد يتلف قبل القبض فيبطل البيع فيه.
(فرع)
ولا تجوز الحوالة بدين السلم ولا عليه، لان دين السلم غير مستقر لانه يعرضه للفسخ انقطاع المسلم فيه، ولا تصح الحوالة به لانها لم تصح إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه والسلم لا يجوز أخذ العوض عنه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم " من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره " وأما المكاتب إذا حصلت عليه ديون لغير سيده من المعاملة، وله ديون جاز(13/426)
أن يحيل بعض غرمائه على بعض، وجاز لغرمائه أن يحيلوا عليه بما لهم في ذمته.
لان الحق ثابت في ذمته.
وأما ما في ذمته من مال الكتابة فلا يجوز لسيده أن يحيل به عليه، لانه غير مستقر، لان له أن يعجز نفسه متى شاء، فلا معنى للحوالة به، وإن أراد المكاتب أن يحيل سيده بمال الكتابة الذى عليه على غريم للمكاتب قال ابن الصباغ صحت الحوالة.
(قلت) وقد قال أصحاب أحمد كقولنا في كل ما ذكرنا وفى الدين على المكاتب وله حكمه حكم الاحرار، وكذلك ما في ذمته من مال الكتابة له أن يحيل سيده على غرمائه وتبرأ ذمته من مال الكتابة بهذه الحوالة، ويكون ذلك بمنزلة القبض، ولا يصح لسيده أن يحيل مال الكتابة إلى غرمائه لانه يستطيع أن يعجز نفسه.
واشترط صاحب المجموع أن يكون النجم قد حل لانه بمنزلة أن يقضيه
ذلك من يده، وان كان لسيده عليه مال من جهة المعاملة فهل يجوز للسيد أن يحيل غريما له عليه، فيه وجهان حكاهما الطبري
(أحدهما)
يصح.
ولم يذكر ابن الصباغ غيره، لانه دين لازم
(والثانى)
لا يصح لانه قد يعجز نفسه فيسقط ما في ذمته لنفسه من دين المعاملة وغيرها، لان السيد لا يثبت له مال على العبد قال الصيمري: وان أحاله رجل على عبده - فإن كان مأذونا في التجارة - جاز، وان كان غير مأذون ففيه وجهان، الاصح لا تصح الحوالة (فرع)
إذا أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدخول لم يصح لانه دين غير مستقر، وان أحالها الزوج به صح، لانه له تسليمه إليها وحوالته به تقوم مقام تسليمه، وان أحالت به بعد الدخول صح لانه مستقر قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
واختلف أصحابنا في جنس المال الذى تجوز به الحوالة، فمنهم من قال لا تجوز الا بما له مثل، كالاثمان والحبوب وما أشبهها، لان القصد بالحوالة اتصال الغريم إلى حقه على الوفاء من غير زيادة ولا نقصان، ولا يمكنه ذلك الا فيما له مثل، فوجب أن لا يجوز فيما سواه، ومنهم من قال تجوز في كل ما يثبت(13/427)
في الذمة بعقد السلم كالثياب والحيوان، لانه مال ثابت في الذمة يجوز بيعه قبل القبض، فجازت الحوالة به كذوات الامثال.
(فصل)
ولا تجوز الا بمال معلوم، لانا بينا أنه بيع فلا تجوز في مجهول واختلف أصحابنا في ابل الدية، فمنهم من قال لا تجوز.
وهو الصحيح لانه مجهول الصفة فلم تجز الحوالة به كغيره.
ومنهم من قال تجوز لانه معلوم العدد والسن فجازت الحوالة به.
(الشرح) الاحكام: تجوز الحوالة بالدراهم والدنانير وبما له مثل كالطعام
والادهان، وما استحدث في عصرنا هذا من صناعات بخارية وكهربية كالسيارة والثلاجة والغسالة والمرناة (التلفزيون) والمذياع بشرط أن تكون جديدة محددة الصفات حتى تتحق المثلية، فإذا كانت مستعملة وأمكن تحديد الهرش من حيث زمن الاستعمال وقدر الهرش وضبطه ووجد المثيل بشهادة الخبير الامين من غير زيادة أو نقصان جازت الحوالة، لان القصد بالحوالة ايفاء الغريم حقه من غير زيادة ولا نقصان، وذلك يحصل بما ذكرناه.
وهل تصح الحوالة بما لا مثل له مما يضبط بالصفة كالثياب والحيوان والعروض التى يصح السلم عليها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يصح، لانه مال ثابت في الذمة مستقر فصحت الحوالة به، كالدراهم والدنانير
(والثانى)
لا يصح، لان المثل فيه لا ينحصر، ولهذا لا يضمن بمثله في الاتلاف.
فإذا قلنا بهذا لم تجز الحوالة بإبل الدية، وإذا قلنا بالاول فهل تصح الحوالة بإبل الدية.
فيه وجهان مخرجان من القولين للشافعي رضى الله عنه: إذا جنت امرأة على رجل موضحة فتزوجها على خمس من الابل في ذمتها له أرش جنايتها عليه.
وكذلك قال في الصلح: إذا كان له في ذمته أرش جناية خمس من الابل فصالح عنها، فهل يصح.
فيه قولان
(أحدهما)
يصح لانه دين مستقر في الذمة معلوم العدد والسن.
(والثانى)
لا يصح وهو الصحيح، لانها مجهولة الصفة، لا يتعين على من وجبت عليه أن يسلمها بخصوصها(13/428)
وقال أصحاب أحمد لا تصح الحوالة فيما لا يصح السلم فيه، لانه لا يثبت في الذمة، ومن شرط الحوالة تساوى الدينين، فأما ما يثبت في الذمة سلما غير المثليات كالمذروع والمعدود، ففى صحة الحوالة به وجهان
(أحدهما)
لا تصح لان
المثل فيه لا يتحرر، ولهذا لا يضمنه بمثله في حالة الاتلاف (الثاني) تصح، ذكره القاضى من الحنابلة قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا تجوز الا أن يكون الحقان متساويين في الصفة والحلول والتأجيل، فإن اختلفا في شئ من ذلك لم تصح الحوالة، لان الحوالة ارفاق كالقرض، فلو جوزنا مع الاختلاف صار المطلوب منه طلب الفضل، فتخرج عن موضوعها، فان كان لرجل على رجلين ألف على كل واحد منهما خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه خمسمائة، فأحال عليهما رجلا له عليه ألف، على أن يطالب من شاء منهما بألف، ففيه وجهان
(أحدهما)
تصح، وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله، لانه لا يأخذ الا قدر حقه.
(والثانى)
لا تصح، وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب رحمه الله، لانه يستفيد بالحوالة زيادة في المطالبة، وذلك لا يجوز، ولان الحوالة بيع فإذا خيرناه بين الرجلين صار كما لو قال " بعتك أحد هذين العبدين " (الشرح) ولا تصح الحوالة الا ان كان الحقان من جنس واحد، فإن كان عليه لرجل دنانير فأحاله بها على رجل له عليه دراهم، أو حال من له عليه حنطة على من له شعير أو ذرة لم تصح الحوالة، لان موضوع الحوالة أنها لا تفتقر إلى رضى المحال عليه، فلو صححناها بغير جنس الحق لاشترط فيها رضاه، لانه لا يجبر على تسليم غير الجنس الذى عليه، ولان الحوالة تجرى مجرى المقاصة، لان المحبل سقط ما في ذمته بما له في ذمة المحال عليه، ثم المقاصة لا تصح من جنس بجنس آخر وكذلك الحوالة، ولا تصح الحوالة الا ان كان الحقان من نوع(13/429)
واحد لما ذكرناه في الجنس.
فإن كان له على رجل ألف صحاح، فأحاله بها على من له عليه ألف مكسرة، أو كان بالعكس من ذلك لم تصح الحوالة، لان الحوالة في الحقيقة بيع دين بدين، وبيع الدراهم بالدراهم صرف من شرطه القبض في المجلس إلا ان جوزنا تأخير القبض في الحوالة، لانه عقد إرفاق معروف، فإذا دخل فيه الفضل صار بيعا وتجارة، وبيع الدين بالدين لا يجوز.
ألا ترى أن القرض في الحقيقة صرف، لانه يعطى درهم بدرهم، ولكن جوز تأخير القبض فيه لانه إرفاق.
ولو قال أقرضتك هذه الدراهم المكسرة لتردها على صحاحا لم يصح.
وكذلك هذا مثله.
(فرع)
وإن كان لرجل على رجلين ألف درهم كل واحد خمسمائة، وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه، فأحاله أحدهما على آخر بألف برئت ذمتهما مما له عليهما وإن أحال عليهما رجلا له عليه ألف ليأخذ من كل واحد منهما خمسمائة صح.
وإن أحاله عليهما على أن يطالب من شاء منهما بالالف فهل تصح الحواله، فيه وجهان حكاهما أبو العباس بن سريج
(أحدهما)
تصح الحوالة، وهو اختيار الشيخ أبى حامد الاسفرايينى، لان المحتال لا يأخذ الا قدر حقه، لان الزيادة انما تكون في القدر أو الصفة، ألا ترى أنه يجوز أن يحيل على من هو أملا منه
(والثانى)
لا تصح الحوالة، وهو اختيار القاضى أبى الطيب لانه يستفيد بهذه الحوالة زيادة في المطالبة، لانه كان يطالب واحدا فصار يطالب اثنين، ولان الحوالة بيع فإذا كان الحق على اثنين كان المقبوض منه منهما مجهولا فلم يصح وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
ولا تجوز الحوالة الا على من له عليه دين، لانا بينا أن الحوالة بيع ما في الذمة بما في الذمة، فإذا أحال من لا دين له عليه كان بيع معدوم فلم
تصح.
ومن أصحابنا من قال تصح إذا رضى المحال عليه، لانه تحمل دين يصح إذا كان عليه مثله فصح، وان لم يكن عليه مثله كالضمان فعلى هذا يطالب المحيل(13/430)
بتخليصه، كما يطالب الضامن المضمون عنه بتخليصه، فإن قضاه بإذنه رجع على المحيل، وإن قضاه بغير إذنه لم يرجع.
(الشرح) الاحكام: إذا كان لرجل على رجل حق فأحاله على من لا حق عليه: فإن لم يقبل المحال عليه الحوالة لم تصح الحوالة ولم يبرأ المحيل لانه لا يستحق شيئا على المحال عليه.
وإن قبل المحال عليه الحوالة فهل تصح الحوالة فيه وجهان
(أحدهما)
لا تصح.
وهو قول أكثر أصحابنا، وهو ظاهر كلام المزني لان الحوالة معاوضة، فإذا كان لا يملك شيئا في ذمة المحال عليه لم يصح، كما لو اشترى شاة حية بشاة ميتة.
ولانه لو أحال على من له عليه دين غير لازم أو غير مستقر أو مخالف لصفة دينه لم يصح، فلان لا تصح الحوالة على من لا دين له عليه أولى
(والثانى)
تصح الحوالة.
وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، لان المحال عليه إذا قبل الحوالة صار كأنه قال لصاحب الحق أسقط عنه حقك وأبرئه وعلى عوضه.
ولو قال ذلك للزمه لانه استدعى إتلاف ملك بعوض فكذلك هذا مثله فإذا قلنا بهذا فللمحال عليه أن يطالب المحيل بتخليصه، كما يطالب الضامن المضمون عنه بتخليصه.
وإن قبض المحتال الحق من المحال عليه بإذن المحيل، ثم وهبه المحتال للمحال عليه فهل يرجع المحال عليه على المحيل بشئ، فيه وجهان
(أحدهما)
لا يرجع عليه بشئ، لانه لم يغرم شيئا، لان ما دفع إليه رجع إليه
(والثانى)
يرجع عليه وهو المذهب، لا أنه قد غرم، وإنما يرجع عليه بسبب آخر.
وان كان عليه حق مؤجل فأحال به على رجل لا شئ له عليه، وقبل المحال عليه الحوالة - وقلنا
تصح - فإن قضاه المحال عليه الحق في محله بإذن المحيل رجع عليه، وان قضاه قبل حلول الحق لم يرجع على المحيل قبل محل الدين، لانه متطوع بالتقديم فإن اختلف المحيل والمحال عليه فقال المحال عليه: أحلت على ولا حق لك على، فأنا أستحق الرجوع عليك لانى قضيت بإذنك، وقال المحيل: بل أحلت بحق لى عليك، فالقول قول المحال عليه مع يمينه، لان الاصل براءة ذمته من الدين.
والله أعلم(13/431)
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا تصح الحوالة من غير رضا المحتال، لانه نقل حق من ذمة إلى غيرها فلم يجز من غير رضا صاحب الحق، كما لو أراد أن يعطيه بالدين عينا، وهل تصح من غير رضا المحال عليه.
ينظر فيه فإن كان على من لا حق له عليه وقلنا انه تصح الحواله على من لا حق له عليه لم تجز الا برضاه، وإن كان على من له عليه حق ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى واختيار المزني أنه لا تجوز الا برضاه لانه أحد من تتم به الحوالة فاعتبر رضاه في الحوالة كالمحتال
(والثانى)
وهو المذهب أنه تجوز، لانه تفويض قبض فلا يعتبر فيه رضى من عليه، كالتوكيل في قبضه، ويخالف المحتال فإن الحق له فلا ينقل بغير رضاه كالبائع، وههنا الحق عليه فلا يعتبر رضاه كالعبد في البيع (الشرح) الاحكام: اعتبار رضى المحتال، هو مذهبنا ومذهب مالك رضى الله عنه.
وقال أحمد وأصحابه وداود وأهل الظاهر: لا يعتبر الرضا.
قال الخرقى ومن أحيل بحقه على ملئ فواجب عليه أن يحتال وقال ابن قدامة، قال أحمد في تفسير الملئ " كان الملئ عنده أن يكون مليئا بماله " وقوله وبدنه ونحو هذا، فإذا أحيل على من هذه صفته لزم المحتال والمحال
عليه القبول ولم يعتبر رضاهما.
وقال أبو حنيفة يعتبر رضاهما، لانها معاوضة فيقتضى الرضا من المتعاقدين.
(قلت) ودليل أحمد وداود وأهل الظاهر قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أحيل على ملئ فليحتل " وهذا أمر، والامر يقتضى الوجوب أما دليلنا فان الحق قد تعلق بذمة المحيل فلا يملك نقله إلى غير ذمته بغير رضا من له الحق، كما لو تعلق بعين فليس له أن ينقله إلى عين أخرى بغير رضا من له الحق.
وأما الحديث فمحمول على الاستحباب وأما المحيل فان البغداديين من أصحابنا قالوا يعتبر رضاه لان الحق عليه فلا يتعين عليه جهة قضائه، كما لو كان له دراهم في كيسه فليس لصاحب الحق أن يطالب باجباره على أن يقضيه حقه من كيس معين.(13/432)
وأما الخراسانيون فقالوا: هل يعتبر رضا المحيل؟ فيه وجهان.
وصورتها أن يقول المحتال عليه لرجل أحلتك على نفسي بالحق الذى لك على فلان، فإذا قال: قبلت، فهل يصح؟ على الوجهين بناء على الوجهين فيما لو قال: ضمنت عنه بشرط أن تبرئه.
وعندي أن هذين الوجهين انما يتصوران في المحال عليه، إذا لم يكن عليه حق للمحيل - وقلنا: تصح الحوالة على من لا حق له عليه برضاه - فأما إذا كان عليه حق للمحيل فهل يعتبر في صحة الحوالة؟ فيه وجهان.
أحدهما: وهو قول ابن القاص وأبى سعيد الخدرى وأبى سعيد الاصطخرى أن الحوالة لا تصح الا برضاه، وهو قول الزهري، لانه أحد من تتم به الحوالة فاعتبر رضاه كالمحيل والمحتال.
والثانى: وهو المذهب أن الحوالة تصح من غير رضاه، لان المحيل أقام
المحتال مقامه في القبض فلم يعتبر رضا من عليه الحق، كما لو وكل من له الحق وكيلا في القبض، فانه لا يعتبر رضا من عليه الحق.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
إذا أحال بالدين انتقل الحق إلى المحال عليه، وبرئت ذمة المحيل لان الحواله اما أن تكون تحويل حق أو بيع حق، وأيهما كان وجب أن تبرأ به ذمة المحيل.
(فصل)
ولا يجوز شرط الخيار فيه، لانه لم يبن على المغابنة فلا يثبت فيه خيار الشرط، وفى خيار المجلس وجهان
(أحدهما)
يثبت لانه بيع فيثبت فيه خيار المجلس كالصلح
(والثانى)
لا يثبت، لانه يجرى مجرى الابراء، ولهذا لا يجوز بلفظ البيع، فلم يثبت فيه خيار المجلس.
(الشرح) الاحكام: قال الشيخ أبو حامد.
اختلف أصحابنا في الحوالة هل هي بيع أو رفق، على وجهين، فمنهم من قال.
انها رفق لقوله صلى الله عليه وسلم " فإذا أحيل أحدكم على ملئ فليحتل " فندب إلى الحوالة والبيع مباح لا مندوب(13/433)
إليه، وانما المندوب إليه الرفق لقوله صلى الله عليه وسلم في القرض " قرض درهم خير من صدقة " ولان الحوالة لو كانت بيعا لدخل فيها الفضل، ولما صحت بالدين ومنهم من قال.
ان الحوالة بيع، لان البيع ضربان.
ضرب بلفظ البيع فيدخله الربح والفضل والمغابنة.
وضرب منه بغير بفظ البيع القصد منه الرفق فلا يدخله الفضل والمغابنة، ولا يقتضى التمليك كالبيع، لان المحيل يملك المحتال ماله في ذمة المحال عليه الا أنهما اختلفا في الاسم ليعرف به المطلوب من كل واحد منهما فإذا قلنا: انها رفق لم يدخلها خيار المجلس كالقرض.
وإذا قلنا: انها بيع دخلها خيار المجلس في الصرف.
وأما خيار الثلاث فلا يدخلها بالاجماع،
وعندي أن الوجهين في الحوالة على من لا حق له عليه برضا المحال مأخوذان من هذا، فإذا قلنا.
ان الحوالة رفق صحت، وان قلنا.
انها بيع لم تصح.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أحاله على ملئ فأفلس أو جحد الحق وحلف عليه لم يرجع إلى المحيل، لانه انتقل حقه إلى مال يملك بيعه فسقط حقه من الرجوع، كما لو أخذ بالدين سلعة ثم تلفت بعد القبض، وان احاله على رجل بشرط أنه ملئ فبان أنه معسر فقد ذكر المزني أنه لا خيار له، وأنكر أبو العباس هذا.
وقال له الخيار، لانه غيره بالشرط فثبت له الخيار، كما لو باعه عبدا بشرط أنه كاتب ثم بان أنه ليس بكاتب.
وقال عامة أصحابنا.
لا خيار له، لان الاعسار نقص، فلو ثبت به الخيار لثبت من غير شرط كالعيب في المبيع، ويخالف الكتابة، فان عدم الكتابة ليس بنقص، وانما هو عدم فضيلة، فاختلف الامر فيه بين أن يشرط وبين أن لا يشرط.
(الشرح) الاحكام.
إذا أحال بالحق انتقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
وبرئت ذمة المحيل، وهو قول العلماء كافة.
وقال زفر.
لا ينتقل الحق من ذمة المحيل، وانما يكون له مطالبة أيهما شاء كالضمان.
دليلنا: أن الحوالة مشتقة من تحويل الحق، والضمان مشتق من ضم ذمة(13/434)
إلى ذمة، فيجب أن يعطى كل لفظ ما يقتضيه، إذا ثبت أن الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فإن الحق لا يعود إلى ذمة المحيل بافلاس المحال عليه، ولا بموته، ولا بجحوده ويمينه، وبه قال مالك والليث وأحمد رضى الله عنهم وروى ذلك عن على كرم الله وجهه.
وقال أبو حنيفة: يرجع إليه في حالين، إذا مات المحال عليه مفلسا، وإذا
جحد الحق وحلف.
وقال أبو يوسف ومحمد: يرجع إليه في هذين الحالين، وفى حالة ثالثة إذا أفلس المحال عليه، وحجر عليه.
وقال الحكم: يرجع عليه في حالة واحدة إذا مات المحال عليه مفلسا، وأيس من الوصول إلى حقه لقوله صلى الله عليه وسلم " مطل الغنى ظلم وإذا أتبع على ملئ فليتبع ".
وقال أصحاب أحمد رضى الله عنه: لانه شرط ما فيه المصلحة للعقد في عقد معاوضة.
فيثبت الفسخ بفواته ويرجع على المحيل، كما لو شرط صفة في المبيع وقد يثبت بالشرط ما لا يثبت باطلاق العقد، بدليل اشتراط صفة في المبيع.
وقال الشافعي رضى الله عنه: فلما ندب المحتال إلى إتباع المحال عليه بشرط أن يكون المحال عليه مليئا علم أن الحق يتحول عن المحيل إلى ذمة المحال عليه تحولا يمنع المحتال من الرجوع إلى المحيل إذ لو كان له الرجوع إليه لم يكن لعقد هذا الشرط ضرورة.
وقال الربيع بن سليمان: أخبرنا الشافعي في الاملاء قال.
والقول عندنا - والله أعلم - ما قال مالك بن أنس، ان الرجل إذا أحال الرجل على الرجل بحق له، ثم أفلس المحال عليه أو مات لم يرجع المحال على المحيل أبدا، فان قال قائل ما الحجة فيه؟ قال مالك بن أنس أخبرنا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال " مطل الغنى ظلم، وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع " فان قال قائل.
وما في هذا مما يدل على تقوية قولك، قيل.
أرأيت لو كان المحال يرجع على المحيل كما قال محمد بن الحسن إذا أفلس المحال عليه في الحياة أو مات مفلسا، هل يصير المحال على من أحيل، أرأيت لو أحيل(13/435)
على مفلس وكان حقه نائيا عن المحيل هل ان يزداد بذلك الا خيرا ان أيسر المفلس، والا فحقه حيث كان، ولا يجوز الا أن يكون في هذا.
ثم قال: أما قولنا: إذا برئت من حقك وضمنه غيرى فالبراءة لا ترجع إلى أن تكون مضمونة، واما لا تكون الحوالة جائزة، فكيف يجوز أن أكون بريئا من دينك إذا أحلتك لو حلفت وحلفت ما لك على حق بررنا، فان أفلس عدت على بشئ بعد أن برئت منه بأمر قد رضيت به جائزا بين المسلمين واحتج محمد بن الحسن بأن عثمان قال في الحوالة والكفالة: يرجع صاحبه لا توى على مسلم، وهو في أصل قوله يبطل من وجهين، ولو كان ثابتا عن عثمان لم يكن فيه حجة، انما شك فيه عثمان.
ولو ثبت ذلك عن عثمان احتمل حديث عثمان خلافه.
وإذا أحال الرجل على الرجل بالحق فأفلس المحال عليه أو مات ولا شئ له لم يكن للمحتال أن يرجع على المحيل، من قبل أن الحوالة تحول حق من موضعه إلى غيره، وما تحول لم يعد، والحوالة مخالفة للحمالة، ما تحول عنه لم يعد الا بتجديد عودته عليه، ونأخذ المحتال عليه دون المحيل بكل حال.
اه قال أصحابنا: ولان عموم الخبر يدل على أنه يتبع أبدا، وان مات مفلسا أو جحد فحلف.
وروى أن جد سعيد بن المسيب كان له على عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حقا فسأله أن يحيل به على رجل فأحاله به عليه فمات المحال عليه فعاد جد سعيد يسأل عليا رضى الله عنه حقه فقال له على: اخترت علينا غيرنا أبعدك الله.
فثبت أنه اجماع لانه لم ينكر على على رضى الله عنه أحد من الصحابة رضى الله عنهم، ولانه لا يخلو اما أن يكون بالحوالة سقط حقه من ذمة المحيل، أو لم يسقط، فان لم يسقط حقه عنه كان له الرجوع عليه، سواء مات المحال عليه أو لم يمت، وسواء
أفلس أو لم يفلس.
وان كان قد سقط حقه عنه فكيف يرجع بالاعسار والجحود.
لان الحوالة كالقبض للحق فلم يرجع على المحيل، كما لو قبض عن حقه عوضا فتلف في يده.
(فرع)
إذا كان عليه لرجل فأحاله على من له عليه دين، ثم ان المحيل(13/436)
قضى المحتال صح القضاء، ولا يرجع المحيل على المحال عليه بشئ، إذا قضى بغير اذنه.
وقال أبو حنيفة رضى الله عنه وأصحابه: يكون له الرجوع عليه.
دليلنا أن الحوالة قد صحت، وانما يتبرع بالقضاء، فلم يرجع عليه بشئ، ولانه لا يملك ابطال الحوالة فكان بدفعه متبرعا، كما لو قضى عنه أجنبي.
(فرع)
فان أحاله على رجل ولم يشرط أنه ملئ أو معسر فبان أنه معسر لم يرجع المحتال على المحيل سواء علم باعساره أو لم يعلم، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك إذا لم يعلم باعساره كان له الرجوع على المحيل دليلنا أن الاعسار لو حدث بعد الحوالة وقبل القبض لم يثبت للمحتال الخيار فكذلك إذا ثبت أنه معسر حال العقد، وأما إذا أحاله على رجل بشرط أنه ملئ قال الشيخ أبو حامد، فان قال أحلتك على فلان الموسر أو على فلان وهو موسر فقبل الحوالة، ثم بان أنه معسر فقد روى المزني عن الشافعي أنه لا يرجع على المحيل أبدا، سواء كان المحال عليه غنيا أو فقيرا أفلس أو مات معدما، غره أو لم يغره.
واختلف أصحابنا فيه، فقال أبو العباس بن سريج له أن يرجع على المحيل كما لو باعه سلمة بشرط أنها سليمة من العيب فبانت بخلافها، قال وما نقله المزني فلا أعرفه للشافعي رحمه الله في شئ من كتبه.
وقال أكثر أصحابنا ليس له أن يرجع عليه كما نقله المزني، لان الاعسار لو كان غنيا في الحوالة لثبت له به
الخيار من غير شرط كالعيب في المبيع، ولان التفريط في البيع من جهة البائع حيث لم يبين العيب في سلعته.
فإذا لم يبين ثبت للمشترى الخيار.
والتفريط ههنا من جهة المحتال حيث لم يختبر حال المحال عليه ولان السلعة حق للمشترى فإذا وجدها ناقصة كان له الرجوع إلى الثمن.
وليس كذلك ذمة المحال عليه لانها ليست بنفس حق المحتال وانما هي محل لحقه فوجود الاعسار بذمة المحال عليه ليس بنقصان في حقه، وانما يتأخر حقه، ألا ترى أنه قد يتوصل إلى حقه من هذه الذمة الخربه.
بأن يوسر أو يستدين فيقضيه حقه بخلاف المبيع إذا وجده معيبا.
والله أعلم(13/437)
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن اشترى رجل من رجل شيئا بألف، وأحال المشترى البائع على رجل بالالف، ثم وجد بالمبيع عيبا فرده فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو على الطبري: لا تبطل الحوالة، فيطالب البائع المحال عليه بالمال ويرجع المشترى على البائع بالثمن لانه تصرف في أحد عوضي البيع فلا يبطل بالرد بالعيب كما لو اشترى عبدا وقبضه وباعه، ثم وجد البائع بالثوب عيبا فرده.
وقال أبو إسحاق تبطل الحوالة، وهو الذى ذكره المزني في المختصر، فلا يجوز للبائع مطالبة المحال عليه، لان الحوالة وقعت بالثمن، فإذا فسخ البيع خرج المحال به عن أن يكون ثمنا فإذا خرج عن أن يكون ثمنا ولم يتعلق به حق غيرهما وجب ان تبطل الحوالة ويخالف هذا إذا اشترى عبدا وقبضه وباعه لان العبد تعلق به حق غير المتبايعين وهو المشترى الثاني، فلم يمكن إبطاله، والحوالة لم يتعلق بها حق غيرهما، فوجب إبطالها.
وإن أحال الزوج زوجته بالمهر على رجل، ثم ارتدت المرأة قبل الدخول ففى الحوالة وجهان بناء على المسألة قبلها.
وإن أحال البائع رجلا على المشترى بالالف، ثم رد المشترى المبيع بالعيب لم تبطل الحوالة وجها واحدا، لانه تعلق بالحوالة حق غير المتعاقدين، وهو الأجنبي المحتال، فلم يجز إبطالها.
(الشرح) الاحكام: إذا اشترى رجل من رجل سيارة بألف ثم أحال المشترى البائع بالالف على رجل عليه للمشترى ألف، ثم وجد المشترى بالسيارة عيبا فردها.
فإن ردها بعد قبض البائع مال الحوالة انفسخ البيع ولم تبطل الحوالة بلا خلاف على المذهب.
بل تثبت في ذمة المحال عليه ويرجع المشترى على البائع بالثمن.
وان رده قبل قبض البائع مال الحوالة فقد ذكر المزني في المختصر أن الحوالة باطلة.
وقال في الجامع الكبير الحوالة ثابتة.
واختلف أصحابنا فيها على أربع طرق.
فقال أبو العباس بن سريج وأبو علي ابن أبى هريرة: تبطل الحوالة كما ذكر في المختصر.
لان الحوالة وقعت بالثمن(13/438)
فإذا رد المبيع بالعيب انفسخ البيع فسقط الثمن فبطلت الحوالة.
وقال أبو على في الافصاح: لا تبطل الحوالة كما ذكر في الجامع الكبير، لان الحوالة كالقبض فلم تبطل برد المبيع، كما لو قبض المحتال مال الحوالة ثم وجد المشترى بالمبيع عيبا فرده ولان المبتاع دفع إلى البائع بدل ماله في ذمته وعاوضه بما في ذمة المحال عليه، فإذا انفسخ العقد الاول لم ينفسخ الثاني، كما لو أعطاه بالثمن ثوبا وسلمه إليه ثم وجد بالمبيع عيبا فرده فإن العقد لا ينفسخ في الثوب ومنهم من قال هي على حالين.
فحيث قال الحوالة باطلة أراد إذا رد المبيع قبل أن يقبض البائع مال الحوالة.
وحيث قال الحوالة لا تبطل أراد إذا رد المبيع بعد قبض البائع مال الحوالة.
ومنهم من قال هي على حالين أخريين.
فحيث قال تبطل الحوالة أراد إذا ادعى المشترى وجود العيب فصدقه البائع، لان الحوالة تمت
بهما جميعا فانحلت بهما.
وحيث قال لا تبطل أراد دعوى المشترى أن العيب كان موجودا حال العقد وقال البائع بل حدث في يدك وكان مما يمكن حدوثه فلم يحلف البائع وحلف المشترى، فإن الحوالة لا تنفسخ، لان الحوالة تمت بهما فلم ينفسخ بأحدهما، هذا إذا كان الرد بغير مدة الخيار فأما إذا كان الرد في مدة الخيار فإن البيع ينفسخ بأحدهما: هذا إذا كان الرد بغير مدة الخيار، فأما إذا كان الرد في مدة الخيار فإن البيع ينفسخ والحوالة تبطل وجها واحدا.
سواء كان قبل القبض أو بعده، لان البيع لا يلزم قبل انقضاء الخيار، وإذا لم يلزم لم تلزم الحوالة لانها متعلقة بالثمن، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد، وهذا بدل من قوله ان الحوالة بالثمن في مدة الخيار تصح، وقد مضى فيها وجهان (فرع)
وإن أحال الزوج زوجته بالمهر ثم اردت قبل الدخول، أو وحد أحدهما بالآخر عيبا ففسخ النكاح، فان كان ذلك بعد أن قبضت المرأة مال الحوالة لم تبطل الحوالة، وان كان ذلك قبل القبض فعلى الخلاف المذكور في البيوع (فرع)
وإن أحال البائع رجلا بالثمن على المشترى ثم وجد المشترى بالمبيع عيبا فرده لم تنفسخ الحواله وجها واحدا، لانه تعلق بالحواله حق غير المتعاقدين وهو الأجنبي فلم يبطل حقه بغير رضاه، وهكذا لو أحالت الزوجه بمهرها على(13/439)
الزوج رجلا ثم ارتدت قبل الدخول لم تبطل الحواله، لانه تعلق بالحواله حق أجنبي وهو المحتال فلا يبطل من غير رضاه، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وإن أحال البائع على المشترى رجلا بألف ثم اتفقا على أن العبد كان حرا فإن كذبهما المحتال لم تبطل الحواله، كما لو اشترى عبدا وباعه ثم اتفق
البائع والمشترى أنه كان حرا فإن أقاما على ذلك بينة لم تسمع لانهما كذبا البينه بدخولهما في البيع.
وان صدقهما المحتال بطلت الحواله لانه ثبتت الحرية وسقط الثمن فبطلت الحواله (الشرح) الاحكام: ولو اشترى رجل من رجل عبدا بألف ثم أحال البائع رجلا له ألف على المشترى ثم صادف البائع والمشترى أن العبد كان حرا وقت البيع فان صدقهما المحتال على حرية العبد وقت البيع وأن الحواله وقعت بالثمن حكم ببطلان الحواله وكان للمحتال أن يطالب البائع بما له عليه لان الحواله وقعت بالثمن وقد صدقهما أنه لا ثمن للبائع على المشترى.
وان كذبهما المحتال ولم يكن هناك بينة فالقول قول المحتال مع يمينه لان الحواله تمت بالمحيل والمحتال فلا يتحلل إلا بهما.
كما أن البيع لما تم بالبيع والمشترى لا ينفسخ البيع الا بهما.
ولانه قد تعلق بالثمن حق غير المتعاقدين فلا يبطل حقه بقول المتبايعين كما لو اشترى عبدا فقبضه وباعه من آخر ثم اتفق المتبايعان الاولان أن العبد كان حرا فإنهما لا يحيلا على المبتاع الثاني.
فإذا حلف المحتال قبض المال من المشترى.
وهل يرجع المشترى على البائع بذلك.
فيه وجهان قال صاحب الفروع يرجع عليه.
لان المشترى قضى عن البائع دينه باذنه فرجع عليه وقال الطبري في العدة " لا يرجع عليه لان المشترى يقر أن المحتال ظلمه بأخذ ذلك منه فلا يرجع به على غير من ظلمه.
وان أقام البائع والمشترى بينة فهل تسمع.
فيه وجهان(13/440)
قال الشيخ أبو إسحاق: لا تسمع، لانهما كذبا البينة بدخولهما في البيع، وقال الشيخ أبو حامد وصاحب الفروع: إن شهدت البينة أن العبد حر الاصل، وأن
الحوالة وقعت بالثمن أو شهدت بأنه حر الاصل وأقر المحتال بأن الحوالة وقعت بالثمن بطلب الحواله، لانه إذا ثبت أنه حر تبينا أنه لم يتعلق بذمة المشترى شئ فحكم ببطلان الحوالة، وإن أقام العبد بينة بحريته، قال ابن الصباغ تثبت حريته وبطلت الحواله، ولم يذكر له وجها والذى يقتضى المذهب أن الحوالة لا تبطل بذلك، لان العبد يحكم بحريته بتصادق البائع والمشترى، ولا تبطل الحوالة بذلك فكذلك إذا أقام العبد بينة، ولان المتبايعين إذا كانا مقرين بحريته فلا حاجة به إلى إقامة البينة فلا تبطل الحوالة بإقامته البينة.
وإن صدقهما المحتال أنه كان حرا وادعى أن الحوالة وقعت بغير الثمن وقالا بل وقعت بالثمن أو أقاما البينة أن العبد كان حرا، ولم يذكر البينة أن الحوالة وقعت بالثمن، فالقول قول المحتال مع يمينه، لانهما يدعيان ما يفسدها، والاصل صحتها، قال الشيخ أبو حامد: ويحلف على العلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
.
(فصل)
إذا أحال رجل رجلا له عليه دين على رجل له عليه دين ثم اختلفا فقال المحيل وكلتك، وقال المحتال: بل أحلتني نظرت، فان اختلفا في اللفظ فقال المحيل: وكلتك بلفظ الوكالة، وقال المحتال: بل أحلتني، بلفظ الحوالة، فالقول قول المحيل، لانهما اختلفا في لفظه، فكان القول فيه قوله، وإن اتفقا على لفظ الحواله ثم اختلفا فقال المحيل وكلتك، وقال المحتال: بل أحلتني ففيه وجهان.
قال أبو العباس: القول قول المحتال، لان اللفظ يشهد له.
ومن أصحابنا من قال: القول قول المحيل، وهو قول المزني، لانه يدعى بقاء الحق في الذمة والمحتال يدعى انتقال الحق من الذمة، والاصل بقاء الحق في الذمة.
فإن قلنا: بقول أبى العباس، وحلف المحتال ثبتت الحوالة وبرئ المحيل وثبتت له مطالبة المحال عليه، وإن قلنا بقول المزني فحلف المحيل ثبتت الوكالة(13/441)
فإن لم يقبض المال انعزل عن الوكالة بانكاره فان كان قد قبض المال أخذه المحيل وهل يرجع هو على المحيل بدينه؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يرجع، لانه أقر ببراءة ذمته من دينه.
(والثانى)
له أن يرجع لانه يقول: إن كنت محتالا فقد استرجع منى ما أخذته بحكم الحوالة، وإن كنت وكيلا فحقي باق في ذمته فيجب أن يعطينى، وإن هلك في يده لم يكن للمحيل الرجوع عليه، لانه يقر بأن ماله تلف في يد وكيله من غير عدوان، وليس للمحتال أن يطالب المحيل بحقه لانه يقر بأنه استوفى حقه وتلف عنده.
وان قال المحيل: أحلتك، وقال المحتال بل وكلتني، فقد قال أبو العباس القول قول المحيل، لان اللفظ يشهد له.
وقال المزني: القول قول المحتال، لانه يدعى بقاء دينه في ذمة المحيل، والاصل بقاؤه في ذمته.
فان قلنا بقول أبى العباس فحلف المحيل برئ من دين المحتال، وللمحتال مطالبة المحال عليه بالدين، لانه إن كان محتالا فله مطالبته بمال الحوالة، وإن كان وكيلا فله المطالبة بحكم الوكالة، فإذا قبض المال صرف إليه، لان المحيل يقول: هو له بحكم الحوالة، والمحتال يقول.
هو لى فيما لى عليه من الدين الذى لم يوصلني إليه.
وإن قلنا بقول المزني وحلف المحتال، ثبت أنه وكيل، فان لم يقبض المال كان له مطالبة المحيل بماله في ذمته، وهل يرجع المحيل على المحال عليه بشئ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يرجع، لانه مقر بأن المال صار للمحتال.
(والثانى)
يرجع، لانه إن كان وكيلا فدينه ثابت في ذمة المحال عليه وان كان محتالا فقد قبض المحتال المال منه ظلما، وهو مقر بأن ما في ذمة المحال عليه
للمحتال، فكان له قبضه عوضا عما أخذه منه ظلما فان كان قد قبض المال فان كان باقيا صرف إليه، لانه قبضه بحوالة فهو له، وإن قبضه بوكالة فله أن يأخذه عما له في ذمة المحيل.
وان كان تالفا نظرت، فان تلف بتفريط لزمه ضمانه، وثبت للمحيل عليه مثل ما ثبت له في ذمته فتقاصا، وان تلف من غير تفريط(13/442)
لم يلزمه الضمان، لانه وكيل، ويرجع على المحيل بدينه، ويبرأ المحال عليه، لانه إن كان محتالا فقد وفاه حقه وإن كان وكيلا فقد دفع إليه.
(الشرح) الاحكام: قال أبو العباس بن سريج: إذا كان لرجل عند رجل ألف فقال من له الدين لرجل لا شئ له عليه، أحلتك على فلان بألف، فهذا توكيل منه في القبض، وليس بحوالة، لان الحوالة إنما تكون عمن له حق، ولا حق للمحتال ههنا فثبت أن ذلك توكيل.
وإن كان لزيد على عمرو ألف درهم ولعمرو على خالد ألف، فاختلف زيد وعمرو، فقال زيد.
أحلتني بالالف التى عليك لى بالالف التى لك على خالد بلفظ الحوالة.
وقال عمرو.
بل وكلتك بأن يقبضها لى منه بلفظ الوكالة، فالقول قول عمرو لانهما اختلفا في لفظه، وهو أعلم بلفظه، ولانه قد ثبت استحقاق عمرو الالف في ذمة خالد، وزيد يدعى أن ملكها قد انتقل إليه بالحوالة، والاصل بقاء ملك عمرو عليها، وعدم ملك زيد.
فإن قال عمرو لزيد.
أحلتك على خالد بالالف التى لى عليه، فقبل زيد ثم اختلفا فقال عمرو وكلتك لتقبضها لى منه.
ومعنى قولى أحلتك أي سلطتك عليه وقال زيد.
بل أحلتني عليه بدينى الذى لى عليك، فاختلف أصحابنا فقال المزني.
القول قول المحيل وهو عمرو.
وقال الشيخ أبو حامد والطبري: وبه قال المصنف وأبو العباس بن سريج
وأكثر أصحابنا، وهو قول أبى حنيفة.
لانهما قد اتفقا على ملك عمرو للالف التى في ذمة خالد، واختلفا في انتقالها إلى زيد وهو المحتال كان القول قول عمرو لان الاصل بقاء ملكه عليها، وإن كان الظاهر مع زيد، كما لو كان لرجل سيارة في يد آخر فادعى من هي بيده أن مالكها وهبها منه.
وقال المالك.
بل أعرتكها فالقول قول المالك.
وكما لو كانت دار في يد رجل فادعى رجل أنه ورثها من أبيه أو ابتاعها، وأقام على ذلك بينة، وادعى من هي بيده أنها ملكه فإنه يحكم بها لصاحب البينة لانه قد عرف له أصل ملك، وإن كان الظاهر مع صاحب اليد.(13/443)
(والوجه الثاني) حكاه المصنف وابن الصباغ عن أبى العباس بن سريج أن القول قول زيد وهو المحتال، لان اسم الحوالة موضوع لتحويل الحق من ذمة إلى ذمة، فكان اللفظ يشهد له.
كما لو تنازعا دارا وهى في يد أحدهما فوجهان فذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يرجع عليه، والثانى.
له أن يرجع عليه، لان المحتال إن كان صادقا فالذي في ذمة المحال عليه يمكنه أخذه عن حقه، فإذا قلنا يرجع عليه لان المحتال إن كان صادقا فالذي في ذمة المحال عليه للمحيل، وإن كان المحتال كاذبا فقد استحق المحيل على المحتال ما أخذه منه ظلما، وللمحتال حق على المحال عليه يمكنه أخذه عن حقه.
فإذا قلنا: يرجع عليه، فالذي يقتضى المذهب أنه يرجع عليه بأقل الامرين مما أخذ منه المحتال أو الدين الذى على المحال عليه لانه إن أعطى المحتال أكثر من حقه فلم يستحق الرجوع على المحال عليه بأكثر مما عنده، وإن أعطى المحتال أقل من حقه فهو يقر أن جميع ما على المحال عليه للمحتال، وإنما يرجع من ماله
بالقدر الذى أخذه منه، وما زاد عليه يقر به المحتال.
وإن قلنا.
القول قول المحيل فحلف فبرئ من دين المحتال، وكان للمحتال مطالبة المحال عليه إما بحكم الحواله أو الوكالة فإذا أخذ منه المال أمسكه بحقه لان المحيل يقول.
هو له بحق الحوالة، والمحتال يقول.
هو للمحيل ولى عليه مثله وهو غير قادر على حقه من جهة المحيل، فكان له أخذه.
(مسألة) إذا كان لزيد على عمرو ألف درهم، ولخالد على زيد ألف درهم فجاء خالد إلى عمرو وقال.
قد أحالني زيد بالالف التى عليك له فان صدقه وجب عليه دفع المال إليه، ثم ينظر في زيد فان صدقه فلا كلام، وإن كذبه كان القول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم الحوالة، فإذا حلف رجع زيد بالالف على عمرو، ولا يرجع خالد على زيد بشئ، لانه إن كان قد قبض حقه من عمرو فقد استوفى، وإن لم يقبضه فله أن يطالبه بحقه، لانهما متصادقان على الحوالة.
وان كذب عمرو خالدا ولا بينة فالقول قول عمرو مع يمينه، لان الاصل(13/444)
عدم الحوالة، فإذا حلف سقطت دعوى خالد، ولم يكن لخالد الرجوع على زيد بشئ لانه يقر أن ذمته برئت من حقه، ثم ينظر في زيد فان كذب خالدا كان له مطالبة عمرو بدينه، وإن صدق خالدا ففيه وجهان.
قال عامة أصحابنا: يبرأ من دين زيد لانه قد أقر بذلك.
وقال ابن الصباغ إذا قلنا: ليس من شرط الحوالة رضا المحال عليه، فان الحوالة ثبتت بتصادق المحيل والمحتال.
(فرع)
إذا كان لرجل على رجل ألف درهم فطالبه بها فقال من عليه الدين أحلت بها على فلان الغائب، فأنكر المحيل فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم الحوالة، فان أقام من عليه الدين بينة بالحواله.
قال ابن الصباغ: سمعت البينة لاسقاط حق المحيل عليه، ولا يثبت بها الحق للغائب، لان الغائب لا يقضى له بالبينة، فإذا قدم الغائب وادعى فانما يدعى على المحال عليه دون المحيل وهو مقر له بذلك فلا يحتاج إلى إقامة البينه ولو ادعى رجل على رجل أنه أحاله على فلان الغائب، وأنكر المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه، وان أقام المدعى بينة ثبتت في حق الغائب، لان البينة يقضى بها على الغائب، فان شهد للمحتال ابناه لم تقبل شهادتهما لانهما يشهدان لابيهما، وان شهد له ابنا المحال عليه أو ابنا المحيل قبلت شهادتهما، لانهما يشهدان على أبيهما، والله تباك وتعالى أعلم.
تم الجزء الثالث عشر ويليه الجزء الرابع عشر وأوله كتاب الضمان(13/445)
التكملة الثانية
المجموع شرح المهذب
الجزء الرابع عشر
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع(14/1)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الضمان (1)
(الشرح) الاصل في جواز الضمان الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى في سورة يوسف الآية 72 " قالوا: نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " قال ابن عباس: الزعيم الكفيل.
وفيها ست مسائل: (الاولى) قال علماؤنا: هذا نص في جواز الكفالة.
وقال القاضى أبو إسحاق ليس هذا من باب الكفالة فإنها ليس فيها كفالة إنسان عن إنسان وإنما هو رجل التزم عن نفسه وضمن منها، وذلك جائز لغة لازم شرعا.
قال الشاعر: فلست بآمر فيها بسلم
* ولكني على نفسي زعيم وقال الآخر: وإنى زعيم إن رجعت مملكا
* بسير ترى منه الغرانق أزورا قال الامام ابو بكر بن العربي: هذا الذى قاله القاضى أبو إسحاق صحيح.
بيد أن الزعامة فيه نص، فإذا قال أنا زعيم فمعناه أنى ملتزم، وأى فرق بين ان يقول: التزمه عن نفسي أو التزمت به عن غيرى؟
(الثانية) قوله " وأنا به زعيم " إنما يكون في الحقوق التى تجوز النيابة فيها، وأما كل حق لا يقوم فيه أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيها، وتركب على هذا مسألة وهي: (الثالثة) إذا قال: أنا زعيم لك بوجه فلان.
قال مالك " يلزمه " وقال الشافعي لا يلزمه لانه غرر، إذ لا يدرى هل يجحده أم لا؟ والدليل على جوازه
__________
(1) الضمان مشتق من ضم ذمة إلى ذمة.
وقال في البسيط: هو مشتق من التضمين، ومعناه تضمين الدين في ذمة من لا دين عليه، وقد غلط من قال هو مأخوذ من الضم فان النون أصلية فيه وهذا لام فعل منه ميم، وأصله ضمم، والضمان لام فعل منه نون.(14/3)
أن المقصود بالزعامة تنزيل الزعيم مقام الاصل، والمقصود من حضور الاصل أداء المال، فكذلك الزعيم (الرابعة) كما أن لفظ الآيه نص في الزعامه فمعناها نص في الجعاله، وهى نوع من الاجارة، لكن الفرق بين الجعاله والاجارة أن الاجارة يتقدر فيها العوض والمعوض من الجهتين، والجعاله يتقدر فيها الجعل والعمل غير مقدر.
ودليله أن الله سبحانه شرع البيع والابتياع في الاموال لاختلاف الاغراض وتبدل الاحوال، فلما دعت الحاجة إلى انتقال الاملاك شرع لها سبيل البيع، وبيئن أحكامه، ولما كانت المنافع كالاموال في حاجة إلى استيفائها، إذ لا يقدر كل أحد أن يتصرف لنفسه في جميع أغراضه نصب الله الاجارة في استيفاء المنافع بالاعواض، لما في ذلك من الاغراض (الخامسه) فإذا ثبت هذا فقد يمكن تقدير العمل بالزمان كقوله: تخدمني اليوم.
وقد يقول: تخيط لى هذا الثوب، فيقدر العمل بالوجهين، وقد يتعذر
تقدير العمل، كقوله: من جاءني بضالتي فله كذا.
فأحد العوضين لا يصح تقديره والعوض الآخر لابد من تقديره، فان ما يسقط بالضرورة لا يتعدى سقوطه إلى مالا ضرورة فيه، والاصل فيه الحديث الذى ورد من أخذ الاجرة على الرقيه: وهو عمل لا يتقدر، وقد كانت الاجارة والجعاله قبل الاسلام فأقرتهما الشريعه، ونفت عنهما الغرر والجهاله (السادسة) في حقيقة القول في الآيه: ان المنادى لم يكن مالكا، انما كان نائبا عن يوسف ورسولا له: فشرط حمل البعير على يوسف لمن جاء بالصواع، وتحمل هو به عن يوسف، فصارت فيه ثلاث فوائد: (الاولى) الجعاله، وهى عقد يتقدر فيه الثمن، ولا يتقدر فيه المثمن (الثانيه) الكفالة، وهى ههنا مضافه إلى سبب موجب على وجه التعليق بالشرط، وقد اختلف الناس فيها اختلافا متباينا تقريره في المسائل وهذا دليل على جوازه فانه فعل نبى ولا يكون إلا شرعا.
وقد اختلف الائمة في الكفالة، فجوزها أصحاب أبى حنيفه محالة على سبب(14/4)
وجوب.
كقوله: ما كان لك على فلان فهو على، أو إذا أهل الهلال فلك على عنه كذا، بخلاف أن تكون معلقة على شرط محضر، كقوله إن قدم فلان.
أو إن كلمت زيدا.
وقال الشافعي لا يجوز بشئ من ذلك.
وهذه الآية نص على جوازها محالة على سبب الوجوب.
(الثالثة) جهالة المضمون له.
قال علماؤنا هي جائزة، وتجوز عندهم أيضا مع جهاله الشئ المضمون أو كليهما ومن العجب أن أبا حنيفة والشافعي اتفقا على أنه لا تجوز الكفالة مع جهالة
المكفول له.
وادعى أصحاب أبى حنيفه أن هذا الخبر منسوخ من الآيه خاصه وقال أصحابنا من أئمة المذهب هذه الآيه دليل على جواز الجعل، وهى شرع من قبلنا، وليس لهم فيه تعلق في مذهب وقال أصحابنا أيضا إن معرفة المضمون عنه والمضمون له فيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه لابد من معرفتهما، أما معرفه المضمون عنه فليعلم هل هو أهل للاحسان أم لا، وأما معرفة المضمون له فليعلم هل يصلح للمعاملة أم لا؟ (الثاني) أنه افتقر إلى معرفة المضمون له خاصة، لان المعاملة معه خاصة (الثالث) أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما وهو الصحيح في حديث أبى قتادة أنه ضمن عن الميت ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن المضمون له، ولا عن المضمون عنه، والآية نص في جهالة المضمون له، وحمل جهالة المضمون عليه أخف وقال القرطبى، إن قيل كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول، وضمان المجهول لا يصح، قيل له حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق فصح ضمانه، غير أنه بذل مال للسارق، ولا يحل للسارق ذلك، فلعله كان يصح في شرعهم، أو كان هذا جعالة وبذل مال لمن يفتش ويطلب، ثم قال قال بعض العلماء في هذه الآيه دليلان
(أحدهما)
جواز الجعل وقد أجيز(14/5)
للضرورة، ثم ساق كلام الشافعي الذى سبق إيراده (الثاني) جواز الكفالة على الرجل لان المؤذن الضامن هو غير يوسف.
قال علماؤنا: إذا قال الرجل تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو وأنا حميل لك أو زعيم لك أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو على أو إلى أو
قبلى، فذلك كله حمالة لازمة.
والزعامة لا تكون إلا في الحقوق التى تجوز النيابة فيها بما يتعلق بالذمة في الاموال وكان ثابتا مستقرا فلا تصح الحمالة بالكتابة لانها ليست بدين ثابت مستقر، لان للعبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة، وأما كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيه.
ويسجن المدعى عليه الحد حتى ينظر في أمره.
وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص وقالا: إذا قال المقذوف أو المدعى القصاص بينتي حاضرة كفله ثلاثة أيام.
واحتج الطحاوي لهم بما رواه حمزة بن عمرو عن عمر وابن مسعود وجرير بن عبد الله والاشعث أنهم حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة رضى الله عنهم وأما السنة ففى حديث أبى هريرة عند أبى داود والترمذي وقال حديث حَسَنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يوم فتح مكة فقال " ألا إن الله تعالى قد أعطى كل ذى حق حقه، فلا وصية لوارث، ولا تنفق امرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها، والعارية مؤداة والمنحة مردودة، والدين مقضى والزعيم غارم، فلولا أن الضمان يلزمه إذا ضمن لم يجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم غارما وروى قبيصة بن المخارق الهلالي إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا تحل الصدقة إلا لثلاثة.
فذكر رجلا تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك " فأباح له الصدقة حتى يؤدى، فدل على أن الحمالة قد لزمته وروى عن سلمة بن الاكوع أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى برجل ليصلى عليه فقال " هل عليه دين " قالوا " نعم.
ديناران " قال " هل ترك لهما وفاء؟ قالوا لا فتأخر.
فقيل لم لا تصلى عليه؟ فقال ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة، إلا إن قام أحدكم فضمنه، فقام أبو قتادة فقال: هما علي يا رسول الله، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ(14/6)
صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري وأحمد والنسائي والترمذي وصححه.
والنسائي وابن ماجه وقالا " فقال أبو قتادة أنا أتكفل به " وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله وأخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والحاكم وفيه " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلى، ومن ترك مالا فلورثته " وفى معناه عند الدارقطني والبيهقي عَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وفيه أن عليا قال أنا ضامن، ثم دعا له الرسول صلى الله عليه ثم قال " ما من مسلم فك رهان أخيه إلا فك الله رهانه يوم القيامة " قال الحافظ بن حجر في إسناده ضعف وعن سلمان عند الطبراني بنحو حديث أبى هريرة رضى الله عنه وزاد " وعلى الولاة من بعدى من بيت مال المسلمين " وفى إسناده عبد الله بن سعيد الانصاري متروك ومتهم.
وعن أبى أمامة رضى الله عنه عند ابن حبان في ثقاته ضعف والحكمة في تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ على من عليه دين تحريض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة، وقد توسع شيخنا الامام النووي رضى الله عنه في كتاب الجنائز من المجموع في بحث صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان الاحاديث الواردة فيها والكلام عليها وأما الاجماع فإن أحدا من العلماء لم يخالف في صحة الضمان، وان اختلفوا في فروع منه على ما بينا في أقوالهم في الكتاب، فإذا ثبت هذا فإنه يقال: ضمين وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وصبير كلها بمعنى واحد ولابد في الضمان من ضامن ومضمون عنه ومضمون له، ولابد من رضى الضامن، فان أكره على الضمان لم يصح، ولا يعتبر رضا المضمون عنه.
لا نعلم في ذلك خلافا، لانه لو قضى الدين عنه بغير إذنه ورضاه صح فكذلك إذا ضمن
عنه.
ولا يعتبر رضا المضمون له.
وقال أبو حنيفة " يعتبر " لانه إثبات مال لآدمي فلم يثبت إلا برضاه أو رضى من ينوب عنه كالبيع والشراء.
وعندنا كالمذهبين لاصحابنا، والله أعلم(14/7)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
يصح ضمان الدين عن الميت، لما روى أبو قتادة قال " أقبل بجنازة عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: هل على صاحبكم من دين فقالوا: عليه ديناران، قال صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة هما على يا رسول الله فصلى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ويصح عن الحى لانه دين لازم فصح ضمانه كالدين على الميت.
(الشرح) الحديث مر تخريجه في شرح الترجمة.
أما الاحكام: فإنه يصح ضمان الدين عن الميت سواء خلف وفاء بدينه أو لم يخلف، وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد.
وقال الثوري وأبو حنيفة.
لا يصح الضمان عن الميت إذا لم يخلف وفاء بماله أو بضمان ضامن.
دليلنا ما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ.
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤتى بالميت وعليه دين فيقول.
هل خلف لدينه قضاء؟ وروى.
وفاء؟ فإذا قيل له.
لم يخلف وفاء، قال للمسلمين.
صلوا عليه، فلما فتح الله عليه الفتوح قال.
من خلف مالا فلورثته، ومن خلف دينا فعلى قضاؤه " فضمن النبي صلى الله عليه وسلم القضاء.
وكذلك حديث جابر رضى الله عنه الذى أشرنا إلى تخريجه في شرح ترجمة هذا الباب وَلَفْظُهُ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يصلى على رجل مات عليه دين فأتى بميت فسأل.
عليه دين؟ قالوا.
نعم ديناران، قال.
صلوا على
صاحبكم الحديث " وهى أحاديث تدل على جواز الضمان عن الميت، ولانه لم يكن يمتنع من الصلاة إلا على من مات وعليه دين ولم يخلف وفاء، ولان صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة، والدين يحجبها بدليل ما روى عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ.
مِنْ استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين فليفعل فإنى شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتى بجنازة فقالوا صل عليها فقال أليس عليه(14/8)
دين؟ فقالوا: بلى، فقال " ما ينفعكم صلاتي عليها وهو مرتهن في قبره، فإن ضمنه أحدكم قمت وصليت عليه ".
قال في البيان: بعد أن ساق هذا الحديث " فكانت صلاتي تنفعه " لان كل من صح الضمان عنه إذا كان له وفاء بما عليه، صح الضمان عنه، وإن لم يكن له وفاء كالحى.
(فرع)
قال أبو على الطبري رحمه الله: لو قال تكفلت لك بمالك على فلان صح، وإن قال: أنا به قبيل، لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين خلافا لابي حنيفة، لان القبيل بمعنى قابل كالسميع بمعنى سامع وإيجاب الضمان لا يكون موقوفا على قبوله فلم يصح.
وإن قال: إلى دين فلان، لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين خلافا لابي حنيفة.
دليلنا: أنه يحتمل قوله إلى بمعنى إذن عنه، ويحتمل مرجعه إلى بحق أستحقه.
ولو قال: خل عن فلان والدين الذى عليه لك عندي، لم يكن صريحا في الضمان خلافا لابي حنيفة، لان كلمة عندي تستعمل في غير مضمون كقولهم الوزير عند الامير.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويصح ذلك من كل جائز التصرف في ماله، فأما من يحجر عليه
لصغر أو جنون أو سفه فلا يصح ضمانه، لانه إيجاب مال بعقد، فلم يصح من الصبى والمجنون والسفيه كالبيع، ومن حجر عليه للفلس يصح ضمانه.
لانه إيجاب مال في الذمة بالعقد فصح من المفلس كالشراء بثمن في الذمة.
وأما العبد فإنه إن ضمن بغير إذن المولى ففيه وجهان.
قال أبو إسحاق: يصح ضمانه ويتبع به إذا عتق لانه لا ضرر فيه على المولى لانه يطالب به بعد العتق، فصح منه كالاقرار بإتلاف ماله.
وقال أبو سعيد الاصطخرى: لا يصح لانه عقد تضمن إيجاب مال فلم يصح منه بغير إذن المولى كالنكاح، فإن ضمن بإذن مولاه صح ضمانه، لان الحجر لحقه فزال بإذنه، ومن أين يقضي؟ ينظر فيه، فان قال له المولى اقضه من كسبك قضاه منه، وإن قال.(14/9)
أقضه مما في يدك للتجارة قضاه منه لان المال له، وقد أذن له فيه، وإن لم يذكر القضاء ففيه وجهان.
(أحدهما)
يتبع به إذا أعتق، لانه أذن في الضمان دون الاداء.
(والثانى)
يقضى من كسبه إن كان له كسب: أو مما في يده إن كان مأذونا له في التجارة، لان الضمان يقتضى الغرم كما يقتضى النكاح المهر، ثم إذا أذن له في النكاح وجب قضاء المهر مما في يده، فكذلك إذا أذن له في الضمان وجب قضاء الغرم مما في يده، فان كان على المأذون له دين وقلنا: ان دين الضمان يقضيه مما في يده، فهل يشارك فيه الغرماء؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
يشارك به، لان المال للمولى، وقد أذن له في القضاء منه، اما بصريح الاذن، أو من جهة الحكم، فوجب المشاركة به.
(والثانى)
أنه لا يشارك به، لان المال تعلق به الغرماء فلا يشارك بمال الضمان كالرهن.
وأما المكاتب فانه ضمن بغير اذن المولى فهو كالعبد القن، وان
ضمن بإذنه فهو تبرع، وفى تبرعات المكاتب بإذن المولى قولان نذكرهما في المكاتب ان شاء الله تعالى.
(الشرح) الاحكام: يصح الضمان من كل جائز التصرف في المال، فأما الصبى والمجنون والسفيه فلا يصح ضمان أحد منهم، لانه ايجاب مال بعقد فلم يصح كالبيع، فقوله بعقد، احتراز من ايجاب المال عليه بالجناية، ومن نفقة من تجب عليه نفقته، والزكاة.
وأما المحجور عليه للافلاس فيصح ضمانه لانه ايجاب مال في الذمة بالعقد فصح من المفلس، كالشراء بثمن في ذمته كما مضى في التفليس.
وأما المرأة فإنه يصح الضمان منها إذا كانت جائزة التصرف.
وقال مالك: لا يصح الا أن يكون بإذن زوجها.
دليلنا أن كل من لزمه الثمن في البيع والاجرة في الاجارة صح ضمانه كالرجل.
(فرع)
ولا يصح الضمان من المبرسم - على ما لم يسم فاعله، والبرسم علة تصيب الاعصاب - الذى لا يعقل لانه لا حكم لكلامه، فأما الاخرس فإن لم(14/10)
يكن له إشارة مفهومة وكناية معقولة أو كتابة مقروءة لم يصح ضمانه، وإن كانت له إشارة مفهومة وكناية معقوله، لانه حصل مع الكناية إشارة مفهومة، وإلا فالكتابة المقروءة تنفرد مكانهما أو مكان النطق ما دام ذلك يؤدى إلى فهم قصده من الضمان على أحد القولين.
وإن انفردت إشارته المفهومة بالضمان صح وإن انفردت الكتابة في الضمان عن إشارة يفهم بها أن قصده الضمان.
قال ابن الصباغ لم يصح الضمان، لان الكتابة قد تكون عبثا، أو تجربة للقلم أو حكاية للخط.
فلم يلزمه الضمان بمجردها.
(مسألة) إذا ضمن العبد دينا لغير سيده فان كان غير مأذون له في التجارة
نظرت، فان كان بغير اذن سيده فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يصح ضمانه لانه مكلف له قول صحيح، وانما منع من التصرف فيما فيه ضرر على السيد ولا ضرر على السيد في ضمانه، فهو كما لو أقر لغيره بمال.
فعلى هذا يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
(والثانى)
لا يصح، لانه اثبات مال لآدمي بعقد، فلم يصح من العبد بغير اذن سيده كالمهر، فقولنا " لآدمي " احتراز من النذر.
وقولنا " بعقد " احتراز من الاقرار لانه اجبار.
ومن الجناية على غير سيده.
وان ضمن بإذن سيده صح لان المنع منه لحق السيد، وقد أذن فيه فإن أذن فيه أن يؤديه من كسبه قضاه منه.
وان أطلق الاذن ففيه وجهان
(أحدهما)
يقضيه من كسبه.
كما لو أذن له سيده في النكاح، فإن المهر والنفقة يقضيان من كسبه.
(والثانى)
لا يقضيه من كسبه، ولكن يتبع به إذا عتق، لان السيد انما أذن في الضمان دون القضاء، فيعلق ذلك بذمة العبد لانها محل للضمان، ويفارق المهر والنفقة يجبان عوضا عن الاستمتاع المعجل، وكان ما في مقابلهما معجلا.
وحكى أبو على الشيحى وجها آخر أنه يتعلق برقبته - وليس بشئ - وان كان العبد مأذونا له في التجارة فلا يخلو اما أن يضمن بإذن السيد أو بغير اذنه، فإن ضمن بغير إذنه نظرت، فإن قال: ضمنت لك حتى أؤدى من هذا المال لم يصح الضمان، لان السيد انما أذن له في التجارة فيما ينمى المال لا فيما يتلفه.(14/11)
وان ضمن له مطلقا فهل يصح ضمانه؟ على الوجهين في غير المأذون، فإذا قُلْنَا لَا يَصِحُّ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قُلْنَا يصح فإنه لا يجوز له أن يقضى مما في يده من مال التجارة، ولكن يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
وان ضمن باذنه صح الضمان.
فان كان اذن السيد بالضمان مطلقا فمن أين يقضى العبد دين الضمان، فيه وجهان
(أحدهما)
من كسبه أو مما في يده للتجارة
(والثانى)
يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
وان أذن له السيد بالضمان في المال الذى في يديه فقال: ضمنت لك حقك الذى لك على فلان حتى أؤدى من المال الذى في يدى صح الضمان ولزمه أن يؤدى من المال الذى في يده للتجارة لان المنع منه لاجل السيد، وقد أذن فجاز فإذا قال الحر: ضمنت لك دينك على فلان في هذا المال لم يصح الضمان، والفرق بينهما أن العبد ضمن الحق في ذمته.
وانما علق الاداء في مال بعينه، والحر لم يضمن الحق في ذمته، وانما ضمنه في المال بعينه، فوزانه أن يقول الحر ضمنت لك دينك على فلان وأزنه من هذا المال فيصح الضمان، فان كان على المأذون له (العبد) دين يستغرق ما بيده ثم أذن له السيد بالضمان والقضاء مما في يده من مال التجارة، أو قلنا يلزمه القضاء منه، على أحد الوجهين، فهل يشارك المضمون له الغرماء، فيه وجهان
(أحدهما)
يشاركهم، لان المال للسيد، وقد أذن بالقضاء منه، اما بصريح القول أو من جهة الحكم
(والثانى)
لا يشاركهم، لان حقوق أصحاب الديون متعلقة بما في يده فصار ذلك كالمرهون بحقوقهم، نرى أن السيد لو أراد أخذ ذلك قبل قضاء الغرماء لم يكن له ذلك.
(فرع)
وان كان في ذمة العبد دين فضمن عنه ضامن صح الضمان لان الدين في ذمته لازم، وانما لا يطالب به لعجزه في حال رقه فصح الضمان عنه كالدين على المعسر.
قال الصيمري: لو ثبت على عبده دين بالمعاملة فضمنه عنه سيده صح ضمانه كالأجنبي (فرع)
وأما المكاتب فانه إذا ضمن دينا على سيده - فان كان بغير اذنه(14/12)
فهل يصح؟ فيه وجهان كما قلنا في غير المكاتب، وإن قُلْنَا لَا يَصِحُّ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ قُلْنَا يصح كان ذلك في ذمته إلى أن يعتق وإن ضمن بإذن سيده، فان قلنا يجوز للكاتب أن يهب شيئا من حاله بإذن سيده على ما مضى من بياننا لحكمه وإن قلنا لا يجوز للمكاتب أن يهب شيئا لغيره بغير إذن سيده فالذي يقتضى المذهب أن يصح الضمان ويتبع به إذا عتق، ولا يقضى من المال الذى بيده قبل أداء الكتابة وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ويصح الضمان من غير رضا المضمون عنه لانه لما جاز قضاء دينه من غير رضاه، جاز ضمان ما عليه من غير رضاه.
واختلف أصحابنا في رضا المضمون له، فقال أبو على الطبري: يعتبر رضاه لانه إثبات مال في الذمة بعقد لازم، فشرط فيه رضاه كالثمن في البيع وقال أبو العباس: لا يعتبر، لان أبا قتادة ضمن الدين عن الميت بحضرة النبي.
ولم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم رضا المضمون له
(فصل)
وهل يفتقر إلى معرفة المضمون له والمضمون عنه.
فيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يفتقر إلى معرفة المضمون عنه، ليعلم أنه هل هو ممن يسدى إليه الجميل ويفتقر إلى معرفة المضمون له ليعلم هل يصلح لمعاملته أم لا يصلح، كما يفتقر إلى معرفة ما تضمنه من المال هل يقدر عليه أم لا يقدر عليه
(والثانى)
أنه يفتقر إلى معرفة المضمون له: لان معاملته معه ولا يفتقر إلى معرفة المضمون عنه لانه لا معاملة بينه وبينه (والثالث) أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما لان أبا قتادة ضمن عن الميت: ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن المضمون له، والمضمون عنه.
(الشرح) الاحكام: يصح الضمان من غير رضى المضمون عنه، لان عليا رضى الله عنه وأبا قتادة رضى الله عنه ضمنا عن الميت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
والميت لا يمكن رضاه، ولانه لما جاز له أن يقضى الدين بغير اذن جاز أن يضمن عنه الدين بغير اذنه.
وأما المضمون له فهل يعتبر رضاه؟ فيه وجهان قال أبو على(14/13)
الطبري: يعتبر رضاه، وهو قول أبى حنيفة كما سبق في شرح ترجمة الباب إلا في مسألة واحدة، وهو إذا قال المريض لبعض ورثته اضمن عنى دينا لفلان الغائب فضمن عنه بغير اذن المضمون له وان لم يسم الدين استحسانا، لانه اثبات مال لآدمي فلم يصح الا برضاه أو من ينوب عنه كالبيع والشراء له فقولنا " لآدمي " احتراز كما قلنا من النذر.
وقال أبو العباس بن سريج يصح من غير رضاه، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، وبه قال أبو يوسف لان عليا وأبا قتادة رضى الله عنهما ضمنا الدين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بغير رضا المضمون له ولان الضمان وثيقة بالحق فلم يفتقر إلى رضا من له الوثيقة، كما لو أشهد من عليه الدين بنفسه فصحت الشهادة وان لم يرض المشهود له.
وأما معرفة الضامن للمضمون له والمضمون عنه فهل يفتقر إلى ذلك فيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما، وانما يضمن بالاسم والنسب ووجهه ضمان أبى قتادة وعلي، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يعرفان عين المضمون له والمضمون عنه أم لا، ولو كان الحكم يختلف بذلك لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولان الواجب أداء الحق فلا حاجة إلى معرفة ما سوى ذلك.
(والثانى)
أنه لا يصح حتى يعرف الضامن عينهما: لان معاملته المضمون له
فلابد من معرفته بعينه ليعلم هل هو أهل لان يسدى إليه الجميل أم لا.
(والثالث) أنه يفتقر إلى معرفة عين المضمون له لان معاملته معه، ولا يفتقر إلى معرفة المضمون عنه، لانه لا معاملة بينه وبينه قال المحاملى فإذا قلنا بهذا افتقر إلى قبوله، فان قيل لزم الضمان وان رد بطل، وان رجع الضامن قبل قبول المضمون له صح رجوعه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان باعه بشرط أن يضمن الثمن ضامن، لم يجز حتى يعين الضامن، لان الغرض يختلف باختلاف من يضمن، كما يختلف باختلاف(14/14)
ما يرهن من الرهون: وإن شرط أن يضمنه ثقة لم يجز حتى يعين، لان الثقات يتفاوون، فان لم يف له بما شرط من الضمين ثبت للبائع الخيار، لانه دخل في العقد بشرط الوثيقة ولم يسلم له الشرط، فثبت له الخيار، كما لو شرط له رهنا ولم يف له بالرهن.
وإن شرط أن يشهد له شاهدين جاز من غير تعيين، لان الاغراض لا تختلف باختلاف الشهود، فان عين له شاهدين فهل يجوز إبدالهما بغيرهما؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز.
كما لا يجوز في الضمان
(والثانى)
يجوز، لان الغرض لا يختلف.
(الشرح) الاحكام: إذا باع رجل من غيره شيئا بثمن في ذمته بشرط أن يضمن له بالثمن ضامن معين صح البيع والشرط، لان الحاجة تدعو إلى شرط الضمين في عقد البيع، فان لم يضمن له الضمين المعين ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع، لانه إنما دخل في البيع بهذا الشرط، فإذا لم يف له المشترى بالشرط ثبت للبائع الخيار.
وان أتاه المشترى بضمين غير الضمين المعين لم يلزم البائع
قبوله بل يثبت له الخيار، وإن كان الذى جاءه به أملا من المعين، لانه قد يكون له غرض في ضمانه المعين، وان شرط في البيع أن يضمن له بالثمن معه لم يصح الشرط وبطل البيع لان الثقات يتفاوتون، وإذا كان الشرط مجهولا بطل البيع (فرع)
وان باعه سلعة بثمن بشرط أن يشهد له شاهدين جاز من غير تعيين وكان عليه أن يشهد له شاهدين عدلين، لان الاغراض لا تختلف باختلاف الشهود، فإذا لم يشهد له ثبت لصاحبه الخيار في فسخ البيع، وان باعه بشرط أن يشهد له شاهدين معينين فأشهد له شاهدين عدلين غير المعينين فهل يسقط خيار الآخر؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزم الآخر قبول ذلك بل يثبت له الخيار في فسخ البيع.
كما قلنا في الضمين المعين
(والثانى)
يلزم قبول ذلك ولا خيار له لانه لا غرض له في أعيان الشهود إذا حصلت العدالة، ولهذا قلنا لابد في شرط الضمين من تعيينه وفى الشهادة يجوز شرط شاهدين عدلين وان كانا غير معينين.
والذى يقتضى(14/15)
المذهب أن هذا الشرط في الشهادة يصح أن يكون وثيقة لكل واحد من المتبايعين ويثبت لكل واحد منهما الخيار، إذا شرط ذلك على الآخر ولم يف الآخر له بذلك، لان للبائع غرضا في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه المبيع فيرجع بالثمن على البائع قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويصح ضمان كل دين لازم كالثمن والاجرة وعوض القرض ودين السلم وأرش الجناية وغرامة المتلف لانه وثيقة يستوفى منها الحق فصح في كل دين لازم كالرهن، وأما مالا يلزم بحال وهو دين الكتابة فلا يصح ضمانه لانه لا يلزم المكاتب أداؤه فلم يلزم ضمانه، ولان الضمان يراد لتوثيق الدين،
ودين الكتابة لا يمكن توثيقه، لانه يملك إسقاطه إذا شاء فلا معنى لضمانه، وفى مال الجعالة والثمن في مدة الخيار ثلاثة أوجه (أحدها) لا يصح ضمانه لانه دين غير لازم فلم يصح ضمانه كدين الكتابة
(والثانى)
يصح لانه يؤول إلى اللزوم فصح ضمانه (والثالث) يصح ضمان الثمن في مدة الخيار ولا يصح ضمان مال الجعالة لان عقد البيع يؤول إلى اللزوم وعقد الجعالة لا يلزم بحال.
فأما المال المشروط في السبق والرمى ففيه قولان
(أحدهما)
أنه كالاجارة فيصح ضمانه
(والثانى)
أنه كالجعالة فيكون في ضمان وجهان (الشرح) الاحكام قال أصحابنا: الحقوق على أربعة أضرب (أحدها) حق لازم كالثمن في الذمة بعد قبض المبيع، والاجرة في الذمة بعد انقضاء الاجارة ومال الجعالة بعد العمل، والمهر بعد الدخول وعوض القرض وقيم المتلفات فهذا يصح ضمانه لانه دين لازم مستقر (الضرب الثاني) دين لازم غير مستقر كالمهر قبل الدخول، وثمن المبيع قبل قبض المبيع والاجرة قبل انقضاء الاجارة ودين السلم، فهذا يصح ضمانه أيضا وقال احمد رضى الله عنه في احدى الروايتين لا يصح سمان المسلم فيه.(14/16)
لانه يؤدى إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم عليه فهو كالحوالة.
ودليلنا أنه دين لازم فصح ضمانه كالمهر بعد الدخول (الضرب الثالث) دين ليس بلازم ولا يئول إلى اللزوم، وهو دين الكتابة فلا يصح ضمانه لان المكاتب يملك إسقاطه بتعجيز نفسه فلا معنى لضمانه، ولان ذمة الضامن فرع لذمة المضمون، فإذا لم يلزم الاصل لم يلزم الفرع، ومن حكم الضمان أن يكون لازما، وإن كان على المكاتبة دين لاجنبي صح ضمانه لانه
دين لازم عليه، وإن كان عليه لسيده دين من غير جهة الكتابة فهل يصح ضمانه فيه وجهان
(أحدهما)
يصح ضمانه لانه يجبر على أدائه
(والثانى)
لا يصح ضمانه لانه قد يعجز نفسه فيسقط ما في ذمته لسيده قال العمرانى: وأصلهما الوجهان هل يستدام ثبوت الدين في ذمته لسيده بعد أن يصير ملكا له؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: يستدام ثبوته صح ضمانه، وإن قلنا: لا يستدام ثبوته لم يصح ضمانه.
الضرب الرابع: دين غير لازم إلا أن يؤل إلى اللزوم، وهو مال الجعاله قبل العمل بأن يقول: من رد ضالتي فله دينار، فان أضمن عنه غيره ذلك قبل رد الضالة هل يصح، فيه وجهان.
(أحدهما)
يصح لقوله تعالى: قالوا " نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " فضمن المنادى مال الجعالة، وحمل البعير معلوم.
(والثانى)
لا يصح، لانه دين غير لازم فلا يصح ضمانه، كمال الكتابة، وممن قال: لم يضمن المنادى، وإنما أخبر عن الملك أنه بذل لمن رده حمل البعير، وأن الملك قال: وأنا به زعيم.
وأما ضمان ثمن المبيع في مدة الخيار فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: فيه وجهان، كمال الجعالة قبل العمل، ومنهم من قال يصح ضمانه وجها واحدا لانه يؤل إلى اللزوم، ولان الثمن قد لزم، وإنما له إسقاطه بالفسخ بخلاف مال الجعالة، فإنه لا يلزم بحال.
(فرع)
وأما مال السبق والرمى بعد العمل فيصح ضمانه، لانه دين لازم(14/17)
مستقر، فهو المهر بعد الدخول، وأما قبل العمل فان كان المخرج للسبق أحدهما أو أجنبيا فهل يصح ضمانه: فيه وجهان، كما في الجعالة، وإن كان مال السبق
منهما وبينهما محلل، فان قلنا إن ذلك كالاجارة صح ضمانه، كضمان الاجرة قبل انقضاء مدة الاجارة، وإن قلنا: إنها كالجعالة كان في ضمان المال عنهما: أو عن احدهما، وجهان كمال الجعالة.
(فرع)
وأما أرش الجناية والدية - فان كان دراهم أو دنانير - مثل أن جنى على عبد أو كانت الابل معدومة، فأوجبنا قيمتها وكانت معلومة، أو قلنا يجب ألف مثقال، أو اثنى عشر ألف درهم صح ضمانها.
وإن كان الواجب الابل.
فهل يصح ضمانها، فيه وجهان، بناء على القولين في جواز بيعها.
(فرع)
وأما ضمان نفقة الزوجة - فإن ضمن عنه نفقة مدة قد مضت - صح ضمانها، لانه دين لازم مستقر فهى كالمهر بعد الدخول، وإن ضمن عنه نفقة يومه الذى هو فيه صح أيضا، لانه دين لازم فصح ضمانه، وإن كان غير مستقر كضمان المهر قبل الدخول لم يصح، وإن ضمن عنه مدة مستقبلة معلومة فهل يصح؟ فيه قولان بناء على أن النفقة تجب بالعقد أو بالعقد والتمكين من الاستمتاع، فقال في القديم: يجب بالعقد، وإنما يجب استيفاؤها يوما بيوم فعلى هذا يصح أن يضمن نفقة مدة معلومة، ولكن لا يضمن إلا نفقة المعسر.
وإن كان الزوج وقت الضمان موسرا، لان نفقة المعسر متحققة، وما زاد على ذلك مشكوك فيه.
وقال في الجديد: لا تجب النفقة إلا بالعقد والتمكين من الاستمتاع، فعلى هذا لا يصح أن يضمن نفقة مدة مستقبلة بحال.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز ضمان المجهول، لانه إثبات مال في الذمة بعقد لآدمي فلم يجز مع الجهالة، كالثمن في البيع، وفى إبل الدية وجهان.
(أحدهما)
لا يجوز ضمانه، لانه مجهول اللون والصفة
(والثانى)
أنه يجوز(14/18)
لانه معلوم السن والعدد، ويرجع في اللون والصفة إلى عرف البلد.
(فصل)
ولا يصح ضمان ما لم يجب، وهو أن يقول: ما تداين فلان فأنا ضامن له، لانه وثيقة بحق، فلا يسبق الحق كالشهادة.
(الشرح) الاحكام: لا يصح ضمان مال مجهول، وهو أن يقول ضمنت لك ما تستحقه على فلان من الدين، وهو لا يعلم قدره، وكذلك لا يصح ضمان ما لم يجب، وهو أن يقول: ضمنت لك ما تداين فلانا، وبه قال الليث وابن أبى ليلى وابن شبرمة والثوري وأحمد.
وقال مالك وأبو حنيفة: يصح ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، وقال أبو العباس بن سريج: وهو قول الشافعي في القديم كما قال الشافعي في القديم: يصح ضمان نفقة الزوجة عن مدة مستقبلة، وهذا ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول وهو طريقة الخراسانيين أنها على قولين، قال الشيخ أبو حامد خالف سائر أصحابنا ذلك، وقالوا: لا يصح قولا واحدا، وما قاله الشافعي رحمه الله في القديم أنه يصح ضمان نفقة الزوجة مدة مستقبلة، فانها أجازه لان النفقة تجب على هذا بالعقد فقد ضمن ما وجب، ولا يصح منها إلا ضمان شئ مقدر وليس بمجهول دليلنا: على أنه لا يصح ضمانها لانه إثبات مال في الذمة بعقد لازم فلم يصح مع جهله، ولا قبل ثبوته كالثمن في البيع، والمهر في النكاح فقولنا: في الذمة احتراز ممن غصب من رجل شيئا مجهولا، وقولنا بعقد، احتراز ممن أتلف على غيره مالا أو وطئ امرأة بعقد فاسد، فان ذلك يثبت في ذمته مالا، وإن كان لا يعلم قدره.
(فرع)
قال في الابانة: فلو جهل مقدار الدين إلا أنه قال: ضمنت لك من درهم إلى عشرة.
وقلنا لا يصح ضمان المجهول، فهل يصح هذا، فيه قولان.
(أحدهما)
قال: وهو الاشهر -: يصح، لان جملة ما ضمن معلومة
(والثانى)
وهو الاقيس أنه لا يصح، لان مقدار الحق مجهول.
(فرع)
فأما إذا قال الرجل لغيره ضمنت لك ما تعطى وكيلى وما يأخذ منك فان يلزمه ذلك، لا من جهة الضمان، ولكن من جهة التوكيل، وذلك أن يد الوكيل يد الموكل.(14/19)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز تعليقه على شرط، لانه ايجاب مال لآدمي بعقد، فلم يجز تعليقه على شرط كالبيع.
وان قال: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه صح فإذا ألقاه وجب ما ضمنه.
لانه استدعاء اتلاف بعوض لغرض صحيح.
فأشبه إذا قال: طلق امرأتك أو أعتق عبد على ألف، وان قال: بع عبدك من زيد بخمسمائة ولك على خمسمائة أخرى فباعه، ففيه وجهان.
(أحدهما)
يصح البيع، ويستحق ما بذله لانه مال بذله في مقابلة ازالة الملك فأشبه إذا قال: طلق امرأتك أو أعتق عبدك على ألف.
(والثانى)
لا يصح لانه بذل مال لغرض غير صحيح فلم يجز، ويخالف ما بذله في الطلاق والعتق، فان ذلك بذل مال لغرض صحيح، وهو تخليص المرأة من الزوج وتخليص العبد من الرق (الشرح) الاحكام: لا يصح تعليق الضمان على شرط بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر فقد ضمنت لك دينك على فلان.
وحكى المسعودي أن أبا حنيفة قال " يصح ".
دليلنا أنه إيجاب مال لآدمي بعقد فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع.
وقوله لآدمي احتراز من النذر كما سبق تقريره، وقولنا بعقد احتراز من وجوب النفقه
للقريب والزوجة فإنه معلق بشروط (فرع)
إذا قال لغيره في البحر عند هيجان الموج وخوف الغرق: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه فألقاه، وجب على المستدعى ضمانه.
وقال أبو ثور لا يصح لانه ضمان ما لم يجب دليلنا أنه استدعاء إتلاف ملك لغرض صحيح فصح، كما لو قال: طلق امرأتك بمائة درهم على، وكان الغرض صحيحا لحسم نزاع أو درء مضارة صح الضمان.
وكذا لو قال: اعتق عبدك بمائة على، فإن ذلك غرض صحيح لان فيه فكاكا لآدمي من الرق وهو قربة إلى الله تعالى ومقصد من مقاصد الشريعة السمحة، فان قال لرجل: بع عبدك من زيد بألف وعلى لك خمسمائة فباعه.
قال الصيدلانى(14/20)
وقاله في العقد.
فهل يصح العقد؟ فيه وجهان لابي العباس بن سريج.
أحدهما يصح البيع ويستحق البائع على المشترى خمسمائة وعلى المستدعى خمسمائه، لانه مال بذله في مقابلة إزالة ملكه فيصح والثانى: لا يصح.
ولا يستحق على الباذل شيئا لان الثمن يجب أن يكون جميعه على المشترى، فإذا شرط بعضه على غيره لم يصح.
وإذا قال بع سيارتك من فلان بألف على إن أذن منه خمسمائة جاز وينظر فان ضمن قبل المبيع لم يلزمه لانه ضامن قبل الوجوب، وان ضمنه بعده لزمه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز أن يضمن الدين الحال إلى أجل لانه رفق ومعروف فكان على حسب ما يدخل فيه، وهل يجوز أن يضمن المؤجل حالا؟ فِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يضمن الحال مؤجلا
(والثانى)
لا يجوز، لان الضمان فرع لما على المضمون عنه فلا يجوز أن
يكون الفرع معجلا والاصل مؤجلا (الشرح) الاحكام: إذا كان لرجل على غيره دين حال فضمنه عنه ضامن إلى أجل معلوم صح الضمان وكان الدين معجلا على المضمون مؤجلا على الضامن، لان الضمان رفق ومعروف، فكان على حسب الشرط، وكذلك إذا كان الدين مؤجلا إلى شهر، فضمنه عنه ضامن مؤجلا إلى شهرين كان مؤجلا على المضمون عنه إلى شهر وعلى الضامن إلى شهرين، فان قبل فعندكم الدين الحال لا يتأجل فكيف تأجل على هذا الضامن؟ فالجواب أن الدين لم يثبت على الضامن حالا، وانما ثبت عليه مؤجلا، والدين يتأجل في ابتداء ثبوته، وان كان الدين على رجل مؤجلا فضمنه ضامن حالا أو كان مؤجلا على من هو عليه إلى شهرين فضمنه عنه ضامن إلى شهر ففيه ثلاثة أوجه حكاها المحاملى وابن الصباغ (أحدها) يصح الضمان ويلزم الضامن تعجيل الدين دون المضمون عنه لانه ضمن له دينا فكان على حسب ما ضمنه، كما لو ضمن المعجل مؤجلا.(14/21)
(والثانى)
لا يصح الضمان، لان الضامن فرع للمضمون عنه، فلا يجوز أن يستحق مطالبة الضامن دون المضمون عنه (والثالث) يصح الضمان ولا يلزمه التعجيل كأصله.
إذا ثبت هذا فضمن الحال مؤجلا فمات الضامن، حل عليه الدين ووجب دفع ذلك من تركته، ولو لم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه حتى يحل الاجل.
وقال زفر: يرجعون عليه في الحال، لانه أدخله في ذلك مع علمه أنه يحل بموته.
دليلنا أن المضمون عنه لم يأذن في الضمان عنه إلا إلى أجل، فلا يستحق
الرجوع عليه في الحال.
وإن مات المضمون عنه - فإن اختار المضمون له الرجوع على الضامن لم يطالبه قبل حلول الاجل، وإن اختار المطالبة من تركة المضمون عنه كان له ذلك في الحال، وبه قال أحمد وأصحابه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
.
(فصل)
ولا يثبت في الضمان خيار، لان الخيار لدفع الغبن وطلب الحظ، والضامن يدخل في العقد على بصيرة أنه مغبون، وانه لا حظ له في العقد، ولهذا يقال الكفالة أولها ندامة، وأوسطها ملامة.
وآخرها غرامة (الشرح) الاحكام: لا يجوز شرط الخيار في الضمان، فإذا شرط فيه أبطله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يصح الضمان ويبطل الشرط.
دليلنا أن الخيار يراد لطالب الحظ.
والضامن يعلم أنه مغبون لا من جهة المال بل من جهة الثواب.
ولهذا يقال الكفالة أولها ندامة، وأوسطها ملامة وآخرها غرامة، وإذا ثبت أنه لا وجه لشرط الخيار فيه.
قلنا عقد لا يدخله خيار الشرط فأبطله كالصرف والسلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويبطل بالشروط الفاسدة، لانه عقد يبطل بجهالة المال فبطل(14/22)
بالشرط الفاسد كالبيع، وان شرط ضمانا فاسدا في عقد بيع فهل يبطل البيع؟ فيه قولان كالقولين في الرهن الفاسد إذا شرطه في البيع، وقد بينا وجه القولين في الرهن.
(الشرح) الاحكام: يبطل الضمان بالشروط الفاسدة، لانه عقد يبطل بجهالة المال فبطل بالشروط الفاسدة كالبيع وفيه احتراز من الوصية، فإن قال
بعتك سيارتي بألف على أن يضمن لى فلان عليك على أنه بالخيار، فهذا شرط يفسد الضمان، وهل يفسد البيع في السيارة بذلك، فيه قولان كالقولين فيمن شرط رهنا فاسدا في بيع، وقد سبق توجيهما في الرهن قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ويجب بالضمان الدين في ذمة الضامن ولا يسقط عن المضمون عنه.
والدليل عليه ما روى جابر رضى الله عنه قال " توفى رجل منا فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه، فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين، قلنا ديناران فتحملهما أبو قتادة، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران، قال انما مات أمس ثم أعاد عليه بالغد، قال قد قضيتهما، قال الآن بردت عليه جلده " ولانه وثيقة بدين في الذمة فلا يسقط الدين عن الذمة كالرهن، ويجوز للمضمون له مطالبة الضامن والمضمون عنه، لان الدين ثابت في ذمتهما فكان له مطالبتهما، فإن ضمن عن الضامن ثالث جاز لانه ضمان دين ثابت فجاز كالضمان الاول، وان ضمن المضمون عنه عن الضامن لم يجز لان المضمون عنه أصل والضامن فرع، فلا يجوز أن يصير الاصل فرعا والفرع أصلا، ولانه يضمن ما في ذمته ولانه لا فائدة في ضمانه وهو ثابت في ذمته.
(الشرح) حديث جابر رضى الله عنه ولفظه " توفى رجل فغلسناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: تصلى عليه فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين.
قلنا ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة الديناران على، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أوفى الله حق الغريم وبرئ(14/23)
منه الميت، قال نعم.
فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ إنما مات أمس.
قال فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: الآن بردت عليه جلده " رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني وصححه ابن حبان والحاكم.
وفى قوله " أتينا به النبي صلى الله عليه " زاد الحاكم " ووضعناه حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل عليه السلام " قوله " فانصرف " لفظ البخاري في حديث أبى هريرة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا على صاحبكم " وقد سبق لنا تخريجه.
وكذلك حديث سلمة بن الاكوع أما الاحكام: فإنه إذا ضمن عن غيره دينا تعلق الدين بذمة الضامن ولا يبرأ المضمون عنه بالضمان، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأهل العلم.
وقال ابن أبى ليلى وابن شبرمة وداود وأبو ثور: تبرأ ذمة المضمون عنه بالضمان ويتحول الحق إلى ذمة الضامن، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم لابي قتادة رضى الله عنه: حق الغريم عليك والميت منه برئ.
قال نعم، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه: فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك ودليلنا ما روى جابر رضى الله عنه الحديث الذى سقناه وفيه " الآن بردت عليه جلده " فلو كان قد تحول الدين عن المضمون عنه بالضمان لكان قد برد جلده بالضمان، ولان الضمان وثيقة بدين، فلم يتحول إلى الوثيقة ويسقط عن الذمة كالرهن والشهادة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لابي قتادة رضى الله عنه " والميت منه برئ " يريد به من الرجوع في تركته.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه " فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك " أراد به لامتناعه صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه لاجل ما عليه من الدين فلما ضمنهما عنه فك رهانه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، لان صلاته رحمة
إذا ثبت هذا فيجوز للمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والمضمون عنه وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يطالب الضامن إلا إذا تعذرت مطالبة(14/24)
المضمون عنه، دليلنا أن الحق متعلق بذمة كل واحد منهما، فكان له مطالبة كل واحد منهما كالضامنين.
(فرع)
قال العمرانى في البيان: فإن ضمن عن الضامن ضامن أجنبي صح الضمان لانه دين لازم عليه كالضمان الاول، وان ضمن عن الضامن المضمون عنه لم يصح ضمانه، لان الضمان يستفاد به حق المطالبة، ولا فائدة في هذا الضمان لان الحق ثابت في ذمته قبل الضمان، ولان الضامن فرع المضمون عنه فلا يجوز أن ينقلب الاصل فرعا والفرع أصلا.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن ضمن عن رجل دينا بغير إذنه لم يجز له مطالبة المضمون عنه بتخليصه، لانه لم يدخل فيه بإذنه فلم يلزمه تخليصه، وان ضمن بإذنه نظرت، فإن طالبه صاحب الحق جاز له مطالبته بتخليصه، لانه إذا جاز أن يغرمه إذا غرم جاز أن يطالبه إذا طولب وإن لم يطالب ففيه وجهان
(أحدهما)
له أن يطالبه، لانه شغل ذمته بالدين بإذنه فجاز له المطالبة بتفريغ ذمته، كما لو أعاره عينا ليرهنها فرهنها
(والثانى)
ليس له، وهو الصحيح، لانه لما لم يغرمه قبل أن يغرم لم يطالبه قبل أن يطالب، ويخالف إذا أعاره عينا ليرهنها فرهنها لان عليه ضررا في حبس العين والمنع من التصرف فيها ولا ضرر عليه في دين في ذمته لا يطالب به، فإن دفع المضمون عنه مالا إلى الضامن وقال: خذ هذا بدلا عما يجب لك بالقضاء، ففيه وجهان
(أحدهما)
يملكه، لان الرجوع يتعلق بسببين: الضمان والغرم، وقد وجد أحدهما فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة قبل الحول، وإخراج الكفارة قبل الحنث، فإن قضى عنه الدين استقر ملكه على ما قبض، وان أبرئ من الدين قبل القضاء وجب رد ما أخذ، كما يجب رد ما عجل من الزكاة إذا هلك النصاب قبل الحول(14/25)
(والثانى)
لا يملك لانه أخذه بدلا عما يجب في الثاني فلا يملكه، كما لو دفع إليه شيئا عن بيع لم يعقده فعلى هذا يجب رده، فإن هلك ضمنه لانه قبضه على وجه البدل فضمنه كالمقبوض بسوم البيع (الشرح) الاحكام: إذا ضمن الرجل دينا عن رجل آخر بغير إذنه لم يكن للضامن مطالبة المضمون عنه بتخليص ذمته لانه لم يدخل فيه بإذنه فلزمه تخليصه، وإن ضمن عنه بإذنه، فإن طالب المضمون له الضامن بالحق كان للضامن أن يطالب المضمون عنه بتخليصه لانه دخل في الضمان بإذنه، وإن لم يطالب المضمون له الضامن فهل للضامن أن يطالب عنه؟ قال الشيخ أبو حامد نظرت فان قال أعطني المال الذى ضمنته عنك ليكون عندي حتى إذا طالبني المضمون له أعطيته ذلك، لم يكن له ذلك، لانه لم يغرم وإن قال خلصني من حق المضمون له وفك ذمتي من حقه، كما أوقعتني فيه فهل له ذلك.
فيه وجهان
(أحدهما)
له ذلك لانه لزمه هذا الحق من جهته وبأمره فكان له مطالبته بتخليصه كما لو استعار كتابا ليرهنه فرهنه فللمعير أن يطالب المستعير بقضاء الدين وفك الرهن عن الكتاب.
(والثانى)
ليس له ذلك، لانه إذا لم يطالبه المضمون له، فلا ضرر عليه في كون الحق في ذمته، فلم يكن له مطالبته بذلك، ويفارق الكتاب المرهون، لان
على صاحب الكتاب يقع الضرر في كون الكتاب مرهونا قال المسعودي: وأصل هذين الوجهين ما قال ابن سريج: هل ينعقد بين الضامن والمضمون عنه حكم بنفس الضمان.
على قولين.
ولهذا خمس فوائد.
إحداهن هذه المسألة المتقدمة.
الثانية: إذا دفع المضمون عنه إلى الضامن مال الضمان عوضا عما سيغرم فهل يملكه الضامن، فيه وجهان
(أحدهما)
يملكه لان الرجوع يتعلق بسببين بالضمان والغرم، وقد وجد أحدهما فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة بعد النصاب وقبل الحول، فعلى هذا إذا قضى الحق استقر ملكه على ما قبض، وإن أبرأه من الدين قبل القضاء وجب رد ما أخذ (الثاني) لا يملك ما قبض لانه أخذه بدلا عما يجب في الثاني فلا يملكه،(14/26)
كما لو دفع إليه شيئا عن بيع لم يعقد، فعلى هذا يجب رده، وان تلف ضمنه لانه قبضه على وجه البدل فضمنه كالمقبوض بسوم البيع (الفائدة الثالثة) لو أبرأ الضامن المضمون عنه عما سيغرم، هل يصح.
على الوجهين.
(الفائدة الرابعة) لو ضمن الضامن ضامن عن المضمون عنه، هل يصح فيه وجهان، وعلى قياس هذا إذا رهن المضمون عنه الضامن بما ضمن عنه، هل يصح.
على الوجهين (الفائدة الخامسة) لو ضمن في الابتداء بشرط أن يعطيه المضمون عنه ضامنا معينا بما ضمن هل يصح، على الوجهين وعلى قياس هذا إذا ضمن عنه باذنه بشرط أن يرهنه رهنا معلوما هل يصح على الوجهين، والله تعالى الموفق للصواب قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قبض المضمون له الحق من المضمون عنه، برئ الضامن لانه وثيقة بحق فانحلت بقبض الحق كالرهن، وان قبضه من الضامن برئ المضمون عنه، لانه استوفى الحق من الوثيقة فبرئ من عليه الدين، كما لو قضى الدين من ثمن الرهن.
وان أبرئ المضمون عنه برئ الضامن، لان الضامن وثيقة بالدين، فإذا أبرئ من عليه الدين انحلت الوثيقة، كما ينحل الرهن إذا أبرئ الراهن من الدين، وان أبرئ الضامن لم يبرأ المضمون عنه لان إبراءه إسقاط وثيقة من غير قبض، فلم يبرأ به من عليه الدين كفسخ الرهن.
(الشرح) الاحكام: إذا قبض المضمون له حقه من المضمون عنه برئ الضامن، لان الضمان وثيقة بالحق فانحلت باستيفاء الحق، كما لو استوفى المرتهن الحق من غير الرهن فان قبض الحق من الضامن برئ المضمون عنه لانه قبض الحق من الوثيقة فبرئ من عليه الحق كالمرتهن إذا استوفى حقه من ثمن الرهن(14/27)
وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه، برئ المضمون عنه وبرئ الضامن، لان المضمون عنه أصل والضامن فرع، فإذا برئ الاصل برئ الفرع.
وإن أبرأ الضامن برئ الضامن ولم يبرأ المضمون عنه كالمرتهن إذا أسقط حقه من الرهن فان الراهن لا يبرأ قال المسعودي وان قال المضمون له للضامن وهبت الحق منك.
أو تصدقت به عليك كان إبراء منه للضامن.
وقال أبو حنيفة يكون كما لو استوفى منه الحق.
دليلنا أن الاستيفاء منه هو أن يغرم الضامن ولم يغرم شيئا هنا (فرع)
وإن ضمن عن الضامن ثم ضمن عن الثاني ثالث ثم رابع عن الثالث صح ذلك، فإذا قبض المضمون له الحق حقه من أحدهم برئ الجميع،
لانه قد استوفى حقه.
وإن أبرأ المضمون له المضمون أولا برئوا جميعا، وإن أبرأ أحد الضمناء برئ وبرئ فرعه وفرع فرعه، ولا يبرأ أصله، لما ذكرناه في المسألة قبلها، ولانه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها فلم تبرأ ذمة الاصل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفائه، وأى الضامنين قضى الحق برئ الباقون من المضمون له لانه حق واحد.
وبهذا كله قال أصحاب أحمد، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
وان قضى الضامن الدين نظرت، فان ضمن باذن المضمون عنه وقضى باذنه رجع عليه، لانه أذن له في الضمان والقضاء، وإن ضمن بغير اذنه وقضى بغير اذنه لم يرجع لانه تبرع بالقضاء فلم يرجع، وان ضمن بغير اذنه وقضى باذنه ففيه وجهان، من أصحابنا من قال يرجع لانه قضى باذنه، والثانى لا يرجع وهو المذهب، لانه لزمه بغير اذنه فلم يؤثر اذنه في قضائه، وان ضمن باذنه وقضى بغير اذنه فالمنصوص أنه يرجع عليه، وهو قول أبى على ابن أبى هريرة، لانه اشتغلت ذمته بالدين باذنه فإذا استوفى منه رجع، كما لو أعاره مالا فرهنه في دينه وبيع في الدين وقال أبو إسحاق ان أمكنه أن يستأذنه لم يرجع لانه قضاه باختياره.
وان لم(14/28)
يمكنه رجع لانه قضاه بغير اختياره، وان أحاله الضامن على رجل له عليه دين برئت ذمة المضمون عنه، لان الحوالة بيع فصار كما لو أعطاه عن الدين عوضا.
وإن أحاله على من لا دين له عليه وقبل المحال عليه وقلنا يصح برئ الضامن، لان بالحوالة تحول ما ضمن، ولا يرجع على المضمون عنه، لانه لم يغرم، فان قبضه منه ثم وهبه له، فهل يرجع على الضامن، فيه وجهان بناء على القولين في
المرأة إذا وهبت الصداق من الزوج ثم طلقها قبل الدخول.
(فصل)
وان دفع الضامن إلى المضمون له ثوبا عن الدين في موضع يثبت له الرجوع رجع بأقل الامرين من قيمة الثوب أو قدر الدين، فان كان قيمة الثوب عشرة والدين عشرين لم يرجع بما زاد على العشرة، لانه لم يغرم، وان كان قيمة الثوب عشرين والدين عشرة لم يرجع بما زاد على العشرة لانه تبرع بما زاد فلا يرجع به، وان كان الدين الذى ضمنه مؤجلا فعجل قضاءه لم يرجع به قبل المحل لانه تبرع بالتعجيل (الشرح) الاحكام: إذا قضى الضامن الحق فهل يرجع على المضمون عنه.
فيه أربع مسائل إن قال اضمن عنى هذا الدين أو أنفذ عنى رجع عليه، وان قال اضمن هذا الدين أو أنفذ هذا الدين ولم يقل عنى لم يرجع عليه، الا أن يكون بينهما خلطة.
مثل أن يكون يودع أحدهما الآخر أو يستقرض أحدهما من الآخر، أو يكون ذا قرابة أو مصاهرة فالاستحسان أن يرجع عليه.
دليلنا انه ضمن عنه بأمره، وقضى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو قال اضمن عنى أو كان بينهما قرابة (الثانية) أن يضمن عنه بغير أمره ويقضى عنه بغير اذنه فانه لا يرجع عليه وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رضى الله عنهما له أن يرجع دَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يكن يصلى على من عليه دين، وقد ضمن على وأبو قتادة عن الميتين بحضرة النبي صلى الله عليه بغير اذنهما فصلى عليهما النبي صلى الله عليه وسلم، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي قتادة " الآن بردت(14/29)
عليه جلده " فلو كان إذا قضى عنه يستحق عليه الرجوع لم يبرد عليه جلده،
ولانه ضمن عنه بغير اذنه وقضى عنه بغير اذنه فلم يرجع، كما لو علف دوابه أو أطعم خادمه.
(الثالثة) إذا ضمن بغير اذنه ثم قضى باذنه فهل يرجع عليه، فيه وجهان أحدهما لا يرجع عليه وهو المذهب، لانه لزمه بغير اذنه وأمره بالقضاء انصرف إلى ما وجب عليه بالضمان، والثانى يرجع عليه لانه أدى عنه بأمره فرجع عليه كما لو ضمن عنه باذنه، وأصل هذين الوجهين من قال لغيره، اقض عنى دينى، فقضى عنه فهل له أن يرجع عليه.
فيه وجهان قال المسعودي والصيمري الا أن الاصح ههنا أن يرجع، والاصح في الاولى أن لا يرجع، والفرق بينهما أن في الضمان وجب في ذمته بغير اذنه، وفى القضاء لم يتعلق الحق بذمته، بل حصل القضاء باذنه.
وان قال اقض الدين ولم يقل عنى فان قلنا لا يرجع عليه فها هنا أولى أن لا يرجع، وان قلنا هناك يرجع فها هنا فيه وجهان حكاهما الصيمري الصحيح لا يرجع وان قال اقض عنى دينى لترجع على فقضى عنه رجع عليه وجها واحدا لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " وان قال اقض عن فلان دينه فقضى عنه، قال المسعودي لم يرجع عليه وجها واحدا لانه لا غرض عليه في ذلك (الرابعة) إذا ضمن عنه بأمره وقضى بغير أمره، فهل له أن يرجع عليه، فيه ثلاثة أوجه - حكاها الشيخ أبو حامد - (أحدها) يرجع عليه وهو المذهب، لانه دين لازم باذنه، فرجع عليه كما لو ضمن باذنه وقضى باذنه (الثاني) لا يرجع عليه لانه أسقط الدين عنه بغير اذنه فلم يرجع عليه.
كما لو ضمن بغير اذنه وقضى بغير اذنه
(والثالث) وهو قول أبى اسحاق ان كان الضامن مضطرا إلى القضاء مثل أن طالبه المضمون له والمضمون عنه غائب أو حاضر معسر فقضى المضمون له رجع الضامن لانه مضطر إلى القضاء.
وان كان غير مضطر إلى القضاء، مثل أن كان(14/30)
المضمون عنه حاضرا موسرا يمكنه أن يطالبه بتخليصه من الضمان، فقضى لم يرجع لانه متطوع بالاداء، وكل موضع ثبت للضامن الرجوع على المضمون عنه، فأحال الضامن المضمون له بالحق على من له عليه دين فانه يرجع على المضمون عنه في الحال، لان الحوالة كالقبض وإن أحاله على من لا حق له عليه وقبل المحال عليه - وقلنا يصح برئ الضامن والمضمون عنه ولا يرجع الضامن على المضمون عنه بشئ في الحال لانه لم يغرم شيئا، فان قبض المحتال من المحال عليه ورجع المحتال عليه على الضامن رجع الضامن على المضمون عنه وان أبرأ المحتال المحال عليه من مال الحوالة لم يرجع المحال عليه على المحيل وهو الضامن بشئ، ولم يرجع الضامن على المضمون عنه، لانه لم يغرم واحد منهما شيئا.
وان قبض المحتال الحق من المحال عليه ثم وهبه منه، أو قبض المضمون له الحق من الضامن ثم وهبه منه فهل لهما الرجوع.
فيه وجهان، بناء على القولين في المرأة إذا وهبت صداقها من الزوج ثم طلقها قبل الدخول (فرع)
إذا كان لرجل على رجلين ألف دينار على كل واحد منهما ضامن عن صاحبه، فلمن له الدين أن يطالب بالالف من شاء منهما، فان قبض من أحدهما ألفا برئا جميعا، وكان للدافع أن يرجع على صاحبه بخمسمائة ان ضمن باذنه وقضى باذنه.
وان قبض من أحدهما خمسمائة، فان قال الدافع خذها عن التى على لك أصلا
لم يرجع الدافع على صاحبه بشئ، وان قال خذها عن التى ضمنت برئا عنها وكان رجوعه على صاحبه على ما مضى وان دفعها إليه وأطلق، فاختلف الدافع والقابض فقال الدافع دفعتها وعينتها عن التى ضمنتها أو نويتها عنها، وقال المضمون له بل عينتها أو نويتها عن التى هي أصل عليك، فالقول قول الدافع مع يمينه لان أعلم بقوله ونيته وان اتفقا أنه لم يعينها عن أحدهما ولا نواها، ثم اختلفا في جهة صرفها، ففيه وجهان
(أحدهما)
يصرف اليهما نصفين(14/31)
(والثانى)
للدافع أن يصرفها إلى أيهما شاء.
وقد مضى دليل الوجهين في الرهن.
وان أبرأه المضمون له عن خمسمائة واختلفا فيما وقعت عليه البراءة.
ففى هذه المسائل القول قول المضمون له فيما أبرأ عنه إذا اختلفا في تعيينه أو نيته وان أطلق ففيه وجهان
(أحدهما)
ينصرف اليهما
(والثانى)
يعينه المضمون له فيما شاء.
(فرع)
إذا ضمن عن غيره ألف درهم.
قال العمرانى في البيان وكانت هذه الالف مكسرة فدفع إليه ألفا صحاحا في موضع يثبت له الرجوع على المضمون عنه فانه لا يرجع عليه بالصحاح لانه تطوع بتسليمها وانما يرجع بالمكسرة، قال وان ضمن عنه الف درهم صحاحا فدفع ألفا مكسرة لم يرجع الا بالمكسرة لانه لم يغرم غيرها، وان صالح الضامن عن الالف على ثوب ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المشهور أنه يرجع على المضمون عنه بأقل الامرين من قيمة الثوب أو الالف، لانه ان كانت قيمة الثوب أقل لم يرجع بما زاد عليه لانه لم يغرم غير ذلك، وان كانت قيمة الثوب أقل لم يرجع بما زاد عليه لانه لم يغرم غير ذلك، وان كانت قيمة الثوب أكثر من الالف لم يرجع بما زاد على الالف
لانه متطوع بالزيادة عليه والوجه الثاني حكاه المسعودي والشيخ أبو نصر المروذى أنه يرجع بالالف وهو قول أبى حنيفة رحمه الله، كما لو اشترى رجل شقصا بألف ثم أعطاه عن الالف ثوبا يساوى خمسمائة فان المشترى يرجع على الشفيع بألف وأما إذا صالح الضامن المضمون له عن الالف على خمسمائة وقلنا يصح.
فان الضامن والمضمون عنه يسقط عنهما الالف كما لو أخذ بالالف ثوبا يساوى خمسمائة.
قال المسعودي ولا يرجع الضامن على المضمون عنه الا بخمسمائة وجها واحدا، لانه لم يغرم غيرها (فرع)
إذا كان على مسلم لذمى ألف درهم فضمن عنه ذمى، ثم ان الضامن صالح المضمون له عن الدين الذى ضمنه على المسلم على خمر أو خنزير، فهل يصح الصلح.
فيه وجهان(14/32)
(أحدهما)
لا يصح ولا يبرأ واحدا منهما عنه حق المضمون له لانه متصل بحق المسلم.
(والثانى)
يصح لان المعاملة بين ذمتين، فإذا قلنا بهذا فبماذا يرجع الضامن على المسلم، إن قلنا إنه إذا صالحه على ثوب يرجع عليه بأقل الامرين، لم يرجع ها هنا شئ، وان قلنا يرجع بالالف رجع ها هنا فيها أيضا (فرع)
إذا ضمن عن غيره دينا مؤجلا بإذنه ثم إن الضامن عجل الدين المضمون له قبل أجله لم يرجع على المضمون عنه قبل حلول الاجل لتطوعه بالتأجيل، فإذا ضمن رجل صداق امرأة فأداه إليها الضامن فارتدت قبل الدخول سقط مهرها.
قال المسعودي: وترد المرأة ما قبضت من الصداق إلى الزوج ثم ترده إلى الضامن
(فرع)
إذا ضمن رجل عن غيره ألف درهم بإذنه، ثم ادعى الضامن أنه دفعها إلى المضمون له وأنكر المضمون له ذلك ولم يكن هناك بينة فالقول قول المضمون له مع يمينه، لان الاصل عدم القبض، فإذا حلف كان له أن يطالب أيهما شاء، لان حقه ثابت في ذمتهما، فإن أخذ الالف من المضمون عنه برئت ذمته وذمة الضامن.
وهل للضامن أن يرجع بالالف الاولى على المضمون عنه لا يخلو إما أن يكون دفع بغير محضر المضمون أو بمحضره، فان دفع بغير محضره فلا يخلو إما أن يشهد على الدفع أو لم يشهد على الدفع، فان لم يشهد نظرت في المضمون عنه، فان صدق الضامن أنه دفع، فهل له الرجوع عليه.
فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ إنه يرجع عليه لانه قد صدقه أنه أبرأ ذمته بدفع الالف فكان له الرجوع عليه.
كما لو كان دفع بحضرته
(والثانى)
وهو قول أبى إسحاق انه لا يرجع عليه بشئ وهو المشهور.
ولم يذكر الشيخ أبو حامد الاسفرايينى غيره، لانه يقول: إن دفعت فلم تدفع دفعا يبرئني من حقه، لانك لم تسقط عنى بذلك المطالبة، فلم تستحق على بذلك رجوعا.
قال صاحب البيان: ويخالف إذا كان بحضرته.
فان المفرط هو المضمون عنه، وإن كذبه المضمون عنه فهل عليه اليمين.
إن قلنا لو صدقه كان له الرجوع(14/33)
كان على المضمون عنه أن يحلف أنه ما يعلم أنه دفع.
وإن قلنا لو صدقه لا رجوع له عليه، فلا يمين عليه.
وإن اختار المضمون له أن يرجع على الضامن فيرجع عليه برئت ذمة المضمون عنه والضامن، وهل للضامن ان يرجع عن المضمون عنه إذا صدقه في دفع الاولة.
ان قلنا بقول أبى على بن أبى هريرة ان للضامن أن يرجع بالاولة
على المضمون عنه إذا رجع المضمون له على المضمون عنه رجع الضامن ههنا بالالف الاولة على المضمون عنه، ولا يرجع عليه بالثانية لانه يعترف أن المضمون له ظلم بأخذها فلا يرجع بها على غير من ظلمه وان قلنا بالشهود وأنه لا يرجع عليه في الاولة فهل يرجع ها هنا بشئ.
فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما)
لا يرجع عليه بشئ.
أما الاولة فقد ذكرنا الدليل عليها.
وأما الثانية فلا يرجع بها، لانه يعترف أن المضمون له ظلم بأخذها، فلا يرجع بها على غير من ظلمه.
(والثانى)
يرجع عليه، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، لانه قد أبرأ المضمون عنه بدفعه عنه ظاهرا وباطنا فكان له الرجوع عليه كما لو دفع بالبينة، فإذا قلنا بهذا فبأيتهما يرجع.
فيه ثلاثة أوجه أحدها وهو قول أبى حامد الاسفرايينى أنه يرجع عليه بالثانية، لان المطالبة عن المضمون عنه سقطت بها في الظاهر والثانى يرجع بالاولة لان براءة الذمة حصلت بها في الباطن والثالث وهو قول ابن الصباع: أنه يرجع بأقلهما لانه ان كان قد ادعى أنه دفع في المرة الاولة ثوبا قيمته دون الالف وفى الثانية دفع الالف، فقد أقر بأن الثانية ظلمه بها المضمون له فلا يرجع بها على غير من ظلمه، وان كان يدعى أنه دفع في المرة الاولة ألف درهم، وفى المرة الثانية ثوبا قيمته دون الالف لم يرجع الا بقيمة الثوب، لانه لم يستحق الرجوع بالاولة فلم يستحق الا قيمة الثوب.
فان كان الضامن حين دفع الالف الاولة بغير محضر المضمون عنه قد أشهد على(14/34)
الدفع، فان كانت البينة قائمة حكم بها على المضمون له ولم يقبل يمنيه ويكون للضامن
أن يرجع على المضمون عنه.
وإن كانت البينة غير قائمة وصدقه المضمون له أنه قد دفع وأشهد نظرت، فان كان قد أشهد شاهدين عدلين إلا أنهما غابا أو ماتا أو فسقا، فان المضمون له إذا حلف كان له أن يرجع على أيهما شاء، فإن رجع على المضمون عنه كان للضامن أن يرجع أيضا على المضمون عنه بالالف التى قد دفعها عنه، لانه قد اعترف أنه دفع عنه دفعا يبرئه ولا صنع له في تعذر الشهادة.
وان رجع المضمون له على الضامن لم يرجع بالثانية لانه ظلمه بها، وإنما يرجع بالاولة لما ذكرناه وان أشهد شاهدين كافرين أو فاسقين ظاهرين الفسق فهو كما لو لم يشهد، هل له أن يرجع على المضمون عنه.
على الوجهين، إذا صدقه على الدفع ولم يشهد على ما مضى في الاولة من التفريع.
وان أشهد شاهدين ظاهرهما العدالة ثم بان أنهما كانا فاسقين ففيه وجهان
(أحدهما)
يرجع الضامن على المضمون عنه، لانه لم يفرط في الاشهاد، وليس عليه المعرفة في الباطن، فعلى هذا حكمه حكم ما لو أشهد عدلين ثم ماتا
(والثانى)
حكمه حكم ما لو لم يشهد، لانه أشهد من لا يثبت الحقوق بشهادته وان أشهد شاهدا واحدا عدلا حرا، فان كان موجودا حلف معه، وكان كما لو أشهد عدلين وحكم بشهادتهما.
وان كان ميتا أو غائبا أو طرأ الفسق عليه.
فقيه وجهان.
(أحدهما)
حكمه حكم ما لو أشهد عدلين ثم فسقا لانه دفع بحجته، وإنما عدمت كالشاهدين
(والثانى)
حكمه حكم ما لو لم يشهد، لانه فرط حيث اقتصر على بينة مختلف في قبولها ; فهو كما لو لم يشهد.
وأما إذا دفع الضامن الالف الاولة بمحضر من المضمون عنه، فان أشهد
على الدفع فان كانت البينة قائمة أقامها وحكم بها، وان كانت غير قائمة فعلى ما مضى وان لم يشهد فحلف المضمون له رجع على من يشاء منهما.
وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه، فيه وجهان.
من أصحابنا من قال: حكمه حكم ما لو لم(14/35)
يشهد، فكان الدفع بعينه المضمون عنه على ما مضى، لانه فرط في ترك الاشهاد فصار الدفع بعينه المضمون عنه، لانه فرط في ترك الاشهاد فصار كما لو دفع في عين المضمون عنه.
(والثانى)
وهو المنصوص أنه يرجع عليه، لان المفرط في ترك الاشهاد هو المضمون عنه.
وإن ادعى الضامن أنه دفع الحق إلى المضمون له فأنكر ذلك المضمون له.
والمضمون عنه.
ولم تكن هناك بينة فالقول قول المضمون له مع يمينه، فان لم يحلف ردت اليمين على الضامن، فان حلف بنينا على القولين في يمين المدعى مع نكول المدعى عليه.
فإن قلنا إنه كالبينة برئ الضامن والمضمون عنه من دين المضمون له.
وكان للضامن أن يرجع على المضمون عنه وإن قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كإقرار المدعى عليه، فهو كما لو صدق المضمون له الضامن على الدفع، وأنكر المضمون عنه الدفع، فانه لا مطالبة للمضمون له على أحدهما، لانه قد استقر باستيفاء الحق وهل للضامن أن يرجع بشئ على المضمون عنه.
فيه وجهان لابي العباس ابن سريج
(أحدهما)
القول قول المضمون عنه مع يمينه، ولا يرجع الضامن عليه بشئ، لان الضامن يدعى القضاء ليرجع، فلم يقبل، لان الاصل عدمه، والمضمون له يشهد على فعل نفسه فلم يقبل
(والثانى)
يرجع الضامن على المضمون عنه، لان قبض المضمون له يثبت
مرة بالبينة ومرة بالاقرار، ولو ثبت القبض بالبينة لرجع عليه، وكذلك إذا ثبت بالاقرار، والله تبارك وتعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويصح ضمان الدرك على المنصوص، وخرج أبو العباس قولا آخر أنه يصح لانه ضمان ما يستحق من المبيع، وذلك مجهول، والصحيح أنه يصح قولا واحدا، لان الحاجة داعية إليه لانه يسلم الثمن ولا يأمن أن يستحق عليه المبيع، ولا يمكنه أن يأخذ على الثمن رهنا، لان البائع لا يعطيه مع المبيع(14/36)
رهنا ولا يمكنه أن يستوثق بالشهادة، لانه قد يفلس البائع فلا تنفعه الشهادة، فلم يبق ما يستوثق به غير الضمان، ولا يمكن أن يجعل القدر الذى يستحق معلوما فعفى عن الجهالة فيه، كما عفى عن الجهل بأساس الحيطان، ويخالف ضمان المجهول لانه يمكنه أن يعلم قدر الدين ثم يضمنه، وفى وقت ضمانه وجهان
(أحدهما)
لا يصح حتى يقبض البائع الثمن، لانه قبل أن يقبض ما وجب له شئ ; وضمان ما لم يجب لا يصح
(والثانى)
يصح قبل قبض الثمن، لان الحاجة داعية إلى هذا الضمان في عقد البيع فجاز قبل قبض الثمن.
وإن اشترى جارية وضمن دركها فخرج بعضها مستحقا فان قلنا إن البيع يصح في الباقي رجع بثمن ما استحق، وإن قلنا يبطل البيع في الجميع رجع على الضامن بثمن ما استحق، وهل يرجع عليه بثمن الباقي.
فيه وجهان
(أحدهما)
يرجع عليه، لانه بطل البيع فيه لاجل الاستحقاق، فضمن كالمستحق.
(والثانى)
لا يرجع لانه لم يضمن إلا ما يستحق فلم يضمن ما سواه، وإن ضمن الدرك فوجد بالمبيع عيبا فرده، فهل يرجع على الضامن بالثمن؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يرجع، وهو قول المزني وأبى العباس، لانه زال ملكه عنه بأمر حادث فلم يرجع عليه بالثمن، كما لو كان شقصا فأخذه الشفيع
(والثانى)
يرجع لانه رجع إليه الثمن بمعنى قارن العقد، فثبت له الرجوع على الضامن، كما لو خرج مستحقا، وإن وجد به العيب وقد حدث عنده عيب فهل يرجع بأرش العيب؟ على ما ذكرناه من الوجهين (الشرح) قوله " الدرك " التبعة بفتح الراء وسكونها، قال في الصحاح: يقال ما لحقك من درك فعلى خلاصه أما الاحكام: فإنه يصح ضمان العهد على المنصوص في الام، وهو أن يشترى رجل عينا بثمن في ذمته فيضمن رجل عن البائع الثمن ان خرج المبيع مستحقا، وخرج أبو العباس بن سريج قولا آخر أنه لا يصح وبه قال ابن القاص، لانه ضمان ما لم يجب، ولانه ضمان مجهول لانه لا يعلم هل يستحق المبيع أو بعضه.(14/37)
والصحيح أنه يصح، لان البائع لا يعطيه مع المبيع رهنا، والشهادة لا تفيد لان الباع قد يفلس فلا تفيد الشهادة، فلم يبق ما يستوثق المشترى به غير الضمان وأما قول ابن القاص انه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول فغير صحيح، لانه ان لم يكن المبيع مستحقا فلا ضمان أصلا، وان كان مستحقا فقد ضمن الحق بعد وجوبه، وانما صح الضمان ها هنا مع جهالة ما يستحقه المشترى، لان الحاجة تدعو إلى ذلك، وقال أبو يوسف: إذا ضمن له العهد كان ضامنا لنكبات الابتياع.
وهذا ليس بصحيح، لان العرف قد صار في العهد عبارة من الدرك وضمان الثمن فانصرف الاطلاق إليه، فإذا قلنا يصح ضمان العهد صح بعد قبض الثمن وجها واحدا، لانه ضمان الحق بعد وجوبه، وهل يصح ضمانه قبل أن يقبض البائع
الثمن؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
يصح لان الحاجة تدعو إلى هذا الضمان قبل قبض الثمن، كما تدعو إليه بعد قبضه.
(والثانى)
ولم يذكر ابن الصباغ غيره: أنه لا يصح لانه ضمان الحق قبل وجوبه.
فلم يصح قال ابن الصباغ: وألفاظه أن يقول: ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه، أو يقول للمشترى ضمنت خلاصك منه، أو يقول: متى خرج المبيع مستحقا فقد ضمنت لك الثمن، فإن قال ضمنت لك خلاص المبيع لم يصح لان التقدير على ذلك متى خرج مستحقا.
قال ابن سريج: لا يضمن درك المبيع إلا أحمق.
إذا ثبت هذا فإنه إذا ضمن له عهدة دار اشتراها أو خلاصها فاستحقت رجع بالثمن على الضامن، ان شاء الخلاص الحال يسلم إليه، فتأول أصحابنا ذلك تأويلين
(أحدهما)
أنه أراد خلاصك به
(والثانى)
أنه أراد وخلاصها، وقد جاءت (أو) بمعنى الواو.
قال تعالى " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " وقال تعالى " ولا تطع منهم آثما أو كفورا " وأما (ما) فتكتب في الوثائق: ضمن فلان البائع لفلان بن فلان المشترى(14/38)
قيمة ما أحدث في المبيع من غراس أو بناء وغير ذلك إذا خرج مستحقا.
قال أصحابنا: فان هذا ضمان باطل بلا خلاف على المذهب.
لانه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول، فان قيد ذلك وقال: من درهم إلى ألف لم يصح، لانه ضمان ما لم يجب.
وقال أبو حنيفة رحمه الله يصح ضمان هذا مع العهدة بناء على أصله ما لم يجب وقد مضى ذكره ; فإن ضمن خلاص المبيع أو ضمن قيمة ما يحدث في المبيع من
بناء أو غراس، فإن كان في غير عقد البيع نظرت، فان أفرد ذلك عن ضمان العهدة لم يبطل البيع ولا ضمان العهدة، بل يبطل ضمان خلاص المبيع وضمان ما يحدث فيه من بناء أو غراس، وإن قرنه مع ضمان العهدة بطل خلاص المبيع وما يحدث فيه، وهل يبطل ضمان العهدة؟ فيه قَوْلَانِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
وإن شرط ذلك في البيع بأن قال: بعنى هذه الارض بمائة دينار بشرط أن يضمن لى فلان خلاصها، وقيمة ما أحدثته فيها من بناء أو غراس إذا استحققت فقال بعتك.
أو كان هذا الشرط في زمان الخيار فسد البيع لانه بيع بشرط فاسد قال الشيخ أبو حامد: ويجئ فيه قول آخر أنه لا يبطل البيع إذا شرط ضمان قيمة ما يحدث في الارض - كما قلنا فيمن شرط رهنا فاسدا في البيع - والاول أصح (فرع)
إذا ضمن رجل لرجل العهدة واستحق جميع المبيع على المضمون له وقد دفع الثمن إلى البائع فالمشترى بالخيار ان شاء طالب البائع بالثمن، وان شاء طالب به الضامن.
وإن خرج بعضه مستحقا بطل البيع فيما خرج منه مستحقا وكان للمشترى أن يطالب الضامن بثمن القدر الذى خرج منه مستحقا، وهل يبطل البيع في الباقي؟ فيه قولان، فإذا قلنا يبطل البيع أو قلنا لا يبطل إلا أن المشترى اختار فسخ البيع فيه.
فهل للمشترى أن يرجع بثمن ذلك القدر على الضامن؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يرجع عليه، لانه ثبت له بسبب الاستحقاق
(والثانى)
لا يرجع عليه، لانه لم يضمن إلا ثمن ما استحق، فهذا ثمن ما لم يستحق، وإنما بطل البيع فيه لانه لا يفرق الصفقة، ويفسخه المشترى،(14/39)
وان وجد المشترى بالمبيع عيبا فرده فهل له أن يطالب الضامن بالثمن.
قال أصحابنا
ان قال الضامن ضمنت لك درك ما يلحقك في المبيع، أو ضمنت لك درك المبيع لكل عيب تجد فيه، فله أن يرجع بالثمن على الضامن وجها واحدا، وكذلك إن حدث عند المشترى عيب وقد وجد به عيبا فله أن يرجع بالارش على الضامن، لان ضمانه يقتضى ذلك وإن ضمن درك المبيع أو عهدته لا غير: فهل له أن يرجع بالثمن على الضامن إذا وجد به عيبا.
أو بالارش إن حدث عنده عيب آخر؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يرجع عليه بالثمن، لان الثمن رجع إليه بمعنى قارن عقد البيع بتفريط من البائع فرجع به على الضامن كما لو استحق المبيع
(والثانى)
لا يرجع به عليه بل يرجع به على البائع وهو قول المزني وأبى العباس بن سريج، لانه زال ملكه عن المبيع بغير الاستحقاق فلم يرجع بالثمن على الضامن، كما لو كان المبيع شقصا فأحذه الشفيع (فرع)
فان ضمن العهدة فبان أن البيع كان باطلا بغير الاستحقاق فهل للمشترى ان يرجع بالثمن على الضامن.
فيه وجهان حكاهما في الابانة
(أحدهما)
يرجع به عليه، لانه رجع إليه الثمن لمعنى قارن عقد البيع، فصار كما لو استحق.
(والثانى)
لا يرجع عليه به لانه يمكنه أن يمسك العين المبيعة إلا أن يسترجع ما دفع من الثمن، فلم يرجع به على الضامن: بخلاف ما لو استحق المبيع في يد البائع قبل القبض أو فسخ المبيع، أو كان شقصا فأخذه الشفيع بالشفعة، فإن المشترى لا يرجع بالثمن على الضامن، لان الثمن رجع إليه بمعنى حادث بعد العقد ولم يضمن الضامن الا الثمن عند استحقاق المبيع (فرع)
قال المسعودي: لو اشترى رجل شيئا بثمن وسلمه وضمن رجل للبائع نقصان الوزن أو رداءة الثمن، فخرج الثمن ناقصا أو رديئا أو معيبا فله أن
يطالب الضامن بما نقص من المثن، وله أن يرد الردئ والمعيب على المشترى ويطالب الضامن بالثمن، اه(14/40)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتجوز كفالة البدن على المنصوص في الكتب، وقال في الدعاوى والبينات: إن كفالة البدن ضعيفة، فمن أصحابنا من قال: تصح قولا واحدا، وقوله: ضعيفة أراد من جهة القياس، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: فِيهِ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: أنها لا تصح، لانه ضمان عين في الذمة بعقد فلم يصح كالسلم في ثمرة نخلة بعينها.
والثانى: يصح، وهو الاظهر لما روى أبو إسحاق السبيعى عن حارثة ابن مضرب قال صليت مع عبد الله بن مسعود الغداة فلما سلم قام رجل فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فو الله لقد بت البارحة وما في نفسي على أحد احنة وانى كنت استطرقت رجل من بنى حنيفة، وكان أمرنى أن آتيه بغلس فانتهيت إلى مسجد بنى حنيفة، مسجد عبد الله بن النواحة: فسمعت مؤذنهم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن مسيلمة رسول الله، فكذبت سمعي وكففت فرسى حتى سمعت أهل المسجد قد تواطأوا على ذلك فقال عبد الله بن مسعود، على بعبد الله ابن النواحة، فحضر واعترف، فقال له عبد الله: أين ما كنت تقرأ من القرآن قال: كنت أتقيكم به، فقال له: تب فأبى، فأمر به فأخرج إلى السوق فجز رأسه ثم شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بقية القوم، فقال عدى بن حاتم: تؤلول كفر قد أطلع رأسه فاحسمه.
وقال جرير بن عبد الله والاشعث بن قيس اسثتبهم فان تابوا كفلهم عشائرهم فاستتابهم فتابوا، وكفلهم عشائرهم، ولان البدن يستحق تسليمه بالعقد فجاز الكفالة به كالدين، فإن قلنا: تصح جازت الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور
في مجلس الحكم بدين، لانه حق لازم لآدمي فصحت الكفالة به كالدين، وإن كان عليه حد فإن كان لله تعالى لم تصح الكفالة به، لان الكفالة للاستيثاق وحق الله تعالى مبنى على الدرء والاسقاط ; فلم يجز الاستيثاق بمن عليه، وإن كان قصاصا أو حد قذف ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا تصح، لانه لا تصح الكفالة بما عليه فلم تصح الكفالة به(14/41)
كمن عليه حد لله تعالى.
والثانى: تصح لانه حق لآدمي فجازت الكفالة ببدن من عليه كالدين، ومن عليه دين غير لازم كالمكاتب لا تجوز الكفالة ببدنه، لان الحضور لا يلزمه فلا تجوز الكفالة به كدين الكتابة.
(الشرح) حديث أبى إسحاق السبيعى أخرجه أبو داود من طريق حارثة بن مضرب - وهو بتشديد الراء المكسورة - العبدى الكوفى، وهو ثقة من الطبقة الثانية، وقد غلط من نقل عن المدينى أنه تركه.
هكذا في التهذيب لابن حجر: أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال " ما بينى وبين أحد من العرب حنة، وإنى مررت بمسجد لبنى حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة، فأرسل إليهم عبد الله فجئ بهم فاستتابهم غير ابن النواحة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: لولا أنك رسول اضربت عنقك، فأنت اليوم لست برسول، فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه في السوق، ثم قال: من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا في السوق، وترجع قصة بن النواحة هذا إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسله مسيلمة مع آخر هو بن أثال - بضم الهمزة بعدها مثلثة - فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أتشهدان أنى رسول الله.
قالا نشهد أن مسيلمة رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمنت بالله ورسوله، ولو كنت قاتلا رسولا
لقتلتكما.
قال عبد الله: فمضت السنة أن الرسل لا تقتل رواه أحمد وأبو داود.
والحاكم والنسائي مختصرا من حديث عبد الله بن مسعود، وليس في رواية من الروايات أن ابن النواحة قد أسلم، وإنما كان هناك من الصحابة عندما أعلن مسيلمة أكذوبته من انضم إليه وارتد عن الاسلام، مع أنه كان من حفظة القرآن هو الفقيه الخوان الاثيم، القارئ للقرآن الرجال بن عنفوة.
وقد كان على مقدمة جيش مسيلمة حين هاجمهم المسلمون بقيادة خالد بن الوليد، وقد قتل في هذه المعركة وعجل الله به إلى النار أما ابن النواحة فعله كان قد أسلم ثم ارتد مع مسيلمة ثم ظل على ولائه لمسيلمة عصبية جاهلية لانهم كانوا يقولون: كذاب، ربيعة خير من صادق مضر(14/42)
فلما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم الرسولين وفيهما ابن النواحة.
وبعد حروب الردة ذهب عبد الله بن مسعود يستطرق لفرسه ذكرا من بنى حنيفة.
وقد انفق مع صاحب الفرس الذكر أن يأتيه بغلس فانتهى إلى مسجد القوم وكان الذى بناه عبد الله بن النواحة، فسمع المؤذن يشهد لمسيلمة بالرسالة، حتى إذا استيقن عبد الله من هذه المفاجأة المذهلة واستوضحه فاعترف، وكان رأى الصاحبة الذين استشارهم أن ثؤلول كفر - والثؤلول بضم الثاء وإسكان الهمزة والثآليل أورام خبيثة تظهر كالدرن في الجسم - قد أطلع رأسه ويجب أن يحسم قوله: عدى بن حاتم الطائى: وكان ممن ثبت على الاسلام في الردة وحضر فتوح العراق، وحارب مع على ومات سنة ثمان وستين، وكان أبوه مضرب المثل في الكرم.
قوله: جرير بن عبد الله هو ابن جابر البجلى صاحبي مشهور ويكنى أبا عمرو، ويقال له: الشليل بن مالك من ولد انمار بن نزار، ولم يختلف النسابون أن بجيلة
أمهم نسبوا إليها، وهى بجيلة بنت صعب، وكان جرير سيد قبيلته، وكان إسلامه في العام الذى توفى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قال هو عن نفسه انه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما.
وفيه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، وفى جرير قال الشاعر: لولا جرير هلكت بجيله
* نعم الفتى وبئست القبيلة فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ما مدح من هجى قومه.
وكان عمر يقول: جرير بن الله يوسف هذه الامة، يعنى في حسنه، وكان جرير رسول على بن أبى طالب إلى معاوية فحبسه مدة طويلة، روى عنه أنس بن مالك وقيس ابن أبى حازم وهمام بن الحارث والشعبى، وروى عنه بنوه عبيد الله والمنذر وابراهيم.
وأما الاشعث بن قيس فقد ساق نسبه ابن منده وأبو نعيم هكذا: الاشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن ثعلبة بن عدى بن ربيعة الكندى وكنيته أبو محمد.
وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر من الهجرة في وفد كنده وكانوا(14/43)
ستين راكبا فأسلموا.
وقال الاشعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت منا فقال " نحن بنو النضر بن كنانة لانقفو أمنا ولا تنتفى من أبينا " فكان الاشعث يقول: لا أوتى بأحد ينفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته ولما أسلم خطب أم فروة أخت أبى بكر الصديق رضى الله عنه ثم عاد إلى اليمن شهد اليرموك وفقئت عينه، ثم سار إلى العراق فشهد القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند، وسكن الكوفة وشهد صفين مع على، وكان ممن ألزم عليا بالتحكيم، وشهد الحكمين بدومة الجندل، وكان عثمان قد استعمله على أذربيجان وكان الحسن بن على تزوج ابنته.
فقيل هي التى دست السم له فمات منه.
رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث وروى عنه قيس بن أبى حازم وأبو وائل.
وقد نزل في الاشعث بن قيس قوله تعالى " ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " الآية، لانه خاصم رجلا في بئر، توفى سنة ثنتين وأربعين وصلى عليه الحسن بن على.
وقال ابن منده: هذا وهم، لان الحسن لم يكن بالكوفة، وإنما كان قد سلم الامر إلى معاوية ثم رجع إلى المدينة.
ولكن أبا نعيم يؤكد أنه توفى بعد على بأربعين ليلة وصلى عليه الحسن.
أما أحكام الفصل: فان المنصوص للشافعي رضى الله عنه في أكثر كتبه أن الكفالة بالبدن تصح.
وقال في الدعوى والبينات: كفالة الوجه عندي ضعيف.
واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال تصح الكفالة بالبدن قولا واحدا، وقوله في الدعوى والبينات ضعيف، يريد في القياس، وهو قوى في الاثر، وذهب المزني وأبو إسحاق إلى أن المسألة على قولين
(أحدهما)
لا يصح لان الكفالة بعين فلم تصح كالكفالة بالزوجة وبدن الشاهد، ولانه ضمان عين في الذمة بعقد فلم يصح، كما لو أسلم في ثمرة نخلة بعينها.
فقوله " في الذمة " احتراز من البائع فانه يضمن العين المبيعة في يده لا في ذمته فلو تلفت قبل القبض لم يضمنها في ذمته وقوله " بعقد " احتراز من الغاصب، فإنه يضمن العين المغصوبة في يده وفى ذمته(14/44)
والقول الثاني: أن الكفالة بالبدن صحيحة، وهو قول شريح والشعبى ومالك وأبى حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن الحسن وأحمد رضى الله عنهم.
وهو الصحيح لقوله تعالى " فخد أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين " ولحديث عبد الله
ابن مسعود الذى استشار في الذين كانوا يضجون في مسجدهم بمسيلمة استشار أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشار عليه جرير بن عبد الله والاشعث ابن قيس أن يستتابوا ويتكفل بهم عشائرهم، فاستتابهم فتابوا وكفلهم عشائرهم فدل على أن الكفالة بالبدن كانت سائغة عند الصحابة رضوان الله عليهم: إذ لم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك: وان كان هذا الموضع لم يتوجه عليهم فيه حق فلم يكن موضعا تصح فيه الكفالة بالبدن، إلا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه وأصحابه الذين معه أرادوا بهذا الاستظهار على هؤلاء المارقين فإذا قلنا لا تصح الكفالة بالبدن فلا تفريع عليه، وإذا قلنا تصح، فإنما تصح ببدن كل من يلزمه الحضور إلى مجلس الحكم بدين، لانه لازم فصحت الكفالة ببدن من عليه كالدين.
(فرع)
وأما الكفالة ببدن من عليه جلد، فان كان لله تعالى كحد الزنا وحد شرب الخمر وما أشبههما لم يصح لمعنيين
(أحدهما)
أنه لما لم تصح الكفالة بما عليه من الحق لم تصح الكفالة ببدن من عليه
(والثانى)
لا، لان الكفالة وثيقة وحدود الله لا يستوثق بها لانها تسقط بالشبهات.
وإن كان الحد للآدمي كحد القذف والقصاص، فهل تصح الكفالة ببدن من عليه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا تصح، لانها لا تصح الكفالة بما عليه من الحق، فلم تصح الكفالة ببدنه.
كمن عليه حد الزنا
(والثانى)
تصح الكفالة ببدنه لان عليه حقا لآدمي فصحت الكفالة ببدنه، كما لو كان له عليه دين (فرع)
وان تكفل ببدن مكاتب السيدة لاجل مال الكتابة لم يصح، لان الحق الذى عليه غير لازم له فلم تصح الكفالة، قال ابن الصباغ: وان تكفل
ببدن صبى أو مجنون صحت الكفالة لان الحق يجب عليهما، وقد يحتاج إلى(14/45)
إحضارهما للشهادة عليهما للاتلاف.
وان رهن رجل شيئا ولم يسلمه فتكفل رجل عليه بتسلميه لم يصح، لان تسليمه غير لازم له فلم تصح الكفالة به.
وان ادعى على رجل حقا فأنكره جازت الكفالة ببدنه: لان عليه حق الحضور، والكفالة واقعة على إحضاره.
(فرع)
إذا قال رجل لرجل: تكفل بفلان لفلان ففعل كان الكفالة لازمة على الذى باشر الكفالة دون الآمر، لان المتكفل فعل ذلك باختياره، والامر بذلك حث على المعروف.
وهكذا في الضمان مثله.
والله تعالى الموفق للصواب قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن كان عليه دين مجهول ففيه وجهان، قال أبو العباس: لا تصح الكفالة ببدنه لانه قد يموت المكفول به فيلزمه الدين، فإذا كان مجهولا لم تمكن المطالبة
(والثانى)
أنه تصح، وهو المذهب، لان الكفالة بالبدن لا تعلق لها بالدين.
(فصل)
وتصح الكفالة ببدن الكفيل كما يصح ضمان الدين عن الضمين (الشرح) الاحكام: إذا تكفل ببدن رجل لرجل له عليه دين فمات المكفول به بطلت الكفالة ولم يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين.
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقال مالك رضى الله عنه وأبو العباس بن سريج: يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين المكفول له، لان الكفالة وثيقة بالحق ; فإذا تعذر الحق من جهة من عليه الدين استوفى من الوثيقة كالرهن دليلنا أنه تكفل ببدنه لا بدينه فلم يلزمه ما عليه من الدين، كما لو غاب، ويفارق الرهن لانه علق به الدين فاستوفى منه وها هنا لم يتكفل إلا بإحضاره.
وقد تعذر إحضاره بموته، فإذا قلنا بالمذهب صحت الكفالة ببدن من عليه دين مجهول عند الكفيل، وإن قلنا بقول أبى العباس لم تصح الكفالة ببدن من عليه دين مجهول عند الكفيل (فرع)
وان تكفل ببدن رجل وشرط أنه متى لم يحضر فعليه الحق الذى عليه(14/46)
أو قال على كذا وكذا لم تصح الكفالة ولم يجب عليه المال المضمون به، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَقَالَ أَبُو حنيفة وأبو يوسف: ان لم يحضره عليه المال دليلنا أن هذا حظر فلم يجز تعليق الضمان عليه، كما لو قال: إن جاء المطر فأنا ضامن ببدنه، وإن قال تكفلت لك ببدن زيد على إن جئت به، وإلا فأنا كفيل لك ببدن عمرو لم يصح، لانه لم يلتزم بإحضار أحدهما فصار كما لو تكفل بأحدهما لا بعينه، وإن تكفل ببدن رجل بشرط الخيار لم تصح الكفالة.
وقال أبو حنيفة يفسد الشرط وتصح الكفالة دليلنا أنه عقد لا يجوز فيه شرط الخيار، فإذا شرط فيه الخيار أفسده كالصرف، ولو أقر رجل فقال إنما تكفل لك ببدن فلان على أن لى الخيار.
ففيه قولان.
(أحدهما)
يقبل إقراره في الجميع فيحكم ببطلان الكفالة، كما لو قال له على ألف درهم إلا خمسمائة
(والثانى)
يقبل إقراره في الكفالة ولا يقبل في أنه كان بشرط الخيار.
لانه وصل إقراره بما يسقط فلم يصح، كما لو قال له على ألف درهم إلا ألف درهم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وتجوز الكفالة حالا ومؤجلا، كما يجوز ضمان الدين حالا ومؤجلا وهل يجوز إلى أجل مجهول.
فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، لانه تبرع من غير عوض، فجاز في المجهول كاباحة الطعام
(والثانى)
لا يجوز لانه إثبات حق في الذمة لآدمي فلا يجوز إلى أجل مجهول كالبيع، ويخالف الاباحة فانه لو أباحه أحد الطعامين جاز، ولو تكفل ببدن أحد الرجلين لم يجز.
(الشرح) الاحكام.
إذا تكفل ببدن رجل نظرت، فان شرط احضاره حالا لزمه إحضاره في الحال، كما لو تكفل ببدنه وأطلق اقتضى ذلك إحضاره في الحال كما قلنا فيمن باع بثمن وأطلق فان ذلك يقتضى الحلول، وان تكفل ببدنه إلى أجل معلوم صحت الكفالة، ولا يلزمه إحضاره قبل ذلك، كما إذا ضمن الدين إلى أجل معلوم.(14/47)
وإن تكفل ببدنه إلى أجل مجهول فهل يصح، فيه وجهان.
(أحدهما)
يصح، كما تصح العارية إلى أجل مجهول.
(والثانى)
لا يصح وهو الصحيح، لانه إثبات حق في الذمة لآدمي فلم يصح إلى أجل مجهول، كضمان المال.
ويخالف العارية فإنها لا تلزم، ولهذا لو أعاره إلى مدة كان له الرجوع فيها قبل انقضائها، ولو تكفل له ببدنه إلى أجل معلوم لم تكن له المطالبة به قبل حلول الاجل، ولان العارية تجوز من غير تعيين، ولهذا لو قال: أعرتك أحد هذين الكتابين جاز، ولو قال تكفلت لك ببدن أحد هذين الرجلين لم يجز وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وتجوز الكفالة به ليسلم في مكان معين، وتجوز مطلقا، فإن أطلق وجب التسليم في موضع العقد، كما تجوز حالا ومؤجلا، وإذا أطلق وجب التسليم في حال العقد.
(الشرح) الاحكام: وتجوز الكفالة ببدن رجل ليسلمه في مكان معين ; كما يصح السلم بشرط أن يسلم المسلم فيه في موضع معين، وتجوز الكفالة ببدن رجل وإن لم يذكر موضع التسليم، فعلى هذا في موضع العقد، كما تصح الكفالة بالبدن حالا ومؤجلا، وإذا أطلق اقتضى الحلول، فإذا تكفل له ببدن رجل ليسلمه إليه في موضع معين، فسلمه إليه في غير ذلك البلد لم يلزم المكفول له قبوله لان عليه مشقة في تسلمه في غير ذلك البلد، وقد يكون له غرض بتسلميه في ذلك البلد، وإن تكفل له ببدنه ليسلمه في موضع معين من البلد، بأن يقول في مجلس القاضى أو في مسجده سلمه إليه في ذلك البلد في غير ذلك الموضع المعين فهل يلزمه قبوله؟ فيه وجهان لابي العباس بن سريج.
(أحدهما)
لا يلزمه قبوله، كما لو سلمه في غير ذلك البلد.
(والثانى)
يلزمه قبوله، لان العادة أنه لا مؤنة عليه في نقله من موضع في البلد إلى موضع فيه والله الموفق والمعين.(14/48)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تصح الكفالة بالبدن من غير إذن المكفول به، لانه إذا تكفل به من غير اذنه لم يقدر على تسلميه، ومن أصحابنا من قال.
تصح كما تصح الكفالة بالدين من غير اذن من عليه الدين.
(الشرح) الاحكام: إذا تكفل ببدن رجل بإذن المكفول به صحت الكفالة فإذا سأل المكفول له الكفيل احضار المكفول به وجب على الكفيل أن يحضره ووجب على المكفول أن يحضر لانه يكفل به بإذنه، وان لم يطالبه المكفول له، فقال الكفيل للمكفول به احضر معى لاردك إلى المكفول له لتبرئ ذمتي من الكفالة، كان عليه أن يحضر معه، لانه قد تعلق عليه احضاره بأمره، فلزمه
تخليصه منه.
وان تكفل رجل لرجل ببدن رجل بغير اذن المكفول به، فهل يصح، فيه وجهان.
قال عامة أصحابنا: لا يصح، لان المقصود بالكفالة بالبدن احضار المكفول به عند المطالبة.
فإذا كان ذلك بغير اذنه لم يلزمه الحضور معه فلا تفيد الكفالة شيئا.
فعلى هذا إذا تكفل ببدن صبى أو مجنون لم يصح ذلك الا باذن وليه.
لان الصبى والمجنون لا اذن لهما.
وقال أبو العباس بن سريج: تصح الكفالة بالبدن من غير اذن المكفول به كما يصح الضمان عليه بالدين من غير اذنه.
قال أبو العباس: فعلى هذا إذا قال المكفول له للكفيل: أحضر المكفول به، وجب على الكفيل أن يطالب المكفول به بالحضور، فإذا طالبه وجب على المكفول به الحضور من غير جهة الكفالة، ولكن لان صاحب الحق قد وكل الكفيل باحضاره.
وان قال المكفول له للكفيل: أخرج إلى من كفالتك.
أو رد على كفالتئ فهل يلزم المكفول به الحضور؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يلزمه.
لان ذلك يتضمن الاذن في احضاره.
فهو كما وكله باحضاره
(والثانى)
لا يلزمه الحضور.
لانه انما طالبه بما عليه من الاحضار.
قال أبو العباس: فعلى هذا المكفول له حبس(14/49)
الكفيل، قال ابن الصباغ: وهذا يدل عندي على فساد ما قاله، لانه يحبس على مالا يقدر عليه.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن تكفل بعضو منه، ففيه ثلاثة أوجه: (أحدها) أنه يصح لان في تسليمه تسليم جميعه.
(والثانى)
لا تجوز، لان إفراد العضو بالعقد لا يصح، وتسريته إلى الباقي
لا تمكن ; لانه لا سراية له فبطلت.
(والثالث) إن كان العضو لا يبقى البدن دونه كالرأس والقلب جاز، لانه لا يمكن تسليمه إلا بتسليم البدن، وإن كان عضوا يبقى البدن دونه كاليد والرجل لم يصح، لانه قد يقطع فيبرأ مع بقائه.
(الشرح) الاحكام: إذا تكفل بعضو رجل كيده أو رجله أو رأسه أو بجزء مشاع منه كنصفه، أو ثلثه، أو ربعه، فيه ثلاثه أوجه: (أحدها) يصح لانه لا يمكن تسليم نصفه أو ثلثه الا بتلسيم جميع البدن، ولا يسلم اليد والرجل الا على هيئتها عند الكفالة، وذلك لا يمكن الا بتسليم جميعه
(والثانى)
وهو قول القاضى أبى الطيب، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبى حامد: أنه لا يصح لان مالا يسرى إذا خص به عضو أو جزء مشاع لم يصح كالبيع منه، والاجارة والوصية، وفيه احتراز من العتق والطلاق.
(والثالث) ان تكفل بمالا يبقى البدن الا به كالرأس والقلب والكبد، والنصف والثلث، لانه لا يمكن تسليم ذلك الا بتسليم جميع البدن، وان تكفل بما يبقى البدن دونه كاليد والرجل لم يصح، لانه قد يقطع منه ويبقى البدن، ولا فائدة في تسليمه وحده، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ،
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان أحضر المكفول به قبل المحل أو في غير الموضع الذى شرط فيه التسليم، فان كان عليه في قبوله ضرر.
أو له في رده غرض.
لم يلزم قبوله،(14/50)
وان لم يكن عليه ضرر ولا له في رده غرض وجب قبوله، فإن لم يتسلمه أحضره عند الحاكم ليتسلم عنه ويبرأ كما قلنا في دين السلم وان أحضره وهناك يد حائلة لم يبرأ، لان التسليم المستحق هو التسليم من غير حائل، ولهذا لو سلم المبيع مع
الحائل لم يصح تسلميه: وان سلمه وهو في حبس الحاكم صح التسليم لان حبس الحاكم ليس بحائل، ويمكن احضاره ومطالبته بما عليه من الحق.
وان حضر المكفول به بنفسه، وسلم نفسه برئ الكفيل كما يبرأ الضامن إذا أدى المضمون عنه الدين، وان غاب المكفول به إلى موضع لا يعرف خبره، لم يطالب به، وان غاب إلى موضع يعلم خبره لم يطالب به حتى يمضى زمان يمكن فيه الذهاب والمجئ، لان ما لزم تسليمه لم يلزم الا بامكان التسليم، فان مضى زمان الامكان ولم يفعل حبس الكفيل إلى أن يحضره، فان أبرأه المكفول له من الكفالة برئ كما يبرأ الضامن إذا أبرأه المضمون له، فان جاء رجل وقال أبرئ الكفيل وأنا كفيل بمن تكفل به، ففيه وجهان، قال أبو العباس: يصح، لانه نقل الضمان إلى نفسه فصار كما لو ضمن رجل مالا فأحال الضامن المضمون له على آخر.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطبري رحمهما الله لا يصح لانه تكفل بشرط أن يبرأ الكفيل.
وذلك شرط فاسد فمنع صحة العقد.
وان تكفل ببدن رجل لنفسين، فسلمه إلى أحدهما لم يبرأ من حق الآخر.
لانه ضمن تسليمين فلم يبرأ بأحدهما، كما لو ضمن لهما دينين فأدى دين أحدهما وان تكفل اثنان لرجل ببدن رجل فأحضره أحدهما، فقد قال شيخنا القاضى أبو الطيب رحمه الله: انه لا يبرأ الاخر، لانه لو أبرئ أحدهما لم يبرأ الاخر فإذا سلمه أحدهما لم يبرأ الاخر، وعندي أنه يبرأ، لان المستحق احضاره وقد حصل فبرئا، كما لو ضمن رجلان دينا فأداه أحدهما.
ويخالف الابراء فان الابراء مخالف للاداء ; والدليل عليه أن في ضمان المال لو أبرئ أحد الضامنين لم يبرأ الآخر، ولو أدى أحد الضامنين برئ.(14/51)
(الشرح) الاحكام: إذا تكفل ببدن ليحضره إلى أجل، فأحضره الكفيل قبل الاجل - فإن قبل المكفول له - برئ الكفيل، وإن امتنع المكفول له من القبول نظرت، فإن كان عليه في قبوله ضرر، بأن كان حقه مؤجلا، أو كان حقه حالا إلا أن له بينة غائبة فإنه لا يلزمه قبوله لان عليه ضررا في قبوله فإن امتنع من تسلمه.
قال الشيخ أبو حامد رفعه الكفيل إلى الحاكم وسلمه إليه ليبرأ وإن لم يجد حاكما أحضر شاهدين يشهدان بتسليمه أو امتناع المكفول له وذكر القاضى أبو الطيب أنه يشهد على امتناعه رجلين.
قال ابن الصباغ وهذا أقيس لانه مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى من ينوب عنه من حاكم أو غيره، وإن أحضره الكفيل وهناك يد سلطان لا يقدر عليه يمنع منه لم يبرأ الكفيل بذلك، لان المستحق تسليمه من غير حائل، وإن سلمه وهو في حبس الحاكم لزمه تسليمه، لان حبس الحاكم لا يمنعه من استيفاء حقه، فإن كان حقه قد ثبت عليه بالبينة وطلب إحضاره، فإن الحاكم يحضره ليحكم بينهما، فان ثبت عليه حق وطلب حبسه فان الحاكم يحبسه به وبالحق الاول فإذا سقط حق أحدهما لم يجز تخليته الا بعد سقوط حق الآخر، وإن جاء المكفول به إلى المكفول له وسلم نفسه إليه برئ الكفيل كما يبرأ الضامن إذا دفع المضمون عنه مال الضمانة.
(فرع)
إذا تكفل ببدن رجل ثم ارتد المكفول به ولحق بدار الحرب: أو حبس بحق لزم الكفيل احضاره فيخرج إلى دار الحرب لاحضاره ; والمحبوس يمكنه أن يقضى عنه الحق ويطلق من الحبس (فرع)
إذا غاب المكفول به نظرت، فان كانت غبته إلى موضع معلوم فعلى الكفيل أن يحضره، فإذا مضت مدة يمكنه فيها الذهاب إليه والمجئ به، ولم يأت به حبسه الحاكم، هذا قولنا
وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال، لان حقه قد توجه عليه، وهذا ليس بصحيح، لان الحق وان كان قد حل ; فانه يعتبر فيه امكان التسليم، وانما يجب عليه احضار الغائب عند امكان ذلك، وان كان غائبا غيبة منقطعة، لا يعلم مكانه(14/52)
لم يطالب الكفيل باحضاره، وان أبرأ المكفول له المكفول به من الحق برئ المكفول به كما قلنا في المضمون له إذا أبرأ الضامن (فرع)
إذا تكفل ببدن رجل ثم جاء رجل إلى المكفول له وقال تكفلت لك ببدن فلان المكفول به على أن تبرئ فلانا الكفيل ففيه وجهان.
قال أبو العباس تصح كفالة الثاني ويبرأ الاول، لان الثاني قد حول الكفالة إلى نفسه فبرئ الاول كما لو كان له حق فاحتال به على آخر قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ لا تصح الكفالة الثانية، ولا يبرأ الاول لان الكفالة والضمان لا يحول الحق، فكفالة الثاني لا تبرئ الاول من كفالته ; وإذا لم يبرأ الاول فلم يتكفل به الثاني الا بهذا الشرط، وإذا لم يصح الشرط لم تصح الكفالة (فرع)
وان تكفل ببدن رجل لرجلين بعقد فرد على أحدهما برئ من حقه ولم يبرأ من حق الآخر حتى يرد عليه، لان العقد مع اثنين بمنزلة العقدين فهو كما لو تكفل لكل واحد منهما بعقد منفرد، وان تكفل رجلان لرجل ببدن رجل فأحضره أحدهما إلى المكفول له برئ الذى أحضره، وهل يبرأ الكفيل الآخر فيه وجهان.
(أحدهما)
وهو قول المزني والشيخ أبى اسحاق أنه يبرأ كما لو ضمن رجلان لرجل دينا على رجل فأداه أحدهما.
فان الآخر يبرأ
(والثانى)
وهو قول أبى العباس والشيخ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
وَابْنِ الصَّبَّاغِ أنه لا يبرأ الآخر، لان الحق باق لم يسقط، والكفيلان وثيقتان فلا تنفك احدى الوثيقتين بانفكاك الاخرى، كما لو كان الحق مرهونا فانفك أحدها مع بقاء الحق فانه لا ينفك الباقي منها، ويفارق إذا قضى أحد الضامنين المال المضمون به.
فان الحق هناك قد سقط.
فانفكت الوثيقة.
وههنا الحق لم يسقط.
(فرع)
إذا تكفل رجل لرجل بدن رجل فقال المكفول له مالى قبل المكفول به حق.
قال أبو العباس.
ففيه وجهان(14/53)
(أحدهما)
يبرأ المكفول به مما عليه.
وتبطل الكفالة لان قوله لا حق لى قبله نفى في سياق نكرة فاقتضى العموم
(والثانى)
يرجع إليه.
فإن قال: أردت به لا شئ لى عليه بطلت الكفالة، وبرئ المكفول.
وان قال: أردت به لا حق لى عليه من عارية أو وديعة، وصدقه الكفيل والمكفول به قبل قوله، وان كذباه أو أحدهما فالقول قوله مع يمينه لانه أعلم بنيته، وان قال لا حق لى في ذمته ولا في يده برئا جميعا، قيل للشيخ أبى حامد: فإذا كان لرجل على رجل دين، فقال: لا حق لى قبله.
فقال: هو على هذين الوجهين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان تكفل ببدن رجل فمات المكفول به برئ الكفيل.
وقال أبو العباس يلزمه ما على المفكول به من الدين لانه وثيقة، فإذا مات من عليه الدين وجب أن يستوفى الدين منها كالرهن، والمذهب الاول، لانه لم يضمن الدين فلا يلزمه.
(فصل)
وان تكفل بعين نظرت، فان كان أمانة كالوديعة لم يصح، لانه إذا لم يجب ضمانها على من هي عنده، فلان لا يجب على من يضمن عنه أولى، وان كان عينا مضمونة كالمغصوب والعارية والمبيع قبل القبض ففيه وجهان، بناء على القولين في كفالة البدن.
فان قلنا انها تصح فهلكت العين فقد قال أبو العباس فيه وجهان
(أحدهما)
يجب عليه ضمانها
(والثانى)
لا يجب، وقال الشيخ أبو حامد لا يجوز بناء ذلك على كفالة البدن، فان البدن لو تلف لم يضمن بدله، ولو هلكت العين ضمنها.(14/54)
(الشرح) الاحكام.
إذا تكفل رجل ببدن رجل لرجل فأبرأ المكفول له الكفيل ثم رآه ملازما له فقال له خل عنه وأنا على ما كنت عليه من الكفالة، أو على مثل ما كنت عليه، قال أبو العباس بن سريج: صحت كفالته لانه إما أن يكون هذا إخبارا عن كفالته، أو إقرارا به، أو ابتداء كفالة في الحال، وأنها كانت فوجب أن يصح، وإن تكفل رجل ببدن رجل، ورابع بالثالث ; فيصح الجميع، فان أحضر المكفول به الاول نفسه أو أحضره الكفيل برئ جميع الكفلاء.
وإن مات المكفول به الذى عليه الدين برئ الكفلاء على المذهب، فان مات الكفيل الاول برئ جميع الكفلاء.
وان مات الكفيل الثاني برئ الثالث والرابع.
وان مات الثالث برئ الرابع ولم يبرأ الاولون.
وإن مات الرابع بطلت كفالته وحده وحكم البراءة حكم الموت، وان المكفول به سقطت الكفالة ولم يلزم الكفيل شئ وبهذا قال شريح والشعبى وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وقال الحكم ومالك والليث: يجب على الكفيل غرم ما عليه
وحكى ذلك عن ابن شريح، لان الكفيل وثيقة بحق، فإذا تعذرت من جهة من عليه الدين استوفى من الوثيقة كالرهن، ولانه تعذر إحضاره فلزم كفيله ما عليه كما لو غاب.
ولنا أن الحضور سقط عن المكفول به فبرئ الكفيل، كما لو برئ من الدين ولان ما التزمه من أجله سقط عن الاصل فبرئ الفرع، كالضامن إذا قضى المضمون عنه الدين أو أبرئ منه، وفارق ما إذا غاب، فان الحضور لم يسقط عنه، ويفارق الرهن فانه علق به المال فاستوفى منه (فرع)
إذا ضمن الرجل في مرض موته عن غيره دينا، فإن ذلك معتبر من ثلث ماله لانه تبرع، فهو كما لو ذهب لغيره مآلا(14/55)
إذا ثبت هذا: فإذا ضمن رجل في مرض موته عن غيره تسعين درهما بإذنه ومات الضامن، وخلف تسعين درهما لا غير ومات المضمون عنه، ولا يملك غير خمسة وأربعين درهما، فان طالب المضمون له بحقه من تركة الضامن وقع في هذه المسألة دور، والعمل فيه أن يقول: يذهب بالضمان من التسعين شئ، ولكنه يرجع إليهم نصف شئ، لان ما خلفه المضمون عنه مثل نصف تركة الضامن فيعلم أنه ما ذهب عنهم بالضمان إلا نصف شئ، ويجب أن تكون هذه التسعون إلا نصف شئ الباقية معهم تعدل شيئا كاملا مثلى ما ذهب عنهم بالضمان فأجبر التسعين بنصف الشئ الناقص عنها، ثم رده على الشئ الكامل، فيكون تسعون تعدل شيئا ونصف شئ الشئ، ثلثاها وهو ستون، فيأخذ المضمون ستين من تركة الضامن، ويستحق ورثة الضامن الرجوع في تركة المضمون عنه بها، لان الضمان باذنه ويبقى للمضمون له من دينه ثلاثون، فيرجع بها في تركة
المضمون عنه وتركته أقل من ذلك فيقاسم المضمون له ورثة الضامن الخمسة والاربعين على قدر حقهم، فيكون لورثة الضامن ثلثاها، وهو ثلاثون، وللمضمون له ثلثها، وهو خمسة عشر، فيجتمع لورثة الضامن ستون، وخرج منهم بالضمان ثلاثون، فقد بقى معهم مثلا ما خرج عنهم.
فإذا تقرر هذا: وعرف ما يستحقه المضمون له من تركة الضامن بالعمل فهو بالخيار، إن شاء فعل ما ذكرناه، وإن شاء أخذ من ورثة الضامن خمسة وسبعين ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه، فان كانت بحالها إلا أن المضمون عنه خلف ثلاثين درهما لا غير، فالعمل فيه يخرج من التسعين شئ بالضمان، ويرجع إليهم ثلث شئ، لان تركة المضمون له ثلث تركة الضامن، فيبقى مع ورثة الضامن تسعون إلا ثلثى شئ يعدل شيئا وثلث شئ.
فإذا أجبرت التسعون عدلت شيئين الشئ نصفها وهو خمسة وأربعون، فيأخذها من تركة الضامن ويرجع المضمون له وورثة الضامن في تركة المضمون عنه بنصفين لاستواء حقهما فيرجع إلى ورثة الضامن خمسة عشر فيجتمع لهم ستون، وخرج منهم ثلاثون، ويجتمع للمضمون له ستون ; ويسقط من دينه(14/56)
ثلاثون ; فإن شاء فعل ما ذكرناه، وإن شاء أخذ الستين كلها من تركة الضامن ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه، وإن شاء المضمون له أخذ جميع تركة المضمون عنه وهو ثلاثون، وأخذ من تركة الضامن ثلثها، وهو ثلاثون، يبقى لهم ستون مثلا ما خرج منهم، فإن خلف المضمون عنه ستين فإن المضمون له لا ينقص شئ من دينه ههنا، والعمل فيه على قياس ما مضى والله تبارك وتعالى المستعان.
(مسألة)
إذا ادعى رجل على رجل حاضر أنه ابتاع منه هو ورجل غائب سيارة بألف دينار على كل واحد منهما خمسمائة، وقبضاه وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه فان أقر الحاضر بذلك لزمه أن يدفع إلى المدعى ألفا، فإذا قدم الغائب فإن صدق الحاضر رجع عليه الحاضر بما قضى عنه، وهو خمسمائة، وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف سقط حق الحاضر، وإن أنكر الحاضر المدعى فانه لم يكن للمدعى بينة، فالقول قول الحاضر مع يمينه.
فإذا حلف سقطت عنه المطالبة.
فإذا قدم الغائب فادعى عليه البائع - فان أنكره - حلف له أيضا ولا كلام وإن أقر بما ادعاه عليهما لزم القادم الخمسمائة التى أقر أنه اشترى هو بها.
وهل يلزمه الخمسمائة التى أقر أن شريكه أنه اشترى بها وضمن هو عليه؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: لَا يلزمه لانا قد حكمنا بسقوطها عن الحاضر بيمينه.
وقال ابن الصباغ: يلزم القادم لان اليمين لم تبرئه من الثمن، وإنما سقطت عنه المطالبة في الظاهر، فإذا أقر أنه الضامن لزمه، ولهذا لو أقام بينة عليه بعد يمينه لزمه الثمن، ولزم الضامن فثبت أن الحق لم يسقط عن الحاضر وعن الغائب.
فإذا أقام المدعى بينة على الحاضر بأنهما اشتريا منه السيارة بألف وقبضاها وضمن كل واحد منهما عن صاحبه الخمسمائة فللمدعى أن يطالب الحاضر بجميع الالف، لان البينة قد شهدت عليه بذلك، وهل للحاضر أن يرجع بنصفها على الغائب إذا قدم؟ نقل المزني أنه يرجع بالنصف على الغائب.
واختلف أصحابنا(14/57)
في ذلك، فمنهم من قال: لا يرجع عليه بشئ ; ولم يذكر ابن الصباغ غيره.
لانه منكر لما شهدت له البينة، مقر أن المدعى ظالم له فلا يرجع على عين من ظلمه، ومن قال بهذا تأول ما نقله المزني أربع تأويلات.
(أحدها) يحتمل أن يكون الحاضر صدق المدعى فيما ادعى غير أن المدعى
قال: وأنا أقيم البينه أيضا فأقامها، فيرجع ههنا، لانه ليس فيه تكذيب البينة.
(الثاني) أن يكون الحاضر لم يقر ولم ينكر، بل سكت، فأقام المدعى البينة فليس فيه تكذيب.
(الثالث) أن يكون الحاضر أنكر شراء نفسه، ولم يعرض لشراء شريكه.
فقامت عليه البينة.
(الرابع) أن يكون الحاضر أنكر شراءه وشراء شريكه وضمانهما إلا أن الحاضر لما قامت البينة وأخذ من المدعى الالف ظلما ثبت على الغائب خمسمائة بالبينة، وقد أخذ المدعى من الحاضر خمسمائة ظلما فيكون للحاضر أن يأخذ ما ثبت للمدعى على الغائب.
ومن أصحابنا من وافق المزني وقال: يرجع الحاضر على الغائب بخمسمائة وإن أنكر الشراء والضمان لانه يقول: كان عندي إشكال في ذلك، وقد كشفت هذه البينة هذا الاشكال وأزالته، فهو كمن اشترى شيئا وادعاه عليه آخر بأنه له وأنكر المشترى ذلك، وأقام المدعى بينه وانتزع منه.
فان له أن يرجع على البائع بالثمن، ولا يقال: ان باقراره أن المدعى ظالم يسقط حقه من الرجوع.
وقال الشيخ أبو حامد في التعليق ينظر في الحاضر فان تقدم منه تكذيب البينه مثل أن قال من يبيع منك شيئا ولا يستحق علينا شيئا.
ثم قامت البينه بذلك فانه لا يرجع على صاحبه بشئ لانه قد كذب البينة بما شهدت وأن هذا المدعى ظالم قيل له.
فان قدم الغائب واعترف بصدق المدعى وقال: لا يرجع عليه بشئ لانه يقر له بما لا يدعيه.
وان لم يتقدم منه تكذيب البينة مثل أن قال.
مالك عندي شئ.
فانه يرجع على صاحبه بخمسمائه لانه ضمن عنه باذنه ودفع عنه (قلت) ولعل صاحب الوجه الاول لا يخالف تفصيل الشيخ أبى حامد في جواب الحاضر وأن الحكم يختلف باختلاف جوابه كما ذكر والله الموفق والمعين.(14/58)
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإن ضمن عنه دينا ثم اختلفا فقال الضامن: ضمنت وأنا صبى، وقال المضمون له.
ضمنت وأنت بالغ، فالقول قول الضامن، لان الاصل عدم البلوغ، وإن قال.
ضمنت وأنا مجنون، وقال.
بل ضمنت وأنت عاقل، فان لم يعرف له حالة جنون فالقول قول المضمون له، لان الاصل العقل وصحة الضمان، وان عرف له حالة جنون فالقول قول الضامن، لانه يحتمل أن يكون الضمان في حاله الافاقة.
ويحتمل أن يكون في حالة الجنون، والاصل عدم الضمان وبراءة الذمة.
وان ضمن عن رجل شيئا وأدى المال ثم ادعى أنه ضمن باذنه وأدى باذنه ليرجع، وأنكر المضمون عنه الاذن لم يرجع عليه، لان الاصل عدم الاذن، وان تكفل ببدن رجل ثم ادعى أنه تكفل به ولا حق عليه فالقول قول المكفول له لان الكفيل قد أقر بالكفالة، والكفالة لا تكون الا بمن عليه حق فكان القول قول المكفول له، فان طلب الكفيل يمين المكفول له على ذلك ففيه وجهان.
(أحدهما)
يحلف، لان ما يدعيه الكفيل ممكن، فحلف عليه الخصم.
(والثانى)
لا يحلف، لان اقراره بالكفالة يقتضى وجوب الحق وما يدعيه يكذب اقراره، فلم يحلف الخصم.
وان ادعى الضامن أنه قضى الحق عن المضمون عنه.
وأقر المضمون له.
وأنكر المضمون عنه.
ففيه وجهان.
(أحدهما)
أن القول قول المضمون عنه.
لان الضامن يدعى القضاء ليرجع فلم يقبل قوله.
والمضمون له يشهد على فعل نفسه أنه قبض فلم تقبل شهادته.
فسقط قولهما وحلف المضمون عنه
(والثانى)
أن القول قول الضامن لان قبض المضمون له يثبت بالاقرار مرة.
وبالبينة أخرى.
ولو ثبت قبضه بالبينة رجع
الضامن.
فكذلك إذا ثبت بالاقرار.
(الشرح) الاحكام.
إذا ضمن عن رجل دينا ثم اختلفا.
فقال الضامن.
ضمنت وأنا صبى.
وقال المضمون له.
بل ضمن وأنت بالغ فان أقام المضمون له(14/59)
بينة أنه ضمن وهو بالغ حكم بصحة الضمان، وان لم تكن بينة فالقول قول الضامن لان الاصل عدم البلوغ وان قال الضامن ضمنت وأنا مجنون، وقال المضمون له بل ضمنت وأنت عاقل، فان أقام المضمون له بينة أنه ضمن له وهو عاقل حكم له بصحة الضمان.
وان لم تكن له بينة: فان لم يعرف للضامن حال جنون فالقول قول المضمون له مع يمينه، لان الاصل صحة الضامن وان عرف له حال جنون فالقول قول الضامن مع يمينه، لانه يحتمل أنه ضمنه في حال الجنون، ويحتمل أنه ضمن في حال الافاقة، والاصل براءة ذمته (فرع)
وإن ادعى الضامن أن المضمون له أبرأه عن الضمان وأنكر المضمون له البراءة، فأحضر الضامن شاهدين أحدهما المضمون عنه.
قال الصيمري، فان لم يأمره بالضمان عنه قبلت شهادته، وان أمره بالضمان عنه لم تقبل شهادته (فرع)
وان ادعى على رجل أنه ضمن له دينا على رجل غائب معين وأنكر الضامن واحضر المضمون له بينة تشهد بالضمان، فان بين قدر المال المضمون له وشهدت معه البينة بذلك حكم بها، وان ادعى الضمان بمال معلوم والمضمون مجهول وشهدت له بينة بذلك فهل تسمع بينتة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا تسمع هذه البينة ولا يحكم له على الضامن بشئ لان الذى عليه الحق إذا كان مجهولا لم يثبت حقه، وإذا لم يثبت على الاصل لم يثبت على الضامن.
(والثانى)
يحكم له على الضامن لان البينة قد قامت عليه بذلك، ألا ترى أنها لو شهدت بأن عليه ألفا من جهة الضامن سمعت ; فكذلك هذا مثله (فرع)
إذا ضمن الرجل لغيره دينا وقضاه، وادعى الضامن على المضمون منه أنه ضمن باذنه وقضى باذنه فليرجع عليه، وأنكر المضمون عنه الاذن، فان أقام الضامن بينة حكم له بالرجوع على المضمون عنه، وان لم يقم بينة فالقول قول المضمون عنه مع يمينه لان الاصل عدم الاذن (فرع)
فان قال تكفلت لك ببدن فلان مؤجلا، وقال المكفول له تكفلت به معجلا.
وأقام كل واحد منهما شاهدا واحدا بما قال.
ففيه قولان حكاهما(14/60)
الصيدلانى
(أحدهما)
لا يلزمه إلا مؤجلا لانه لم يقر بغيره
(والثانى)
يحلف كل واحد منهما مع شاهده ويتعارضان ويسقطان ويبقى الضمان معجلا (فرع)
إذا ادعى الكفيل أن المكفول به برئ من الحق، وأن الكفالة قد سقطت، وأنكر ذلك المكفول له ولم تكن بينة، فالقول قول المكفول له مع يمينه لان الاصل بقاء الحق، لانه لا يبرأ بيمين غيره.
وإن قال الكفيل تكفلت به ولا حق لك عليه فالقول قول المكفول له لان الظاهر صحة الكفالة.
وهل يحلف؟ قال أبو العباس فيه وجهان
(أحدهما)
لا يحلف، لان دعوى الكفيل تخالف ظاهر قوله.
(والثانى)
يحلف لان ما يدعيه الكفيل ممكن، فإن حلف فلا كلام، وان نكل رد اليمين على الكفيل لانه لا يجوز أن يعلم أنه لا حق للمكفول له بإقرار، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كتاب الشركة
يصح عقد الشركة على التجارة، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تعالى " أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانا خرجت من بينهما " ولا تصح الشركة إلا من جائز التصرف في المال، لانه عقد على التصرف في المال فلم تصح إلا من جائز التصرف في المال.
(فصل)
ويكره أن يشارك المسلم الكافر، لما روى أبو جمرة عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: لا تشاركن يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا، قلت: لم؟ قال لانهم يربون، والربا لا يحل (الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رفعه.
رواه أبو داود والحاكم وصححه، وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان.
وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وأعله أيضا ابن القطان بالارسال، فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال:(14/61)
إنه الصواب، ولم يسنده غير أبى همام محمد بن الزبرقان، وسكت أبو داود والمنذري عن هذا الحديث.
وأخرج نحوه أبو القاسم الاصبهاني في الترغيب والترهيب عن حكيم بن حزام أما لغات الفصل وغريب الحديث، فالشركة بكسر الشين وسكون الراء، وحكى ابن باطيش فتح الشين وكسر الراء.
وذكر صاحب الفتح فيها أربع لغات فتح الشين وكسر الراء، وكسر الشين وسكون الراء، وقد تحذف الهاء مع كسر أوله، وقد تحذف مع فتح أوله.
قوله " أنا ثالث الشريكين " المراد أن الله جل جلاله يضع البركة للشريكين في مالهما مع عدم الخيانة ويمدهما بالرعاية والمعونة ويتولى الحفظ لما لهما.
قوله " خرجت من بينهما " أي نزعت البركة من المال، زاد رزين " وجاء الشيطان " ورواية الدارقطني " فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما " يعنى البركة
والشركة ثبوت الحق لاثنين فأكثر على جهة الشيوع.
وعن السائب بن أبى السائب المخزومى أنه قال للنبى صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: كنت شريكي ونعم الشريك، كنت لا تداريني ولا تماريني " رواه أبو داود وابن ماجه بلفظ " كنت شريكي ونعم الشريك، لا تدارى ولا تمارى " وفى لفظ أن السائب المخزومى كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: مرحبا بأخى وشريكي، لا تدارى ولا تمارى.
وفى لفظ أن السائب قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلوا يثنون علي ويذكرونني، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا أعلمكم به، فقلت: صدقت بأبى أنت وأمى، كنت شريكي فنعم الشريك لا تدارى ولا تمارى " وقوله " لا تدارى " أي لا تخالف ولا تنازع من قوله تعالى " فادارأتم فيها " يعنى اختلفتم وتنازعتم أما الاحكام فان الاصل في جواز الشركة الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقوله تعالى " واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول " الآية فجعل الخمس مشتركا بين الغانمين وقوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين "(14/62)
فجعل الميراث مشتركا بين الاولاد.
وقوله تعالى " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الآية.
فجعل الصدقة مشتركة بين أهل الاصناف.
وقوله تعالى " وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض " والخلطاء هم الشركاء وأما السنة فقد مضى بعضها، ونضيف إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " من كان له شريك في ربع أو حائط فلا يبعه حتى يؤذن شريكه " وقد سبق تخريحه وطرقه عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وأما أثر أبى جمرة عن ابن عباس " لا تشاركن يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا، قلت لم؟ قال لانهم يربون.
وأبو جمرة هو نصر بن عمران الضبعى صاحب ابن عباس، والاثر رواه الاثرم.
وقد روى الخلال بإسناده عن عطاء قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني، إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم " وأما الاجماع فإن أحدا من العلماء لم يخالف في جوازها.
إذا ثبت هذا فإن الشركة تنقسم على ستة أقسام: شركه في الاعيان والمنافع، وشركه في الاعيان دون المنافع، وشركه في المنافع دون الاعيان، وشركه في المنافع المباحة، وشركه في حق الابدان، وشركه في حقوق الاموال.
فأما شركة المنافع والاعيان فهو أن يكون بين الرجلين أو بين الجماعة أرض أو بهائم ملكوها بالارث أو بالبيع أو الهبة مشاعا وأما شركة الاعيان دون المنافع فمثل أن يوصى رجل لرجل بمنفعة أرضه أو داره فيموت ويخلف جماعة ورثة، فإن رقبة الارض والدار تكون موروثة للورثة دون المنفعة.
وأما الشركة في المنافع دون الاعيان فمثل أن يوصى بمنفعة عربته لجماعه أو يستأجر جماعة عربة وأما الوقف على جماعة - فان قلنا ان ملك الرقبه إلى الله كانت الشركة بينهم في المنافع دون الاعيان، وإن قلنا ينقل الملك إليهم كانت الشركة بينهم في المنافع والاعيان، وأما الشركة في المنافع المباحة فمثل أن يموت رجل وله ورثة جماعة ويخلف كلب صيد أو كلب ماشيه أو زرع، فإن المنفعة مشتركة بينهم(14/63)
وأما الشركة في حقوق الابدان فهو أن يرث جماعه قصاصا أو حد قذف،
وأما الشركة في حقوق الاموال فهو أن يرث جماعه الشفعة أو الرد بالعيب وخيار الشرط وحقوق الرهن ومرافق الطرق (مسألة) وتجوز الشركة في التجارة لما روى أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه، ويكره للمسلم أن يشارك الكافر سواء كان المسلم هو المتصرف أو الكافر أو هما، وقال الحسن رضى الله عنه " ان كان المسلم هو المتصرف لم يكره، وان كان الكافر هو المتصرف أو هما كره دليلنا ما رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قال " أكره أن يشارك المسلم اليهودي والنصراني، ولا مخالف له، ولانهم لا يمتنعون من الربا ومن بيع الخمر، ولا يؤمن أن يكون ماله الذى عقد عليه الشركة من ذلك فكره، فإن عقد الشركة معه صح، لان الظاهر مما في أيديهم أنه ملكهم، وقد اقترض النبي صلى الله عليه وسلم من يهودى شعيرا ورهنه درعه، وقال أحمد يشارك اليهودي والنصراني ولكن لا يخلوان به، ويخلو به المسلم، وحديث الاثرم فيه إرسال، وخبر ابن عباس موقوف عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وتصح الشركة على الدراهم والدنانير، لانهما أصل لكل ما يباع ويبتاع، وبهما تعرف قيمة الاموال وما يزيد فيها من الارباح، فأما ما سواهما من العروض فضربان، ضرب لا مثل له، وضرب له مثل، فأما مالا مثل له كالحيوان والثياب فلا يجوز عقد الشركة عليها لانه قد تزيد قيمة أحدهما دون الآخر، فإن جعلنا ربح ما زاد قيمته لمالكه أفردنا أحدهما بالربح والشركة معقودة على الاشتراك في الربح، وان جعلنا الربح بينهما أعطينا من لم تزد قيمة ماله ربح
مال الآخر، وهذا لا يجوز وأما ماله مثل كالحبوب والادهان ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز عقد(14/64)
الشركة عليه، وعليه نص في البويطى لانه من غير الاثمان فلم يجز عقد الشركة عليه كالثياب والحيوان
(والثانى)
يجوز، وهو قول أبى إسحاق لانه من ذوات الامثال فأشبه الاثمان، وإن لم يكن لهما غير العروض وأرادا الشركة باع كل واحد منهما بعض عرضه ببعض عرض الاخر، فيصير الجميع مشتركا بينهما، ويشتركان في ربحه.
(الشرح) الاحكام.
قال المزني: والذى يشبه قول الشافعي رحمه الله أنه لا تجوز الشركة في العروض ولا فيما يرجع في حال المفاضلة إلى القيم ولغير الاثمان.
وجملة ذلك أن عقد الشركة يصح على الدراهم والدنانير لانها قيم المتلفات ومعايير الاثمان، وبها تعرف قيم الاموال وما يزيد فيها من الارباح، وممن منع الشركة بالعروض أصحاب أحمد كما نص عليه هو في رواية أبى طالب وحرب، وحكاه عنه ابن المنذر.
وكره ذلك ابن سيرين ويحيى بن أبى كثير والثوري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأى، لان الشركة إما أن تقع على أعيان العروض أو قيمتها أو أثمانها.
فأما أعيانها فإنه لا يجوز أن تقع عليها لان الشركة تقتضي الرجوع عند المفاصلة برأس المال أو بمثله، وهذه لا مثل لها فيرجع إليه، وقد تزيد قيمة جنس أحدهما دون الاخر فيستوعب بذلك جميع الربح أو جميع المال، وقد تنقص قيمته فيؤدى إلى أن يشاركه الاخر في ثمن ملكه الذى ليس بربح وأما قيمتها فإنها غير متحققة القدر فيفضى إلى التنازع، وقد يقوم الشوء بأكثر من قيمته، ولان القيمه قد تزيد في أحدهما قبل بيعه فيشاركه الاخر في العين المملوكة له.
وأما الاثمان فإنها معدومه حال العقد ولا يملكانها، ولانه إن أراد ثمنها الذى اشتراها به فقد خرج عن مكانه وصار للبائع.
وان أراد ثمنها الذى يبيعها به فإنها تصير شركه معلقه على شرط وهو بيع الاعيان، ولا يجوز ذلك وقد فرق أصحابنا بين ماله مثل وبين مالا مثل له.
فأما مالا مثل له كالنبات والحيوان وما أشبههما فلا يصح عقد الشركة عليها، وبه قال من مضى ذكرهم، وقال مالك يصح عقد الشركة عليها ويكون رأس المال قيمتها(14/65)
دليلنا: أن موضع الشركة على أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال أحدهما وهذه الشركة تفضى إلى ذلك، لانه قد يزيد قيمة عرض أحدهما، ولا يزيد قيمة عرض الآخر، فيشاركه من لم يزد قيمة عرضه عند المفاصلة، وهذا لا سبيل إليه فان كان لكل واحد منهما عربة تساوى مائة وأراد الشركة، باع أحدهما نصف عربته بنصف عربة صاحبه ثم يتقابضان ويأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف وان كانت قيمة احداهما مائتين وقيمة الاخرى مائة باع من قيمة عربته مائتان ثلث عربته بثلثي عربة الآخر، وان شاءا باع كل واحد منهما من صاحبه بعض عرضه بثمن في ذمته ثم تقاصا، وان شاءا اشتريا عرضا من رجلين بثمن في ذمتهما ثم دفعا عرضهما عما في ذمتهما.
وأما ما له مثل كالحبوب والادهان، فهل يصح عقد الشركة فيها؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز، وهو ظاهر ما نقله المزني، لانه قال: ولا فيما يرجع حال المفاصلة إلى القيم، وما له مثل لا يرجع إلى قيمته ولانهما مالان إذا خلطا لم يتميز أحدهما عن الآخر، فصح عقد الشركة عليهما كالدراهم والدنانير.
(والثانى)
لا يجوز، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي البويطى ولا تجوز الشركة في العروض، وما له مثل من العروض، ولانها شركة على عروض فلم
يصح كالنبات والحيوان.
قال أبو إسحاق المروزى في الشرح: فإذا قلنا: تصح الشركة فيها - فان كانت قيمتهما سواء - أخذ كل واحد منهما مثل سلعته يوم المفاصلة واقتسما ما بقى من الربح، وان كانت قيمتهما مختلفه مثل أن كانت حنطة أحدهما جيده وحنطة الآخر مسوسة كان لكل واحد منهما قيمة حنطته يوم الشركة واقتسما ما بقى من الربج
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ولا يصح من الشرك الا شركة العنان، ولا يصح ذلك الا أن يكون مال أحدهما من جنس مال الآخر وعلى صفته، فان كان مال أحدهما دنانير والآخر دراهم، أو مال أحدهما صحاحا والآخر قراضه أو مال أحدهما من سكة ومال الآخر من سكة أخرى لم تصح الشركة، لانهما مالان لا يختلطان فلم تصح(14/66)
الشركة عليهما كالعروض، فان كان مال أحدهما عشرة دنانير ومال الآخر مائة درهم، وابتاعا بها شيئا وربحا قسم الربح بينهما على قدر المالين، فان كان نقد البلد أحدهما قوم به الاخر، فان استوت قيمتاهما استويا في الربح، وان اختلفت قيمتاهما تفاضلا في الربح على قدر مالهما.
(فصل)
ولا تصح حتى يختلط المالان، لانه قبل الاختلاط لا شركة بينهما في مال، ولانا لو صححنا الشركة قبل الاختلاط وقلنا: ان من ربح شيئا من ماله انفرد بالربح أفردنا أحدهما بالربح، وذلك لا يجوز، وان قلنا: يشاركه الاخر أخذ أحدهما ربح مال الاخر، وهذا لا يجوز، وهل تصح الشركة مع تفاضل المالين في القدر؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا تصح، وهو قول أبى القاسم الانماطى لان الشركة تشتمل على مال وعمل ثم لا يجوز أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح، فكذلك لا يجوز
أن يتساويا في العمل ويتفاضلا في الربح وإذا اختلف مالهما في القدر فقد تساويا في العمل وتفاضلا في الربح، فوجب أن لا يجوز.
(والثانى)
تصح، وهو قول عامة أصحابنا وهو الصحيح، لان المقصود بالشركة أن يشتركا في ربح مالهما، وذلك يحصل مع تفاضل المالين كما يحصل مع تساويهما، وما قاله الانماطى من قياس العمل على المال لا يصح، لان الاعتبار في الربح بالمال لا بالعمل، والدليل عليه أنه لا يجوز أن ينفرد أحدهما بالمال ويشتركا في الربح، فلم يجز أن يستويا في المال ويختلفا في الربح، وليس كذلك العمل، فانه يجوز أن ينفرد أحدهما بالعمل ويشتركا في الربح، فجاز أن يستويا في العمل ويختلفا في الربح.
(الشرح) قوله: شركة العنان وهو أن يشتركا في شئ خاص دون سائر أموالهما، كأنه عن لهما شئ فاشترياه مشتركين فيه، وقيل: مأخوذة من عناني فرسى الرهان، لان الفارسين إذا تسابقا تساوى عنانا فرسيهما، وكذلك الشركة يتساوى فيها الشريكان.(14/67)
والشركة أربع: شركة العنان، وشركة الابدان، وشركة المفاوضة وشركة الوجوه، ولا يصح من هذه الشركة عندنا إلا شركة العنان.
قال في البيان واختلف الناس لم سميت شركه العنان فقيل سميت شركة العنان لظهورها وهو أنهما ظاهرا باخراج المالين، ويقال عن الشئ إذا ظهر ومنه قول إمرئ القيس فعن لنا سرب كأن نعاجه
* عذارى دوار في ملاء مذيل (وقيل) سميت عنانا من المعاننة وهى المعارضة، وكل واحد من الشريكين عارض شريكه بمثل ماله، إلى أن قال.
وقال أبو بكر الرازي سميت بذلك مأخوذا من العنان، لان الانسان يأخذ عنان الدابة بإحدى يديه، ويحبسه عليها، ويده
الاخرى مرسلة يتصرف بها كيف شاء، كذلك هذه الشركة كل واحد من الشريكين بعض ماله مقصور عن التصرف فيه من جهة الشركة، وبعض ماله يتصرف فيه كيف شاء.
اه وقد اعتبر أصحاب أحمد الشركة خمسا حيث زادوا شركة المضاربة، وقد أجازوا بعض ما هو ممنوع عندنا على تفصيل سيأتي ان شاء الله تعالى.
وجماع القول في شركة العنان هو أن يخرج كل واحد منهما مالا من جنس مال الآخر وعلى صفته ويخلطا المالين، ولا خلاف في صحة هذه الشركة لسلامتها من سائر أنواع الغرر، ويشترط فيها لفظ صريح من كل للآخر يدل على الاذن للمتصرف من كل منهما أو من أحدهما، أو كنايه تشعر بذلك وكاللفظ الكتابة وإشارة الاخرس المفهمه فلو أذن أحدهما فقط تصرف المأذون في الكل والآذن في نصيبه خاصة، فإن شرط عدم تصرفه في نصيبه لم تصح.
(فرع)
الشركة الصحيحه أن يخرج كل واحد من الشريكين دنانير مثل دنانير صاحبه ويخلطاها فيكونا شريكين، وجملة ذلك أن من شرط صحة شركه العنان أن يكون مالهما المشترك بينهما من جنس واحد وسكة واحدة، فإن كان مال أحدهما عملة محلية والاخر عملة أجنبيه واختلفا قيمة لم تصح الشركة لاختلاف جهة الاصدار وعدم اتحاد القيمة واحتمال دخول عنصر الغرر أو الربا في الاستبدال والصرف فلم تصح كما لو كانت نقود أحدهما مكسرة والاخر صحيحه، أو كانت(14/68)
لاحدهما دنانير والآخر دراهم، أو كانت لاحدهما طبرية والاخر عبدية، وقال أبو حنيفة " يصح " دليلنا أنه مالان مختلفان، فوجب أن لا ينعقد عليهما عقد الشركة، كما لو كان مال أحدهما حنطة ومال الاخر شعيرا، فإن خالفا وأخرج أحدهما عشرة دنانير
والاخر عشرة دراهم وخلطا ذلك وابتاعا فإن ذلك يكون ملكا لهما على قدر مالهما فان كان نقد البلد دنانير قومت الدراهم، فان كانت قيمتها خمسة دنانير كان لصاحب الدنانير ثلثا المتاع ولصاحب الدراهم ثلثه، وكذلك بقسم الربح والخسران بينهما، وإن كان نقد البلد من غير جنس ما أخرجاه قوم ما أخرج كل واحد منهما بنقد البلد، فان تساويا كان ذلك بينهما نصفين، وإن تفاضلا كان الحكم في ملك المتاع لهما كذلك.
ولا تصح الشركة حتى يختلط المالان ثم يقولا: تشاركنا أو اشتركنا، فان عقدا الشركة قبل خلط المالين لم يصح وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى تصح الشركة وان لم يخلطا المالين، بل مال كل واحد منهما بيده يتصرف فيه كيف شاء ويشتركان في الربح وقال مالك رحمه الله تعالى: من شرط عقد الشركة أن تكون أيديهما على المالين، أو يد وكيلهما.
وان لم يكونا مخلوطين دليلنا أنهما مالان يتميز أحدهما عن الاخر فلم تصح الشركة عليهما كما لو كانا حنطة وشعيرا، أو كما لو لم تكن يدهما على المالين، ولانا لو صححنا عقد الشركة قبل الخلط لادى إلى أن يأخذ أحدهما ربح مال الاخر، لانه قد ربح بمال أحدهما دون الاخر وهل من شرط صحة هذه الشركة أن يتساويا في قدر ماليهما؟ فان كان مال أحدهما عشرة دنانير ومال الاخر خمسة لم تصح، لان الشافعي شرط أن يخرج أحدهما مثل ما يخرج الاخر، ولانهما إذا نفاضلا في المال فلابد أن يتفاضلا في الربح.
لان الربح على قدر المالين، فلم يجز أن يتفاضلا في الربح مع تساويهما في العمل، كما لا يجوز أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح قال أبو القاسم الانماطى: لا تصح الشركة.
وقال عامة أصحابنا تصح الشركة(14/69)
وإن كانا متفاضلين في المالين، لان المقصود في الشركة أن يشتركا في ربح ماليهما وذلك يمكن مع تفاضل المالين، كما يمكن مع تساويهما.
وما قال الشافعي فأراد به المثل من جهة الجنس والسكة، لا من جهة المقدار، وأما اعتبار الربح بالعمل فغير صحيح، لان عمل الشريكين في مال الشركة لا تأثير له، لانه تابع، وقد يعمل أحدهما في مال الشركة أكثر من عمل الاخر مع استوائهما في المال.
وقد يعمل أحدهما في مال الشركة وحده من غير شرط في العقد، ويصح ذلك كله ولا يؤثر في الربح.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز لاحد الشريكين أن يتصرف في نصيب شريكه إلا بإذنه فان أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف تصرفا، وإن أذن أحدهما ولم يأذن الاخر تصرف المأذون في الجميع، ولا يتصرف الاخر الا في نصيبه، ولا يجوز لاحدهما أن يتجر في نصيب شريكه إلا في الصنف الذى يأذن فيه الشريك، ولا أن يبيع بدون ثمن المثل، ولا بثمن مؤجل، ولا بغير نقد البلد إلا أن يأذن له شريكه، لان كل واحد منهما وكيل للآخر في نصفه، فلا يملك الا ما يملك كالوكيل.
(الشرح) الاحكام: إذا عقدا الشركة على مال لهما نصفين، فان كل واحد منهما يملك التصرف في نصف المال مشاعا من غير إذن شريكه لانه ملكه، وهل له أن يتصرف في النصف الاخر من غير اذن شريكه؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي أحدهما يملك ذلك، وبه قال أبو حنيفة لان هذا مقتضى عقد الشركة، فلم يحتج إلى إذن الاخر، كما لو عقد القراض على مال له والثانى: وهو طريقة البغداديين من أصحابنا أنه لا يملك ذلك من غير إذن
شريكه، لان المقصود بالشركه هو أن يشتركا في ربح ماليهما.
وذلك لا يقتضى التوكيل من كل واحد منهما لصاحبه.
إذا ثبت هذا فان أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف بنصيبه تصرف(14/70)
كل واحد منهما بجميع مال الشركة، وان أذن أحدهما لصاحبه دون الآخر صح تصرف المأذون له في جميع المال، ولا يتصرف من لم يؤذن له الا في نصفه مشاعا ولا يتجر المأذون له في نصيب شريكه إلا في النوع المأذون له فيه من الامتعة، سواء كان يعم وجوده أو لا يعم وجوده، ولان ذلك توكيل، وللانسان أن يوكل غيره يشترى له نوعا من الامتعة، وإن لم يكن عام الوجود بخلاف القراض فإن المقصود منه الربح، وذلك لا يحصل إلا في الاذن بالتجارة فيما يعم وجوده.
قال ابن الصباغ: وإن أذن له أن يتجر في جميع التجارات جاز ذلك أيضا.
ولا يبيع المأذون له نصيب شريكه إلا بنقد البلد حالا بثمن المثل كما نقول في الوكيل
قال المصنف رحمه الله تعالى
.
(فصل)
ويقسم الربح والخسران على قدر المالين، لان الربح نماء مالهما والخسران نقصان مالهما، فكانا على قدر المالين، فإن شرطا التفاضل في الربح والخسران مع تساوى المالين، أو التساوى في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين لم يصح العقد، لانه شرط ينافى مقتضى الشركة فلم يصح، كما لو شرط أن يكون الربح لاحدهما، فإن تصرفا مع هذا الشرط صح التصرف، لان الشرط لا يسقط الاذن فنفذ التصرف، فان ربحا أو خسرا جعل بينهما على قدر المالين، ويرجع كل واحد منهما بأجرة عمله في نصيب شريكه، لانه إنما عمل ليسلم له ما شرط، وإذا لم يسلم رجع بأجرة عمله.
(الشرح) الاحكام: إذا اشترك رجلان وتصرفا - فان ربحا - قسم الربح
بينهما والخسران على قدر المالين.
سواء شرطا ذلك في العقد أو أطلقا، لان هذا مقتضى الشركة، وان شرطا التفاضل في الربح أو الخسران مع تساوى المالين أو شرطا التساوى في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين لم يصح هذا الشرط.
وقال أبو حنيفة " يصح " دليلنا أنه شرط ينافى مقتضى الشركة فلم يصح، كما لو شرطا الربح لاحدهما فان تصرفا مع هذا الشرط صح تصرفهما، لان الشرط يسقط الاذن، فان ربحا(14/71)
أو خسرا قسم الربح والخسران على قدر مالهما، لانه مستفاد بمالهما، ولانه ثمرة المال فكان على قدرهما، كما لو كان بينهما نخيل فأثمرت، ويرجع كل واحد منهما على صاحبه بأجرة عمله في ماله.
لانه إنما عمل بشرط ولم يسلم له الشرط.
قال المصنف رحمه الله تعالى
.
(فصل)
وأما شركة الابدان، وهى الشركة على ما يكتسبان بأبدانهما فهى باطلة، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ باطل " وهذا الشرط ليس في كتاب الله تعالى.
فوجب أن يكون باطلا، ولان عمل كل واحد منهما ملك له يختص به فلم يحز أن يشاركه الآخر في بدله، فإن عملا وكسبا أخذ كل واحد منهما أجرة عمله.
لانها بدل عمله فاختص بها.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَوَاهُ الشيخان: قال النووي: صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا فيهما من استنباط الفوائد.
أما الاحكام: فإذا كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم لاحدهما ألف وللآخر ألفان، وعقدا الشركة على أن يكون الربح بينهما نصفين، فان شرط صاحب الالفين على نفسه شيئا من العمل كانت الشركة فاسدة، فإذا عملا قسم
الربح والخسران بينهما على قدر مالهما، ويرجع كل منهما على صاحبه بأجرة عمله في ماله.
وقال ابو حنيفة رحمه الله: الشركة فاسدة ولا يرجع أحدهما على الاخر بأجرة عمله في ماله.
دليلنا أنه عقد قصدا به الربح في كل حال، فإذا كان فاسدا استحق أجرة عمله فيه كالقراض، فإن عمل صاحب الالف على مال الشركة عملا أجرته ثلاثمائة.
وعمل صاحب الالفين على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون، فإن صاحب الالف يستحق على صاحب الالفين مائتين ويستحق عليه صاحب الالفين خمسين فيقاصه بها، وتبقى لصاحب الالف على صاحب الالفين مائة وخمسون.
وان عمل كل واحد منهما على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون فان صاحب(14/72)
الالف يستحق على صاحب الالفين مائة، ويستحق صاحب الالفين عليه خمسين فيقاصه بها، ويبقى لصاحب الالف على صاحب الالفين خمسون وإن شرط صاحب الالفين جميع العمل على صاحب الالف وشرط نصف الربح، فان هذه الشركة صحيحة وقراض صحيح، لان صاحب الالف يستحق ثلث الربح بالشركة، لان له ثلث المال ولصاحب الالفين ثلثا الربح، فلما شرط جميع العمل على صاحب الالف وشرط له نصف الربح فقد شرط لعمله سدس الربح فجاز، كما لو قارضه على سدس الربح فان قيل كيف صح عقد القراض على مال مشاع؟ قلنا إنما صح لان الاشاعة مع العامل فلا يتعذر تصرفه، وإنما لا تصح إذا كانت الاشاعة في رأس المال مع غيره، لانه لا يتمكن من التصرف (فرع)
قال صاحب البيان: وإن كان بين رجلين ألفا درهم لكل واحد
منهما ألف فأذن أحدهما لصاحبه أن يعمل في ذلك ويكون الربح بينهما نصفين.
فان هذا ليس بشركة ولا قراض، لان مقتضى الشركة أن يشتركا في العمل والربح.
ومقتضى القراض أن للعامل نصيبا من الربح.
ولم يشترط له ههنا شيئا.
انتهى.
إذا ثبت هذا فعمل وربح كان الربح بينهما نصفين لانه نماء مالهما قال ابن الصباغ: ولا يستحق العامل لعمله في مال شريكه أجرة لانه لم يشترط لنفسه عوضا.
فكان عمله تبرعا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وأما شركة المفاوضة وهو أن يعقدا الشركة على أن يشتركا فيما يكتسبان بالمال والبدن، وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بغصب أو بيع أو ضمان فهى شركة باطلة، لحديث عائشة رضى الله عنها.
ولانها شركة معقودة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه فيما يختص بسببه فلم تصح، كما لو عقدا الشركة على ما يملكان بالارث والهبة.
ولانها شركة معقودة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بعدوانه فلم تصح.
كما لو عقدا الشركة(14/73)
على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بالجناية، فان عقدا الشركة على ذلك واكتسبا وضمنا أخذ كل واحد منهما ربح ماله وأجرة عمله، وضمن كل واحد منهما ما لزمه بغصبه وبيعه وضمانه، لان الشرط قد سقط، وبقى الربح والضمان على ما كانا قبل الشرط، ويرجع كل واحد منهما بأجرة عمله في نصيب شريكه، لانه عمل في ماله ليسلم له ما شرط له، ولم يسلم فوجب أجرة عمله.
(الشرح) الاحكام: إن شركة المفاوضة باطلة عندنا، وهى أن يشترطا أن يكون ما يملكان من المال بينهما، وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر
بغصب أو بيع أو ضمان.
قال الشافعي رضى الله عنه في اختلاف العراقيين: لا أعلم في الدنيا شيئا باطلا إن لم تكن شركة المفاوضه باطلة، ولا أعلم القمار إلا هذا وأقل منه.
وقال أبو حنيفة والثوري والاوزاعي رضى الله عنهم: شركة المفاوضة صحيحة إلا أن أبا حنيفة يقول: من شرط صحتها أن يخرج كل واحد منهما جميع ما يملكه من الذهب والفضة، حتى لو أن أحدهما استثنى مما يملكه درهما لم تصح الشركة، ويكون مال أحدهما مثل مال صاحبه، ويكونان حرين بالغين مسلمين.
ولا تصح بين مسلم وذمى، ولا بين ذميين، ولا بين حر وعبد، فإذا وجدت هذه الشركة تضمنت الوكالة والكفالة.
فأما الوكالة فهو أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في الكسب وفيما يوهب له، وفى الكنز الذى يجده وفى جميع ما يكسبه إلا الاصطياد والاحتشاش فانهما ينفردان.
وأما الميراث فإنهما لا يشتركان فيه، فإذا ورث أحدهما نظر فيه، فإن كان عرضا لم يضمن الشركة، وان كان ذهبا أو فضه فما لم يقبضه فالشركة بحالها وان قبضه بطلت الشركة، لانه قد صار ماله أكثر من مال الاخر.
وأما الكفالة فإن كل ما يلزم أحدهما باقرار أو غصب أو ضمان أو عهدة فان صاحبه يشاركه فيه إلا أرش الجناية.
دَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن الغرر وهذا غرر، والنهى يقتضى فساد المنهى عنه، ولانها شركة تصح مع المفاضلة فلم تصح مع المساواة كالشركة(14/74)
في العروض وعكسه شركة العنان، ولانهما عقدا الشركة على ما يملكان بالارث أو بقول شركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بعدوانه فلم يصح كما لو عقدا الشركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على كل واحد منهما
كالجناية.
إذا ثبت هذا فان كسبا اختص كل واحد منهما بملك ما كسبه ووجب عليه ضمان ما أتلفه وغصبه، لان وجود هذا العقد بمنزلة عدمه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وأما شركة الوجوه، وهو أن يعقدا الشركة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في ربح ما يشتريه بوجهه، فهى شركة باطلة، لان ما يشتريه كل واحد منهما ملك له ينفرد به، فلا يجوز أن يشاركه غيره في ربحه، وإن وكل كل واحد منهما صاحبه في شراء شئ بينهما، واشترى كل واحد منهما ما أذن فيه شريكه.
ونوى أن يشتريه بينه وبين شريكه دخل في ملكهما وصارا شريكين فيه فإذا بيع قسم الثمن بينهما لانه بدل مالهما (الشرح) هذه أيضا إحدى الصور من الشركات التى لا تصح عندنا وتسمى شركة الوجوه.
وهو أن يتفقا على أن يشترى كل واحد منهما بوجهه، ويكون ذلك شركه بينهما وإن لم يذكر شريكه وقال أبو حنيفة " تصح " دليلنا أن ما يشتريه كل واحد منهما ملك له، فلا يشارك غيره فيه، فان أذن أحدهما لصاحبه أن يشترى له عينا معينه أو موصوفه ويبين له الثمن فاشترى له ونواه عند الشراء كان ذلك للآخر.
(فرع)
حكى الصيمري أن الشافعي رحمه الله قال: شركة الازواد في السفر سنة، فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رضى الله عنهم، وليس من باب الربا سبيل، فيخلط هذا طعامه بطعام غيره جنسا وجنسين وأقل وأكثر، ويأكلان ولا ربا في ذلك، ونحو هذا إشراك الجنس في الطعام بدار الحرب.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(14/75)
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن أخذ رجل من رجل جملا، ومن آخر راوية، على أن يستقى الماء ويكون الكسب بينهم، فقد قال في موضع: يجوز.
وقال في موضع لا يجوز، فمن أصحابنا من قال: إن كان الماء مملوكا للسقاء فالكسب له، ويرجع عليه صاحب الجمل والراوية بأجرة المثل للجمل والراوية، لانه استوفى منفعتهما بإجارة فاسدة فوجب عليه أجرة المثل وإن كان الماء مباحا فالكسب بينهم أثلاثا لانه استقى الماء على أن يكون الكسب بينهم فكان الكسب بينهم كما لو وكلاه في شراء ثوب بينهم فاشتراه، على أن يكون بينهم، وحمل القولين على هذين الحالين، ومنهم من قال: إن كان الماء مملوكا للسقاء كان الكسب له، ويرجعان عليه بالاجرة لما ذكرناه، وإن كان الماء مباحا ففيه قولان.
(أحدهما)
أنه بينهم أثلاثا لانه أخذه على أن يكون بينهم فدخل في ملكهم كما لو اشترى شيئا بينهم بإذنهم.
(والثانى)
أن الكسب للسقاء، لانه مباح اختص بحيازته فاختص بملكه كالغنيمة، ويرجعان عليه بأجرة المثل لانهما بذلا منفعة الجمل والراوية، ليسلم لهما الكسب ولم يسلم، فثبت لهما أجرة المثل.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي رحمه الله تعالى في البويطى: إذا اشترك أربعة أنفس في الزراعة فأخرج أحدهما البذر ومن الثاني الارض ومن الثالث الفدان يعنى البقر التى يعمل عليها، والرابع يعمل على أن يكون الزرع بينهم فإن هذا عقد فاسد، لانه ليس شركة ولا قراضا ولا إجارة لان الشركة لا تصح حتى يخلط الشركاء أموالهم، وها هنا أموالهم متميزة، وفى القراض يرجع رب المال إلى رأس ماله عند المفاصلة، وههنا لا يمكن، والاجارة تفتقر إلى أجرة معلومة وعمل معلوم، فإذا ثبت هذا كانت الغلة كلها لمالك البذر لانها عين ماله زادت،
وعليه لصاحب الارض ولصاحب الفدان أجرة مثل مالهم، وللعامل أجرة مثل عمله عليه، لان كل واحد منهم دخل في العقد ليكون له شئ من الغلة، ولم يسلم لهم ذلك، وقد تلفت منافعهم فكان لهم بدلها.(14/76)
(فرع)
قال في البويطى: فان اشترك أربعة فأخرج أحدهم بغلا والآخر حجر الرحى، ومن الآخر البيت، ومن الرابع العمل على أن يكون ما حصل من الاجرة بينهم على ما شرطوه، فان هذه معاملة فاسدة، لانها ليست شركة ولا قراضا ولا إجارة لما بيناه في الفصل قبله.
قال الشافعي رضى الله تعالى عنه: فإذا أصابوا شيئا جعل لكل واحد منهم أجرة مثله، وجعل كرأس ماله، وقسم ما حصل بينهم على قدره.
قال أبو العباس ابن سريج: في هذا مسألتان.
(إحداهما) إذا جاء رجل فاستأجر من كل واحد ماله ليطحنوا له طعاما معلوما بأجرة معلومة بينهم، بأن يقول لصاحب البيت: استأجرت منك هذا البيت ومن هذا الحجر، ومن هذا البغل، ومن هذا نفسه ليطحنوا لى كذا وكذا من الحنطة بكذا وكذا درهم، فقالوا: قبلنا الاجارة، فهل يصح هذا العقد؟ فيه قولان كالقولين في أربعة أنفس لهم أربع دواب باعوها بثمن واحد، وكالقولين فيمن تزوج أربع نسوة بمهر واحد، أو خالعنه بعوض واحد، فإذا قلنا لا يصح استحق كل واحد منهم أجرة مثل ماله على صاحب الطعام.
وإن قلنا يصح نظر، كم أجرة مثل كل واحد منهم.
وقسم المسمى بينهم على قدر أجور مثلهم، ولو استأجر من كل واحد ملكه بأجرة معلومة على عمل معلوم أو مدة معلومة بعقد مفرد صح ذلك قولا واحدا واستحق كل واحد منهما ما يسمى له.
(المسألة الثانية) إذا استأجرهم في الذمة مثل أن يقول: استأجرتكم لتحصلوا
لى طحن هذا الطعام بمائة صحت الاجارة قولا واحدا.
ووجب على كل واحد منهم ربع العمل واستحق ربع المسمى من غير تقسيط فإذا طحنوا استحقوا المسمى ارباعا، وكان لكل واحد منهم أن يرجع على شركائه بثلاثة أرباع عمله.
فيرجع صاحب البغل على شركائه بثلاثة أرباع أجرة بغله.
وكذلك صاحب البيت والرحى والعامل، لان كل واحد منهم يستحق عليه ربع العمل.
وقد عمل الجميع فسقط الربع لاجل ما استحق عليه، ورجع على شركائه بما لم يستحق عليه.
فان قال: استأجرتكم لتطحنوا لى هذا الطعام بمائة فقالوا قبلنا.
فذكر الشيخ(14/77)
أبو حامد الاسفرايينى في التعليق أنها على قولين كالمسالة الاولى.
وذكر المحاملى في البحر وابن الصباغ: أنها لا تصح قولا واحدا كالمسألة الثانية.
فإن قال لرجل منهم: استأجرتك لتحصل لى طحن هذا الطعام بمائة فقال: قبلت الاجارة لى ولاصحابي، أو نوى ذلك وكانوا قد أذنوا له في ذلك فالاجارة صحيحة، والمسمى بينهم أرباعا، فإذا طحنوا رجع كل واحد منهم بثلاثة أرباع أجرة ماله على شركائه، وان لم ينو أن يقبل له ولاصحابه لزمه العمل بنفسه، فإذا طحن الطعام بالآلة التى بينه وبين شركائه استحق المسمى وكان عليه أجرة مثل آلاتهم (فرع)
قال في البويطى: فإن اشترك ثلاثة من أحدهم البغل، ومن الاخر الراوية، ومن الاخر العمل على أن يستقى الماء ويكون ما رزق الله بينهم، فإن هذه معاملة فاسدة، لانها ليست بشركة ولا قراض ولا إجارة لما بيناه، فإذا استقى الماء وباعه، وحصل منه ثمن فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي موضع: يكون ثمن الماء كله للعامل، وعليه أجرة مثل البغل والراوية.
وقال في موضع: يكون ثمن الماء كله للسقاء، وعليه أجرة البغل والراوية إذا كان الماء ملكا له مثل أن يأخذ الماء من بركة له أو مما ينبع في ملكه لان الماء
ملكه، وكان ثمنه ملكا له، وعليه أجرة البغل والراوية لانه استوفى منفعتهما على عوض، ولم يسلم لهما الغرض.
والموضع الذى قال: يكون ثمن الماء بينهم، إذا كان الماء مباحا، لان الثمن حصل بالعمل والبغل والراوية، ومنهم من قال: إن كان الماء ملكا للسقاء فالثمن كله له.
وعليه أجرة البغل والراوية لما ذكرناه، وإن كان الماء مباحا ففيه قولان
(أحدهما)
أن الثمن كله للسقا لان الماء يملك بالحيازة ولم توجد الحيازة إلا منه، وعليه أجرة مثل البغل والراويه، لانهم دخلوا على أن يكون لهم قسط من ثمن الماء، فإذا لم يحصل ذلك لهم استحقوا أجرة المثل.
(والقول الثاني) أن ثمن الماء بينهم لانه لم يتناول الماء لنفسه، وإنما تناوله ليكون بينهم فكان بينهم، فصار كالوكيل لهم.
قال ابن الصباغ وهكذا لو اصطاد له ولغيره فهل لغيره منه شئ؟ فيه وجهان:(14/78)
أحدهما وهو قول الشيخ أبى حامد في التعليق أنه يقسم بينهم بالتقسيط على قدر أجور أمثالهم.
وحكى أن الشافعي رحمه الله نص على ذلك.
والثانى: حكاه ابن الصباغ عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه يكون بينهم أثلاثا ويرجع صاحب البغل بثلثي أجرته على صاحبه ويرجع صاحب الراوية بثلثي أجرته على صاحبيه، ويرجع السقا على صاحبيه بثلثي أجرته.
وأما صاحبنا المصنف فذكر أنه يكون بينهم أثلاثا وأطلق، فان أستأجرهم غيرهم ليستقوا له ماء.
قال أبو العباس: ففيه مسألتان كما ذكر في الطحن إن استأجرهم إجارة معينة بأجرة واحدة ففيه قولان، وإن استأجرهم في ذممهم صح قولا واحدا والله تعالى أعلم.
ويستخلص مما مضى أنه يجوز عندنا على أحد الوجهين اشتراك مالين وبدن
صاحب أحدهما على سبيل الشركة والمضاربة معا بصورة يمتنع فيها الغرر مثل أن يشترك رجلان بينهما ثلاثة آلاف درهم لاحدهم ألف وللآخر ألفان فأذن صاحب الالفين على أن يتصرف صاحب الالف على أن يكون الربح بينهما نصفين ويكون لصاحب الالف ثلث الربح بحق ماله والباقى وهو ثلثا الربح بينهما لصاحب الالفين ثلاثة أرباعه وللعامل ربعه، وذلك لانه جعل له نصف الربح، فجعلناه ستة أسهم منها ثلاثة للعامل، حصة ماله سهمان وسهم يستحقه بعمله في مال شريكه، وحصة مال شريكه أربعة أسهم سهم للعامل وهو الربع.
وقال مالك: لا يجوز أن يضم إلى القراض شركة، كما لا يجوز أن يضم إليه عقد إجارة.
دليلنا: أنهما لم يجعلا أحد العقدين شرطا للآخر، فلم نمنع من جمعهما كما لو كان المال متميزا.
(مسألة) إذا اشترى الشريكان عينا فوجدا به عيبا، فإن اتفقا على رده وإمساكه فلا كلام، وان أراد أحدهم الرد والآخر الامساك، فإن كانا قد عقدا جميعا عقد البيع فلاحدهما أن يرد نصيبه دون نصيب شريكه، وقد مضى ذكرهما في البيوع، وإن تولى أحدهما عقد البيع له ولشريكه فإن كان لم يذكر أنه يشترى له ولشريكه ثم قال بعد ذلك: كنت اشتريت لى ولشريكي لم يقبل قوله على البائع(14/79)
لان الظاهر أنه اشترى لنفسه، وإن كان قد ذكر في الشراء أنه لنفسه ولشريكه فهل له أن يرد حصته دون شريكه؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد.
أحدهما له ذلك، لان البائع قد علم أن الصفقة لنفسين فصار كما لو اشتريا بأنفسهما.
والثانى: ليس له الرد، وإن ذكر أنه يشترى له ولشريكه، فحكم العقد له، ألا ترى أنه لو اشترى سيارة فقال: اشتريتها لخالد فقال خالد: ما أذنت له.
كان الشراء لازما للمشترى.
فأما إذا باع لرجل سيارة ثم قال: كانت بينى وبين فلان، فان باعها مطلقا ثم قال بعد ذلك: إنها بينه وبين غيره لم يبقل قوله على المشترى، لان الظاهر أنه باع ملكه.
قال الشيخ أبو حامد فيحلف المشترى أنه لا يعلم ذلك، فان أقام الشريك بينة أنها بينه وبينه حكم له بذلك، فان كان قد أذن له بالبيع صح، وان لم يأذن له كان القول قوله أنه ما أذن له، لان الاصل عدم الاذن، فان ذكر البائع حين البيع أنها بينه وبين شريكه قبل قوله، لانه مقر على نفسه في ملكه.
وان أقر الشريك أنه أذن له في البيع نفذ البيع، وان لم يقر بالاذن ولا بينة عليه حلف أنه ما أذن له وبطل البيع، لان الاصل عدم الاذن.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
والشريك أمين فيما في يده من مال شريكه فان هلك المال في يده من غير تفريط لم يضمن، لانه نائب عنه في الحفظ والتصرف، فكان للهالك في يده كالهالك في يده، فان ادعى الهلاك - فان كان بسبب ظاهر - لم يقبل حتى يقيم البينة عليه، فإذا أقام البينة على السبب فالقول قوله في الهلاك مع يمينه، وان كان بسبب غير ظاهر فالقول قوله مع يمينه من غير بينة، لانه يتعذر اقامة البينة على الهلاك، فكان القول قوله مع يمينه.
وان ادعى عليه الشريك خيانة وأنكر فالقول قوله لان الاصل عدم الخيانة.
وان كان في يده عين وادعى شريكه أن ذلك من مال الشركة، وادعى هو أنه له فالقول قوله مع يمينه، لان الظاهر مما في يده أنه ملكه فان اشترى شيئا فيه ربح فادعى الشريك أنه اشتراه للشركة، وادعى هو أنه اشتراه لنفسه أو اشترى شيئا فيه خسارة، وادعى(14/80)
الشريك أنه اشتراه لنفسه، وادعى هو أنه اشتراه للشركة.
فالقول قوله، لانه أعرف بعقده ونيته
(الشرح) الاحكام: الشريك أمين فيما في يده من مال الشركة، فإن تلف في يده شئ منه من غير تفريط لم يجب عليه ضمانه، لانه نائب عن شريكه في الحفظ فكان الهالك في يده كالهالك في يد المالك، وللامانة أن تحفظ بدعامتين من الصدق والثقة، فان ادعى الهلاك بسبب ظاهر لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على السبب الظاهر، لانه يمكنه إقامة البينة عليه، فإن شهدت البينة بصدق قوله وترتب الهلاك على السبب الظاهر فلا كلام.
وإن شهدت البينة بالسبب ولم تذكر هلاك المال فالقول قول الشريك مع يمينه أنه هلك بذلك.
وإن ادعى الهلاك بسبب غير ظاهر فالقول قوله مع يمينه لانه يتعذر عليه إقامة البينة مع الهلاك.
وإن ادعى الشريك على شريكه جناية لم تسمع دعواه حتى يبين قدر الجناية فإذا بينها فأنكرها الآخر، ولا بينة على المنكر فالقول قوله مع يمينه، لان الاصل عدم الجناية.
وإن اشترى أحد الشريكين شيئا فيه ربح، فقال شريكه اشتريته شركة بيننا وقال المشترى: بل اشتريته لنفسي فالقول قول المشترى مع يمينه وإن اشترى شيئا فيه خسارة، فقال المشترى: اشتريته شركة بيننا.
وقال الآخر: بل اشتريته لنفسك فالقول قول المشترى مع يمينه، لانه أعرف بعقده ولان الاصل عدم الخيانة.
(فرع)
إذا أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه بالتصرف، فاشترى أحدهما شيئا للشركة بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس بمثله، فان اشترى ذلك بثمن في ذمته لزم المشترى جميع ما اشتراه، ولا يلزم شريكه ذلك، لان الاذن يقتضى الشراء بثمن المثل، فان دفع الثمن من مال الشركة ضمن نصيب شريكه بذلك لانه تعدى بذلك.
وإن اشتراه بعين مال الشركة لم يصح الشراء في نصيب الشريك، لان العقد متعلق بعين المال.
وهل يبطل في نصيب المشترى؟ فيه
قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.(14/81)
فإذا قلنا يبطل فهما على شركتهما كما كانت وإن قلنا يصح الشراء في نصيبه انفسخت الشركة بينهما في قدر الثمن، لان حقه من الثمن قد صار للبائع، فيكون البائع شريك شريكه بقدر الثمن، ويكون هو شريك البائع في السلعة، فان باع أحد الشريكين شيئا من مال الشركة بأقل من ثمن المثل بمالا يتغابن الناس بمثله بطل البيع في نصيب شريكه لان مطلق الاذن يقتضى البيع بثمن المثل وهل يبطل البيع في نصيب البائع؟ فيه قولان بناء على القولين، إن قلنا يبطل فهما على الشركة كما كانا، وإن قلنا لا يبطل بطلت الشركة بينهما في المبيع، لان حصته منها صارت للمشترى للابتياع، فيكون المشترى شريك شريكه.
قال أبو إسحاق: ولا يضمن البائع نصيب شريكه ما لم يسلمه، لان ذلك موضع اجتهاد لوجود الاختلاف فيه، ولو أودع عند رجل عينا فباعها المودع فانه يضمن ذلك بفسخ البيع إن لم يسلم، لان المودع لا يجوز له البيع بالاجماع، واستضعف الشيخ أبو حامد هذا وقال: هو متعد بالبيع، فلا فرق بين أن يكون مختلفا فيه أو مجمعا عليه.
ألا ترى أنه إذا ضمن وان كان مختلفا فيه.
(فرع)
إذا كانت بهيمة بين اثنين فجاء رجل أجنبي وأزال يد أحد الشريكين من البهيمة صار غاصبا لحصته منها، وإن كانت مشاعا لان الغصب أزال اليد، وذلك يوجد في المشاع كما يوجد في المقسوم.
ألا ترى أن رجلين لو كان بينهما دار فجاء رجل وأخرج أحدهما من الدار وقعد فيه مكانه كان غاصبا لحصته من الدار.
هكذا ذكر الشيخ أبو حامد فإذا باع الغاصب والشريك الذى لم يغصب منه البهيمة صفقة واحدة من رجل، فان الشافعي رضى الله عنه قال: يصح البيع في نصيب المالك، ويبطل
فيما باعه الغاصب.
قال العمرانى: واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال هي على قولين بناء على القولين في تفريق الصفقة.
ومنهم من قال: يصح البيع في نصيب المالك قولا واحدا، لان عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، فلا يفسد أحدهما بفساد الآخر.
وإن وكل الشريك الذى لم يغصب منه الغاصب في بيع نصيبه فباع جميع(14/82)
العين صفقة واحدة.
فان باع وأطلق ولم يذكر الشريك الموكل لم يصح البيع في نصيب المغصوب منه.
وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ فيه قولان.
وان ذكر الغاصب في البيع أنه وكيل في بيع نصفه لم يصح بيع نصيب المغصوب منه.
وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ على الطريقين في المسألة قبلها لانه بمنزلة العقدين.
وان غصب الشريك نصيب شريكه فباع العبد صفقة واحدة بطل البيع في نصيب المغصوب منه.
وهل يبطل في نصيبه؟ فيه قولان.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن كان بينهما عبد فأذن أحدهما لصاحبه في بيعه فباعه بألف ثم أقر الشريك الذى لم يبع أن البائع قبض الالف من المشترى وادعى المشترى ذلك وأنكر البائع.
فان المشترى يبرأ من حصة الشريك الذى لم يبع لانه أقر أنه سلم حصته من الثمن إلى شريكه باذنه وتبقى الخصومة بين البائع وبين المشترى وبين الشريكين.
فان تحاكم البائع والمشترى.
فان كان للمشترى بينة بتسليم الثمن قضى له وان لم يكن له من يشهد غير الشريك الذى لم يبع فان شهادته مردودة في قبض حصته - لانه يجر بها إلى نفسه نفعا - وهو حق الرجوع عليه بما قبض
من حصته.
وهل ترد في حصة البائع؟ فيه قولان: فان قلنا تقبل تحلف معه المشترى ويبرأ.
وان قلنا لا تقبل أو لم يكن عدلا فالقول قول البائع مع يمينه إنه لم يقبض.
فان حلف أخذ منه نصف الثمن وليس للشريك الذى لم يبع أن يأخذ مما أخذ البائع شيئا.
لانه أقر أنه قد أخذ الحق مرة.
وإن ما أخذه الآن أخذه ظلما فلا يجوز أن يأخذ منه.
وان نكل البائع حلف المشترى ويبرأ(14/83)
وإن تحاكم الشريكان - فإن كان للذى لم يبع بينة بأن البائع قبض الثمن - رجع عليه بحصته، وإن لم تكن له بينة حلف البائع أنه لم يقبض ويبرأ، وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على الذى لم يبع فيحلف ويأخذ منه حصته وان ادعى البائع أن الذى لم يبع قبض الالف من المشترى وادعاه المشترى وأنكر الذى لم يبع نظرت، فإن كان الذى لم يبع مأذونا له في القبض برئت ذمة المشترى من نصيب البائع، لانه أقر أنه سلمه إلى شريكه باذنه.
وتبقى الخصومة بين الذى لم يبع وبين المشترى وبين الشريكين، فيكون البائع ههنا كالذى لم يبع، والذى لم يبع كالبائع في المسألة قبلها، وقد بيناه.
وإن لم يكن واحد منهما مأذونا له في القبض لم تبرأ ذمة المشترى من شئ من الثمن، لان الذى باعه أقر بالتسليم إلى من لم يأذن له، والذى لم يبع أنكر القبض، فان تحاكم البائع والمشترى أخذ البائع منه حقه من غير يمين، لانه سلمه إلى شريكه بغير إذنه.
وإن تحاكم المشترى والذى لم يبع، فان كان للمشترى بينة برئ من حقه، وان لم يكن له من يشهد غير البائع - فان كان عدلا - قبلت شهادته لانه
لا يجر بهذه الشهادة إلى نفسه نفعا ولا يدفع بها ضررا، فإذا شهد حلف معه المشترى وبرئ، وان لم يكن عدلا فالقول قول الذى لم يبع مع يمينه، فإذا حلف أخذ منه حقه.
وان كان البائع مأذونا له في القبض والذى لم يبع غير مأذون له، وتحاكم البائع والمشترى قبض منه حقه من غير يمين، لانه سلمه إلى شريكه من غير اذنه وهل للشريك الذى لم يبع مشاركته فيما أخذ.
قال المزني: له مشاركته وهو بالخيار بين أن يأخذ من المشترى خمسمائة، وبين أن يأخذ من المشترى مائتين وخمسين، ومن الشريك مائتين وخمسين.
وقال أبو العباس: لا يأخذ منه شيئا لانه لما أقر أن الذى لم يبع قبض جميع الثمن عزل نفسه من الوكالة في القبض، لانه لم يبق له ما يتوكل في قبضه، فلا يأخذ بعد العزل الا حق نفسه، فلا يجوز للذى لم يبع أن يشاركه فيه، فان(14/84)
تحاكم المشترى والذى لم يبع فالقول قول الذى لم يبع مع يمينه أنه لم يقبض، لان الاصل عدم القبض، فان كان للمشترى بينة قضى له وبرئ، وان لم يكن له من يشهد الا البائع لم تقبل شهادته على قول المزني، لانه يدفع عن نفسه بهذه الشهادة ضررا وهو رجوع الشريك الذى لم يبع عليه بنصف ما في يده، وعلى قول أبى العباس تقبل شهادته قولا واحدا، لانه لا يدفع بشهادته ضررا لانه لا رجوع له عليه.
(الشرح) الاحكام: إذا كانت الشركة بينهما مناصفة في شئ فأذن أحدهما لصاحبه ببيع نصيبه منه وقبض ثمنه، أو قلنا: انه يملك القبض بمقتضى الوكالة في البيع فباع العين المشتركة من رجل بألف، ثم أقر الشريك الذى لم يبع أن البائع قبض الالف من المشترى، وادعى ذلك المشترى وأنكر البائع فإن المشترى
يبرأ من نصيب الشريك الذى لم يبع، لانه اعترف أنه سلم ما يستحقه عليه من الثمن إلى شريكه بإذنه، ثم تبقى الخصومة بين الشريكين وبين البائع والمشترى، فان تحاكم البائع والمشترى، فان أقام المشترى بينة شاهدين أو شاهدا وإمرأتين بأنه قد سلم إليه الالف حكم على البائع أنه قد قبض الالف وبرئ المشترى منها ولزم البائع بذلك تسليم خمسمائة إلى الذى لم يبع، وإن لم يكن مع المشترى من يشهد له غير الشريك الذى لم يبع فان شهادته في نصيبه لا تقبل على البائع.
وهل تقبل شهادته في نصيب البائع؟ فيه قولان، فان قلنا: انها تقبل حلف عنه المشترى وبرئ من حصة البائع.
وان قلنا: لا تقبل أو كان فاسقا فالقول قول البائع مع يمينه أنه ما قبض الالف ولا شيئا منها، لان الاصل عدم القبض فإذا حلف أخذ منه خمسمائة درهم، ولا يشاركه الذى لم يبع، لانه لما أقر أن البائع قد قبض الالف اعترف ببراءة ذمة المشترى من الثمن، وأنه يأخذه الآن ظلما فلا يشاركه فيه.
وان نكل البائع عن اليمين حلف المشترى أنه قد سلم إليه الالف، وبرئ من الالف، ولا يستحق الشريك الذى لم يبع على البائع بيمين المشترى شيئا،(14/85)
سواء قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه بمنزلة الاقرار من المدعى عليه أو بمنزلة إقامة البينة من المدعى، لانا إنما نجعل ذلك في حق المتحالفين في حق غيرهما.
وكذا لو أقام المشترى شاهدا واحدا وحلف معه فإنه يبرأ من الالف، ولا يرجع الذى لم يبع على البائع بشئ إلا إذا حلف مع الشاهد، بخلاف ما لو أقام المشترى بينة، فانه يحكم بها للمشترى وللذى لم يبع وإن بدأ الشريكان فتحاكما - فان كان للشريك الذى لم يبع بينة أن البائع
قبض الالف فأقامها - حكم بها على البائع للمشترى وللذى لم يبع، وإن لم يكن له بينة غير المشترى لم تقبل شهادته للمشترى قولا واحدا، لانه يشهد على فعل نفسه، فيحلف البائع أنه لم يقبض الالف ولا شيئا منها ويسقط حق الذى لم يبع من كل جهة.
وإن نكل البائع عن اليمين فرد اليمين على الذى لم يبع فحلف استحق الرجوع على البائع بخمسمائة، ولا يثبت حق المشترى على البائع، سواء قلنا إن يمين الذى لم يبع بمنزلة إقرار البائع أو بمنزلة قيام البينة عليه، لان ذلك إنما يحكم به في حق المتحالفين لا في حق غيرهما.
ولان اليمين حجة في حق الحالف لا تدخلها النيابة فلم يثبت بيمينه حق غيره بخلاف البينة.
هكذا ذكر عامة أصحابنا.
وذكر أبو على الشيخى وجها لبعض أصحابنا أنه ثبت باليمين والنكول جميع الثمن على البائع في هذه وفى التى قبلها، وهو إذا حلف المشترى مع نكول البائع كما قلنا في البينة وليس بشئ.
وإن ادعى البائع أن الذى لم يبع قبض الالف من المشترى، وادعى المشترى ذلك وأنكر الذى لم يبع، فلا يخلو من أربعة أقسام.
إما أن يكون كل واحد منهما مأذونا له في القبض، أو كان الذى لم يبع مأذونا في القبض وحده أو كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض، أو كان البائع مأذونا له في القبض وحده.
فان كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه بالقبض، أو كان البائع قد أذن(14/86)
للذى لم يبع بقبض نصيبه وحده، فان المشترى يبرأ من نصيب البائع من الثمن لانه أقر أنه دفع حقه إلى وكيله فيكون النظر إلى هذه المسألة كالنظر في التى قبلها إلا أن البائع ههنا يكون كالذى لم يبع هناك، والذى لم يبع ههنا كالبائع هناك
على ما ذكرنا حرفا بحرف.
قال العمرانى: وإن كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض فانه باقرار البائع أن الذى لم يبع قبض الالف لا تبرأ ذمة المشترى من شئ من الثمن: لان البائع أقر بتسليم حصته من الالف إلى غير وكيله، والذى لم يبع ينكر القبض فيأخذ البائع حقه من الثمن من غير يمين، وتبقى الخصومة بين الذى لم يبع وبين المشترى، فان طالب الذى لم يبع المشترى بحقه من الثمن، فان كان مع المشترى بينة حكم له بها على الذى لم يبع.
وإن لم يكن له بينة غير البائع وهو عدل حلف معه وحكم ببراءة ذمة المشترى من نصيب الذى لم يبع قولا واحدا والفرق بين هذه وبين المسائل المتقدمة أن هناك ردت شهادته في القبض للتهمة، وههنا لم ترد شهادته في شئ أصلا، وإن لم يكن البائع عدلا، أو كان ممن لا تقبل شهادة المشترى بأن يكون والده أو ولده، أو كان ممن لا تقبل شهادته على الذى لم يبع بأن يكون عدوا له، فالقول قول الذى لم يبع مع يمينه، لانه لم يقبض الالف ولا شيئا منه، فإذا حلف أخذ حقه من الثمن، وان نكل حلف المشترى وبرئ من حق الذى لم يبع وأما إذا كان البائع قد أذن له الذى لم يقبض حقه، وقلنا ان الاول في البيع يقتضى قبض الثمن ولم يأذن البائع الذى لم يبع بقبض حقه من الثمن، فان باقرار البائع لا تبرأ ذمة المشترى من نصيب البائع من الثمن، لانه يقر أنه دفع ذلك إلى غير وكيله.
وأما نصيب الذى لم يبع، فان المزني نقل أن المشترى يبرأ من نصف الثمن باقراره البائع أن شريكه قد قبض، لانه في ذلك أمين.
فمن أصحابنا من خطأه في النقل وقالوا هذا مذهب أهل العراق، وأن إقرار الوكيل يقبل على الموكل.(14/87)
فيحتمل أن يكون الشافعي رحمه الله ذكر ذلك.
قال: وبه قال محمد بن الحسن رحمه الله، فظن المزني أنه أراد بذلك نفسه، ولم يرد الشافعي رحمه الله تعالى إلا محمد بن الحسن ومن أصحابنا من اعتذر للمزني وقال: معنى قوله " يبرأ المشترى من نصف الثمن يريد به في حق البائع، فان البائع كان له المطالبة بجميع الالف فلما أقر أن شريكه قبض الالف سقطت مطالبته بالنصف إذا ثبت هذا وأن المشترى لا يبرأ من شئ من الثمن فان البائع يأخذ خمسمائة من غير يمين، فإذا قبض ذلك فهل للذى لم يبع أن يشارك البائع بما قبضه؟ نقل المزني أن له أن يشاركه فيما قبضه، وبه قال بعض أصحابنا، لان الذى لم يبع يقول: قد أخذ البائع خمسمائة من المشترى بحق مشاع بينى وبينه، وقول البائع: إنه أخذه لنفسه لا يقبل على الذى لم يبع لان المال إذا كان مشاعا بين اثنين فقبض أحدهما منه شيئا ثم قال قبضته لنفسي لم يقبل وقال أبو العباس والمصنف وعامة الاصحاب: لا يشاركه فيما قبض، لان البائع لما أقر أن الذى لم يبع قد قبض الثمن تضمن ذلك عزل نفسه من الوكالة لانه لم يبق ما يتوكل فيه فان قلنا بقول المزني كان الذى لم يبع بالخيار بين أن يطالب المشترى بخمسمائة وبين أن يأخذ من البائع مائتين وخمسين ومن المشترى مائتين وخمسين فإذا أخذ من البائع مائتين وخمسين لم يكن للبائع أن يرجع بها على المشترى، لانه يقول: ان للذى لم يبع ظلمه بها فلا يرجع بها على غير من ظلمه وإن قلنا بقول أبى العباس ومن تابعه لم يكن للذى لم يبع أن يشارك البائع بشئ مما أخذ، بل له أن يطالب المشترى بحقه من الثمن وهو خمسمائة فإذا طالب الذى لم يبع المشترى - فإن كان مع المشترى بينة على الذى لم يبع أنه قبض منه
الالف - برئ من نصيبه من الثمن، وكان له أن يرجع عليه بخمسمائة لانه قبض منه الفا ولا يستحق عليه إلا خمسمائة.
وإن لم يكن مع المشترى من يشهد له بقبض الذى لم يبع الالف غير البائع وكان عدلا، فهل تقبل شهادته، إن قلنا بقول أبى العباس: إن الذى لم يبع(14/88)
لا يشارك البائع فيما قبض قبلت شهادته عليه، فيحلف معه المشترى وتبرأ ذمته من حقه من الثمن، ويرجع عليه بخمسمائة لانه لا يدفع بشهادته عن نفسه ضررا ولا يجر بها إلى نفسه نفعا وان قلنا بقول المزني ومن تابعه: ان الذى لم يبع يشارك البائع فيما قبض لم تقبل شهادته، لانه يدفع بها عن نفسه ضررا وهو حق الرجوع عليه بنصف ما قبض، لانه إذا ثبت أنه قد استوفى الخمسمائة من المشترى لم يشارك البائع في شئ مما قبض.
فإن قلنا: لا تقبل شهادته عليه، أو كان ممن لا تقبل شهادته عليه، أو كان ممن لا تقبل شهادته لمعنى غير هذا فالقول قول الذى لم يبع مع يمينه أنه لم يقبض الالف ولا شيئا منه فإذا حلف استحق الرجوع بحصته من الثمن على ما مضى، وان نكل عن اليمين فحلف المشترى أنه قد قبض منه الالف برئ من حصته من الثمن، ويرجع عليه بما زاد على حقه.
(فرع)
وان أقر أحد الشريكين أنه باع وقبض الثمن وتلف في يده وهو مأذون له فأنكر شريكه البيع أو القبض فهل يقبل قول المأذون له؟ فيه قولان نذكرهما في الوكالة إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ الله:
(فصل)
ولكل واحد من الشريكين أن يعزل نفسه عن التصرف إذا شاء،
لانه وكيل، وله أن يعزل شريكه عن التصرف في نصيبه لانه وكيله فيملك عزله فإذا انعزل أحدهما لم ينعزل الآخر عن التصرف، لانهما وكيلان، فلا ينعزل أحدهما بعزل الاخر، فإن قال أحدهما فسخت الشركة انعزلا جميعا، لان الفسخ يقتضى رفع العقد من الجانبين فانعزلا، وإن ماتا أو أحدهما انفسخت الشركة، لانه عقد جائز فبطل بالموت كالوديعة، وإن جنا أو أحدهما، أو أغمى عليهما أو على أحدهما، بطل لانه بالجنون والاغماء يخرج عن أن يكون من أهل التصرف ولهذا تثبت الولاية عليه في المال، فبطل العقد كما لو مات، والله أعلم.(14/89)
(الشرح) الاحكام: إذا اشتركا وأذن كل واحد منهما لصاحبه بالتصرف ثم عزل أحدهما صاحبه عن التصرف في نصيبه أو عزل أحدهما نفسه عن التصرف في نصيب شريكه كانت الشركة باقية إلا أن المعزول لا يتصرف إلا في نصيب نفسه مشاعا ولا ينعزل الاخر عن التصرف في نصيب صاحبه ما لم يعزله صاحبه، أو يعزل نفسه - أي ينحيها عن التصرف - لان تصرف كل واحد منهما في نصيب شريكه بالاذن، فإذا عزله المالك أو عزل نفسه انعزل، وان عزل كل واحد منهما صاحبه، أو قال أحدهما: عزلت نفسي عن التصرف في نصيب شريكي وعزلته عن التصرف في نصيبي انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه، ولا تبطل الشركة بذلك.
وإن قال أحدهما: فسخت الشركة انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه، لان ذلك يقتضى العزل من الجانبين ولا يبطل الاشتراك، وإن اتفقا على القسمة قسم، وإن اتفقها على البيع أو التبقية كان لهما ذلك فان دعا أحدهما إلى البيع والاخر إلى القسمة أجيب من دعا إلى القسمة كالمال الموروث بين الورثة وان جن أحدهما أو أغمى عليه انفسخت الشركة وانعزل كل واحد منهما عن التصرف
في نصيب الاخر، لان الاذن عقد جائز فبطل بالجنون والاغماء كالوكالة.
(فرع)
إذا مات أحدهما انفسخت الشركة وانعزل الباقي منهما عن التصرف في نصيب الاخر، لان الاذن عقد جائز فبطل بالموت كالوكالة، إذا ثبت هذا: فان لم يكن على الميت دين ولا أوصى بشئ، وان كان الوارث بالغا رشيدا فله أن يقيم على الشركة بأن يأذن الاخر في التصرف، وبأذن الشريك له، وله أن يقاسم لان الحق لهما، فكان لهما أن يفعلا ما شاءا.
قال الشيخ أبو إسحاق: غير أن الاولى أن يقاسمه، وان كان الحظ في الشركة لان الحوالة وقعت وهو رشيد، وان كان الوارث مولى عليه كان النظر فيه إلى وليه، فان كان الحظ في الشركة لم يجز له أن يقاسمه، وان كان الحظ في القسمة لم يجز له أن يقيم على الشركة، لان الناظر في مال المولى عليه لا ينفذ تصرفه فيه الا فيما له حظ.
وسواء ان كان المال نقدا أو عرضا فان الشركة تجوز، لان(14/90)
الشركة انما لا تجوز ابتداء على العروض، وهذا استدامة للشركة وليس بابتداء عقد، وان مات وعليه دين لم يجز للوارث أن يأذن في التصرف بمال الشركة، لان الدين يتعلق بجميع المال فهو كالمرهون، فان قضى الدين من غير مال الشركة كان كما لو مات ولا دين عليه، وهكذا إذا قضى الدين ببعض مال الشركة كان للوارث أن يأذن له في التصرف فيما بقى، فان أوصى بثلث ماله أو بشئ من مال الشركة - فان كانت الوصية لمعين - كان الموصى له شريكا كالوارث، وله أن يفعل ما يفعل الوارث.
وان كانت الوصية لغير معين لم يجز للوصي الاذن للشريك في التصرف، لانه قد وجب دفعه إليهم، بل يعزل نصيبه ويفرق عليهم، فان كان قد أوصى بثلث ماله فأعطى الوارث ثلث الموصى لهم من غير ذلك المال مثله لم يجز له
ذلك لان الموصى لهم قد استحقوا ثلث ذلك المال بعينه، فلا يجوز أن يعطوا من غيره.
مسائل حول الشركة.
لو دفع شبكة إلى الصياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين فقياس المذهب أن السمك كله للصياد، إذا قلنا: ان الآلة تؤجر بأجر معلوم، فيكون لصاحب الشبكة أجر المثل، وبهذا لا يكون صاحب الشبكة شريكا في حصيلة الصيد، فإذا قلنا: ان الالة لا تؤجر، وان الصياد قد لا يجد سمكا يحصل في شبكته فمن أين يأتي بأجر الشبكة وليس لها أجر مثل معلوم في حين أن أجر الصياد معلوم قضينا بأن صاحب الشبكة له الصيد كله وللصياد أجر مثله على صاحب الشبكة.
لان الربح تابع للمال وقياس مذهب أحمد أن الصيد بينهما نصفان جائز على ما شرطاه لانها عين تنمى بالعمل، فصح دفعها ببعض نمائها كالارض التى دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود في خيبر أن يعملوا فيها على الشطر.
الشركات التى تؤسس من بلاد غير بلاد المسلمين لتعمل في أرض المسلمين لاستخراج خيراتها واستنباط خاماتها واستدرار زيوتها ومعادنها لا تصح إلا إذا قامت على هيمنة المسلمين وسيطرتهم على إدارتها.
ويجب على المسلمين أن يبعثوا طائفة منهم تتعلم علوم طبقات الارض ووسائل استثمار خاماتها وخيرا بها، ولو أن المسلمين فقهوا دينهم والتزموا في سلوكهم بأحكام هذه الفروع الدقيقة(14/91)
لدانت لهم الارض ولبرعوا في شتى علومها الدنيوية وفنونها الحيوية.
ولم تتعرض أرضهم للاغتصاب ورقابهم للعناء.
وقد عرفنا أن احتلال الكفار للهند وأندونيسيا ومليزيا بدأ بتكوين شركات مالية تعمل على المناجرة واستغلال الارض حتى انقلبت إلى سيطرة على المسلمين، وكذلك فعل اليهود في فلسطين.
فقد بدأوا بعمل شركات وجلبوا لها خبراء وعمالا فنيين، ثم اتسعوا في ذلك حتى
ابتلعوا ديار المسلمين وأرضهم وأموالهم، وصاروا خطرا جاثما قائما على أنفاسنا ومقدراتنا، فليتنا نتنبه إلى خطر الترخص في معاملة غير المسلمين، والله الموفق للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الوكالة
(الشرح) الوكالة مشتقة من وكل يكل الامر إليه.
إذا أنابه عنه واعتمد عليه لعجز أو طلب للراحة، وفى الحديث: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا.
وأيضا " من تعلق تميمة وكل أمره إليها " كأن الله قد تخلى عنه وجرده من عنايته به فصار أمره إلى نفسه أو إلى التميمة التى يتعلقها.
والوكالة جائزة بالكتاب والسنة والاجماع.
فأما الكتاب فقوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) الآية 60 من سورة التوبة.
فجواز العمل عليها يفيد حكم النيابة عن المستحقين في تحصيل حقوقهم.
ويقول القاضى أبو بكر بن العربي: قوله تعالى (والعاملين عليها) وهم الذين يقدمون لتحصيلها ويوكلون على جمعها، وقال القرطبى في جامع أحكام القرآن: قوله تعالى (والعاملين عليها) يعنى السعاة والجباة الذين يبعثهم الامام لتحصيل الزكاة بالتوكل على ذلك.
ومن أدلة الكتاب على جواز الوكالة قوله تعالى (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف) قال ابن العربي في أحكام القرآن: هذا يدل على صحة عقد الوكالة، وهو عقد(14/92)
نيابة أذن الله فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة به، إذ يعجز كل أحد عن تناول أمور إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من بريحه حتى جاز ذلك في العبادات
لطفا منه سبحانه ورفقا بضعفة الخليقة، ذكرها الله كما ترون، وبينها رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تسمعون.
وهو أقوى آية في الغرض وقد تعلق بعض علمائنا في صحة الوكالة من القرآن بقوله تعالى (والعاملين عليها) وبقوله (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا) وآية القميص ضعيفة في الاستدلال، وآية العاملين حسنه.
وقد روى جابر بن عبد الله قال: أردت الخروج إلى خيبر فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقلت له: إنى أريد الخروج إلى خيبر، فقال ائت وكيلى فخذ منه خمسة عشر وسقا، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته.
رواه أبو داود وقد جازت في الطهارة، وهى عبادة تجوز النيابة فيها في صب الماء خاصة على أعضاء الوضوء، ولا تجوز على عركها إلا أن يكون المتوضئ مريضا لا يقدر عليه.
وتجوز في الزكاة في أخذها وإعطاءها، وتجوز النيابة في الصيام عند الشافعي وأحمد وجملة من السلف الاول.
وكذلك الاعتكاف مثله، كما تجوز النيابة في الحج على ما مضى في أحكام الحج.
وتجوز الوكالة في البيع - وهو المعاوضه وأنواعها - والرهن وسائر المعاملات من الحجر والحواله والضمان والشركة والاقرار والصلح، والعارية كلها أعمال تجوز النيابة فيها.
وكذلك من الكتاب قوله تعالى (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) بناء على أنه وكيل.
وأما السنة فقد روى أبو داود والاثرم وابن ماجه عن الزبير بن الخريت عن أبى لبيد عن عروة بن الجعد قال: عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني دينارا، فقال يا عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاة، قال فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما أو أقودهما: فلقينى
رجل في الطريق فساومني فبعت منه شاة بدينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار وبالشاة، فقلت يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم.
قال وصنعت(14/93)
كيف؟ قال فحدثته الحديث، قال اللهم بارك له في صفقة يمينه.
هذا لفظه رواية الاثرم.
وروى أبو داود بإسناده حديث جابر الذى مضى وحديث أبى: استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بكرا فجاءت إبل الصدقة فأمرني أن أقضى الرجل بكره " وقد تقدم تخريجه في السلم، وحديث ابن أبى أوفى، وقد مر في كتاب القرض وكتاب الزكاة.
وحديث أبى هريرة " وكلنى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حفظ زكاة رمضان.
وأعطى عقبة بن عامر غنما يقسمها بين أصحابه " وقد مر في كتاب الزكاة.
وفى الوكالة أحاديث كثيرة ستأتي في فصول هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وأما الاجماع فهو منعقد على مدى الدهر منذ نزل الوحى إلى اليوم وإلى يوم الدين
قال المصنف رحمه الله تعالى:
تجوز الوكالة في عقد البيع لما روى عن عروة بن الجعد قَالَ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا أشترى له شاة أو أضحية، فاشتريت شاتين فبعت إحداهما بدينار، وأتيته بشاة ودينار، فدعا لى بالبركة.
فكان لو اشترى ترابا لربح فيه، ولان الحاجة تدعو إلى الوكالة في البيع، لانه قد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه وقد يحسن ولا يتفرغ إليه لكثرة أشغاله فجاز أن يوكل فيه غيره، وتجوز في سائر عقود المعاملات كالرهن والحوالة والضمان والكفالة والشركة والوكالة والوديعه والاعارة والمضاربة والجعاله والمساقاة والاجاره والقرض والهبة والوقف والصدقة، لان الحاجة إلى التوكيل فيها كالحاجة إلى التوكيل في البيع وفى تملك المباحات، كإحياء الموات واستقاء الماء والاصطياد
والاحتشاش قولان.
(أحدهما)
لا يصح التوكيل فيها، لانه تملك مباح فلم يصح التوكيل فيه، كالاغتنام
(والثانى)
يصح، لانه تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز أن يوكل فيه كالابتياع والاتهاب، ويخالف الاغتنام لانه يستحق بالجهاد.
وقد تعين عليه بالحضور، فتعين له ما استحق به.(14/94)
(الشرح) حديث عروة بن أبى الجعد البارقى رواه البخاري وأحمد وأبو داود والاثرم والترمذي وابن ماجه والدارقطني، وفى إسناد من عدا البخاري سعيد ابن زيد أخو حماد، وهو مختلف فيه، عن أبى لبيد لمازة بن زبار، وقد قيل إنه مجهول، لكنه قال الحافظ ابن حجر انه وثقه ابن سعد.
وقال حرب سمعت أحمد يثنى عليه.
وقال في التقريب انه ناصبى جلد قال المنذرى والنووي اسناده صحيح لمجيئه من وجهين، وقد رواه البخاري من طريق ابن عيينة عن شبيب بن غرقد سمعت الحى يحدثون عن عروة.
ورواه الشافعي عن ابن عيينه، وقال ان صح قلت به.
ونقل المزني عنه أنه ليس بثابت عنده.
قال البيهقى انما ضعفه لان الحى غير معروفين.
وقال في موضع آخر هو مرسل لان شبيب بن غرقد لم يسمعه من عروة، وإنما سمعه من الحى.
وقال الرافعى هو مرسل.
قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعى من فتح العزيز " الصواب أنه متصل في إسناده مبهم " أما الاحكام فإن الاجماع منعقد على أن ما جاز فيه المباشرة من الحقوق جازت فيه الوكالة كالبيع والشراء والاجارة وقضاء الديون والخصومات في المطالبة بالحقوق والتزويج والطلاق ونحو ذلك، واتفق الائمة على أن اقرار الوكيل على موكله في غير مجلس الحكم لا يقبل بحال.
وكذلك اتفقوا على أن
اقراره على موكله في الحدود والقصاص غير مقبول، سواء كان بمجلس الحكم أو غيره.
وكذلك اتفقوا على أنه لا يجوز للوكيل أن يشترى بأكثر من ثمن المثل ولا إلى أجل.
وعلى أن قول الوكيل مقبول في تلف المال بيمينه.
وأما ما اختلفوا فيه فأمور ستأتي منبثة في فروع هذا وحول حديث عروة في شراء الشاة يقول ابن تيميه رحمه الله تعالى انه يدل على الوكيل في شراء معلوم بمعلوم إذا اشترى به أكثر من المقدر جاز له بيع الفاضل.
وكذا ينبغى أن يكون الحكم.
وقال صاحب الكافي " ظاهر كلام أحمد صحة ذلك الحديث عن عروة " وفى الحديث دليل على أنه يجوز للوكيل إذا قال له المالك اشتر بهذا الدينار شاة ووصفها أن يشترى به شاتين بالصفة المذكورة، لان مقصود الموكل قد(14/95)
حصل وزاد الوكيل خيرا، ومثل هذا لو أمره أن يبيع شاة بدرهم فباعها بدرهمين أو بأن يشتريها بدرهم فاشتراها بنصف درهم، وهو الصحيح عندنا كما نقله النووي في زيادات الروضة.
وقد استدل بهذا الحديث على صحة بيع الفضولي، وهو الذى يبيع مالا يملك أو ما ليس مأذونا في بيعه، وهو قول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي في القديم، وقواه النووي في الروضة، وهو مروى عن جماعة من السلف منهم على وابن عباس وابن مسعود وابن عمر، واليه ذهب الزيدية وقال الشافعي في الجديد وأصحابه: إن البيع الموقوف والشراء الموقوف باطلان لحديث " لا تبع ما ليس عندك " وأجابوا عن حديث عروة بما فيه من المقال.
وعلى تقدير الصحة فيمكن أن يكون وكيلا في البيع أيضا بقرينة فهمها من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حنيفة: إنه يكون البيع الموقوف صحيحا دون الشراء.
والوجه أن الاخراج عن ملك المالك مفتقر إلى إذنه بخلاف الادخال، ويجاب بأن الادخال المبيع في الملك يستلزم الاخراج من الملك للثمن.
وروى عن مالك العكس من قول أبى حنيفة، فإن صح فهو قوى فإن فيه جمعا بين الاحاديث وأما الوكالة في تملك المباحات كإحياء الموات واستقاء الماء والاصطياد والاحتشاش فعلى قولين
(أحدهما)
لا يصح فيها لانه تملك مباح، فهل يكون بتملكه بوضع يده نائبا عن غيره من نفسه، كأنه قد حاز شيئا ثم وهبه فلم يصح التوكيل فيه كالغنيمة، لا يخرج المجاهد بالغنيمة وكيلا لغيره
(والثانى)
يصح، لانه امتلك مالا بسبب لا يتعين عليه فجاز أن يوكل فيه كسائر المعاملات من المعاوضات والهبات قال في روضة الطالب: يجوز التوكيل في تملك المباحات وإحياء الموات والالتقاط، ويخالف الاغتناء لانه لا يستحق إلا بالجهاد، والجهاد لا وكالة فيه، لانه يتعين عليه بالحضور للملحمة، فاستحق قسمه وسهمه فتعين له.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز التوكيل في عقد النكاح لِمَا رُوِيَ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(14/96)
وكل عمرو بن أمية الضمرى في نكاح أم حبيبة " ويجوز في الطلاق والخلع والعتاق لان الحاجة تدعو إلى التوكيل فيه كما تدعو إلى التوكيل في البيع والنكاح، ولا يجوز التوكيل في الايلاء والظهار واللعان، لانها أيمان فلا تحتمل التوكيل.
وفى الرجعة وجهان
(أحدهما)
لا يجوز التوكيل فيه كما لا يجوز في الايلاء والظهار
(والثانى)
أنه يجوز، وهو الصحيح، فإنه إصلاح للنكاح، فإذا جاز في النكاح جاز في الرجعة.
(الشرح) حديث زواج أم حبيبة رضى الله عنها أخرجه ابو داود وأحمد والنسائي عن عروة عن أم حبيبة ولفظ أبى داود " أنه زوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة، وأخرج أبو داود أيضا من حديث الزهري مرسلا " أن النجاشي زوج أم حبيبة بنت أبى سفيان مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صداق أربعة آلاف درهم وكتب بذلك إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وكانت أم حبيبه مهاجرة إلى أرض الحبشه مع زوجها عبد الله بن جحش فمات بتلك الارض فزوجها النجاشي للنبى صلى الله عليه وسلم وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع في نكاح ميمونة وقد مضى تخريجه في كتاب الحج في أحكام نكاح المحرم ووجه الصواب في ذلك.
أما الاحكام فإنه يصح من كل من صح تصرفه في شئ بنفسه وكان مما تدخله النيابة كالزواج.
وهل يصح توكيل العبد في قبول النكاح لانه ممن يجوز أن يقبله لنفسه.
ذكر أصحابنا في ذلك وجهين
(أحدهما)
يجوز توكيله لانه ليس بولي.
ووجه الوجه الآخر أنه موجب للنكاح فأشبه الولى.
وقد صحح الائمة التوكيل في عقد النكاح في الايجاب والقبول، لان النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أميه وأبا رافع في قبول النكاح له، ولان الحاجة تدعو إليه فإنه ربما احتاج إلى التزوج من مكان بعيد لا يمكنه السفر إليه.
وفى الرجعة وجهان
(أحدهما)
أنه يجرى مجرى الايلاء والظهار فلا يجوز التوكيل
(والثانى)
وهو الصحيح أنه إصلاح لما فسد من النكاح، فإذا صح التوكيل في عقد النكاح ابتداء فقد صح في استئنافه وإعادته فجاز.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ(14/97)
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
ويجوز التوكيل في اثبات الاموال والخصومة فيها لما روى أن عليا كرم الله وجهه وكل عقيلا (رض) عند أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وقال: ما قضى له فلى وما قضى عليه فعلى، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان (رض) وقال على: إن للخصومات قحما.
قال أبو زياد الكلابي: القحم المهالك، ولان الحاجة تدعو إلى التوكيل في الخصومات لانه قد يكون له حق أو يدعى عليه حق ولا يحسن الخصومه فيه، أو يكره أن يتولاها بنفسه، فجاز أن يوكل فيه.
ويجوز ذلك من غير رضى الخصم، لانه توكيل في حقه فلا يعتبر فيه رضى من عليه كالتوكيل في قبض الديون، ويجوز التوكيل في إثبات القصاص وحد القذف لانه حق آدمى فجاز التوكيل في إثباته كالمال، ولا يجوز التوكيل في إثبات حدود الله تعالى لان الحق له، وقد أمرنا فيه بالدرء والتوصل إلى إسقاطه، وبالتوكيل يتوصل إلى إيجابه فلم يجز، ويجوز التوكيل في استيفاء الاموال، لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث العمال لقبض الصدقات وأخذ الجزى.
ويجوز في استيفاء حدود الله تعالى، لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أنيسا لاقامة الحد وقال: يأ أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، ووكل عثمان (رض) عليا كرم الله وجهه ليقيم حد الشرب على الوليد بن عقبه.
وأما القصاص وحد القذف فإنه يجوز التوكيل في استيفائهما بحضرة الموكل لان الحاجه تدعو إلى التوكيل فيه لانه قد يكون له حد أو قصاص ولا يحسن أن يستوفيه فجاز أن يوكل فيه غيره، وهل يجوز أن يستوفيه في غيبة الموكل؟ قال في الوكالة: لا يستوفى، وقال في الجنايات: ولو وكل فتنحى به فعفا الموكل فقتله الوكيل بعد العفو، وقبل العلم بالعفو، ففى الضمان قولان.
وهذا يدل على أنه يجوز أن يقتص مع غيبة الموكل، فمن أصحابنا من قال: يجوز قولا واحدا، وهو قول أبى اسحاق، لانه حق يجوز أن يستوفيه بحضرة الموكل فجاز في غيبته كأخذ المال، وحمل قوله لا يستوفى على الاستحباب، ومنهم من قال
لا يجوز قولا واحدا، لان القصاص والحد يحتاط في إسقاطهما، والعفو مندوب إليه فيهما، فإذا حضر رجونا أن يرحمه فيعفو عنه، وحمل قوله في الجنايات على أنه أراد إذا تنحى به ولم يغب عن عينه فعفا ولم يسمع الوكيل فقتل.(14/98)
ومنهم من قال فيه قولان.
أحدهما يجوز، والثانى لا يجوز ووجههما ما ذكرناه
(فصل)
ويجوز التوكيل في فسخ العقود لانه إذا جاز التوكيل في عقدها ففى فسخها أولى، ويجوز أن يوكل في الابراء من الديون، لانه إذا جاز التوكيل في إثباتها واستيفائها جاز التوكيل في الابراء عنها، وفى التوكيل في الاقرار وجهان
(أحدهما)
يجوز، وهو ظاهر النص، لانه اثبات مال في الذمة بالقول فجاز التوكيل فيه كالبيع.
(والثانى)
لا يجوز، وهو قول أبى العباس، لانه توكيل في الاخبار عن حق فلم يجز كالتوكيل في الشهادة بالحق، فإذا قلنا: لا يجوز فهل يكون توكيله اقرارا؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
أنه اقرار، لانه لم يوكل في الاقرار بالحق الا والحق واجب عليه
(والثانى)
أنه لا يكون اقرارا كما لا يكون التوكيل في الابراء ابراء.
(الشرح) حديث أنيس سيأتي في كتاب الحدود وقد أخرجه البخاري ومسلم وقصة توكيل على لاخيه عقيل وابن أخيه عبد الله بن جعفر.
قال الشافعي في الام: وأقبل الوكالة من الحاضر من الرجال والنساء في العذر وغير العذر، وقد كان على بن أبى طالب وكل عند عثمان عبد الله بن جعفر، وعلى حاضر، فقيل: ذلك عثمان وكان يوكل قبل عبد الله بن جعفر عقيل بن أبى طالب ولا أحسبه الا كان يوكله عند عمر، ولعل عند أبى بكر: وكان على يقول: ان للخصومة قحما وان الشيطان يحضرها اه.
وأما أحكام الفصل: أنه يجوز التوكيل في اثبات حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فإذا كان لرجل خصومة لرجل على شئ فوكل غيره عنه كما فعل على حين وكل عقيلا أخاه عند أبى بكر وعبد الله بن جعفر بن أخيه عند عثمان وقال " ان للخصومة قحما، وان الشيطان ليحضرها، وانى لاكره أن أحضرها " قال أبو زياد الكلابي: القحم المهالك، وهذه الروايات تحتاج إلى تحرير وتخريج الا أن ابن قدامة في المغنى يقول: وهذه قصص قد انتشرت، لانها في مظنة الشهرة فلم ينقل انكارها، ولان الحاجة تدعو إلى ذلك، فانه قد يكون له حق أو يدعى عليه ولا يحسن الخصومة، أو لا يحب أن يتولاها بنفسه.(14/99)
قلت: ولاصحابنا وجهان
(أحدهما)
لا يجوز التوكيل فيه لانه اخبار بحق فلم يجز التوكيل فيه كالشهادة.
(والثانى)
يجوز، وهو الصحيح، واليه ذهب المصنف رحمه الله تعالى، ولا يشترط في صحة التوكيل رضى الخصم، لانه توكيل في حقه فلا يعتبر فيه رضى من عليه الحق كالتوكيل في قبض الديون، وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد رضى الله عنهم من أن وكالة الحاضر صحيحة، وان لم يرض الخصم بشرط أن لا يكون الوكيل عدوا للخصم.
وقال أبو حنيفة لا تصح وكالة الحاضر الا برضى الخصم الا أن يكون الموكل مريضا أو مسافرا على ثلاثة أيام فيجوز حينئذ وأما التوكيل في الجنايات فينقسم إلى قسمين:
(أحدهما)
التوكيل في اثبات الجناية فهذا غير جائز، لان الحق لله تعالى وقد أمرنا فيه بالدرء لقوله صلى الله عليه وسلم " ادرءوا الحدود بالشبهات " وأمرنا بالتوصل إلى اسقاطه وقد يتوصل بالتوكيل إلى ايجابه فلم يجز.
(القسم الثاني) وهو استيفاء حدود الله تعالى، كالقصاص وأرش الجناية
وحد القذف وكل ما تعلق به حق للعباد، وكذلك في اقامة الحد بعد ثبوت الجنايه لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لانيس اذهب إلى امرأة فلان فان اعترفت فارجمها فعلق الجزاء على شرط الاعتراف، وكذلك يمكن التوكيل في حضرة الموكل، وهذه العبارة التى ساقها المصنف في قوله: فانه يجوز التوكيل في استيفائها بحضرة الموكل، لان الحاجة تدعو إلى التوكيل فيه، لانه قد يكون له حد أو قصاص الخ عبارته.
تدل هذه العبارة على صحة ما اتسم به عصرنا هذا من تخصيص فريق من الدارسين لاحكام الشرع وفقه الفروع يتوكلون عن أصحاب الخصومات في عمل الاجراءات التى يترافعون بها في ساحة المحاكم ومجالس القضاء ويسمونهم بالمحامين.
(فرع)
قال الشافعي في الجنايات: ولو وكل فتنحى به فعفا الموكل فقتله الوكيل بعد العفو وقبل العلم بالعفو، فعلى من يكون الضمان؟ على القاتل الذى لم يعلم بعفو موكله؟ أم على الموكل الذى لم يحتط فوقع القتل؟(14/100)
قال المصنف فيه قولان، وهذا يدل على أنه يجوز أن يقتص مع غيبة الموكل فمن أصحابنا من قال: يجوز قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لانه حق يجوز استيفاؤه بحضرة الموكل فجاز في غيبته، كقبض الدين، وحمل قوله: لا يستوفى الذى قاله الشافعي في الوكالة على الاستحباب ومن أصحابنا من قال: لا يجوز قولا واحدا، لان الحد والقصاص إذا عرفنا أننا مأمورون بالدرء والاحتياط والتماس الشبهات الصارفة عن الادانة وعرفنا مع ذلك أن العفو مندوب إليه بل رغب الله فيه وقال " فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ومن ثم كان رجاؤنا أن يرحم أخاه فيعفو عنه، ومن هنا حمل قول الشافعي في الجنايات على أنه أراد إذا تنحى به ولم يغب
عن عينه فعفا عنه من حيث لم يسمع الوكيل صيغة العفو فقتله، ووجه القولين بالجواز وعدمه ما ذكرنا والله تعالى أعلم.
(فرع)
توكيل مسلم كافرا في استيفاء قود من مسلم هل يصح؟ قولان.
(أحدهما)
لا يصح
(والثانى)
يصح، وهو اختيار الرملي في شرحه للمنهاج للنووي قال: وهذه مردودة بأن الوكيل لا يستوفيه لنفسه، وبأن المصنف إنما جعل صحة مباشرته شرطا لصحة توكله، ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط وإنما يلزم من عدمه عدمه والاول صحيح والثانى في غير محله إذ الشرط وهو صحة المباشرة غير موجود هنا رأسا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
ولا يصح التوكيل إلا ممن يملك التصرف في الذى يوكل فيه بملك أو ولاية فأما من لا يملك التصرف في الذى يوكل فيه كالصبى والمجنون والمحجور عليه في المال والمرأة في النكاح والفاسق في تزويج ابنته، فلا يملك التوكيل فيه لانه لا يملكه، فلا يملك أن يملك دلك غيره، وأما من لا يملك التصرف إلا بالاذن كالوكيل والعبد المأذون، فإنه لا يملك التوكيل الا بالاذن لانه يملك التصرف بالاذن، فكان توكيله بالاذن، واختلف أصحابنا في غير الاب والجد من العصبات، هل يملك التوكيل في التزويج من غير إذن المرأة؟ فمنهم من قال:(14/101)
يملك، لانه يملك التزويج بالولاية من جهة الشرع، فملك التوكيل من غير اذن كالاب والجد، ومنهم من قال: لا يملك لانه لا يملك التزويج إلا بإذن فلا يملك التوكيل إلا بإذن كالوكيل والعبد المأذون.
(الشرح) الاحكام: لا يصح التوكيل إلا إذا صدر للوكيل من الموكل الذى يملك التصرف عن نفسه في ملكه أو فيما يولى فيه أو عليه فإذا كان فاقد الاهلية
لصغر سن أو جنون أو حجر لسفه أو غيره فإن أولئك لا يصح توكيلهم ما داموا لا يملكون التصرف، وفاقد الشئ لا يعطيه، ويلحق بهؤلاء المرأة لا تكون وكيلة عن غيرها من النساء ولو ابنتها في عقد النكاح، وكذلك الفاسق المعروف بفسقه في تزويج ابنته، لفقده حق الولاية عليها، ويلحق بالمجنون المغمى عليه والنائم، إذ تصرفه لنفسه أقوى منه لغيره فإذا لم يملك الاقوى لم يملك ما دونه بالاولى وانما أبيح توكيل الصبى فيما يكون مصدقا فيه كالخادم والعبد ما دام الصبى مميزا لم يجرب عليه كذب وذلك في الاذن في دخول دار وايصال هدية.
أما الصبى غير المأمون المجرب الكذب عليه فلا يعتمد قطعا وما حفته قرينة يعتمد قطعا، وحينئذ يكون العمل بالعلم لا بالخبر.
وأما المرأة فلا تتوكل في عقد النكاح كما قلنا ايجابا وقبولا.
واختلف في الجد وغير الاب من العصبات هل يملك التوكيل في التزويج من غير اذن المرأة؟ فان قلنا بحصول ولايته عليها من جهة الشرع فملك التوكيل من غير اذنها كالاب وأبى الاب.
ومنهم من قال: لا يملك التزويج الا باذن، ويكون الاذن بمثابة توكيل منها والحق أن الاذن والتوكيل والولاية الشرعية أمور تحتاج منا إلى بيان درجاتها واعطائها ما تستحقه من تقويم فالولاية الشرعية يعطى الولى الحق في التزويج بغير اذن ولا توكيل، والتوكيل يعطى الحق للوكيل بالولاية الجعليه أو الولاية العرفية، والظاهر أن الاولى أقوى فيكتفى فيها بما لا يكتفى في الثانيه، وأن باب الاذن أوسع من باب الوكالة، وما جمع به بعضهم بين ما ذكر بحمل عدم الصحة(14/102)
على الوكالة، والصحة على التصرف، إذ قد تبطل الوكالة ويصح التصرف، رد بأنه خطأ صريح مخالف للمنقول إذ الابضاع يحتاط لها فوق غيرها ومقابل الاصح
أنه يصح وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
ومن لا يملك التصرف في حق نفسه لنقص فيه كالمرأة في النكاح والصبى والمجنون في جميع العقود لم يملك أن يتوكل لغيره لانه إذا لم يملك ذلك في حق نفسه بحق الملك لم يملكه في حق غيره بالتوكيل، ومن ملك التصرف فيما تدخله النيابة في حق نفسه جاز أن يتوكل فيه لغيره، لانه يملك في حق نفسه بحق الملك فملك في حق غيره بالاذن.
واختلف أصحابنا في العبد، هل يجوز أن يتوكل في قبول النكاح؟ فمنهم من قال: يجوز، لانه يملك قبول العقد لنفسه باذن المولى، فملك أن يقبل لغيره بالتوكيل، ومنهم من قال: لا يجوز لانه لا يملك النكاح، وانما أجيز له القبول لنفسه للحاجة إليه ولا حاجة إلى القبول لغيره، فلم يجز، واختلفوا في توكيل المرأة في طلاق غيرها، فمنهم من قال: يجوز كما يجوز توكيلها في طلاقها، ومنهم من قال: لا يجوز، لانها لا تملك الطلاق، وانما أجيز توكيلها في طلاق نفسها للحاجة، ولا حاجة إلى توكيلها في طلاق غيرها، فلم يجز، ويجوز للفاسق أن يتوكل في قبول النكاح للزوج، لانه يجوز أن يقبل لنفسه مع الفسق، فجاز أن يقبل لغيره، وهل يجوز أن يتوكل في الايجاب؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يجوز، لانه موجب للنكاح فلم يجز أن يكون فاسقا كالولي،
(والثانى)
يجوز، لانه ليس بولي.
وانما هو مأمور من جهة الولى، والولى عدل (الشرح) الاحكام: بعض أحكام هذا الفصل مضى في الذى قبله.
وقال الرملي في شرح المنهاج وشرط الوكيل تعيينه الا في نحو: من حج عنى فله كذا، فيبطل: وكلت أحدكما، نعم ان وقع غير المعين تبعا لمعين كوكلتك في كذا وكل مسلم صح كما بحثه(14/103)
الشيخ في شرح منهجه قال: وعليه العمل.
وما نظر فيه من قياسه على الموكل فيه غير صحيح فسيأتي الفرق بينهما، ودعوى أنه يحتاط في العاقد مالا يحتاط في المعقود عليه لا التفات له هنا، إذ الغرض الاعظم الاتيان بالمأذون فيه وصحة مباشرته التصرف الذى وكل فيه لنفسه، وإلا لم يصح توكيله إذ تصرفه لنفسه أقوى منه لغيره.
إلى أن قال: والاصح صحة توكيل عبد في قبول نكاح وإن لم يأذن له سيده لانتفاء ضرره وتعبيره بلكن فيه إشارة إلى استثناء هذين من عكس الضاط، وهو من لا تصح مباشرته لنفسه لا يصح توكله، ويستثنى صحة توكل سفيه في قبول نكاح بغير إذن وليه وتوكل امرأة في طلاق غيرها ومرتد في تصرف لغيره مع امتناعه لنفسه وإنما يصح ذلك إن لم يشرط في بطلان تصرفه لنفسه حجر الحاكم عليه، وسيأتى في بابه ما فيه: ورجل في قبول نكاح أخت زوجته مثلا أو خامسة وتحته أربع والموسر في قبول نكاح أمة.
واستثناء بعضهم توكل كافر عن مسلم في شراء مسلم أو طلاق مسلمة غير صحيح، إذ لو أسلمت زوجته فطلق ثم أسلم في العدة بان نفوذ طلاقه.
وأشار المصنف - يعنى النووي في المنهاج - في مسألة طلاق الكافر للمسلمة بأنه يصح طلاقه في الجملة إلى أن المراد صحة مباشرة الوكيل التصرف لنفسه في جنس ما وكل فيه في الجملة لا في عينه، وحينئذ فيسقط أكثر ما مر من المستثنيات وقياسه جريان ذلك في الموكل أيضا كما قدمناه، ومنعه أي توكيل العبد، أي من فيه رق في الايجاب للنكاح، لانه إذا امتنع عليه تزويج ابنته فبنت غيره أولى، ويصح توكيل المكاتب في تزويج أمته كما بحثه الاذرعى وشرط الموكل فيه أن يملكه الموكل حالة التوكيل، وإلا فكيف يأذن فيه؟
(فرع)
إذا جاز للفاسق أن يتزوج وصح تعاقده فجاز أن يتعاقد لغيره على أحد الوجهين لانه ليس بولي.
والولى عدل.
والوجه الثاني: إذا امتنع عليه تزويج ابنته فبنت غيره أولى.(14/104)
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا تصح الوكالة إلا بالايجاب والقبول، لانه عقد تعلق به حق كل واحد منهما فافتقر إلى الايجاب والقبول كالبيع والاجارة، ويجوز القبول على الفور وعلى التراخي.
وقال القاضى أبو حامد المروروذى: لا يجوز إلا على الفور لانه عقد في حال الحياة فكان القبول فيه على الفور كالبيع - والمذهب الاول - لانه إذن في التصرف، والاذن قائم ما لم يرجع فيه، فجاز القبول.
ويجوز القبول بالفعل، لانه أذن في التصرف فجاز القبول فيه بالفعل كالاذن في أكل الطعام (الشرح) الاحكام: الوكالة كأى عقد من العقود لا ينقدح في الذمة إلا بتحقق هذين الشرطين: الايجاب والقبول، لما يترتب على هذا العقد من حق كل واحد منهما.
فيشترط من الموكل أو نائبه لفظ صريح أو كناية ككتابة أو إشارة أخرس مفهمه لا لكل أحد يقتضى رضاه كوكلتك في كذا أو فوضته إليك أو أنبتك فيه أو أقمتك مقامي فيه، أو أنت وكيلى فيه كبقية العقود، إذ الشخص ممنوع من التصرف في مال غيره إلا برضاه، فلا يصح أن يقول: وكلت من أراد بيع دارى ولا ينفذ تصرف أحد بهذا الاذن لفساده.
نعم لو لم يتعلق بعين الوكيل فيه غرض كوكلت من أراد في إعتاق عبدى هذا أو تزويج أمتى هذه صح على ما بحثه السبكى وأخذ منه صحة قول من لا ولى لها
أذنت لكل عاقد في البلد أن يزوجنى.
قال الاذرعى: وهذا إن صح فمحله عند تعيينها الزوج ولم تفوض سوى صيغة العقد خاصة، وبذلك أفتى بن الصلاح، ويجرى ذلك التعميم في التوكيل، إذ لا يتعلق بعين الوكيل غرض وعليه عمل القضاة.
وقد يشترط القبول هنا لفظا، كما لو كان له عين مؤجرة أو معارة أو مغصوبة فوهبها لآخر وأذن له في قبضها فوكل من هي في يده في قبضها له، لابد من قبول لفظا لنزول يده عنها به.(14/105)
إذا ثبت هذا فهل يجوز القبول على الفور.
أم يصح على التراخي.
قولان فالمصنف والاصحاب كافة على جوازه على الفور وعلى التراخي خلافا للقاضى أبى حامد المروروذى فإنه قال: لا يجوز إلا على الفور كالبيع (فرع)
إذا قال أذنت لك في إعطاء فلان صكا بمائة دينار فأخرج القلم وأخذ يكتب الصك كان ذلك هو القبول.
ومن أصحابنا من اشترط التلفظ بلفظ القبول وهو مرجوح، إذ لو قال له أذنتك في الطعام فأقبل على الطعام ولم يقل شيئا وأكل ألا يكون ذلك قبولا، وما دام التوكيل أو الاذن القصد منه أداء الفعل فأداه فقد تحقق الغرض من الوكالة أو النيابة.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
.
(فصل)
ولا يجوز التوكيل إلا في تصرف معلوم.
فإن قال وكلتك في كل قليل وكثير لم يصح، لانه يدخل فيه ما يطيق ومالا يطيق، فيعظم الضرر ويكثر الغرر.
وإن قال وكلتك في بيع جميع مالى أو قبض جميع ديونى صح، لانه يعرف ماله ودينه، وإن قال بع ما شئت من مالى أو اقبض ما شئت من ديونى جاز لانه إذا عرف ماله ودينه عرف أقصى ما يبيع ويقبض فيقل الغرر.
وإن قال اشتر لى عبدا لم يصح لان فيه ما يكون بمائة وفيه ما يكون بألف، فيكثر الغرر، وان قال اشتر لى عبدا بمائة لم يصح، لان ذكر الثمن لا يدل على النوع فيكثر الغرر.
وإن قال اشتر لى عبدا تركيا بمائة جاز، لان مع ذلك النوع وقدر الثمن يقل الغرر، فإن قال اشتر لى عبدا تركيا ولم يقدر الثمن ففيه وجهان.
قال أبو العباس يصح لانه يحمل الامر على أعلى هذا النوع ثمنا فيقل الغرر.
ومن أصحابنا من قال لا يصح لان أثمان الترك تختلف وتتفاوت، فيكثر الغرر، وإن وكله في الابراء لم يجز حتى يبين الجنس الذى يبرئ منه والقدر الذى يبرئ منه، وان وكله في الاقرار وقلنا إنه يصح التوكيل فيه لم يجز حتى يبين جنس ما يقر به، وقدر ما يقربه، لانه إذا أطلق عظم الضرر وكثر الغرر فلم يجز، وإن وكله في(14/106)
خصومة كل من يخاصمه ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح، لان الخصومة معلومة
(والثانى)
لا يصح، لانها قد تقل الخصومات وقد تكثر فيكثر الغرر.
(الشرح) الاحكام: لا يجوز التوكيل إلا في تصرف معلوم من بعض الوجوه لئلا يعظم الغرر.
ولا يشترط علمه من كل وجه.
هكذا قرر النووي في المنهاج، ولا يشترط ذكر أوصاف المسلم فيها لانها جوزت للحاجة فسومح فيها فلو قال: وكلتك في كل قليل وكثير لى في كل أمورى أو حقوقي، أو فوضت اليك كل شئ لى، أو كل ما شئت من مالى لم يصح لما فيه من عظيم الغرر، لانه يدخل فيه مالا يسمح الموكل ببعضه كعتق أرقائه وطلاق زوجاته والتصدق بأمواله وظاهر كلامهم بطلان هذا وإن كان تابعا لمعين.
وكذلك أفتى الرملي الكبير شهاب الدين.
فلا ينفذ تصرف الوكيل في شئ من التابع لان عظم الغرر فيه الذى هو السبب في البطلان لا يندفع بذلك.
قال شمس الدين الرملي: وفارق ما مر عن أبى حامد بأن ذاك في جزئي خاص معين فساغ كونه تابعا لقلة الغرر فيه بخلاف هذا، وبخلاف ما جاء في قوله: وكلتك في كذا وكل مسلم.
إذ الوكيل المتبوع معين والتابع غير معين وهو مستثنى من أن يكون الوكيل معينا، وليست هذه المسأله مثل ذلك لما تقرر من كثرة الغرر في التابع فيها.
وإن قال: وكلتك في بيع أموالي وعتق أرقائي ووفاء ديونى واستيفائها ونحو ذلك صح، وإن كان ما ذكر معلوما عندهما لقلة الغرر فيه.
ولو قال في بعض أموالي أو شئ منها لم يصح.
أما لو قال: بع هذا أو هذا لتناول كل بطريق العموم البدلى فلا إبهام فيه.
وكما لو قال: أبرئ فلانا عن شئ من دينى صح وحمل على أدنى شئ.
إذ الابراء عقد غبن فتوسع فيه بخلاف البيع.
وكقوله أبرئ فلانا عما شئت من دينى فليبق عليه شيئا.
أما لو قال أبرئه عن جميعه صح ابراؤه عن بعضه بخلاف بيعه لبعض ما وكله ببيعه بأنقص من قيمة الجميع لتضمن التشقيص فيه الغرر.
وان قال اشتر لى عبدا بمائة ولم يبين جنسه ولا يغنى ذكر الوصف كأبيض أو(14/107)
أسود.
نعم لا يشترط ذكر أوصاف السلم ولا ما يقرب منها.
هذا إذا كان العبد للاقتناء أما إذا كان للتجارة فلا يجب فيه ذكر نوع أو غيره لشبهه بالقراض.
ونقله ابن الرفعة عن الماوردى وغيره.
قال الرملي شمس الدين: ولو وكله في تزويج امرأة اشترط تعيينها، ولا يكتفى بكونها مكافئة له، لان الغرض يختلف مع وجود وصف المكافأة كثيرا فاندفع ما ذكره السبكى هنا.
نعم ان أتى له بلفظ عام كزوجني من شئت صح للعموم، وجعل الامر راجعا إلى رأى الوكيل بخلاف الاول فإنه مطلق، ودلالة العام
على أفراد ظاهرة، وأما المطلق فلا دلالة فيه على فرد فلا تناقض، أو في شراء دار للقنية أيضا وجب بيان المحلة - أي الحارة - ومن لازمها بيان البلد، فلذا لم يصرح به.
أما الاقرار فإنه لا يصح التوكيل فيه الا إذا بين جنس ما يقر به وقدره لعظم الغرر عند الاطلاق وكثرة الضرر فلم يصح، فإذا وكله في خصوماته، كقوله: وكلتك في خصومة من أخاصمه ففيه وجهان
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل.
ومن أصحابنا من قال يجوز لانه أذن في التصرف فجاز تعليقه على شرط مستقبل كالوصية، والمذهب الاول لانه عقد تؤثر الجهالة في إبطاله فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والاجارة ويخالف الوصية فإنها لا يؤثر فيها غرر الجهالة فلا يؤثر فيها غرر الشرط ولوكالة تؤثر الجهالة في ابطالها فأثر غرر الشرط فإن علقها على شرط مستقبل ووجد الشرط وتصرف الوكيل صح التصرف، لان مع فساد العقد الاذن قائم فيكون تصرفه بإذن فصح، فإن كان قد سمى له جعلا سقط المسمى ووجب له أجرة المثل لانه عمل في عقد فاسد لم يرض فيه بغير بدل فوجب أجرة المثل كالعمل في الاجارة الفاسدة، وان عقد الوكالة في الحال وعلق التصرف على شرط، بأن قال وكلتك أن تطلق امرأتي أو تبيع مالى بعد شهر صح، لانه لم يعلق العقد على شرط، وإنما علق التصرف على شرط فلم يمنع صحة العقد(14/108)
(الشرح) الاحكام: فرقوا بين تعليق العقد على شرط وتعليق التصرف على شرط فالاول لا يجوز والثانى يجوز.
أما أجرة الوكيل فتتحدد بأجرة المثل ولو سمى له جعلا.
أما الشرط فقد قال الرملي شمس الدين: ولا يصح تعليقها بشرط من صفة أو وقت في الاصح كسائر العقود سوى الوصية لقبولها الجهالة والامارة للحاجة والثانى: تصح كالوصية ورد بما مر اه، ومثال الوصية قوله: إذا جاء رأس الشهر فقد أوصيت له بكذا، وصورة الوكالة الباطلة لارتباطها بالشرط كقوله: وكلت من أراد بيع دارى، وقال الزركشي: لا ينفذ التصرف.
قال ابن الصلاح: والاقدام على التصرف بالوكالة الفاسدة جائز، إذ أنه ليس من تعاطى العقود الفاسدة لانه إنما قدم على عقد صحيح خلافا لابن الرفعه.
فإن نجزها وشرط للتصرف شرطا جاز، كوكلتك الآن ببيع هذا ولكن لا تبعه الا بعد شهر، وعلم من هذا أنه لو قال لآخر قبل رمضان: وكلتك في إخراج فطرتي وأخرجها في رمضان صح لتنجيزه الوكالة، وإنما قيدها بما قيدها به الشارع، بخلاف إذا جاء رمضان فأخرج فطرتي، لانه تعليق محض وعلى هذا التفصيل يحمل إطلاق من أطلق الجواز ومن أطلق المنع.
قال الشمس الرملي: والاقرب إلى كلامهم عدم الصحة إذ كل من الموكل والوكيل لا يملك ذلك عن نفسه حال التوكيل (قلت) وعلى هذا يتوجه كلام ابن الصلاح، لان إخراج الفطرة هنا عمل صحيح ترتب على وكالة فاسدة فنقول بصحة إخراجها عنه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
.
(فصل)
ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه اذن الموكل من جهة النطق أو من جهة العرف لان تصرفه بالاذن فلا يملك الا ما يقتضيه الاذن والاذن يعرف بالنطق وبالعرف فان تناول الاذن تصرفين.
وفى أحدهما اضرار بالموكل لم يجز ما فيه ضرار لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار " فان(14/109)
تناول تصرفين وفى أحدهما نظر للموكل لزمه ما فيه النظر للموكل لما روى ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأس الدين النصيحة: قلنا يا رسول الله لمن قال لله ولرسوله ولكتابه ولائمة المسلمين وللمسلمين عامة وليس من النصح أن يترك ما فيه الحظ والنظر للموكل.
(الشرح) حديث " لا ضرر ولا ضرار " مضى تخريجه في غير موضع، وحديث ثوبان رواه الجماعه.
الاحكام: إذا وكله في بيع شئ أو طلب الشفعه أو قسم شئ ففيه وجهان
(أحدهما)
يملك تثبيته، وهو قول أبى حنيفة في القسمة وطلب الشفعة، لانه لا يتوصل إلى ما وكله فيه إلا بالتثبيت
(والثانى)
لا يملكه، وهو قول بعض أصحابنا لانه يمكن أحدهما دون الآخر، فلم يتضمن الاذن في أحدهما الاذن في الآخر، فإذا قال: اقبض حقى من فلان لم يكن له قبضه من وارثه.
لانه لم يؤمر بذلك، وإن قال: اقبض حقى الذى قبل فلان أو على فلان جاز له مطالبة وارثه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
وان وكل في تصرف وأذن له أن يوكل إذا شاء نظرت، فإن عين له من يوكله وكله أمينا كان أو غير أمين لانه قطع اجتهاده بالتعيين، وان لم يعين من يوكل لم يوكل الا أمينا لانه لا نظر للموكل في توكيل غير الامين، فان وكل أمينا فصار خائنا فهل يملك عزله، فيه وجهان.
(أحدهما)
يملك عزله، لان الوكالة تقتضي استعمال أمين، فإذا خرج عن أن يكون أمينا لم يجز استعماله، فوجب عزله.
(والثانى)
لا يملك عزله، لانه أذن له في التوكيل دون العزل، وان وكله ولم يأذن له في التوكيل نظرت، فإن كان ما وكله فيه مما يتولاه الوكيل ويقدر
عليه، لم يجز أن يوكل فيه غيره، لان الاذن لا يتناول تصرف غيره من جهة النطق، ولا من جهة العرف، لانه ليس في العرف إذا رضيه أن يرضى غيره،(14/110)
وإن وكله في تصرف وقال: اصنع فيه ما شئت ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يجوز أن يوكل فيه غيره لعموم قوله: اصنع فيه ما شئت.
(والثانى)
لا يجوز، لان التوكيل يقتضى تصرفا يتولاه بنفسه، وقوله: اصنع فيه ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل في تصرفه بنفسه، وإن كان ما وكله فيه مما لا يتولاه بنفسه كعمل لا يحسنه، أو عمل يترفع عنه، جاز أن يوكل فيه غيره، لان توكيله فيما لا يحسنه أو فيما يترفع عنه إذن في التوكيل فيه من جهة العرف.
وان كان مما يتولاه إلا أنه لا يقدر على جميعه لكثرته، جاز له أن يوكل فيما لا يقدر عليه منه، لان توكيله فيما لا يقدر عليه إذن في التوكيل فيه من جهة العرف، وهل يجوز أن يوكل في جميعه؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
له أن يوكل في جميعه.
لانه ملك التوكيل فملك في جميعه كالموكل
(والثانى)
ليس له أن يوكل فيما يقدر عليه منه، لان التوكيل يقتضى أن يتولى الوكيل بنفسه، وإنما أذن له فيما لا يقدر عليه للعجز، وبقى فيما يقدر عليه على مقتضى التوكيل، وإن وكل نفسين في بيع أو طلاق فإن جعله إلى كل واحد منهما جاز لكل واحد منهما أن ينفرد به، لانه أذن لكل واحد منهما في التصرف وإن لم يجعل إلى كل واحد منهما لم يجز لاحدهما أن ينفرد به، لانه لم يرض بتصرف أحدهما، فلا يجوز أن ينفرد به، وإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه في حرز لهما.
وخرج أبو العباس وجها آخر أنه إن كان مما ينقسم، جاز أن يقتسما ويكون
عند كل واحد منهما نصفه، وان لم ينقسم جعلاه في حرز لهما كما يفعل المالكان والصحيح هو الاول، لانه تصرف أشرك فيه بينهما.
فلم يجز لاحدهما أن ينفرد ببعضه فيه كالبيع، ويخالف المالكين، لان تصرف المالكين بحق الملك ففعلا ما يقتضى الملك، وتصرف الوكيلين بالاذن، والاذن يقتضى اشتراكهما، ولهذا يجوز لاحد المالكين أن ينفرد ببيع بعضه ولا يجوز لاحد الوكيلين أن ينفرد ببيع بعضه.(14/111)
(الشرح) الاحكام: لا يخلو التوكيل من ثلاثة أحوال: (أحدها) أن ينهى الموكل وكيله عن التوكيل فلا يجوز له ذلك بغير خلاف لان ما نهاه عنه غير داخل في اذنه كما لو لم يوكله.
(الثاني) أذن له في التوكيل فيجوز له ذلك، لانه عقد أذن له فيه فكان له فعله كالتصرف المأذون فيه، ولا نعلم في هذا خلافا، فإن قال له: وكلتك فاصنع ما شئت فهل له أن يوكل؟ نظرت فإن كان ما وكله فيه مما يمكن أن يتولاه الوكيل ويقدر عليه، فإنه ليس له التوكيل، لانه موكل بتصرف يتولاه بنفسه، وقوله اصنع ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرفه بنفسه، وقال أصحاب أحمد له أن يوكل من شاء لدخوله في عموم التوكيل.
ولنا أنه إذا كان ما وكل به كثير الجوانب متعدد الجهات بحيث يحتاج الوكيل إلى من يعينه على أدائه، ومثله لو كان العمل شاقا لا يقدر مثله على القيام به، ويحتاج إلى شخص قوى يؤديه جاز له توكيله، ومثل ذلك لو كان العمل يحتاج إلى مهارة أو فن خاص له دارسوه والمتخصصون فيه كالهندسة ونحوها جاز له توكيله، وكذلك لو كان عملا سهلا ولكنه من الاعمال التى يترفع مثله عن القيام بها لدناءتها جاز له أن يوكل من يقوم به.
(الثالث) أطلق الوكالة فلا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون العمل من الاعمال التى أشرنا إليها مما يرتفع الوكيل عن مثله كالاعمال الدنيئة في حق أشراف الناس أو يعجز عن فعلها أو لاى اعتبار مما ذكرنا آنفا فإن الاذن ينصرف إلى ما جرت به العادة من الاستنابة، وبه قال أحمد وأصحابه، القسم الثاني.
أن يكون مما يعجز عن عمله لكثرته وانتشاره فجاز التوكيل في بعضه فيما لا يقدر عليه منه، أما التوكيل في جميعه فيجوز عند أصحاب أحمد، أما عند أصحابنا فوجهان
(أحدهما)
له أن يوكل في جميعه لانه ملك التوكيل فملك في جميعه كالموكل
(والثانى)
ليس له أن يوكل الا فيما لا يقدر عليه منه، وانما أذن له فيما لا يقدر عليه للعجز، وبقى ما يقدر عليه على مقتضى التوكيل، وهذا قول عند أصحاب أحمد ذكره ابن قدامة عن القاضى.(14/112)
(القسم الثالث) وهو ما يمكنه عمله بنفسه ولا يترفع عنه، فهل يجوز له التوكيل فيه؟ على روايتين إحداهما لا يجوز.
وهو المذهب عندنا، واليه ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف لانه لم يأذن له في التوكيل ولا تضمنه إذنه فلم يجز كما لو نهاه، ولانه استئمان فيما يمكنه النهوض فيه فلم يكن له أن يوليه لمن لم يأمنه كالوديعة والاخرى يجوز، نقلها حنبل وبه قال ابن أبى ليلى، إذا مرض أو غاب، لان الوكيل له أن يتصرف بنفسه فملكه نيابة كالمالك.
دليلنا أن التوكيل لا يتناول تصرف غيره من جهة النطق ولا من جهة العرف، لانه ليس في العرف إذا رضيه أن يرضى غيره ويفارق المالك، فإن المالك يتصرف بنفسه في ملكه كيف شاء بخلاف الوكيل فإنه يتصرف بالاذن.
(فرع)
كل وكيل جاز له التوكيل فليس له أن يوكل إلا أمينا لانه لا نظر
للموكل في توكيل من ليس بأمين، فيقيد جواز التوكيل بما فيه الحظ والنظر، كما أن الاذن في البيع يتقيد بالبيع بثمن المثل، إلا أن يعين له الموكل من يوكله فيجوز توكيله وإن لم يكن أمينا، لانه قطع نظره بتعيينه.
وإن وكل أمينا وصار خائنا فعليه عزله، لان تركه يتصرف مع الخيانة تضييع وتفريط، والوكالة تقتضي استئمان أمين.
وهذا ليس بأمين فوجب عزله ويقول النووي: لا يملك الوكيل عزله في الاصح لانه أذن في التوكيل دون العزل.
وقد أورد الرملي الوجهين.
(فرع)
إذا وكل وكيلين في تصرف وجعل لكل واحد الانفراد بالتصرف فله ذلك، لانه مأذون له فيه، فإن لم يجعل ذلك فليس لاحدهما الانفراد به، لانه لم يأذن له في ذلك، وإنما يجوز له ما أذن فيه موكله، وبهذا قال أحمد وأصحاب الرأى.
وإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه معا في حرز لهما، لان قوله افعلا كذا يقتضى اجتماعهما على فعله، وهو مما يمكن فتعلق بهما.
وفارق هذا قوله بعتكما، حيث كان منقسما بينهما.
لانه لا يمكن كون الملك لهما على الاجتماع فانقسم بينهما فإن غاب أحد الوكيلين لم يكن للآخر أن يتصرف.(14/113)
وخرج أبو العباس بن سريج وجها آخر أنه إن كان المال مما ينقسم اقتسماه ويكون عند كل واحد منهما نصفه والصحيح ما قررنا وليس للحاكم أن يضم أمين إلى الوكيل ليحل محل الغائب، لان الموكل رشيد جائز التصرف لا ولاية للحاكم عليه، فلا يضم الحاكم وكيلا له بغير أمره وفارق ما لو مات أحد الوصيين - وفرق بين الوصاية والوكالة - حيث يضيف الحاكم إلى الوصي أمينا ليتصرف، لكون الحاكم له النظر في حق الميت واليتيم.
ولهذا لو لم يوص إلى أحد أقام الحاكم أمينا في النظر لليتيم.
وإن حضر الحاكم أحد الوكيلين والآخر غائب وادعى الوكالة لهما وأقام بينة سمعها الحاكم وحكم بثبوت الوكالة لهما، ولم يملك الحاضر التصرف وحده، فإذا حضر الآخر تصرفا معا ولا يحتاج إلى إعادة البينة، لان الحاكم سمعها لهما مرة.
وإن ججد الغائب الوكالة أو عزل نفسه لم يكن للآخر أن يتصرف، وبما ذكرناه قال أحمد وأبو حنيفة وقال أبو حنيفة إذا وكلهما في خصومة فكل واحد منهما الانفراد بها.
ولنا أنه لم يرض بتصرف أحدهما فأشبه البيع والشراء وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن وكل رجلا في الخصومة لم يملك الاقرار على الموكل، ولا الابراء من دينه ولا الصلح عنه، لان الاذن في الخصومة لا يقتضى شيئا من ذلك، وان وكله في تثبيت حق فثبته لم يملك قبضه، لان الاذن في التثبيت ليس بإذن في القبض من جهة النطق، ولا من جهة العرف، لانه ليس في العرف أن من يرضاه للتثبيت يرضاه للقبض، وان وكله في قبض حق من رجل فجحد الرجل الحق، فهل يملك أن يثبته عليه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يملك، لان الاذن في القبض ليس بإذن في التثبيت من جهة النطق، ولا من جهة العرف، لانه ليس في العرف أن من يرضاه للقبض يرضاه للتثبيت.
(والثانى)
أنه يملك لانه يتوصل بالتثبيت إلى القبض، فكان الاذن في(14/114)
القبض إذنا في التثبيت، وإن وكله في بيع سلعة فباعها لم يملك الابراء من الثمن، لان الاذن في البيع ليس بإذنه في الابراء من الثمن.
وهل يملك قبضه أم لا؟ فيه
وجهان
(أحدهما)
أنه لا يملك، لان الاذن في البيع ليس بإذن في قبض الثمن من جهة النطق ولا من جهة العرف، لانه قد يرضى الانسان للبيع من لا يرضاه للقبض
(والثانى)
أنه يملك، لان العرف في البيع تسليم للمبيع وقبض الثمن، فحملت الوكالة عليه، وإن وكله في شراء عبد فاشتراه وسلم الثمن ثم استحق العبد فهل يملك أن يخاصم البائع في درك الثمن.
فيه وجهان
(أحدهما)
يملك، لانه من أحكام العقد
(والثانى)
لا يملك، لان الذى وكل فيه هو العقد، وقد فرغ منه فزالت الوكالة.
(الشرح) الاحكام: إذا وكل رجلا في الخصومة لم يقبل إقراره على موكله بقبض الحق ولا غيره، وبهذا قال أحمد ومالك وابن أبى ليلى.
وقال أبو حنيفة ومحمد: يقبل إقراره في مجلس الحكم فيما عدا الحدود والقصاص.
وقال أبو يوسف يقبل إقراره في مجلس الحكم وغيره، لان الاقرار أحد جوابي الدعوى فصح من الوكيل كالانكار دليلنا أن الاقرار معنى يقطع الخصومة وينافيها، فلا يملكه الوكيل فيها كالابراء، وفارق الانكار فإنه لا يقطع الخصومة، ويملكه في الحدود وفى غير مجلس الحاكم، ولان الوكيل لا يملك الانكار على وجه يمنع الموكل من الاقرار فلو ملك الاقرار لامتنع على الموكل الاقرار فافترقا.
ولا يملك المصالحة عن الحق ولا الابراء منه بغير خلاف نعلمه، لان الاذن في الخصومة لا يقتضى شيئا من ذلك، وان أذن له في تثبيت حق لم يملك قبضه، وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة يملك قبضه، لان المقصود من التثبيت قبضه وتحصيله.
دليلنا أن القبض لا يتناوله الاذن نطقا ولا عرفا، إذ ليس كل من يرضاه لتثبيت الحق يرضاه لقبضه وإن وكله في قبض حق فجحد من عليه الحق فهل يملك القيام بثبيت الحق
على الجاحد.
فيه وجهان لاصحابنا
(أحدهما)
لا يملك وليس له ذلك، وهو أحد(14/115)
الوجهين عند أصحاب أحمد، لانهما معنيان مختلفان، فالوكيل في أحدهما لا يكون وكيلا في الآخر، كما لا يكون وكيلا في القبض بالتوكيل في الخصومة.
(والثانى)
كان له القيام بتثبيت الحق على جاحده، وبهذا قال أبو حنيفة، وهو أحد الوجهين عند أصحاب أحمد ووجه هذا الوجه أنه لا يتوصل إلى القبض إلا بالتثبيت، فكان إذنا فيه عرفا، ولان القبض لا يتم الا به فملكه، كما لو وكل في شراء شئ ملك وزن ثمنه أو وكل في بيع شئ ملك تسليمه، ويحتمل أنه أن كان الموكل عالما بجحد من عليه الحق أو مطله كان توكيلا في تثبيته والخصومة فيه لعلمه بوقوف القبض عليه.
وان لم يعلم ذلك لم يكن توكيلا فيه لعدم علمه بتوقف القبض عليه، ولا فرق بين كون الحق عينا أو دينا.
وقال بعض أصحاب أبى حنيفة: ان وكله في قبض عين لم يملك تثبيتها لانه وكيل في نقلها، أشبه الوكيل في نقل الزوجة.
(فرع)
إذا وكله في بيع شئ ملك تسليمه، لان اطلاق التوكيل في البيع يقتضى التسليم لكونه من تمامه، ولم يملك الابراء من ثمنه، وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: يملكه دليلنا أن الابراء ليس من البيع ولا من تتمته، فلا يكون التوكيل في البيع توكيلا فيه كالابراء من غير ثمنه (فرع)
وأما قبض الثمن فعلى وجهين، ان قلنا انه قد يوكل في البيع من لا يأمنه على قبض الثمن فعلى هذا ليس له قبض الثمن.
وان قلنا ان العرف في البيع تسليم للمبيع وقبض للثمن.
وأنه موجب للبيع ملك القبض فكان كتسليم
المبيع، فعلى هذا ليس له تسليم المبيع الا بقبض الثمن، فإذا سلمه قبل قبض ثمنه ضمنه، والاولى أن ينظر فيه فان دلت قرينة الحال على قبض الثمن مثل توكيله في بيع ثوب في سوق غائب عن الموكل، أو موضع يضيع الثمن بترك قبض الوكيل له كان اذنا في قبضه، ومتى ترك قبضه كان ضامنا له، لان ظاهر حال الموكل أنه انما أمره بالبيع لتحصيل ثمنه فلا يرضى بتضييعه، ولهذا يعد من فعل(14/116)
ذلك مضيعا مفرطا وان لم تدل القرينة على ذلك لم يكن له قبضه، وبالوجهين قال أحمد وأصحابه.
قال الماوردى في الحاوى: لو وكله في المطالبة بدين لم يكن له قبضه بعد المطالبة، وان وكله في المخاصمة في دار يدعيها لم يكن له قبضها.
ولو وكله في اثبات منفعة يستحقها لم يكن له انتزاعها وكان عمل الوكيل في هذه الاحوال كلها مقصورا على ما تضمنه الاذن والقسم الثاني ما كان عمل الوكيل فيه متجاوزا إلى ما تضمنته الوكالة من مقصوده، وهو ما كان مقصود واجبا على الموكل، كالتوكيل في بيع أو شراء فله إذا عقد البيع أن يسلم المبيع ويتسلم الثمن.
وان لم يصرح له الموكل به، لان عقد البيع أوجب عليه تسليم ما باعه، وهو مندوب إلى أن لا يسلمه الا بعد قبض ثمنه، فلذلك جاز أن يتجاوز العقد إلى تسليم المبيع وقبض ثمنه وهكذا لو وكله في شراء سلعة جاز له أن يقبضها ويدفع ثمنها، فان الشراء قد أوجب عليه دفع الثمن، وهو مندوب إلى أن لا يدفع الثمن الا بعد قبض المبيع، فان وكله في البيع على أن لا يقبض الثمن من المشترى صحت الوكالة ولم يكن له قبض الثمن، ولو وكله فيه على أن لا يسلم المبيع كان في الوكالة وجهان ذكرهما أبو على الطبري في افصاحه
(أحدهما)
تصح الوكالة، كما لو نهاه عن قبض الثمن، فإذا أخذ تسليم المبيع أخذ به الموكل.
(والوجه الثاني) أن الوكالة باطلة، لان اقباض المبيع من لوازم البيع فإذا نهاه عنه بطل التوكيل (القسم الثالث) ما اختلف المذهب، هل يكون عمل المذهب فيه مقصورا على ما تضمنه الاذن أو تجوز له المجاوزة إلى ما أدى إليه، وهو مالا يمكن من عمل المأذون فيه الا به كالوكالة في مقاسمته في دار وقبض الحصة منها إذا جحد الشريك، هل يجوز للوكيل المخاصمة فيها واثبات الحجج والبينات عليها، وكالوكالة في قبض دين، أما جحده المطلوب هل يجوز للوكيل مخاصمته واثبات(14/117)
البينة عليه؟ فيه قولان حكاهما ابن سريج مخرجا
(أحدهما)
ليس له ذلك ويكون مقصود العمل على ما تضمنه صريح الاذن، لان ما تجاوزه ليس بواجب فيه فشابه القسم الاول.
(والقول الثاني) يجوز له ذلك، لانه لا يصل إلى العمل المأذون فيه إلا به كالقسم الثاني.
والله أعلم اه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وان وكل في البيع في زمان لم يملك البيع قبله ولا بعده، لان الاذن لا يتناول ما قبله ولا ما بعده من جهة النطق ولا من جهة العرف، لانه قد يؤثر البيع في زمان لحاجة، ولا يؤثر في زمان قبله ولا زمان بعده، وإن وكله في البيع في مكان - فان كان الثمن فيه أكثر أو النقد فيه أجود - لم يجز البيع في غيره، لانه قد يؤثر البيع في ذلك المكان لزيادة الثمن أو جودة النقد، فلا يجوز تفويت ذلك عليه، وان كان الثمن فيه وفى غيره واحدا ففيه
وجهان
(أحدهما)
أنه يملك البيع في غيره، لان المقصود فيهما واحد، فكان الاذن في أحدهما اذنا في الآخر
(والثانى)
لا يجوز لانه لما نص عليه دل على أنه قصد عينه لمعنى هو أعلم به من يمين وغيرها فلم تجز مخالفته.
(الشرح) الاحكام: قال الماوردى في الحاوى.
وقال أبو حنيفة: يجوز له أن يوكل لامرين
(أحدهما)
أنه لما أقامه فيه مقام نفسه جاز له التوكيل فيه كما يجوز لنفسه
(والثانى)
أن المقصود بوكالته حصول العمل في الحالين لموكله.
وهذا خطأ من وجهين:
(أحدهما)
أن فعل الوكيل مقصور على ما تضمنه الاذن من غير مجاوزة، وليس في التوكيل مجاوزة
(والثانى)
أن الموكل يسكن في عمله إلى أمانة وكيله فلم يجز أن يوكل من لم يسكن الموكل إلى أمانته كالوديعة التى لا يجوز للمودع أن يودعها عند غيره، لان المالك لم يرض الا بأمانته.
فأما استدلاله بأن هذا أقامه مقام نفسه فلعمري أنه(14/118)
كذلك في فعل ما وكل فيه لا في غيره، ألا ترى أنه لا يجوز أن يهب ولا يبرئ وان كان للموكل أن يهب ويبرئ لانه لم يأذن له فيه، فكذلك في التوكيل.
وأما الجواب عن قولهم بأن الغرض حصول العمل فهو كذلك لكن قد خصه به وارتضى أمانته، كمن استأجر أجيرا بعينه لعمل لم يكن له أن يستأجر غيره في عمله، لان قصد المستأجر انما هو حصول العمل من جهة الاجير وفعله لا بفعل غيره.
كذلك ها هنا.
قلت: ولكلام المصنف هنا دلالته على ما يترتب على مخالفة الاذن ومجاوزته من أحكام، فمثلا إذا أذن الموكل للوكيل بالبيع في زمان فباع قبله فترتب على بيعه قبله نقص ثمنه عن مثله في الزمن المحدد لنقص في السن أو الوزن أو الصفة
كان ذلك من ضمان الوكيل.
وكذلك إذا باعه بعد الزمان الذى أذن له فيه فترتب على ذلك ما ذكرنا كان من ضمانه.
وكذلك إذا أذن له في مكان لمصلحة يراها الموكل لكثرة الطالبين للسلعة في ذلك المكان أو لكثرة الثمن أو جودة النقد فلا يملك الوكيل مخالفة مضمون الاذن، فإذا كان الثمن في كل هذه الاحوال التى خالف فيها متفقا مع الزمن المطلوب أو المكان المطلوب بحيث لا يفوت الموكل شئ من الفائدة فهل يجوز للوكيل مخالفة الاذن؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز له ذلك، لان المقصود فيها واحد
(والثانى)
لا يجوز، لان الموكل أعرف بما هو الاحظ له وعلى الوكيل الامتثال لامر الموكل قال الماوردى في الحاوى: أن يكون الشرط الذى شرطه الموكل في بيع وكيله يصح معه العقد ولا يبطل به البيع، فعلى الوكيل أن يعقد البيع على الشرط المأذون فيه ولا يتجاوزه الا أن يكون الشرط بالمجاوزة موجودا مع زيادة فصح البيع حينئذ على ما سنشرحه ولا تكون الزيادة مانعة من صحته.
فأما اذنه في بيعه على رجل بعينه فلازم ولا يجوز للوكيل أن يعدل إلى بيعه على غيره لانه المقصود بالتمليك فلم يصح عدول الوكيل عنه كالهبه، فعلى هذا لو مات ذلك الرجل بطلت الوكالة بالبيع.
ولم يجز للوكيل أن يبيعه على وارثه ولا على غير وارثه.(14/119)
ولو كان حيا وامتنع من ابتياعه لم تبطل الوكالة لجواز أن يرغب فيه من بعد، وأما إذنه ببيعه في زمان بعينه فلازم، ولا يجوز للوكيل أن يبيعه قبل ذلك الزمان ولا بعده، أما قبله فلان وقت الاذن لم يأت، وأما بعده فلبطلان الوكالة بالفوات وقد يكون للانسان غرض صحيح في استيفاء ملكه إلى زمان بعينه.
فأما إذنه في مكان بعينه - فإن كان فيه غرض صحيح لاختلاف الاسعار
باختلاف الاماكن أو جودة النقود وهو شرط لازم فلا يجوز للوكيل أن يبيعه في غير ذلك المكان، فان فعل وسلمه فالبيع باطل وهو بالتسليم ضامن، فإن لم يكن في ذلك المكان غرض صحيح، ولا معنى مستفاد نظر في صفة إذنه، فإن كان قال: لا تبيعوا إلا في مكان كذا أو في سوق كذا لزم، وكان بيع الوكيل في غير ذلك المكان باطلا لصريح النهى عنه.
وإن قال: بعه في سوق كذا أو في مكان كذا، ولم يصرح بالنهي عما سواه ففى لزوم اشتراطه وجهان.
(أحدهما)
أنه شرط لازم لا يجوز للوكيل أن يبيعه في غيره، لانه أملك بأحوال إذنه.
(والوجه الثاني) أنه شرط غير لازم لفساد الغرض المقصود به، والاول أشبه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن وكله في البيع من رجل لم يجز أن يبيع من غيره، لانه قد يؤثر تمليكه دون غيره، فلا يكون الاذن في البيع منه إذنا في البيع من غيره، وان قال خذ مالى من فلان فمات لم يجز أن يأخذ من ورثته، لانه قد لا يرضى أن يكون ماله عنده، ويرضى أن يكون عند ورثته، فلا يكون الاذن في الاخذ منه إذنا في الاخذ من ورثته، وإن قال: خذ مالى على فلان فمات، جاز أن يأخذ من ورثته، لانه قصد أخذ ماله، وذلك يتناول الاخذ منه، ومن ورثته، وان وكل العدل في بيع الرهن فأتلفه رجل، فأخذت منه القيمة لم يجز له بيع القيمة، لان الاذن لم يتناول بيع القيمة.(14/120)
(الشرح) الاحكام: فأما إذنه على رجل بعينه فلازم، لانه المقصود بالتمليك
فلم يصح عدول الوكيل عنه كما أوضح ذلك الماوردى فيما نقلناه في الفصل قبله، وأما إذا قال الموكل لوكيله: قد وكلتك في استيقاء مالى (على) زيد فمات زيد جاز للوكيل أن يستوفيه من وارثه، فإذا قال الموكل لوكيله: قد وكلتك في استيفاء مالى (من) زيد فمات زيد لم يجز للوكيل أن يستوفيه من وارثه، والفرق بينهما أن الامر باستيفائه من زيد في الاول متوجه إلى المال فجاز أن يستوفيه من ورثته والامر باستيفائه من زيد في الثاني متوجه إلى زيد أن يكون هو المستوفى منه، فلم يجز أن يستوفيه من غيره.
فإذا وكل العدل لامانته وصدقه في بيع الرهن فأتلفه غيره فأخذت القيمة من المتلف فلا يجوز له أن يبيع القيمة ليحصل على الثمن لرده إلى الموكل، لان الاذن لا يتضمن بيع القيمة، وإنما كان قاصرا على بيع الرهن وليست القيمة عين الرهن
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وكل في بيع فاسد لم يملك الفاسد، لان الشرع لم يأذن فيه، ولا يملك الصحيح، لان الموكل لم يأذن فيه.
(الشرح) الاحكام: إذا وكله في بيع فاسد كبيع الخمر أو الكلب أو الخنزير أو بيع حر أو بيع مالا يملك كالمغصوب أن بيع الثمر قبل بدو صلاحه أو البيع بغير جنس الاثمان، أو بيع مباح بمحرم أو باع بمالا يتغابن الناس بمثله على ما سيأتي تفصيله أو أعطاه دراهم ليسلم فيما لا يجوز السلم فيه كاللحم والثياب على ما مضى في كتاب السلم وكتاب البيوع بطلت الوكالة لان الشرع لم يأذن فيه للموكل فكان الحظر على الوكيل، وما كان محظورا على الوكيل لنفسه كان محظورا عليه نيابة لغيره، فإذا استبدل المبيع المحرم بمباح أو أبدل المسلم فيه بمجاز السلم فيه لم يملك ذلك من قبل أنه لم يأذن له الموكل في ذلك، لان مقتضى الوكالة في الاذن في البيع الفاسد فلم يصح العدول عن الفاسد إلى الصحيح كما لم يصح نفاذ الوكالة في
الفاسد من جهة الشرع والله أعلم.(14/121)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان وكل في بيع سلعة لم يملك بيعها من نفسه من غير اذن، لان العرف في البيع أن يوجب لغيره فحمل الوكالة عليه، ولان اذن الموكل يقتضى البيع ممن يستقصى في الثمن عليه، وفى البيع من نفسه لا يستقصى في الثمن، فلم يدخل في الاذن، وهل يملك البيع من ابنه أو مكاتبه؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
يملك، وهو قول أبى سعيد الاصطخرى، لانه يجوز أن يبيع منه ماله، فجاز له أن يبيع منه مال موكله كالأجنبي.
(والثانى)
لا يجوز، وهو قول أبى اسحاق، لانه متهم في الميل اليهما كما يتهم في الميل إلى نفسه، ولهذا لا تقبل شهادته لهما، كما لا تقبل شهادته لنفسه، فان أذن له في البيع من نفسه، ففيه وجهان.
أحدهما: يجوز كما يجوز أن يوكل المرأة في طلاقها.
والثانى: لا يجوز، وهو المنصوص لانه يجتمع في عقده غرضان متضادان الاستقصاء للموكل، والاسترخاص لنفسه فتمانعا، ويخالف الطلاق، فانه يصح بالزوج وحده، فصح بمن يوكله، والبيع لا يصح بالبائع وحده، فلم يصح بمن يوكله، وان وكل رجلا في بيع عبده ووكله آخر في شرائه لم يصح، لانه عقد واحد يجتمع فيه غرضان متضادان، فلم يصح التوكيل فيه كالبيع من نفسه.
وان وكله في خصومة رجل ووكله الرجل في خصومته، ففيه وجهان.
أحدهما: لا يصح لانه توكيل في أمر يجتمع فيه غرضان متضادان، فلم يصح، كما لو وكله أحدهما في بيع عبده ووكله آخر في شرائه.
والثانى: يصح، لانه لا يتهم في اقامة الحجة لكل واحد منهما مع حضور الحاكم فان وكل عبد الرجل
ليشترى له نفسه أو عبدا غيره من مولاه، ففيه وجهان.
(احدهما) يجوز، لانه لما جاز توكيله في الشراء من غير مولاه جاز توكيله في الشراء من مولاه
(والثانى)
لا يجوز، لان يد العبد كيد المولى، ولهذا يحكم له بما في يد العبد كما يحكم له بما في يده.
ثم لو وكل المولى في الشراء من نفسه لم يجز فكذلك إذا وكل العبد.(14/122)
(الشرح) الاحكام: إذا وكله في بيعها لا يجوز له أن يبيعها من نفسه، فان أذن له كان بيعا، فان وقع حين التسليم وعقد الوكالة كان بيعا ولا عبرة بالوكالة ولان العرف في البيع وأيضا أحكام الشريعة في البيع تقوم على الايجاب، والايجاب هو أن يوجب لغيره، ولان اذن البيع يقتضى من الوكيل أن يبيع بما هو الاحظ في الثمن من حيث استقصاء الثمن بغير محاباة، فلو باع من نفسه فانه ربما تغاضى عن مراعاة هذا الاعتبار بمحاباة نفسه، ولم يدخل في الاذن.
ودليلنا أن كل ما عقده الوكيل للموكل اقتضى وقوع الملك بالعقد للموكل كالنكاح، ولان كل من ناب في العقد عن غيره وقع الملك به للمعقود له دون عاقده قياسا على ولى اليتيم وأب الطفل، ولانه لما كان الوكيل في البيع لا يملك الثمن ويكون الثمن بالعقد ملكا للموكل وجب أن يكون الوكيل في الشراء لا يملك الثمن ويكون الملك بالعقد واقعا للموكل وأما الجواب عن استدلالهم بالشفعة فمنتقض بولي اليتيم وأب الطفل، ثم المعنى في الشفيع أنه يملك المبيع بالشفعة دون العقد.
وأما الجواب عن استدلالهم بالثمن فسيذكر من شرح المذهب فيه ما يكون انفصالا عنه.
وأما الجواب عن استدلالهم بأن تمام العقد لمتعاقدين فكذا موجبه من الملك يكون واقعا بالمتعاقدين فهو أنه منتقض بالحاكم وولى اليتيم وأب الطفل وبعقد النكاح، وليس لهم
استدلال في المسألة يسلم من الكسر.
(فرع)
قال في الحاوى: قال المزني: أعلم للوكيل والوصى أن يشترى من نفسه.
اعلم أن النيابة في البيع والشراء قد يكون من أربعة أوجه، أحدها من جهة النسب، وهى الاب والجد على ابنه الطفل، والثانى من جهة الحكم، وهى للحاكم أو أمينه على المولى عليه لصغر أو سفه.
والثالث من جهة الوصية، وهى وصاية الاب والجد وغيرهما على الطفل ممن تصح وصايته.
والرابع من جهة الوكالة، وهو الوكيل الرشيد، فاختلف الفقهاء هل لهم ولاية أن يبيعوا على أنفسهم مالهم بيعه، ويشتروا من أنفسهم ما لهم شراؤه؟ على أربعة مذاهب (أحدها) وهو مذهب مالك والاوزاعي أنه يجوز لجميعهم أن يبيعوا على أنفسهم ويشتروا من أنفسهم.(14/123)
والمذهب الثاني، وهو قول زفر بن الهذيل: أنه لا يجوز لجميعهم أن يبيعوا على أنفسهم ولا أن يشتروا من أنفسهم والمذهب الثالث، وهو قول أبى حنيفة: أنه يجوز ذلك لجميعهم إلا الوكيل وحده.
والمذهب الرابع، وهو مذهب الشافعي: أنه لا يجوز ذلك لجميعهم إلا الاب وحده والجد مثله واستدل من ذهب إلى جوازه لجميعهم بأن المقصود في البيع حصول الثمن وفى الشراء حصول المشترى.
ولذلك لم يلزم ذكر من له البيع والشراء بخلاف النكاح، فلم يقع الفرق بين حصول الثمن من النائب وغيره لحصول المقصود في الحالين، وقياسا على الاب أن كل من جاز له بيعه على نفسه كالاب واستدل من منع جوازه لجميعهم بأن الانسان مجبول على تغليب حظ نفسه على حظ غيره، والنائب مندوب إلى طلب الحظ المستبين فإن باع نفسه انصرف
بجبلة الطبع إلى حظ نفسه، فصار المقصود بالنيابة معدوما فلم يجز، وقياسا على الوكيل لانه نائب في العقد عن غيره فلم يجز أن يعقد مع نفسه واستدل من منع منه للوكيل وحده، وأجاز لمن سواه بأن نيابة الوكيل غير جائز الامر فكان مأذونا له من غير ولاية فصار أنقص حالا من ذى الولاية.
فجاز للولى مبايعة نفسه لقوة سببه كالاب، ولم يجز لغير ذى الولاية كالوكيل مبايعة نفسه لضعف سببه كالأجنبي ودليلنا أن غير الاب لا يجوز له مبايعة نفسه، ما روى أن رجلا أوصى إلى رجل بوصية فأراد الوصي بيع فرس من التركة على نفسه، فسأل عبد الله بن مسعود عن جوازه فقال لا.
وليس نعرف له مخالفا في الصحابة ولا جبلة الطبع تصرفه عن حظ غيره إلى حظ نفسه، ولان كل من كانت ولايته لغيره لم يكن له مبايعة نفسه كالوكيل ودليلنا على أن الاب يجوز له مبايعة نفسه هو أن الاب مجبول بحيوية الابوة وشدة الميل والمحبة على طلب الحظ لولده والايثار على نفسه والاستكثار لولده ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: الولد مجبنة مبخلة مجهلة، فانتفت التهمة عنه في مبايعة نفسه.
وهذا المعنى مفقود فيمن عداه، فصار هذا الحكم لاختصاصه(14/124)
بمعناه مقصورا عليه منتفيا عما سواه.
وهذا دليل وانفصال، فلو وكل الابن البالغ أباه في بيع سلعة، فاختلف أصحابنا هل يجوز له بيعها على نفسه أم لا؟ على وجهين:
(أحدهما)
يجوز كما لو كان في حجره تغليبا لحكم الابوة
(والثانى)
لا يجوز، لان ارتفاع الحجر يقتضى تغليب الوكالة.
(فرع)
فأما الوصي والوكيل إذا أراد بيعها لمتولاه بالوصية والوكالة، على ابن نفسه أو على أب نفسه ففيه لاصحابنا وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى سعيد
الاصطخرى: أنه يجوز لانه غير مبايع لنفسه (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أنه لا يجوز لانه مقهور في الميل إلى ولده كما كان مقهورا في الميل إلى نفسه.
ولذلك لم يجز أن يشهد لولده، كما لا يصح منه الشهادة لنفسه فلم يجز مبايعة ولده بمال غيره، كما لم يجز مبايعة نفسه أو يشترى من نفسه، فمذهب الشافعي رضى الله عنه أنه غير جائز لما فيه تنافى المقصود والغرض من الوكالة قال الماوردى: لان عقد الوكالة قد أوجب عليه الاستقصاء لموكله، وإذا كان هو المشترى انصرف منه إلى الاستقصاء لنفسه.
وقال ابن سريج: يجوز ذلك كما يجوز أن يجعل إلى زوجته الطلاق لنفسها أو إلى أمته عتقها قال الماوردى: وهذا خطأ لما ذكرنا في الفرق بين البيع والطلاق والعتق من ثلاثة أوجه (أحدها) أن في البيع ثمنا يختلف بالزيادة والنقصان، فصار بالميل إلى نفسه متهما فيه، وليس في الطلاق والعتق لمن تصير بالميل إلى نفسها متهمة فيه
(والثانى)
أن العتق والطلاق أوسع لوقوعهما بالصفات، والبيع أضيق حكما منهما.
(والثالث) أنه ليس في الطلاق والعتق قبول معتبر.
وفى البيع قبول معتبر فلم يجز أن يكون الباذل قابلا.
فأما إذا وكله رجل في بيع سيارته ووكله آخر في شراء السيارة الموكل في بيعها لم يجز لتنافى المقصود في العقدين، وكان له أن يقيم على إحدى الوكالتين، فإن أراد أن يقيم على أسبقهما في بيع أو شراء جاز، وإن أراد أن يقيم على الثانية فيهما بيعا كان أو شراء احتمل وجهين، لان ثبوت الاولة يمنع من جواز الثانيه(14/125)
والوجه الثاني: يجوز، لان الوكالة لا تلزم، فلم يكن للمتقدمة منهما تأثير،
وتبطل بقبول الثانية.
ومثل ذلك يقال في التوكل في الخصومة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وكل في شراء سلعة موصوفة لم يجز أن يشترى معيبا لان إطلاق البيع يقتضى السلامة من العيب، ولهذا لو اشترى عينا فوجد بها عيبا ثبت له الرد، فإن اشترى معيبا نظرت، فإن اشتراه وهو يعلم أنه معيب لم يصح الشراء للموكل، لانه اشترى له ما لم يأذن فيه، فلم يصح له، وإن اشتراه وهو لا يعلم أنه معيب ثم علم لم يخل إما أن يرضى به أو لا يرضى، فإن لم يرض به نظرت، فان علم الموكل ورضى به لم يجز للوكيل رده، لان الرد لحقه وقد رضى به فسقط.
وإن لم يعلم الموكل ثبت للوكيل الرد، لانه ظلامة حصلت بعقده فجاز له رفعها كما لو اشترى لنفسه فإن قال له البائع: أخر الرد حتى تشاور الموكل، فإن لم يرض قبلته لم يلزمه التأخير، لانه حق تعجل له فلم يلزمه تأخيره، وإن قبل منه وأخره بهذا الشرط فهل يسقط حقه من الرد، فيه وجهان:
(أحدهما)
يسقط لانه ترك الرد مع القدرة
(والثانى)
لا يسقط لانه لم يرض بالعيب، فان ادعى البائع أن الموكل علم بالعيب ورضى به فالقول قول الوكيل مع يمينه، لان الاصل عدم الرضا، فان رضى الوكيل بالعيب سقط خياره، فان حضر الموكل ورضى بالعيب استقر العقد وإن اختار الرد نظرت فان كان قد سماه الوكيل في الابتياع أو نواه وصدقه البائع جاز أن يرده، لان الشراء له وهو لم يرض بالعيب، وإنما رضى وكيله فلا يسقط حقه من الرد، وإن لم يسمه الوكيل في الابتياع ولا صدقه البائع أنه نواه فالمنصوص أن السلعة تلزم الوكيل، لانه ابتاع في الذمة للموكل ما لم يأذن فيه له ومن أصحابنا من قال يلزم الموكل، لان العقد وقع له وقد تعذر الرد بتفريط
الوكيل في ترك الرد، ويرجع الموكل على الوكيل بنقصان العيب، لان الوكيل صار كالمستهلك له بتفريطه(14/126)
وفى الذى يرجع به وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى يحيى البلخى: أنه يرجع بما نقص من قيمته معيبا عن الثمن، فإن كان الثمن مائة وقيمة السلعة مائة لم يرجع بشئ، وإن كان الثمن مائة وقيمة السلعة تسعين رجع بعشرة، كما نقول في شاهدين شهدا على رجل أنه باع سلعة بمائة، فأخذت منه ووزن له المشترى الثمن، ثم رجع الشهود عن الشهادة فإن الحكم لا ينقض ويرجع البائع على الشهود بما نقص من القيمة عن الثمن، فان كان الثمن والقيمة سواء لم يرجع عليهم بشئ، وإن كانت القيمة مائة والثمن تسعون رجع بعشرة
(والثانى)
أنه يرجع بأرش العيب، وهو الصحيح، لانه عيب فات الرد به من غير رضاه فوجب الرجوع بالارش.
وإن وكل في شراء سلعة بعينها فاشتراها ووجد بها عيبا فهل له أن يرد من غير إذن الموكل؟ فيه وجهان
(أحدهما)
له أن يرد، لان البيع يقتضى السلامة من العيب ولم يسلم من العيب فثبت له الرد كما لو وكل في شراء سلعة موصوفة فوجد بها عيبا فعلى هذا يكون حكمه في الرد على ما ذكرناه في السلعة الموصوفة
(والثانى)
لا يرد من غير إذن الموكل لانه قطع نظره واجتهاده بالتعيين.
(الشرح) قال المزني رحمه الله تعالى: ولو وكله بشراء سلعة فأصاب بها عيبا كان له الرد بالعيب.
وليس عليه أن يحلف: ما رضى به الآمر، فهذا قول الشافعي ومعناه.
اه قال الماوردى في الحاوى: أعلم أن للموكل إذا أمر وكيله بشراء شئ فعلى حالين
(أحدهما)
أن يعينه
(والثانى)
أن يصفه ولا يعينه، فإن وصفه ولم يعينه
لزمه أن يشتريه سليما من العيوب لان إطلاق الصفه يقتضيه، ويجوز للعامل في القراض أن يشترى السليم والمعيب، والفرق بينهما أن يشترى الوكيل للقنيه، وليس في المعيب صلاح للمقتنى، وشراء العامل في القراض طلبا للربح، وقد يوجد الربح في المعيب كوجوده في السليم فإن اشترى الوكيل شيئا على الصفة وكان معيبا فعلى ضربين
(أحدهما)
أن(14/127)
يشتريه عالما بعيبه فالشراء غير لازم للموكل لاقدامه على ابتياع ما لم يقتضه الاذن وهو لازم للوكيل على ما تقدم من اعتبار صفة الاذن والضرب الثاني: أن يشتريه غير عالم بعيبه فللوكيل إذا علم بعيبه أن يبادر إلى رده ولا يلزمه استئذان موكله، لان رد المعيب من حقوق عقده.
فلو قال له البائع: قد أمهلتك في رده فطالع موكلك بعيبه لم يلزمه المطالعه وكان له تعجيل الرد لما ذكرنا، فإن رده ثم جاء الموكل راضيا بعيبه لم يكن لرضاه بعد ذلك تأثير لفسخ البيع بالرد قبل الرضى ولو رضى بعيب قبل رد الوكيل لزم البيع ولم يكن للوكيل الرد، ولو رضى رب المال في القراض بعيب المشترى كان للعامل أن يرده بخلاف الوكيل والفرق بينهما أن للعامل في القراض شرك في الربح.
وليس للوكيل فيه شرك فإن ادعى البائع على الوكيل حين أراد الرد أن موكله راض بالعيب فلا يمين له على الوكيل، فان ادعى عليه أنه قد علم برضى موكله بالعيب وكان عليه أن يحلف أنه ما علم برضى موكله بالعيب، وله الرد واسترجاع الثمن.
ثم للبائع إذا أراد الثمن على الوكيل وظفر بالموكل أن يحلفه بالله أيضا ما رضى بعيب المشترى الذى ابتاعه موكله قبل رده، فان نكل عن اليمين حلف البائع وحكم له بلزوم البيع واستحقاق الثمن، وهذا حكم الوكيل إذا رد بالعيب والله اعلم
فأما إن رضى الوكيل بالعيب نظر في الموكل، فان رضى بالعيب كان الشراء لازما له، وإن لم يرض بالعيب نظر في عقد البائع فان كان قد سمى موكله فيه فله الرد، لان مالك المشترى لا يلتزم عيبا لم يرض به، وإن لم يسم الموكل في عقده نظر في البائع، فان صدق المبيع أن عقد الشراء لموكله كان له الرد، وإن لم يصدقه حلف له، ولا رد للوكيل على البائع لما تقدم من رضاه وفى كيفية رجوع الموكل به وجهان:
(أحدهما)
وهو قول أبى يحيى البلخى: أنه يرجع عليه بقدر النقص من ثمنه فأما إن كان يساوى معيبا بمثل ما اشتراه فلا شئ له على الوكيل لعدم النقص في الثمن استشهادا بأن من ادعى بيع سيارته بمائة على رجل وأنكر، وأقام المدعى بينة بالبيع فحكم له بالثمن ثم رجع الشهود، فان كان ثمن السيارة مائة(14/128)
فلا غرم على الشهود، وإن كان ثمنها أقل من مائة غرم الشهود برجوعهم قدر النقص من ثمنها.
والوجه الثاني، وهو قول جمهور أصحابنا: أنه يرجع على الوكيل بأرش العيب سواء كان يساوى قدر ثمنه معيبا أم لا، لان العيب إذا فات معه الرد كان مقدرا بالارش، وإن لم يكن معتبرا بنقص الثمن، وليس كالذى استشهد به من رجوع الشهود، لان غارم الثمن بشهادتهم إنما يستحق الرجوع بما غرم، فإذا وصل إليه من الثمن لم يبق له حق بغرمه، فهذا حكم التوكيل في شراء سيارة موصوفة، فأما إذا كانت السيارة معيبة فهل للوكيل عند ظهور العيب أن يردها قبل استئذان موكله أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ جمهور أصحابنا لا رد له إلا بعد استئذان موكله فيها، لانه بالتعيين فيها قد قطع اجتهاده فيها، ولعله قد أمره بشرائها مع
علمه بعيبها.
والوجه الثاني وهو قول أبى حامد الاسفرايينى: له الرد من غير استئذان، لان الرد من حقوق عقده، ولانها لا تكون مأخوذة به إن لم يرض الموكل بعيبها هذا والله الموفق للصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن وكل في بيع عبد أو شراء عبد لم يجز أن يعقد على بعضه، لان العرف في بيع العبد وشرائه أن يعقد على جميعه، فحمل الوكالة عليه، ولان في تبعيضه إضرارا بالموكل فلم يملك من غير إذن، وإن وكل في شراء أعبد أو بيع أعبد جاز أن يعقد على واحد واحد، لان العرف في العبيد أن تباع وتشترى واحدا واحدا، ولانه لا ضرر في إفراد بعضهم عن بعض، وإن وكله أن يشترى له عشرة اعبد صفقة واحدة فابتاع عشرة أعبد من اثنين صفقة واحدة، ففيه وجهان، قال أبو العباس: يلزم الموكل، لانه اشتراهم صفقة واحدة، ومن أصحابنا من قال: لا يلزم الموكل، لان عقد الواحد مع الاثنين عقدان
(فصل)
ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد البلد من غير إذن،(14/129)
ولا للوكيل في الشراء أن يشترى بغير نقد البلد من غير إذن، لان إطلاق البيع يقتضى نقد البلد، ولهذا لو قال: بعتك بعشرة دراهم حمل على نقد البلد، وإن كان في البلد نقدان باع بالغالب منهما، لان نقد البلد هو الغالب، فإن استويا في المعاملة باع بما هو أنفع للموكل، لانه مأمور بالنصح له، ومن النصح أن يبيع بالانفع، فان استويا باع بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا على الآخر فخير بينهما وإن أذن له في العقد بنقد لم يجز أن يعقد بنقد آخر، لان الاذن في جنس ليس بإذن في جنس آخر، ولهذا لو أذن له في شراء عبد لم يجز أن يشترى جارية،
ولو أذن له في شراء حمار لم يجز أن يشترى فرسا.
(الشرح) الاحكام: إذا وكله في بيع الشئ جميعه لانه لا يتجزأ، أو يتجزأ ولكن الاذن منعقد على أن يباع صفقة واحدة، فلبس له أن يبيع بعضه، فان قال له: بع هذه السيارة بمائة، فباع نصفها بسبعين، فان هذا البيع لا يلزم الموكل، لانه لا يأمن أن يبيع الباقي بثلاثين فإن قال له: بع هذه السيارة بمائة، فباع نصفها بمائة جاز، لانه زاد خيرا وأتى بالغرض للموكل من الحصول على المائه، وزيادة ملكيته لنصف السيارة، وليس عليه ضير من هذه التجزئة.
وكذلك توكيله في بيع شيئين بمائه فباع أحدهما بمائه.
وبهذا قال أحمد والشافعي ومحمد وأبو يوسف وقال أبو حنيفة: يجوز أن يبيع بعض الموكل فيه بأى ثمن إذا كان التوكيل مطلقا بناء على أصله في أن للوكيل المطلق البيع بما شاء.
أما الشراء فإذا وكله في شراء طن من الورق فاشتراه رزمه رزمه، فإذا كان ثمنه ثمن الطن مرة واحدة جاز إذا لم يختلف بعضها عن بعض نوعا أو وزنا أو لونا أو ملمسا، وعند أحمد لا يصح لعدم الاذن والذى يدور عليه مفهوم الوكالة هو اذن الموكل أولا، وتوخى الانفع أو الاحظ له ثانيا، ومراعاة أن يكون النقد الذى يبيع به نقدا محليا، حتى لا يشق على الموكل الانتفاع به أو الحصول على نقد معتبر متداول معروف، فقد تتفق بعض النقود في الاسماء ولكنما تختلف من حيث القيمة وجهة الاصدار،(14/130)
والمعتبر هو نقد بلد البيع وليس بلد التوكيل، فقد تعقد الوكالة في بلد والمراد بيعه في بلد آخر فيكون البيع بنقد البلد الذى جرى فيه البيع، وذلك لمعرفة أهل البلد بنقدهم، وتقويمهم المبيع بنقدهم يمنع وقوعهم في الغرر.
قال الماوردى: لما لم يصح من الوكيل أن يشترى بغير نقد البلد لم يصح من الوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد البلد، وتحريره أنه عقد معاوضه بوكاله مطلقه فوجب أن لا يصح بغير نقد البلد قياسا على الشراء، أو لان كل جنس لا يجوز للوكيل أن يبتاع به لم يجز للوكيل أن يبيع به قياسا على البيع بغير جنس الاثمان وبالمحرمات، فعلى هذا لو كان غالب نقد البلد ذهبا لم يبعه بالفضة، ولو كان كلا النقدين سواء وليس أحدهما غالبا لزم الوكيل ببيعها بأحظها للموكل، فان استويا كان حينئذ مخيرا في بيعه بأيهما شاء، فان باعه بكلا النقدين فان كان في عقدين صحا جميعا إذا كان مما يجوز تفريق الصفقه في بيعه، وإن كان في عقد واحد فعلى وجهين أحدهما: يجوز الجمع بين النقدين كما جاز إفراد كل واحد من النقدين.
والثانى: لا يجوز، لان غالب البياعات يتناول جنسا واحدا من الاثمان فلم يجز أن يعدل إلى غالبها، وبالله التوفيق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان دفع إليه ألفا وقال اشتر بعينها عبدا، فاشترى في ذمته لم يصح الشراء للموكل لانه لم يرض بالتزام غير الالف، فإذا ابتاع بألف في الذمه فقد ألزمه في ذمته ألفا لم يرض بالتزامها فلم يلزمه.
وان قال اشتر لى في الذمه وانقد الالف فيه، فابتاع بعينها ففيه وجهان، أحدهما أن البيع باطل، لانه أمره بعقد لا ينفسخ بتلف الالف فعقد عقدا ينفسخ بتلف الالف، وذلك لم يأذن فيه ولم يرض به.
والثانى أنه يصح لانه أمره بعقد يلزمه الثمن مع بقاء الالف ومع تلفها وقد عقد عقدا يلزمه الثمن مع بقائها ولا يلزمه مع تلفها فزاده بذلك خيرا، وان دفع إليه ألفا وقال اشتر عبدا ولم يقل بعينها، ففيه وجهان.
أحدهما أن مقتضاه الشراء بعينها لانه لما دفع إليه الالف دل على أنه قصد الشراء بها، فعلى هذا إذا اشترى في ذمته لم يصح الشراء.
والثانى أنه لا يقتضى الشراء بعينها لان الامر مطلق، فعلى هذا يجوز
أن يشترى بعينها، ويجوز أن يشترى في الذمه وينقد الالف فيه.(14/131)
(الشرح) الاحكام: إذا أذن له في الشراء بالنقد فاشترى بالنسيئة، فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يعين له الثمن الذى يشترى به، فالشراء غير لازم للموكل لانه إذا اشترى بغير العين كان مخالفا ولزم الوكيل، وإن اشترى بالعين إلى أجل كان باطلا، ولم يلزم الموكل ولا الوكيل، وبهذا قال أحمد.
(والضرب الثاني) أن لا يعين له الذى يشترى به فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يشتريه نسئا بما يساوى ثمنه نقدا أو بأقل من ثمن النساء، فمذهب الشافعي وأحمد رضى الله عنهما أن الشراء لازم للموكل، لانه قد حصل له غرضه في استصلاح مع تعجيل الثمن، ومن أصحابنا من قال: الشراء غير لازم للموكل لمخالفته، وبقاء الثمن في ذمته، وهو قول من زعم أن الوكيل في بيع النساء لا يجوز بيعه نقدا.
(والثانى)
أن يشتريه بما يساوى نسئا وبأكثر مما يساوى نقدا، فالشراء غير لازم للموكل لما فيه من التزام فعل النساء والشراء لازم للوكيل إن لم يذكر اسم موكله، وإن ذكره فعلى وجهين.
أحدهما باطل، والثانى لازم للوكيل.
أما إذا أذن له في الشراء بالنسيئة فاشترى بالنقد فالشراء غير لازم للموكل لا يختلف مذهب الشافعي وسائر أصحابه سواء اشتراه بما يساوى نقدا أو نسئا لما فيه من التزامه التعجيل بما لم يأذن به.
وهكذا لو أذن له أن يشتريه إلى أجل فاشتراه إلى أجل هو أقرب لم يلزم الموكل ولو اشتراه إلى أجل هو أبعد كان حكمه للوكيل حكمه في النقد إذا اشترى بالنساء فيكون لازما للموكل.
قال الماوردى: وهذا على مذهب الشافعي رضى الله عنه وعلى مذهب بعض أصحابه غير لازم.
(فرع)
إذا دفع الموكل إلى وكيله ليشترى له به سيارة فهذا على ثلاثة أقسام أحدها: أن يأمره أن يشترى بعين المال سيارة فوجب على الوكيل أن يشترى بعين مال موكله، فان اشتراه في ذمته لم يلزم الموكل، وكان الشراء لازما للوكيل.
وقال أبو حنيفة: الوكيل بالخيار بين أن يشترى الشئ بعين المال وبين أن(14/132)
يشتريه في ذمته، وهو في كلا الحالين لازم للموكل، وبنى ذلك على أصله: أن الدراهم والدنانير لا يتعينان عنده.
قال الماوردى: وهذا خطأ لتعين الدراهم والدنانير عندنا في العقود كما يتعين في الغصوب، وقد دللنا على ذلك في كتاب البيوع، ولان يد الوكيل كيد المودع، ومال الوديعة متعين وكذا ما بيد الوكيل متعين، وإذا تعين ما بيده لموكله حتى لا يجوز أن يرد عليه غير ماله، وجب أن يكون الشراء محمولا على موجب اذنه.
والقسم الثاني: أن يأمره أن يشترى في ذمته وينقد المال في ثمنه، فان اشتراه في الذمة صح وكان لازما للموكل، وان اشتراه بعين المال ففيه وجهان: أحدهما وهو قول أبى على الطبري ذكره في افصاحه أن الشراء جائز، وهو للموكل لازم لان العقد على المعين أحوط.
والوجه الثاني وهو اختيار أبى حامد الاسفرايينى: أن الشراء باطل لا يلزم الوكيل لانه غير مالك للعين، فلا يلزم الموكل، لان الموكل قد فوت عليه بالمخالفة غرضا، لان العقد في الذمة لا يبطل بتلف الثمن، والعقد على العين يبطل بتلف الثمن.
فصار فعل الوكيل مخالفا لامر الموكل، فلو امتثل الوكيل أمر موكله أو اشترى السيارة بثمن في ذمته ثم نقد الثمن من عنده، برئ الوكيل والموكل منه، ولم يكن للوكيل أن يرجع على الموكل لان أمره بنقد هذا المال في
الثمن يتضمن نهيا عن نقده من غيره.
والقسم الثالث: أن يطلق الاذن في الشراء عند دفع المال فيقول: خذ هذا المال فاشتر لى به سيارة فقد اختلف أصحابنا هل يكون اطلاقه مقتضيا للتعيين أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ أبى على الطبري: أنه يقتضيه لان تقديم الثمن على السيارة شاهد فيه، فعلى هذا ان اشترى في ذمته كان الشراء لازما للوكيل دون الموكل، والوجه الثاني - وهو قول بعض البصريين: انه لا يقتضى التعيين، لان الاطلاق على العموم، فعلى هذا يكون الوكيل مخيرا بين العقد على العين أو في الذمة، ومذهب أحمد في هذا كله كنحو مذهبنا.(14/133)
فإذا تقرر ما أوضحنا فصورة مسألة الكتاب في رجل دفع إلى رجل مالا ليشترى له به طعاما فتسلف المال قرضا ثم اشترى له بمثله من ماله طعاما فالشراء غير لازم للموكل سواء كان الموكل قد أذن في الشراء بعين المال أو في الذمة.
وقال أبو حنيفة: الشراء لازم للموكل سواء كان الاذن بالعين أو في الذمة وهذا خطأ لان الوكالة بتلف المال أو استهلاكه باطلة لانعقاد بقائه، فإذا بطلت الوكالة وانعزل الوكيل فعقده لازم لنفسه دون موكله، فلو أن الوكيل لم يستهلك ولكن تعدى فيه تعديا صار له ضامنا فقد اختلف أصحابنا هل ينعزل بتعديه عن الوكالة أم لا، على وجهين:
(أحدهما)
ينعزل عن الوكالة بالتعدي لانه مؤتمن كالمودع الذى ينعزل بالتعدي عن الوديعة، فعلى هذا يكون الشراء لازما للوكيل دون موكله.
(والوجه الثاني) وهو قول أبى على الطبري أنه على الوكالة لا ينعزل عنها بالتعدي مع بقاء الملك كالمرتهن لا يبطل الرهن بتعديه، وإن كان مؤتمنا فعلى هذا
يكون الشراء لازما للموكل وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
.
(فصل)
فإن وكله في الشراء ولم يدفع إليه الثمن فاشتراه، ففى الثمن ثلاثة أوجه (أحدها) أنه على الموكل والوكيل ضامن، لان المبيع للموكل فكان الثمن عليه، والوكيل تولى العقد والتزم الثمن فضمنه، فعلى هذا يجوز للبائع أن يطالب الوكيل والموكل، لان أحدهما ضامن والآخر مضمون عنه، فان وزن الوكيل الثمن رجع على الموكل، وإن وزن الموكل لم يرجع على الوكيل.
(والثانى)
أن الثمن على الوكيل دون الموكل، لان الذى التزم هو الوكيل فكان الثمن عليه، فعلى هذا يجوز للبائع مطالبة الوكيل، لان الثمن عليه، ولا يجوز له مطالبة الموكل لانه لا شئ عليه، فان وزن الوكيل رجع على الموكل لانه التزم باذنه، وإن لم يزن لم يرجع كما نقول فيمن أحال بدين عليه على رجل لا دين له عليه: إنه إذا وزن رجع، وإذا لم يزن لم يرجع، وإن أبرأ البائع الوكيل سقط الثمن وحصلت السلعة للموكل من غير ثمن.(14/134)
(والثالث) أن الثمن على الوكيل، وللوكيل في ذمة الموكل مثل الثمن، فيجوز للبائع مطالبة الوكيل دون الموكل، وللوكيل مطالبة الموكل بالثمن وإن لم يطالبه البائع.
(الشرح) الاحكام: قال الماوردى في الحاوى: فإذا ثبت أن الملك يكون واقعا بالعقد للموكل دون الوكيل فللوكيل حالتان: (إحداهما) أن يذكر اسم موكله في العقد فيقول: قد اشتريت هذا الشئ لفلان بأمره، فيكون الثمن واجبا على الموكل، وهل يكون الوكيل ضامنا أم لا على وجهين، حكاهما ابن سريج
(أحدهما)
عليه ضمانه لانه عاقد
(والثانى)
لا يلزمه ضمانه لانه غير مالك.
(والحال الثانية) أن لا يذكر الوكيل اسم موكله في العقد، ولكن ينوى قبله أن الشراء لموكله، فعلى الوكيل ضمان الثمن بالعقد.
وهل يصير الثمن واجبا على الموكل بالعقد؟ أم لا؟ على وجهين حكاهما ابن سريج.
أحدهما: أنه يكون الثمن واجبا عليه بالعقد لوقوع الملك له بالعقد، فعلى هذا يكون البائع بالخيار بين مطالبة الوكيل به أو الموكل، فإذا أخذه من أحدهما برئا معا.
والوجه الثاني: أن الثمن غير واجب على الموكل بالعقد، وإنما يلزم الوكيل وحده لتفرده بالعقد، فعلى هذا يطالب الوكيل وحده بالثمن دون الموكل.
وهل يستحق الوكيل الثمن على الموكل قبل أدائه عنه أم لا؟ على وجهين حكاهما ابن سريج.
أحدهما: أنه لا يستحقه عليه إلا بعد أدائه عنه، فإن أداه الوكيل عنه رجع به عليه حينئذ، وإن أبرأه البائع منه لم يرجع به على الموكل، فصار الموكل مالكا للمبيع بغير بدل.
والوجه الثاني: أن الوكيل قد استحق الثمن على الموكل بما وجب على الوكيل من ضمانه بالعقد وله مطالبة الموكل به قبل أدائه، وإن أبرأ الوكيل منه رجع به على الموكل، ولو دفع بالثمن عرضا رجع على الموكل بالثمن دون قيمة العرض وعلى الوجه الاول إذا دفع الوكيل بالثمن عرضا رجع على الموكل بأقل الامرين(14/135)
من الثمن أو قيمة العرض، فلو أراد الوكيل أن يمنع الموكل من المبيع إلا بعد قبض ثمنه لم يكن له ذلك على الوجهين معا، لان البائع لم يبعه منه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
.
(فصل)
ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بثمن مؤجل من غير إذن،
لان الاصل في البيع النقد، وإنما يدخل التأجيل لكساد أو فساد، فإذا أطلق حمل على الاصل، فإن أذن له في بيع مؤجل وقدر الاجل لم يبع إلى أجل أكثر منه، لانه لم يرض بما زاد على المقدر، فبقى على الاصل في المنع، إن أطلق الاجل ففيه وجهان.
أحدهما: لا يصح التوكيل، لان الآجال تختلف فيكثر الغرر فيه فلم يصح، والثانى: يصح ويحمل على العرف في مثله، لان مطلق الوكالة يحمل على المتعارف وإن لم يكن فيه عرف باع بأنفع ما يقدر عليه، لانه مأمور بالنصح لموكله، ومن أصحابنا من قال: يجوز القليل والكثير لان اللفظ مطلق، ومنهم من قال: يجوز إلى سنة، لان الديون المؤجلة في الشرع مقدرة بالسنة، وهى الدية والجزية، والصحيح هو الاول.
وقول القائل الثاني: إن اللفظ مطلق لا يصح، لان العرف يخصه، ونصح الموكل يخصه وقول القائل الثالث: لا يصح لان الدية والجزية وجبت بالشرع فحمل على تأجيل الشرع، وهذا وجب باذن الموكل فحمل على المتعارف، وان أذن له في البيع إلى أجل فباع بالنقد نظرت، فان باع بدون ما يساوى نسيئة لم يصح لان الاذن في البيع نسيئة يقتضى البيع بما يساوى نسيئة فإذا باع بما دونه لم يصح، وان باع نقدا بما يساوى نسيئة، فان كان في وقت لا يأمن أن ينهب أو يسرق لم يصح، لانه ضرر لم يرض به فلم يلزمه، وان كان في وقت مأمون، ففيه وجهان.
أحدهما: لا يصح، لانه قد يكون له غرض في كون الثمن في ذمة ملى ففوت عليه ذلك فلم يصح.
والثانى: يصح، لانه زاده بالتعجيل خيرا، وان وكله أن يشترى عبدا بألف فاشتراه بألف مؤجل ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح الشراء(14/136)
للموكل لانه قصد أن لا يكون عليه دين وأن لا يشترى إلا بما معه
(والثانى)
أنه يصح لانه حصل له العبد وزاده بالتأجيل خيرا.
(فصل)
ولا يجوز للوكيل في البيع أن يشترط الخيار للمشترى ولا للوكيل في الشراء أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ لانه شرط لا حظ فيه للموكل، فلا يجوز من غير إذن كالاجل، وهل يجوز أن يشترط لنفسه أو للموكل، فيه وجهان.
(أَحَدُهُمَا)
لَا يَجُوزُ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي البيع من غير شرط
(والثانى)
يجوز لانه احتاط للموكل بشرط الخيار.
(الشرح) الاحكام: ان بيعه بالثمن المؤجل من غير اذن موكله لا يجوز، ودليلنا أن الاجل في البيوع يدخل تارة في المثمن فيكون سلما، وتارة في الثمن فيكون دينا، فلما لم يجز للوكيل أن يدخل الاجل في الثمن فيجعله دينا، وتحريره أنه تأجيل أحد العوضين فوجب أن لا يصح من الوكيل مع اطلاق الاذن قياسا على تأجيل المثمن، ولان الاجل لما لم يلزم المالك في عقده، ولا شرط صريح لم يلزم الموكل الا بإذن صريح، لان اطلاق كل واحد من العقدين معتبر بالآخر وسواء طال الاجل أو قصر.
فأما الجواب عن الاستدلال بأن اطلاق الاذن يقتضى العموم فهو أنه خطأ في القول، بل الاطلاق في الاذن يقتضى العرف بدليل أن اطلاق الاذن بالشراء لا يقتضى عموم الاشرية كذلك اطلاق الاذن بالبيع لا يقتضى عموم البيوع.
وأما قياسه على نقد البلد فالمعنى فيه أن المعهود يقتضيه، وأما قياسه في الاجل على خيار الثلاث فلاصحابنا في جوازه للوكيل وجهان سيأتي بيانهما، والقياس منتقض بالاجل في المثمن، ثم المعنى في خيار الثلاث أنه لما ملكه الوكيل في الشراء ملكه في البيع، ولاصحابنا في جوازه للوكيل وجهان.
أحدهما: لا يصح من الوكيل، فعلى هذا سقط الدليل.
والثانى: يصح منه والقياس عليه منتقض بالاجل في المثمن، فهذا حكم العقد مع اطلاق اذن الموكل، وما يلزم من الشروط في عقد التوكيل.(14/137)
وأما حالة التقييد مثل أن يكون إذن الموكل في البيع مقيدا بشرط، فإن كان الشرط مبطلا للعقد كالاجل المجهول، وهو كما يقول المصنف باطل على أحد الوجهين، لان الآجال تختلف فيكثر فيها الغرر، وكالخيار أكثر من ثلاث إلى ما جرى هذا المجرى الذى يبطل معه العقد على وجه من الوجوه، فقد صار الموكل بها آذنا لوكيله بالبيع الفاسد، فإن باع الوكيل ذلك على الشرط الذى أذن فيه الموكل كان فاسدا، وإن رضى المالك بفساده، فإذا أذن له في الاجل وأطلق الاجل فإن الصحيح بطلانه كما قلنا.
والثانى وهو وجه عند أصحابنا وبه قال أبو حنيفة: يصح.
ويحمل على العرف في مثله، لان المطلق يحمل على المقيد نصا أو عرفا، فإن لم يكن ثم عرف اجتهد في البيع بأحظ وأنفع ما يقدر عليه لموكله، لانه مؤتمن له ومن خصاله النصح له ومن أصحابنا من أجاز بيعه على أي نحو ولو لم يتحر الانفع لموكله ومنهم من قيد الاطلاق الاجل بسنة قمرية، لان الله تعالى جعل عدة الشهور إثنى عشر شهرا، ولان الجزية والدية والزكوات لانها ديون شرعية في ذمة المكلفين بها مقدرة بالسنه، فإذا أطلق الموكل حملنا إطلاقه على القيد الشرعي في الديون الشرعية، والقول الاول هو الذى جعله الماوردى في الحاوى قولا واحدا للمذهب ولم يحك غيره، أما المصنف رحمه الله فقد ساق الاقوال كلها ثم رجح الاول.
ثم هو إذا خشى تلف المال أو سطو غاصب عليه أو كساده مما يلحق الضرر
بموكله جاز له أن يبيع ولو لم يأذن له الموكل إذا لم يجد مشتريا نقدا فإذا قدر الموكل له الاجل لم يصح أن يؤجل أكثر منه (فرع)
إذا باع نقدا ما هو مأذون فيه بأجل نظرت فان تساوى ثمن المبيع نقدا مع ما قدره الموكل للثمن نسئا، فعلى وجهين
(أحدهما)
يصح لانه زاد خيرا بتعجيل الثمن.
(والثانى)
لا يصح لانه قد يكون له غرض في جعل الثمن في ذمة ملئ كأنه وديعة في صورة دين ففوت عليه هذا القصد فلم يصح(14/138)
(فرع)
لا يجوز أن يشترط الوكيل الخيار للمشترى ولا لوكيله، كما لا يجوز له أن يقبل شرط الخيار من غير اذن موكله في البيع أو في الشراء، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ أَوْ لموكله؟ وجهان
(أحدهما)
لا يجوز لانه قيد المطلق بشرط ليس مأذونا فيه.
والوجه الثاني: إذا رأى أن هذا الشرط أنفع لموكله للاحتياط ولضمان مصلحته فانه يصح وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
(فصل)
ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل بما لا يتغابن به من غير إذن، ولا للوكيل في الشراء أن يشترى بأكثر من ثمن المثل بمالا يتغابن الناس به من غير إذن، لانه منهى عن الاضرار بالموكل مأمور بالنصح له وفى النقصان عن ثمن المثل في البيع، والزيادة على ثمن المثل في الشراء اضرار، وترك النصح، ولان العرف في البيع ثمن المثل، فحمل إطلاق الاذن عليه، فان حضر من يطلب بالزيادة على ثمن المثل لم يجز أن يبيع بثمن المثل لانه مأمور بالنصح والنظر للموكل، ولا نصح ولا نظر للموكل في ترك الزيادة
وإن باع بثمن المثل ثم حضر من يزيد في حال الخيار ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه فسخ البيع، لان المزايد قد لا يثبت على الزيادة فلا يلزمه الفسخ بالشك.
(والثانى)
يلزمه الفسخ وهو الصحيح، لان حال الخيار كحال العقد.
ولو حضر في حال العقد من يزيد وجب البيع منه، فكذلك إذا حضر في حال الخيار وقول القائل الاول: إنه قد لا يثبت على الزيادة فيكون الفسخ بالشك، لا يصح لان الظاهر أنه يثبت فلا يكون الفسخ بالشك، وإن باع بنقصان يتغابن الناس بمثله، بأن باع ما يساوى عشرة بتسعة صح البيع.
وإن اشترى بزيادة يتغابن الناس بمثلها بأن ابتاع ما يساوى عشرة بأحد عشرة صح الشراء ولزم الموكل، لان ما يتغابن الناس بمثله يعد ثمن المثل، ولانه لا يمكن الاحتراز منه فعفى عنه(14/139)
وإن اشترى بزيادة لا تتغابن الناس بمثلها بأن ابتاع ما يساوى عشرة بإثنى عشر فان كان بعين مال الموكل بطل الشراء، لانه عقد على ماله عقدا لم يأذن فيه، وإن كان في الذمة لزم الوكيل لانه اشترى في الذمة بغير إذن فوقع الملك له.
وإن باع بنقصان لا يتغابن الناس بمثله بأن باع ما يساوى عشرة بثمانية لم يصح البيع لانه بيع غير مأذون فيه، فإن كان المبيع باقيا رد، وإن كان تالفا وجب ضمانه وللموكل أن يضمن الوكيل لانه سلم ما لم يكن له تسليمه، وله أن يضمن المشترى لانه قبض ما لم يكن له قبضه، فان اختار تضمين المشترى ضمن جميع القيمة، وهو عشرة، لانه ضمن المبيع بالقبض فضمنه بكمال البدل، وإن اختار تضمين الوكيل ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه يضمنه جميع القيمة، لانه لزمه رد المبيع فضمن جميع بدله
(والثانى)
يضمنه تسعة لانه لو باعه بتسعة جاز، فلا يضمن ما زاد ويضمن
المشترى تمام القيمة وهو درهم.
(والثالث) يضمنه درهما لانه لم يفرط إلا بدرهم، فلا يضمن غيره ويضمن المشترى تمام القيمة وهو تسعة، وما يضمنه الوكيل يرجع به على المشترى، وما يضمنه المشترى لا يرجع به على الوكيل، لان المبيع تلف في يده فاستقر الضمان عليه.
وإن قدر الثمن فقال: بع بألف درهم، لم يجز أن يبيع بما دونها، لان الاذن في الالف ليس بإذن فيما دونها، وإن باع بألفين نظرت، فان كان قد عين من يبيع منه لم يجز، لانه قصد تمليكه بألف فلا يجوز أن يفوت عليه غرضه، وإن لم يعين من يبيع منه جاز.
لان الاذن في الالف إذن فيما زاد من جهة العرف.
لان من رضى بألف رضى بألفين وإن قال بع بألف ولا تبع بما زاد لم يجز أن يبيع بما زاد، لانه صرح بالنهي فدل على غرض قصده فلم يجز مخالفته وإن قال بع بألف فباع بألف وثوب ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يصح لانه حصل له الالف وزيادة، فصار كما لو باع بألفى درهم
(والثانى)
أنه لا يصح، لان الدراهم والثوب تتقسط على السلعة فيكون ما يقابل الثوب من السلعة مبيعا بالثوب.
وذلك خلاف ما يقتضيه الاذن: فان(14/140)
الاذن يقتضى البيع بالنقد.
فعلى هذا هل يبطل العقد في الدراهم؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة وإن وكله في بيع عبد بألف فباع نصفه بألف جاز، لانه مأذون له فيه من جهة العرف، لان من يرضى ببيع العبد بألف يرضى ببيع نصفه بالالف، فان باع نصفه بما دون الالف لم يصح، لانه ربما لم يمكنه الباقي بتمام الالف.
وإن وكله في بيع ثلاثة أعبد بألف فباع عبدا بدون الالف لم يصح، لانه قد
لا يشترى الباقي بما بقى من الالف، وإن باع أحد الثلاثة بألف جاز، لان من رضى ببيع ثلاثة بألف رضى ببيع أحدهم بألف وهل له أن يبيع الآخرين فيه وجهان
(أحدهما)
لا يملك لانه قد حصل المقصود وهو الالف
(والثانى)
أنه يجوز لانه أذن له في بيع الجميع فلا يسقط الامر ببيع واحد منهم، كما لو لم يقدر الثمن.
وإن وكله في شراء عبد بعينه بمائة فاشتراه بخمسين لزم الموكل لانه مأذون فيه من جهة العرف.
لان من رضى أن يشترى عبدا بمائة رضى أن يشتريه بخمسين، وإن قال اشتر بمائة ولا تشتر بخمسين جاز أن يشترى بمائة، لانه مأذون فيه، ولا يشترى بخمسين لانه منهى عنه، ويجوز أن يشترى بما بين الخمسين والمائة، لانه لما أذن في الشراء بالمائة دل على أنه رضى بالشراء بما دونها، ثم خرج الخمسون بالنهي وبقى فيما زاد على مادل عليه المأمور به وهل يجوز أن يشترى بأقل من الخمسين؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه لما نص على المائة دل على أن ما دونها أولى إلا فيما أخرجه النهى
(والثانى)
لا يجوز لانه لما نهى عن الخمسين دل على أن ما دونها أولى بالمنع.
وإن قال اشتر هذا العبد بمائة فاشتراه بمائة وعشرة لم يلزم الموكل.
وقال أبو العباس يلزم الموكل بمائة ويضمن الوكيل ما زاد على المائة لانه تبرع بالتزام الزيادة، والمذهب الاول، لانه زاد على الثمن المأذون فلم يلزم الموكل.
كما لو قال اشتر لى عبدا فاشتراه بأكثر من ثمن المثل، ولانه لو قال: بع هذا العبد بمائة فباعه بمائة إلا عشرة لم يصح، ثم يضمن الوكيل ما نقص من المائة، فكذلك(14/141)
إذا قال اشتر هذا العبد بمائة فاشتراه بمائة وعشرة.
لم يلزم الموكل، ثم يضمن الوكيل ما زاد على المائه.
وإن وكله في شراء عبد بمائة فاشترى عبدا بمائتين وهو يساوى المائتين، لم يلزم الموكل، لانه غير مأذون فيه من جهة النطق ولا من جهة العرف، لان رضاه بعبد بمائة لا يدل على الرضا بعبد بمائتين، وإن دفع إليه دينارا وأمره أن يشترى شاة فاشترى شاتين، فإن لم تساو كل واحدة منهما دينارا لم يلزم الموكل لانه لا يطلب بدينار مالا يساوى دينارا، وإن كان كل واحدة منهما تساوى دينارا نظرت، فان اشترى في الذمة ففيه قولان.
(أحدهما)
أن الجميع للموكل، لان النبي صلى الله عليه وسلم " دفع إلى عروة البارقى دينارا ليشترى له شاة فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ودينار فدعا له بالبركة " ولان الاذن في شاة بدينار إذن في شاتين بدينار، لان من رضى شاة بدينار رضى شاتين بدينار
(والثانى)
أن للموكل شاة لانه أذن فيه، والاخرى للوكيل لانه لم يأذن فيه الموكل، فوقع الشراء للوكيل فان قلنا ان الجميع للموكل فباع إحداهما فقد خرج أبو العباس فيه وجهين
(أحدهما)
أنه لا يصح لانه باع مال الموكل بغير إذنه فلم يصح
(والثانى)
أنه يصح لحديث عروة البارقى، والمذهب الاول، والحديث يتأول وإن قلنا إن للوكيل شاة استرجع الموكل منه نصف دينار، وإن اشترى الشاتين بعين الدينار، فإن قلنا فيما اشترى في الذمة: إن الجميع للموكل كان الجميع ههنا للموكل.
وإن قلنا: إن إحداهما للوكيل والاخرى للموكل صح الابتياع للموكل في إحداهما ويبطل في الاخرى، لانه لا يجوز أن يحصل الابتياع له بمال الموكل فبطل.
(الشرح) حديث عروة البارقى مر في غير موضع الكلام عليه في البيع والربا وأول الوكالة، وقد أوفيناه حقه من البحث فليراجع.
أما الاحكام فقد قال المزني: ومن باع بمالا يتغابن الناس بمثله فبيعه مردود.(14/142)
لانه تلف على صاحبه، فهذا قول الشافعي ومعناه.
وهذا صحيح.
قال الماوردى للموكل فيما أذن له ببيعه حالتان: حالة إطلاق.
وحالة تقييد فأما حالة الاطلاق فهو أن يأذن لوكيله في البيع إذنا مطلقا من غير أن يقيده بشرط، أو على صفة، فعلى الوكيل في بيعه ثلاثة شروط: (أحدها) أن يبيعه بغالب نقد البلد، فان عدل إلى غيره لم يجز والشرط الثاني: أن يبيعه بثمن مثله، فان باعه بمالا يتغابن الناس بمثله وإلى أجل، كان بيعه نافذا، ولموكله نافذا استدلالا بأن إطلاق الاذن يشتمل على عموم البيع، وتخصيص المطلق لا يكون إلا بدليل، كالمطلق من عموم الكتاب والسنة، فلما كان اسم البيع ينطبق على المبيع بغير نقد البلد وبما لا يتغابن الناس به وعلى المؤجل، وجب أن يصح لانه عقد مأذون فيه، كما لو باعه بنقد البلد وبثمن المثل وبالمعجل.
ثم استدل على جواز البيع بغير نقد البلد بأنه بيع بجنس الاثمان فصح كالمبيع بنقد البلد واستدل على جوازه إلى أجل بأن الاجل مدة ملحقة بالعقد فجاز أن يملكها الوكيل قياسا على خيار الثلاث، وهذا كله خطأ.
والدليل على ما قلنا على الشرط الاول وهو أن بيعه بغير نقد البلد لا يجوز هو أنه لما لم يصح من الوكيل في الشراء أن يشترى بغير نقد البلد لم يصح من الوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد البلد.
وتحريره أنه عقد معاوضة بوكالة مطلقة فوجب ألا يصح بغير نقد البلد، قياسا على الشراء، أو لان كل جنس لا يجوز للوكيل أن يبتاع به لم يجز للوكيل أن يبيع به قياسا على البيع بغير جنس الاثمان وبالمحرمات والدليل على الشرط الثاني، وهو أن بيعه بمالا يتغابن الناس بمثله لا يجوز
هو أنه عقد معاوضه عن وكالة مطلقة فوجب أن لا يصح بأكثر من ثمن المثل قياسا على الشراء ولان من لم يملك الهبة في مال لم يملك المحاباة فيه كالوصي والعبد المأذون له في التجارة، ولان المحاباة كالهبة لاعتبارها من الثلث، فلما لم يصح من الوكيل في البيع هبة المال أو بعضه لم تصح منه المحاباة فيه.
وتحريره أنه عقد استهلك به شيئا من مال موكله بغير إذنه فوجب أن يكون باطلا كالهبة، فإذا ثبت ما ذكرنا وأن المثل معتبر، وأن البيع بمالا يتغابن الناس(14/143)
بمثله، فالاعتبار بالغبن عرف الناس في مثل المبيع، وليس له حد مقدر.
وقال مالك: حد الغبن في البيوع الثلث فصاعدا لقوله صلى الله عليه وسلم " الثلث والثلث كثير " وقال أبو حنيفة: حد الغبن من العشر فصاعدا لانه أقل ما يجب في زكوات الزروع والثمار.
قال الماوردى: وكلا المذهبين فاسد، لان عرف الناس فيما يكون غبنا كثيرا يختلف باختلاف الاجناس، فمن الاجناس ما يكون ربع العشر فيه غبنا كثيرا، وهو الحنطة والشعير والذهب والورق.
ومنها ما يكون نصف العشر فيه غبنا يسيرا، كالرقيق والجوهر، فلم يجز أن يحد ذلك بقدر مع اختلافه في عرفهم.
ووجب الرجوع فيه إليهم.
فإذا باع الوكيل بمالا يتغابن الناس بمثله كان بيعه باطلا ولا ضمان عليه ما لم يسلم المبيع، فان سلمه كان ضامنا ولزمه استرجاع المبيع إن كان باقيا، فان هلك في يد المشترى كان كل واحد من الوكيل والمشترى ضامنا.
أما المشترى فضامن بجميع القيمة، لانه فائض عن عقد بيع فاسد.
وأما الوكيل ففى قدر ما يضمنه قولان ذكرهما الشافعي في كتاب الرهن الصغير
(أحدهما)
أنه يضمن جميع القيمة
(والثانى)
أنه يضمن ما غبن به من قدر المحاباة، لان به فسد العقد ولزم الضمان وقد مضى من التفريع في كتاب الرهن ما يقنع.
والدليل على الشرط الثالث وأن بيعه بالثمن المؤجل لا يجوز هو أن الاجل في البيوع يدخل تارة في المثمن فيصير سلما، وتارة في الثمن فيكون دينا، فلما لم يجز للوكيل أن يدخل الاجل في الثمن لم يجز أن يدخل الاجل في المثمن على ما مضى في الفصل قبله (فرع)
قال الماوردى رحمه الله تعالى: " وأما المختص بقدر الثمن وصورته أن يقول: بع بمائة درهم، فلا يجوز أن يبيعه بأقل منها ولو بقيراط، فان فعل كان البيع باطلا، ولو باعه بأكثر من مائه درهم كان البيع جائزا لحصول المائة التى أرادها، والزيادة عليها زيادة حظ له،(14/144)
إلا أن يكون قد أمره أن يبيعه بالمائة على رجل بعينه، فلا يجوز أن يبيعه عليه بأكثر من مائة، كما لا يجوز أن يبيعه على غيره، لانه لما نص على القدر صار مسامحا له بالزيادة عليه.
فلو باع نصف العبد بمائة درهم صح البيع، لان بقاء نصف العبد مع حصول المائة التى أرادها أحظ، فلو باع نصف العبد بأقل من مائة درهم ولو بقيراط لم يجز لتفويت ما أراده من كمال الثمن وتفريق الصفقة.
فلو وكله ببيع عبيد فباع كل عبد في عقد، فإن لم يذكر له قدر الثمن جاز.
لان العادة في بيع العبيد جارية بإفرادهم في العقود.
ولو ذكر له قدر الثمن فقال: بع هؤلاء العبيد الثلاثة بألف درهم.
فإن باع أول صفقة من العبيد بأقل من ألف درهم لم يجز لانه قد لا يشترى العبدان الآخران بما بقى من تكملة الالف وإن باع أول صفقة بأكثر من ألف درهم جاز.
وهل يجوز بيع الاثنين الآخرين بعد حصول الالف؟ على وجهين
أحدهما: لا يجوز، لان مقصوده بالبيع حصول الالف من ثمنه، فصارت الوكالة مقصورة عليها وباطلة فيما سواها والوجه الثاني: أنه يجوز له بيع من بقى منهم لانعقاد الوكالة يبيعهم.
ولا يكون حصول الثمن بكماله من بعضهم مانعا من بيع باقيهم.
كما لو باع أحدهم بأكثر من ألف.
ولم يلزمه أن يبيع منه بقدر الالف، ويكون عن بيع باقيه بالزيادة على الالف.
فأما العدد من الثياب إذا وكله في بيعها وأمكن أن يبتاع صفقة وتفاريق.
فعلى الوكيل أن يعمل على أحظ الامرين لموكله في بيع جميعها صفقة أو أفرادا كل واحد منها بعقد.
فان عدل عن أحظهما لم يجز ما لم يكن من الموكل تصريح به " اه (قلت) وكلام المصنف في المهذب يفيد أن البيع يصح وينفذ في كل حالة نقص فيها الثمن عن القدر الذى أذن فيه وضمنه الوكيل أعنى ضمن - الفرق الذى ينقص عن القدر المأذون فيه - كأن أذن له في البيع بمائة فباع بتسعين كان على الوكيل ضمان النقص وهو العشرة، ونتيجة هذا أن البيع ينفذ بحصول الموكل على الثمن الذى حدده بكماله، وذلك بضمان مقدار النقص على الوكيل(14/145)
ومثل ما ذكر في البيع يكون في الشراء فلو أمره أن يشترى شاة بعشرة فاشتراها بأحد عشرة كان عليه ضمان الفرق ولا يلزم الموكل سوى عشرة، وهذا هو تخريج أبى العباس بن سريج رحمه الله تعالى.
هذا وبقية ما ورد في هذا الفصل مضى بيانه في شرح الفصول السابقة: لان المصنف في هذا الفصل ضمنه ما ورد في بعض الفصول السابقة، وقد شرحناها والله المستعان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا اشترى الوكيل ما أذن فيه الموكل انتقل الملك إلى الموكل لان العقد له فوقع الملك له كما لو عقده بنفسه وان اشترى ما لم يأذن فيه، فإن كان قد اشتراه بعين مال الموكل، فالعقد باطل، لانه عقد على مال لم يؤذن في العقد عليه، فبطل كما لو باع مال غيره بغير إذنه، وإن اشتراه بثمن في الذمة نظرت، فإن لم يذكر الموكل في العقد لزمه ما اشترى، لانه اشترى لغيره في الذمة ما لم يأذن فيه فانعقد الشراء له كما لو اشتراه من غير وكالة، وإن ذكر الموكل في العقد ففيه وجهان
(أحدهما)
أن العقد باطل، لانه عقد على أنه للموكل والموكل لم يأذن فيه فبطل
(والثانى)
أنه يصح العقد ويلزم الوكيل ما اشتراه، وهو قول أبى إسحاق، وهو الصحيح، لانه اشترى في الذمة ولم يصح في حق الموكل فانعقد في حقه كما لو لم يذكر الموكل.
(فصل)
وإن وكله في قضاء دين لزمه أن يشهد على القضاء، لانه مأمور بالنظر والاحتياط للموكل، ومن النظر أن يشهد عليه لئلا يرجع عليه، فإن ادعى الوكيل أنه قضاه وأنكر الغريم لم يقبل قول الوكيل على الغريم، لان الغريم لم يأتمنه على المال، فلا يقبل قوله عليه في الدفع، كالوصي إذا ادعى دفع المال إلى الصبى، وهل يضمن المال للموكل؟ ينظر فيه فإن كان في غيبة الموكل وأشهد شاهدين ثم مات الشهود أو فسقوا لم يضمن، لانه لم يفرط، وان لم يشهد ضمن لانه فرط.(14/146)
وأن أشهد شاهدا واحدا ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمن، لان الشاهد مع اليمين بينة
(والثانى)
يضمن لانه فرط حيث إنه اقتصر على بينة مختلف فيها وان كان بمحضر الموكل وأشهد لم يضمن، وإن لم يشهد ففيه وجهان.
أحدهما: لا يضمن، لان المفرط هو الموكل، فإنه حضر وترك الاشهاد.
والثانى: أنه يضمن لان ترك الاشهاد يثبت الضمان فلا يسقط حكمه بحضور الموكل، كما لو أتلف ماله وهو حاضر، وان وكله في إيداع ماله عند رجل فهل يلزمه الاشهاد؟ ففيه وجهان.
أحدهما: يلزمه لانه لا يأمن أن يجحد فيشهد عليه الشهود.
والثانى: لا يلزمه، لان القول قول المودع في الرد والهلاك، فلا فائدة في الاشهاد، وإن وكله في الايداع فادعى أنه أودع وأنكر المودع لم يقبل قول الوكيل عليه، لانه لم يأتمنه المودع فلا يقبل قوله عليه، كالوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم، وهل يضمن الوكيل؟ ينظر فيه، فإن أشهد ثم مات الشهود أو فسقوا لم يضمن، لانه لم يفرط، وإن لم يشهد - فإن قلنا: إنه يجب الاشهاد ضمن لانه فرط، وإن قلنا: لا يجب لم يضمن لانه لم يفرط.
(الشرح) الاحكام: قال المزني رحمه الله تعالى: لو دفع إليه مالا اشترى به طعاما فيسلفه، ثم اشترى له بمثله طعاما فهو ضامن للمال والطعام، لانه خرج من وكالته بالتعدي، واشترى بغير ما أمره به اعلم أن لهذه المسألة مقدمة لا يستغنى عن شرحها وتقدير المذهب فيها ليكون الجواب في المسألة مبنيا عليها، وهو أن الرجل إذا وكل رجلا في ابتياع متاع له فلا يخلو حاله من أحد أمرين، إما أن يدفع إليه ثمنه أم لا، فإن لم يدفع الثمن إليه جاز للوكيل أن يشتريه بثمن في ذمته ناويا به أنه لموكله، فيكون بالعقد واقعا للموكل دون الوكيل.
وقال أبو حنيفة: يقع الملك بالعقد للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل استدلالا بأن ما ملكه الانسان بعقد غيره وقع الملك للعاقد، ثم انتقل عنه إلى متملكه كالشفعة يقع الملك إلى المشترى ثم ينتقل عنه إلى الشفيع، ولان الوكيل يلزمه(14/147)
الثمن بعقده فوجب أن يقع له الملك بعقده، لان الثمن في مقابلة المثمن، ولانه لما كان شروط العقد والافتراق معتبرا بالعاقدين اقتضى أن يكون موجبه من الملك واقعا للعاقدين.
ودليلنا أن كل ما عقده الوكيل للموكل اقتضى وقوع الملك بالعقد للموكل كالنكاح، ولان كل من ناب في العقد عن غيره وقع الملك به للمعقود له دون عاقده قياسا على ولى اليتيم.
(فرع)
قال المزني: ولو أمر الموكل الوكيل بدفع مال إلى رجل فادعى أنه دفعه إليه لم يقبل منه الا ببينة اه قلت: وصورة ذلك تتضح في رجل أمر وكيله بدفع مال إلى رجل فادعى الوكيل الدفع وأنكر المدفوع إليه القبض، فلا يخلو حال ذلك المال من أربعة أقسام.
أحدها: أن يكون دينا في ذمة الموكل، فقول الوكيل في الدفع غير مقبول على المدفوع إليه، لان الموكل لو ادعى دفع الدين لم تقبل دعواه، فوكيله في دفعه أولى أن لا تقبل دعواه، ويكون صاحب الدين على حقه في مطالبة الموكل بدينه، وليس له مطالبة الوكيل به فأما قبول قول الوكيل على الموكل فلا يخلو حال الموكل من أن يصدقه على الدفع أو يكذبه فإن كذبه على ما ادعاه من الدفع لم يقبل قوله عليه، وكان ضامنا له لانه، وان كان أمينا له بقوله - غير مقبول في الدفع إلى غيره.
ألا ترى أن الوصي أمين للموصى، ولا يقبل قوله على اليتيم في دفع ماله إليه، لانه يدعى دفعا إلى غير من ائتمنه.
وكذلك أمره الله تعالى بالاشهاد على اليتيم في دفع ماله إليه بقوله " فإذا دفعتم الهم أموالهم فأشهدوا عليهم " لان غير الايتام قد ائتمنوهم.
وقال في غير الاوصيا " فان أمن بعضكم بعضا.
فليؤد الذى اؤتمن أمانته "
فأمره بأداء الامانة إلى من ائتمنه من غير اشهاد.
لان قوله في الدفع مقبول.
وأمر الاوصياء بالاشهاد.
لان قولهم في الدفع غير مقبول فإذا ثبت أن قول الوصي غير مقبول في دفع مال اليتيم إليه.
وان كان مؤتمنا لان الائتمان من جهة غيره فكذا قول الوكيل غير مقبول في دفع المال إلى غير موكله، وان كان مؤتمنا(14/148)
لانه دفع إلى غير مؤتمنه، أو لا فرق بين أن يكون المؤتمن موصيا مات، أو موكلا باقيا.
فأما إن صدق الموكل وكيله في الدفع فلا يخلو حال الموكل من أن يكون حاضرا للدفع أو غائبا عنه، فإن كان غائبا عنه فالوكيل ضامن مع تصديق الموكل، كما كان ضامنا مع تكذيبه، لانه وإن صدقة على الدفع فقد فرط بترك الاشهاد، لان أمره بالدفع يقتضى دفعا بيديه من المطالبة، ولا يكون ذلك مع جواز الجحود إلا بالاشهاد، فصار الاشهاد من مقومات الدفع، وكما نقول في الاشهاد نقول في التوثيق والاشهار وكتابة الصكوك مع توقيع المدفوع إليه، لان العرف في زماننا هذا وفشو الفساد واستحلال المحرمات، وصعوبة الاثبات بغير الوثائق المكتوبة صار من مقومات الدفع اعتبار هذه العناصر من البينات، وعدم التفريط فيها.
فصار الوكيل بترك الاشهاد مفرطا فيضمن به كما يضمن بالجناية وإن كان الوكيل حاضرا لدفع الوكيل ففى وجوب الضمان على الوكيل وجهان
(أحدهما)
لا ضمان عليه، والاشهاد غير لازم له، لان الموكل إذا حضر كان هو المستوفى لنفسه الاشهاد، لان ما كان من شروط الدفع مع غيبة الموكل كان من شروطه مع حضوره، وليس ما اتفق من حضور الموكل بمسقط لحق الاستيثاق عن الوكيل.
والقسم الثاني: أن يكون المدفوع عينا مضمونة في يد الموكل كالعوارى
والغصوب، فيدعى الوكيل المأمور بالدفع أنه قد دفعها إلى ربها، وينكر ربها ذلك فالقول قوله مع يمينه، وقول الوكيل غير مقبول على واحد منهما في الدفع، ولصاحب العارية والمال المغصوب أن يرجع على من شاء من الموكل والوكيل بخلاف الدين الذى لا يرجع صاحبه به على الوكيل، لان الوكيل في قضاء الدين لم تثبت له يد على عين مال لرب الدين، وقد ثبت للوكيل في العارية والغصب فكانت يد الوكيل في وجوب الضمان كالموكل، فإن رجع رب العارية بالغرم على الموكل رجع الموكل به على الوكيل إن لم يصدقه على الدفع وإن صدقه على الدفع وكان غائبا عن الدفع رجع به ايضا، وإن كان حاضرا فعلى ما ذكرنا من الوجهين، وإن رجع رب العارية بالغرم على الوكيل لم يرجع(14/149)
الوكيل به على الموكل إن كذبه ولا إن صدقه وكان غائبا، وهل يرجع به إن كان حاضرا معه على الوجهين.
والقسم الثالث: أن يكون ذلك وديعة في يد الموكل، فلا يخلو حال رب الوديعة من أحد أمرين: إما أن يكون قد أذن للمودع أن يوكل في ردها أم لا، فإن لم يأذن له في التوكيل في رد الوديعة عليه فقول الوكيل غير مقبول في الرد والمودع ضامن للوديعة، وهل يكون الوكيل ضامنا لها أم لا؟ على وجهين.
وإن أذن له ان يوكل في ردها فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يصدقه على التوكيل.
فيكون قول الوكيل في هذا مقبولا على رب الوديعة في ردها عليه، لانه قد صار وكيلا له، وقول الوكيل مقبول على موكله والضرب الثاني: أن يكذبه في التوكيل مع اعترافه بالاذن فيه.
فهل يقبل قول المودع في الوكالة أم لا.
على وجهين
(أحدهما)
يقبل قوله، لان التوكيل من جهته، فعلى هذا يصح وكالة الوكيل عن رب الوديعة، ويصير قول الوكيل
مقبولا عليه في الرد.
والوجه الثاني: أن قول المودع غير مقبول في الوكالة لانه يدعى عقد توكيل على غيره، فعلى هذا لا يقبل بقبول الوكيل في الرد، ويصير المودع ضامنا، وليس له إذا غرم الوديعة أن يرجع بها على الوكيل، لان المودع مفرط بترك الاشهاد في التوكيل، فصار ضامنا لتفريطه.
فلم يجز أن يرجع به على غيره.
والقسم الرابع: أن يكون ذلك وديعه للموكل ويأمر وكيله بإيداعها عند رجل فيدعى الوكيل تسليمها إليه فيكذب في دعواه فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام.
أحدها أن يكذبه المالك الموكل في الدفع ويكذبه المودع في القبض، ففيه وجهان من اختلافهم في وجوب الاشهاد عليه عند الدفع
(أحدهما)
يجب عليه الاشهاد، كما يجب عليه في قضاء الدين، فعلى هذا يكون الوكيل بترك الاشهاد مفرطا.
وقوله في الدفع بعد ضمانه بالتفريط غير مقبول.
والوجه الثاني: أن الاشهاد لا يجب عليه في دفع الوديعة.
لان المودع عنده لو ادعى تلفها بعد الاشهاد عليه كان مقبول القول فيه.
فعلى هذا لا يكون مفرطا.
وقوله في الدفع مقبول(14/150)
القسم الثاني: أن يصدقه المالك الموكل ويكذبه المودع، فلا ضمان على الوكيل وقوله بتصديق الموكل مقبول عليه في سقوط الضمان عنه، وغير مقبول على المودع.
فإذا حلف المودع: ما تسلم منه الوديعة برئ من الدعوى القسم الثالث: أن يصدقه المودع على قبضها منه ويدعى تلفها وتكذيب المالك الموكل لقول الوكيل مقبول.
وهو من ضمانها برئ لان إقرار المودع بالقبض أقوى من الاشهاد عليه فلما برئ من الاشهاد عليه فأولى ان يبرأ بالاقرار وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن كان عليه حق لرجل فجاء رجل وادعى أنه وكيل صاحب
الحق في قبضه وصدقه، جاز أن يدفع إليه، ولا يجب الدفع إليه.
وقال المزني: يجب الدفع إليه، لانه أقر له بحق القبض، وهذا لا يصح لانه دفع غير مبرئ فلم يجبر عليه، كما لو كان عليه دين بشهادة فطولب به من غير إشهاد.
فان دفع إليه ثم حضر الموكل وأنكر التوكيل فالقول قوله مع يمينه: أنه ما وكل، لان الاصل عدم التوكيل، فإذا حلف نظرت.
فان كان الحق عينا أخذها إن كانت باقية ورجع ببدلها إن كانت تالفة، وله أن يطالب الدافع والقابض.
لان الدافع سلم إلى من لم يأذن له الموكل.
والقابض أخذ ما لم يكن له أخذه.
فان ضمن الدافع لم يرجع على القابض.
وان ضمن القابض لم يرجع على الدافع.
لان كل واحد منهما يقول: إن ما يأخذه المالك ظلم فلا يرجع به على غيره.
وإن كان الحق دينا فله أن يطالب به الدافع.
لان حقه في ذمته لم ينتقل.
وهل له أن يطالب القابض؟ فيه وجهان
(أحدهما)
له أن يطالب.
وهو قول أبى اسحاق لانه يقر بأنه قبض حقه فرجع عليه كما لو كان الحق عينا
(والثانى)
ليس له.
وهو قول أكثر أصحابنا.
لان دينه في ذمة الدافع لم يتعين فيما صار في يد القابض فلم يجز أن يطالب به.
وان جاء رجل إلى من عليه الحق وادعى أنه وارث صاحب الحق فصدقه وجب الدفع إليه لانه اعترف بأنه لا مالك له غيره وأن دفعه إليه دفع مبرئ فلزمه.
وان جاء رجل فقال: أحالني عليك صاحب الحق فصدقه.
ففيه وجهان(14/151)
(أحدهما)
يلزمه الدفع إليه، لانه أقر له أنه انتقل الحق إليه فصار كالوارث
(والثانى)
أنه لا يلزمه لان الدفع غير مبرئ لانه ربما يجئ صاحب الحق فينكر الحوالة فيضمنه، وإن كذبه لم يلزمه الدفع إليه في المسائل كلها وهل يحلف إن قلنا: إنه إن صدقه لزمه الدفع إليه حلف، لانه قد يخاف اليمين فيصدقه فيلزمه
الدفع إليه.
وإن قلنا لا يلزمه الدفع إليه إذا صدقه لم يحلف لان اليمين يعرض ليخاف فيصدق، ولو صدق لم يلزمه الدفع فلا معنى لعرض اليمين.
(الشرح) الاحكام: قال المزني: ولو كان لرجل على رجل حق، فقال له رجل: وكلنى فلان بقبضه منك فصدقه ودفعه إليه فتلف وأنكر رب الحق أن يكون وكله فله الخيار، فإن أغرم الدافع على القابض لانه يعلم أنه وكيل برئ، وان اغرم القابض لم يكن له الرجوع على الدافع لانه يعلم أنه مظلوم وبرئ.
وصورتها فيمن غاب وله مال على رجل أو في يده، فحضر رجل ادعى وكالة الغائب في قبض ماله، فان أقام على ما ادعاه من الوكالة بينة عادلة حكم بها والبينة شاهدان عدلان، فان كان فيهما ابن مدعى الوكالة لم تقبل شهادته، لانه يشهد لابيه، وكذا لو كان فيهما ابن من عليه الحق لم يقبل، لانه يشهد لابيه بالبراءة من صاحب الحق بهذا الدفع، ولكن لو كان فيهما ابن صاحب الحق قبلت شهادته لانه يشهد على أبيه لا له، فإذا قامت البينة بالوكالة أجبر الحاكم من عليه المال على دفعه إلى الوكيل، لان لصاحب الحق أن يستوفيه بنفسه ان شاء، وتوكيله ان شاء، وليس لمن هو عليه أن يمتنع من تسليمه إلى وكيل مالكه، وان لم يكن لمدعى الوكالة بينة يثبت بها الوكالة لم يلزم من عليه الحق أن يدفعه إلى مدعى الوكالة، سواء صدقه على الوكالة أو كذبه، وقال أبو حنيفة وكذا قال المزني: ان صدقه على الوكالة لزمه دفع المال إليه كالمصدق لمدعى سداد رب المال يلزمه دفع المال إليه.
وهذا خطأ من وجهين.
أحدهما وهو تعليل أبى اسحاق: انه دفع لا يبرئه من حق الوكيل عند انكار الوكالة ومن لم يبرأ بالدفع عند انكاره لم يجبر.
ألا ترى أن من عليه حق توثيقه فله الامتناع من الدفع الا باشهاد صاحب الحق على نفسه(14/152)
ولو لم تكن عليه وثيقة ففى جواز امتناعه لاجل الشهادة وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: له أن يمتنع لانه لا يتوجه يمين عند ادعائه بعد دفعه
(والثانى)
ليس له أن يمتنع ولا يلزم صاحب الحق الاشهاد، لانه إذا أنكر الحق بعد أدائه حلف بارا.
والتعليل الثاني - وهو تعليل أبى على بن أبى هريرة - أنه مقر في ملك غيره، ومدع عقد وكاله لغيره، فلم تقبل دعواه، ولم يلزم إقراره، ألا ترى أن من عليه الحق لو أقر بموت صاحب الحق، وأن هذا الحاضر وصيه في قبض دينه لم يلزم دفع المال إليه، وان اقر باستحقاق قبضه، فكذا الوكيل، فأما اعترافه للوارث بموت صاحب الحق فيلزمه دفع المال إليه، والفرق بينه وبين الوكيل أنه مقر للوارث بالملك، فيلزمه الدفع لانه بين أنه من الحق، ولا يصير الوكيل مالكا، ولا يبرأ بقبضه من الحق.
فأما ان أقر من عليه المال بأن صاحبه قد أحال هذا الحاضر به، فهل يلزمه دفع المال إليه باقراره؟ أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
يلزمه لانه مقر له بالملك فصار كإقراره للوارث
(والثانى)
لا يلزمه لانه لا يبرأ بالدفع عند الجحود، فصار كإقراره بالتوكيل.
فإذا تقرر ما وصفنا لم يخل حال من عليه الحق من أن يصدق الوكيل أو يكذبه فان كذبه على الوكالة وأنكره فلا يمين عليه، وعليه عند أبى حنيفة والمزنى اليمين لوجوب الدفع عندهما مع التصديق، ولا يجوز مع تكذيبه للوكيل أن يدفع إليه المال، وان صدقه على الوكالة لم يلزمه دفع المال إليه لما ذكرنا، لكن يجوز له في الحكم أن يدفعه إليه، فان دفعه إليه، وقدم صاحب الحق فلا يخلو حاله من أحد أمرين اما أن يعترف بالوكالة أو ينكرها، فان اعترف بها برئ من عليه الحق بالدفع سواء وصل الموكل إلى حقه من وكيله أو لم يصل إليه بتلفه.
فان أنكر الوكالة فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف فله المطالبة، ثم لا يخلو حال حقه من أحد أمرين، اما أن يكون عينا أو دينا، فان كان حقه عينا قائمة كالغصوب والعوارى والودائع فكل واحد من الدافع والقابض ضامن لها،(14/153)
أما الدافع فلتعديه بالدفع.
وأما القابض فليده عند إنكار توكيله، ويكون ربها بالخيار في مطالبة من شاء بها من الدافع والقابض، سواء كانت باقية أو تالفة، إلا أنها إن كانت باقية فله مطالبة أيهما شاء بالقيمة: فان طالب بها الدافع وأغرمه برئا ولم يرجع الدافع على القابض بغرمها لانه مقر أن القابض وكيل برئ منها وأنه هو المظلوم بها.
وإن طالب القابض فأغرمه برئا، ولم يرجع القابض على الدافع بغرمها: لانه مقر ببراءته منها، وأنه هو المظلوم بها، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ويجوز للموكل أن يعزل الوكيل إذا شاء، ويجوز للوكيل أن يعزل نفسه متى شاء، لانه أذن في التصرف في ماله فجاز لكل واحد منهما ابطاله كالاذن في أكل طعامه، وان رهن عند رجل شيئا وجعلاه على يد عدل واتفقا على أنه يبيعه إذا حل الدين ثم عزله الراهن عن البيع انعزل لانه وكيله في البيع فانعزل بعزله كالوكيل في بيع غير الرهن.
وان عزله المرتهن ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه ينعزل، وهو ظاهر النص لانه يبيع الرهن لحقه، فانعزل بعزله كالراهن
(والثانى)
لا ينعزل، وهو قول أبى اسحاق لانه ليس بوكيل له في البيع، فلم ينعزل بعزله، وان وكل رجلا في تصرف وأذن له في توكيل غيره نظرت، فان أذن له في التوكيل عن الموكل فهما وكيلان للموكل، فان بطلت وكالة أحدهما لم تبطل وكالة الآخر، وان أذن له في
توكيله عن نفسه فان الثاني وكيل الوكيل، فان عزله الموكل انعزل لانه يتصرف له فملك عزله كالوكيل، وان عزله الوكيل انعزل، لانه وكيله فانعزل بعزله، وان بطلت وكالة الوكيل بطلت وكالته، لانه فرع له، فإذا بطلت وكالة الاصل بطلت وكالة الفرع.
وان وكل رجلا في أمر ثم خرج عن أن يكون من أهل التصرف في ذلك الامر بالموت أو الجنون أو الاغماء أو الحجر أو الفسق بطلت الوكالة، لانه(14/154)
لا يملك التصرف فلا يملك غيره من جهته، وإن أمر عبده بعقد ثم أعتقه أو باعه ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا ينعزل كما لو أمر زوجته بعقد ثم طلقها.
(والثانى)
أنه ينعزل، لان ذلك ليس بتوكيل في الحقيقة، وإنما هو أمر ولهذا يلزم امثاله، وبالعتق والبيع سقط أمره عنه، وإن وكل في بيع عين فتعدى فيها بأن كان ثوبا فلبسه، أو دابة فركبها، فهل تبطل الوكالة أم لا؟ فيه وجهان أحدهما: تبطل فلا يجوز له البيع، لانه عقد أمانة فتبطل بالخيانة كالوديعة.
والثانى: أنها لا تبطل، لان العقد يتضمن أمانة وتصرفا، فإذا تعدى فيه بطلت الامانة وبقى التصرف، كالرهن يتضمن أمانة ووثيقة، فإذا تعدى فيه بطلت الامانة وبقيت الوثيقة.
وان وكل رجلا في تصرف ثم عزله ولم يعلم الوكيل بالعزل، ففيه قولان.
(أحدهما)
لا ينعزل، فان تصرف صح تصرفه، لانه أمر فلا يسقط حكمه قبل العلم بالنهي كأمر صاحب الشرع
(والثانى)
أنه ينعزل، فان تصرف لم ينفذ تصرفه لانه قطع عقد لا يفتقر إلى رضاه فلم يفتقر إلى علمه كالطلاق.
(الشرح) الاحكام: لما كانت الوكالة عقدا جائزا من الطرفين فللموكل
عزل وكيله متى شاء، وللوكيل عزل نفسه، لانه أذن في التصرف، فكان لكل واحد منهما ابطاله، كما لو أذن في أكل طعامه، وتبطل أيضا بموت أحدهما أيهما كان وجنونه المطبق، ولا خلاف في هذا كله فيما نعلم، فمتى تصرف الوكيل بعد فسخ الموكل أو موته فهو باطل إذا علم ذلك، فان لم يعلم الوكيل بالعزل ولا موت الموكل فعن أحمد فيه روايتان، وللشافعي فيه قولان، وظاهر النص أنه ينعزل علم أو لم يعلم، ومتى تصرف فبان أن تصرفه بعد عزله أو موت موكله فتصرفه باطل، لانه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلا يفتقر إلى علمه كالطلاق والعتاق والى هذا ذهب الخرقى من الحنابلة.
والقول الثاني وهى الرواية الثانية عن أحمد: لا ينعزل قبل علمه بموت الموكل وعزله، نص عليه في رواية جعفر بن محمد امام العترة، لانه لو انعزل قبل علمه(14/155)
كان فيه ضرر، لانه قد يتصرف تصرفات فتقع باطلة، وربما باع الطعام فيأكله المشترى أو غير ذلك من اطلاق يد المشترى ويجب ضمانه.
فيتضرر المشترى والوكيل.
ولانه يتصرف بأمر الموكل ولا يثبت حكم الرجوع في حق المأمور قبل علمه بالفسخ.
فعلى هذا لو تصرف قبل العلم نفذ تصرفه.
وعن أبى حنيفة أنه ان عزله الموكل فلا ينعزل قبل علمه لما ذكرنا، وان عزل الوكيل نفسه لم ينعزل الا بحضرة الموكل، لانه متصرف بأمر الموكل، فلا يصح رد أمره بغير حضرته كالمودع في رد الوديعة.
ولنا ما تقدم، فأما الفسخ ففيه وجهان كالروايتين ثم هما مفترقان، فان أمر الشارع يتضمن المعصية بتركه: ولا يكون عاصيا من غير علمه، وهذا يتضمن العزل عنه ابطال التصرف، فلا يمنع منه عدم العلم.
ومتى خرج أحدهما عن أن يكون من أهل التصرف مثل أن يجن أو يحجر عليه
لسفه فحكمه حكم الموت.
لانه لا يملك التصرف فلا يملكه غيره من جهته.
فإذا وسوس أحدهما فهو مثل العزل.
وان حجر على الوكيل لفلس فالوكالة بحالها، لانه لم يخرج عن كونه أهلا للتصرف.
وان حجر على الموكل وكانت الوكالة في أعيان ماله بطلت لانقطاع تصرفه في أعيان ماله.
وان كانت في الخصومة أو الشراء في الذمة أو الطلاق أو الخلع أو القصاص فالوكالة بحالها، لان الموكل أهل لذلك.
وله أن يستنيب فيه ابتداء فلا تنقطع الاستدامة، وان فسق الوكيل لم ينعزل.
لانه من أهل التصرف.
الا أن تكون الوكالة فيما ينافيه الفسق كالايجاب في عقد النكاح فانه ينعزل بفسقه أو فسق موكله بخروجه عن أهلية التصرف.
فان كان وكيلا في القبول للموكل لم ينعزل بفسق موكله لانه لا ينافى جواز قبوله.
وهل ينعزل بفسق نفسه؟ فيه وجهان.
وان كان وكيلا فيما تشترط فيه الامانه كوكيل اليتيم وولى الوقف على المساكين ونحو هذا انعزل بفسقه وفسق موكله بخروجهما بذلك عن أهلية التصرف وان كان وكيلا لوكيل من يتصرف في مال نفسه انعزل بفسقه.
لان الوكيل(14/156)
ليس له توكيل فاسق.
ولا ينعزل بفسق موكله.
لان موكله وكيل لرب المال، ولا ينافيه الفسق ولا تبطل الوكالة بالنوم والسكر والاغماء، لان ذلك لا يخرجه عن أهلية التصرف، ولا تثبت عليه ولاية إلا أن يحصل الفسق بالسكر فيكون فيه من التفصيل ما أسلفنا (فرع)
إذا تعدى فيما وكل فيه، مثل أن يلبس الثوب أو يركب الدابة فهل تبطل الوكالة.
وجهان
(أحدهما)
تبطل الوكالة لانها عقد أمانة فتبطل بالتعدي كالوديعة (الثاني) لا تبطل الوكالة بالتعدي فيما وكل فيه، وبهذا الوجه قال أحمد
وأصحابه.
لانه إذا تصرف فإنما يتصرف في نطاق إذن موكله فكان كما لو لم يتعد فصح ويفارق الوديعة من جهة أنها أمانة مجردة فنافاها التعدي والخيانة، والوكالة إذن في التصرف تضمنت الامانة، فإذا انتفت الامانة بالتعدي بقى الاذن بحاله.
فعلى هذا لو وكله في بيع ثوب فلبسه صار ضامنا، فإذا باعه صح بيعه وبرئ من ضمانه لدخوله في ملك المشترى وضمانه، فإذا قبض الثمن كان أمانة في يده غير مضمون عليه، لانه قبضه باذن الموكل ولم يتعد فيه.
وإذا دفع إليه مالا ووكله في شراء شئ فتعدى في الثمن فصار ضامنا له، فإذا اشترى به وسلمه زال الضمان وقبضه للمبيع قبض أمانة.
وإن وجد بالمبيع عيبا فرد عليه، أو وجد هو بما اشترى عيبا فرده وقبض الثمن كان مضمونا عليه، لان العقد المزيل للضمان زال فعاد ما زال عنه.
(فرع)
إذا وكل أمرأته في بيع أو شراء أو غيره ثم طلقها لم تنفسخ الوكالة لان زوال النكاح لا يمنع ابتداء الوكالة فلا يقطع استدامتها.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
والوكيل أمين فيما في يده من مال الموكل، فان تلف في يده من غير تفريط لم يضمن، لانه نائب عن الموكل في اليد والتصرف، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد الموكل فلم يضمن.
وإن وكله في بيع سلعة وقبض ثمنها فباعها وقبض ثمنها.
وتلف الثمن واستحق(14/157)
المبيع رجع المشترى بالثمن على الموكل لان البيع له فكان الرجوع بالعهدة عليه.
كما لو باع بنفسه.
(الشرح) الاحكام: اليد في أموال الغير على ثلاثة أقسام، يد ضامنة ويد أمينة، ويد اختلف الشافعي هل هي ضامنة أو أمينة، فالاولى كيد الغاصب
والمستعير والمساوم والمشترى والمستقرض، وكل هؤلاء يلزمهم ضمان ما هلك بأيديهم، وإن كان هلاكه من غير تعديهم، لانهم أصلا بين متعد أو معاوض.
والثانية كيد الوكيل والمضارب والشريك والمودع والمستأجر والمرتهن، فهؤلاء كلهم لا ضمان عليهم ما لم يتعدوا ويفرطوا، لانه ليس فيهم متعد بيده ولا معاوض.
وأما اليد المختلف فيها فيد الاجير المشترك إذا هلك بيده ما استؤجر على عمله من غير تفريط فيه ولا تعد عليه، ففيها قولان
(أحدهما)
أنها كيد المستعير عليها الضمان، والثانى أنها كيد المودع لا ضمان عليها فيما هلك فإذا تقرر هذا فإن الوكيل أمين فيما بيده لموكله، ولا ضمان عليه إن هلك لامرين
(أحدهما)
أن الموكل قد أقامه فيه مقام نفسه، وهو لا يلزم لنفسه ضمان ما بيده، فكذلك الوكيل الذى هو بمثابته
(والثانى)
أن الوكيل له عقد ارفاق ومعونة، وفى تعلق الضمان بها ما يخرج عن مقصود الارفاق والمعونة فيها: وسواء كانت الوكالة بعوض أو بغير عوض فكان أبو على الطبري رحمه الله يقول: إذا كانت بعوض جرت مجرى الاجير المشترك فيكون وجوب الضمان على قولين.
وهذا ليس بصحيح.
لانها إذا خرجت عن حكم الاجارة في اللزوم خرجت عن حكمها في الضمان (فرع)
قال المزني: فإن طلب منه الثمن فمنعه فقد ضمنه الا في حال لا يمكنه فيه دفعه.
قال الماوردى في حاويه " وهذا كما قال: إذا كان مع الوكيل ثمن ما باع الموكل فطلب منه فمنعه، فلا يخلو حال منعه من أحد أمرين.
اما أن يكون بعذر أو بغير عذر.
فان كان لعذر لحدوث مرض أو خوف منع من الوصول إلى موضع الثمن.
أو لخوف فوات فرض من جمعة أو مكتوبة قد ضاق وقتها.(14/158)
أو لضياع مفتاح أو لملازمة غريم له إلى ما جرى مجرى ذلك فهذا عذر في تأخير الدفع ولا ضمان عليه ان تلف قبل الدفع.
وان منعه لغير عذر صار ضامنا له.
فان تلف كان عليه غرمه.
فلو منعه من دفعه حتى يشهد على نفسه بقبضه فقد اختلف أصحابنا الخ " (قلت) سيأتي مزيد ايضاح لهذا الفصل في آخر فصل في هذا الباب لتعلقها به هناك.
أما بقية الكلام على أحكام هذا الفصل فنقول: ان تلفت العين التى وكل في التصرف فيها فقد بطلت الوكالة.
لان محلها ذهب فذهبت الوكالة كما لو وكله في بيع بقرة فماتت.
ولو دفع إليه دينارا ووكله في الشراء به فهلك الدينار أو ضاع.
أو استقرضه الوكيل وتصرف فيه بطلت الوكالة.
سواء وكله في الشراء بعينه أو مطلقا: ويجرى عليه من الضمان ما أسلفنا ايضاحه من حيث التعدي والتفريط أو عكسهما وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
.
(فصل)
إذا ادعى رجل على رجل أنه وكله في تصرف فأنكر المدعى عليه فالقول قوله لانه ينكر عقدا الاصل عدمه فكان القول قوله.
وان اتفقا على الوكالة واختلفا في صفتها.
بأن قال الوكيل: وكلتني في بيع ثوب.
وقال الموكل: بل وكلتك في عبد، أو قال الوكيل: وكلتني في البيع بألف وقال: بل وكلتك في البيع بألفين.
أو قال الوكيل: وكلتني في البيع بثمن مؤجل وقال الموكل: بل وكلتك في البيع بثمن حال فالقول قول الموكل لانه ينكر اذنا والاصل عدمه، ولان من جعل القول قوله في أصل التصرف كان القول قوله في كيفيته كالزوج في الطلاق
(فصل)
وان اختلفا في التصرف فادعى الوكيل أنه باع المال وأنكر الموكل أو اتفقا على البيع واختلفا في قبض الثمن فادعى الوكيل أنه قبض الثمن
وتلف وأنكر الموكل ففيه قولان
(أحدهما)
أن القول قول الوكيل لانه يملك العقد والقبض.
ومن ملك تصرفا ملك الاقرار به.
كالاب في تزويج البكر.(14/159)
(والثانى)
أنه لا يقبل قوله، لانه إقرار على الموكل بالبيع وقبض الثمن، فلم يقبل كما لو أقر عليه أنه باع ماله من رجل وقبض ثمنه، وإن وكله في ابتياع جارية فابتاعها ثم اختلفا، فقال الوكيل: ابتعتها بإذنك بعشرين.
وقال الموكل: بل أذنت لك في ابتياعها بعشرة، فالقول قول الموكل لما بيناه.
فإن حلف الموكل صارت الجارية للوكيل في الظاهر، لانه قد ثبت أنه ابتاعها بغير الاذن، فإن كان الوكيل كاذبا كانت الجارية له في الظاهر والباطن، وإن كان صادقا كانت الجارية للموكل في الباطن، وللوكيل في الظاهر قال المزني: ويستحب الشافعي رحمه الله في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالموكل فيقول: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين فبعه إياها بعشرين، فان قال له: بعتك هذه الجارية بعشرين صارت الجارية للوكيل في الظاهر والباطن وإن قال كما قال المزني: إن كنت أذنت لك في ابتياعها بعشرين فقد بعتكها بعشرين، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لا يصح، لانه بيع معلق على شرط فلم يصح، وجعل ما قاله المزني من كلام الحاكم لا من كلام الموكل.
ومنهم من قال يصح، لان هذا الشرط يقتضيه العقد لانه لا يصح أن يبيعها إلا أن يكون قد أذن له في الابتياع بعشرين، وما يقتضيه العقد لا يبطل العقد بشرطه فان امتنع الموكل من البيع قال المزني: يبيعها الوكيل ويأخذ حقه من ثمنها.
وقال أبو سعيد الاصطخرى فيه وجهان
(أحدهما)
ما قال المزني.
(والثانى)
أنه يملكها ظاهرا وباطنا بناء على القولين فيمن ادعى على رجل
أنه اشترى منه دارا وأنكر المشترى، وحلف أن المستحب للمشترى أن يقول للبائع: إن كنت اشتريتها منك فقد فسخت البيع، وإن لم يفعل المشترى ذلك ففيه قولان
(أحدهما)
أن البائع يبيع الدار ويأخذ ثمنها
(والثانى)
أن البائع يملك الدار لان المشترى صار كالمفلس بالثمن لتعذر الثمن من جهته، فيكون البائع أحق بعين ماله.
وقال أبو إسحاق: لا يملك الوكيل الجارية قولا واحدا، وتخالف الدار لانها كانت للبائع، فإذا تعذر الثمن انفسخ البيع وعاد المبيع إليه كما يعود إذا(14/160)
تحالف المتبايعان والجارية لم تكن للوكيل، فتعود إليه عند التعذر، فان قلنا يملكها ظاهرا وباطنا تصرف فيها بالوطئ وغيره.
وان قلنا انها للموكل في الباطن كان كمن له على رجل دين لا يصل إليه.
ووجد له مالا من غير جنس حقه.
(الشرح) الاحكام: قال المزني رحمه الله تعالى: فان كان وكله ببيع متاعه فباعه فقال الوكيل قد دفعت اليك الثمن فالقول قوله مع يمينه.
وقال الماوردى في حاويه: اعلم أن ما يدعيه الوكيل على موكله ينقسم ثلاثة أقسام: قسم يقبل فيه قول الوكيل.
وقسم لا يقبل فيه قوله.
وقسم اختلف قوله في قبول قوله (1) فيه.
فأما القسم الاول وهو ما قبل فيه قول الوكيل على الموكل فهو في رد ما قد ائتمنه عليه.
وجملة الايدى التى لا يتعلق بها ضمان أنها على ثلاثة أقسام (أحدها) ما يقبل فيه (قول (2)) صاحبها في رد ما كان معه، وهو من ائتمنه المالك على ماله في حق نفسه من غير نفع يعود (عليه) في أمانته كالمودع، فقوله في رد ما بيده من الوديعة على ربها مقبول، لانه لما أقامه مقام نفسه وجب أن يكون قوله عليه (مقبولا) كقوله على نفسه
(والثانى)
من لا يقبل قوله وان كان أمينا في رد ما بيده وهو من يده لحق
نفسه كالمرتهن فلا يقبل قوله في الرهن على راهنه، لانه ليس بنائب عنه، فلم يقبل قوله عليه (والثالث) من اختلف أصحابنا في قبول (قوله) وهو من كان نائبا عن المالك لكن لنفع يعود عليه (من) نيابته، كالعامل في القراض، والاجير المشترك، ففى قبول قولهم وجهان
(أحدهما)
أن قولهم مقبول في رد ما بأيديهم لنيابتهم عن المالك، وهذا أظهر القولين (الوجهين) وهو قول الجمهور
__________
(1) اختلف قوله، أي قول الامام الشافعي رضى الله عنه، وكذا كل ما جاء على هذا النحو من عود ضمير الغائب على غير مذكور في اثبات قول أو حكم أو مذهب.
(2) ما بين القوسين منا.(14/161)
(والثانى)
وهو قول أبى على الطبري: أن قولهم غير مقبول في رد ما بأيديهم لان عود النفع إليهم يجعلهم كالمتصرفين في حق أنفسهم فلم يقبل قولهم كالمرتهن فإذا تقرر هذا للاصل فالوكيل إن كان متطوعا، فقوله في رد ما بيده مقبول على موكله، وإن كان بأجرة ففى قبول قوله وجهان، فهذا ما يتعلق بالقسم الاول مما يقبل فيه قول الوكيل على الموكل.
وأما القسم الثاني: وهو مالا يقبل فيه قول الوكيل على الموكل، فهو أن يدعى إذنا في تصرف لقول الوكيل: أمرتنى ببيع كذا، أو بإعطاء زيد كذا فينكر الموكل ذلك، فالقول قول الموكل دون الوكيل، لانه في هذه الدعوى بمثابة مدعى عقد الوكالة، ومدعى الوكالة لا يقبل قوله في ادعائها، لذلك مدعى الاذن لا يقبل قوله في ادعائه، وكذلك إذا اتفقا على الاذن، واختلفا في صفته كقول الوكيل أمرتنى بإعطاء زيد ألفا فقال: بل أمرتك بإعطائه ثوبا، وكقوله
أمرتنى ببيع عبدك بألف، فقال: بل أمرتك بألفين، فالقول فيه قول الموكل، فلا يقبل فيه دعوى الوكيل إلا ببينه يقيمها على ادعاءه، والبينة شاهدان عدلان لا غير، لانها بينة في إثبات الوكالة.
وأما القسم الثالث: وهو ما اختلف قوله في قبول (قول) الوكيل فيه على موكله، فهو أن يوكل في عمل فيدعى الوكيل إيقاعه على الوجه المأذون فيه، وينكره الموكل، كتوكيله في بيع أو نكاح أو هبة أو عتق أو طلاق أو إقباض مال، فينكر الموكل ذلك مع تصديق البائع والمنكوحة والموهوبة له والمطلقة والقابض والمقبض، ففيه قولان محكيان عن الشافعي، ووجهان ذكرهما ابن سريج، فأحد قولى الشافعي أن القول في جميع ذلك قول الموكل إلا أن يقيم الوكيل بينة على ما ادعاه، والبينة عليه معتبرة في كونه مالا أو غير مال، وإنما كان القول قول الموكل لانها عقود فلم يلزم بمجرد الدعوى.
والقول الثاني: أن القول في جميع ذلك قول الوكيل، لان الموكل أقامه مقام نفسه، بعد قوله عليه.
فهذان قولا الشافعي المحكيان عنه.
وأما وجها أبى العباس بن سريج فإنه ذكر في كتاب الوكالة بعد حكاية قول(14/162)
الشافعي وجهين ذكر احتمالهما، ونص توجيههما، أحد الوجهين أنه إن كان ما أقر به الوكيل يتم به وحده كالعتق والطلاق والابراء كان قوله مقبولا فيه، لانه لما كان يصح من الوكيل في الحال صح إقراره به في تلك الحال، وما كان بخلافه لم يقبل إقراره به.
والوجه الثاني: وهو الذى عول عليه واعتمد على نصرته: إن؟ ن الاقرار به كإيقاع (طلاق) قبل قوله فيه، وما كان بخلافه لم يقبل قوله فيه، وهذان الوجهان إنما يكون للقول بها وجه إذا كان الوكيل عند الاختلاف باقيا على
الوكالة، فأما منع عزله عنها فلا وجه لتخريجها لما يقتضيه تعليل كل واحد منهما والله تعالى أعلم.
(فرع)
إذا أمر الموكل وكيله ببيع متاعه وقبض ثمنه، فادعى الوكيل البيع وقبض الثمن وتسليمه إلى الموكل، فإن صدقه على البيع وقبض الثمن وتسليمه إلى الموكل، فإن صدقه على البيع وقبض الثمن وأنكر أن يكون قبضه منه كان قول الوكيل مقبولا عليه، لكن مع يمينه، لانه اختلاف في الدفع، ولو صدقه على البيع وأنكر قبض الوكيل الثمن من المشترى فهو على قولين، لان الوكيل يدعى عملا ينكره الموكل، وإن كذبه في البيع وقبض الثمن، فهو على قولين أيضا لما ذكرنا.
(فرع)
إذا أمر الرجل وكيله أن يشترى سيارة، فقال الوكيل: اشتريتها بألف، قال الموكل: اشتريتها بخمسمائة فالقول قول الوكيل مع يمينه أنه اشترى السيارة بألف - وثمة قول بأنه إذا كانت السيارة ليست بيده فالقول قول الموكل - وهذا ليس بصحيح، بل قول الوكيل أولى في الحالين لقبول قوله في أصل الشراء وكذا يقبل قوله في قدر أصل ثمنه.
(فرع)
قال المزني: ولو قال أمرتك أن تشترى هذه الجارية بعشرة فاشتريتها بعشرين.
وقال الوكيل: بل أمرتنى بعشرين فالقول قول الآمر مع يمينه وتكون الجارية في الحكم للموكل، والشافعي يستحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالآمر فيقول: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين فقد بعته إياها بعشرين، ويقول للآخر: قد قبلت، ليحل له الفرج ولمن يبتاعها منه.(14/163)
وقد أثارت هذه العبارة من المزني كلاما لدى الاصحاب، لانه إن قبل فبيع الموكل معقود بشرط وهو قوله: ان كنت أمرتك أن تشتريها بعشرين فقد بعتها
عليك بعشرين، وهذا شرط يفسد معه البيع، فاختلف أصحابنا فيما ذكره المزني من ذلك على وجهين.
أحدهما: أن المزني انما اختار للحاكم أن يقول ذلك لهما تنبيها على معنى هذا العقد، والسبب المقصود به من غير أن يذكراه في نفس العقد، فإذا ذكراه فيه لم يصح، بل يعقد له مطلقا من هذا الشرط، وهذا قول أكثر البصريين.
والوجه الثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وجمهور البغداديين أنه يجوز لهما أن يعقداه كذلك لانه هكذا يكون في الحكم فجائز أن يكون ملفوظا به في العقد.
(فرع)
إذا ثبت ما أسلفنا فللموكل حالتان: احداهما: أن يجيب إلى بيعها على الوكيل ان كان صادقا فيصير الوكيل مالكا لها ظاهرا وباطنا.
ويجوز له امساكها والاستمتاع بها وبيعها وأخذ الفضل من ثمنها والحال الثانية: أن لا يجيب إلى بيعها فلا يجبر عليه لانه ليس بمالك، ولو كان مالكا لم يجبر على بيع ملكه، وهل يكون الوكيل مالكا لها أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أبى سعيد الاصطخرى انه قد ملكها ملكا تاما ظاهرا وباطنا لان الملك قد انتقل عن الموكل بثمنه فاقتضى أن ينتقل إلى الوكيل بعقده، فعلى هذا يجوز للوكيل أن يمسكها، وان باعها ملك الفضل في ثمنها.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: انه لا يصير مالكا لها، وانما له أن يأخذ من ثمنها ما غرم فيه، لانه مقر بأنها ملك لموكله، فعلى هذا لا يجوز أن يستمتع بها، وان كان في ثمنها فضل لم يملكه، وهل يجوز أن ينفرد ببيعها أم لا؟ على وجهين.
(أحدهما)
يبيعها بنفسه
(والثانى)
يتولاه الحاكم، فإن كان الثمن بقدر ما دفع فقد استوفاه، وان كان أقل فلا رجوع له ينافيه، وان كان أكثر فلا
حق له في الزيادة.
وهل يجوز اقرارها في يده؟ أم ينزعها الحاكم منه؟ على وجهين، أحدهما:(14/164)
يقرها في يده لانه لا خصم له فيها، والوجه الثاني: ينزعها منه لانه مال قد جهل مستحقه فصار كأموال العيب - التى ترد بالعيب ويختلف فيها المتبايعان ويضع الحاكم يده عليها حتى يفصل في النزاع - أم يكون مشترى الجارية مالكها، على الوجهين جميعا، ولا يكون عدم ملك البائع لها بمانع من استقرار ملك المشترى من وكيل في بيعها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن اختلفا في تلف المال فادعى الوكيل أنه تلف وأنكر الموكل فالقول قول الوكيل، لان التلف يتعذر إقامة البينة عليه فجعل القول قوله.
(فصل)
وإن اختلفا في رد المال فقال الوكيل: رددت عليك المال وأنكر الموكل نظرت، فان كانت الوكالة بغير جعل فالقول قول الوكيل مع يمينه: لانه قبض العين لمنفعة المالك، فكان القول في الرد قوله كالمودع، وإن كانت الوكالة بجعل ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يقبل قوله لانه قبض العين لمنفعة نفسه، فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر والمرتهن
(والثانى)
أنه يقبل قوله لان انتفاعه بالعمل في العين، فأما العين فلا منفعة له فيها، فقبل قوله في ردها كالمودع في الوديعة.
(فصل)
إذا كان لرجل على رجل آخر حق فطالبه به فقال: لا أعطيك حتى تشهد على نفسك بالقبض نظرت، فإن كان مضمونا عليه كالغصب والعارية فان كان عليه فيه بينة فله أن يمتنع حتى يشهد عليه بالقبض، لانه لا يأمن أن يقبض ثم يجحد، ويقيم عليه البينة فيغرمه، وإن كان أمانة كالوديعة أو ما في
يد الوكيل والشريك أو مضمونا لا بينة عليه فيه، ففيه وجهان.
(أحدهما)
أن له أن يمتنع حتى يشهد بالقبض، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لانه لا يأمن أن يقبض ثم يجحد، فيحتاج أن يحلف أنه لا يستحق عليه، وفى الناس من يكره أن يحلف
(والثانى)
أنه ليس له أن يمتنع، لانه إذا جحد كان القول قوله أنه لا يستحق عليه شيئا، وليس عليه في اليمين على الحق ضرر فلم يجز له أن يمتنع والله أعلم.(14/165)
(الشرح) الاحكام: هذا الفصل قد أسلفنا الكلام على بعضه ومجمل القول: إذا اختلف الموكل والوكيل لم يخل من ستة أحوال: الاول: إذا اختلفا في التلف، فقال الوكيل تلف مالك في يدى، أو الثمن الذى قبضته ثمن متاعك تلف في يدى فيكذبه الموكل، فالقول قول الوكيل مع يمينه لانه أمين.
وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه، فلا يكلف ذلك كالمودع.
وكذلك كل من كان في يده شئ على سبيل الامانة، كالاب والوصى وأمين الحاكم والمودع والشريك والمضارب والمرتهن والمستأجر والاجير المشترك على اختلاف فيه، إلا أن يدعى التلف بأمر ظاهر كالحريق والنهب وشبههما فعليه إقامة البينة على وجود ذلك في ناحيته، ثم يكون القول قوله في تلفها، وهذا هو مذهبنا ومذهب أحمد.
لان وجود الامر الظاهر مما لا يخفى، فلا تتعذر إقامة البينة عليه الثاني: أن يختلفا في تعدى الوكيل أو تفريطه في الحفظ ومخالفته أمر موكله مثل أن يدعى عليه أنه حمل على الدابة فوق طاقتها، أو حمل عليها شيئا لنفسه، أو فرط في حفظها أو لبس الثوب، أو أمره برد المال فلم يفعل، ونحو ذلك فالقول قول الوكيل مع يمينه، لانه أمين ولانه منكر لما يدعى عليه.
والقول قول المنكر.
الثالث: أن يختلفا في التصرف فيقول الوكيل: بعت الثوب، وقبضت الثمن فتلف، فيقول الموكل: لم تبع ولم تقبض شيئا، فالقول قول الوكيل مع يمينه إن كان بغير جعل، لانه إن كان يجعل كان أجيرا ويده ضامنة (فرع)
قال المزني: ولو قال لصاحب له قد طلبته منك فمنعتني وأنت ضامن فهو مدع ان الامانة تحولت مضمونة وعليه البينة، وعلى المنكر اليمين.
وهذا كما قال، إذا منعه من دفع الثمن إليه حتى هلك، ثم اختلفا فقال الوكيل: منعتك معذورا فلا ضمان على.
وقال الموكل منعتني غير معذور فعليك الضمان، فالقول قول الوكيل مع يمينه إذا كان ما قاله ممكنا، ولا ضمان عليه لانه على أصل أمانته فلا تقبل دعوى الموكل عليه في انتقاله عن الامانة إلى الضمان (فرع)
قال المزني: ولو قال وكلتك ببيع متاعى فقبضته منى وأنكر ثم أقر،(14/166)
أو قامت عليه البينة ضمن - أي انتقل من حال الامين إلى حال الضامن - لانه خرج بالجحود من الامانة، وهذا صحيح، وصورة ذلك في رجل ادعى على رجل أنه وكله ببيع متاعه وأقبضه إياه فأنكر المدعى عليه الوكالة وقبض المتاع فالقول قوله مع يمينه لانه منكر، فإن أقام المدعى بينة بالوكالة وقبض المتاع صار ضامنا وخرج بالجحود عن الامانة فصار كجاحد الوديعة، فلو ادعى بعد قيام البينة عليه تلفها أو ردها على مالكها لم تقبل دعواه، لانه ضمن مالا يقبل قوله في ادعاء البراءة منه، ولانه صار بالانكار الاول مكذبا لهذه الدعوى منه، وهكذا لو عاد بعد إنكاره فأقر بقبض المتاع فادعى تلفه أو رده لم يقبل منه، وكان ضامنا له كقيام البينة عليه بقبضه.
فلو أقام البينة برده على موكله أو بتلف ذلك في يده قبل جحوده ففيه وجهان أحدهما وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنها بينة مردودة، لانه قد أكذبها
بسابق إنكاره.
والوجه الثاني وهو قول أبى القاسم الصيمري، وحكاه أبو حامد الاسفرايينى إن بينته مقبوله، يقدم ما شهدت به على الجحود الموجب للضمان.
قال الماوردى والوجه الاول أصح.
(فرع)
قال المزني: ولو قال: وكلتك في بيع متاعى فبعته، وقال: مالك عندي شئ، فأقام عليه البينة فقال: صدق أو قد دفعت إلى أهله ثمنه فهو مصدق لان من دفع شيئا إلى أهله فليس هو عنده، ولم يكذب نفسه فهو على أصل أمانته وتصديقه.
وهذا صحيح، إذا ادعى أنه وكله في متاع أقبضه إياه ليبيعه فقال الوكيل: مالك عندي شئ أو ليس لك في يدى حق فهذا جواب مقنع في الدعوى والقول فيه قوله مع يمينه، لانه منكر.
وكل من ادعى عليه مال في يديه وذكر المدعى سبب استحقاقه كالوديعة والغصب فالمدعى عليه إذا كان منكرا له أن يجيب بأحد جوابين، إما أن يقول: ما أخذت منك هذه الوديعة، ولا غصبتك هذا المال، وإما أن يقول: مالك قبلى حق، فكلا الجوابين مقنع في إنكار الدعوى وعليه اليمين.
وصفة إحلافه وتحليفه بحسب اختلاف الجواب، فإن كان جوابه مطلقا(14/167)
بأن قال: ليس عندي لك حق، أحلف على ما أجاب بالله أن ماله قبله حق، ولا يجوز للحاكم أن يحلفه: ما أخذ وديعة، أو ما غصبه، لانه قد يجوز أن يكون قد ملكه عليه بعد الوديعة والغصب، بهبة أو بيع استوفى ثمنه، فلا يكون قبله حق، وبحيث إن حلف ما استودع ولا غصب بر وإن كان جوابه أن قال: ما غصبتك، أو قال: ما أخذت وديعتك، فقد اختلف أصحابنا في صفة إحلافه على وجهين
(أحدهما)
أنه يحلف بالله ماله قبله
حق احترازا مما ذكرنا (والوجه الثاني) أنه يحلف على ما أجاب بالله ما غصبه، ولا أخذ وديعته لان تركه الاحتراز في جوابه ينفى التوهم عنه فيما ذكرنا.
فإذا ثبت أن جوابه بما ذكرنا مقنع فحلف ثم قامت البينة عليه بقبض المال أو عاد فأقر به ثم ادعى تلفه أو رد ثمنه لم يضمن وكان قوله مقبولا فيه لامرين أحدهما: أن ما ادعاه في الثاني مطابق لما أجاب به في الاول، لان من يرد الشئ على مالكه فليس له شئ في يده.
والثانى: أنه ليس له في جوابه الاول تكذيب الشهود، وبهذين المعنيين فرقنا بين المسألتين، فلو قامت عليه البينة في هذه المسأله بأن المتاع كان في يده بعد أن أجاب بأن لا شئ لك عندي صار ضامنا ولم يقبل قوله في الرد أو التلف لان هذا الجواب منه مع بقاء الشئ في يده كذب وجحود فصار ضامنا: (فرع)
قال المزني: ولو جعل للوكيل فيما وكله جعلا، فقال للموكل جعلى قبلك، وقد دفعت إليك مالك، فقال: بل خنتني فالجعل مضمون لا تبرئه منه الجناية عليه.
وقد ذكرنا أن الوكالة تجوز بجعل وبغير جعل، ولا يصح الجعل إلا أن يكون معلوما، فلو قال: قد وكلتك في بيع هذا الثوب على أن جعلك عشر ثمنه أو من كل مائة درهم من ثمنه درهم لم يصح للجهل بمبلغ الثمن وله أجرة مثله، فلو وكله في بيع كتاب بأجر معلوم فباعه بيعا فاسدا فلا جعل له، لان مطلق الاذن بالبيع يقتضى ما صح منه، فصار الفاسد غير مأذون فيه فلم يستحق جعلا عليه، فلو باعه بيعا صحيحا وقبض ثمنه، وتلف الثمن في يده فله الاجرة لوجود العمل، وهذا بخلاف الصانع إذا استؤجر عليه حياكة ثوب أو تجليد كتاب(14/168)
فتلف الثوب أو الكتاب في يده بعد عمله، فلا أجرة له إن كان مشتركا، والفرق
الذى تلف الثمن في يده والذى تلف الثوب أو الكتاب في يده أن المقصود من الاجير تسليم العلم المستحق في مقابلة العوض، فما لم يحصل التسليم لم يجب ما في مقابلته من العوض، والمقصود من الوكيل وجود العمل المأذون فيه، فلو باع الوكيل الثوب فتلف الثوب في يده قبل تسليمه إلى مستحقه بطل البيع، ولم يبطل جعل الوكيل، لان بطلانه بمعنى حادث بعد صحته، فصار بالعمل مأجورا فيه، وكان بخلاف وقوع البيع فاسدا، فلو سلم الثوب إلى مشتريه وقبض ثمنه فتلف في يده، ثم استحق الثوب من يد المشترى كان البيع فاسدا وللوكيل جعله لان بطلانه ليس من جهة الوكيل فصار مقصوده بالاذن مجرد العمل على وجه الصحة دون الصحه، وقد وجد من الوكيل ذلك العمل.
فأما رجوع المشترى بالثمن، فإن لم يعلم بالوكالة فله الرجوع على الوكيل ويرجع الوكيل به على الموكل، وإن علم بالوكاله ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو قول أبى حامد المروزى ذكره في جامعه أن يرجع على الموكل دون الوكيل، لانه مبيع عليه كالمبيع على المفلس
(والثانى)
يرجع على من شاء منهما، لان لكل واحد منهما في العقد تأثيرا فإذا ثبت ما وصفنا من جواز الوكالة بجعل واستحقاقه بعد العمل، فطالب الوكيل الموكل بجعله، وادعى أنه قد باع ما وكل في بيعه، وأنه قد رد ثمنه على موكله فللموكل حالتان، حالة ينكر العمل الذى ادعاه من البيع وقبض الثمن، وحالة يعترف به، فإن انكر الموكل ذلك فالقول قوله مع يمينه، ولا جعل للوكيل إلا ببينة يقيمها على البيع، سواء قبل قوله في البيع؟ أم لا، لانه يدعى عملا يستحق به جعلا فلم يقبل قوله في دعواه، وإن صدقه الموكل على ذلك وادعى دفع الجعل إليه فالقول قول الوكيل مع يمينه وله الجعل، لان الموكل مدع براءة الذمة من جعل تعلق بها، فلو قال الموكل له بعد تصديقه على البيع،
إنك خنتني في عملك بقدر جعلك فبرئت منه بخيانتك، وأنكر الوكيل الخيانة، فالقول قول الوكيل مع يمينه أنه لم يخن وله المطالبة بجعله.(14/169)
(فرع)
إذا تلف الثمن قبل دفعه للموكل، فإن كان لعذر في تأخير الدفع فلا ضمان، فلو منعه من دفعه حتى يشهد على نفسه بقبضه فقد اختلف أصحابنا هل له ذلك ويلزم الموكل الاشهاد على نفسه بالقبض أم لا؟ على ثلاثة أوجه.
أحدها وهو الصحيح: أن ليس له ذلك ولا يلزم الموكل بالاشهاد على نفسه بالقبض، لان قول الوكيل مقبول في الدفع، فعلى هذا يصير بالمنع ضامنا، وعليه الغرم إن تلف.
والوجه الثاني: له الامتناع بالدفع إلا بالاشهاد ليسلم من اليمين مع الاكذاب فعلى هذا لا يصير بالمنع ضامنا ولا غرم عليه إن تلف.
والوجه الثالث وهو مذهب مالك: أنه إذا قبض المال بالاشهاد لم يلزم دفعه إلا بالاشهاد، وإن قبضه بغير إشهاد لزمه الدفع بغير إشهاد، فأما من كان غير مقبول القول في الدفع فلا يلزمه الدفع إلا بالاشهاد سواء كان ضامنا كالغاصب والمستعير أو غير ضامن كالمرتهن.
فأما المضارب والاجير المشترك - فإن قلنا بأحد الوجهين: إن قوله في الدفع غير مقبول لم يلزمهم الدفع الا بالاشهاد، وان قلنا بالصحيح من المذهب: ان قولهم في الدفع مقبول ففى وجوب الاشهاد لهم ثلاثة أوجه على ما أسلفنا والله تعالى الموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.(14/170)
قال المصنف رحمه الله:
كتاب الوديعة
(الشرح) يقال: ودعته أدعه ودعا تركته، وأصل المضارع الكسر من ثم حذفت الواو ثم فتح لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدمين: وزعمت النحاة أن العرب أماتت ماضى يدع ومصدره واسم الفاعل، وقد قرأ مجاهد وعروة ومقاتل وابن أبى عبلة ويزيد النحوي " ما ودعك ربك " بالتخفيف، وفى الحديث " لينتهين قوم عن ودعهم الجمعات " أي تركهم، فقد رويت هذه الكلمة عن أفصح العرب ونقلت من طريق القراء، فكيف يكون اماتة، وقد جاء الماضي في بعض الاشعار وما هذه سبيله فيجوز القول بقلة الاستعمال، ولا يجوز القول بالاماتة، ووادعته موادعة صالحته، والاسم الوداع بالكسر وودعته توديعا والاسم الوداع بالفتح مثل سلم سلاما وهو ان تشيعه عند سفره، والوديعة فعيلة، بمعنى مفعولة، وأودعت زيدا مالا دفعته إليه ليكون عنده وديعة وجمعها ودائع واشتقاقها من الدعة وهى الراحة، أو أخذته منه وديعة، فيكون الفعل من الاضداد لكن الفعل في الدفع أشهر واستودعته مالا دفعته له وديعة يحفظه وقد ودع زيد بضم الدال وفتحها وداعة بالفتح والاسم الدعه وهى الراحة وخفض العيش والهاء عوض من الواو والاصل فيها الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تَعَالَى " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أهلها " وقوله تعالى " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته " وقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ".
أما السنه: فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أد الامانه إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " رواه أبو داود والترمذي من حديث أبى هريرة (رض)(14/171)
وقال: حديث حسن.
وأخرجه الحاكم وصححه، وفى إسناده طلق بن غنام عن
شريك واستشهد له الحاكم بحديث أبى التياح عن أنس، وفى إسناده أيوب بن سويد وهو مختلف فيه، وقد تفرد به كما قال الطبراني، وقد استنكره أبو حاتم وقد روى هذا الحديث أيضا البيهقى ومالك.
وفى هذا الباب عن أبى بن كعب عند ابن الجوزى في العلل المتناهية، وفى إسناده من لا يعرف، وأخرجه أيضا الدارقطني.
وعن أبى أمامة عند البيهقى والطبراني بسند ضعيف.
وعن أنس عند الدارقطني والطبراني والبيهقي وأبى نعيم وعن رجل من الصحابة عند أحمد وأبى داود والبيهقي، وفى إسناده مجهول آخر غير الصحابي، لان يوسف بن ماهك رواه عن فلان آخر وقد صححه ابن السكن وعن الحسن مرسلا عند البيهقى.
قال الشافعي رضى الله عنه: هذا الحديث ليس بثابت، وقال أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح.
وقال ابن الجوزى: لا يصح من جميع طرقه، ولا يخفى أن ورود هذا الحديث بهذه الطرق المتعددة مع تصحيح إمامين من الائمه المعتبرين لبعضها، وتحسين إمام ثالث منهم مما يصير به الحديث منتهضا للاحتجاج به.
وقوله " ولا تخن من خانك " فيه دليل على عدم جواز مكافأة الخائن بمثل فعله، فيكون مخصصا للعموم في قوله تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " وقوله تعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " وقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ".
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: إن الادلة القاضية بتحريم مال الآدمى ودمه وعرضه عمومها مخصص بهذه الآيات الثلاث، والحديث مخصص لهذه الآيات، فيحرم من مال الآدمى وعرضه ودمه ما لم يكن على طريق المجازاة فإنها حلال إلا الخيانة ولكن الخيانة إنما تكون في الامانة كما يشعر بذلك كلام صاحب القاموس على أن الاحاديث التى يثبت معها أداء الوديعة كثيرة سيأتي كثير منها في فصول هذا الباب إن شاء الله(14/172)
وأما الاجماع فأجمع علماء كل عصر على جواز الابداع والاستيداع والضرورة تقتضيها وبالناس إليها حاجة فإنه يتعذر على جميعهم حفظ أموالهم بأنفسهم ويحتاجون إلى من يحفظ لهم، واشتقاق الوديعة من السكون يقال ودع وديعه فكأنها ساكنة عند المودع مستقرة، أو هي مشتقه من الخفض والدعه فكأنها في دعة عند المودع وقبولها مستحب لمن يعلم من نفسه الامانه، لان فيها قضاء حاجة أخيه المؤمن ومعاونته وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
يستحب لمن قدر على حفظ الوديعة وأداء الامانه فيها أن يقبلها لقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى " ولما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله تعالى في عون العبد مادام العبد في عون أخيه فإن لم يكن من يصلح لذلك غيره وخاف ان لم يقبل أن تهلك تعين عليه قبولها، لان حرمة المال كحرمة النفس، والدليل عليه ما روى ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " حومة مال المؤمن كحرمة دمه " ولو خاف على دمه لوجب عليه حفظه، فكذلك إذا خاف على ماله وان كان عاجزا عن حفظها أو لا يأمن أن يخون فيها لم يجز له قبولها، لانه يغرر بها ويعرضها للهلاك، فلم يجز له أخذها.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عن ابن عمر، وروى بعضه ابن ماجه واسناده صحيح ورواه الترمذي يلفظ " المسلم أخو السلم لا يخونه
ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، التقوى ههنا، بحسب امرئ من الشر ان يحقر أخاه المسلم " قال الترمذي: حديث حسن أما حديث ابن مسعود رضى الله عنه: فقد رواه أبو نعيم في الحلية.
قال في الجامع الصغير: وهو غريب ضعيف، وقد وردت أحاديث كثيرة بمعناه أظهرها ما جاء في خطبة الوداع " ان الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة(14/173)
يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هذا " واقتران المال والدم والعرض في حرمتها وتشبيه الحرمة بحرمة مكة في يوم الوقوف من شهر ذى الحجة يدل على صحة التساوى بين المال والدماء.
أما الاحكام فقد اتفق الائمة كلهم على أن الوديعة من القرب المندوب إليها.
واتفقوا على أن حفظها فيه ثواب، وأن قبول حفظها أمانة محضة، وأن الضمان لا يجب على المودع إلا إذا تعدى، وأن القول قوله في تلفها وردها على الاطلاق مع يمينه على تفصيل سيأتي كما سيأتي ما اختلفوا فيه.
أما إذا خاف على الوديعة التلف أو الضياع أو عدم القدرة على حمايتها وكان معرضا للغارة، أو كان له غرماء ولا يأمن أن يستولوا عليها وفاء لحقهم، أو كان لا يأمن أن تحدثه نفسه بالخيانة فيها، وجب عليه بذل النصيحة لصاحبها، ولا يجوز له قبولها، حتى لا يغرر بها ويعرضها للهلاك فلم يجز له أخذها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح الايداع إلا من جائز التصرف في المال، فإن أودعه صبى أو سفيه لم يقبل لانه تصرف في المال، فلم يصح من الصبى والسفيه كالبيع، فإن أخذها منه ضمنها، لانه أخذ ماله من غير إذن فضمنه كما لو غصبه، ولا يبرأ من الضمان إلا بالتسليم إلى الناظر في ماله، كما نقول فيما غصبه من ماله، وإن خاف المودع أنه إن لم يأخذ منه استهلكه فأخذه ففيه وجهان، بناء على القولين في المحرم إذا خلص طائرا من جارجة وأمسكه ليحفظه
(أحدهما)
لا يضمن، لانه قصد حفظه
(والثانى)
يضمن، لانه ثبتت يده عليه من غير ائتمان (الشرح) الاحكام: يشتمل هذا الفصل على أمور: أولها: لا يجوز لاحد أن يقبل الوديعة الا من جائز التصرف، وكما عرفنا من قبل أنه العاقل البالغ ثانيها: إذا أودعه من لا يجوز له التصرف فقبله منه ضمن الوديعة وانتقلت يده من يد أمينة إلى يد ضامنة كالغاصب ثالثها: إذا أراد أن يبرئ ذمته بعد قبض الوديعة فإن عليه أن يسلمها إلى(14/174)
الناظر في مال الصبى أو المحجور عليه.
رابعها: إذا خشى على مال الصبى أو السفيه التلف أو الهلاك أو التبذير أو استهلاكه في غير ما يصلح شأنه كان عليه أن يقبله صيانة له وحفظا من الضياع، كالمحرم إذا خلص طائرا من جارحة وأمسكه ابتغاء حفظه.
خامسا: إذا قبله على هذا النحو في الامر الرابع هل عليه ضمانه أم لا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمن لان أخذه كان ضرورة اقتضاها واجب حفظ المال وصيانته
(والثانى)
وجب عليه الضمان.
لانه استقرت يده على الوديعة من غير توفر شرط الائتمان وهو يتسلمها من غير جائز التصرف فكان عليه الضمان كما أسلفنا في الامر الثاني ولا يزول عنه الضمان بردها إليه، وإنما بدفعها إلى وليه الناظر له في ماله أو الحاكم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح إلا عند جائز التصرف، فإن أودع صبيا أو سفيها لم يصح الايداع، لان القصد من الايداع الحفظ، والصبى والسفيه ليسا من أهل الحفظ، فإن أودع واحدا منهما فتلف عنده لم يضمن، لانه لا يلزمه حفظه فلا يضمنه، كما لو تركه عند بالغ من غير إيداع فتلف، وإن أودعه فأتلفه ففيه وجهان
(أحدهما)
يضمن لانه لم يسلطه على اتلافه فضمنه بالاتلاف، كما لو أدخله داره فأتلف ماله
(والثانى)
لا يضمن، لانه مكنه من اتلافه فلم يضمنه، كما لو باع منه شيئا وسلمه إليه فأتلفه.
(الشرح) الاحكام: كما لا يجوز للعاقل المكلف الرشيد أن يقبل الوديعة من الصبى والسفيه حسبما أسلفنا من البيان، فإنه لا يجوز له أن يودع عند صبى أو سفيه أو مجنون لان الايداع مقصود للحفظ، وهؤلاء ليسوا من أهل الحفظ وهم مفتقرون إلى من يحفظ لهم مالهم، فلا يحفظون مال غيرهم فإذا أودع رجل عند صبى أو معتوه وديعة فتلفت في يده لم يضمنها، سواء حفظها أو فرط فيها، فإن أتلفها أو أكلها أو استهلكها ضمنها في ظاهر المذهب، وبه قال القاضى من الحنابلة والخرقى وابن قدامة، وذهب بعض الحنابلة، وهو(14/175)
قول أبى حنيفة وبعض أصحابنا إلى أنه لا ضمان عليه، لان ربها سلطه على إتلافها بدفعها إليه، فلا يلزمه ضمانها، ألا ترى أنه لو دفع إلى صغير سكينا فوقع عليها كان ضمانه على عاقلته؟ ولنا أن ما ضمنه باتلافه قبل الايداع ضمنه بعد الايداع كالبالغ، ولا يصح قولهم: إنه سلطه على إتلافها لانه استحفظه إياها، وفارق دفع السكين فانه سبب للاتلاف، ودفع الوديعة بخلاف ذلك (فرع)
إذا ترك ماله عند رجل عاقل من غير إيداع فتلف لا ضمان عليه، كما لو أودعه ويفارق الايداع من حيث التفريط، فلو فرط فيه لم يضمنه في ظاهر المذهب بخلاف المودع وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وتنعقد الوديعة بما تنعقد به الوكالة من الايجاب بالقول، والقبول بالفعل، وتنفسخ بما تنفسخ به الوكالة من العزل والجنون والاغماء والموت، كما تنفسخ الوكالة، لانه وكالة في الحفظ، فكان كالوكالة في العقد والفسخ.
(الشرح) الاحكام: وتتبع الوديعة الوكالة في جوازها وانعقادها وفسخها، فمن هنا لا تنعقد إلا بالايجاب والقبول.
وصورة الايجاب أن يدفع الوديعة إليه - وهذا فعل - فإذا كانت سيارة فأدخلها مرساه أو حظيرته أو جراشه وقال له: هذه سيارتي عندك وديعة صح الايجاب.
أما القبول فبأى لفظ دال على القبول يصح عقد الوديعة أما الفسخ فيجرى فيه ما يجرى في فسخ الوكالة، فإذا أراد المودع ردها انفسخ عقدها، لانه متبرع بالقبول.
وإذا أراد ربها استردادها وفسخ عقدها كان له ذلك لانه مالكها، كما تنفسخ بجنون أحدهما أو موته أو اغمائه، لان استمرار العقد ينبغى أن تتوفر فيه شروط العقد ابتداء، ويبطل العقد ما يمنعه ابتداء.
ففى حالة عزل الوديع نفسه يرد الوديعة إلى ربها، وفى حالة الجنون أو(14/176)
الاغماء يردها إلى الناظر في مال مالكها، وفى حالة الموت يردها إلى وارثه، فان لم يفعل فقد زال الائتمان وصار ضامنا كالغاصب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والوديعة أمانة في يد المودع، فان تلفت من غير تفريط لم تضمن
لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال " من أودع وديعة فلا ضمان عليه " وروى ذلك عن أبى بكر وعمر وعلى وابن مسعود وجابر رضى الله عنهم، وهو اجماع فقهاء الامصار، ولانه يحفظها للمالك فكانت يده كيده، ولان حفظ الوديعة معروف واحسان، فلو ضمنت من غير عدوان زهد الناس في قبولها، فيؤدى إلى قطع المعروف، فان أودعه وشرط عليه الضمان لم يصر مضمونا لانه أمانة فلا يصير مضمونا بالشرط، كالمضمون لا يصير أمانة بالشرط.
وإن ولدت الوديعة ولدا كان الولد أمانة، لانه لم يوجد فيه سبب يوجب الضمان لا بنفسه ولا بأمه، وهل يجوز له امساكه؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجوز بل يجب أن يعلم صاحبه، كما لو ألقت الريح ثوبا في داره
(والثانى)
يجوز، لان ايداع الام ايداع لما يحدث منها.
(الشرح) حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رواه الدارقطني.
وقال الحافظ ابن حجر: فيه ضعف، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى بلفظ " ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان " وقال الدارقطني: انما نروى هذا عن شريح غير مرفوع.
قال الحافظ ابن حجر: في اسناده ضعيفان.
وقد روى ابن ماجه عن ابن عمرو بلفظ " من أودع وديعة فلا ضمان عليه " وفى اسناده المثنى بن الصباح وهو متروك، وتابعه ابن لهيعه فيما ذكره البيهقى.
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه من حديث أبى أمامة الباهلى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في حجة الوداع " العارية مؤداة، والزعيم غارم "(14/177)
وحديث الفصل الذى رواه الدارقطني يتجه ضعفه إلى ما اشتهر بين المحدثين من أن عمرو بن شعيب يروى عن أبيه وأبوه شعيب يروى عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، وفى سماع شعيب من جده نظر، وقد أثبتت السماع في حاشيتي على تفسير القرآن للعلامة صديق خان المسمى " بفتح البيان في مقاصد القرآن " الصادرة عن مطبعة الامام.
وشعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو، فالضمير في جده يعود على شعيب لا على عمرو، ويمكن حمل الضمير على عمرو وصرف الجد إلى عبد الله لان جد الاب جد، والمدار على ثبوت لقاء شعيب لجده وسماعه منه، وليس منصرفا إلى جده محمد بن عبد الله بن عمرو أما الاحكام: ففى الحديث دليل على أنه لا ضمان على من كان أمينا على عين من الاعيان كالوديع والمستعير، أما الوديع فلا يضمن بالاجماع إلا لجناية منه على العين.
وقد حكى في البحر الاجماع على ذلك.
وتأول ما حكى عن الحسن البصري أن الوديع لا يضمن إلا بشرط الضمان بأن ذلك محمول على ضمان التفريط لا الجناية المتعمدة، والوجه في تضمينه الجناية أنه صار بها خائنا، والخائن ضامن لقوله صلى الله عليه وسلم " ولا على المستودع غير المغل ضمان " والمغل هو الخائن.
وهكذا يضمن الوديع إذا وقع منه تعد في حفظ العين لانه نوع من الخيانة.
وقد استدل القائلون بالضمان بحديث الحسن البصري عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " زاد أبو داود والترمذي: قال قتادة ثم نسى الحسن فقال: هو أمينك لا ضمان عليه قال المقبلى في المنار: يستدلون بهذا الحيث على التضمين ولا أراه صريحا، لان اليد الامينة أيضا عليها ما أخذت حتى ترد، والا فليست بأمينة
ومستخبر عن سر ليلى تركته
* بعمياء من ليلى بغير يقين يقولون خبرنا فأنت أمينها
* وما أنا ان خبرتهم بأمين إنما كلامنا هل يضمنها لو تلفت بغير جناية، وليس الفرق بين المضمون(14/178)
وغير المضمون إلا هذا.
وأما الحفظ فمشترك، وهو الذى تفيده " على " فعلى هذا لم ينس الحسن كما زعم قتادة حين قال " هو أمينك لا ضمان عليه " بعد رواية الحديث.
اه قال الشوكاني " ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام من قلة الجدوى وعدم الفائدة، وبيان ذلك أن قوله " لان اليد الامينة عليها ما أخذت حتى ترد، والا فليست بيد أمينة " يقتضى الملازمة بين عدم الرضا وعدم الامانة، فيكون تلف الوديعة والعارية بأى وجه من الوجوه قبل الرد مقتضيا لخروج الامين عن كونه أمينا وهو ممنوع، فان المقتضى لذلك انما هو التلف بجناية أو خيانه، ولا نزاع في أن ذلك موجب للضمان، إنما النزاع في تلف لا يصير به الامين خارجا عن كونه أمينا كالتلف بأمر لا يطاق دفعه، أو بسبب سهو أو نسيان أو بآفة سماويه أو سرقة، أو ضياع بلا تفريط، فانه يوجد التلف في هذه الامور مع بقاء الامانة " انتهى.
والمقتضى الذى يتوقف عليه فهم الحديث هو الامر المقدور عليه وهو الضمان أو الحفظ، وكل منهما صالح للتقدير ولا يقدران معا، لما تقرر من أن المقتضى لا عموم له، فمن قدر الضمان أوجبه على الوديع والمستعير، ومن قدر الحفظ أوجبه عليهما ولم يوجب الضمان إذا وقع التلف مع الحفظ المعتبر، وبهذا تعرف أن التأدية لغير التالف ليس على ما ينبغى وأما مخالفة رأى الحسن لروايته فقد تقرر في الاصول أن العمل بالرواية
لا بالرأى، لاسيما إذا تعززت الرواية بعمل الصحابة رضوان الله عليهم ورأيهم وفى مقدمتهم أبو بكر وعمر وعلى وابن مسعود وجابر وممن قال بأن الوديعة أمانة لا يترتب على تلفها ضمان من الوديع إذا لم يفرط شريح والنخعي ومالك وأبو الزناد والثوري والاوزاعي والشافعي وأصحاب الرأى وأحمد، وعن أحمد رواية أخرى " ان ذهبت الوديعة من بين ماله غرمها لما روى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه ضمن أنس بن مالك وديعة ذهبت من بين ماله، وأصحاب أحمد يرجحون قول الجمهور على هذا القول(14/179)
دليلنا: أن الله تعالى سماها أمانة والضمان ينافى الامانة، وحديث عمرو بن شعيب وغيره وعمل الصحابة ومن ذكرنا من أئمة أهل العلم، ولان المستودع إنما يحفظها لصاحبها متبرعا من غير نفع يعود عليه فلو لزمه الضمان لامتنع الناس من قبول الودائع، وذلك مضر لما بيناه من الحاجة إليها، وما روى عن عمر محمول على التفريط من أنس في حفظها، فلا ينافى ما ذكرنا.
(فرع)
إذا شرط رب الوديعة على المستودع ضمان الوديعة فقبله أو قال: أنا ضامن لها لم يضمن، وبهذا قال الشافعي والثوري وإسحاق وابن المنذر، وقال أحمد: إذا قال: أنا ضامن لها فسرقت لا شئ عليه، وكذلك كل ما أصله الامانة كالمضاربة ومال الشركة والرهن والوكاله.
دليلنا: أنه شرط ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه فلم يلزمه، كما لو شرط ضمان ما يتلف في يد مالكه، لانه أقامه مقام نفسه وكالمضمون لا يصير أمانة بالشرط
(فرع)
إذا ولدت الوديعة من دابة أو سائمة أو رقيق ولدا، كان ما ولدته أمانة، لانه لا سبب منه ولا من أمه يوجب الضمان، وهل يجوز له إمساكه، باعتبار أنه قدر زاد عن قدر ما أودع عنده؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
لا يجوز، بل يجب أن يعلم صاحبه، كما لو ألقت الريح ثوبا في داره
(والثانى)
يجوز إمساكه، لان إيداع الام إيداع لما يحدث منها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ومن قبل الوديعة نظرت، فإن لم يعين المودع الحرز لزمه حفظها في حرز مثلها، فإن أخر إحرازها فتلفت لزمه الضمان، لانه ترك الحفظ من غير عذر فضمنها، فإن وضعها في حرز دون حرز مثلها ضمن، لان الايداع يقتضى الحفظ، فإذا أطلق حمل على التعارف، وهو حرز المثل، فإذا تركها فيما دون حرز مثلها فقد فرط فلزمه الضمان، وإن وضعها في حرز فوق حرز مثلها لم يضمن لان من رضى بحرز المثل رضى بما فوقه، فإن قال: لا تقفل عليه فأقفل عليه، أو قال: لا تقفل عليه قفلين، فأقفل قفلين، أو قال: لا ترقد عليه فرقد عليه(14/180)
فالمذهب أنه لا يضمن، لانه زاده في الحرز، ومن أصحابنا من قال: يضمن، لانه نبه اللص عليه وأغراه به.
(فصل)
وان عين له الحرز فقال احفظها في هذا البيت فنقلها إلى ما دونه ضمن لان من رضى حرزا لم يرض بما دونه وإن نقلها إلى مثله أو إلى ما هو أحرز منه لم يضمن، لان من رضى حرزا رضى مثله وما هو أحرز منه، وإن قال له احفظها في هذا البيت ولا تنقلها فنقلها إلى ما دونه ضمن، لانه لم يرض بما دونه وإن نقلها إلى مثلها أو إلى ما هو أحرز منه فَفِيهِ وَجْهَانِ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: لَا يضمن لانه جعله في مثله، فأشبه إذا لم ينهه عن النقل.
وقال أبو إسحاق: يضمن لانه نهاه عن النقل فضمنه بالنقل، فإن خاف عليه في الحرز المعين من نهب أو حريق نظرت، فإن كان النهى مطلقا لزمه النقل ولا يضمن، لان النهى عن النقل للاحتياط في حفظها، والاحتياط في هذا
الحال أن تنقل، فلزمه النقل، فإن لم ينقلها حتى تلفت ضمنها لانه فرط في الترك وإن قال: له لا تنقل وإن خفت عليها الهلاك فنقلها لم يضمن، لانه زاده خيرا وان تركها حتى تلفت ففيه وجهان.
قال أبو العباس وأبو إسحاق: لا يضمن، لان نهيه مع خوف الهلاك أبرأ من الضمان وقال أبو سعيد الاصطخرى: يضمن لان نهيه عن النقل مع خوف الهلاك لا حكم له، لانه خلاف الشرع، فيصير كما لو لم ينهه، والاول أظهر، لان الضمان يجب لحقه فسقط بقوله: وان خالف الشرع كما لو قال لغيره: اقطع يدى أو أتلف مالى.
(الشرح) قوله: الحرز المكان الذى يحفظ فيه والجمع أحراز مثل حمل وأحمال، وأحرزت المتاع جعلته في الحرز، ويقال: حرز حريز للتأكيد، كما يقال: حصن حصين واحترز من كذا أي تحفظ وتحرز مثله، ومنه قولهم: أحرز قصب السبق، إذا سبق إليها فضمها دون غيره.
أما الاحكام فإن الوديع إذا لم يعين له رب الوديعة المكان الذى يحفظها فيه، عليه أن يجتهد في حفظها بما يحفظ به مثلها، فإذا اشترط عليه أن يحفظها في(14/181)
صفائح وكانت زيتا أو سمنا فحفظها في زجاج ابتغاء حفظها من الرشح فكسرت القنائن كان عليه ضمانها لانه خالف مالكها، فإذا أمره أن يحفظها في زجاج فكسرت القنائن فلا ضمان عليه فإذا خالفه وحفظها في براميل أو صفائح لا ينقص منها كيلها ولا وزنها فقد زاد خيرا بهذه المخالفة وكان على أمانته، فلو أمره أن يحفظها في حرز من الجلد فحفظها في قماش ضمن.
فإذا أمره أن لا يقفل عليها فأقفل عليها، أو أمره أن لا يقفل قفلين فأقفل قفلين، أو قال لا ترقد عليها فرقد عليها فظاهر المذهب عدم الضمان لانها أمور تزيد في وسائل الحفظ، وقوة الحرز.
ومن أصحابنا من قال: يضمن، لانه بكثرة احتياطه أو نومه على الصندوق أو شدة اهتمامه يشد انتباه اللصوص إليه.
وقال أصحاب أحمد: إذا بالغ في حفظها من غير حاجة ضمن.
(فرع)
فإذا عين له الحرز فان نقلها إلى ما دونه - أعنى أقل كفاءة في الحفظ - ضمن، فإذا نقلها إلى حرز مثل الذى عينه أو أعلا كفاءة وحفظا؟ ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبى سعيد الاصطخرى: لا يضمن لانه لا فرق بين الحرزين فكان كأن لم ينقلها، أو كأن ربها لم يعينه، أو لم ينهه عن غير ما عينه.
والثانى وهو قول أبى اسحاق المروزى.
يضمن، لانه نهاه عن النقل فإذا خالف انتقل من الائتمان إلى الضمان.
(فرع)
إذا كان الحرز الذى عينه المودع معرضا لخطر الحريق أو السرقة أو كانت رطوبة الارض تنلفه نظرت فان كان نهيه مطلقا بأن قال.
لا تنقلها من هنا لزمه مخالفته، لان النهى أريد به التنبيه والاحتياط لحفظها، فان لم ينقلها حتى تلفت ضمنها لتفريطه بتركها معرضة للتلف.
(فرع)
إذا قال له لا تنقلها وان خفت عليها الهلاك، فخاف عليها الهلاك ونقلها لم يضمن بالمخالفة لانه زاده خيرا، أما إذا لم ينقلها فتلفت فَفِيهِ وَجْهَانِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ.
لا يضمن لان نهيه مع خوف الهلاك أبرأه من الضمان.
قال أبو سعيد الاصطخرى: عليه الضمان، لان هذا النهى يتعارض مع(14/182)
مسئولية الامين في الاجتهاد وعدم التفريط شرعا، فلا حكم للنهى وكأنه لم يكن وقد رجح الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الاول لانه بهذه الصورة من النهى قد أهدر حقه في الضمان وإن خالف الشرع، كما لو أمر غيره بقطع يده أو إتلاف
ماله فإنه لا ضمان له، وإن أثم الفاعل، وبهذا قال الحنابلة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فإن أودعه شيئا فربطه في كمه لم يضمن، فإن تركه في كمه ولم يربطه نظرت، فإن كان خفيفا إذا سقط لم يعلم به ضمنه، لانه مفرط في حفظه وإن كان ثقيلا إذا سقط علم به لم يضمن لانه غير مفرط، وان تركه في جيبه فإن كان مزررا أو كان الفتح ضيقا لم يضمن لانه لا تناله اليد، وان كان واسعا غير مزرر ضمن لان اليد تناله.
وان أودعه شيئا فقال: أربطه في كمك فأمسكه في يده فتلف فقد روى المزني أنه لا يضمن، وروى الربيع في الام أنه يضمن، فمن أصحابنا من قال: هو على قولين
(أحدهما)
لا يضمن، لان اليد أحرز من الكم، لانه قد يسرق من الكم ولا يسرق من اليد
(والثانى)
أنه يضمن، لان الكم أحرز من اليد، لان اليد حرز مع الذكر دون النسيان والكم حرز مع النسيان والذكر.
ومن أصحابنا من قال: ان ربطها في كمه وأمسكها بيده لم يضمن، لان اليد مع الكم أحرز من الكم وان تركها في يده ولم يربطها في كمه ضمن، لان الكم أحرز من اليد، وحمل الروايتين على هذين الحالين.
وان أمره أن يحرزها في جيبه فأحرزها في كمه ضمن، لان الجيب أحرز من الكم، لان الكم قد يرسله فيقع منه ولا يقع من الجيب، وان قال احفظها في البيت فشدها في ثوبه وخرج ضمنها، لان البيت أحرز، فان شدها في عضده، فان كان الشد مما يلى أضلاعه لم يضمن، لانه أحرز من البيت، وان كان من الجانب الآخر ضمن، لان البيت أحرز منه، وان دفعها إليه في السوق وقال: احفظها في البيت فقام في الحال ومضى إلى البيت فأحرزها لم يضمن، وان قعد في السوق وتوانى ضمنها لانه حفظها فيما دون البيت.(14/183)
وان أودعه خاتما وقال: احفظه في البنصر فجعله في الخنصر ضمن، لان الخنصر دون البنصر في الحرز، لان الخاتم في الخنصر أوسع فهى إلى الوقوع اسرع.
وان قال اجعله في الخنصر فجعله في البنصر لم يضمن، لان البنصر أحرز لانه أغلظ والخاتم فيه أحفظ.
وان قال اجعله في الخنصر فلبسه في البنصر فانكسر ضمن لانه تعدى فيه.
(الشرح) هذا الفصل تتلخص أحكامه فيما إذا خالف الوديع المودع وكانت المخالفة من تهاون أو تفريط أو ترتب عليها تلف الوديعة ضمن في كل الصور التى ساقها المصنف، لانه لو قال له اربط الدراهم في كمك فأمسكها بيده فضاعت لارتخاء يده أو انفراج أصابعه بنوم أو غفلة أو نسيان فانه يضمن، لان ضياعها كان بسبب المخالفة.
ولو قال له: اربطها في كمك فربطها ولم يحكم ربطها ضمن.
ولو قال له: ضعها في كور عمامتك فلم يشد عليها العمامة ضمن وهكذا.
والجيب عندهم ما ينفتح على النحر.
قال تعالى (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أراد المودع السفر ووجد صاحبها أو وكيله سلمها إليه، فان لم يجد سلمها إلى الحاكم، لانه لا يمكن منعه من السفر، ولا قدرة على المالك ولا وكيله، فوجب الدفع إلى الحاكم، كما لو حضر من يخطب المرأة والولى غائب، فان الحاكم ينوب عنه في التزويج، فإن سلم إلى الحاكم مع وجود المالك أو وكيله ضمن، لان الحاكم لا ولاية له مع وجود المالك أو وكيله، كما لا ولاية له في تزويج المرأة مع حضور الولى أو وكيله، فان لم يكن حاكم سلمها إلى أمين، لان النبي صلى الله عليه وسلم " كانت عنده ودائع فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن واستخلف عليا كرم الله وجهه في ردها، وان سلم إلى أمين مع وجود الحاكم،
ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمن وهو ظاهر النص، وهو قول أبى اسحاق لانه أمين فأشبه الحاكم
(والثانى)
يضمن، وهو ظاهر قوله في الرهن.
وهو قول أبى سعيد الاصطخرى، لان أمانة الحاكم مقطوع بها، وأمانة الامين غير(14/184)
مقطوع بها فلا يجوز ترك ما يقطع به بما لا يقطع به كما لا يترك النص للاجتهاد فإن لم يكن أمين لزمه أن يسافر بها، لان السفر في هذه الحال أحوط، فإن وجد المالك أو الحاكم أو الامين فسافر بها ضمن، لان الايداع يقتضى الحفظ في الحرز، وليس السفر من مواضع الحفظ، لانه إما أن يكون مخوفا أو آمنا لا يوثق بأمنه، فلا يجوز مع عدم الضرورة.
وأن دفنها ثم سافر نظرت فان كان في موضع لا يد فيه لاحد ضمن، لان ما تتناوله الايدى معرض للاخذ، فان كان في موضع مسكون فان لم يعلم بها أحدا ضمن، لانه ربما أدركته المنية في السفر فلا تصل إلى صاحبها، فإن أعلم بها من لا يسكن في الموضع ضمن، لان ما في البيت انما يكون محفوظا بحافظ، فان أعلم بها من يسكن في الموضع فان كان غير ثقة ضمن، لانه عرضه للاخذ.
وإن كان ثقة فهو كما لو استودع ثقة ثم سافر، وقد بينا حكم من استودع ثم سافر (الشرح) أم أيمن هي بركة بنت ثعلبة بن عمرو مَوْلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورثها عن ابيه وهى أم أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وابن حبه، تزوجها زيد بن حارثة بعد أبى أيمن وكان حبشيا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أم أيمن أمي بعد أمي هاجرت بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عائشة وأسماء وزيد وأسامة، وأدركت المدينة والمسجد يبنى وقد عطشت وهى مهاجرة فنزل لها دلو من السماء فشربت فما ظمئت بعد ذلك أبدا، وكانت تقول ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش في الصوم في الهواجر فما عطشت.
والخبر وإن كان شائعا في كتب الفقه، إلا أنه غير موجود في الكتب الستة، وليس في مسند أحمد أو سنن الدارمي أو سنن الدارقطني أو موطأ مالك، وليس في مجمع الزوائد للهيثمي.
وليس في أمهات فقه الحديث كنيل الاوطار وسبل السلام، وليس في شئ من كتب تراجم الصحابة كالاستيعاب وسير أعلام النبلاء.
وليس في كتب السير الا ما في ابن هشام أن ابن اسحاق قال: بلغني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هاجر جعل عليا على الودائع، ولم يذكر شيئا عن أم أيمن رضى الله عنها.(14/185)
أما الاحكام فانها تشتمل على ما يأتي: (أولا) يجب على الوديع إذا أزمع السفر أن يردها، فان لم يجد ربها فوكيله والا سلمها إلى الحاكم.
قال الشافعي في الام " فان كان المستودع حاضرا أو وكيله لم يكن له أن يسافر حتى يردها إليه أو إلى وكيله، أو يأذن له أن يودعها من رأى فان فعل فأودعها من شاء فهلكت ضمن " وقال الشافعي أيضا " إذا استودع الرجل الرجل وديعة وأراد المستودع سفرا فلم يثق بأحد يجعلها عنده فسافر بها برا أو بحرا فهلكت ضمن.
وكذلك لو أراد سفرا فجعل الوديعة في بيت مال المسلمين فهلكت ضمن " اه (قلت) وهذا واضح من كلام المصنف أن الحاكم لا ولاية له مع وجود المالك (ثانيا) إذا لم يقدر على ردها أو ايداعها عند الحاكم فقد قال الشافعي " وان كان غائبا فأودعها من يودع ماله ممن يكون أمينا فهلكت لم يضمن، فان أودعها من يودع ماله ممن ليست له أمانة فهلكت ضمن " ثم قال " لانه يجوز أن يوكل بماله غير أمين، ولا يجوز له أن يوكل بأمانته غير أمين. اه
(ثالثا) إذا أودعها أمينا مع وجود الحاكم فعلى الوجهين
(أحدهما)
وهو
ظاهر النص الذى أسلفنا نقله لا يضمن، وبه أخذ أبو إسحاق المروزى
(والثانى)
وهو ظاهر قول الشافعي في الرهن حيث يقول " وإذا أراد العدل الذى عليه الرهن الذى هو غير الراهن والمرتهن رده بلا علة أو لعلة والمرتهن والراهن حاضران فله ذلك وان كانا غائبين أو أحدهما لم يكن له اخراجه من يدى نفسه، فان فعل بغير أمر الحاكم فهلك ضمن، وان جاء الحاكم فان كان له عذر أخرجه من يديه.
وذلك أن يبدو له سفر أو يحدث له.
وان كان مقيما لشغل أو علة، وان لم يكن له عذر يحبسه ان كان قريبا حتى يقدما أو يوكلا، فان كانا بعيدا لم أر عليه أن يضطره إلى حبسه، وانما هي وكالة وكل بها بلا منفعة له فيها، ويسأله ذلك فان طابت نفسه بحبسه والا أخرجه إلى عدل غيره " اه ولان أمانة الحاكم أمر قطعي وأمانة غيره كالامين أمر ظنى والقطعي مقدم على الظنى، كالنص يرد الاجتهاد(14/186)
(رابعا) وإن أراد السفر بها وقد نهاه المالك عن ذلك ضمنها لانه مخالف لصاحبها، وإن لم يكن نهاه لكن الطريق مخوف أو البلد الذى يسافر إليه مخوف ضمنها لانه فرط في حفظها، وإن لم يكن كذلك فله السفر بها عند أحمد وأبى حنيفة سواء كان به ضرورة إلى السفر أو لم يكن.
وقال الشافعي: إن سافر بها مع القدرة على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو أمين ضمنها لانه يسافر بها من غير ضرورة، أشبه ما لو كان السفر مخوفا.
دليلنا: أنه متى سافر بها مع القدرة على مالكها أو نائبه أو الحاكم بغير إذنه فهو مفرط عليه الضمان، لانه يفوت على صاحبها إمكان استرجاعها، ويخاطر بها لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنَّ المسافر لعلى قلت إلا ما وقى الله " والقلت الهلاك على ما أسلفنا القول.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وإن حضره الموت فهو بمنزلة من حضره السفر، لانه لا يمكنه الحفظ مع الموت بنفسه: كما لا يمكنه الحفظ مع السفر، وقد بينا حكمه، وإن قال في مرضه: عندي وديعة ووصفها، ولم يوجد ذلك في تركته، فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق: لا يضرب المفر له مع الغرماء بقيمتها، لان الوديعة أمانة فلا يضمن بالشك، ومن أصحابنا من قال يضرب المقر له بقيمتها مع الغرماء وهو ظاهر النص، لان الاصل وجوب ردها، فلا يسقط ذلك بالشك.
(الشرح) قوله: لا يضرب المقر له.
قال ابن بطال: مأخوذ من الضارب الذى يضرب بالقداح، وهو الموكل بها، ومثله الضريب والجمع الضرباء، لانه يضرب مع الغرماء بسهم.
أما الاحكام فقد قال المصنف: ان حكم الميت حكم المسافر، وقد مضى في الفصل قبله.
أما إذا قال في مرض الموت: عندي وديعة ثم وصفها، فلما مات لم توجد في تركته فقد اختلف فيه أصحابنا، فقد ذهب أبو إسحاق المروزى إلى أنها أمانة لا يجوز أن يسقط الائتمان فيه بالشك، ومن ثم لا يضرب مالكها مع(14/187)
الغرماء، ومنهم من قال بظاهر النص في مختصر المزني حيث يقول الشافعي " وإذا استودع الرجل الوديعة فمات المستودع وأقر بالوديعة بعينها، أو قامت عليها بينة - وعليه دين يحيط بماله - كانت الوديعة لصاحبها، فإن لم يعرف الوديعة بعينها ببينة تقوم ولا إقرار من الميت، وعرف لها عدد أو قيمة كان صاحب الوديعة كغريم من الغرماء " قلت: وذلك أقيس، لان الله تعالى أمر برد الامانات إلى أهلها، فكان ردها واجبا، ولا يرد الواجب بمجرد الشك.
(فرع)
إذا أوصى وصيته كتابة وبين فيها وصف الوديعة ووجدت مطابقة
لوصفه كانت الوصية بمثابة بينة لصاحبها إذا كان تحريرها مؤرخا في تاريخ قريب من يوم موته، فإن كان في تاريخ بعيد نظرت، فإذا ظهرت احتمالات شرائها من مالكها أو وجدت مبايعة محررة بتاريخ لاحق بطلت الوصيه واعتبرت المبايعة أما إذا وضعها في حرز أو ظرف وكتب عليها اسم صاحبها: فلا تعد هذه الكتابة بينة لمالكها، لانه يحتمل أن يكون الظرف أو الحرز لوديعة قبل هذه، أو كانت وديعة فابتاعها.
(فرع)
إذا وجد بين أوراق الميت بيان بأن لفلان عندي وديعه لم يلزمه بذلك لجواز أن يكون قد ردها ونسى أن يضرب على ما كتب، أو غير ذلك.
(فرع)
قال الشافعي: وإذا مات الرجل وعليه دين معروف وقبله وديعة بعينها فإن أبا حنيفه يقول: جميع ما ترك بين الغرماء وصاحب الوديعة بالحصص وكذلك قال ابن أبى ليلى ثم ساق رواية أبى حنيفة عن إبراهيم مثله، ورواية الحجاج بن أرطاة عن عطاء وإبراهيم مثله.
(فرع)
إذا ترك الوديع الوصية عند الاشراف على الموت - والوصية كما ستأتي إن شاء الله تعالى مفصلة - أن يعلم بها القاضى أو الامين عند عدم وجود القاضى مع ذكر صفاتها إن كانت غائبه، أو الاشارة إليها إن كانت حاضرة مع الامر بردها إلى المالك أو وكيله فورا، وعلى الوديع إذا مرض مرضا مخوفا أن يبادر بردها إلى ربها أو وكيله فان لم يقدر ردها إلى الحاكم العادل إن وجده، أو يوصى بها إلى من ذكرنا، فان لم يكن حاكم ردها إلى أمين، فان لم يفعل ضمنت(14/188)
في تركته، وكذا لو أوصى بها إلى فاسق ضمن، وقد ذهب السبكى إلى الضمان إذا تلفت بعد الموت لا قبله وكان لم يوص أو يودع كما أسلفنا، وذهب الاسنوى إلى أنه يصير ضامنا بمجرد المرض حتى لو تلفت بآفة سماوية لتفريطه في ردها، ومحل
هذا كله عند التمكن منه ان بالرد أو الايداع أو الوصية، أما موت الفجاءة أو الغيلة فلا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أودع الوديعة غيره من غير ضرورة ضمنها لان المودع لم يرض بأمانة غيره، فان هلكت عند الثاني جاز لصاحبها أن يضمن الاول، لانه سلم ما لم يكن له تسليمه، وله أن يضمن الثاني، لانه أخذ ما لم يكن له أخذه فان ضمن الثاني نظرت، فان كان قد علم بالحال لم يرجع بما ضمنه على الاول، لانه دخل على أنه يضمن فلم يرجع.
فان لم يعلم ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه يرجع لانه دخل على أنه أمانه.
فإذا ضمن رجع على من غره
(والثانى)
أنه لا يرجع.
لانه هلك في يده فاستقر الضمان عليه.
فان ضمن الاول.
فان قلنا: ان الثاني إذا ضمن يرجع على الاول - لم يرجع الاول عليه وان قلنا انه لا يرجع رجع الاول عليه.
فأما إذا استعان بغيره في حملها ووضعها في الحرز.
أو سقيها أو علفها.
فانه لا يضمن.
لان العادة قد جرت بالاستعانة ولانه ما أخرجها عن يده ولا فوض حفظها إلى غيره.
(الشرح) قوله: يضمن الاول - من ضمن يضمن بتضعيف الميم لتتعدى إلى مفعولين.
ومعناها ألزمه بالضمان.
وقال بعض الفقهاء: الضمان مأخوذ من الضم.
وهو غلط من جهة الاشتقاق.
لان نون الضمان أصلية.
وضمنت الشئ كذا جعلته محتويا عليه هكذا ذكر الفيومى في المصباح.
(أما الاحكام) فقد قال المزني: قال الشافعي: وإذا أودع الرجل الوديعة فاستودعها غيره ضمن ان تلفت.
لان المستودع رضى بأمانته لا أمانة غيره ولم يسلطه على أن يودعها غيره.
وكان متعديا ضامنا ان تلفت اه.(14/189)
(قلت) للايداع لدى غيره صورتان (إحداهما) أن يودعها غيره لغير عذر فعليه الضمان بغير خلاف في المذهب.
وهو قول شريح ومالك وأحمد وأصحابه وأبى حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه.
وقال ابن أبى ليلى لا ضمان عليه، لان عليه حفظها وإحرازها.
وقد أحرزها عند غيره وحفظها به.
ولانه يحفظ ماله بإيداعه، فإذا أودعها فقد حفظها بما يحفظ به ماله فلم يضمنها، كما لو حفظها في حرزه.
دليلنا أنه خالف المودع فضمنها، كما لو نهاه عن ايداعها، فإنه أمره بحفظها بنفسه ولم يرض لها غيره فإذا ثبت هذا فان له تضمين الاول وليس للاول الرجوع على الثاني لانه دخل معه في العقد على أنه أمين لا ضمان عليه، فان أحب المالك تضمين الثاني كان له ذلك.
وقال أبو حنيفة ليس له تضمين الثاني.
وهذا هو ظاهر كلام أحمد إذ ذكر الضمان على الاول فقط.
دليلنا أنه أخذ ما لم يكن له أخذه، فإذا استعمل المالك حقه وضمنه، فان لم يكن يعلم - أعنى الوديع الثاني - بأن هذه الوديعة ليست لمن أودعها إياه ففى رجوع الثاني على الاول وجهان
(أحدهما)
أنه يرجع عليه لانه غره ولم يوضح له الامر
(والثانى)
لا يرجع لانها تلفت في يده فاستقر الضمان عليه، فان قلنا بالوجه الاول برجوع الثاني على الاول فليس للاول أن يرجع عليه.
وإن قلنا بالوجه الثاني رجع عليه وإن كان يعلم فلم يغرر به الاول فليس له الرجوع عليه وجها واحدا (فرع)
للوديع أن يعين للوديعة إن كانت ماشية من يقوم على رعيها وسقيها، فان كانت تحتاج إلى حمل أو تنظيف أو صيانة فعهد بذلك لمن يقوم به مما جرى العرف ولا يعد هذا إيداعا لغيره وسيأتى مزيد له.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أودعه دراهم فخلطها بمثلها من ماله ضمن، لان صاحبها لم يرض أن يخلط ماله بمال غيره، فان خلطها بدراهم لصاحب الدراهم ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمن، لان الجميع له
(والثانى)
أنه يضمن وهو الاظهر، لانه(14/190)
لم يرض أن يكون أحدهما مختلطا بالآخر.
وإن أودعه دراهم في كيس مشدود فحله أو خرق ما تحت الشد ضمن ما فيه، لانه هتك الحرز من غير عذر، وإن أودعه دراهم في غير وعاء فأخذ منها درهما ضمن الدرهم لانه تعدى فيه ولا يضمن الباقي لانه لم يتعد فيه، فان رد الدرهم فان كان متميزا بعلامة لم يضمن غيره، وان لم يتميز بعلامة فقد قال الربيع يضمن الجميع، لانه خلط المضمون بغيره فضمن الجميع.
والمنصوص أنه لا يضمن الجميع، لان المالك رضى أن يختلط هذا الدرهم بالدراهم فلم يضمن.
فان أنفق الدرهم ورد بدله، فان كان متميزا عن الدراهم لم يضمن الدراهم لانها باقية كما كانت، وإن كان غير متميز ضمن الجميع لانه خلط الوديعة بمالا يتميز عنها فضمن الجميع (الشرح) الاحكام: إذا خلط دراهمه بمثلها من دراهمه ضمن عندنا، وبهذا قال الشافعي وأحمد وأصحاب الرأى.
وقال مالك: لا يضمن.
وقال ابن القاسم من المالكية: إن خلط دراهم بدراهم على وجه الحرز لم يضمن قال في الام: ولو أودعه عشرة دراهم فتعدى منها في درهم فأخرجه فأنفقه ثم أخذه فرده بعينه ثم هلكت الوديعة ضمن الدرهم ولا يضمن التسعة، لانه تعدى بالدرهم ولم يتعد بالتسعة، وكذلك إن كان ثوبا فلبسه ثم رده بعينه ضمنه وقال الربيع: قول الشافعي: إن كان الدرهم الذى أخذه ثم وضع عينه معروفا من الدراهم ضمن عينه ولم يضمن التسعة.
وان كان لا يتميز ضمن العشرة.
انتهى من الام، ولم أطلع على قول الربيع الذى أشار إليه الشيخ أبو إسحاق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان أودعه دابة فلم يسقها ولم يعلفها حتى ماتت ضمنها، لانها ماتت بسبب تعدى به فضمنها، وان قال لا تسقها ولا تعلفها فلم يسقها ولم يعلفها حتى ماتت ففيه وجهان.
قال أبو سعيد الاصطخرى: يضمن لانه لا حكم لنهيه، لانه يجب عليه سقيها وعلفها، فإذا ترك ضمن كما لو لم ينه عن السقى والعلف وقال أبو العباس وأبو إسحاق: لا يضمن.
لان الضمان يجب لحق المالك، وقد رضى بإسقاطه.(14/191)
(الشرح) الاحكام، قال الشافعي في الام: وإذا أودع الرجل الرجل الدابة فأمره بسقيها وعلفها، فأمر بذلك من يسقى دوابه ويعلفها فتلفت من غير جناية لم يضمن، وان كان سقى دوابه في داره فبعث بها خارخا من داره ضمن قال وإذا استودع الرجل الرجل الدابة فلم يأمره بسقيها ولا علفها فحبسها المستودع مدة إذا أتت على مثلها لم تأكل ولم تشرب تلفت فتلفت فهو ضامن.
وإن كانت تلفت في مدة قد تقيم الدواب في مثلها ولا تتلف فتلفت لم يضمن ممن تركها.
وإذا دفع إليه الدابة.
اه (قلت) فإذا أودعه بهيمة فأمره بعلفها وسقيها كان واجبا ذلك لوجهين.
(الاول) لحرمة صاحبها
(والثانى)
لحرمة البهيمة لحديث " دخلت امرأة النار في هرة " وإن لم يأمره بقيت في ذمته حرمة البهيمة، كما لو أطلق ولم يأمره.
وبهذا قال أحمد والشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يلزمه لانه استحفظه اياها ولم يأمره بعلفها والعلف على مالكها، فإذا لم يعلفها كان التفريط من مالكها دليلنا أنه لا يجوز له إتلافها أو التفريط فيها، فإذا أمره بحفظها تضمن الامر علفها وسقيها.
فان قدر المستودع على صاحبها أو وكيله طالبه بالانفاق عليها أو يردها عليه أو يأذن له في الانفاق عليها ليرجع به عليه.
فإذا عجز عن صاحبها أو وكيله رفع الامر إلى الحاكم، فان وجد لصاحبها مالا أنفق عليها منه، وان لم يجد مالا فعل ما يرى لصاحبها الحظ فيه من اجارتها أو بيع جزء منها فان تعذر عليه، علفها وأشهد على ذلك ليرجع به عليه، فإذا نهاه عن إطعامها لتخمة حاصلة لها فأطعمها فتلفت ضمن بالتعدي والمخالفة لعلمه بعلة النهى.
وبهذا قال أحمد وأصحابه.
وقال بعضهم يضمن مطلقا.
أما إذا نهاه عن إطعام بهيمة سليمة فانه لا يضمن إذا تلفت، وعليه إثم ترك إطعامها، لان الضمان يجب لحق المالك وقد أسقطه، وهو قول أبى العباس ابن سريج وأبى إسحاق المروزى.
وقال أبو سعيد الاصطخرى يضمن إذ لا حكم لنهيه عما أوجبه الله من حرمة البهيمه.
وقال الزركشي " لو كانت الدابة ملكا لغيره، كأن أودع الولى حيوان(14/192)
محجوره فيشبه أن نهيه كالعدم.
قال الشافعي: وإذا أودع الرجل الرجل شيئا من الحيوان ولم يأمره بالنفقة عليه انبغى له أن يرفعه إلى الحاكم حتى يأمره بالنفقة عليه ويجعله دينا على المستودع، ويوكل الحاكم بالنفقة من يقبضها منه وينفقها غيره لئلا يكون أمين نفسه أو ببيعها، وإن لم يفعل فأنفق عليها فهو متطوع ولا يرجع عليه بشئ، وإذا خاف هلاك الوديعة فحملها إلى موضع آخر فلا يرجع بالكراء على رب الوديعة لانه متطوع.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا أخرج الوديعة من الحرز لمصلحة لها، كإخراج الثياب للتشرير لم يضمن، لان ذلك من مصلحة الوديعة، ومقتضى الايداع فلم يضمن به، وإن
اخرجها لينتفع بها ضمنها، لانه تصرف في الوديعة بما ينافى مقتضاها فضمن به.
كما لو أحرزها في غير حرزها، فإن كان دابة فأخرجها للسقي والعلف إلى خارج الحرز، فإن كان المنزل ضيقا لم يضمن لانه مضطر إلى الاخراج، وإن كان المنزل واسعا ففيه وجهان
(أحدهما)
يضمن، وهو المنصوص، وهو قول أبى سعيد الاصطخرى.
لانه أخرج الوديعة من حرزها من غير حاجة فضمنها، كما لو أخرجها ليركبها.
(والثانى)
أنه لا يضمنها.
وهو قول أبى إسحاق، لان العادة قد جرت بالسقى والعلف خارج المنزل، وحمل النص عليه إذا كان الخارج غير آمن.
وان نوى إخراجها للانتفاع كاللبس والركوب، أو نوى أن لا يردها على صاحبها، ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول أبى العباس أنه يضمن كما يضمن اللقطة إذا نوى تملكها
(والثانى)
وهو قول القاضى أبى حامد المروروذى أنه ان نوى اخراجها للانتفاع بها لم يضمن.
وان نوى أن لا يردها ضمن، لان بهذه النية صار ممسكا لها على نفسه، وبالنية الاولى لا يصير ممسكا على نفسه (والثالث) وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يضمن، لان الضمان انما يكون بفعل يوقع في العين، وذلك لم يوجد.
(الشرح) الاحكام: هناك بعض الودائع لا تحفظ الا بتعريضها للهواء أو الشمس في بعض الاوقات مع عدم المبالغة حتى لا يحول لونها لتأثير الهواء والشمس(14/193)
على ألوان النسيج وغيره كما هو مشاهد ومعروف في علم الكيمياء حتى ان الضوء له تأثير على الالوان، فإذا شررها - أي نشرها - بفرض حفظها فتلفت أو حالت ألوانها لم يضمن، وإذا بسط السجاد واستعمله حتى لا يتلف بتخزينه كان له استعمالها استعمالا يحفظها، فان هلكت فلا يضمن لانه إذا أهملها تلفت، ولان ذلك من مصلحتها فلم يضمن وقال بعض أصحابنا: لا يضمن الا إذا تحقق أن السارق دله على الموضع بعض من دخل أولا أو دله عليها وان لم يحدد موضعها، فلو أخرجها ليركبها أو كان ثوبا ليلبسه ضمن، أو نوى أن لا يردها على صاحبها فعلى ثلاثة أوجه: (أحدها) وهو قول ابن سريج أنه يضمن، لانه نوى امتلاكها، كما لو التقط شيئا ونوى امتلاكه
(والثانى)
وهو قول الشيخ أبى حامد أنه لا يضمن في الانتفاع ويضمن في عدم الرد (والثالث) وهو قول أكثر الاصحاب أنه لا يضمن لان نية الامتلاك لا تؤثر في عين الوديعة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أخذت الوديعة منه قهرا لم يضمن لانه غير مفرط في ذلك، وان أكره حتى سلمها ففيه وجهان، بناء على القولين فيمن أكره حتى أكل في الصوم
(أحدهما)
أنه يضمن، لان فوت الوديعة على صاحبها لدفع الضرر عن نفسه، فأشبه إذا أنفقها على نفسه لخوف التلف من الجوع
(والثانى)
أنه لا يضمن لانه مكره فأشبه إذا أخذت بغير فعل من جهته
(فصل)
وان طالبه المودع برد الوديعة فأخر من غير عذر ضمن لانه مفرط، فان أخرها لعذر لم يضمن لانه غير مفرط
(فصل)
وان تعدى في الوديعة فضمنها ثم ترك التعدي في الوديعة لم يبرأ من الضمان لانه ضمن العين بالعدوان فلم يبرأ بالرد إلى المكان، كما لو غصب من داره شيئا ثم رده إلى الدار، فإن قال المودع أبرأتك من الضمان أو أذنت لك في حفظها ففيه وجهان
(أحدهما)
يبرأ من الضمان وهو ظاهر النص، لان الضمان يجب لحقه فسقط بإسقاطه
(والثانى)
لا يبرأ حتى يردها إليه، لان الابراء انما يكون عن حق في الذمه، ولا حق له في الذمة فلم يصح الابراء(14/194)
(الشرح)
الاحكام: فرق المصنف بين الاخذ منه قهرا وتسليمها للظالم قهرا فالاخذ قهرا بدون أن يسلم فيها حتى استطاع الظالم أن ينتزعها لم يضمن، أما إذا أكره على تسليمها فسلمها، فإن للمالك تضمينه على أصح الوجهين إذ لا فرق بين أن يسلمها مجبرا وبين أن يسلمها مختارا، ويرجع الوديع على الظالم بما غرمه كما يرجع المالك أيضا، وعلى الوجه الثاني: ليس للمالك تضمين الوديع، لانه أكره ويرجع المالك على الظالم في كلا الحالين، وهما مبنيان على الوجهين فيمن أكره في الصوم على الاكل.
(أحدهما)
لا يكون مفطرا
(والثانى)
يحكم بإفطاره.
ويجب على الوديع إنكار الوديعة عن الظالم والامتناع عن اعلامه بها جهده، فإن ترك ذلك مع القدرة ضمن، ويجوز له أن يحلف على ذلك لحفظها، ويجب عليه إذا أمكنته التوريه أن يورى فإن لم يمكنه صرح بغير تورية منكرا لها وكفر عن يمينه (فرع)
لا خلاف في وجوب رد الوديعة على مالكها إذا طلبها لقوله تَعَالَى " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى أهلها " ولقوله صلى الله عليه وسلم " أد الامانة إلى من ائتمنك " يعنى عند طلبها، ولانها حق لمالكها لم يتعلق بها حق غيره فلزم أداؤها له كالمغصوب والدين الحال، فإن أمتنع فتلفت ضمنها لانه صار غاصبا لامساكه مال غيره بغير إذنه، أما ان طلبها في وقت لا يمكن دفعها إليه لبعدها أو لمخافة في طريقها أو للعجز عن حملها أو غير ذلك لم يكن متعديا بترك تسليمها لان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فان تلفت لم يضمنها لعدم عدوانه، فإذا قال: أمهلوني حتى أقضى صلاتي أو آكل لانى جائع أو أنام فانى ناعس أو ينهضم عنى الطعام فانى ممتلئ أمهل بقدر ذلك.
(فرع)
إذا تعدى في الوديعة بأى من أنواع التعدي كجحودها ثم عاد فأقر بها انتقلت يده من الائتمان إلى الضمان ولو زالت أسباب ذلك بالاقرار فانه يبقى على الضمان ولا يبرأ منه الا بالرد وان أقام البينة على تلفها بعد جحودها لم يسقط عنه الضمان، فلو أقام البينة بتلفها قبل جحودها فهل تسمع بينته؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا تسمع بينته لانه مكذب لها بانكاره الايداع.
والثانى: تسمع بينته،(14/195)
فإذا أبرأه المودع من الضمان، أو أذن له في حفظها بعد ذلك فوجهان.
أحدهما وهو ظاهر قول الشافعي: يبرأ من الضمان، لان الضمان وجب لحقه فسقط باسقاطه له.
والثانى: لا يبرأ حتى يردها على ربها لان الابراء لا يكون الا عن حق في الذمة فلم يصح.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
إذا اختلف المودع والمودع فقال أودعتك وديعة وأنكرها المودع فالقول قوله، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَوْ أَنَّ الناس أعطوا بدعاويهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه والبينة على من أنكر " ولان الاصل أنه لم يودعه فكان القول قوله.
(فصل)
وان ادعى أنها تلفت نظرت، فإن ادعى التلف بسبب ظاهر كالنهب والحريق لم يقبل حتى يقيم البينه على وجود النهب والحريق، لان الاصل أن لا نهب ولا حريق، ويمكن إقامة البينة عليها، فلم يقبل قوله من غير بينة فان أقام البينة على ذلك أو ادعى الهلاك بسبب يخفى فالقول قوله مع اليمين أنها هلكت، لان الهلاك يتعذر إقامة البينة عليه، فقبل قوله مع يمينه.
(فصل)
وإن اختلفا في الرد فالقول قوله مع يمينه، لانه أخذ العين لمنفعة المالك فكان القول في الرد قوله، وإن ادعى عليه أنه أودعه فأنكر الايداع
فأقام المودع بينة بالايداع فقال المودع: صدقت البينه أودعتني، ولكنها تلفت أو رددتها لم يقبل قوله، لانه صار خائنا ضامنا فلا يقبل قوله في البراءة بالرد والهلاك، فإن قال: أنا أقيم البينة بالتلف أو الرد ففيه وجهان
(أحدهما)
أنها تسمع، لانه لو صدقه المدعى ثبتت براءته، فإذا قامت البينه سمعت
(والثانى)
لا تسمع، لانه كذب البينة بإنكاره الايداع، فأما إذا ادعى عليه أنه أودعه فقال: ماله عندي شئ فأقام البينه بالايداع فقال: صدقت البينه أودعتني، ولكنها تلفت أو رددتها قبل قوله مع اليمين لانه صادق في إنكاره أنه لا شئ عنده، لانها إذا تلفت أو ردها عليه لم يبق له عنده شئ والله أعلم.(14/196)
(الشرح) الحديث سبق وسبق تخريجه.
اما الاحكام: فإنه إذا ادعى عليه أنه أودعه وديعة فقال: مالك عندي شئ أو لا تستحق على شيئا فالقول قوله.
فإذا أقام المالك البينة فأقر الوديع قائلا: صدقت بالبينه ولكنها تلفت، أو قال: ولكني رددتها اليك لم يقبل قوله، لانه خان بجحوده، فلا يقبل قوله في التلف أو الرد.
وقد جمع الاستاذ محمد الخضراوي من فقهائنا المعاصرين عناصر ذات فائدة في أحكام دعوى الرد على المالك أو وارثه، قال أثابه الله: وإذا ادعى الوديع رد الوديعة على من ائتمنه من مالك وحاكم وولى ووصى وقيم، صدق بيمينه، وإن أشهد عليه بها عند دفعها لانه ائتمنه.
أما لو ضمنها بتفريط أو عدوان فانه لا يقبل دعواه ردها، ويجرى ما ذكر في كل أمين أو وكيل وشريك وعامل قراض وجاب في رد ما جباه على الذى استأجره للجباية كما قاله ابن الصلاح وأمين ادعى الرد على الوديع إذا أودعه عند سفره، لانه ائتمنه بناء على أن للوديع الاسترداد إذا عاد من سفره، وهو المعتمد بخلاف ما إذا ادعى الرد على المالك فانه لا يصدق لانه لم يأتمنه.
ولا يصدق ملتقط الشئ ولا من ألقت عليه الريح ثوبا في الرد إلى المالك، لانه لم يأتمنهما وضابط الذى يصدق بيمينه في الرد هو كل أمين ادعى الرد على من ائتمنه الا المرتهن والمستأجر فانهما يصدقان في التلف لا في الرد، لانهما أخذا العين لغرض أنفسهما.
قال ابن القاص وغيره: كل مال تلف في يد أمين من غير تعد لا ضمان عليه الا فيما إذا استسلف السلطان لحاجة المساكين زكاة قبل حلولها، فتلفت في يده، فيضمنها لهم.
وإذا ادعى الوديع الرد على غير من ائتمنه كوارث المالك، أو ادعى وارث الوديع الرد للوديع منه لا من مورثه على المالك أو أودع عند سفره أمينا فادعى الامين الرد على المالك طولب كل من ذكر ببينة بالرد على من ذكر، إذ الاصل عدم الرد ولم يأتمنه.
أما إذا ادعى الوارث الرد من مورثه فانه يصدق بيمينه، وصرح به البغوي(14/197)
وقال الرافعى وهو الوجه، لان الاصل عدم حصولها في يده.
وقال ابن أبى الدم انه الاصح، وخالف في ذلك المتولي وقال: يطالب بالبينة.
ولو تنازع الوديعة بأن ادعى كل منهما أنه ملكه، فصدق الوديع أحدهما بعينه فللآخر تحليفه، فان حلف سقطت دعوى الآخر، وان نكل حلف الآخر وغرم له الوديع القيمة، وان صدقهما فاليد لهما والخصومة بينهما، وان قال: هي لاحدكما ونسيته، وكذباه في النسيان ضمن كالغاصب، والغاصب إذا قال: المغصوب لاحدكما وأنسيته، فحلف أحدهما على البت أنه لم يغصبه تعين المغصوب للآخر بلا يمين.
ولو ادعى الوارث علم الوديع بموت المالك، وطلب منه الوديعة فله تحليفه على نفى العلم بذلك، فان نكل الوارث وأخذها، وان قال الوديع: حبستها عندي لانظر هل أوصى بها مالكها أم لا؟ فهو متعد ضامن.
(مسألة)
سئل الشيخ عز الدين عن رجل تحت يده وديعه ولم يعرف صاحبها وأيس من معرفته بعد البحث التام فقال: يصرفها في أهم مصالح المسلمين ويقدم اهل الضرورة ومسيس الحاجة، ولا يبنى بها مسجدا، ولا يصرفها الا فيما يجب على الامام العادل صرفها فيه، وان جهله فليسأل أورع العلماء بالمصالح الواجبة التقديم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(14/198)
كتاب العاريّة
العارية بتشديد الياء.
يقال تعاوروا الشئ واعتوروه تداولوه.
والعارية منه.
والاصل فعلية بفتح العين.
قال الازهرى: نسبة إلى العارة وهم اسم من الاعارة.
يقال أعرته الشئ إعارة وعارة، مثل أطعته إطاعة وطاعه، وأجبته إجابه وجابه.
وقال الليث: سميت عاريه لانها عار على طالبها، وقال الجوهرى مثلة.
وبعضهم يقول مأخوذة من عار الفرس إذا ذهب من صاحبه لخروجها من يد صاحبها وهما غلط، لان العارية من الواو، لان العرب تقول: هم يتعاورون العوارى ويتعورونها بالواو إذا أعار بعضهم بعضا.
والعار وعار الفرس من الياء فالصحيح ما قال الازهرى، وقد تخفف العارية في الشعر والجمع العوارى بالتخفيف وبالتشديد على الاصل، واستعرت منه الشئ فأعارنيه.
والفقهاء يذهبون دائما إلى الاخذ بقول الجوهرى قال ابن قدامة: العارية إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال مشتقة من عار الشئ إذا جاء.
ومنه قيل للبطال عيار لتردده في بطالته.
اه وهو كما أوضحنا خطأ لانه من مادة أخرى، وقال ابن بطال: ومنه سميت العير لذهابها وعودتها، وهو خطأ كما قلنا، وقال ابن الاثير مثله
قال المصنف رحمه الله تعالى:
الاعارة قربة مندوب إليها لقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى " وروى جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا مِنْ صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت بقاع قرقر تشتد عليه بقوائمها وأخفافها، قال رجل يا رسول الله ما حق الابل؟ قال حلبها على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها "
(فصل)
ولا تصح الاعارة إلا من جائز التصرف في المال، فأما من لا يملك التصرف في المال كالصبى والسفيه فلا تصح منه لانه تصرف في المال فلا يملكه الصبى والسفيه كالبيع(14/199)
(فصل)
وتصح الاعارة في كل عين ينتفع بها مع بقائها، كالدور والعقار والعبيد والجوارى والثياب والدواب والفحل للضراب، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ذكر إعارة دلوها وإعارة فحلها.
وروى أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار من أبى طلحة فرسا فركبه " وروى صفوان " أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا غزاة حنين " فثبت في هذه الاشياء بالخبر وقسنا عليها كل ما كان ينتفع به مع بقاء عينه (الشرح) الاصل في العارية الكتاب والسنه والاجماع أما الكتاب فقوله تعالى (ويمنعون الماعون) روى عن ابن عباس وابن مسعود أنهما قالا: العوارى.
وفسرها ابن مسعود فقال: القدر والميزان والدلو، وقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) وأما السنة فما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في خطبة الوداع " العارية مؤداة والدين مقضى والمنحه مردودة والزعيم غارم " أخرجه الترمذي
وقال: حديث حسن غريب، وروى صفوان بن أميه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدراعا يوم حنين فقال: أغصبا يا محمد؟ قال " بل عاريه مضمونه " رواه أبو داود وأحمد والنسائي والحاكم وأورد له شاهدا من حديث ابن عباس، ولفظه " بل عاريه مؤداة " وفى روايه لابي داود " ان الادراع كانت ما بين الثلاثين إلى الاربعين " ورواه البيهقى عن أميه بن صفوان مرسلا، وبين أن الادراع كانت ثمانين، ورواه الحاكم من حديث جابر بن عبد الله، وذكر أنها مائة درع، وأعل ابن حزم وابن القطان طرق هذا الحديث، قال ابن حزم: أحسن ما فيها حديث يعلى ابن أميه وقد سقناه في الوكالة أما حديث جابر في الفصل فقد رواه أحمد ومسلم، فقد استوفى الكلام عليه الامام النووي في كتاب الزكاة من المجموع وأما الاجماع فقد انعقد من الامه كلها على أن العارية مندوب إليها لانها من القربات(14/200)
وأما القياس فلانه لما جازت الهبة بالاعيان جازت الهبة بالمنافع.
ولذلك صحت الوصية بالاعيان والمنافع جميعا، ولانه سبحانه قال " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " والعارية من المعروف، وقال " وتعاونوا على البر والتقوى " والعارية من البر، والماعون والماعون كان متعارفا عليه في الجاهلية بأنه كل ما فيه منفعه من قليل أو كثير قال الاعشى: بأجود منه بما عونه
* إذا ما سماؤهم لم تغمأ وفى الاسلام الطاعة والزكاة والمعروف وأنشدوا للراعي: أخليفة الرحمن إنا معشر
* حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا
* حق الزكاة منزلا تنزيلا قوم على الاسلام لما يمنعوا
* ما عونهم ويضيعوا التهليلا أما الاحكام فإن العارية تفتقر إلى ثلاثة أشياء: معير ومستعير ومعار، فالمعير وهو كل من كان مالكا مطلق التصرف جاز أن يكون معيرا، ولا يجوز من غير مالك ولا ممنوع من التصرف.
وأما المستعير فكل من صح منه قبول الهبة صح منه طلب العارية لانها نوع من الهبة.
وأما المعار فهو كل مملوك صح الانتفاع به مع بقاء عينه، ولا يصح فيما لا ينتفع به مع بقاء عينه كالمأكولات، لاختصاص العارية بالمنافع دون الرقاب.
فأما الفضه والذهب فتنقسم ثلاثة أقسام: قسم يجوز إعارته واجارته وهو الحلى لاباحة الانتفاع به مع بقاء عينه، وقسم لا تجوز اعارته ولا اجارته، وهو الاواني المحظور الانتفاع بها مع بقاء عينها، وقسم تجوز اعارته، وفى جواز اجارته وجهان وهو الدراهم والدنانير، لان في التجمل بهما نفعا، والفرق بين العارية والاجارة وان اختصا بملك المنفعة أن حكم العارية أوسع من حكم الاجارة، لانه يجوز أن يستعير فحل ضراب ولا يجوز أن يستأجره والحيوان على أربعة أقسام: أحدها ما يجوز اعارته واجارته، وهو كل ما يقتنى المنفعة، كالدواب للانتفاع بظهورها والجوارح المنتفع بصيدها،(14/201)
والثانى: ما لا يجوز إعارته ولا إجارته، وهو نوعان
(أحدهما)
ما كان محرما.
(والثانى)
ما كانت منفعته عينا، فأما المحرم الانتفاع به فالسباع والذئاب والكلاب غير المعلمة، فلا يجوز أن تعار ولا أن يؤاجر، وأما ما كانت منفعته عينا فذات الدر من المواشى كالغنم فلا يجوز أن تعار ولا تؤاجر لاختصاص العارية والاجارة بالمنافع دون الاعيان، ولكن يجوز أن تمنح
قال الشافعي: والمنحة أن يدفع الرجل ناقته أو شاته إلى رجل ليحلبها ثم يردها فيكون اللبن ممنوحا.
وروى الشافعي عن مالك عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هريرة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المنحة أفضل الصدقة تغدو بأجر وتروح بأجر.
والقسم الثالث ما تجوز إعارته ولا تجوز إجارته كالفحول إذ إجارتها ثمن لعسبها، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ثمن عسب الفحل والقسم الرابع ما تجوز إعارته، وفى جواز إجارته وجهان، وهو ما انتفع به من كلاب الصيد والفحول لغير العسب، وإذا صحت إعارة البهائم دون إجارتها فعلفها ومؤونتها على المالك دون المستعير والمستأجر، لان ذلك من حقوق الملك، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا يجوز اعارة جارية ذات جمال لغير ذى رحم محرم، لانه لا يأمن أن يخلو بها فيواقعها، فإن كانت قبيحه أو كبيرة لا تشتهى لم يحرم، لانه يؤمن عليها الفساد، ولا تجوز اعارة العبد المسلم من الكافر، لانه لا يجوز أن يخدمه.
ولا تجوز اعارة الصيد من المحرم، لانه لا يجوز له امساكه ولا التصرف فيه.
ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة، لانه يكره أن يستخدمهما فكره استعارتهما لذلك.
(فصل)
ولا تنعقد الا بإيجاب وقبول لانه ايجاب حق لآدمي فلا يصح الا بالايجاب والقبول كالبيع والاجارة، وتصح بالقول من أحدهما والفعل من الآخر، فإن قال المستعير أعرني فسلمها إليه انعقد، وان قال المعير: أعرتك(14/202)
فقبضها المستعير انعقد، لانه اباحة للتصرف في ماله، فصح بالقول من احدهما والفعل من الآخر، كإباحة الطعام
(الشرح) هذا الفصل فيه من محاسن الاسلام في معاملة السبى، وهو ظاهرة اجتماعية عالمية جاء الاسلام لتصفيتها بالتقرب إلى الله تعالى بفك رقابها.
ومن ذلك أن المرء إذا كانت عنده جارية جميلة فإنه لا يجوز اعارتها لخدمه آخر حتى لا يؤدى ذلك إلى اغرائه بأن ينزو عليها، ويسرى هذا الامر على الخادمات اللائى يغشين المنازل في زماننا هذا لاداء بعض الخدمة واعانة ربات البيوت على بعض ما يشق عليهن، فلا يجوز اعارة مثل هؤلاء الخادمات إذا كن جميلات، كما يكره للرجل أن يتحرى أن تكون خادمته ذات جمال، كما لا يجوز للمرء أن يستخدم أباه ولا أن يستعيره لخدمته، وهذا الحكم في شكله الذى سقناه هو الملائم الآن.
اه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإذا قبض العين ضمنها، لما روى صفوان " أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا يوم حنين، فقال أغصبا يا محمد؟ قال بل عارية مضمونة ولانه مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه، لا على وجه الوثيقة، فضمنها كالمغصوب فان هلكت نظرت، فان كان مما لا مثل له ففى ضمانها وجهان
(أحدهما)
يضمنها بأكثر ما كانت قيمتها مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إلَى حِينِ التَّلَفِ كَالْمَغْصُوبِ، وتصير الاجزاء تابعة للعين ان سقط ضمانها بالرد سقط ضمان الاجزاء وان وجب ضمانها بالتلف وجب ضمان الاجزاء
(والثانى)
أنها تضمن بقيمتها يوم التلف وهو الصحيح، لانا لو ألزمناه قيمتها أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إلَى حِينِ التَّلَفِ أوجبنا ضمان الاجزاء التالفة بالاذن، وهذا لا يجوز، ولهذا لو كانت العين باقية وقد نقصت أجزاؤها بالاستعمال لم يجب ضمانها وان كان مما له مثل.
فإن قلنا فيما لا مثل له انه يضمن بأكثر ما كانت قيمته لزمه مثلها، وان قلنا انه يضمن بقيمته يوم التلف ضمنها بقيمتها(14/203)
واختلف أصحابنا في ولد المستعارة فمنهم من قال: إنه مضمون لانها مضمونة فضمن ولدها كالمغصوبة، ومنهم من قال: لا يضمن: لان الولد لم يدخل في الاعارة فلم يدخل في الضمان، ويخالف المغصوبة، فإن الولد يدخل في الغصب فدخل في الضمان، فإن غصب عينا فأعارها من غيره، ولم يعلم المستعير وتلفت عنده، فضمن المالك المستعير لم يرجع بما غرم على الغاصب، لانه دخل على أنه يضمن العين، وإن ضمنه أجرة المنفعة فهل يرجع على الغاصب؟ فيه قولان، بناء على القولين فيمن غصب طعاما وقدمه إلى غيره.
أحدهما: يرجع لانه غره والثانى: لا يرجع، لان المنافع تلفت تحت يده.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: العارية كلها مضمونة، الدواب والرقيق والدور والثياب لا فرق بين شئ منها، فمن استعار شيئا فتلف في يده بفعله أو بغير فعله فهو ضامن له، والاشياء لا تخلو أن تكون مضمونة أو غير مضمونة، فما كان منها مضمونا مثل الغصب وما أشبهه فسواء ما ظهر منها هلاكه وما خفى فهو مضمون على الغاصب والمستسلف جنيا فيه أو لم يجنيا أو غير مضمونة مثل الوديعة فسواء ما ظهر هلاكه وما خفى فالقول فيها قول المستودع مع يمينه وخالفنا بعض الناس في العارية فقال: لا يضمن شيئا إلا ما تعدى فيه، فسئل من أين قاله؟ فزعم أن شريحا قاله، وقال: ما حجتكم في تضمينها.
قلنا: استعار رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صفوان فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " عارية مضمونه مؤداة " قال: أفرأيت إذا قلنا: فان شرط المستعير الضمان ضمن وإن لم يشرطه لم يضمن؟ قلنا: فأنت إذن تترك قولك.
قال: وأين؟ قلنا: أليس قولك: إنها غير مضمونة إلا أن يشترط؟ قال: بلى، قلنا: فما تقول في الوديعة إذا اشترط
المستودع أنه ضامن أو المضارب؟ قال لا يكون ضامنا، قلنا فما تقول في المستسلف إذا اشترط أنه غير ضامن؟ قال.
لا شرط له ويكون ضامنا.
قلنا.
ويرد الامانة إلى أصلها والمضمون إلى أصله ويبطل الشرط فيهما جميعا؟ قال.
نعم، قلنا.
وكذلك ينبغى لك أن تقول في العارية، وبذلك شرط النبي صلى الله عليه وسلم(14/204)
أنها مضمونة الا لما يلزم.
قال.
فلم شرط؟ قلنا لجهالة صفوان، لانه كان مشركا لا يعرف الحكم، ولو عرفه ما ضر الشرط إذا كان أصل العارية أنها مضمونة بلا شرط كما لا يضر شرط العهدة وخلاص عقدك في البيع، ولو لم يشترط كان عليه العهدة والخلاص أو الرد، قال.
فهل قال هذا أحد؟ قلنا في هذا كفاية، وقد قال أبو هريرة وابن عباس رضى الله عنهما " ان العارية مضمونة " وكان قول أبى هريرة في بعير استعير فتلف.
انه مضمون اه.
وقال الماوردى في الحاوى: فتمامها بالقبض فقد اتفق الفقهاء على أن ما تلف من أجزائها بالاستعمال غير مضمون على المستعير، واختلفوا في تلف عينها على خمسة مذاهب.
(أحدها) وهو مذهب الشافعي أنها مضمونة عليه سواء تلفت بفعل آدمى أو بجائحة سماوية، وبه قال من الصحابة ابن عباس وعائشة وأبو هريرة رضى الله عنهم ومن التابعين عطاء ومن الفقهاء أحمد بن حنبل.
(والمذهب الثاني) وهو مذهب أبى حنيفه أنها غير مضمونه عليه الا بالتعدي وبه قال الحسن البصري والنخعي والثوري والاوزاعي.
(والثالث) وهو مذهب مالك: ان كان مما يخفى هلاكه ضمن، وان كان مما يظهر لم يضمن.
(والرابع) وهو مذهب الشيعة: ان تلفت بالموت لم يضمن، وان تلفت
بغيره ضمن.
(والخامس) وهو مذهب قتادة وعبيد الله الحسن العنبري وداود: ان شرط ضمانها لزم، وان لم يشترط لم يلزم، واستدلوا على سقوط الضمان بِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ليس على المستعير غير المغل ضمان " وهذا نفى، وبرواية عطاء بن أبى رباح عن صفوان ابن يعلى عن أبيه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين بعيرا وثلاثين درعا فقلت يا رسول الله أعارية مضمونه أو عاريه مؤداة قال: بل مؤداة " قالوا: فقد نفى الضمان عنها فلم يجز أن يتوجه إليها قالوا: ولانه(14/205)
مستعار تلف بغير تفريط فوجب أن لا يضمنه المستعير قياسا على تلف الاجزاء قالوا: ولان ما لم تكن أجزاؤه مضمونه لم تكن جملته مضمونه كالودائع طردا والغصوب عكسا.
دليلنا رواية قتادة عن الحسن عن سمرة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال " على اليد ما أخذت حتى تؤدى " وهذا تضمين، ثم ساق الماوردى حديث صفوان المار كدليل آخر، فإن قيل: هو محمول على ضمان الرد كالودائع التى هي مضمونة الرد، وليست مضمونة العين، قيل: إطلاق القول يتناول ضمان الاعيان، ولذلك امتنع أن يطلق على الامانات المؤداة حكم الضمان، على أنه روى عنه صلى الله عليه وسلم قال " عارية مضمونه مؤداة " وكان الاداء محمولا على الرد والضمان على التلف، ثم يجيب صاحب الحاوى على اعتراضات المخالفين فيقول عن حديث ليس على المستعير غير المغل ضمان: الجواب من وجهين: أحدهما أنه محمول على ضمان الاجزاء التالفه بالاستعمال وهذا وان كان تخصيصا فلما عارضه من الاخبار المخصصة.
والثانى: أن المغل في هذا الموضع ليس بمأخوذ من الخيانه والغلول وإنما هو مأخوذ من استغلال الغلة، يقال: هذا غل فهو مغل إذا أخذ الغلة.
قال زهير بن أبى سلمى: فتغل لكم مالا تغل لامثالها
* قرى بالعراق من قفيز ودرهم فيكون لا ضمان على المستعير غير المستغل أي غير القابض لانه بالقبض يصير مستغلا وهذا صحيح، وأما الجواب عن " عارية مضمونة أو مؤداة؟ " فهو أن معناه عارية مضمونه بالبدل، أو مؤداة العين استعلاما لحكمها هل تؤخذ على طريق البدل والمعاوضة أو على طريق الرد والاداء فأخبر أنها مؤداة العين، لا يملكها الآخذ بالبدل، وأما تلفها بالاستعمال المأذون فيه كالثوب المستعار إذا بلى باللبس لم يضمنه المستعير، والمعنى فيه أنه أتلفه بإذن مالكه فسقط عنه ضمانه، والعارية إذا تلفت بغير إذن مالكها وجب عليه ضمانها، ولو تلف الثياب بغير اللبس المأذون فيه كأن شد فيها متاعا أو حل فيها ترابا ضمن، وعند أحمد في أظهر القولين يجب ضمانها لو بليت باللبس.(14/206)
(فرع)
لا يخلو حال العارية إذا تلفت عن أحد أمرين.
اما أن يكون لها مثل أو لا مثل لها، فإن لم يكن لها مثل ضمنها بالقيمه، وفيها وجهان.
(أحدهما)
يضمن قيمتها يوم التلف ليسقط ضمان الاجزاء التالفه بالاستعمال (والوجه الثاني) أنه يضمن أكثر قيمتها من حين القبض إلى حين التلف كالغصب، وتصير الاجزاء تبعا للجملة، فإن كان للعارية مثل ففى ما يضمنها به وجهان بناء على صفة ضمان مالا مثل له.
(أحدهما)
يضمنها بالمثل إذا جعل ضمانها في أكثر الاحوال كالغصب
(والثانى)
يضمنها بالقيمة إذا جعل ضمانها وقت التلف.
فأما ما تنتجه العارية من ولد إذا حدث في يد المستعير ففى وجوب ضمانه عليه وجهان، أحدهما: عليه ضمانه لان ولد المضمون مضمون كالمغصوبه، والوجه الثاني: لا ضمان عليه لان معنى الضمان في الام معدوم في الولد بخلاف الغصب لان ولد العارية لا يكون مستعارا، وولد المغصوبة يكون مغصوبا.
وأما قول الشافعي في موضع من كتاب الاجارات: ان العارية غير مضمونه الا بالتعدي - وهو ما أشرنا إليه في كتاب الضمان - فليس بقول ثان في سقوط ضمانها كما وهم فيه الربيع، وهو محمول على أحد ثلاثة أوجه، اما على سقوط ضمان الاجرة، أو على سقوط ضمان الاجزاء: أو حكاية عن مذهب غيره كما قال: يجوز نكاح المحرم حكاية عن مذهب غيره وفرع عليه وان لم يعلنه مذهبا لنفسه والله أعلم.
هذا وما يتعلق بالغصب في هذا الفصل آت ان شاء الله في الغصب ومن الله التوفيق.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز للمعير أن يرجع في العارية بعد القبض، ويجوز للمستعير أن يرد، لانه اباحة فجاز لكل واحد منهما رده كإباحة الطعام.
وإذا فسخ العقد وجب الرد على المستعير، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية أدرعا وسلاحا، فقال أعارية مؤداة؟ قال: عارية مؤداة، ويجب ردها إلى المعير أو إلى وكيله، فان ردها إلى المكان(14/207)
الذى أخذها منه لم يبرأ من الضمان، لان ما وجب رده وجب رده إلى المالك أو إلى وكيله كالمغصوب والمسروق.
(فصل)
ومن استعار عينا جاز له أن يستوفى منفعتها بنفسه وبوكيله، لان الوكيل نائب عنه، وهل له أن يعير غيره؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز كما
يجوز للمستأجر أن يؤجر
(والثانى)
لا يجوز وهو الصحيح، لانه إباحة فلا يملك بها الاباحة لغيره كإباحة الطعام، ويخالف المستأجر فإنه يملك المنافع.
ولهذا يملك أن يأخذ عليه العوض، فملك نقله إلى غيره كالمشترى للطعام والمستعير لا يملك، ولهذا لا يملك أخذ العوض عليه، فلا يملك نقله إلى غيره، كمن قدم إليه الطعام.
(فصل)
وتجوز الاعارة مطلقا ومعينا، لانه إباحة فجاز مطلقا ومعينا كإباحة الطعام، فإن قال: أعرتك هذه الارض لتنتفع بها، جاز له أن يزرع ويغرس ويبنى، لان الاذن مطلق، وإن استعار للبناء أو للغراس جاز له أن يزرع لان الزرع أقل ضررا من الغراس والبناء فإذا رضى بالبناء والغراس رضى بالزرع ومن أصحابنا من قال: إن استعار للبناء لم يزرع، لان في الزرع ضررا ليس في البناء، وهو أنه يرخى الارض، وإن استعار للزرع لم يغرس ولم يبن، لان الغراس والبناء أكثر ضررا من الزرع فلا يكون الاذن في الزرع إذنا في الغراس والبناء.
وإن استعار للحنطة زرع الحنطة وما ضرره ضرر الحنطة، لان الرضا بزراعة الحنطة رضا بزراعة مثله،.
وإن استعار للغراس أو البناء ملك ما أذن فيه منهما، وهل يملك الآخر؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يملك الآخر، لان الغراس والبناء يتقاربان في البقاء والتأبيد فكان الاذن في أحدهما إذنا في الآخر
(والثانى)
أنه لا يجوز، لان في كل واحد منهما ضررا ليس في الآخر، فان ضرر الغراس في باطن الارض أكثر، وضرر البناء في ظاهر الارض أكثر، فلا يملك بالاذن في أحدهما الآخر (الشرح) أما الاحكام فانه إذا طالب المعير بردها كانت ضرورة ردها واجبة على المستعير بخلاف المستأجر، والفرق بينهما أن تسليم المنفعة في الاجارة مستحق(14/208)
على المؤاجرة فكانت مؤونه الرد عليه، وتسليمها في العارية هبة للمستعير فكانت مؤونة الرد عليه.
فإذا استعار دابة ثم ردها إلى اصطبل المعير لم يبرأ من ضمانها حتى يدفعها إلى المعير أو وكيله فيها.
وقال أبو حنيفة: يبرأ منها بردها إلى الاصطبل استحسانا لا قياسا وهذا خطأ، لان الاصطبل لو كان كيده لاقتضى أن يكون سارقها من الاصطبل إذا ردها إليه أن يسقط عنه ضمانها كما يسقط بردها إلى يده، وفى بقاء الضمان عليه دليل على أن ليس عودها إلى الاصطبل عودا إلى يده.
وقال الحنابلة إن كانت العين باقية فعلى المستعير ردها إلى المعير أو وكيله في قبضها، ويبرأ بذلك من ضمانها.
وان ردها إلى من جرت عادته بجريان ذلك على يده كزوجته المتصرفة في ماله ورد الدابة إلى سائسها فقياس المذهب أنه يبرأ (فرع)
إذا استعار شيئا فله استيفاء منفعته بنفسه وبوكيله، لان وكيله نائب عنه ويده كيده، وليس له أن يؤجره لانه لم يملك المنافع فلا يصح أن يملكها غيره، لان المستعير لا يملك العين، وليس للمستعير استعمال المعار الا فيما أذن له فيه، وليس له أن يعيره غيره.
وهذا هو الوجه الاصح عندنا، ولا قول غيره عند الحنابلة.
والوجه الآخر له ذلك - وهو قول أبى حنيفة - لانه يملكه على حسب ما ملكه فجاز كما للمستأجر أن يؤجر، قال أصحاب الرأى: إذا استعار ثوبا ليلبسه هو فأعطاه غيره فلبسه فهو ضامن، وان لم يسم من يلبسه فلا ضمان عليه.
وقال مالك: إذا لم يعمل بها الا الذى كان يعمل بها الذى أعيرها فلا ضمان عليه.
ولنا أن العارية اباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها غيره كاباحة الطعام، وفارق الاجارة لانه ملك الانتفاع على كل وجه فملك أن يملكها، وفى العارية لم يملكها انما ملك استيفاءها على وجه ما أذن له فأشبه من أبيح له أكل الطعام، فعلى هذا
ان أعار فللمالك الرجوع بأجر المثل، وله أن يطالب من شاء منهما، لان الاول سلط غيره على أخذ مال غيره بغير اذنه.
والثانى استوفاه بغير اذنه فان ضمن الاول رجع على الثاني، لان الاستيفاء حصل منه فاستقر الضمان عليه، وان ضمن الثاني لم يرجع على الاول الا أن يكون الثاني لم يعلم بحقيقة الحال فيحتمل(14/209)
أن يستقر الضمان على الاول لانه غر الثاني.
ودفع إليه العين على أنه يستوفى منافعها بغير عوض، وإن تلفت العين في يد الثاني استقر الضمان عليه بكل حال، لانه قبضها على أن تكون مضمونة عليه، فان رجع على الاول رجع الاول على الثاني.
وإن رجع على الثاني لم يرجع على أحد على احد القولين والثانى: له أن يرجع، وسيأتى في الغصب إن شاء الله (فرع)
تجوز الاعارة مطلقا ومقيدا لانها إباحة فجاز فيها إباحة ذلك كاباحة الطعام، ولان الجهالة إنما تؤثر في العقود اللازمة، فإذا أعاره شيئا مطلقا أبيح له الانتفاع به في كل ما هو مستعد له من الانتفاع به، فإذا أعاره أرضا مطلقا فله أن يزرع فيها ويغرس ويبنى ويفعل فيها كل ما هي معدة له من الانتفاع لان الاذن مطلق، وإن أعاره للغراس أو للبناء فله أن يزرع فيها ما شاء لان ضرره دون ضررهما، فكأنه استوفى بعض ما أذن له فيه، وإن استعارها للزرع لم يغرس ولم يبن، لان ضررهما أكثر، فلم يكن الاذن في القليل إذنا في الكثير.
وإن استعارها للغراس أو للبناء ملك المأذون فيه منهما وفى امتلاك الآخر وجهان
(أحدهما)
يملك الآخر لان الغراس والبناء يتقاربان في البقاء والتأبيد فكان الاذن في أحدهما إذنا في الآخر
(والثانى)
لا لاختلاف كل منهما.
ولان ضررهما مختلف، فان ضرر الغراس في باطن الارض لانتشار العروق فيها، وضرر البناء في ظاهرها فلم يكن الاذن
في أحدهما إذنا في الاخر.
وإن استعارها لزرع الحنطة فله زرعها وزرع ما هو أقل ضررا منها كالشعير والباقلا والعدس، وله زرع ما ضرره كضرر الحنطه، لان الرضى بزراعة شئ رضى بضرره وما هو دونه، وليس له زرع ما هو أكثر ضررا منه كالذرة والدخن والقطن.
لان ضرره أكثر، وحكم إباحة الانتفاع في العارية كحكم الانتفاع في الاجارة فيما له أن يستوفيه، وما يمنع منه.
وفى الاجارة مزيد إن شاء الله تعالى.
ولما كانت بعض النباتات تجهد الارض مثل القطن، ولذا تحتاج إلى تسميد وسباخ وبعضها يفيد الارض كالفول والبرسيم فانهما يفيدان الارض ويكسبانها(14/210)
مادة الا زوت.
وفى البرسيم ميزة أخرى وهى تمكين الماشية والدواب من التغذى به بربطها عليه فتحدث أنفاسها، وبخاصة أنفاس الغنم، وكذلك أبوالها وأرواثها تسميدا للارض يكسبها قوة ويكمل في التربة بالمواد العضوية من الكفاءة والقوة والخصب مالا يتوفر في الذرة والقمح والقطن التى تضعف خصوبة التربة، فان اختلاف ضرر الارض أو انتفاعها يختلف باختلاف مزروعها.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن أعاره أرضا للغراس أو البناء فغرس وبنى ثم رجع لم يجز أن يغرس ويبنى شيئا آخر، لانه يملك الغراس والبناء بالاذن وقد زال الاذن، فأما ما غرس وبنى فينظر، فان كان قد شرط عليه القلع أجبر على القلع، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ " ولانه رضى بالتزام الضرر الذى يدخل عليه بالقلع، فإذا قلع لم تلزمه تسوية الارض، لانه لما شرط عليه القلع رضى بما يحصل بالقلع من الحفر، ولانه مأذون فيه فلا يلزمه ضمان ما حصل
به من النقص، كاستعمال الثوب لا يلزمه ضمان ما يبلبه منه، وان لم يشرط القلع نظرت، فان لم تنقص قيمة الغراس والبناء بالقلع قلع، لانه يمكن رد العارية فارغة من غير اضرار، فوجب ردها، فان نقصت قيمة الغراس والبناء بالقلع نظرت، فان اختار المستعير القلع كان له ذلك.
لانه ملكه فملك نقله فإذا قلعه فهل تلزمه تسوية الارض؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا تلزمه، لانه لما أعاره مع العلم بأن له أن يقلع، كان ذلك رضا بما يحصل بالقلع من التخريب فلم تلزمه التسويه.
كما لو شرط القلع
(والثانى)
تلزمه لان القلع باختياره، فانه لو امتنع لم يجبر عليه فلزمه تسوية الارض، كما لو أخرب أرض غيره من غير غراس، وان لم يختر القلع نظرت، فان بذل المعير قيمة الغراس والبناء ليأخذه مع الارض أجبر المستعير عليه، لانه رجوع في العارية من غير اضرار، وان ضمن أرش النقص بالقلع أجبر المستعير على القلع، لانه رجوع في العارية من غير إضرار.
وان بذل المعير القيمة ليأخذه مع الارض، وبذل المستعير قيمة الارض(14/211)
ليأخذها مع الغراس قدم المعير، لان الغراس يتبع الارض في البيع فجاز أن يتبعها في التملك، والارض لا تتبع الغراس في البيع فلم تتبعه في التملك، وإن امتنع المعير من بذل القيمة وأرش النقص وبذل المستعير أجرة الارض لم يجبر على القلع لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " وهذا ليس بظالم فوجب أن يكون له حق، ولانه غراس مأذون فيه فلا يجوز الاضرار به في قلعه، وإن لم يبذل المستعير الاجرة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يقلع لان الاعارة تقتضي الانتفاع من غير ضمان
(والثانى)
يقلع لان بعد الرجوع لا يجوز الانتفاع بماله من غير أجرة
(فصل)
وإذا أقررنا الغراس في ملكه فأراد المعير أن يدخل إلى الارض
للتفرج أو يستظل بالغراس لم يكن للمستعير منعه، لان الذى استحق المستعير من الارض موضع الغراس.
فأما البياض فلا حق للمستعير فيه فجاز للمالك دخوله وإن أراد المستعير دخولها نظرت فإن كان للتفرج والاستراحة لم يجز، لانه قد رجع في الاعارة فلا يجوز دخولها من غير إذن، وإن كان لاصلاح الغراس أو أخذ الثمار ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يملك لان حقه إقرار الغراس والبناء دون ما سواه
(والثانى)
أنه يملك، وهو الصحيح لان الاذن في الغراس إذن فيه فيما يعود بصلاحه وأخذ ثماره، وإن أراد المعير بيع الارض جاز لانه لا حق فيها لغيره فجاز له بيعها، وإن أراد المستعير بيع الغراس من غير المعير، ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه ملك له لا حق فيه لغيره
(والثانى)
لا يجوز لان ملكه غير مستقر، لان للمعير أن يبذل له قيمة الغراس والبناء فيأخذهما، والصحيح هو الاول لان عدم الاستقرار لا يمنع البيع كالشقص المشفوع يجوز للمشترى بيعه، وإن جاز أن ينتزعه الشفيع بالشفعة (الشرح) حديث " المؤمنون عند شروطهم " وكذلك حديث " ليس لعرق ظالم حق " أسلفنا القول فيهما في غير موضع.
أما الاحكام فقد قال صاحب الحاوى إذا قبض المستعير الارض للغرس والبناء ثم رجع المعير فان كان رجوعه قبل الغرس منع المستعير من غرسها وبنائها، فإن بنى بعد رجوعه أو غرس كان في حكم الغاصب يؤخذ بقلع الغرس والبناء مع أجرة المثل وتسوية الارض، فإن رجع المعير بعد الغرس والبناء لم يكن له إحداث زيادة في غرسه وبنائه، فإن(14/212)
أحدث زيادة أجبر على قلعها.
فأما ما تقدم من الغرس والبناء قبل الرجوع فللمعير حالتان: إحداهما أن يكون قد شرط على المستعير حين أعاره أن يقلع غرسه وبناءه عند رجوعه
فيؤخذ المستعير بقلع ذلك للشرط المتقدم، ولقوله صلى الله عليه " المؤمنون عند شروطهم " ولان رضاه بهذا الشرط التزام منه للضرر الداخل عليه بالقلع فكان هو الضامن لنفسه، ولم يكن مغرورا بغيره.
(والحال الثانية) أن لا يشترط المعير على المستعير القلع بعد الرجوع فهذا على ضربين.
أحدهما أن يكون قيمة الغرس والبناء مقلوعا كقيمته قائما أو أكثر، فيؤخذ المستعير بالقلع، لان العارية لا تلزم والضرر بالقلع مرتفع.
والضرب الثاني: أن يكون قيمته مقلوعا أقل، فإن بذل المعير قيمته قائما أو بذل نقص ما يميز قيمته مقلوعا وقائما منع المستعير من إقراره وخير بين قلعه أو أخذ قيمته أو أرش نقصه، لان ما يخافه من ضرر النقص بالقلع قد زال ببذل القيمة أو الارش، فلو بذل المستعير قيمة الارض وبذل المعير قيمة الغرس كان المعير أحق من المستعير لامرين.
(أحدهما)
أن الارض أصل والغرس تبع فكان ملك الاصل أقوى.
(والثانى)
أنه أسبق ملكا، وقيل للمستعير: لا يجوز مع زوال الضرر عنك أن تدخل الضرر على المعير بالترك، فان أخذت القيمة وإلا أجبرت على القلع فإذا قلع فهل تلزمه تسوية الارض بعد القلع أم لا، على وجهين
(أحدهما)
لا يلزم لانه مأذون فيه، فأشبه بلى الثوب باللبس (والوجه الثاني) يلزمه ذلك لانه قلع باختياره بعد زوال العارية من غير أن يلجأ إليه فصار مأخوذا بنقصه (فرع)
إذا امتنع المعير من بذل قيمة الغرس وامتنع المستعير من القلع فقد اختلفوا في حكمه على ثلاثة مذاهب: أحدها وهو قول أبى حنيفه أنه يؤخذ بالقلع سواء كانت مدة العارية مقررة أو مطلقه لحديث " العارية مؤداة ".
والثانى وهو قول أبى ابراهيم المزني أنه ان كانت العارية مطلقه تترك وان كانت
مقدرة بمدة قلع بعدها، فرقا بين المطلقة والمقيدة.
لانه المقصود في اشتراط المدة(14/213)
والثالث: وهو قول الشافعي أنه يقر ولا يجبر على القلع إذا بذل الاجرة بعد الرجوع في العارية لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " والمستعير ليس بظالم فلم يجز أن يؤخذ بالقلع كالظالم لان العارية إرفاق ومعونة فلو أوجبت الاضرار بالقلع لخرجت عن حكم الارفاق والمعونه إلى حكم العدوان والضرر.
(فرع)
إذا ثبت أن الغرس والبناء مقر فإقراره مشروط ببذل الاجرة واقامة المعير على المبيع من ترك القيمة، فصار اقراره مستحقا بهذين الشرطين فإن أجاب المعير من بعد إلى بذل القيمة أو امتنع المستعير من بذل الاجرة أجبر على القلع، لانه لا يجوز أن يدخل الضرر على المعير بتفويت الاجارة وما استدام وجب الاقرار ولم يكن للمستعير منع المعير من دخول أرضه: وان كان مستظلا بغرسه وبنائه لان الاجرة مأخوذة على اقرار الغرس والبناء، فأما البياض الذى بين أثنائه فليس بمشغول بملك المستعير فلم يجز منه المعير منه، وان بذلت له الاجرة عليه أن يجيب إلى اجارتها طوعا بمسمى يرضاه فيكون كمن أجر أرضه مختارا، فأما المستعير فهل يستحق دخول الارض ليصل إلى غرسه وبنائه أم لا على وجهين.
(أحدهما)
لا يستحق الدخول لارض المعير.
(والوجه الثاني) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: انه يستحق دخول الارض ليصل إلى غرسه وبنائه في مراعاته ومصلحته، ويجبر المعير على تمكينه لان الاذن بالغرس والبناء اذن به وبمنافعه، فإن مات الغرس وانهدم البناء لم يكن له اعادة بدله الا باستحداث عارية والى ما سبق ذهب الحنابلة.
(فرع)
وإذا أراد المستعير بيع غرسه وبنائه على غير المعير ففي جوازه
وجهان، أحدهما: يجوز، لانه مملوك، وليس للمعير أن يأخذ المشترى بالقلع كما لم يكن له أن يأخذ به المستعير.
والوجه الثاني أن بيعه لا يجوز، لان المشترى غير مستعير، وترك ما اشتراه غير مستديم، لان المعير متى بذل القيمه استحق بها أخذ الغرس أو قلعه، وهذان الوجهان من اختلافهم في المستعير هل يجوز له أن يعير؟(14/214)
(فرع)
وللمعير دخول أرضه كيف شاء للتفرج والاستراحة، لان بين الغراس أرضا بيضاء ليست عارية، وليس لصاحب الغرس منع صاحب الارض من غشيانها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان حمل السيل طعام رجل إلى أرض آخر فنبت فيها فهل يجبر صاحب الطعام على القلع مجانا، فيه وجهان
(أحدهما)
لا يجبر لانه غير مفرط في انباته
(والثانى)
يجبر، وهو الصحيح، لانه شغل ملك غيره بملكه من غير اذن، فأجبر على ازالته كما لو كان في داره شجرة فانتشرت أغصانها في هواء دار غيره.
(فصل)
وان أعاره أرضا للزراعة فزرعها ثم رجع في العارية قبل أن يدرك الزرع وطالبه بالقلع، ففيه وجهان.
أحدهما: أنه كالغراس في التبقية والقلع والارش والثانى: أنه يجبر المعير على التبقية إلى الحصاد بأجرة المثل، لان للزرع وقتا ينتهى إليه، وليس للغراس وقت ينتهى إليه، فلو أجبرناه على التبقية عطلنا عليه أرضه.
(فصل)
وان أعاره حائطا ليضع عليه أجذاعا فوضعها لم يملك اجباره على قلعها، لانها تراد للبقاء، فلا يجبر على قلعها كالغراس، وان ضمن المعير قيمة
الاجذاع ليأخذها، لم يجبر المستعير على قبولها، لان أحد طرفيها في ملكه فلم يجبر على أخذ قيمته، وان تلفت الاجذاع وأراد أن يعيد مثلها على الحائط لم يجز أن يعيد الا باذن، لان الاذن تناول الاول دون غيره، فان انهدم الحائط وبناه بتلك الآلة لم يجز أن يضع الاجذاع على الثاني، لان الاذن تناول الاول ومن أصحابنا من قال: يجوز لان الاعارة اقتضت التأبيد والمذهب الاول.
(فصل)
وان وجدت أجذاع على الحائط، ولم يعرف سببها، ثم تلفت جاز اعادة مثلها، لان الظاهر أنها بحق ثابت.
(الشرح) الاحكام: إذا حمل السيل بذر رجل فنبت في أرض غيره أو نوى فصار غرسا فهو لمالك البذر والنوى لانه نماء ملكه، وهل لصاحب الارض(14/215)
أن يأخذه المالك بقلعه أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
له قعله لانه نبت في أرضه بغير اختياره.
والوجه الثاني: ليس له قلعه إذا بذلت له الاجارة، لان مالكه غير متعد به وإلى هذا ذهب أحمد وأصحابه، لان قلعه إتلاف للمال على مالكه، ولم يوجد منه تفريط ولا يدوم ضرره فلا يجبر على ذلك.
وفرق الحنابلة بين الحب والنوى أي بين الزرع والغرس.
وقد صححنا الوجه الاول أنه يجبر على ذلك إذا طالبه رب الارض به، لان ملكه نما في ملك غيره بغير إذنه، فأشبه ما لو انتشرت أغصان شجرته في هواء ملك جاره.
وكذلك النوى حيث ينبت شجرا كالزيتون والنخيل ونحوهما فهو لمالك النوى ويجبر على قلعه.
وبهذا أخذ الحنابلة وأوجبوا إزالتها قولا واحدا.
(فرع)
إذا غرس الارض المعارة ثم رجع المعير قبل إدراك الزرع ففى لزوم قلعه وجهان
(أحدهما)
أنه كالغراس في التبقية والقلع والارش على ما مضى في
الفصل قبله
(والثانى)
يجبر المعير على التبقية إلى الحصاد بأجرة المثل، وذلك لان الزرع يختلف عن الغرس من حيث الزمن فالزرع يحصد في أشهر معلومات.
أما الغراس فلا حد له.
(فرع)
إذا أعار الرجل جاره حائطا ليضع عليه أجذاعا فليس للمعير أن يأخذ المستعير بقطعها بعد الوضع، لان وضع الاجذاع يراد للاستدامة والبقاء وهل يستحق عليه الاجر بعد رجوعه في العارية أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
يستحقها كما يستحق أجرة أرضه بعد الغرس والبناء، فعلى هذا إن امتنع صاحب الاجذاع من بذلها أخذ بقلعها (والوجه الثاني) وهو أصح: لا أجرة له.
والفرق بين الحائط والارض أن الحائط قد يصل مالكه إلى منافعه وإن كانت الاجذاع موضوعة فيه وليس كالارض التى لا يصل مالكها إلى منافعها مع بقاء الغرس والبناء فيها، مع أن العرف لم يمكن بإجارة الحائط وهو جار كما يمكن بإجارة الارض، فلو بذل صاحب الحائط ثمن الاجذاع لصاحبها لم يجبر على قبولها ولا على قلعها بخلاف الغرس والبناء، والفرق بينهما أن الاجذاع إذا حمل أحد طرفيها في حائط المعير والطرف الآخر في حائط المستعير فلم يجبر أن يأخذ(14/216)
قيمة ما في ملكه، والغرس والبناء كله في أرض المعير فجاز أن يجبر على أخذ قيمة ما في غير ملكه.
فلو انهدم الحائط الذى فيه الاجذاع موضوعة فبناه المالك فهل يجوز لصاحب الاجذاع إعادة موضعها بالاذن الاول أم لا، على وجهين
(أحدهما)
له إعادتها لان العارية أوجبت دوام وضعها، فعلى هذا لو امتنع صاحب الحائط من بنائه كان لصاحب الاجذاع أن يبنيه ليصل إلى حقه من وضع أجذاعه فيه والوجه الثاني: ليس له إعادتها، لان الحائط المأذون فيه لم يبق وهذا غيره
ولم يعره مالكه، فعلى هذا لو أراد صاحب الاجذاع أن يبنى الحائط عند امتناع صاحبه من بنائه لم يكن له (فرع)
إذا أعاره جذعا ليمسك به حائط فليس له بعد الامساك أن يرجع فيه ما كان الحائط قائما وكان الجذع صحيحا لما فيه من إدخال الضرر على صاحب الحائط بعد إقامته من خوف السقوط وهلاكه.
وهل له المطالبة بعد الرجوع بأجرته أم لا، على ما ذكرنا من الوجهين، فإن أنكر الجذع أو انهدم الحائط فله الرجوع به لانه لا يتجدد بأخذه ضرر (فرع)
إذا أعار أرضا لدفن ميت فليس له بعد الدفن الرجوع فيها، لان دفن الميت للاستدامة والبقاء شرعا وعرفا، ولو رضى أولياؤه بنقله منعوا منه، لانه حق للميت ولما فيه من انتهاك حرمته بالنقل، وليس لصاحب الارض المطالبة بأجرة القبر بعد الرجوع في العارية وجها واحدا لا يختلف لامرين.
(أحدهما)
أن العرف غير جار به
(والثانى)
أن الميت زائل الملك والاولياء لا يلزمهم، فلو أن الميت المدفون نبشه الوحش وجب أن يعاد إلى قبره جبرا وليس لصاحب الارض بعد ظهوره أن يرجع في عاريته ويمنع من دفنه، لانه قد صار حقا للميت مؤبدا، فلو أن رجلا أذن للناس أن يدفنوا أمواتهم في أرضه فإن سبلها للدفن فليس له الرجوع فيها لخروجها عن ملكه، وإن لم يسبلها فله الرجوع فيها، ولا يكون الاذن بالدفن فيها تسبيلا لها.
فإذا رجع فله المنع من إحداث دفن، وليس له نقل من دفن، ويحرم على من أعار الارض للدفن أن(14/217)
يتصرف على ظاهر القبر من أرضه لما فيه من انتهاك حرمة الميت مع ورود النهى عنه فلو أراد أن يدفن فيه ميتا آخر لم يجز إلا أن يتجاوز مكان لحده فيجوز وإن كان مقارنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه فأعاره ففيه قولان.
أحدهما أنه ضمان وأن المالك للرهن ضمن الدين عن الراهن في رقبة عبده، لان العارية ما يستحق به منفعة العين والمنفعة ههنا للمالك، فدل على أنه ضمان.
والثانى أنه عارية لانه استعاره ليقضى به حاجته فهو كسائر العوارى فإن قلنا إنه ضمان لم يصح حتى يتعين جنس الدين وقدره ومحله، لانه ضمان فاعتبر فيه العلم بذلك.
وإن قلنا إنه عارية لم يفتقر إلى ذلك لانه عاريه فلا يعتبر فيه العلم، فإن عين له جنسا وقدرا ومحلا، تعين على القولين، لان الضمان والعارية يتعينان بالتعيين، فإن خالفه في الجنس لم يصح لانه عقد على ما لم يأذن له فيه، وإن خالفه في المحل بأن أذن له في دين مؤجل فرهنه بدين حال لم يصح.
لانه قد لا يجد ما يفك به الرهن في الحال، وان أذن له في دين حال فرهنه بدين مؤجل لم يصح، لانه لا يرضى أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل، فإن خالفه في القدر بأن أذن له في الرهن بعشرة فرهن بما دونها جاز، لان من رضى أن يقصى عن غيره عشرة رضى أن يقضى ما دونه، وإن رهنه بخمسة عشر لم يصح، لان من رضى بقضاء عشرة لم يرض بما زاد.
(فصل)
وإن رهن العبد بإذنه بدين حال جاز للسيد مطالبته بالفكاك على القولين في الحال، لان للمعير أن يرجع في العارية، وللضامن أن يطالب بتخليصه من الضمان، فان رهنه بدين مؤجل بادنه، فان قلنا: انه عاريه جاز له المطالبة بالفكاك، لان للمعير أن يرجع متى شاء.
وان قلنا انه ضمان لم يطالب قبل المحل لان الضامن إلى أجل لا يملك المطالبة قبل المحل.
(فصل)
وان بيع في الدين فان قلنا انه عاريه رجع السيد على الراهن بقيمته لان العارية تضمن بقيمتها.
وان قلنا انه ضمان رجع بما بيع به، سواء بيع بقدر(14/218)
قيمته أو بأقل أو بأكثر، لان الضامن يرجع بما غرم، ولم يغرم إلا ما بيع به.
(فصل)
وإن تلف العبد فإن قلنا إنه عارية ضمن قيمته، لان العارية مضمونة بالقيمة، وإن قلنا انه ضمان لم يضمن شيئا لانه لم يغرم شيئا.
(فصل)
وإن استعار رجل من رجلين عبدا فرهنه عند رجل بمائة ثم قضى خمسين على أن تخرج حصة أحدهما من الرهن، ففيه قولان
(أحدهما)
لا تخرج لانه رهنه بجميع الدين في صفقة فلا ينفك بعضه دون بعض
(والثانى)
يخرج نصفه لانه لم يأذن كل واحد منهما إلا في رهن نصيبه بخمسين، فلا يصير رهنا بأكثر منه.
(الشرح) الاحكام: سبق أن قلنا إن العارية إباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها غيره، ولكن إذا أذن له المعير في إجارتها أو رهنها أو إعارتها مدة معلومة جاز، لان الحق لمالكه فجاز ما أذن فيه.
وهل تكون العين مضمونه على المستعير أم تبقى يده على الائتمان؟ قلنا: إن كان ذلك بإذنه لا تكون العين مضمونه، أما إذا خالف المستعير المعير بأن أذن له في رهنها فأعارها ففيه قولان
(أحدهما)
أنه لا ضمان لان العين قد استعارها للانتفاع بمنفعتها ولقضاء حاجته منها
(والثانى)
أنه تعدى في منفعة العين على وجه لم يأذن فيه مالكها، وهو الذى يملك المنفعة فدل على أنه ضمان.
وقال ابن المنذر: إذا استعار الرجل من الرجل شيئا يرهنه عند رجل على شئ معلوم إلى وقت معلوم فرهن ذلك على ما أذن فيه له فقد أجمعوا على أن ذلك جائز، وذلك لانه استعاره ليقضى به حاجته، فصح كسائر العوارى.
فإذا أذن له في رهن العارية، فان مالك العارية يكون مالكا للرهن فيضمن بذلك الدين عن الراهن، فيجب أن يكون المعير عالما بقدر الدين ومحله، فإذا
خالفه في أيهما لم يصح لما يترتب عليه من حرج لمالك الرهن وقال أحمد وأبو ثور وأصحاب الرأى: لا يعتبر العلم بقدر الدين وجنسه إلا إذا عينه المستعير من تلقاء نفسه لان العارية لا يعتبر فيها العلم، ولان العارية لجنس من النفع فلم تعتبر معرفة قدره كعارية الارض للزرع.
ولنا في هذه المسألة(14/219)
قولان.
وكذلك إذا رهنه بأكثر مما قدره.
أو حال بمؤجل أو مؤجل بحال للعلل التى أوضحها المصنف، فإذا رهنه بأقل من القدر الذى عينه جاز، لان من رضى بعشرة رضى بما دونها عرفا، فأشبه من أمر بشراء شئ بثمن فاشتراه بأنقص، وللمعير مطالبة الراهن بفكاك الرهن في حال، سواء كان بدين مؤجل أو حال، لان للمعير الرجوع في العارية متى شاء.
وهو أحد القولين عندنا، وقول واحد عند أصحاب أحمد.
(فرع)
إذا حل الدين فلم يفكه الراهن جاز بيعه لان ذلك مقتضى الرهن، فإذا بيع في الدين أو تلف.
فان قلنا: إنه عارية رجع المعير على المستعير بقيمتها لان العارية تضمن بقيمتها، وان تلف من غير تفريط فلا شئ على المرتهن، لان الرهن لا يضمن من غير تعد.
وإذا استعار عاريه من رجلين فرهنها بمائة ثم قضى خمسين على أن تخرج حصة أحدهما فقولان
(أحدهما)
لا تخرج لانه رهنها بجميع الدين في الصفقة فلا ينفك بعضه بقضاء بعض الدين كما لو كان العبد لواحد.
وبهذا قال أحمد وأصحابه
(والثانى)
يخرج نصفه لان كل واحد منهما لم يأذن إلا في رهن نصيبه.
وله أن يرجع متى شاء وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال المالك أكريتها فعليك الاجرة وقال الراكب: بل أعرتنيها فلا أجرة لك، فقد قال في العارية: القول قول
الراكب.
وقال في المزارعة: إذا دفع أرضه إلى رجل فزرعها ثم اختلفا فقال المالك أكريتكها وقال الزارع بل أعرتنيها، فالقول قول المالك: فمن أصحابنا من حمل المسئلتين على ظاهرهما، فقال في الدابة: القول قول الراكب، وقال في الارض القول قول المالك لان العادة أن الدواب تعار، فالظاهر فيها مع الراكب والعادة في الارض أنها تكرى ولا تعار، فالظاهر فيها مع المالك، ومنهم من نقل الجواب في كل واحدة منهما إلى الاخرى وجعلهما على قولين، وهو اختيار المزني
(أحدهما)
أن القول قول المالك، لان المنافع كالاعيان في الملك والعقد عليها، ثم لو اختلفا في عين فقال المالك بعتكها.
وقال الآخر بل وهبتنيها.
كان القول قول المالك.
فكذلك إذا اختلفا في المنافع(14/220)
(والثانى)
أن القول قول المتصرف، لان المالك أقر بالمنافع له، ومن أقر لغيره بملك ثم ادعى عليه عوضا لم يقبل قوله، فان قلنا: ان القول قول المالك حلف ووجبت له الاجرة وفى قدر الاجرة وجهان.
أحدهما: يجب المسمى لانه قبل قوله فيها وحلف عليها.
والثانى: أنه تجب أجرة المثل وهو المنصوص لانهما لو اتفقا على الاجرة واختلفا في قدرها وجب أجرة المثل فلان تجب أجرة المثل وقد اختلفا في الاجرة أولى فان نكل عن اليمين لم يرد على المتصرف لان اليمين انما ترد ليستحق بها حق والمتصرف لا يدعى حقا فلم ترد عليه.
(وان قلنا) ان القول قول المتصرف حلف وبرئ من الاجرة، فإن نكل رد اليمين على المالك - فإذا حلف - استحق المسمى وجها واحدا لان يمينه بعد النكول كالبينة في أحد القولين وكالاقرار في الآخر وأيهما كان وجب المسمى، وان تلفت الدابة بعد الركوب ثم اختلفا (فإن قلنا) ان القول قول المالك حكم
له بالاجرة (وان قلنا) القول قول الراكب، فهل يلزمه أقل الامرين من الاجرة أو القيمه، فيه وجهان، أحدهما يلزمه لاتفاقهما على استحقاقه، والثانى لا يحكم له بشئ لانه لا يدعى القيمة ولا يستحق الاجرة.
(فصل)
وان قال المالك: غصبتنيها فعليك الاجرة، وقال المتصرف: بل أعرتنيها فلا أجرة على، فان المزني نقل أن القول قول المستعير، واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال المسألة على طريقين كما ذكرنا في المسألة قبلها، أحدهما الفرق بين الارض والدابة، والثانى: أنهما على قولين لان الخلاف في المسئلتين جميعا في وجوب الاجرة، والمالك يدعى وجوبها، والمتصرف ينكر فيجب أن لا يختلفا في الطريقين.
ومنهم من قال: ان القول قول المالك، وما نقل المزني غلط، لان في تلك المسألة أقر المالك للمتصرف بملك المنافع، فلا يقبل قوله في دعوى العوض، وههنا اختلفا أن الملك للمالك أو للمتصرف والاصل أنها للمالك.
(فصل)
وان اختلفا فقال المالك: أعرتكها، وقال الراكب بل أجرتنيها(14/221)
فالقول قول المالك لانهما اتفقا أن الملك له، واختلفا في صفة انتقال اليد، فكان القول قول المالك، فإن كانت العين باقية حلف وأخذ.
وان كانت تالفة نطرت.
فان لم تمض مدة لمثلها أجرة حلف واستحق القيمة، وإن مضت مدة لمثلها أجرة فالمالك يدعى القيمة والراكب يقر له بالاجرة، فان كانت القيمة أكثر من الاجرة لم يستحق شيئا حتى يحلف، وإن كانت القيمة مثل الاجرة أو أقل منها، ففيه وجهان.
(أحدهما)
يستحق من غير يمين، لانهما متفقان على استحقاقه.
(والثانى)
لا يستحق من غير يمين، لانه أسقط حقه من الاجرة وهو يدعى
القيمة بحكم العارية، والراكب منكر، فلم يستحق من غير يمين.
(فصل)
وإن اختلفا فقال المالك: غصبتنيها فعليك ضمانها وأجرة مثلها وقال الراكب: بل أجرتنيها فلا يلزمنى ضمانها، ولا أجرة مثلها، فالقول قول المالك مع يمينه، لان الاصل أنه ما أجره، فإن اختلفا - وقد تلفت العين - حلف واستحق القيمة، وان بقيت في يد الراكب مدة ثم اختلفا، فإن المالك يدعى أجرة المثل والراكب يقر بالمسمى فان كانت أجرة المثل أكثر من المسمى لم يستحق الزيادة حتى يحلف، وإن لم تكن أكثر استحق من غير يمين، لانهما متفقان على استحقاقه، والله أعلم.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي في العارية من الام: ولو قال رب الدابة أكريتها إلى موضع كذا بكذا، وقال الراكب بل عارية كان القول قول الراكب مع يمينه، ولو قال.
أعرتنيها، وقال ربها غصبتها كان القول قول المستعير، قال المزني هذا عندي خلاف أصله، لانه يجعل من سكن دار رجل كمن تعدى على سلعة فأتلفها فله قيمة السكن، وقوله من أتلف شيئا ضمن، ومن ادعى البراءة لم يبرأ به، وجملة هذه المسألة أن الكلام يشتمل فيها على أربعة فصول.
فالفصل الاول وهو مذكور في الام صورته في رجل ركب دابة غيره ثم اختلفا، فقال المالك أجرتكها فلى الاجرة، وقال الراكب أعرتنيها، فليس لك أجرة، فالذي نص عليه الشافعي في كتاب العارية أن القول قول الراكب، فاختلف أصحابنا(14/222)
لاختلاف هذا الجواب، فكان أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة وجمهورهم ينقلون جواب كل واحدة من المسألتين إلى الآخر، ويخرجونها على قولين
(أحدهما)
وهو اختيار المزني والربيع أن القول قول المالك في الدابة والارض على ما نص عليه في المزارعة وله الاجرة، ووجهته ما ذكره المزني،
وهو أن المنافع مملوك تصح المعاوضة عليها كالاعيان، ثم ثبت أنهما لو اختلفا في العين بعد استهلاكها، فقال ربها: بعتها عليك، وقال المستهلك.
بل وهبتنيها، فان القول قول المالك دون المتلف وله الاجرة.
(والقول الثاني) ان القول قول الراكب في الدابة والزارع في الارض معا على ما نص عليه في العارية ولا أجرة عليه، ووجهه أنهما متفقان على أن المتصرف قد استهلك منافع لنفسه إما بعارية أو إجارة، ومن ادعى ثبوت عوض على غيره في استهلاك منافعه لم يقبل منه، وخالف استهلاك العين التى قد اتفقا عليها أنها ملك لربها دون مستهلكها، وفى هذا انفصال عما ذكره المزني توجيها.
وقال أبو العباس بن سريج.
ليس ذلك على اختلاف قولين وإنما الجواب على ظاهره في الموضعين فيكون القول في الدابة قول راكبها وفى الارض قول مالكها اعتبارا بالعرف فيها، لان العادة في الدواب جارية باعارتها، فكانت العادة شاهدة لراكبها، والعادة جارية في الارض بالاجارة فكانت العادة شاهدة لمالكها، وهذه طريقة أبى العباس في اعتبار العرف والعادة فيها، وليس مذهبا للشافعي لان من يؤجر قد يعير، ومن يعير قد يؤجر.
فإذا تقرر ما وصفنا فان قلنا: إن القول قول رب الدابة والارض فمع يمينه فإذا تلف فله الاجرة، وفيها وجهان:
(أحدهما)
أنه القدر الذى سماه، لانه قد جعل القول قوله فيه.
(والوجه الثاني) وهو أصح أن له أجرة المثل لانهما لو اختلفا في الاجرة مع اتفاقهما على الاجارة لم يقبل قول المؤجر فيها، فأولى أن لا يقبل قوله مع اختلافهما فيها، فان نكل المالك عن اليمين لم ترد على المتصرف المستعير، لان ردها لا يفيد، لان الاجرة ساقطه عنه لنكول المالك.
وإن قلنا إن القول قول(14/223)
الراكب مع يمينه، فان حلف برئ من الاجرة ورد الدابة، وإن نكل ردت اليمين على المالك ليستحق بها ما ادعاه من الاجرة، فإذا حلف فله المسمى وجها واحدا، لان يمينه بعد النكول، إما أن تجرى مجرى البينة أو الاقرار وأيهما كان فيوجب الحكم بالمسمى.
فلو كانت الدابة قد تلفت بعد الركوب ثم اختلفا فالمالك يدعى الاجرة دون القيمة، والراكب يقر بالقيمة دون الاجرة - فان قلنا: إن القول قول المالك حكم له بالاجرة وحدها دون القيمة لانه لا يدعيها.
وإن قلنا: إن القول قول الراكب فهل يلزمه للمالك أقل الامرين من الاجرة أو القيمة؟ على وجهين.
(أحدهما)
يحكم له به لاتفاقهما على استحقاقه.
(والوجه الثاني) لا يحكم له بشئ فيها لانه لا يدعى القيمة ولا يستحق الاجرة والفصل الثاني وهو أن يقول المالك غصبتها ويقول الآخر بل أعرتنيها، فهذا الاختلاف مؤثر في الاجرة دون القيمة، لان العارية مضمونه كالغصب وأجرة العارية غير مضمونه بخلاف الغصب، فان كان هذا قبل الركوب سقط تأثير هذا الاختلاف، وإن كان بعد الركوب فالذي نقله المزني ههنا أن القول قول المستعير فاختلف أصحابنا فكان أبو على بن أبى هريرة يخرجها على قولين كالمسألة الاولى لاشتراكهما في العله، ويجعل قول المزني ههنا أحد القولين.
وذهب آخرون من أصحابنا إلى أن القول في هذه المسألة قول المالك قولا واحدا، والفرق بين هذه المسألة والتى قبلها أن في اختلافهما في العارية والاجارة اتفاقا على أن الراكب مالك للمنفعه، فجاز أن لا يقبل قول المالك في الاجرة، ولم يتفقا على مثل ذلك في هذه المسألة، لان المالك يقول: أتلفت أيها الراكب منفعتي بغير حق، والراكب يقول: أتلفتها مستعيرا بحق، فلم يصدق.
فمن قال بهذا أجاب عما نقله المزني بجوابين
(أحدهما)
أن ذلك خطأ من المزني في
نقله وسهوه
(والثانى)
تسليم الراوية واستعمالها على أحد تأويلين إما على: القول قول المستعير في قدر الاجرة، وإما على: أن القول قول المستعير في أن لا يلزمه(14/224)
الضمان إلا في العارية دون الغصب، وهذا تأويل من فرق بين ضمان العارية وضمان الغصب، فعلى هذا لو تلفت الدابه ضمن قيمتها وكانت الاجرة على ما مضى والفصل الثالث أن يقول رب الدابة: أعرتكها، ويقول الراكب: استأجرتها فتأثير هذا الاختلاف من وجهين.
(أحدهما)
في ضمان رقبتها، لان العارية مضمونه والمؤاجرة غير مضمونه فان كانت الدابه باقية سقط هذا الاختلاف.
(والثانى)
لزوم ركوبها تلك المدة، فان كانت الدابه تالفه أو المدة منقضيه سقط تأثير هذا الاختلاف، فيكون القول قول المالك مع يمينه أنه ما أجرها لان الراكب يدعى عليه عقدا في إجارتها، فان كانت الدابه قائمة أخذها ولا أجرة له، لان الراكب وإن أقر بها فالمالك لا يدعيها، وان كانت الدابة تالفه كان له الرجوع على الراكب بقيمتها لانها تالفه في يده وهو يدعى بالاجارة إستئمانا فلم تقبل دعواه، ولزمه غرم القيمه، فان لم يكن لمدة الركوب أجرة لم يكن للمالك القيمة إلا بعد يمينه بالله تعالى أنه ما أجرها ولقد أعارها، إلا أن تنقضي فيحلف بالله تعالى لقد أعارها ولا يحلف ما أجرها لانقضاء زمن الاجارة وإن كان لمدة الركوب أجرة هي بقدر القيمه فصاعدا فهل يجب على المالك يمين يستحق بها القيمة أم لا، على وجهين.
(أحدهما)
لا يمين عليه، لان الراكب مقر له أجرة، والمالك يدعيها قيمة فصارا متفقين على استحقاقه.
وإن اختلفا في جنسه فسقطت اليمين فيه.
(والوجه الثاني) عليه اليمين لانه قد أسقط حقه من الاجرة فلم يؤثر إقرار
الراكب بها وهو يدعى القيمة.
والراكب منكر لها.
فإذا حكم له بدعواه لما ذكرنا من التعليل فلا يثبت إلا باليمين.
والفصل الرابع: أن يقول المالك غصبتنيها.
ويقول الراكب: أجرتنيها، فتأثير هذا الاختلاف من وجهين
(أحدهما)
في ضمان الرقبة.
لان المغصوب مضمون والمؤجر غير مضمون.
فان كانت العين باقيه سقط تأثير هذا الاختلاف(14/225)
والثانى في لزوم المدة، فإن كانت المدة قد انقضت أو الدابة قد هلكت سقط تأثير هذا الاختلاف.
وإذا كان كذلك فالقول قول المالك مع يمينه أنه ما أجره ويصير الراكب ضامنا للدابه والاجرة.
فيأخذ بالملك من غير يمين الا أن تكون أجرة المثل أكثر من المسمى الذى أقر به الراكب.
فلا يستحق الزيادة الا بيمين.
وأما القيمة فلا يستحقها الا بيمين.
والله أعلم بالصواب.
وهو حسبى ونعم الوكيل.
والى ما ذهبنا إليه قال أحمد وأصحابه: قال ابن قدامه: وان قال المالك: غصبتها، وقال الراكب أجرتنيها فالاختلاف هنا في وحوب القيمه، لان الاجر يجب في الموضعين، الا أن يختلف المسمى وأجر المثل، والقول قول المالك مع يمينه، فان كانت الدابة تالفه عقيب أخذها حلف وأخذ قيمتها، وان كانت قد بقيت مدة لمثلها أجر، والمسمى بقدر أجر المثل أخذه المالك لاتفاقهما على استحقاقه، وكذلك ان كان أجر المثل دون المسمى.
وفى اليمين وجهان.
وان كان زائدا على المسمى لم يستحقه الا بيمين وجها واحدا والله أعلم(14/226)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الغصب
الغصب محرم لما روى أبو بَكْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.
وروى أبو حميد الساعدي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير طيب نفس منه "
(فصل)
ومن غصب مال غيره، وهو من أهل الضمان في حقه ضمنه، لما روى سَمُرَةَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " على اليد ما أخذت حتى ترده "
(فصل)
فان كان له منفعة تستباح بالاجارة فأقام في يده مدة لمثلها أجرة ضمن الاجرة، لانه يطلب بدلها بعقد المغابنة.
فضمن بالغصب كالاعيان.
(فصل)
فإن كان المغصوب باقيا لزمه رده، لما روى عبد الله بن السائب ابن يزيد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعبا أو جادا، فإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها " فان اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين الرد لم يلزمه ضمان ما نقص من قيمته وقال أبو ثور من أصحابنا: يضمن كما يضمن زيادة العين، وهذا خطأ، لان الغاصب يضمن ما غصب.
والقيمة لا تدخل في الغصب، لانه لا حق للمغصوب منه في القيمة مع بقاء العين، وإنما حقه في العين، والعين باقية كما كانت فلم يلزمه شئ
(فصل)
وإن تلف فئ يد الغاصب أو أتلفه لم يخل إما أن يكون له مثل أو لا مثل له، فان لم يكن له مثل نظرت، فان كان من غير جنس الاثمان كالثياب والحيوان ضمنه بالقيمة.
لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: من أعتق شركا له في عبد فان كان معه ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه.
وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق
فأوجب القيمة في العبد بالاتلاف بالعتق، ولان إيجاب مثله من جهة الخلقة(14/227)
لا يمكن لاختلاف الجنس الواحد في القيمة، فكانت القيمة أقرب إلى إيفاء حقه وان اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف ضمنها بأكثر ما كانت لانه غاصب في الحال التى زادت فيها قيمته فلزمه ضمان قيمته فيها، كالحالة التى غصبه فيها، وتجب القيمة من نقد البلد الذى تلفت العين فيه، لانه موضع الضمان فوجبت القيمة من نقده، وان كان من جنس الاثمان نظرت، فان لم يكن فيه صنعة كالسبيكة والنقرة، فان كان نقد البلد من غير جنسه، أو من جنسه ولكن لا تزيد قيمته على وزنه ضمن بالقيمة، لان تضمينه بالقيمة لا يؤدى إلى الربا.
فضمن بالقيمة كما قلنا في غير الاثمان، وان كان نقد البلد من جنسه وإذا قوم به زادت قيمته على وزنه قوم بجنس آخر حتى لا يؤدى إلى الربا، وان كانت فيه صنعة نظرت، فان كانت صنعة محرمة ضمن كما تضمن السبيكة والنقرة، لان الصنعة لا قيمة لها فكان وجودها كعدمها، وان كانت صنعة مباحة فان كان النقد من غير جنسه أو من جنسه، ولكنه لا تزيد قيمته على وزنه ضمنه بقيمته، لانه لا يؤدى إلى الربا.
وان كان النقد من جنسه ونوعه وتزيد قيمته على وزنه ففيه وجهان
(أحدهما)
يقوم بجنس آخر حتى لا يؤدى إلى الربا
(والثانى)
أنه يضمنه بقيمته من جنسه بالغة ما بلغت، وهو الصحيح، لان الزيادة على الوزن في مقابلة الصنعه فلا تؤدى إلى الربا، وان كان مخلوطا من الذهب والفضة قومه بما شاء منهما
(فصل)
وان كان مما له مثل كالحبوب والادهان ضمن بالمثل، لان ايجاب المثل رجوع إلى المشاهدة والقطع، وايجاب القيمة رجوع إلى الاجتهاد والظن
فإذا أمكن الرجوع إلى القطع لم يرجع إلى الاجتهاد، كما لا يجوز الرجوع إلى القياس مع النص.
وان غصب ماله مثل واتخذ منه ما لا مثل له، كالتمر إذا اتخذ منه الخل بالماء أو الحنطة إذا جعلها دقيقا.
وقلنا انه لا مثل له ثم تلف لزمه مثل الاصل.
لان المثل أقرب إلى المغصوب من القيمه.
وان غصب ما لا مثل له واتخذ منه ماله مثل كالرطب إذا جعله تمرا ثم تلف لزمه مثل التمر، لان المثل أقرب إليه من قيمة(14/228)
الاصل، وإن غصب ماله مثل واتخذ منه ماله مثل كالسمسم إذا عصر منه الشيرج ثم تلف فالمغصوب منه بالخيار إن شاء رجع عليه بمثل السمسم، وإن شاء رجع عليه بمثل الدهن، لانه قد ثبت ملكه على كل واحد من المثلين، فرجع بما شاء منهما.
وإن وجب المثل فأعوز فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تجب قيمته وقت المحاكمة، لان الواجب هو المثل، وإنما القيمة تجب بالحكم فاعتبرت وقت الحكم.
ومنهم من قال تعتبر قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين تعذر المثل، كما تعتبر قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف.
ومنهم من قال تضمن قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى وقت الحكم.
لان الواجب في الذمة هو المثل إلى وقت الحكم، كما أن الواجب في المغصوب رد العين إلى وقت التلف، ثم يغرم قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف، فيجب أن يعتبر في المثل أكثر ما كانت قيمته إلى وقت الحكم.
ومنهم من قال: إن كان ذلك مما يكون في وقت وينقطع في وقت كالعصير وجبت قيمته وقت الانقطاع، لانه بالانقطاع يسقط المثل وتجب القيمة.
وان كان مما لا ينقطع عن أيدى الناس وانما يتعذر في موضع وجبت قيمته وقت الحكم
لانه لا ينتقل إلى القيمة الا بالحكم.
وان وجد المثل بأكثر من ثمن المثل احتمل وجهين
(أحدهما)
لا يلزمه المثل لان وجود الشئ بأكثر من ثمن المثل كعدمه، كما قلنا في الماء في الوضوء والرقبة في الكفارة
(والثانى)
يلزمه، لان المثل كالعين، ولو احتاج في رد العين إلى أضعاف ثمنه لزمه فكذلك المثل.
(الشرح) الغصب ومادته من غصبه غصبا من باب ضرب، واغتصبه أخذه قهرا وظلما فهو غاصب، والجمع غصاب ككافر وكفار، ويتعدى إلى مفعولين.
فيقال: غصبته ماله، وقد تزاد من في المفعول الاول فيقال.
غصبت منه ماله، فزيد مغصوب ماله، ومغصوب منه ماله، ويبنى للمفعول فيقال: اغتصبت(14/229)
لما لم يسم فاعله - المرأة نفسها - بالنصب على المفعولية، وربما قيل: على نفسها يضمن الفعل معنى غلبت، والشئ مغصوب وغصب تسمية بالمصدر وعند الفقهاء الاستيلاء على مال غيره بغير حق، وحكمه أنه محرم بالكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) وقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون) وأما السنة: فقد أخرج أحمد والبخاري عن أبى بكرة ولفظه " خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النحر فقال: أتدرون أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: أليس يوم النحر؟
قلنا بلى.
قال أي شهر هذا.
قلنا الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال أليس ذا الحجة.
قلنا بلى.
قال أي بلد هذا.
قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: أليست البلدة الحرام.
قلنا بلى.
قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت.
قالوا نعم.
قال اللهم اشهد فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ورواه البخاري من حديث ابن عباس وفيه " قالوا يوم حرام " وقالوا " شهر حرام " و " بلد حرام " وعند البخاري أيضا من حديث ابن عمر بنحو حديث أبى بكرة الا أنه ليس فيه قوله " فسكت " في المواضع الثلاثة وقد جمع بعضهم بين الاحاديث بتعدد الواقعة، ورد ذلك الحافظ بن حجر في الفتح فقال وليس بشئ لان الخطبة يوم النحر انما تشرع مرة واحدة، وقد قال في كل منها ان ذلك كان يوم النحر(14/230)
وأشار الكرماني إلى فخامة حديث أبى بكرة مما ليس في الروايات الاخرى، وقد رواه مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد الله في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم وهى رواية مشهورة مرت في كتاب الحج، وقد رأيت الحديث في كتاب دعائم الاسلام للقاضى أبى حنيفة النعمان بن محمد بن حيون التميمي من قضاة المعز لدين الله الفاطمي قال: روينا عن جعفر بن محمد بن على عن أبيه عن آبائه عن على عليه السلام أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب يوم النحر بمنى في حجة الوداع وهو على ناقته القصواء فقال " أيها الناس، إنى خشيت ألا
ألقاكم بعد موقفي هذا بعد عامى هذا، فاسمعوا ما أقول لكم وانتفعوا به، ثم قال أي يوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا اليوم يا رسول الله.
قال: فأى الشهور أعظم عند الله حرمة، قالوا: هذا الشهر يا رسول الله.
قال: فأى بلد أعظم حرمة.
قالوا: هذا البلد يا رسول الله، قال: فإن حرمة أموالكم عليكم وحرمة دمائكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى أن تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت، قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد " اه من كتاب الغصب والتعدى ج 2 ص 484.
ومن السنة أيضا حديث أبى حميد الساعدي الذى ساقه المصنف مر بك تخريجه في كتاب الصلح وغيره من أسفار المجموع، وقد أخرجه الدارقطني وغيره.
ومن السنة أيضا ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث سعيد بن زيد قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول " من أخذ شبرا من الارض ظلما طوقه من سبع أرضين " ورواه الشيخان أيضا من حديث عائشة، ورواه أحمد عن أبى هريرة، ورواه أحمد والبخاري عن ابن عمر، ورواه ابن حبان وابن أبى شيبة وأبو يعلى عن يعلى بن مرة.
وأبو بكرة - هو نفيع بن الحارث - أو ابن مسروح الثقفى، وأم أبى بكرة سمية جارية الحارث بن كلدة وهى أم زياد بن أبيه، وكان أبو بكرة يقول: أنا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويأبى أن ينتسب إلى أحد، وكان قد نزل يوم الطائف إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حصن الطائف، فأسلم في غلمان من غلمان أهل الطائف فأعتقهم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(14/231)
فكان يقول: أنا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد عد في مواليه، قال أحمد بن زهير: سمعت يحيى بن معين يقول: أملى على هوذة بن خليفة البكراوى نسبة إلى أبى بكرة، فلما بلغ إلى أبى بكرة، قلت: ابن من، قال.
دع لا تزده،
وكان أبو بكرة يقول: أنا من إخوانكم في الدين.
وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة، وإنما اختلفوا في فروع منه، فإذا ثبت هذا فإن من غصب شيئا لزمه رده لحديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " على اليد ما أخذت حتى ترده " رواه الحسن البصري عن سمرة، وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف مشهور، وقد أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ في المستدرك.
وحديث السائب بن يزيد عند أحمد وأبى داود والترمذي وقال: حسن غريب وقال: لا نعرفه إلا من حديث ابن أبى ذئب.
وقال الشافعي: إذا شق رجل لرجل ثوبا شقا صغيرا أو كبيرا فأخذ ما بين طرفيه طولا وعرضا أو كسر له شيئا صغيرا أو كبيرا أو رضخه أو جنى له على مملوك فأعماه فذلك كله سواء، ويقوم المتاع والحيوان غير الرقيق صحيحا ومكسورا أو صحيحا ومجروحا قد برئ من جرحه ثم يعطى مالكه ما بين القيمتين ويكون ما بقى بعد الجناية لصاحبه نفعه أو لم ينفعه.
وقد عرف الماوردى الغصب بأدق ما رأيت تعريفا قال " الغصب هو منع الانسان من ملكه والتصرف فيه بغير استحقاق " ومن ثم يكمل الغصب بالمنع والتصرف، فان منع ولم يتصرف كان تعديا وتعلق به ضمان لانه تعد على المالك دون الملك، وإن تصرف ولم يمنع كان تعديا وتعلق به ضمان لانه تعد على الملك دون المالك، فإذا جمع بين المنع والتصرف تم الغصب ولزم الضمان سواء نقل المغصوب عن محله أم لا.
وقال أبو حنيفة: لا يتم الغصب إلا بالنقل والتحويل، فان كان مما لا ينقل كالدور والعقار لم يصح غصبه ولم يضمن استدلالا بأن غير المنقول مختص بالمنع دون التصرف، فصار كحبس الانسان عن ملكه لا يكون موجبا لغصب ماله،(14/232)
ولان المسروق لا يكون مسروقا إلا بالنقل عن الحرز فكذا المغصوب لا يصير مغصوبا إلا بالنقل.
وتحريره قياسا أن كل ما لم يصر به المال مسروقا لم يصر به مغصوبا كالمنع والاحالة، دليله ما روى عطاء بن يسار عَنْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إن أعظم الغلول عند الله أن يأخذ الرجل من أرض غيره إلى أرض نفسه " فأطلق على الارض حكم الغلول والغصب، وروى عنه صلى الله عليه وسلم قوله " لعن الله سارق المنار، قيل: وما سارق المنار، قال: أن يأخذ الرجل العلامة من أرضه إلى أرض غيره " فجعل ذلك سرقة، وقوله صلى الله عليه وسلم " ملعون من لعن أباه، ملعون من لعن أمه، ملعون من غير نجوم الارض " وفى نجوم الارض تأويلان.
أحدهما: علماؤها، والثانى: حدودها وأعلامها وما ضمن بالقبض في العقود ضمن بالتصرف في العقود كالمحول والمنقول، ولان ما ضمن به المنقول ضمن به غير المنقول كالعقود، ولانه عدوان فجاز أن يضمن به غير المنقول كالجناية.
فأما الجواب بأن ما لم ينقل مختص بالمنع كالحبس فهو أن المحبوس عن ماله حصل التعدي عليه دون ماله فلم يصر المال مغصوبا، وخالف ما لو تصرف فيه، مع اشتهار القول عرفا أن فلانا غصب دارا أو أرضا.
وأما الجواب عن المسروق فهو أن القطع فيها يعتبر بهتك الحرز وإخراج المال عنه حتى لو نقل غير محرز لم يكن سارقا يقطع ويخالف الغصب المعتبر بالتصرف في المال، ألا ترى أنه لا يقال: سرق دارا، ويقال: غصب دارا، فإذا تقرر ما بينا فالمغصوب على ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن يكون باقيا
(والثانى)
أن يكون تالفا (والثالث) أن يكون ناقصا، وفى هذه الفصول التى سقناها للمصنف حالان منها.
فإن كان باقيا بحاله ارتجعه المالك منه، فإن ضعف عن ارتجاعه فعلى والى الامر استرجاعه وتأديب الغاصب وإن كان مما لا أجرة لمثله كالطعام والدراهم والدنانير فقد برئ بعد رده من حكم الغصب، وسواء كانت قيمته قد نقصت في الاسواق(14/233)
أو أرخصت الاسعار أم لا، لان بقاء العين لا يعتبر فيه نقص السوق، وإن كان مما لمثله أجرة كالدواب والآلات وسيارات الركوب (التاكسى) وأقمشة الصواوين والسرادقات وأخشاب المقاولين وآلات المعمار والدراجات والالات الكاتبة والالات الحاسبة والمكرفون وما إلى ذلك فعليه رد العين مع أجره المثل ان كان لمثل زمان الغصب أجرة عرفا، وعليه مؤونة الرد إن كان له مؤونة.
وأما الحال الثانية: وهو أن يكون المغصوب تالفا فهو مضمون عليه، سواء تلف بفعله أو بغير فعله لقوله صلى الله عليه وسلم: على اليد ما أخذت حتى ترده ثم هو على ضربين.
(أحدهما)
أن يكون له مثل كالذى تتساوى أجزاؤه من الحبوب والادهان والدراهم والدنانير فعليه رد مثله جنسا ونوعا وصفة وقدرا، لان مثل الشئ أحصر به بدلا من القيمة، لانه مثل في الشرع واللغة، والقيمة مثل في الشرع دون اللغة، فإن طلب أحدهما القيمة لم يجب إليها سواء كان طالبها الغاصب أو المغصوب منه، لانها غير المستحق، فأما إن تراضيا بالقيمة مع القدرة على المثل ففى جوازه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في جواز أخذ أرش العيب مع القدرة على رد المعيب
(والثانى)
أن لا يكون له مثل كالذى تختلف أجزاؤه من الثياب والجوهر فعليه ثمنه في أكثر أحواله، فثمنه من وقت الغصب إلى وقت التلف، وبه قال جمهور الفقهاء.
وقال عبيد اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: عليه مثله من جنسه
وعلى صفته استدلالا برواية العامري عن أنس في رواية الترمذي، وعند الجماعة بمعناه إلا مسلما، وعن عائشة في رواية أحمد وأبى داود والنسائي، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، صَنَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاما فبعثت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم في إناء فما ملكت نفسي أن كسرته، فقلت: يا رسول الله ما كفارته، قال: إناء مثل إناء وطعام كطعام، وما روى أن عثمان رضى الله عنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن بنى عمك سعوا على إبلى فاحتلبوا ألبانها وأكلوا فصلانها، فقال عثمان: نعطيك إبلا مثل ابلك،(14/234)
وفصلانا مثل فصلانك، فقال عبد الله بن مسعود: وقد رأيت يا أمير المؤمنين أن يكون ذلك من الوادي الذى جنى فيه بنو عمك، فقال عثمان.
نعم.
ودليلنا ما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال.
من أعتق شركا له في عبد قوم عليه ان كان موسرا فأوجب قيمة الحصة، ولم يوجب مثل تلك الحصة ولانه لما كانت أجزاؤه مضمونة القيمة دون المثل، حتى من قطع يد دابة لم تقطع يد دابته، ومن حرق ثوبا لم يحرق ثوبه، وجب أن يكون في استهلاك العين بمثابته، ولان ما تختلف أجزاؤه يتعذر فيه المماثله، ولا يخلو من أن يكون زائدا يظلم به الغاصب، أو ناقصا يظلم به المغصوب، والقيمة عدل يؤمن فيها ظلم الفريقين، فأما الجواب عن قوله اناء مثل الاناء وطعام مثل طعام فهو أن القيمة مثل في الشرع، قال تَعَالَى " فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين " فجعل قيمة الجزاء من الطعام مثلا وأما خبر عثمان فمحمول على التفضل منه لتطوعه بذلك عن غيره من بنى عمه.
(فرع)
إذا تقرر أنه مضمون بالقيمة دون المثل فلا يخلو أن يكون من جنس الاثمان كالثياب والحيوان فقيمته من غالب نقد البلد فيه أكثر ما كان قيمة
من حين الغصب إلى حين التلف في سوقه وبلده، فإن قيل لم لم يضمن نقص السوق مع بقاء العين وضمن نقص السوق مع تلف العين، قيل لانه قد فوت عليه زيادة السوق مع تلف العين ولم يفوتها عليه مع بقاء العين.
وان كان من جنس الاثمان فعلى ضربين.
(أحدهما)
أن يكون مباح الاستعمال كالحلي ففى كيفية ضمانه وجهان.
(أحدهما)
يضمن قيمته مصوغا من غير جنسه، ان كان من الذهب ضمن قيمته فضه، وان كان من الفضه ضمن قيمته ذهبا.
(والوجه الثاني) أنه يضمن بمثل وزنه من جنسه وبأجرة صياغته، مثل أن يكون وزن مائة جرام من ذهب وهو مصوغ فيضمن بمائة جرام ذهبا وبأجرة صياغته، وهل تجوز أن تكون الاجرة ذهبا، أم لا، على وجهين
(أحدهما)
لا يجوز حتى تكون ورقا لئلا تفضى إلى الربا، والتفاضل في الذهب بالذهب.(14/235)
والوجه الثاني وهو الاصح، لانه بدل من الصياغة والعمل الذى لا يدخله الربا، ولو دخله الربا إذا كان ذهبا لدخله الربا وإن كان ورقا، لانه لا يجوز أن تباع مائة دينار بمائة دينار ودرهم، كما لا يجوز أن تباع بمائة دينار ودينار.
والضرب الثاني: أن يكون محظور الاستعمال كالأواني، ففى ضمان صياغته وجهان بناء على اختلاف الوجهين في إباحة ادخارهما
(أحدهما)
ان ادخارها محظور وصياغتها غير مضمونة لانها معصية لا تقر فلم تضمن، كصنعة الطنبور والمزمار والعود والبيانة لا تضمن صنعتها إذا نقضت أوتارها أو تلفت أزرارها لانه لا يضمن النقص في الايقاع.
والوجه الثاني: أن ادخارها مباح وصياغتها مضمونة، فعلى هذا في كيفية ضمانها وجهان على ما مضى.
(فرع)
إذا غصب منه تمرا فجعله دبسا (عجوة) أو سمسما فعصره شيرجا، أو زيتونا فاعتصره زيتا فللمغصوب أن يأخذ ذلك كله ويرجع بالنقص إن حدث فيه، فإن ترك ذلك على الغاصب وطالبه بالبدل عن أصل ما غصبه فلا يخلو حال الشئ المغصوب من أحد أمرين، إما أن يكون له مثل أو مما لا مثل له، فان كان مما لا مثل له كالعجوة (التمر اللصيق) وكان يكنز بالبصرة قديما وحديثا، وعندنا في ديارنا يصنع مثله في واحة سيوه، رجع على الغاصب بما استخرجه من دبسه لانه غير ماله، ولم يكن له المطالبة بقيمة تمره، لان أجزاء المغصوب أخص به من قيمته، وإن كان مما له مثل كالسمسم فعلى وجهين
(أحدهما)
أنه بمثابة مالا مثل له في استرجاع ما استخرج منه.
والثانى أن المغصوب منه يستحق المطالبة بمثل الاصل لانه أشبه بالمغصوب من أجزائه الامر الثاني: وهو على أربعة أضرب (الاول) أن يكون له مثل والمستخرج منه مما ليس له مثل، كالحنطة إذا طحنها فيكون للمغصوب منه أن يرجع بمثل الاصل من الحنطة ولا يرجع بقيمة الدقيق، لان مثل ذى المثل أولى من قيمته.
فإن كانت الحنطة بعد الطحن قد زادت قيمتها دقيقا على قيمتها حبا استحق المغصوب منه أن يرجع على الغاصب بعد أخذ المثل بقدر الزيادة في الدقيق كما لو غصب دابة فسمنت ثم ردها بعد ذهاب السمن ضمن نقص السمن الحادث في يده(14/236)
مع بقاء العين، فلان يضمن نقص الزيادة مع استرجاع المثل أولى.
والضرب الثاني: أن يكون الاصل مما ليس له مثل.
والمستخرج منه مما له مثل.
كالزيتون إذا اعتصره زيتا، لان للزيت مثلا وليس للزيتون مثل فيكون للمغصوب منه بمثل الزيت المستخرج وبنقص ان حدث في الزيتون، لانه لما صار المغصوب ذا مثل كان المثل أولى من قيمة الاصل لتقديم المثل على القيمه
والضرب الثالث: أن يكون الاصل مما له مثل والمستخرج منه مما له مثل، كالسمسم إذا اعتصره شيرجا، لان لكل واحد من السمسم والشيرج مثلا فيكون للمغصوب منه الخيار في الرجوع بمثل أيها شاء من السمسم أو الشيرج لثبوت ملكه على كل واحد منها، فإن رجع بالسمسم وكان أنقص ثمنا من الشيرج فأراد نقصه لم يجز.
وقيل له ان رضيت به وإلا فاعدل عنه إلى الشيرج ولا أرش لك لان عين مالك مستهلك ولكل حقك مثل، فلا معنى لاخذ الاصل مع الارش مع استحقاقك لمثل لا يدخله الارش والضرب الرابع أن يكون مما لا مثل له والمستخرج منه لا مثل له كالدبس (العجوة) إذا استخرج دبسه بالماء، فكل واحد من التمر والدبس غير ذى مثل فيكون للمغصوب منه أن يرجع بمثل الاصل من الحنطه والدقيق، ولا يرجع بقيمة الدقيق بأكثر من قيمته تمرا أو دبسا.
والله أعلم قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان ذهب المغصوب من اليد وتعذر رده بأن كان عبدا فأبق، أو بهيمه فضلت، كان للمغصوب منه المطالبة بالقيمه لانه حيل بينه وبين ماله، فوجب له البدل كما لو تلف، وإذا قبض البدل ملكه، لانه بدل ماله فملكه كبدل التالف، ولا يملك الغاصب المغصوب، لانه لا يصح تملكه بالبيع، فلا يملك بالتضمين كالتالف، فإن رجع المغصوب وجب رده على المالك.
وهل يلزم الغاصب الاجرة من حين دفع القيمه إلى أن رده، فيه وجهان
(أحدهما)
لا تلزمه لان المغصوب منه ملك بدل العين فلا يستحق أجرته
(والثانى)
تلزمه لانه تلفت عليه منافع ماله بسبب كان في يد الغاصب فلزمه ضمانها، كما لو لم يدفع(14/237)
القيمة.
وإذا رد المغصوب وجب على المغصوب منه رد البدل، لانه ملكه
بالحيلولة وقد زالت الحيلولة فوجب الرد، وإن زاد البدل في يده نظرت، فإن كانت الزيادة متصلة كالسمن وجب الرد مع الزيادة لان الزيادة المتصلة تتبع الاصل في الفسخ بالعيب.
وهذا فسخ، وإن كانت زيادة منفصله كالولد واللبن لم ترد الزيادة كما لا ترد في الفسخ بالعيب.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي رضى الله عنه: ولو غصب دابة فضاعت فادعى قيمتها ثم ظهرت ردت عليه ورد ما قبض من قيمتها لانه أخذ قيمتها على أنها فائتة فكأن الفوت قد بطل لما وجدت، ولو كان هذا بينا ما جاز أن تباع دابته عليه، كعين جنى عليها فابيضت، أو على سن صبى فانقلعت، فأخذ أرشها بعد أن يئس منها ثم ذهب البياض ونبتت السن، فلما عاد أرجع حقها وبطل الارش بذلك فيهما.
وهذا كما قال: إذا غصب عبدا فأبق أو بعيرا فشرد أو فرسا فعاد فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون ذلك ممكنا ومكانه معروفا، فالواجب أن يؤخذ الغاصب بطلبه والتزام المؤونة في رده، ولو كانت أضعاف قيمته، كما يؤخذ بهدم بنائه، وان كان أكثر من قيمة الارض المغصوبة أضعافا، فلو أمر الغاصب مالكها أن يستأجر رجلا لطلبها فأستأجر رجلا، وجبت أجرته على الغاصب، ولو طلب المالك بنفسه لم يستحق على الغاصب أجرة لطلبها، لانه أمره باستئجار غيره فصار متطوعا بطلبه.
فإن استأجر الغاصب مالكها لطلبها بأجرة مسماة ففيه وجهان.
أحدهما أن الاجارة غير جائزة وله الاجرة المسماة، لانه مالك لمنافع نفسه فملك المعاوضة عليها، والوجه الثاني أن الاجارة باطلة ولا أجرة له لانه لا يصح أن يعمل في ماله بعوض على غيره.
فإذا حصل منهما عدول عن طلب المغصوب إلى أخذ قيمته فهذا على ثلاثة أقسام
(أحدها) أن يبذلها الغاصب ويمتنع المغصوب منه.
والقسم الثاني: أن يطلبها المغصوب منه ويمتنع الغاصب.
والقسم الثالث أن يتفق عليها المغصوب منه والغاصب(14/238)
فأما القسم الاول وهو أن يبذل الغاصب قيمة المغصوب ويطالب المغصوب منه بغصبه ويمتنع من أخذ قيمته فالقول قول المغصوب منه ويجبر الغاصب على طلبه والتزام مئونته، لان المالك لا يجبر على إزالة ملكه وأما القسم الثاني وهو أن يطلب المغصوب منه قيمة غصبه ويمتنع الغاصب من بذلها ليرد الغصب بعينه فينظر: فإن كانت الغصب على مسافة قريبة يقدر على رده بعد زمان يسير فالقول قول الغاصب ولا يجبر على بذل القيمة، لان الشئ المغصوب مقدور عليه.
وإن كان على مسافة بعيدة لا يقدر على رده إلا بعد زمان طويل فالقول قول المغصوب منه ويجبر الغاصب على بذل القيمة له ليتعجل ما استحقه عاجلا، فإذا أخذ القيمة وملكها ملكا مستقرا وملك الغاصب الغصب ملكا صريحا فليس للمغصوب منه أن يسترده، لانه وإن ملكه بالخيار ابتداء فلم يملكه انتهاء، والغاصب وإن لم يملكه بالخيار ابتداء فقد ملكه انتهاء، وقد استقر ملكه عليه.
الضرب الثاني: وهو أن يكون رده ممتنعا للجهل بمكانه فيؤخذ الغاصب جبرا بقيمته أكثر ما كانت من وقت الغصب إلى فوات الرد فإذا أخذها المغصوب منه ففى استقرار ملكه عليها وجهان لاصحابنا
(أحدهما)
أن ملكه عليها مستقر لفوات الرد والوجه الثاني: لا، لجواز القدرة على الرد، فإن وجد الشئ المغصوب بعد أخذ قيمته فقد اختلفوا في حكمه، فذهب الشافعي ومالك إلى أنه باق على ملك المغصوب منه يأخذه ويرد ما أخذ من قيمته.
وقال أبو حنيفة: يكون المغصوب ملكا للغاصب بما دفعه من قيمته ما لم يكونا
قد تكاذبا في قيمته، فإن كانا قد تكاذبا وأقر الغاصب بأقل منها وحلف عليها كان المغصوب منه أحق بالغصب حينئذ استدلالا بأن البدل إذا كان في مقابلة المبدل كان استحقاق البدل موجبا لتملك المبدل، كالبيع والنكاح لما استحق على المشترى الثمن تملك المثمن، ولما استحق على الزوج المهر ملك البضع.
كذلك الغاصب لما ملك المغصوب منه القيمة ملك الغاصب المغصوب، ولان الجمع بين البدل والمبدل مرتفع في الاصول وفى بقاء ملك المغصوب منه على الغصب بعد أخذ القيمة جمع بينه وبين بدله وذلك باطل، البائع لا يجوز له أن يجتمع له ملك(14/239)
الثمن والمثمن، والزوج لا يجوز أن يجتمع له ملك المهر والبضع، ولان ما أخذت قيمته للمغصوب امتنع بقاؤه على ملك المغصوب قياسا على ما أمكن رده ودليلنا قوله تَعَالَى (لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) فما خرج عن التراضي خرج عن الاباحة في التمليك، ولحديث سمرة مرفوعا " على اليد ما أخذت حتى ترده " فجعل الرد غاية الاخذ، فاقتضى عموم الظاهر استحقاقه في الاحوال كلها، ولان قدرة المعاوض على ما عاوض عليه أولى بصحة تملكه من العجز عنه (فرع)
إذا نما البدل في يد المغصوب منه فلا يخلو حال البدل من أن تكون الزيادة منفصلة أو غير منفصلة، فإن كانت الزيادة منفصلة كالولد والبيض واللبن فلا ترد الزيادة.
أما إذا كانت متصلة كالسمن ونحوه فإن البدل يرد مع الزيادة وهذا الحكم يختلف عنه في حالة زيادة المغصوب كما سيأتي.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
فإن نقص المغصوب نقصانا تنقص به القيمة نظرت، فان كان في غير الرقيق لم يخل إما أن يكون نقصانا مستقرا أو غير مستقر، فان كان مستقرا
بأن كان ثوبا فتخرق، أو إناء فانكسر أو شاة فذبحت أو طعاما فطحن ونقصت قيمته رده ورد معه أرش ما نقص، لانه نقصان عين في يد الغاصب نقصت به القيمه فوجب ضمانه كالقفيز من الطعام والذراع من الثوب، فان ترك المغصوب منه المغصوب على الغاصب وطالبه ببدله لم يكن له ذلك ومن أصحابنا من قال في الطعام إذا طحنه: أن له أن يتركه ويطالبه بمثل طعامه لان مثله أقرب إلى حقه من الدقيق، والمذهب الاول، لان عين ماله باقيه فلا يملك المطالبة ببدله كالثوب إذا تخرق والشاة إذا ذبحت وإن كان نقصانا غير مستقر، كطعام ابتل وخيف عليه الفساد، فقد قال في الام " للمغصوب منه مثل مكيلته " وقال الربيع فيه قول آخر أنه يأخذه وأرش النقص، فمن أصحابنا من قال هو على قولين
(أحدهما)
يأخذه وأرش النقص كالثوب إذا تخرق
(والثانى)
أنه يأخذ مثل مكيلته لانه يتزايد فساده إلى أن يتلف(14/240)
فصار كالمستهلك.
ومنهم من قال يأخذ مثل مكيلته قولا واحد ولا يثبت ما قاله الربيع، وإن كان في الرقيق نظرت، فإن لم يكن له أرش مقدر كإذهاب البكارة والجنايات التى ليس لها أرش مقدر رده وأرش ما نقص، لانه نقصان ليس فيه أرش مقدر فضمن بما نقص كالثوب إذا تخرق، وإن كان له أرش مقدر كذهاب اليد نظرت، فان كان ذهب من غير جناية رده وما نقص من قيمته.
ومن أصحابنا من قال يرده وما يجب بالجناية، والمذهب الاول، لان ضمان اليد ضمان المال.
ولهذا لا يجب فيه القصاص ولا تتعلق به الكفارة في النفس، فلم يجب فيه أرش مقدر.
وإن ذهب بجناية بأن غصبه ثم قطع يده، فان قلنا إن ضمانه باليد كضمانه بالجناية وجب عليه نصف القيمة وقت الجناية، لان اليد في الجناية تضمن بنصف بدل النفس.
وإن قلنا إن ضمانه ضمان المال وجب عليه أكثر الامرين من نصف
القيمة أو ما نقص من قيمته، لانه وجد اليد والجناية فوجب أكثرهما ضمانا.
وإن غصب عبدا يساوى مائة ثم زادت قيمته فصار يساوى ألفا ثم قطع يده لزمه خمسمائة، لان زيادة السوق مع تلف العين مضمونة، ويد العبد كنصفه فكأنه بقطع اليد فوت عليه نصفه فضمنه بزيادة السوق.
(فصل)
وإن نقصت العين ولم تنقص القيمة نظرت، فان كان ما نقص من العين له بدل مقدر فنقص ولم تنقص القيمة، مثل أن غصب عبدا فقطع أنثييه ولم تنقص قيمته، أو غصب صاعا من زيت فأغلاه فنقص نصفه ولم تنقص قيمته، لزمه في الانثيين قيمة العبد وفى الزيت نصف صاع، لان الواجب في الانثيين مقدر بالقيمة.
والواجب في الزيت مقدر بما نقص من الكيل فلزمه ما يقدر به.
وان كان ما نقص لا يضمن إلا بما نقص من القيمة فنقص ولم تنقص القيمه كالسمن المفرط إذا نقص ولم تنقص القيمه لم يلزمه شئ، لان السمن يضمن بما نقص من القيمة ولم ينقص من القيمه شئ فلم يلزمه شئ.
واختلف أصحابنا فيمن غصب صاعا من عصير فأغلاه ونقص نصفه ولم تنقص قيمته، فقال أبو على الطبري: يلزمه نصف صاع كما قلنا في الزيت وقال أبو العباس: لا يلزمه شئ لان نقص العصير باستهلاك مائية ورطوبه(14/241)
لا قيمة لها، وأما حلاوته فهى باقيه لم تنقص، ونقصان الزيت باستهلاك أجزائه ولاجزائه قيمة فضمنها بمثلها.
(فصل)
وإن تلف بعض العين ونقصت قيمة الباقي بأن غصب ثوبا تنقص قيمته بالقطع فشقه بنصفين ثم تلف أحد النصفين لزمه قيمة التالف، وهو قيمة نصف الثوب، أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ورد الباقي وأرش ما نقص، لانه نقص حدث بسبب تعدى به فضمنه، فان كان لرجل خفان
قيمتهما عشرة فأتلف رجل أحدهما فصار قيمة الباقي درهمين ففيه وجهان
(أحدهما)
يلزمه درهمان، لان الذى أتلفه قيمته درهمان
(والثانى)
تلزمه ثمانيه، وهو المذهب، لانه ضمن أحدهما بالاتلاف ونقص قيمة الآخر بسبب تعدى به، فلزمه ضمانه
(فصل)
فان غصب ثوبا فلبسه وأبلاه، ففيه وجهان
(أحدهما)
يلزمه أكثر الامرين من الاجرة أو أرش ما نقص، لان ما نقص من الاجزاء في مقابلة الاجرة، ولهذا لا يضمن المستأجر أرش الاجزاء
(والثانى)
تلزمه الاجرة وأرش ما نقص، لان الاجرة بدل للمنافع، والارش بدل الاجزاء، فلم يدخل أحدهما في الآخر، كالاجرة وأرش ما نقص من السمن
(فصل)
وان نقصت العين ثم زال النقص بأن كانت جاريه سمينه فهزلت ونقصت قيمتها، ثم سمنت وعادت قيمتها ففيه وجهان
(أحدهما)
يسقط عنه الضمان، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لانه زال ما أوجب الضمان فسقط الضمان، كما لو جنى على عين فابيضت ثم زال البياض
(والثانى)
أنه لا يسقط، وهو قول أبى سعيد الاصطخرى، لان السمن الثاني غير الاول فلا يسقط به ما وجب بالاول وإن سمنت ثم هزلت ثم سمنت ثم هزلت ضمن أكثر السمنين قيمه، في قول أبى على بن أبى هريرة، لان بعود السمن يسقط ما في مقابلته من الارش، ويضمن السمنين في قول أبى سعيد - لان السمن الثاني غير الاول - فلزمه ضمانهما.(14/242)
(فصل)
وإن غصب عبدا فجنى على إنسان في يد الغاصب لزم الغاصب ما يستوفى في جنايته، فان كانت الجناية على النفس فأقيد به ضمن الغاصب قيمته
لانه تلف بسبب كان في يده فان كان في الطرف فأقيد منه ضمن وفى الذى يضمن وجهان
(أحدهما)
أرش العضو في الجناية
(والثانى)
ما نقص من قيمته لانه ضمان وجب باليد لا بالجناية لان القطع في القصاص ليس بجناية وقد بينا الوجهين فيما تقدم فان عفى عن القصاص على مال لزم الغاصب أن يفديه لانه حق تعلق برقبته في يده فلزمه تخليصه منه.
(الشرح) الاحكام: يشتمل هذا الفصل على الحال الثالثة من حالات المغصوب وهو أن يكون المغصوب ناقصا فعلى ضربين.
أحدهما: أن يكون حيوانا.
والثانى: أن يكون غير حيوان، فإن كان غير حيوان فالنقص على ضربين
(أحدهما)
أن يكون متميزا كالحنطة يتلف بعضها أو كالثياب يتلف ثوب منها أو ذراع من جملتها، فيكون ضامنا للنقص بالمثل إن كان ذا مثل، وبالقيمة إن لم يكن ذا مثل، ويرد الباقي بعينه، سواء كان التالف أكثر المغصوب أو أقله، وهذا متفق عليه.
(والضرب الثاني) أن يكون النقص غير متميز كثوب شقه أو إناء كسره أو رضضه، فإن كان الناقص من أقل منافعه أخذه وما نقص من قيمته إجماعا فيقوم صحيحا، فإن قيل: مائة درهم قوم ممزقا أو مكسورا، فإن قيل: ستون درهما فنقصه أربعون فيأخذه ممزقا أو مكسورا ويأخذ منه أربعين درهما، وإن كان الناقص أكثر منافعه فقد اختلف الفقهاء فيه فذهب الشافعي إلى أنه يأخذه وما نقص من قيمته حتى لو كان يساوى مائة درهم فصار بعد النقص يساوى درهما أخذه وتسعة وتسعين درهما، وهكذا لو تمزق الثوب وترضض الاناء حتى لم يبق لهما قيمة أخذ قيمتها كاملة وأخذ المرضوض والممزق ولم يملكه الغاصب مع أداء القيمة.
وقال مالك: يكون المالك مخيرا بين تسليمه إلى الغاصب ويأخذ منه جميع القيمة وبين أن يمسك به ناقصا ولا أرش له.
وقال أبو حنيفة.
يكون المالك مخيرا بين أن يتمسك به ويرجع بأرش نقصه(14/243)
وبين أن يسلمه إلى الغاصب ويرجع بجميع قيمته، وإذا تمزق الثوب وترضض الاناء حتى بلغ النقص جميع القيمة غرم القيمة وملك المرضوض والممزق استدلالا بأن لا يصير جامعا بين البدل والمبدل، قالوا ولان العين إذا ذهب أكثر منافعها صار الباقي منها ذاهب المنفعة فجاز له أن يرجع بجميع القيمة، ولان الاقل تبع للاكثر فلما كان غارما لاكثر المنافع وجب أن يكون غارما لاقلها.
دليلنا.
قوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " فإذا اعتدى باستهلاك بعضه لم يجز أن يقوى عليه باستهلاك كله، ولان ما لم يلزم غرم جميعه باستهلاك أكثره قياسا على النقص المتميز، ولان ما لم يكن تمييز بعضه موجبا لغرم جميعه لم يكن عدم تمييزه موجبا لغرم جميعه قياسا على النقص الاقل ولا يدخل على هاتين العلتين أطراف العبد كما نص عليه الماوردى في الحاوى.
فأما الجواب عن قولهم.
انه جمع بين البدل والمبدل فهو غير صحيح، لان المأخوذ بدل من المستهلك دون الباقي، فلم يكن جمعا بين البدل والمبدل، وأما الجواب عن قولهم.
ان الاقل تبع للاكثر، فهو أنه لو جاز أن يكون هذا دليلا على وجوب الاقل تبعا لسقوط الضمان في الاكثر، حتى لو أنه أتلف أقل المنافع لم يضمنها، لانه لم يضمن الاكثر فيها، وهذا قول مردود عندنا، فإذا ثبت وجوب أخذه وقدر نقصه قليلا كان النقص أو كثيرا، نفع الباقي منه أو لم ينفع نظر، فإن كان من غير جنس الاثمان ضمن نقص قدر قيمته، وان كان من جنس الاثمان فقد قال أبو حنيفة ليس له الرجوع بنقصه، وهو بالخيار بين تسليمه إلى الغاصب وأخذ قيمته كلها وبين امساكه ولا أرش، لان الاثمان مستحقة في الارش، فلم يجز أن يدخلها أرش، وهذا خطأ لان كل نقص دخل عوض
أو معوض استحق أرشه - ولم يجز مع امكان الارش أن يكون جزءا، وإذا كان هذا ضامنا ففى كيفية ضمانه وجهان على ما مضى.
(أحدهما)
يضمن اجزاء صنفه لا غير.
(والثانى)
يضمن قدر النقص من قيمته ذهبا ان كان من ورق وورقا ان كان من ذهب.(14/244)
وان كان حيوانا فعلى ضربين
(أحدهما)
أن يكون بهيمة
(والثانى)
أن يكون آدميا، فإن كان بهيمة - وهو محل اهتمامنا بالبحث دون الآخر - فإنه يردها ويرد معها نقص ما بين قيمتها سليمة وناقصة، وسواء كان النقص بجناية أو حادثة، وسواء كانت البهيمة ذات ظهر أو در.
وقال أبو حنيفة.
ان كان حيوانا ينتفع به من جهة واحدة كذات ظهر لا در لها كالبغال والحمير أو ذات در لا ظهر لها كالغنم ضمنها بما نقص من قيمتها كقولنا وان كان ينتفع بها من جهتين كظهر ودر كالابل، وكذلك البقر والجاموس فانهما يعملان في المحراث والساقية وجر العربات والعجلات والزحافات والنوارج كان في احدى عينيه ربع قيمته، وفى سائر أعضائه ما نقص استدلالا بما رواه عن عمر رضى الله عنه أنه حكم في احدى عينى بقرة بربع قيمتها، وقد رد الماوردى وغيره هذا الوجه، لان ما لم يضمن أعضاؤه بمقدر لم تضمن عينه قياسا على ذات الظهر، ولان كل ما لم يضمن بمقدر في غير ذات الظهر لم يضمن بمقدر من ذات الظهر والدر، قياسا على سائر الاعضاء، وما روى عن عمر (رض) لا دليل فيه لانها قصه وافقت الحكومة فيها ربع القيمة.
وقال مالك إذا قطع ذنب حمار القاضى كان عليه جميع قيمته، ولو كان لغير القاضى لزمه ما نقص من قيمته استدلالا بأن في قطع ذنب حماره غضاضة على
المسلمين ووهن في الدين، وحسبك بقبح هذا القول دليلا على فساده، ولو جاز أنه يجب في ذنب حماره جميع القيمه لوجب ذلك في تحريق ثيابه والتعدى في قماشه ولتضاعف الجناية عليه على الجنايه على غيره، ولكان كل ما اختص به زائدا في الحكم على من سواه، وفى اتفاق الجميع على أن القاضى وغيره سواء في ضمان ما استهلك له أو جنى عليه وجب أن يكون وغيره على سواء في الجنايه على حماره (فرع)
صورة من نقصت العين في يده ثم زال النقص فهى كما قال الشافعي في الام هكذا.
ولو غصب جارية تساوى مائة فزادت في يده بتعليم وتهذيب وأنفق عليها من ماله حتى صارت تساوى ألفا ثم نقصت حتى صارت تساوى مائه فإنه يأخذها وتسعمائة معها.
قال الماوردى: وهذه المسألة مشتلة على فصلين:(14/245)
(أحدهما)
يغصبها ناقصة فتزيد ثم تنقص
(والثانى)
أن يغصبها زائدة فتنقص ثم تزيد، وتكلم عن الفصل الاول فصور المسألة في أمة زادت ببرء أو سمن أو تعليم قرآن فصارت تساوى ألفا ثم نقصت بنسيان أو هزال أو مرض حتى عادت لحالها لا تساوى إلا المائة، فإنه يردها ومعها تسعمائة لنقص الزيادة الحادثه في يده وقال أبو حنيفة: يردها ولا غرم عليه لنقص ما زاد في يده استدلالا بأنه رد المغصوب كما أخذه.
ولان الزيادة في يد الغاصب قد تكون زيادة في السوق أو زيادة في العين، فلما كانت زيادة الرق غير مضمونة على الغاصب إذا نقصت، كانت زيادة العين غير مضمونة على الغاصب إذا نقصت، وتحريره قياسا أنها زيادة حدثت في يد الغاصب فوجب أن يضمنها مع بقاء المغصوب قياسا على زيادة السوق طردا وعلى تلف العين عكسا، وكان ضمان الغصب إنما يستحق فيما غصب باليد دون ما لم يغصب.
وإن صار تحت يده، ألا ترى لو أن شاة دخلت دارا لرجل لم يضمنها.
وان صارت تحت يده.
وهكذا لو أطارت الريح ثوبا إلى
داره لحدوث ذلك بغير فعله، وكذا الزيادة الحادثة في يده دليلنا: أنه نقص عين حدث في يد الغاصب فوجب أن يكون مضمونا عليه قياسا على نقصها عن حال غصبها، بأن يغصبها صحيحة فتمرض أو سمينة فتهزل، ولانه لو باعها بعد حدوث الزيادة بها ضمن نقصها فكذلك ان لم يبعها وفى ضمان النقص وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه غير مضمون على الغاصب استشهادا بقول الشافعي فيمن جنى على عين رجل فابيضت فأخذ ديتها، ثم زال البياض أنه يرد ما أخذ من الدية لارتفاع النقص بحدوث الصحه، فكذا الغاصب والوجه الثاني: وهو قول أبى سعيد الاصطخرى، والاشبه بأصول الشافعي أنه مضمون على الغاصب فيردها وتسعمائة معها كما نقلنا ذلك عن الشافعي فيما سبق، ووجهه أن حدوث النقص قد أوجب ثبوت الضمان في ذمته فما طرأ بعده من زيادة فحادث على ملك المغصوب منه، فلم يجز أن يسقط به ما قد ملكه من الغرم وليس كبياض العين بالجناية لانها مضمونة بالفعل، والغصب مضمون باليد.(14/246)
فعلى هذا يتفرع على هذين الوجهين إذا ماتت ضمن على قول أبى سعيد الاصطخرى قيمتها ونقصها مهما تكرر، ويتفرع على ذلك إذا غصبها وهى تساوى ألفا فمرضت حتى صارت تساوى مائة ثم برأت حتى صارت قيمتها ألفا ثم مرضت حتى صارت قيمتها مائه فعلى قول أبى على بن أبى هريرة ردها وتسعمائه نقص مرة واحدة، وعلى قول أبى سعيد رد معها ألفا وثمانمائه نقصها مرتين.
وهكذا لو عاد نقصها مائة مرة ضمن مائة نقص، فلو عادت بعد النقص الثاني إلى البدء ثم ردها لم يلزمه عَلَى قَوْلِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ شئ ولزمه على قول أبى سعيد نقصان.
والله أعلم بالصواب (فرع)
قال الشافعي إن كان ثوبا فأبلاه المشترى أخذه من المشترى وما
بين قيمته صحيحا يوم غصبه وبين قيمته وقد أبلاه، ويرجع المشترى على الغاصب بالثمن الذى دفع.
اه وهذه المسألة تشتمل على: إما إبلاء الغاصب له وإما إبلاء المشترى، فالغاصب لا يخلو حاله في الثوب الذى غصبه من أربعة أقسام (أحدها) أن لا يبلى في يده ولا تمضى عليه مدة يكون لها أجرة، فهذا يرد الثوب ولا شئ عليه سواه
(والثانى)
أن يكون قد بلى ولم تمض عليه مدة يكون لها أجرة، فهو يرده ويرد معه أرش البلى لا غير.
(والثالث) أن لا يبلى، لكن قد مضت عليه مدة يكون لها أجرة، فهو يرده ويرد معه أجرة مثله لا غير (والرابع) أن يبلى وتمضى عليه مدة يكون لها أجرة، فهل يجمع عليه بين الارش والاجرة أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
يجمع بينهما وتجبان عليه لاختلاف موجبها، لان الارش يجب باستهلاك الاجزاء والاجرة تجب باستهلاك المنفعة والوجه الثاني: أنهما يجتمعان عليه، ويجب عليه أكثر الامرين من الارش والاجرة، لان استهلاك الاجزاء في مقابلة الاجرة، ألا ترى أن المستأجر لا يضمن أرش البلى، لانه في مقابلة ما قد ضمنه من الاجرة.
ولكن لو كان المغصوب حيوانا فمضت عليه في يد الغاصب مدة فهزل فيها بدنه وذهب فيها سمنه لزمته الاجرة مع أرش الهزال وجها واحدا.
والفرق بينها وبين الثوب أن استعمال الثوب موجب لبلاه، وليس استخدام الحيوان موجبا لهزاله.
والله أعلم(14/247)
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
وإذا زاد المغصوب في يد الغاصب بأن كانت شجرة فأثمرت، أو جارية فسمنت أو ولدت ولدا مملوكا، ثم تلف، ضمن ذلك كله، لانه مال
للمغصوب منه حصل في يده بالغصب، فضمنه بالتلف، كالعين المغصوبة، وان ألقت الجارية الولد ميتا ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه يضمنه بقيمته يوم الوضع كما لو كان حيا، وهو ظاهر النص لانه غصبه بغصب الام فضمنه بالتلف كالام.
(والثانى)
أنه لا يضمنه، وهو قول أبى اسحاق، لانه انما يقوم حال الحيلولة بينه وبين المالك، وهو حال الوضع، ولا قيمة له في تلك الحال فلم يضمن، وحمل النص عليه إذا ألقته حيا ثم مات.
(فصل)
وان غصب دراهم فاشترى سلعه في الذمه، ونقد الدراهم في ثمنها وربح، ففى الربح قولان، قال في القديم: هو للمغصوب منه، لانه نماء ملكه فصار كالثمرة والولد، فعلى هذا يضمنه الغاصب إذا تلف في يده كالثمرة والولد، وقال في الجديد: هو للغاصب لانه بدل ماله فكان له.
(فصل)
وان غصب عبدا فاصطاد صيدا فالصيد لمولاه، لان يد العبد كيد المولى فكان صيده كصيده وهل تلزم الغاصب أجرة العبد للمدة التى اصطاد فيها فيه وجهان.
(أحدهما)
تلزمه لانه أتلف عليه منافعه
(والثانى)
لا تلزمه لان منافعه صارت إلى المولى، وان غصب جارحه كالفهد والبازى فاصطاد بها صيدا ففى صيده وجهان
(أحدهما)
أنه للغاصب، لانه هو المرسل والجارحه آله، فكان الصيد له، كما لو غصب قوسا فاصطاد بها، وعليه أجرة الجارحة لانه أتلف على صاحبها منافعها
(والثانى)
أن الصيد للمغصوب منه، لانه كسب ماله فكان له كصيد العبد فعلى هذا في أجرته وجهان على ما ذكرناه في العبد.
(فصل)
وان غصب عينا فاستحالت عنده بأن كان بيضا فصار فرخا أو كان حبا فصار زرعا أو كان زرعا فصار حبا فللمغصوب منه أن يرجع به لانه عين ماله(14/248)
فان نقصت قيمته بالاستحالة رجع بأرش النقص لانه حدث في يده، وان غصب عصيرا فصار خمرا ضمن العصير بمثله لانه بانقلابه خمرا سقطت قيمته فصار كما لو غصب حيوانا فمات فان صار الخمر خلا رده، وهل يلزمه ضمان العصير مع رد الخل؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
يلزمه لان الخل غير العصير فلا يسقط برد الخل ضمان ما وجب بهلاك العصير.
(والثانى)
لا يلزمه لان الخل عين العصير فلا يلزمه مع ردها ضمان العصير، فعلى هذا إن كانت قيمة الخل دون قيمة العصير رد مع الخل أرش النقص.
(فصل)
وإن غصب شيئا فعمل فيه عملا زادت به قيمته بأن كان ثوبا ففصره أو قطنا فغزله أو غزلا فنسجه أو ذهبا فصاغه حليا أو خشبا فعمل منه بابا رده على المالك لانه عين ماله ولا يشارك الغاصب فيه ببدل عمله لانه عمل تبرع به في ملك غيره فلم يشاركه ببدله.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي: وفى ولد المغصوبة الذى ولد في الغصب مضمون على الغاصب سواء كان الحمل موجودا عند الغصب أو حادثا بعده وقال أبو حنيفة: ولد المغصوب غير مضمون على الغاصب سواء كان الحمل موجودا عند الغصب أو حادثا بعده، إلا أن يمنع من بعد الطلب فيضمن بالمنع استدلالا بما ذكره في زيادة البدن من أن حدوث الشئ في يده من غير فعل لا يوجب الضمان عليه كالريح إذا أطارت ثوبا إليه أو الشاة إذا دخلت دارا.
ودليلنا: هو أن ولد المغصوبة في يد الغاصب كالام بدليل أنه لو ادعاه لقبل قوله لمكان يده فوجب أن يكون ما مثاله باليد كأمه، ولان ضمان الغصب أقوى من ضمان العبد، ثم ثبت أن ولد الصيد مضمون على المحرم فولد الغصب أولى
أن يكون مضمونا على الغاصب، لانه نماء عن أصل مضمون بالتعدي فصح أن يكون مضمونا ومغصوبا كالصوف واللبن، ولانه متصل بالمغصوب فصح أن يكون مضمونا كالسمن وثمر الغرس، ولان ما ضمن بالجناية ضمن بالغصب كالمنفصل، ولان ما صح أن يضمن بالغصب خارج وعائه كالدراهم في كيس والحلى في حق.(14/249)
وأما الجواب عن استدلالهم بدخول الشاة إلى داره والثوب إذا أطارته الريح إليها فهو أن لا يكون بذلك متعديا فلم يكن ضامنا ويكون بإمساك الولد متعديا فكان ضامنا.
ألا ترى أن دخول الصيد إلى داره لا يوجب عليه الضمان لعدم تعديه، وولادة الصيد في يده توجب عليه الضمان لتعديه.
فإذا ثبت أن ولد المغصوبة مضمون على الغاصب فسواء تلف بعد إمكان رده أو قبل إمكانه في ضمان قيمته في أكثر أحواله فيه من حين الولادة إلى وقت التلف، فإن نقصت قيمة أمه بعد الولادة - فان كان نقصها لغير الحمل - ضمنه مع قيمة الولد، وان كان نقصها لاجل لم يضمنهما معا لان ضمان ولدها هو ضمان لحملها، فكان ضامنا لاكثر الامرين من نقص الحمل وقيمة الولد.
فإذا تقرر ما وصفنا فللولد ثلاثة أحوال يضمن فيها، وحال لا يضمن، وحال مختلف فيها.
فأما أحوال الضمان ففى الغصب والجناية والاحرام، فإن ضمان الولد فيها واجب كالام، وأما حال سقوط الضمان ففى الاجارة والرهن والوديعة، فإن ولد المستأجرة والمرهونة والمودعة غير مضمون كالام، فأما الحال المختلف فيها ففى العارية والبيع الفاسد ففى ضمان الولد فيهما وجهان مبنيان على اختلاف أصحابنا في ضمان الام في العارية والبيع الفاسد، هل هو ضمان غصب أم لا؟ على وجهين.
(أحدهما)
أنه ضمان غصب، فعلى هذا يكون الولد مضمونا بأكثر الامرين من قيمته أو نقص الحمل كالغصب.
(والوجه الثاني) أنه يكون مضمونا ضمان عقد، فعلى هذا يكون الولد غير مضمون لانه لم يدخل في العقد.
فأما إذا غصب مالا فاتجر به وربح فيه ففى ربحه قولان: أحدهما وهو قوله في القديم: أنه لرب المال، وهو مذهب مالك.
والقول الثاني: أنه للغاصب وهو مذهب أبى حنيفة، وسنذكر توجيه القولين في القراض، فأما إذا غصب شيئا فصاد به، فعلى ثلاثة أضرب.
أحدها: أن يكون آلة كالشبكة والقوس فالصيد للغاصب وعليه أجرة الآلة، والضرب الثاني: أن يكون عبدا فالصيد للمغصوب منه لان يده يد لصاحبه وهل على الغاصب أجرته مدة صيده أم لا؟ على وجهين(14/250)
أحدهما: عليه الاجرة، لانه غاصب.
والثانى: لا أجرة عليه لان السيد قد صار إلى منافعه في ذلك الزمان.
والضرب الثالث: أن يكون جارحا كالكلب والفهد والنمر ففى الصيد وجهان.
أحدهما: للغاصب لانه المرسل فعلى هذا عليه أجرة الفهد والنمر، فهل عليه أجرة الكلب أم لا؟ على وجهين.
قال الشافعي: ولو باعها الغاصب فأولدها المشترى ثم استحقها المغصوب منه أخذ من المشترى مهرها وقيمتها إن كانت ميتة، وأخذها إن كانت حية، وأخذ قيمة أولادها يوم سقطوا أحياء، ولا يرجع بقيمة من سقط ميتا، ويرجع المشترى على الغاصب بجميع ما ضمنه من قيمة الولد لانه غره، إلى أن قال: وعليه الحد إن لم يأت بشبهة.
(فرع)
إذا كان قد غصب بيضا فصار فراخا أو فروجا كان ملكا للمغصوب منه لتولده في ملكه، ولو غصب منه شاة فانزى عليها فحله فوضعت سخلا كان
للغاصب، لان مالك الام ولا شئ للمغصوب منه في نزو فحله لانه عسب فحل محرم الثمن إلا أن يكون النزو قد نقص من بدنها وقيمتها فيرجع على الغاصب بقدر النقص.
فلو غصبه شاة فذبحها وطبخها لم يملكها ويرجع بها للمغصوب منه مطبوخة وبنقص ما حدث فيها.
وقال أبو حنيفة: قد صارت للغاصب بالطبخ، ويغرم قيمتها استدلالا برواية عاصم بن كليب عن أبى بردة بن أبى موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قوما من الانصار فقدموا إليه شاة فصيلة فأكل منها لقمة فلم يبلعها فقال مالى لا أسيغها، ان لها لشأنا أو قال خبرا، قالوا يا رسول الله إنا أخذناها من بنى فلان وأنهم إذا وافوا راضيناهم فقال أطعموها الاسارى.
فجعل لهم تملكها بالعمل لانه أمرهم باطعامها للاسارى ولو لم يملكوها لمنعهم.
ودليلنا ما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال.
لا يحل لاحد منكم من مال أخيه شئ إلا بطيب نفس منه فقال له عمرو بن حزم.
يا رسول الله أرأيت إن لقيت غنم ابن عمى اخترت منها شاة؟ قال.
إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وزنادا بخبت الجميش - بفتح فسكون، والجميش وزان الخميس - وهو صحراء بين مكة والمدينة - فلا تأخذها.
قال الماوردى.(14/251)
وأما الخبر الذى استدل به فيحمل على أن يكونوا قد أخذوا ذلك عن إذنهم من غير ثمن مقدر، ويحتمل أن يكون لتعذر مستحقه عن استبقاء الطعام لهم فأمرهم بذلك حفظا لقيمته على أربابه اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن غصب شيئا فخلطه بمالا يتميز منه من جنسه، بأن غصب صاعا من زيت فخلطه بصاع من زيته، أو صاعا من الطعام فخلطه بصاع من طعامه، نظرت، فإن خلطه بمثله في القيمة فله أن يدفع إليه صاعا منه لانه
تعذر بالاختلاط عين ماله، فجاز أن يدفع إليه البعض من ماله والبعض من مثله وإن أراد أن يدفع إليه مثله من غيره وطلب المغصوب منه مثله منه، ففيه وجهان أحدهما وهو المنصوص أن الخيار إلى الغاصب، لانه لا يقدر على رد عين ماله، فجاز أن يدفع إليه مثله كما لو هلك، والثانى وهو قول أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنه يلزمه أن يدفع إليه صاعا منه لانه يقدر أن يدفع إليه بعض ماله فلا ينتقل إلى البدل في الجميع كما لو غصب صاعا فتلف بعضه، وإن خلطه بأجود منه فإن بذل الغاصب صاعا منه لزم المغصوب منه قبوله، لانه دفع إليه بعض ماله وبعض مثله خيرا منه، وإن بذل مثله من غيره وطلب المغصوب منه صاعا منه ففيه وجهان.
أحدهما وهو المنصوص في الغصب.
أن الخيار إلى الغاصب لانه تعذر رد المغصوب بالاختلاط فقبل منه المثل.
والثانى.
أنه يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما وهو المنصوص في التفليس، لانا إذا فعلنا ذلك أوصلنا كل واحد منهما إلى عين ماله، وإذا أمكن الرجوع إلى عين المال لم يلزم الرجوع إلى البدل، فإن كان ما يخص المغصوب منه من الثمن أقل من قيمة ماله استوفى قيمة صاعه ودخل النقص على الغاصب، لانه نقص بفعله فلزمه ضمانه وعلى هذا الوجه ان طلب المغصوب منه أن يدفع إليه من الزيت المختلط بقدر قيمة ماله ففيه وجهان، أحدهما، لا يجوز، وهو قول أبى اسحق لانه يأخذ بعض صاع عن صاع وذلك ربا والثانى انه يجوز لان الربا انما يكون في البيع(14/252)
وليس ههنا بيع، وانما يأخذ هو بعض حقه ويترك بعضه كرجل له على رجل درهم فأخذ بعضه وترك البعض.
(فصل)
وإن خلطه بما دونه فإن طلب المغصوب منه صاعا منه وامتنع الغاصب أجبر على الدفع، لانه رضى بأخذ حقه ناقصا، وإن طلب مثله من غيره
وامتنع الغاصب أجبر على دفع مثله، لان المخلوط دون حقه فلا يلزمه أخذه.
ومن أصحابنا من قال: يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، ليصل كل واحد منهما إلى عين ماله، وإن نقص ما يخصه من الثمن عن قيمته ضمن الغاصب تمام القيمة، لانه نقص بفعله
(فصل)
وان غصب شيئا فخلطه بغير جنسه أو نوعه، فإن أمكن تمييزه كالحنطة إذا اختلطت بالشعير أو الحنطة البيضاء إذا اختلطت بالحنطة السمراء، لزمه تمييزه ورده، لانه يمكن رد العين فلزمه، وإن لم يمكن تمييزه كالزيت إذا خلطه بالشيرج لزمه صاع من مثله، لانه تعذر رد العين بالاختلاط فعدل إلى مثله.
ومن أصحابنا من قال: يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما ليصل كل واحد منهما إلى عين ماله كما قلنا في القسم قبله
(فصل)
وإن غصب دقيقا فخلطه بدقيق له ففيه وجهان: أحدهما: أن الدقيق له مثل.
وهو قول أبى العباس وظاهر النص، لان تفاوته في النعومة والخشونة ليس بأكثر من تفاوت الحنطة في صغر الحب وكبره.
فعلى هذا يكون حكمه حكم الحنطة إذا خلطها بالحنطة.
وقد بيناه والثانى: أنه لا مثل له.
وهو قول أبى إسحاق، لانه يتفاوت في الخشونة والنعومة، ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض، فعلى هذا اختلف أصحابنا فيما يلزمه فمنهم من قال يلزمه قيمته لانه تعذر رده بالاختلاط ولا مثل له فوجبت القيمة ومنهم من قال يصيران شريكين فيه، فيباع ويقسم الثمن بينهما على ما ذكرناه في الزيت إذا خلطه بالشيرج(14/253)
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي: " وما كان له كيل أو وزن فعليه مثل
كيله ووزنه " وقد ذكرنا أن ماله مثل فهو مضمون في الغصب بالمثل، ومالا مثل له فهو مضمون بالقيمة فأما حد ماله مثل فقد قال الشافعي ما سقنا، وليس ذلك منه حدا لماله مثل، لان كل ذى مثل مكيل أو موزون، وليس كل مكيل أو موزون له مثل، وإنما ذكر الشافعي ذلك شرطا في المماثلة عند الغرم، ولم يجعله حدا لماله مثل.
وحد ماله مثل.
أن يجتمع فيه شرطان، تماثل الاجزاء وأمن التفاضل، فكل ما تماثلت أجزاؤه وأمن تفاضله فله مثل، كالحبوب والادهان، فإن كان مكيلا كان الكيل شرطا في مماثلته دون الوزن، وإن كان موزونا كان الوزن شرطا في مماثلته دون الكيل، فأما ما اختلفت أجزاؤه كالحيوان والثياب أو خيف تفاضله كالثمار الرطبة فلا مثل له وتجب قيمته.
أما خلط الشئ بمثله كالزيت بالزيت، أو الحنطة بالحنطة فقد قال الشافعي: " ومن الشئ الذى يخلطه الغاصب بما اغتصب فلا يتميز منه، أو يغصبه مكيال زيت فيصبه في زيت مثله، أو خير منه، فيقال للغاصب: إن شئت أعطيته مكيال زيت مثل زيته، وإن شئت أخذ من هذا الزيت مكيالا ثم كان غير مزداد إذا كان زيتك مثل زيته، وكنت تاركا للفضل، إذا كان زيتك أكثر من زيته ولا خيار للمغصوب لانه غير منتقص، فإن كان صب ذلك المكيال في زيت شر من زيته ضمن الغاصب له مثل زيته، لانه قد انتقص زيته بتصييره فيما هو شر معه، وإن كان صب زيته في شيرج أو دهن طيب أو سمن أو عسل ضمن في هذا كله، لانه لا يتخلص منه الزيت، ولا يكون له أن يدفع إليه مكيالا مثله، وإن كان المكيال منه خيرا من الزيت من قبل أنه غير الزيت ولو كان صبه في ماء إن خلصه منه حتى يكون زيتا لا ماء فيه، وتكون مخالطة الماء غير ناقصة له كان لازما للمغصوب أن يقبله، وإن كانت مخالطة الماء ناقصة له في العاجل والمتعقب كان عليه أن يعطيه مكيالا مثله مكانه "
قال الربيع، ويعطيه هذا الزيت بعينه وان نقصه الماء، ويرجع عليه بنقصه(14/254)
وهو معنى قول الشافعي قلت: فهذا هو المنصوص الذى أشار إليه المصنف وقول الشافعي أعدل حكومه وأبعد عن الغرر.
(فرع)
قال الشافعي ولو اغتصبه زيتا فأغلاه على النار فنقص كان عليه أن يسلمه إليه، وما نقص مكيلته ثم ان كانت النار تنقصه شيئا في القيمة كان عليه أن يغرم له نقصانه وان لم تنقصه شيئا في القيمة فلا شئ عليه، ولو اغتصبه حنطة جيدة خلطها برديئة كان خلطها بمثلها أو أجود منها كما وصفت في الزيت يغرم له مثلها بمثل كيلها، الا أن يكون يقدر على أن يميزها حتى تكون معروفة، وان خلطها بمثلها أو أجود كان كما وصفت في الزيت.
قال: ولو خلطها بشعير أو ذرة أو حب غير الحنطة كان عليه أن يؤخذ بتمييزها حتى يسلمها إليه بعينها بمثل كيلها، وان نقص كيلها شيئا ضمنه، قال: ولو اغتصبه حنطة جيدة فأصابها عنده ماء أو عفن أو أكلة أو دخلها نقص في عينها كان عليه أن يدفعها إليه وقيمة ما نقصها تقوم بالحال التى غصبها والحال التى دفعها بها ثم يغرم فضل ما بين القيمتين.
قال: ولو غصبه دقيقا فخلطه بدقيق اجود منه أو مثله أو أردأ كان كما وصفنا في الزيت.
هذا نصه فلو أن المغصوب منه أراد أن يأخذ من المختلط بقدر مكيلته أو بقدر قيمة ماله وفرق بين المكيلة وقدر القيمة لان الاول التساوى في الكيل والآخر التساوى في القيمة فعلى وجهين أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ: لَا يجوز، والثانى: يجوز لانه ليس بيعا ويكون متبرعا بفرق القيمة أو المكيلة أو الجودة ولا يكون ذلك من الربا لانه ليس بيعا وهو كما قال الشافعي في الام: ان غصبه سمنا وعسلا ودقيقا فعصده كان للمغصوب الخيار في أن يأخذه
معصودا ولا شئ للغاصب في الحطب والقدر والعمل من قبل أن ماله فيه أثر لا عين، أو يقوم له العسل منفردا والسمن والدقيق منفردين.
فإن كان قيمته عشرة وهو معصود قيمته سبعة غرم له ثلاثة من قبل أنه أدخله النقص، ولو غصبه دابة وشعيرا فعلف الدابة الشعير رد الدابة والشعير من قبل أنه هو المستهلك له وليس في الدابة عين من الشعير يأخذه انما فيها منه أثر، قال: ولو(14/255)
غصبه طعاما فأطعمه إياه والمغصوب لا يعلم كان متطوعا بالاطعام، وكان عليه ضمان الطعام.
وإن كان المغصوب يعلم أنه طعامه فأكله فلا شئ له عليه من قبل أن سلطانه إنما كان على أخذ طعامه فقد أخذه وقال الربيع: وفيه قول آخر أنه إذا أكله عالما أو غير عالم فقد وصل إليه شيئه ولا شئ على الغاصب، إلا أن يكون نقص عمله فيه شيئا فيرجع بما نقصه العمل.
قلت وإلى هذا ذهب أحمد وأصحابه (فرع)
إذا نقص المغصوب نقصا غير مستقر كطعام ابتل وخيف فساده، فعليه ضمان نقصه، فللشافعي قولان
(أحدهما)
يضمن
(والثانى)
لا يضمن.
وهو قول أحد الاقوال الثلاثة عند الحنابلة (أحدها) وهو قول القاضى لا يضمن
(والثانى)
يضمن، وهو قول ابن قدامة (والثالث) المغصوب منه مخير بين أخذ بدله وبين تركه حتى يستقر فساده ويأخذ أرش نقصه.
وقال أبو حنيفة: يتخير بين إمساكه ولا شئ له، أو تسليمه إلى الغاصب ويأخذ قيمته.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن غصب أرضا فغرس فيها غراسا أو بنى فيها بناء، فدعا صاحب الارض إلى قلع الغراس ونقض البناء لزمه ذلك.
لما روى سعيد بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ليس لعرق ظالم حق " فإن قلعه فقد قال في
الغصب يلزمه أرش ما نقص من الارض.
وقال في البيع: إذا قلع الاحجار المستودعة، عليه تسوية الارض فمن أصحابنا من جعلهما على قولين
(أحدهما)
يلزمه أرش النقص لانه نقص بفعل مضمون، فلزمه أرشه.
(والثانى)
يلزمه تسوية الارض لان جبران النقص بالمثل أولى من جبرانه بالقيمة.
ومنهم من قال: يلزمه في الغصب أرش ما نقص.
وفى البيع يلزمه تسوية الارض، لان الغاصب متعد فغلظ عليه بالارش لانه أوفى، والبائع غير متعد فلم يلزمه أكثر من التسوية، وان كان الغراس لصاحب الارض فطالبه بالقلع، فإن كان له غرض في قلعه أخذ يقلعه، لانه قد فوت عليه بالغراس غرضا مقصودا في الارض، فأخذ بإعادتها إلى ما كانت، وان لم يكن له غرض(14/256)
ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يؤخذ بقلعه، لان قلعه من غير غرس سفه وعبث
(والثانى)
يؤخذ به، لان المالك محكم في ملكه، والغاصب غير محكم، فوجب أن يؤخذ به.
(فصل)
وان غصب أرضا وحفر فيها بئرا فطالبه صاحب الارض بطمها لزمه طمها لان التراب ملكه، وقد نقله من موضعه فلزمه رده إلى موضعه، فإن أراد الغاصب طمها فامتنع صاحب الارض أجبر.
وقال المزني: لا يجبر كما لو غصب غزلا ونسجه لم يجبر المالك على نقضه، وهذا غير صحيح، لان له غرضا في طمها.
وهو أن يسقط عنه ضمان من يقع فيها، بخلاف نقض الغزل المنسوج فإن أبرأه صاحب الارض من ضمان من يقع فيها ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح الابراء لانه لما سقط الضمان عنه إذا أذن في حفرها سقط عنه إذا أبرأه منها.
(والثانى)
أنه لا يصح، لان الابراء انما يكون من واجب، ولم يجب بعد شئ فلم يصح الابراء.
(الشرح) حديث سعيد بن زيد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وأعله بالارسال والنسائي، ورجح الدارقطني الارسال أيضا، وقد اختلف مع ترجيح الارسال على الصحابي الذى رواه فقيل جابر، وقيل عائشة، وقيل ابن عمر، ورجح ابن حجر الاول، وقد اختلف فيه على هشام بن عروة اختلافا كثيرا، ورواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة، وفى اسناده زمعة، وهو ضعيف.
ورواه البخاري تعليقا أما الاحكام فقد قال الشافعي: ولو اغتصبه أرضا فغرسها نخلا أو اصولا أو بنى فيها بناء أو شق فيها أنهارا كان عليه كراء مثل الارض بالحال الذى اغتصبه اياها، وكان على البانى والغارس أن يقلع بناءه وغرسه، فإذا قلعه ضمن ما نقص القلع الارض حتى يرد إليه الارض بحالها حين أخذها ويضمن القيمة بما نقصها.
قال وكذلك ذلك في النهر وفى كل شئ أحدثه فيها لا يكون له أن يثبت فيها عرقا ظالما.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْسَ لعرق ظالم حق " ولا يكون لرب الارض أن يملك مال الغاصب، ولم يملكه اياه كان ما يقلع الغاصب منه ينفعه(14/257)
أو لا ينفعه، لان له منع قليل مائه كما منع كثيره.
وقال الماوردى قد ذكرنا أن الارض والعقار يجرى عليها حكم الغصب إبراءا وضمانا، وبه قال فقهاء الحرمين والبصرة، وخالف أهل الكوفة فقال أبو حنيفة لا يجرى على الارض حكم الغصب ولا حكم الضمان باليد.
وهو قول أبى يوسف، وقال محمد بن الحسن يجرى عليها حكم الضمان باليد، ولا يجرى عليها حكم الغصب.
اه.
وكلام محمد يرد عليه أنه كل ما ضمن باليد ضمن بالغصب كالمنقول، على أنه ليس للتفرقة بين ضمان اليد وضمان الغصب تأثير.
فإذا صح غصب الارض فلا يخلو حال غاصبها من أن يكون قد شعلها بغرس
أو بناء أو لم يشغلها، فان لم يكن قد شغلها بغرس ولا بناء درها وأجرة مثلها مدة غصبه، وان شغلها باحداث غرس أو بناء أخذ بقلع بناءه وغرسه ولا يجبر على أخذ قيمتها، سواء أضر قلعها بالارض أم لا.
وقال أبو حنيفة " إن لم يضر القلع بالارض اضرارا بينا فله القلع، ولا يجبر على أخذ القيمة، وان كان في قلعه اضرار بالارض فرب الارض بالخيار بين أن يبذل له قيمة الغرس والبناء مقلوعا فيجبر على أخذها، وبين أن يأخذه بقلع الغرس والبناء فيجبر على قلعها استدلالا بما جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار.
وبما روى مجاهد أن رجلا غصب قوما أرضا براحا فغرس فيها نخلا فرفع ذلك إلى عمر رضى الله عنه فقال لهم " ان شئتم فادفعوا إليه قيمة النخل " وروى رَافِعٍ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " من زرع أرض قوم بلا اذن منهم فليس له في الزرع شئ وله نفقته " قال ولان من دخل تملك على ملك استحق المالك ازالة ملك الداخل كالشفيع ودليلنا ما روى أنس مرفوعا " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفسه " أخرجه الدارقطني وأحمد والحاكم والبيهقي وابن حبان.
وما رواه هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا غصب أرضا من رجلين من بنى بياضه من الانصار فغرسها نخلا جما فرفع ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر بقلعه ولم يجعل لرب الارض خيارا ولو استحق خيارا لاعلمه وحكم به.
ولان يسير الغرس والبناء أشبه بأن يكون تبعا للارض من كثيره، فلما لم يكن لرب الارض أن يتملك يسيره فأولى أن(14/258)
لا يتملك كثيره ويتحرر من اعتلاله قياسان
(أحدهما)
أنه ما لم يملك بالغصب يسيره لم يملك به كثيره لمتاع
(والثانى)
أنه عدوان لا تملك به الاعيان المنفصلة فوجب أن لا تملك به الاعيان المتصلة.
وأما حديث لا ضرر ولا ضرار فهو أن
رفع الضرر مستحق ولكن ليس بتملك العين.
وأما قضية عمر فمرسلة لان مجاهدا لم يلق عمر، ثم لا دليل فيها من وجهين
(أحدهما)
أنها قضيه في عين إن لم تنقل شرعا لم تلزمه حكما
(والثانى)
قوله إن شئم فادفعوا قيمة النخل بعد أن طلب صاحبها ذلك.
وهذا عندنا جائز.
وأما قوله من زرع أرضا بغير إذنهم فليس له في الزرع شئ ففيه جوابان
(أحدهما)
أنه يستعمل على أنه زرع أرضهم ببذرهم
(والثانى)
ليس له في الزرع حق الترك والاستبقاء، بما بينه بقوله " ليس لعرق ظالم حق " فإذا ثبت هذا فلا يخلو حال الغرس والبناء من ثلاثة أقسام (أحدها) أن تكون ملكا للغاصب
(والثانى)
أن يكون مغصوبا من رب الارض (والثالث) أن يكون مغصوبا من غيره فأما الاول فلرب الارض والغاصب أربعة أحوال، أن يتفقا على ترك الغرس والبناء بأجر وبغير أجر فيجوز ما أقاما على اتفاقهما، لان الحق فيه مختص بهما، ثم ننظر فان كان بعقد صح استحقاق المسمى فيه.
ولم يكن له الرجوع في المطالبة بالقلع قبل انقضاء المدة سواء علما قدر أجرة المثل أو لم يعلما، وإن كان بغير عقد فله اجرة المثل ما لم يصرح بالعفو عنها وأن يأخذه بالقطع متى شاء.
والحال الثانية أن يتفقا على أخذ قيمة الغرس والبناء قائما أو مقلوعا فيجوز ويكون ذلك بيعا يراعى فيه شروط البيع، لانه عن مراضاة فان كان على الشجر ثمر ملكه إن كان مؤبرا، ولا يلزم الغاصب أرش ما كان ينقص من الارض لو قلع لانه لم يقلع، فلو باع الغاصب الغرس على غير مالك الارض فان اشتراها بشرط التبقيه فالبيع باطل، وان اشتراها بشرط القلع فالبيع جائز، فإذا قلعه المشترى فأحدث به نقصا فأرشه على الغاصب وحده لترتبه على تعديه أو يشتريه مطلقا ففيه وجهان
(أحدهما)
باطل لاحتمال التبقية
(والثانى)
يجوز ويؤخذ
المشترى بالقلع.(14/259)
والحال الثالثة: أن يتفقا على أخذ ثمن الارض من الغاصب وتسقط المطالبة عن الغاصب الا بثمن الارض، وليس له أن يطالب بعد الثمن بأرش النقص لو قلع لانه لم يقلع، ولو كان صاحب الارض باعها على أحد غير الغاصب كان للاجنبي الذى ابتاعها أن يأخذ الغاصب بقلع بنائه وغرسه، فإذا قلع لم يكن للاول أن يطالبه به لانه عيب قد دخل أرضه، ويكون البيع سببا لسقوط الارش عن الغاصب والحال الرابعة ألا يتفقا على أحد الاحوال الثلاثة فيؤخذ الغاصب بالقلع، لحديث سعيد بن زيد، فإذا قلع برئ من أجرة الارض بعد قلعه، فان نقصت الارض شيئا لم يبرأ حتى يرد ما نقصت الارض كما قال في الغصب وأما القسم الثاني وهو أن يكون الغرس والبناء ملكا لرب الارض فان رضى رب الارض ان يأخذ الارض بغرسها وبنائها فأيما أخذه فلا شئ عليه من مئونة البناء وليس للغاصب أن ينقص الغرس والبناء لانه لا يستفيد بقلعها شيئا فصار منه ذلك سفها، وان طالب رب الارض الغاصب بقلع الغرس والبناء لينفصلا عن الارض فقال الماوردى: فان كان له في ذلك غرض صحيح أجبر الغاصب على القلع ولزمه غرم نقص الغرس والبناء عما كان قبل أن غرس وبنى ونقص الارض وإن لم يكن في قلعه غرض يصح لقاصد فهل يجبر الغاصب على قلعه أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
لا يجبر عليه لانه عبث وسفه
(والثانى)
يجبر عليه لان المالك متحكم على الغاصب لتعديه، فان قيل بالاول لم يكن له الارش، وان قيل بالوجه الثاني استحق الارش وأما القسم الثالث وهو أن يكون الغرس والبناء مغصوبا من غير مالك الارض فلكل واحد من رب الارض ومالك الغرس أن يأخذ الغاصب بالقلع
ثم يرجع كل واحد منهما عليه بأرش ما نقص من ملكه، فيرجع رب الارض بما نقص من أرضه ويرجع رب الغرس بما نقص من غرسه، فلو أن رب الارض اشترى الغرس من ربه قبل القلع صار مالكا لهما وله أن يأخذ الغاصب بالقلع إن كان في قلعه غرض صحيح ثم يأخذ منه نقص الارض دون الشجر (فرع)
قال الشافعي ولو حفر فيها بئرا وأراد الغاصب دفنها فذلك له وان لم ينفعه وهذا كما قال " إذا غصب أرضا وحفر فيها بئرا كان متعديا بحفرها وعليه شدها(14/260)
وضمان ما تلف فيها ثم لا يخلو حال رب الارض والغاصب من أربعة أحوال.
(أحدها) أن يتفقا على شدها ليبرأ الغاصب من ضمان ما يسقط فيها، فإن لم يكن للارض بعد سدها أرش فلا شئ عليه سوى أجرة المثل في مدة الغصب، وان كان لها أرش كان عليه غرمه مع الاجرة.
(والثانية) أن يتفقا على تركها فذاك لهما وعلى الغاصب ضمان ما سقط فيها لتعديه بحفرها وليس لرب الارض من أن يطالبه بمؤونة السد وإنما له أن يأخذه متى شاء بالسد.
(والثالثة) أن يدعو رب الارض إلى سدها ويأبى الغاصب، فإن الغاصب يجبر على سدها إن كان فيه غرض صحيح لحديث سعيد بن زيد " ليس لعرق ظالم حق " قال الشافعي: والعروق أربعة عرقان ظاهران الغرس والبناء، وعرقان باطنان البئر والنهر، وان لم يكن فيه غرض صحيح، فعلى وجهين كما قلنا في قلع الغرس والبناء.
(والرابعة) أن يدعو الغاصب إلى سدها، ويأبى ربها، فإن لم يرؤه ربها من ضمان ما تلف فيها فله سدها ليستفيد به سقوط الضمان عنه، وإن أبرأه بها من الضمان ففيه وجهان.
(أحدهما)
أن للغاصب أن يسدها لان الضمان قد يجب لغيره فلم يسقط بإبرائه (والوجه الثاني) أن الغاصب يمنع من سدها لانه بالابراء يصير كالاذن له في الابتداء فيرتفع التعدي، ولا يلزمه ضمان، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ (فرع)
إذا دفن في الارض المغصوبة ميتا أخذ الغاصب بنبشه منها، وان كان فيه انتهاك حرمة الميت، لان دفنه فيها عدوان يأثم به الدافن، ثم إذا نبش ضمن أرش نقصها إن نقصت، فلو قال مالك الارض: أنا أقر الميت مدفونا في الارض إن ضمن لى نقص الارض ففى اجبار الغاصب على بذله وجهان، أحدهما يجبر على بذله حفظا لحرمة الميت المتعدى هو بدفنه فيها، والثانى: لا يلزمه ذلك لانه مدفون بغير حق.
(فرع)
قال الشافعي: وكذلك لو نقل عنها ترابا كان له أن يرد ما نقل عنها حتى يوفيه اياها بالحال التى أخذها قال المزني: غير هذا أشبه بقوله، لانه بقوله(14/261)
لو غصب غزلا فنسجه ثوبا أو نقرة فطبعها دنانير أو طينا فضربه لبنا فهذا أثر لا عين، ومنفعة المغصوب له ولا حق في ذلك للغاصب كذلك نقل التراب عن الارض والنهر إذا لم يبن بها أثر لا عين الفعل، وصورتها في رجل غصب أرضا فنقل منها ترابا فلا يخلو حال التراب من أن يكون باقيا أو مستهلكا فإن استهلك فعليه رد مثله فإن للتراب مثلا، فإن لم يقدر على مثله لانه من تربة ليس في الناحية مثلا ضمن القيمة، وفيها وجهان.
(أحدهما)
وقد نقله المزني عن الشافعي في جامعه الكبير أن تقوم الارض وعليها التراب ثم تقوم الارض بعد أخذه منها ويضمن الغاصب ما بين القيمتين (والوجه الثاني) أنه يضمن أكثر الامرين من هذا ومن قيمة التراب بعد نقله عن الارض، وان كان التراب باقيا فللغاصب ورب الارض أربعة أحوال
أحدها أن يتفقا على رده إلى الارض فيبرأ الغاصب منه ولا يغرم الا النقص ان وجد في الارض وأجرة مثلها في أكثر الحالين أجرة.
الثانية: أن يتفقا على ترك التراب خارجا عنها فذلك لهما ما لم يطرح في أرض مغصوبة، الثالثة: أن يطلب رب الارض رد التراب إليها ويمتنع الغاصب فيؤخذ جبرا برده إليها مهما كانت مؤونته.
والرابعة: أن يدعو الغاصب إلى رد التراب ويمتنع منه المالك فهو اما أن يبرئه من ضمان التراب أو لا يبرئه فإن لم يبرئه كان للغاصب أن يرد التراب وحده بغير اذنه ولا اعتبار بمنعه ليسقط عنه ضمان رده
قال المصنف رحمه الله تعالى
.
(فصل)
إذا غصب ثوبا فصبغه بصبغ من عنده نظرت، فان لم تزد قيمة الثوب والصبغ، ولم تنقص بأن كانت قيمة الثوب عشرة، وقيمة الصبغ عشرة فصارت قيمة الثوب مصبوغا عشرين، صار شريكا لصاحب الثوب بالصبغ لان الصبغ عين مال له قيمة، فان بيع الثوب كان الثمن بينهما نصفين، فان زادت قيمتهما بأن صارت قيمة الثوب ثلاثين حدثت الزيادة في ملكهما، لانه بفعله زاد ماله ومال غيره، وما زاد في ماله يملكه لانه حصل بعمل عمله بنفسه في ماله(14/262)
فإن بيع الثوب قسم الثمن بينهما نصفين، وإن نقص قيمتهما بأن صار الثوب يساوى خمسة عشر حسب النقصان على الغاصب في صبغه، لانه بفعله حصل النقص، فان بيع الثوب بخمسة عشر دفع إلى صاحب الثوب عشرة، وإلى الغاصب خمسة فان صارت قيمة الثوب عشرة حسب النقص على الغاصب، فان بيع الثوب بعشرة دفع العشرة كلها إلى صاحب الثوب، لانه إما أن يكون سقط بدل الصبغ بالاستهلاك، أو نقص به قيمة الثوب فلزمه أن يجبر ما نقص من قيمة الثوب، فان صارت قيمة الثوب ثمانية لم يستحق بصبغه شيئا لانه استهلكه في الثوب،
ويلزمه درهمان لانه نقص بصبغه من قيمة الثوب درهمان.
(فصل)
إذا استهلك ثمن الصبغ لم يبق للغاصب في الثوب حق، لان ماله هو الصبغ وقد استهلكه، وان بقى للصبغ ثمن فطلب الغاصب استخراجه أجيب إلى ذلك لانه عين ماله فكان له أخذه كما لو غرس في أرض مغصوبة غراسا ثم أراد قلعه، فان نقص قيمة الثوب باستخراج الصبغ ضمن ما نقص لانه حصل بسبب من جهته، وان طلب صاحب الثوب استخراج الصبغ وامتنع الغاصب، ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يجبر، وهو قول أبى العباس، لان الصبغ يهلك بالاستخراج ولا حاجة به إلى ذلك، لانه يمكنه أن يستوفى حقه بالبيع، ولا يجوز أن يتلف مال الغير.
(والثانى)
يجبر، وهو قول أبى اسحاق وأبى على بن خيران، لانه عرق ظالم لا حق له فيه فأجبر على قلعه كالغراس في الارض المغصوبة وان بذل المغصوب منه قيمة الصبغ ليتملكه وامتنع الغاصب لم يجبر على القبول، لانه اجبار على بيع ماله، وان أراد صاحب الثوب البيع وامتنع الغاصب بيع، لانه ملك له فلا يملك الغاصب أن يمنعه من بيعه بتعديه، وان أراد الغاصب البيع وامتنع صاحب الثوب ففيه وجهان.
أحدهما يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغة، كما يجبر الغاصب على البيع ليصل رب الثوب إلى ثمن ثوبه.
والثانى: لا يجبر لانه متعد فلم يستحق بتعديه إزالة ملك(14/263)
رب الثوب عن ثوبه، وإن وهب الغاصب الصبغ من صاحب الثوب ففيه وجهان أحدهما: يجبر على قبوله، لانه لا يتميز من العين فلزمه قبوله كقصارة الثوب، والثانى: لا يجبر لانه هبة عين فلا يجبر على قبولها.
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي: ولو كان ثوبا فصبغه فزاد في قيمته خمسه فقال للغاصب: إن شئت أن تستخرج الزعفران على أنك ضامن لما نقص من الثوب وإن شئت فأنت شريك في الثوب لك ثلثه ولصاحب الثوب ثلثاه، ولا يكون له غير ذلك، وهكذا كل صبغ كان قائما فزاد فيه، وإن صبغه بصبغ يزيد ثم استحق الصبغ فإنما يقوم الثوب، فإن كان الصبغ زائدا في قيمته شيئا قل أو كثر فهكذا وإن كان غير زائد في قيمته قيل له: ليس لك ههنا مال زاد في مال الرجل فتكون شريكا به، فإن شئت فاستخرج الصبغ على أنك ضامن لما نقص الثوب، وإن شئت فدعه.
وصورتها في رجل غصب ثوبا فصبغه فلا يخلو حال الصبغ من ثلاثه أقسام أحدها.
أن يكون للغاصب، والثانى.
أن يكون لرب الثوب، والثالث.
أن يكون لاجنبي، فإن كان الصبغ للغاصب فهو على ثلاثة أقسام أحدها.
أنه يمكن استخراجه.
والثانى.
لا يمكن.
والثالث.
أن يمكن استخراج بعضه ولا يمكن استخراج جميعه، فإن لم يمكن استخراجه لم يخل ثمنه بعد الصبغ من ثلاثة أقسام إما أن يكون بقدر قيمته قبل الصبغ أو يكون أقل، أو يكون أكثر، فإن كان بقدر ثمنه قبل الصبغ مثل أن يكون قيمة الثوب عشرة دراهم وقيمة الصبغ عشرة دراهم فيباع الثوب بعد صبغه بعشرة دراهم فهى بأسرها لرب الثوب لاستهلاك الصبغ إما بذهاب قيمته، وإما بجبره نقص الثوب.
وان كان ثمنه بعد البيع أقل مثل أن يساوى بعد الصبغ ثمانية دراهم فيأخذها رب الثوب ويرجع على الغاصب بنقصه وهو درهمان ليستكمل بهما جميع الثمن، ويصير صبغ الغاصب ونقص أجزاء الثوب مستهلكين، وان كان ثمنه بعد الصبغ أكثر فلا يخلو حال الزيادة على ثمنه من ثلاثة أقسام، إما أن يكون بقدر ثمن الصبغ، أو يكون أقل، أو يكون أكثر، فان كانت بقدر ثمن(14/264)
الصبغ مثل أن يكون ثمنه بعد الصبغ عشرين درهما فيأخذ رب الثوب منها عشرة التى هي ثمن ثوبه ويأخذ الغاصب عشرة هي ثمن صبغه، ولم يحصل فيها نقص لا في الثوب ولا في الصبغ، وان كانت الزيادة أقل من ثمن الصبغ مثل أن يكون ثمنه بعد الصبغ خمسة عشر درهما فيأخذ رب الثوب عشرة ثمن ثوبه كاملا ويأخذ الغاصب الخمسة الباقية ويصير النقص مختصا بصبغه لضمانه نقص الثوب.
وان كانت الزيادة أكثر من ثمن الصبغ فتكون الزيادة بينهما بقدر ماليهما بحسب قانون النسبة المعروف في الرياضيات، وإذا كانت الزيادة بينهما على قدر المالين لم يختص الغاصب بها، وان كانت حادثة بعمله، لانه عمل في ماله ومال غيره فلم يحصل له عوض عن عمله في مال غيره وحصل له عوض عمله في مال نفسه، فان دعا أحدهما إلى بيعه وابى الآخر نظر في الداعي إلى البيع، فان كان رب الثوب فله ذاك، وليس للغاصب لتعديه بالصبغ أن يمنعه من البيع فيستديم حكم الغصب، وان دعا الغاصب إلى بيعه ليتوصل إلى ثمن صبغه وأبى رب الثوب، فان بذل له مع إبائه ثمن الصبغ الذى يستحقه لو بيع الثوب فله ذاك ولا يجبر على البيع.
وان لم يبذل له الصبغ ففيه وجهان ذكرهما أبو على الطبري في افصاحه، أحدهما.
أنه يجبر رب الثوب إلى ثمن ثوبه.
والوجه الثاني أنه لا يجبر رب الثوب على بيعه لان الغاصب متعد بصبغه فلم يستحق بتعديه ازالة ملك رب الثوب عن ثوبه فهذا الكلام في الصبغ إذا لم يمكن استخراجه، ولا فرق بين أن يكون سوادا وبين أن يكون غيره من الالوان.
وقال أبو حنيفة.
ان كان الصبغ سوادا فلا شئ للغاصب فيه وكان رب الثوب مخيرا بين أن يأخذه ولا شئ عليه للصبغ وبين أن يعطيه للغاصب
ويأخذ منه قيمته، وان كان الصبغ حمرة أو صفرة فهو مخير بين أن يأخذه وعليه قيمة الصبغ وبين أن يعطيه الغاصب ويأخذ منه قيمه الثوب فجعل له في الاصباغ كلها أن يأخذ من الغاصب قيمته ان شاء فله أن يأخذه مصبوغا لكن ان كان(14/265)
الصبغ سوادا فلا قيمة عليه له، وإن كان لونا غيره فعليه قيمته.
واختلف أصحابه لم خص السواد بإسقاط القيمه، فقال بعضهم لما فيه من إتلاف أجزاء الثوب.
وقال آخرون: بل قاله في آخر الدولة الاموية حين كان السواد شعارا للعباسية في نمو دعوتها وكثرة أتباعها، فقام أبو حنيفة واعتبر السواد نقصا وشيئا مذموما، فأما بعد أن صار شعار الدولة العباسية فقد زاد على غيره من الالوان.
ولنا أن تمليك الغاصب الثوب بأخذ قيمته منه فخطأ، لان بقاء العين المغصوبة يمنع من أخذ قيمتها من الغاصب قياسا عليه لو كان غير مصبوغ، ولان من لم تجب عليه قيمة الثوب قبل صبغه لم يجب عليه قيمته بعد صبغه كالاجير، ولان الصبغ لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون نقصا أو غير نقص، فإن كان نقصا ضمنه لا غير، وإن لم يكن نقصا فأولى أن لا يضمن وأما القسم الثاني وهو أن يكون الصبغ مما يمكن استخراجه فللغاصب ورب الثوب أربعة أحوال (أحدها) ان يتفقا على تركه في الثوب وبيعه مصبوغا فيجوز ويكون القول فيه بعد بيعه كالقول فيما لا يمكن استخراج صبغه.
والحال الثانية: ان يتفقا على استخراجه منه فذلك جائز ليصل الغاصب إلى صبغه ورب الثوب إلى ثوبه، فإن استخرجه وأبى في الثوب نقصا ضمنه به.
والحال الثالثة: أن يدعو الغاصب إلى استخراجه ويدعو رب الثوب إلى تركه فللغاصب أن يستخرجه سواء نفعه أو لم ينفعه، لانها عين مملوكة فعلى هذا يكون
ضامنا لنقص الثوب ونقص الزيادة الحادثة فيه بدخول الصبغ لان رب الثوب قد ملكها ففوتها الغاصب عليه باستخراج صبغه مثاله: أن تكون قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ عشرة فيساوى الثوب مصبوغا ثلاثين وبعد استخراج الصبغ منه بخمسة فيضمن الغاصب عشرة خمسة منها هي نقص الثوب قبل صبغه، وخمسة أخرى هي نقص قسطه من الزيادة الحادثة بعد صبغه والحال الرابعة: أن يدعو رب الثوب إلى استخراجه ويدعو الغاصب إلى تركه، فهذا على وجهين
(أحدهما)
أن يترك استبقاء لملك الصبغ فيه فينظر،(14/266)
فإن لم يكن الصبغ قد أحدث زيادة تفوت باستخراج الصبغ منه ففيه وجهان حكاهما ابن أبى هريرة
(أحدهما)
وهو اختيار أبى حامد أنه لا يجبر على استخراجه إذا امتنع لما فيه من استهلاك ماله مع قدرة رب الثوب على الوصول إلى استيفاء حقه بالبيع.
قال وهو كلام الشافعي حيث قال: إن قيل للغاصب إن شئت فاستخرج الصبغ على أنك ضامن لما نقص، وإن شئت فأنت شريك بما زاد الصبغ فحصل الخيار إليه.
والوجه الثاني وهو الاصح: أنه يجبر على أخذه لانه عرق ظالم لا حرمة له في الاستبقاء فصار كالغرس والبناء: ويكون تخيير الشافعي له في الترك والاستخراج عند رضا رب الثوب بالترك، فعلى هذا إذا استخرجه ضمن نقص الثوب قبل الصبغ.
وأما القسم الثالث وهو أن يكون الصبغ مما يمكن استخراج بعضه، ولا يمكن استخراج بعضه فالقول فيما لا يمكن استخراجه كالقول في القسم الاول، والقول في تمكين استخراجه كالقول في القسم الثاني، فيجتمع في هذا القسم حكم
القسمين الماضيين على ما بيناه تقسيما وشرحا، فهذا حكم الصبغ إذا كان للغاصب
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل)
فان غصب ساجا فأدخله في البناء أو خيطا فخاط به شيئا نظرت فإن عفن الساج وبلى الخيط لم يؤخذ برده لانه صار مستهلكا فسقط رده ووجبت قيمته، وإن كان باقيا على جهته نظرت فان كان الساج في البناء والخيط في الثوب وجب نزعه ورده، لانه مغصوب يمكن رده فوجب رده، كما لو لم يبن عليه ولم يخط به، وإن غصب خيطا فخاط به جرح حيوان، فان كان مباح الدم كالمرتد والخنزير والكلب العقور وجب نزعه ورده، لانه لا حرمة له فكان كالثوب وان كان محرم الدم، فإن كان مما لا يؤكل كالآدمي والبغل والحمار وخيف من نزعه الهلاك لم ينزع، لان حرمة الحيوان آكد من حرمة المال، ولهذا يجوز أخذ مال الغير بغير إذنه لحفظ الحيوان ولا يجوز أخذه لحفظ المال، فلا يجوز هتك حرمة الحيوان لحفظ المال.(14/267)
وإن كان مما يؤكل ففيه قولان
(أحدهما)
يجب رده، لانه يمكن نزعه بسبب مباح فوجب رده كالساج
(والثانى)
لا يجب، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذبح الحيوان لغير مأكلة
(فصل)
وان غصب لوحا وأدخله في سفينة وخاف من نزعه الغرق، فإن كان فيها حيوان - لم ينزع لما ذكرناه في الخيط، وإن كان فيها مال غير ماله، - فإن كان لغير الغاصب - لم ينزع، لانه إتلاف مال من له حرمة بجناية غيره فلم يجز.
وان كان المال للغاصب ففيه وجهان
(أحدهما)
ينزع كما تنقض الدار لرد الساج
(والثانى)
لا ينزع لانه يمكن رده من غير إتلاف المال، بأن تجر إلى
الشط بخلاف الساج في البناء.
وعلى هذا إذا أراد المالك أن يطالب بالقيمة كان له ذلك، لانه حيل بينه وبين ماله فجاز له المطالبة بالبدل، كما لو غصب منه عبدا فأبق، وإن اختلطت السفينة التى فيها اللوح بسفن للغاصب ففيه وجهان
(أحدهما)
ينقض الجميع كما ينقض جميع السفينة
(والثانى)
لا ينقض ما لم تتعين، لانه إتلاف مال لم يتعين فيه التعدي
(فصل)
وإن غصب جوهرة فبلعتها بهيمة له، فان كانت البهيمة مما لا تؤكل ضمن قيمة الجوهرة، لانه تعذر ردها فضمن البدل، وإن كانت مما تؤكل ففيه وجهان بناء على القولين في الخيط الذى خيط به جرح ما يؤكل
(فصل)
وإن غصب فصيلا فأدخله إلى داره فكبر ولم يخرج من الباب نقض الباب لرد الفصيل كما ينقض البناء لرد الساج، وإن دخل الفصيل إلى داره من غير تفريط منه نقض الباب وعلى صاحب الفصيل ضمان ما يصلح به الباب، لانه نقض لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الباب
(فصل)
وان غصب دينارا وطرحه في محبرة كسرت المحبرة ورد الدينار، كما ينقض البناء لرد الساج، وإن وقع في المحبرة من غير تفريط من صاحبها(14/268)
كسرت وعلى صاحب الدينار قيمة المحبرة، لانها كسرت لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب المحبرة.
(فصل)
وان غصب عينا وباعها وقبضها المشترى وتصرف فيها وتلفت عنده، فللمالك أن يضمن الغاصب، لانه غصبها.
وله أن يضمن المشترى لانه قبض ما لم يكن له قبضه فصار كالغاصب
فإن ضمن الغاصب العين ضمنه قيمته أكثر ما كانت قيمته من حين الغصب إلى أن تلف في يد المشترى، لانه من حين الغصب إلى حين التلف في ضمانه.
وإن ضمن المشترى ضمنه أكثر ما كانت قيمته من حين قبض إلى أن تلف لانه لم يدخل في ضمانه قبل القبض، فلا يضمن ما قبله.
فإن بدأ فضمن المشترى نظرت، فان كان عالما بالغصب لم يرجع بما ضمنه على الغاصب، لانه غاصب تلف المغصوب عنده فاستقر الضمان عليه كالغاصب من المالك إذا تلف عنده فان لم يعلم نظرت فيما ضمن، فان التزم ضمانه بالعقد كبدل العين وما نقص منها لم يرجع به على الغاصب، لان الغاصب لم يغره، بل دخل معه على أن يضمنه، وان لم يلتزم ضمانه بالعقد نظرت، فان لم يحصل له في مقابلته منفعة كقيمة الولد ونقصان الجارية بالولادة رجع على الغاصب، لانه غره ودخل معه على أن لا يضمنه.
وان حصلت له في مقابلته منفعة - كالاجرة والمهر وأرش البكارة - ففيه قولان:
(أحدهما)
يرجع به لانه غره ولم يدخل معه على أن يضمنه
(والثانى)
لا يرجع، لانه حصل له في مقابلته منفعة وان بدأ فضمن الغاصب فما لا يرجع به المشترى على الغاصب إذا غرم رجع به الغاصب على المشترى، وما يرجع به المشترى على الغاصب لا يرجع به، لانه لا فائدة في أن يرجع عليه ثم يرجع المشترى به عليه(14/269)
(فصل)
وإن غصب من رجل طعاما فأطعمه رجلا فللمالك أن يضمن الغاصب لانه غصبه، وله أن يضمن الآكل لانه أكل ما لم يكن له أكله فإن ضمن
الآكل نظرت فان علم أنه مغصوب فأكله لم يرجع على الغاصب بما ضمن لانه غاصب استهلك المغصوب فلم يرجع بما ضمنه فان أكل ولم يعلم أنه مغصوب ففيه قولان.
(أحدهما)
يرجع لانه غره وأطعمه على أن لا يضمنه.
(والثانى)
لا يرجع لانه حصل له منفعة، فان أطعمه المالك فان علم أنه له برئ الغاصب من الضمان، لانه استهلك ماله برضاه مع العلم به، وإن لم يعلم ففيه قولان
(أحدهما)
يبرأ الغاصب لانه عاد إلى يده فبرئ الغاصب من الضمان، كما لو رده عليه
(والثانى)
لا يبرأ لانه إنما ضمن، لانه أزال يده وسلطانه عن المال وبالقديم إليه ليأكله لم تعد يده وسلطانه، لانه لو أراد أن يأخذه لم يمكنه فلم يزل الضمان.
(الشرح) قال الشافعي: ولو كان لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارا أخذ بقلعه، وهذا كما قال: إذا غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه سفينة أو دارا أخذ بهدم بنائه اللوح بعينه إلى صاحبه، وبه قال مالك وأهل الحرمين، وقال أبو حنيفة وأهل العراق يدفع القيمة ولا يجبر على هدم البناء لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضرار، فمن ضار أضر الله به، ومن شاق شق الله عليه وفى أخذه بهدم بنائه أعظم إضرار به.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا إنى بعثت بالحنيفية السمحة.
وفى أخذ القيمة منه تيسير، وفى هدم بنائه تعسير منهى عنه، ولانه مغصوب يستضر برده فلم يجبر عليه كالخيط إذا خاط به جرح حيوان، ولانه مغصوب لا يملك رده إلا باستهلاك مال فلم يجب رده كما لو كان في السفينة مال لغير الغاصب ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " فلزمه رد اللوح، وروى عبد الله بن مسعود مرفوعا: لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه، وذلك لشدة ما حرم الله مال المسلم على المسلم، وهذا خبر
ظاهره كالنص، ولقوله صلى الله عليه وسلم: إن لصاحب الحق يدا ومقالا،(14/270)
ولان كل مغصوب كان له رده وجب عليه رده كالذى لم يبن عليه طردا، والخيط في جرح الحيوان عكسا، ولانه شغل المغصوب بما لا خير فيه له فوجب أن يلزمه رده، كما لو كانت أرضا فزرعها أو غرسها، ولانه كل ما لو احتاج ابتداء إليه لم يجبر مالك عليه، ووجب إذا غصب أن يجبر على رده إليه كالارض طردا والخيط للجرح عكسا ولان دخول الضرر على الغاصب لا يمنع من رد المغصوب كما لو حلف بعتق عبده ألا يرد ما غصبه فإن عليه رد الغصب وعتق العبد.
والجواب عن حديث: لا ضرر ولا ضرار فهو أنه مشترك الدليل، لان في منع المالك منه إضرارا به فكان دخول الضرر على الغاصب ورفعه عن المغصوب أولى من دخوله على المغصوب منه في تيسير أمر الغاصب ورفعه عنه والاستهانة بحق المغصوب وحماية متعلقات الغاصب.
والجواب عن حديث: يسروا ولا تعسروا، فمن وجهين.
(أحدهما)
استعماله في المغصوب منه وتيسير أمره برد ماله أولى من استعماله في الغاصب في تمليكه غير ماله.
(والثانى)
أن التيسير معصية، والغاصب عاص لا يجوز التيسير عليه لما فيه من الذريعة إلى استدامة المعصية.
والجواب عن قياسهم على الخيط في جرح الحيوان فمن وجهين.
أحدهما: أنه معارضة الاصل لان المعنى في الخيط أنه ليس له رده، فلم يجب عليه رده، وفى اللوح له رده.
والثانى: أنه إذا احتاج ابتداء إليه أجبر المالك عليه لحرمة الحيوان وتقديمها على حرمة الملك.
فإذا تقرر أن نقض البناء لرد المغصوب واجب فسواء كان البناء قليلا أو كثيرا أو سواء كانت قيمة اللوح قليلة أو كثيرة حتى لو كانت قيمة اللوح درهما
وقيمة البناء ألف درهم أخذ بقلعه حتى يخلص اللوح لربه، إلا أن يراضيه على أخذ ثمنه، ثم إذا استرجع اللوح لزمه أجرة مثله ان كانت له أجرة وأرش نقصه ان حدث به نقص فإن كان المغصوب حجرا فبنى عليه منارة مسجد أخذ بنقض المنارة لرد الحجر عليه ثم غرم نقض المنارة للمسجد، وان كان هو المتطوع ببنائها لخروج ذلك عن ملكه، وان كانت السفينة سائرة في البحر، فان كان اللوح(14/271)
على سطحها أو على مكان مرتفع منها وأمكن أخذه أخذ منها، وإن كان في أسفلها بحيث لو أخذ منها هلكت وما فيها نظر، فإن كان فيها حيوان لم يجز أن يقلع صيانة للنفوس سواء كانت آدمية أو عجماء، وسواء كانت العجماوات للغاصب أو لغيره، لان للحيوان حرمتين، حرمة نفسه وحرمة صاحبه، وإن لم يكن فيها حيوان وكان فيها مال نظر، فإن كان لغير الغاصب لم يجز أخذ اللوح منها لما في أخذه من إتلاف مال له حرمة في الحفظ والحراسة وان كان للغاصب ففيه وجهان
(أحدهما)
يؤخذ اللوح منها، وإن تلف مال الغاصب فيها لذهاب حرمته بتعديه كما يذهب ماله في هدم بنائه.
(والوجه الثاني) أنه لا يجوز أن يؤخذ منها لانه قد يمكن أخذه بعد الدخول إلى الشط من غير استهلاك ما فيها من مال، وليس كالبناء الذى لا يقدر على اللوح إلا بعد استهلاكه، فعلى هذا يقال لرب اللوح: أنت بالخيار بين أن تصبر باللوح حتى تصل السفينة إلى الشط فتأخذ لوحك وبين أن تأخذ في الموضع قيمة لوحك، فلو اختلطت السفينة التى فيها اللوح بعشر سفن للغاصب ولم يوصل إليه إلا بهدم جميعها ففيه وجهان.
أحدهما: تهدم جميعها حتى يوصل إليه.
والوجه الثاني: أنه لا يجوز هدم شئ منها إلا أن يتعين اللوح المغصوب فيه
لانه لا يجوز أن يستهلك عليه مال إلا بتعيين المتعدى فيه.
فإذا عمل اللوح المغصوب بابا، أو حديدا فعمله درعا لم يملكه في هذه الاحوال وجعله أبو حنيفة مالكا لذلك بعمله وذلك من أقوى الذرائع والمغريات للاقدام على المغصوب، وإذا لم يملك الارض المغصوبة ببنائه وبغرسه فيها والارض عندهم غير مغصوبة فلان لا يملك غيرها من المغصوب عندنا وعندهم أولى، وإذا كان كذلك فللمغصوب منه استرجاعه منه معمولا، ولا شئ للغاصب إلا أن يكون قطع ركبها أو مسامير أو آلات بأعيانها ركبها فيها، فيسترجعها ويضمن نقص المغصوب.
(فرع)
قال الشافعي: ولو كان خيطا فخاط به ثوبا، وكذلك فان خاط به(14/272)
جرح إنسان أو حيوان ضمن الخيط ولم ينزعه، قال الماوردى: وصورتها فيمن غصب خيطا فخاط به شيئا فهذا على ضربين.
(أحدهما)
أن يكون قد خاط به غير حيوان كالثياب فيؤخذ الغاصب بنزعه ورده على مالكه وأرش نقصه إن نقص.
(والضرب الثاني) أن يكون قد خاط به حيوانا فعلى ضربين.
أحدهما: أن يكون الحيوان ميتا عند المطالبة بالخيط فينظر، فان كان الحيوان مما له حرمة كالآدمي نظر، فان لم يفحش حاله بعد نزع الخيط منه نزع، وإن فحش لم ينزع لقوله صلى الله عليه وسلم حرمة ابن آدم حيا كحرمته ميتا.
والضرب الثاني: أن يكون حيا فعلى ضربين.
(أحدهما)
أن يكون مباح النفس من آدمى أو بهيمة كالمرتد والخنزير والكلب العقور فيؤخذ بنزعه لانه مما لا حرمة لحفاظ نفسه ثم يغرم بعد نزعه أرش نقصه (والضرب الثاني) أن يكون محظور النفس فعلى ضربين.
أحدهما: أن يكون
آدميا فعلى ضربين.
أحدهما: أن يخاف من نزعه التلف فيقر الخيط ولا ينزع سواء كان الغاصب أو غيره لما يلزم من حراسة نفسه بعد غصبه، فأولى أن يجبر على تركه فعلى هذا يغرم قيمته.
والضرب الثاني: أن يأمن التلف، فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يأمن الضرر وشدة الالم فهذا ينزع منه ويرد على مالكه مع أرش نقصه.
(والضرب الثاني) أن يخاف ضررا أو شدة ألم وتطاول مرض إلخ اه.
قلت: ومثل الخيط شاش الجبائر والجص وجميع ما يستعمل في الجراح والكسور والرضوض لدى الاطباء والصيدلانية، وكذلك جسور الاسنان والاضراس الصناعيه وأسلاكها وأقماعها وبدائلها فانها جميعا عليها ما مضى من حكم الخيط نزعا وضررا وحرمه للمستفيد منها وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن غصب من رجل شيئا ثم رهنه عنده أو أودعه أو آجره منه وتلف عنده فان علم أنه له برئ الغاصب من ضمانه لانه أعاده إلى يده وسلطانه،(14/273)
وان لم يعلم ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يبرأ الغاصب من الضمان لانه عاد إلى يده
(والثانى)
لا يبرأ لانه لم يعد إلى سلطانه، وانما عاد إليه على أنه أمانة عنده، وان باعه منه برئ من الضمان علم أو لم يعلم، لان قبضه بابتياع يوجب الضمان فبرئ به الغاصب من الضمان.
(فصل)
وان غصب شيئا فرهنه المالك عند الغاصب لم يبرأ الغاصب، وقال المزني: يبرأ لانه أذن له في امساكه فبرئ من الضمان كما لو أودعه، والمذهب الاول، لان الرهن يجتمع مع الضمان وهو إذا رهنه شيئا فتعدى فيه فلا ينافى الضمان.
(فصل)
وان غصب حرا وحبسه ومات عنده لم يضمنه لانه ليس بمال فلم يضمنه باليد وان حبسه مدة لمثلها أجرة فان استوفى فيها منفعته لزمته الاجرة لانه أتلف عليه ما يتقوم فلزمه الضمان كما لو أتلف عليه ماله أو قطع أطرافه، وان لم يستوف منفعته ففيه وجهان.
(أحدهما)
تلزمه الاجرة لان منفعته تضمن بالاجارة فضمنت بالغصب كمنفعة المال
(والثانى)
لا تلزمه لانها تلفت تحت يده فلا يضمنه الغاصب بالغصب كأطرافه وثياب بدنه.
(فصل)
وان غصب كلبا فيه منفعة لزمه رده على صاحبه لانه يجوز اقتناؤه للانتفاع به فلزمه رده فان حبسه مدة لمثلها أجرة، فهل تلزمه الاجرة فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ اجارته.
(فصل)
وان غصب خمرا نظرت، فان غصبها من ذمى لزمه ردها عليه لانه يقر على شربها فلزمه ردها عليه وان غصبها من مسلم ففيه وجهان.
أحدهما: يلزمه ردها عليه لانه يجوز أن يطفئ بها نارا أو يبل بها طينا فوجب ردها عليه.
والثانى: لا يلزمه وهو الصحيح، لما روى أن أبا طلحه رضى الله عنه سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أيتام ورثوا خمرا فأمره صلى الله عليه وسلم أن يهرقها فان أتلفها أو تلفت عنده لم يلزمه ضمانها، لما روى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه،(14/274)
ولان ما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل كالميتة والدم فإن صار خلا لزمه رده على صاحبه لانه صار خلا على حكم ملكه فلزمه رده إليه فإن تلف ضمنه لانه مال للمغصوب منه تلف في يد الغاصب فضمنه.
(فصل)
وان غصب جلد ميتة لزمه رده لان له أن يتوصل إلى تطهيره بالدباغ فوجب رده عليه فإن دبغه الغاصب ففيه وجهان أحدهما يلزمه رده كالخمر إذا صار خلا والثانى لا يلزمه لانه بفعله صار مالا فلم يلزمه رده
(فصل)
وان فصل صليبا أو مزمارا لم يلزمه شئ لان ما أزاله لا قيمة له والدليل عليه ما روى جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أن الله تعالى حرم بيع الخمر وبيع الخنازير وبيع الاصنام وبيع الميتة فدل على أنه لا قيمة له وما لا قيمة له لا يضمن فان كسره نظرت فاكان إذا فصله يصلح لمنفعه مباحة وإذا كسره لم يصلح لزمه ما بين قيمته مفصلا ومكسورا لانه أتلف بالكسر ماله قيمة فلزمه ضمانه فان كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه شئ لانه لم يتلف ماله قيمة.
(الشرح) الاحكام: إذا غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة فقال أصحابنا حكمها حكم الخيط الذى خاط به جرحها، ويحتمل أن الجوهرة متى كانت أكثر من قيمة الحيوان ذبح الحيوان وردت إلى مالكها، وضمان الحيوان على الغاصب وفارق الخيط لانه أقل قيمة من الحيوان والجوهرة أكثر قيمة ففى ذبح الحيوان رعاية حق المالك برد عين ماله ورعاية حق الغاصب بتقليل الضمان عليه.
وإن ابتلعت شاة رجل جوهرة آخر غير مغصوبة ولم يمكن إخراجها إلا ذبحها ذبحت إذا كان ضرر ذبحها أقل، وكان ضمان نقصها على صاحب الجوهرة لانه لتخليص ماله، إلا أن يكون التفريط من صاحب الشاة يكون يده عليها فلا شئ على صاحب الجوهرة لان التفريط من صاحب الشاة.
فإذا مرت بهيمة رجل في سوق فأتلفت جوهرة رجل قال الماوردى في الحاوى والعمراني في البيان والرويانى في البحر ما حاصله: لم يخل حال البهيمة من أن يكون معها مالكها أو لا، فإن لم يكن معها فلا ضمان عليه في الجوهرة،(14/275)
لانه غير ضامن لما جنته، فلو سأله صاحب الجوهرة بيع البهيمة ليتوصل منها إلى جوهرته، أو صيرورتهما معا في ملكه لم يجبر المالك على البيع.
وقال أبو حنيفة: إن كانت قيمة الجوهرة أكثر من قيمة البهيمة أجبر صاحبها على أخذ قيمتها وإن كانت قيمة الجوهرة أقل لم يجبر.
وهذا فاسد، استدلالا بقياسين أحدهما: أن ما لا يستحق تملكه باستهلاك الاقل لم يستحق تملكه باستهلاك الاكثر قياسا على كسرها إناء أو أكلها طعاما - والثانى - أنه لا يستحق تملكه مع تلف شئ لم يستحق تملكه مع بقائه، قياسا على ما قيمته أقل.
وان كان صاحبها معها كان ضامنا لها عندنا سواء كانت البهيمة شاة أو بعيرا وقال أبو على بن أبى هريرة: ان كانت البهيمة بعيرا ضمن، وإن كان شاة لم يضمن، وفرق بينهما بأن المألوف في البعير النفور فلزم منعه ومراعاته، والمألوف في الشاة السكون فلم يلزم منعها ومراعاتها.
وهذا خطأ عند الاصحاب لان سقوط مراعاة الشاة إنما كان لان المعهود منها السلامة، فإذا أفضت إلى غير السلامة لزم الضمان كما أبيح للرجل ضرب زوجته وللمعلم ضرب الصبى لان عاقبته السلامة، فإذا أفضى إلى التلف ضمنا، فإذا ثبت أن ذلك مضمون عليه نظر في البهيمة فان كانت غير مأكولة اللحم غرم القيمه لتحريم ذبحها وتعذر الوصول إليها، وان كانت مأكولة اللحم فعلى قولين.
أحدهما: تذبح عليه وتؤخذ الجوهرة من جوفها، والثانى: لا يجوز ذبحها وتؤخذ منه قيمة الجوهرة.
فعلى هذا لو ماتت البهيمة أو ذبحها لمأكله فوصل إلى الجوهرة رجع بها المالك ورد ما أخذه من القيمة: ولنا بناء على ما تقدم، وعلى ما وصل إليه الطب من عمل البنج للحيوان
واجراء جراحة بيطرية لاستخراج الجوهرة أنه يجوز ذلك ويبذل صاحب الجوهرة مؤونة الجراحة والنقاهة حتى تبرأ، فإذا كان صاحبها مفرطا كان عليه ذلك.
فإذا كان صاحب البهيمة مغتصبا للجوهرة على ما بنى المصنف فصله فالضمان عليه.(14/276)
(فرع)
إذا تبايعا بهيمة وابتلعت ثمنها فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون ذلك بعد قبض الثمن فالبيع صحيح، سواء كان الثمن معينا أو في الذمة أجراه المشترى منه بالدفع، ثم ينظر في البهيمة فإن كانت في يد البائع فالثمن غير مضمون لان ما جنته في يده مضمون عليه والثمن ملك له.
وعليه تسليم البهيمة، فان قدر على الثمن بموت أو ذبح اختاره المشترى لمأكلة رد على البائع وإن كانت البهيمة في يد المشترى فالثمن مضمون عليه للبائع، فان كانت غير مأكولة غرم مثله، وإن كانت مأكولة اللحم فهل تذبح لاخذ الثمن منها أم لا؟ على ما مضى من القولين.
والضرب الثاني: أن تبتلع الثمن قبل قبضه فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون في الذمة لم يتعين بالعقد فالبيع لا يبطل، وهو باق في ذمة المشترى.
ثم ينظر، فان كانت البهيمة عند ذلك في يد المشترى فما ابتلعته غير مضمون على واحد منهما.
أما البائع فلزوال يده بالتسليم.
وأما المشترى فلانه ماله، وجناية البهيمة من ضمانه، وإن كانت في يد البائع فهو مضمون عليه، فان كانت البهيمة مما لا تؤكل لزمه غرم مثله.
فعلى هذا يكون له الثمن وعليه مثله.
وإن كانت البهيمة مأكولة فهل تذبح أم لا.
على القولين، فان قيل لا تذبح لزمه غرم مثل الثمن وتقاضاه، ولا خيار للمشترى في فسخ البيع لان ذبح البهيمة قد استحق في يد البائع، وذلك عيب حادث وهو مضمون عليه فلاجله ما استحق
المشترى خيارا به.
وإن كان هو المستحق لما أوجب العيب والضرب الثاني: أن يكون الثمن معيبا فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن تكون البهيمة غير مأكولة فالبيع باطل، لان تلف الثمن المعين قبل قبضه فبطل البيع وهو متعذر القدرة عليه كالتالف.
ثم ينظر فان كانت البهيمة في يد المشترى فهو تالف من ماله والبائع غير ضامن له وعلى المشترى رد البهيمة على البائع، فان قدر على الثمن بموتها رد على المشترى، وان كانت في يد البائع فالثمن مضمون عليه ويغرم مثله (فرع)
إن غصب فصيلا - وهو ولد الناقة سمى بذلك لفصله عن أمه - فأدخله(14/277)
حظيرته فكبر حتى استحال خروجه من باب الحظيرة، أجبر على نقض الباب أو البناء لرد الفصيل على ما مضى من نقض السفينة لرد اللوح ونقض المنارة لرد الحجر.
أما إذا دخل الفصيل إلى داره من غير تفريط منه بأن دخل الحظيرة فاختلط بفصلانها وكبر وتعذر إخراجه من الحظيرة، نقض الباب أو البناء وعلى صاحب الفصيل إعادة الباب أو الحائط كما كان فإذا مرت بهيمة بقدر فول فأدخلت رأسها فيه فلم يخرج الا بكسر القدر أو ذبح البهيمة فلا يخلو حالهما من أربعة أقسام (أحدها) أن يكون صاحب القدر متعديا في وضعها في غير حق - بأن أشغل بها الطريق وعرضها لطريق المارة مكشوفة بغير غطاء ولا حراسة - وكان صاحب البهيمه غير متعد فالواجب كسر القدر لتخليص البهيمه.
والقسم الثاني: أن يكون صاحب البهيمة متعديا لادخالها في غير حق وصاحب القدر غير متعد فيكون تخليص البهيمه مضمونا على صاحبها لتعديه بها، فإن كانت مما لا يؤكل كسرت القدر لان لنفس البهيمه حرمة في حراستها، ثم كسر
القدر مضمونا على صاحبها، وإن كانت مما تؤكل فعلى قولين بناء على جواز ذبحها في تخليص ما جنته.
(أحدهما)
تذبح ويخرج رأسها من القدر ولا يجوز كسرها.
والقول الثاني: لا يجوز ذبحها وتكسر القدر لتخليص رأسها ثم يضمن أرش كسرها.
والقسم الثالث: أن يكون كل واحد منهما غير متعد فالتخليص مضمون على صاحب البهيمه لا بالتعدي ولكن لاستصلاح ملكه وعليه ضمان مؤونة ذلك فان لم تكن البهيمه مأكولة كسرت القدر وضمن كسرها، فان كانت مأكولة فعلى قولين، في ذبحها أو كسر القدر وضمانه على صاحبها والقسم الرابع: أن يكون كل واحد منهما متعديا فالتخليص مضمون عليهما لاشتراكهما في التعدي كالمتصادمين، فان كانت البهيمة غير مأكولة كسرت القدر وضمن صاحب البهيمه نصف الكسر وأهدر النصف الباقي، وان كانت مأكولة فان قيل لا يجوز ذبحها كسرت القدر وضمن صاحب البهيمه أرش القدر كله لا نصفه.
فان قال صاحب القدر: بل تذبح البهيمه لاضمن نصف النقص(14/278)
في ذبحها نظر البادئ منهما بطلب التخليص، فجعل ذلك في جنبته.
(فرع)
وإن غصب دينارا أو جوهرة فوقع أو ألقاها في محبرته أو أخذ دينارا لغيره فسها فوقع في محبرة كسرت ورد الدينار أو الجوهرة كما ينقض البناء أو تهدم السفينة لرد اللوح على ما مضى.
وكذلك إن كان درهما أو أقل منه.
وإن وقع من غير فعله كسرت لرد الدينار إن أحب صاحبه والضمان عليه لانه لتخليص ماله.
وإن غصب دينارا فوقع في محبرة آخر بفعل الغاصب أو غير فعله كسرت لرده وعلى الغاصب ضمان المحبرة لانه السبب في كسرها، وإن كان كسرها أكثر
ضررا من تبقية الواقع فيها ضمنه الغاصب ولم تكسر.
وإن رمى إنسان ديناره في محبرة غيره عدوانا فأبى صاحب المحبرة كسرها لم يجبر عليه لان صاحبه تعدى برميه فيها فلم يجبر صاحبها على إتلاف ماله لازالة ضرر عدوانه عن نفسه وعلى الغاصب نقص المحبرة بوقوع الدينار فيها وما ترتب على قذف الدينار من رشاش الحبر على الاوراق أو الكتب أو الثياب فعليه ضمان قيمته تالفا أو أرشه معيبا، وأجاز أصحاب أحمد إجبار مالك المحبرة على كسرها لرد دينار الغاصب وتضمين الغاصب قيمة المحبرة.
(فرع)
قال الشافعي ولو باعه عبدا وقبض المشترى ثم أقر البائع أنه غصبه من رجل، فإن أقر المشترى نقضنا البيع ورددناه إلى ربه، وقال في موضع آخر وإن باعه وقبضه المشترى ثم أعتقه فقامت بينة بغصبه وكان المغصوب أو ورثته قياما رد العتق لان البيع كان فاسدا ويرد إلى المغصوب.
وإن لم تكن بينة وصدق الغاصب والمشترى المدعى أنه غصبه لم يقبل قول واحد منهما في العتق ومضى العتق ورددنا المغصوب على الغاصب بقيمة العبد في أكثر ما كان قيمة.
وقال: ولو كان المشترى أعتقه ثم أقر هو والبائع أنه للمغصوب منه لم يقبل قول واحد منهما في رد العتق وللمغصوب القيمة إن شاء أخذناها له من المشترى المعتق، ويرجع المشترى المعتق على الغاصب بما أخذ منه لانه أقر أنه باعه مالا يملك، وهذا كما قال: إذا كان مشترى العبد قد أعتقه ثم أحضر من ادعاه ملكا وأن البائع أخذه غصبا كلف البينة قيل سؤالهما.
اه(14/279)
والعبد المغصوب بعد عتقه من مبتاعه له حق الله تعالى في الحرية، فلا يعاد إلى مالكه وانما تعاد قيمته كأى شئ اغتصبه ثم باعه وتلف في يد المشترى، فان المالك يرجع على الغاصب أو المشترى.
وللمشترى أن يرجع على البائع لانه غره
فان كان عالما بالغصب لم يرجع على الغاصب.
(فرع)
ينبنى على ما تقدم أنه إذا غصب طعاما فأطعمه غيره فللمالك تضمين أيهما شاء، لان الغاصب حال بينه وبين ماله، والآكل أتلف مال غيره بغير اذنه وقبضه عن يد ضامنة بغير اذن مالكه، فان كان الآكل عالما بالغصب استقر الضمان عليه لكونه أتلف مال غيره بغير اذن عالما من غير تغرير، فإذا ضمن الغاصب رجع عليه.
قال الشافعي: ولو غصب طعاما فأطعمه من أكله ثم استحق كان المستحق أخذ الغاصب به، فان غرمه فلا شئ للواهب على الموهوب له، وان شاء أخذ الموهوب له، فان غرمه فقد قيل يرجع على الواهب وقيل لا يرجع به.
قال المزني أشبه بقوله: ان هبة الغاصب لا معنى لها وقد أتلف الموهوب له ما ليس له ولا للواهب فعليه غرمه ولا يرجع به، فان غرمه الغاصب رجع به عليه.
وهذا عندي أشبه بأصله.
وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين يتضمن كل قسم منها ثلاثة أنواع: فأما القسم الاول فأول أنواعه أن يهبه فيأكله الموهوب له، فرب الطعام بالخيار بالرجوع على أيهما شاء (ثانيها) وهو أن يأذن له في أكله من غير هبة ولا اقباض، فان علم الآكل أنه مغصوب كان مضمونا عليه وربه أيضا بالخيار لتغريم أيهما شاء، فان أغرم الآكل فقد اختلف أصحابنا، فذهب البغداديون إلى أن في رجوعه على الغاصب قولين.
وذهب البصريون إلى الرجوع به قولا واحدا.
والفرق بين الآكل والموهوب له أن استهلاك الاكل بإذن الغاصب فرجع عليه، وأن استهلاك الموهوب له بغير اذنه فلم يرجع عليه، فان رجع المالك على الغاصب يكون رجوعه فعلى مذهب البغداديين يكون رجوعه بالغرم على الآكل على قولين وعلى مذهب
البصريين لا يرجع به قولا واحدا(14/280)
وثالثها: أن يطعمه بهيمة رجل فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون ذلك بغير أمر مالك البهيمة فهو مضمون على الغاصب وحده، ويرجع به المالك على الغاصب ولا يرجع على مالك البهيمة، فإن أعسر به الغاصب فلا شئ له في رقبة البهيمة أو مالكها لان المتلف هو الغاصب، وإن كان إطعامها بأمر مالكها نظر، فإن علم بأنه مغصوب عند أمره ضمن ومالك الطعام بالخيار أن يرجع على أيهما شاء وليس للغاصب إذا غرم أن يرجع على الآمر إذا لم يعلم ويرجع إذا علم ويجرى عليه حكم الآكل والموهوب له من الاذن وعدمه.
وأما القسم الثاني فمصور في الانواع الثلاثة الآتية: إذا وهب الغاصب الطعام لمالكه فأكله فإن علم حين الاكل أنه طعامه لم يرجع بغرمه على الغاصب وان لم يعلم فعلى قولين.
والنوع الثاني: أن يأذن الغاصب لرب الطعام في أكله فإن علم حين الاكل أنه طعامه لم يرجع بغرمه، وان لم يعلم فعلى قول البغداديين يكون رجوعه على قولين وعلى قول البصريين يرجع به قوله واحدا.
والنوع الثالث: أن يطعمه بهيمة رب الطعام فان كان بغير أمره رجع عليه بغرمه، وإن كان بأمره فان علم لم يرجع، وان لم يعلم فان دفعه إليه كان رجوعه على قولين، كما لو وهبه له، وإن لم يدفعه إليه كان على اختلاف المذهبين كما لو أطعمه إياه، فلو باع الغاصب الطعام على مالكه وهو يعلم أو لا يعلم فتلف في يده بعد قبضه أو لم بتلف كان المالك بريئا من الثمن والغاصب بريئا من الضمان، وذهب المصنف إلى أنه إذا علم فيه قولان على ما أوضح والله أعلم.
(فرع)
إذا أودع العبد عند مالكه أو رهنه إياه أو كان مما يستأجر فأجره وقبضه منه بالوديعة أو بالرهن أو بالاجرة ثم تلف عنده نظر، فان علم بعد قبضه أنه ماله برئ العبد من ضمانه، وان لم يعلم نظر، فان كان تلفه على وجه يوجب الضمان على المودع والمرتهن المستأجر برئ الغاصب من ضمانه لكونه مضمونا(14/281)
عليه، وان كان تلفه على وجه لا يوجب الضمان في هذه الاحوال، ففى براءة الغاصب منه وجهان.
أحدهما: يبرأ منه لعودته إلى يد مالكه.
والوجه الثاني: لا يبرأ منه لان خروجه من يده اما نيابة عنه أو أمانة منه، فلم تزل يده فكان على ضمانه.
فلو أن الغاصب خلطه بمال المالك فتلف والمالك لا يعلم به، فان لم يكن المال في يد المالك فالضمان باق على الغاصب، وان كان في يده فان تلف باستهلاك المالك برئ منه الغاصب، وان تلف بعد استهلاكه كان في براءته منه وجهان.
وأما حبس الحر سواء عاش أو مات فسوف يأتي حكمه ان شاء الله تعالى في الجنايات والحدود.
وأما كلب المنفعة ككلب الصيد أو الحراسة، فانه يجرى فيه ما يجرى في البهائم المستأجرة لظهرها أو لعملها في الحقول والفارق أنها غير مأكولة كبعض الدواب التى لا تؤكل.
(فرع)
قال الشافعي: فان أراق له - أي للذمي - خمرا أو قتل له خنزيرا فلا شئ عليه ولا قيمة لمحرم لانه لا يجرى على ملك.
أما التملك بالخمر والخنزير فمعصية، والقول فيها كالقول في الصليب ولا شئ على متلفها مسلما كان أو ذميا على مسلم أتلفه أو على ذمى، ويعذران باتلافه على منازلهم أو بيعهم.
وقال أبو حنيفة: ان أتلفها على مسلم لم يضمن المتلف مسلما كان أو ذميا،
وان أتلفها على ذمى ضمنها المتلف مسلما كان أو ذميا، فان كان مسلما ضمن قيمة الخمر والخنزير، وان كان ذميا ضمن مثل الخمر وقيمة الخنزير استدلالا من وجوب ضمانها للذمي بما روى أن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الاشعري والى سمرة بن جندب في خمور أهل الذمة أن لهم بيعها، وخذ العشر من أثمانها.
فكان الدليل من وجهين.
أحدهما: أن جعل لها أثمانا والعقد عليها صحيحا، والثانى: أخذ العشر منها، ولو حرمت أثمانها لحرم عشرها، قال: ولانه معمول في عرفهم فوجب أن يكون مضمونا باتلافه عليهم قياسا على غيره من أموالهم،(14/282)
قالوا: ولانه من أشربتهم المباحة فوجب أن يكون مضمونا بإتلافه عليهم كسائر الاشربه، قالوا: ولان ما كان متمولا عند مالكه ضمن بالاتلاف وإن لم يتمول عند متلفه قياسا على المصحف إذا أتلفه ذمى على مسلم.
ودليلنا ما رواه ابن أبى حبيب عن عطاء عن جابر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة: ان الله حرم عليكم ورسوله بيع الخمر وبيع الخنزير وبيع الاصنام وبيع الميتة، فقال رجل يا رسول الله ما ترى في شحومها فإنها يدهن بها السفن ويستصبح بها فقال: قاتل الله اليهود حرم عليهم شحومها فجملوها فباعوها فدل تحريمه لبيعه على تحريم ثمنه وقيمته، ولان المرجوع في كون الشئ مالا إلى صفته لا إلى صفة مالكه، لان صفات الشئ قد تختلف فيختلف حكمه في كونه مالا ويختلف مالكوه.
فلا يختلف حكمه في كونه مالا كالحيوان هو مال لمسلم وكافر ثم لو مات خرج من أن يكون مالا لمسلم أو كافر ثم لو دبغ جلده صار مالا لمسلم وكافر، فلما لم يكن الخمر والخنزير مالا لمسلم أو كافر ثم لو دبغ جلد الميتة صار مالا لمسلم وكافر.
ويتحرر من هذا قياسان: أحدهما.
أن كل ما ليس مالا مضمونا في حق المسلم لم يكن مالا مضمونا في
حق الكافر كالميته والدم، وإن شئت قلت.
كل عين لم يصح أن تشتغل ذمة المسلم بثمنها لم يصح أن تشتغل ذمة المسلم بقيمتها أصله ما ذكرنا.
والثانى.
أن ما لم يستحقه المسلم من عوض الحكم لم يستحقه الكافر كالثمن، ولانه شراب مسكر فوجب أن لا يستحق على متلفه قيمته، ولان ما استبيح الانتفاع به من الاعيان النجسة إذا لم يملك الاعتياض عليه كالميته: فما حرم الانتفاع به من الخمر والخنزير أولى أن لا يملك الاعتياض عليه، وتحريره قياسا أن ما حرم نفعا فأحرى أن يحرم عوضا من كافر على مسلم.
وأما الجواب عن حديث عمر وقوله.
ولهم بيعها وخذ العشر من أثمانها فمن وجهين.
أحدهما.
أن معناه أن ولهم ما تولوه من بيعها، ولا يعترض عليهم فيما(14/283)
استباحوه منها، وخذ العشر من أثمانها أي من أموالهم وان خالطت أثمانها بدليل ما أجمعنا عليه من بطلان ثمنها.
والثانى.
أنه محمول على العصير الذى يصير خمرا من باب اطلاق اسم ما سيؤول إليه عليه قال تعالى.
" وقال انى أرى في المنام أنى أرانى أعصر خمرا " وتحريم بيعها خمرا متفق عليه بيننا وبينهم كاتفاقنا على اباحته عصيرا.
وأما كونه م؟ ؟ ولا في عرفهم فمنتقض بموقوذة المجوس والعبد المرتد.
ولنا أدلة من السنة تفحم كل ذى مراء فحديث أنس عن أبى طلحة الذى ساقه المصنف هنا ورجال اسناده وأصله في صحيح مسلم ورواه الترمذي والدارقطني بلفظ.
يارسول الله انى اشتريت خمرا لايتام في حجري فقال: أهرق الخمر واكسر الدنان.
وأخرجه أحمد وأبو داود وحديث ابن عمر.
أمرنى النبي صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمديه وهى الشفرة فأتيته بها
فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال أغد على بها ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جليت من الشام، فأخذ المدية منى فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر الذين كانوا معه أن يمضوا معى ويعاونونى وأمرني أن آتى الاسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر الا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا الا شققته " رواه أحمد وأشار إليه الترمذي وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح معزوا إلى أحمد وقال الهيثمى في مجمع الزوائد.
انه رواه باسنادين في أحدهما أبو بكر بن أبى مريم وقد اختلط وفى الاخر أبو طعمة وقد وثقه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وبقية رجاله ثقات.
وقد ترجم له البخاري في صحيحه فقال: باب هل تكسر الدنان التى فيها خمر وتخرق الزقاق.
ويعلق ابن حجر على هذا فينفي أن المراد بهذا اتلاف الاواني وانما المقصود اراقة الخمر واهدار جرمها، واتلاف الآنية جاء تبعا لذلك عقوبة لاصحابها.(14/284)
(فرع)
قال الشافعي: ولو كسر لنصراني صليبا، فإن كان لشئ من المنافع مفصلا فعليه ما بين قيمته مفصلا أو مكسورا وإلا فلا شئ عليه.
أما الصليب فموضوع على معصية لزعمهم أن عيسى صلى الله عليه وسلم قتل وصلب على مثله فاعتقدوا إعظامه طاعة والتمسك به قربة، وقد أخبر الله تعالى بتكذيبهم فيه ومعصيتهم به، ولا يجوز أن يقتحم أحد بيعهم وكنائسهم ولا أن يعطل لهم طقوسهم ما داموا لا يظهرون بها تحديا ولا يجاهرون بها إغاظة ولا يعد هذا إقرارا منا على ما يعتقدونه فان جاهرونا بصليبهم نظر، فان كان الامام قد شرط عليهم في عقد جزيتهم ترك المجاهرة به جاز في الانكار عليهم تفصيل الصليب وكسره رفعا لما أظهروه من مخالفة عقد الذمة، وإن لم يشترط ذلك عليهم وجب
الاقتصار على الانكار في حال المجاهرة ولا يتجاوز الانكار إلى كسره، وقد حمى الاسلام الحنيف أهل الذمة وعاشت في ظله ديانات اليهود والنصارى بعد أن كان يضطهد بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا فأقر بينهم السكينة والوئام والسلام وترك لهم حرية الاعتقاد عملا بقوله تعالى " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ".
وباغ من تسامح المسلمين وحسن معاملتهم أن الكنائس التى فر أهلها إلى الصحارى القصية وشعف الجبال ومغاراتها أخذوا يبنونها في المدن والقرى، بل إن المجاهدين من السلف كانوا يتخيرون أحيانا المواقع التى بها كنيسة مثلا فيتخذون من جوارها مدينة يتخذونها حاضرة أو عاصمة لحكمهم كمدينة تونس بكسر النون قولا واحدا سميت كذلك لان عقبة بن نافع الفهرى فاتح المغرب كان يسمع قرب معسكر أنعام القسس وهم يترنمون في الليل بترانيمهم فقال هذه البقعة تونس بحذف الهمزة فسميت بذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى
.
(فصل)
وان فتح قفصا عن طائر نظرت، فان نفره حتى طار ضمنه لان تنفير الطائر بسبب ملجئ إلى ذهابه فصار كما لو باشر اتلافه وان لم ينفره نظرت فان وقف ثم طار لم يضمنه لانه وجد منه سبب غير ملجئ ووجد من الطائر(14/285)
مباشرة والسبب إذا لم يكن ملجئا واجتمع مع المباشرة سقط حكمه، كما لو حفر بئرا فوقع فيها إنسان باختياره، فإن طار عقيب الفتح ففيه قولان
(أحدهما)
لا يضمن لانه طار باختياره فأشبه إذا وقف بعد الفتح ثم طار.
(والثانى)
يضمن لان من طبع الطائر النفور ممن قرب منه، فإذا طار عقيب الفتح كان طيرانه بنفوره منه فصار كما لو نفره
(فصل)
وإن وقع طائر لغيره على جدار فرماه بحجر فطار لم يضمنه، لان رميه لم يكن سببا لفواته، لانه قد كان ممتنعا وفائتا من قبل أن يرميه، فإن طار في هواء داره فرماه فأتلفه ضمنه، لانه لا يملك منع الطائر من هواء داره فصار كما لو رماه في غير داره
(فصل)
وإن فتح زقا فيه مائع فخرج ما فيه نظرت، فإن خرج في الحال ضمنه، لانه كان محفوظا بالوكاء فتلف بحله فضمنه.
وإن خرج منه شئ فابتل أسفله أو ثقل به أحد جانبيه فسقط وذهب ما فيه ضمنه، لانه ذهب بعضه بفعله وبعضه بسبب فعله فضمنه، كما لو قطع يد رجل فمات منه، وإن فتحه ولم يخرج منه شئ ثم هبت ريح فسقط وذهب ما فيه لم يضمن، لان ذهابه لم يكن بفعله فلم يضمنه، كما لو فتح قفصا عن طائر فوقف ثم طار، أو نقب حرزا فسرق منه غيره، وان قتح زقا فيه جامد فذاب وخرج ففيه وجهان:
(أحدهما)
لا يضمنه، لانه لم يخرج عقيب الحل، فصار كما لو كان مائعا فهبت عليه الريح فسقط.
(والثانى)
أنه يضمن وهو الصحيح، لان الشمس لا توجب الخروج، وانما تذيبه والخروج بسبب فعله فضمنه كالمائع إذا خرج عقيب الفتح وإن حل زقا فيه جامد وقرب إليه آخر نارا فذاب وخرج، فقد قال بعض أصحابنا: لا ضمان على واحد منهما، لان الذى حل الوكاء لم توجد منه عند فعله جناية يضمن بها وصاحب النار لم يباشر ما يضمن فصارا كسارقين نقب أحدهما الحرز وأخرج الآخر المال، فإنه لا قطع على واحد منهما، وعندي أنه يجب الضمان على صاحب النار، لانه باشر الاتلاف بإدناء النار فصار كما لو حفر رجل بئرا(14/286)
ودفع فيها آخر إنسانا، وأما السارق فهو حجة عليه، لانا أوجبنا الضمان على من
أخرج المال فيجب أن يجب الضمان ههنا على صاحب النار.
وأما القطع فلا يجب عليهما، لانه لا يجب القطع إلا بهتك الحرز، والذى أخذ المال لم يهتك الحرز والضمان يجب بمجرد الاتلاف وصاحب النار قد أتلف فلزمه الضمان
(فصل)
وإذن فتح زقا مستعلى الرأس فاندفع ما فيه فخرج فجاء آخر فنكسه حتى تعجل خروج ما فيه، ففيه وجهان.
(أحدهما)
يشتركان في ضمان ما خرج بعد التنكيس كالجارحين
(والثانى)
أن ما خرج بعد التنكيس يجب على الثاني كالجارح والذابح
(فصل)
وإن حل رباط سفينة فغرقت نظرت، فإن غرقت في الحال ضمن لانها تلفت بفعله، وإن وقفت ثم غرقت، فإن كان بسبب حادث كريح هبت لم يضمن، لانها غرقت بغير فعله.
وان غرقت من غير سبب حادث ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يضمن، كالزق إذا ثبت بعد فتحه ثم سقط
(والثانى)
أنه يضمن، لان الماء أحد المتلفات.
(فصل)
إذا أجج على سطحه نارا فطارت شرارة إلى دار الجار فأحرقتها، أو سقى أرضه فنزل الماء إلى أرض جاره فغرقها، فإن كان الذى فعله ما جرت به العادة لم يضمن لانه غير متعد، وان فعل ما لم تجر به العادة بأن أجج من النار ما لا يقف على حد داره أو سقى أرضه من الماء ما لا تحتمله ضمن لانه متعد
(فصل)
إذا ألقت الريح ثوبا لانسان في داره لزمه حفظه.
لانه أمانة حصلت تحت يده، فلزمه حفظها كاللقطة، فان عرف صاحبه لزمه إعلامه، فان لم يفعل ضمنه، لانه أمسك مال غيره بغير رضاه من غير تعريف فصار كالغاصب.
وان وقع في داره طائر لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه، لانه محفوظ بنفسه، فان دخل إلى برج في داره طائر فأغلق عليه الباب نظرت، فان نوى إمساكه على نفسه
ضمنه لانه أمسك مال غيره فضمنه كالغاصب، وان لم ينو إمساكه على نفسه لم يضمنه لانه يملك التصرف في برجه فلا يضمن ما فيه.(14/287)
(الشرح) الاحكام: قال الشافعي: ولو حل دابة أو فتح قفصا عن طائر فوقف ثم ذهب لم يضمن لانهما أحدثا الذهاب وصورة ذلك أن رجلا حل دابة مربوطة أو فتح قفصا عن طائر محبوس فشردت الدابة وطار الطائر، فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون شرود الدابة وطيران الطائر بتهييجه وتنفيره، فعليه الضمان إجماعا، وإنما لزمه الضمان وإن كان الحل سببا والطيران مباشرة لانه قد ألجأه بالتنفير والتهييج إلى الطيران، وإذا انضم إلى السبب إلجاء تعلق الحكم بالمسبب الملجئ سقط حكم الفاعل كالشاهدين على رجل بالقتل إذا اقتص منه الحاكم بشهادتهما ثم رجعا تعلق الضمان عليهما دون الحاكم، لانهما الجاه بالشهادة فسقط حكم المباشرة
(والثانى)
أن لا يكون منه تهييج ولا تنفير فللدابة والطائر حالتان: (إحداهما) إن مكثا بعد حل الرباط وفتح القفص زمانا فلا ضمان عليه لانفصال السبب عن المباشرة.
وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: عليه الضمان.
وكذلك قال أحمد.
والحال الثانية: أن تشرد الدابة ويطير الطائر في الحال من غير لبث، ففى الضمان لاصحابنا وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: عليه الضمان لاتصاله بالسبب.
وهو قول أبى حنيفة
(والثانى)
وهو ظاهر نص الشافعي في كتاب اللقطة: لا ضمان عليه لعدم الالجاء.
واستدل مالك ومن تابعه على وجوب الضمان بالسبب متصلا ومنفصلا بأن أسباب التلف المضمونة كحفر البئر وفتح القفص سبب للتلف فوجب أن يتعلق به الضمان، ولان كل ما تعلق به الضمان مع اتصاله بسببه جاز أن يتعلق به الضمان مع انفصاله عن سببه كالجارح يضمن إن تعجل التلف أو تأجل ودليلنا هو أن للحيوان اختيارا يتصرف به لما شاهد عيانا من قصده لمنافعه واجتنابه لمضاره، ثم لما قد استقر حكما من تحريم ما قد صاده باسترساله وتحليل ما صاده باسترسال مرسله، فإذا اجتمع السبب والاختيار تعلق الحكم على(14/288)
الاختيار دون السبب كملقى نفسه مختارا من شاهق يسقط الضمان عن بانى الشاهق أو في بئر يسقط عن حافرها.
وطيران الطائر باختياره لانه غير ملجأ، وقد كان يجوز بعد فتح القفص أن لا يطير، فوجب إذا طار بعد الفتح أن لا يتعلق بالفتح ضمان، ولان طيران الطائر بفتح القفص كهرب العبد المحبوس إذا فتح حبسه فكما أن فاتح الحبس لا يضمنه إن هرب كذلك فاتح القفص لا يضمن الطائر إذا طار، ولان مثابته من فتح القفص عن طائر حتى طار بمثابة من هتك حرمة مال حتى سرق، ثم كان كما لو فتح باب دار فيها مال فسرق لم يضمنه.
وكذلك القفص إذا فتح بابه حتى طار طائر لم يضمن، ولان فتح القفص يكون تعديا على القفص دون الطائر، بدليل أنه لو مات الطائر في القفص بعد فتحه لم يضمنه، وما انتفى عنه التعدي لم يضمن به.*
*
* فأما الجواب عن استدلالهم بأن أسباب التلف مضمونة لحافر البئر يضمن ما سقط فيها، فهو أنهما سواء، وذاك أن من طبع الحيوان توقى المتالف.
فإذا سقط في البئر دل على أن سقوطه بغير اختياره فضمن الحافر، ولو علمنا أنه
سقط باختياره بإلقاء نفسه عمدا سقط الضمان عن الحافر، والطير مطبوع على الطيران عند القدرة: إلا في أوقات الاستراحة، فإذا طار دل على أن طيرانه باختياره فسقط الضمان عن فاتح القفص ولو علمنا أنه طار بغير اختياره بالالجاء والتنفير وجب الضمان على فاتح القفص فكانا سواء.
فأما استدلالهم باستواء الاسباب فيما تعجل بها التلف أو تأجل فلاصحابنا في ضمانه إذا طار عقيب الفتح وجهان
(أحدهما)
لا يضمنه، فعلى هذا سقط السؤال فيه (الثاني) يضمنه.
فعلى هذا يكون الفرق بين أن يطير في الحال فيضمن، وبين أن يطير بعد زمان فلا يضمن هو أن الطير مطبوع على النفور من الانسان(14/289)
قال الماوردى: فإذا طار في الحال علم أنه طار لنفوره منه فصار كتنفيره إياه وإذا لبث زمانا لم يوجد منه النفور فصار طائرا باختياره، فأما إذا أمر طفلا أو مجنونا بإرسال طائر في يده فأرسله فطار فهو كفتحه القفص في أنه إذا نفره أو أمر الطفل بتنفيره ضمن وان لم ينفره ولبث زمانا لم يضمنه، وان طار في الحال فعلى وجهين، ولو كان ساقطا على برج أو جدار فرماه بحجر فنفره فطار من تنفيره لم يضمنه لانه قبل التنفير لم يكن مقدورا عليه.
(فرع)
إذا رمى رجل حجرا في هواء داره فأصاب طائرا فقتله ضمنه سواء تعمد قتله أو لم يتعمده، لانه وان لم يتعد بالرمي في هواء داره فليس له منع الطائر من الطيران في هوائه، فصار كما لو رماه من غير هوائه وخالف دخول البهيمة إذا منعها بضرب لا تخرج الا به أنه لا يضمنها.
(فرع)
إذا فتح رجل مراح غنم فرعت زرعا فان كان الفاتح مالكها ضمن
الزرع، وان كان غيره لم يضمن، لانه لا يلزمه حفظها، وكذلك لو حل دابة مربوطة فأكلت شعيرا أو فولا لم يضمن لان الدابة هي المتلفة دونه وكذا لو كسرت اناء لم يضمنه لما عللناه.
(فرع)
قال الشافعي: ولو حل زقا (1) أو راوية فاندفقا ضمن الا أن يكون الزق يثبت مستندا وكان الحل لا يدفع ما فيه ثم سقط بتحريك أو غيره فلا يضمن لان الحل كان ولا جناية فيه.
وصورتها في زق أوكى على ما فيه فحل الوكاء حتى ذهب ما في الزق، فلا يخلو حال ما فيه من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يكون من أرق المائعات قواما وأسرعها ذهابا كالخل والزيت واللبن فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يكون فم الزق منكسا فعليه ضمان ما فيه، لان الذائب مع التنكيس لا يبقى، فكان هو المتلف له.
__________
(1) الزق قارورة من الجلد يسميها عامة الحجاج زمزمية، والوكاء الرباط، ومنه حديث " هاتوا سبع قرب لم تحلل أوكيتهن " وحديث " العين وكاء السه " والسه الاست أو المقعدة من الانسان.(14/290)
والضرب الثاني: أن يكون فم الزق مستعليا فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يميل في الحال فيذهب ما فيه فعليه ضمانه لانه متماسك بوكائه، فإذا حله كان بالحل تالفا، وليس كالدابة إذا حلها لان للدابة اختيارا
(والثانى)
أن يلبث بعد الحل متماسكا زمانا ثم يميل فيسقط فلا ضمان عليه وسواء كان الزق مستندا أو غير مستند لانه قد كان باقيا بعد الحل فعلم أن تلفه بغير الحل من هبوب ريح أو تحريك انسان.
والقسم الثاني: أن يكون ما في الزق ثخين القوام بطئ الذهاب كالدبس
(العجوة بالعسل أو مريب التمر) والعسل القوى فإذا حل وكاؤه فاندفع يسيرا بعد يسير حتى ذهب ما فيه، فان كان مستعلى الرأس فلبث زمانا لا يتدفق شئ منه ثم اندفع فلا ضمان، وان اندفع في الحال أو كان منكسا نظر، فان لم يقدر مالكه على استدراك سده حتى ذهب ما فيه فعليه الضمان وان قدر على الاستدراك لسده ففى الضمان وجهان.
(أحدهما)
عليه الضمان كما لو خرق ثوبه وهو قادر على منعه، لزمه الضمان ولا يكون قدرته على الدفع اختيارا وابراء، كذلك ها هنا.
والوجه الثاني: لا ضمان عليه، والفرق بينهما أنه في القتل والتحريق، وفى حل الوكاء غيره متسبب والسبب يسقط حكمه مع القدرة على الامتناع منه كمن حفر بئرا فمر بها انسان وهو يراها ويقدر على اجتنابها فلم يفعل حتى سقط فيها لم يضمنه الحافر.
ولو كان الزق مستعلى الرأس وهو يندفع بعد الحل يسيرا يسيرا فجاء آخر فنكسه حتى تعجل خروج ما فيه فذهب فعلى الاول ضمان ما خرج قبل التنكيس وفيما خرج بعده وجهان
(أحدهما)
أن ضمانه عليهما لاشتراكهما في سبب ضمانه كالجارحين (والوجه الثاني) أن ضمانه على الثاني وحده لسقوط السبب مع المباشرة فصار كالذابح بعد الجارح يسقط ببراءة الجارح ويتوجه للذابح.
والقسم الثالث: أن يكون ما في الزق جامدا كالسمن والدبس إذا جمدا ومريب الجزر والفواكه إذا جف ماؤهما وتبخر فيكشف بحل الوكاء أو بكشف الغطاء عن الاناء حتى تسطع عليه الشمس فيذوب ويذهب فان كان الزق أو الاناء(14/291)
على حال لو كان ما فيها عند الحل أو الكشف ذائبا يعبأ في زقه وإنائه فلا ضمان عليه، وإن كان لا يعبأ لو كان ذائبا ففى ضمانه وجهان.
أحدهما: لا ضمان عليه
لان ذوبانه من تأثير الشمس لا من تأثير حله (والوجه الثاني) عليه الضمان لان بحله إياه وكشفه أثرت فيه الشمس فكان الحل أقوى سببا فتعلق به الضمان.
(فرع)
إذا أدنى من الجامد نارا بعد كشف إنائه وحل وكائه فحمى فذاب وذهب فلا ضمان على واحد منهما.
أما صاحب النار فلم يباشر بها ما يضمن به، وأما كاشف الاناء وحال الوكاء فلم يكن فعله جناية يضمن بها.
وصارا كسارقين ثقب أحدهما الحرز وأخرج الآخر المال لم يقطع واحد منهما، لان الاول هتك الحرز وبهتك الحرز لا يجب القطع.
والثانى: أخذ مالا غير محرز وأخذ المال من غير حرز لا يوجب القطع، فإن قيل: لم يضمن إذا ذاب بالشمس في أحد الوجهين ولم يضمن بالنار، قيل: لان طلوع الشمس معلوم، فصار كالقاصد له ودنو النار غير معلوم، فلم يصر قاصدا له ولكن لو كان كاشف الاناء وحال الوكاء هو الذى أدنى النار منه فذاب ضمن وجها واحدا بخلاف الشمس في أحد الوجهين، ولان إدناء النار من فعله وليس طلوع الشمس من فعله، وخالف حدوث ذلك من شخصين وصار كتفرده بهتك الحرز وأخذ ما فيه في وجوب القطع عليه ولا يجب الضمان لو كان من شخصين، بيد أن المصنف يقضى بأن عنده وجوب الضمان على صاحب النار قياسا على من حفر بئرأ وجاء آخر فدفع إليها آخر ضمن صاحب البئر، وفيما ذهب إليه المصنف نظر عندي والله أعلم بالصواب.* (فرع)
* وينبنى على ما تقدم أنه إذا حل رباط سفينة وترنحت في أحضان الموج فغرقت فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يكون غرقها في الحال من غير لبث فعليه الضمان لحدوث التلف بفعله (والضرب الثاني) أن يتطاول بها اللبث بعد الحل ثم تغرق بعد فهو على ضربين، أحدهما: أن يظهر سبب غرقها بحادث من ريح - أو موج
فلا ضمان عليه لتلفها بما هو غير منسوب إليه.
والضرب الثاني: أن لا يظهر(14/292)
حدوث سبب لتلفها ففى ضمانها وجهان (احدهما) أنه لا يضمنها كما لا يضمن الزق إذا لبث بعد حله تم مال (والوجه الثاني) عليه الضمان بخلاف الزق لان الماء أحد المتلفات.
(فرع)
إذا نصب رصيصا من اللبن لحرقه (قمينة) حتى يجعر آجرا في غير المكان المخصص والوقت المناسب اللذين جرت عادة الناس بنصب الرصائص أو القمائن فيها كأن جاء في أوقات امتلاء الاجران بحصاد الحقول فأوقد في تنور اللبن بين الاجران أو وقت تعبئة القطن في الاكياس فطارت شرارة من النور إلى الاجران أو الاقطان فأحرقتها ضمن ما أتلف، أما إذا أعد الرصيص في أوانه ولم يكن وقت حصاد ولا جنى قطن، وكان لآخر صومعة فيها تبن أو طعام فطارت شرارة أصابت ما فيها فاحترق فلا ضمان عليه لانه غير متعد، وكذلك لو أروى أرضه في دوره فتسربت المياه إلى حقل جاره لم يضمن لانه غير متعد، فإذا أرواها في غير دوره - وهو الوقت المخصص له بترتيب أصحاب الحق في المياه - ثم تسربت إلى حقل جاره فأتلفته كان عليه ضمان المتلف، أما الثوب الذى حمله الريح من منشر الجار فألقاه في بيته فقد أسلفنا القول في الوديعة أنه وديعة يجب المبادرة إلى اعلام صاحبه به فإذا أخفاه أو تباطأ في اعلام صاحبه أو تلكأ كان عليه ضمانه وارتفعت يده من الامان إلى الضمان وإذا طار فلم يعلم به صاحب الدار حتى احترق بنار في داره أو بهيمة أكلته لم يضمنه، ولو علم به فإن لم يقدر على منعها لم يضمن، وان قدر على منعها فعليه الضمان، ولكن لو زاره عند حصول الثوب في داره فتركه، فإن كان مالكه غير عالم به فعليه اعلامه فإن لم يعلمه فهو ضامن، وان كان مالكه عالما به فهو غير ضامن، فإذا هبت ريح فاجتاحته فألقته
بعيدا فإن لم يستطع منعه فلا ضمان، وان قدر على منعه من الريح قتركه ففى ضمانه وجهان.
أحدهما: لا ضمان عليه لانه لم يكن منه ما يضمن به.
والثانى: عليه الضمان كما لو أكلته بهيمة يقدر على منعها، فلو أن الثوب حين أطارته الريح وقع في صبغ لصاحب الدار فانصبغ به فلا ضمان على واحد(14/293)
منهما لا على صاحب الثوب ولا على صاحب الصبغ لعدم التعدي منهما، وفى حالة إمكان استخراج الصبغ من الثوب فاستخراجه ونقص الصبغ ونقص الثوب إن حدث نقص كل ذلك مهدر لا قيمة له في ذمة واحد منهما وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(فصل)
إذا اختلف الغاصب والمغصوب منه في تلف المغصوب، فقال المغصوب منه هو باق.
وقال الغاصب تلف فالقول قول الغاصب مع يمينه لانه يتعذر إقامة البينة على التلف وهل يلزمه البدل فيه وجهان.
أحدهما: لا يلزمه لان المغصوب منه لا يدعيه.
والثانى: يلزمه لانه بيمينه تعذر الرجوع إلى العين فاستحق البدل كما لو غصب عبدا فأبق.
(فصل)
وإن تلف المغصوب واختلفا في قيمته، فقال الغاصب قيمته عشرة، وقال المغصوب منه قيمته عشرون فالقول قول الغاصب، لان الاصل براءة ذمته فلا يلزمه إلا ما أقر به كما لو ادعى عليه دينا من غير غصب فأقر ببعضه
(فصل)
وإن اختلفا في صفته فقال الغاصب كان سارقا فقيمته مائة.
وقال المغصوب منه لم يكن سارقا فقيمته ألف فالقول قول المغصوب منه لان الاصل عدم السرقة.
ومن أصحابنا من قال: القول قول الغاصب لانه غارم، والاصل براءة ذمته مما زاد على المائة، فإن قال المغصوب منه: كان كاتبا فقيمته ألف،
وقال الغاصب: لم يكن كاتبا فقيمته مائة، فالقول قول الغاصب، لان الاصل عدم الكتابة وبراءة الذمة مما زاد على المائة، فإن قال المغصوب منه غصبتني طعاما حديثا، وقال الغاصب بل غصبتك طعاما عتيقا فالقول قول الغاصب، لان الاصل أنه لا يلزمه الحديث فإذا حلف كان للمغصوب منه أن يأخذ العتيق لانه أنقص من حقه.
(فصل)
وان غصبه خمرا وتلف عنده ثم اختلفا فقال المغصوب منه صار خلا ثم تلف فعليك الضمان وقال الغاصب بل تلف وهو خمر فلا ضمان على فالقول قول الغاصب، لان الاصل براءة ذمته، ولان الاصل أنه باق على كونه خمرا.(14/294)
(فصل)
وإن اختلفا في الثياب التى على العبد المغصوب، فادعى المغصوب منه أنها له، وادعى الغاصب أنها له، فالقول قول الغاصب لان العبد وما عليه في يد الغاصب فكان القول قوله والله أعلم (الشرح) الاحكام.
قال الشافعي: ولو غصبه جارية فهلكت فقال: ثمنها عشرة فالقول قوله مع يمينه.
قلت: قد ذكرنا أن المغصوب مضمون بأكثر قيمته في السوق والبدن ووقت الغصب إلى وقت التلف.
وقال أبو حنيفة: هو مضمون بقيمته وقت الغصب اعتبارا بحال التعدي، وهذا خطأ من وجهين
(أحدهما)
أن استدامة الفعل كابتدائه شرعا.
أما الشرع فقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا " أي استداموا الايمان، وقال تعالى " اهدنا الصراط المستقيم " أي ثبتنا على الهداية إليه، فاستوى حكم الابتداء والاستدامة في الاخبار والطلب وأما اللسان فهو أن مستديم الغصب بيمين في كل حال غاصبا.
ويقال قد غصب، وإن كان قد تقدم من الغصب
(والثانى)
أن الغصب عدوان يوجب الضمان كالجناية، فلما كانت براءة الجراح في الجناية إلى تلف النفس توجب ضمان ما حدث بعد الجرح، وجب أن يكون الحادث بعد الغصب في حكم الموجود في حال الغصب، ثم هو في الغصب أولى منه في الجناية لبقاء يده في الغصب وارتفاعها في الجناية، وفيما ذكرناه من المعاني الماضية في نمو البدن وزيادته دليل كاف فإذا ثبت هذا واختلفا في المغصوب فهو على ثلاثة أضرب: (أحدها) أن يختلفا في قيمته
(والثانى)
أن يختلفا في تلفه (والثالث) أن يختلفا في مثله.
فأما الضرب الاول وهو اختلافهما في قيمته فعلى ضربين:
(أحدهما)
أن يكون اختلافهما في القيمة مع اتفاقهما على الصفة، فيقول المغصوب منه قيمة مالى ألف.
ويقول الغاصب: قيمة مالك مائة فالقول قول الغاصب مع يمينه في قدر قيمته لامرين: أحدهما إنكاره الزيادة، والشرع في الانكار يجعل القول قول المنكر دون المدعى.
والثانى: أنه غارم والقول في الاصول قول الغارم(14/295)
فإن قيل: فكلا المعنيين يفسد بالشفيع والشفيع منكر وغارم، فالجواب عنه من وجهين.
أحدهما: أن المشترى مالك فلم يكن للشفيع انتزاع ملكه إلا بقوله كما أن الغارم مالك، ولا يغرم إلا بقوله.
والثانى: أن المشترى فاعل الشراء فكان القول فيه قوله لانه من صنعه، وكذلك الغاصب فاعل الغصب وهو من صنعه فكان القول فيه قوله، فحل المشترى بهذين محل الغارم وسلم المعنيان.
فإن كان للمغصوب منه بنية على ما ادعاه من القيمة سمعت وهى شاهدان أو امرأتان وشاهد أو شاهد ويمين، فإن شهدت بينه بأن قيمة المغصوب وقت الغصب أو وقت التلف أو فيما بين الغصب والتلف كذا حكم بها لان الغاصب
ضامن لقيمته في هذه الاحوال كلها، وإن شهدت بينة بأن قيمته كانت ألفا قيل الغصب لم يحكم بها لان ما قبل الغصب غير مضمون على الغاصب لكن كان بعض أصحابنا يقول: إنه يصير لاجل هذه البينة القول قول المغصوب منه مع يمينه، لان الاصل بقاء هذه القيمة ما لم يعلم نقصها وهذا غير صحيح، لان ما قبل الغصب غير معتبر، والبينة فيه غير مسموعة ولو جاز أن يصير القول بها قول المشهود له لجاز الاقتصار عليها من غير يمين، فإن شهدت البينة بصفات المغصوب دون قيمته ليستدل بها على قدر القيمة لم يجز أن يحكم بها لامرين.
أحدهما: أن تقويم ما لا مثل له بالصفة باطل.
والثانى: أن اختلافهما في القيمة دون الصفة فلم تسمع البينة في غير ما تداعياه واختلفا فيه.
والضرب الثاني: أن يكون اختلافهما في الصفه فهو على نوعين أحدهما: أن تكون صفة زائدة.
والثانى: أن تكون صفة نقص.
فأما صفة الزيادة فترد دعوى المغصوب منه وصورتها.
أن يقول المغصوب منه قيمة سيارتي ثلاثة آلاف لانها مرسيدس أو كاديلاك 7 راكب موديل 68 ويقول الغاصب قيمتها ألف لانها مرسيدس أو كاديلاك سعة 5 راكب موديل 69 فالقول قول الغاصب مع يمينه لا يختلف لوجود المعنيين فيه وهما الغرم والانكار.
وأما صفه النقص فهو دعوى الغاصب وصورتها أن يقول الغاصب قيمة السيارة التى غصتها منك(14/296)
مائة لانها مستهلكه ومحركها ضعيف وفراملها ناعمه وهى ماركة فيات أو فكسهول موديل.
فيقول المغصوب منه قيمتها ألف لانها ليست مستهلكه ومحركها سليم وفراملها قويه ففيه وجهان لاختلاف المعنيين أحدهما أن القول قول الغاصب مع يمينه تعليلا بغرمه والثانى.
القول قول المغصوب منه
مع يمينه تعليلا بانكاره.
وأما الضرب الثاني وهو اختلافهما في تلفه فصورته أن يقول المغصوب منه سيارتي باقيه في يدك ويقول الغاصب، قد تلفت وذهبت أجزاؤها في (وكالة البلح (1)) فالقول قول الغاصب مع يمينه ثم فيه وجهان أحدهما، أنه لا شئ عليه للمغصوب منه ما لم يصدقه على تلفها، لانه لا يدعى القيمه وإنما يدعى عينها وقد حلف الغاصب على تلفها، والوجه الثاني، أن عليه القيمه للمغصوب منه لانه وإن كان منكرا للتلف فيمين الغاصب ما تلفت ولا قدرة له عليها فصارت كالتالفه يلزم الغاصب قيمتها مع بقاء عينها إذا كانت باقيه.
وأما الضرب الثالث وهو اختلافهما في مثله فعلى ثلاثة أضرب أحدها.
أن يختلفا في صفات المثل كقول المغصوب منه غصبتني طعاما حديثا فيقول الغاصب بل طعاما عتيقا أو قديما فالقول قول الغاصب مع يمينه تعليلا بالمعنيين من الانكار والغرم، ثم للمغصوب منه أن يتملك ذلك لانه أنقص من حقه الذى يدعيه.
والضرب الثاني.
أن يختلفا في أصل المثل كقول المغصوب منه، لما غصبته مثل، وقول الغاصب، ليس له مثل فلا اعتبار باختلافهما ويرجع فيه إلى اجتهاد الحكام، فان حكموا له بمثل طولب به، وإن حكموا فيه بالقيمة أخذت منه، والضرب الثالث أن يختلفا في وجود المثل كقول المغصوب منه، المثل موجود وقول الغاصب بل المثل معدوم، فيكشف الحاكم عن وجوده، ويقطع تنازعهما
__________
(1) سوق على شاطئ النيل في الشمال الغربي من مدينة القاهرة كانت تنزل من مرساه التمور الواردة من الصعيد الاعلى على عهد المماليك وهو اليوم سوق تباع فيه أجزاء السيارات القديمة وغيرها من الالات.(14/297)
فيه، فإن وجده ألزم الغاصب دفع المثل رخيصا كان أو غالبا، وإن عدمه خير المغصوب منه بين أن يصبر إلى وجود المثل فإن تعجل أخذ القيمه ثم وجد المثل بعد ذلك فلا حق له فيه وقد استقر ملكه على ما أخذ من قيمته بخلاف الرقيق إذا أخذت قيمته ثم وجد، والفرق بينهما أن قيمة الآبق أخذت عند الاياس منه فلزم ردها بعد القدرة عليه، وقيمة المثل أخذ مع العلم بالقدرة عليه من بعد فلم يلزم ردها بعد القدرة عليه، وإن جهد إلى وجود المثل ثم رجع مطالبا بالقسمة قبل الوجود فذلك له لتعجل حقه بخلاف السلم في الشئ إلى مدة تنقطع فيها فرضى المسلم بالصبر إلى وجوده فلا يكون له الرجوع قبله.
والفرق بينهما أن تقدير وجود السلم عيب فإذا رضى به لزمه ذلك بالعقد.
وصبر المغصوب منه إلى وجود المثل إنظار وتأجيل تطوع به فلم يلزم.
(فرع)
ولو غصب رجل عصيرا فصار في يده خلا رجع به المغصوب منه وينقص إن حدث في قيمته، ولو صار العصير خمرا رجع على الغاصب بقيمته عصيرا لان الخمر لا قيمة له، وهل له أخذ الخمر أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ الاسفرايينى - إنه ليس له أخذه لوجوب إراقته وإتلافه.
والوجه الثاني: له أخذه لانه قد شفع بإراقته في بئر أو مسقى حيوان، فلو صار الخمر في يد الغاصب خلا رجع به المغصوب منه، وفى رجوعه عليه بالقيمه وجهان كنقص المرض إذا زال أحدهما: يرجع بالقيمة لوجوبها.
والثانى - لا يرجع عليه لعدم استقرارها.
وإذا غصبه خمرا فصار في يده خلا صار حينئذ مضمونا عليه لكونه خلا ذا قيمه، فلو اختلط بعد تلفه فقال المالك: صار خلا فعليك ضمانه، وقال الغاصب: بل تلف في يدى خمرا على حاله فالقول قول الغاصب مع يمينه اعتبارا ببراءة ذمته، فلو صار الخمر بعد غصبه خلا ثم عاد الخل فصار خمرا ضمنه مع بقاء
عينه لانه بمصيره خمرا قد صار تلفا، فلو عاد ثانية فصار خلا رد على المغصوب منه، وهل يضمن قيمته مع رده على وجهين أحدهما: لا ضمان عليه لعوده إلى ما كان عليه، والوجه الثاني: عليه الضمان لاستقراره عليه فلم يسقط عنه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(14/298)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الشفعة
وتجب الشفعة في العقار لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشفعة في كل شرك لم يقسم، ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فان باعه ولم يؤذنه فهو أحق به، ولان الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك فثبتت فيه الشفعة لازالة الضرر.
(فصل)
وأما غير العقار من المنقولات فلا شفعة فيه لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شفعه إلا في ربعة أو حائط وأما البناء والغراس، فإنه إن بيع مع الارض ثبتت فيه الشفعة لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ له شريك في ربع أو نخل فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن رضى أخذه، وإن كرهه تركه ولانه يراد للتأبيد فهو كالارض، فإن بيع منفردا لم تثبت فيه الشفعة لانه ينقل ويحول فلم تثبت فيه الشفعة واختلف أصحابنا في النخل إذا بيعت مع قرارها مفردة عما يتخللها من بياض الارض فمنهم من قال: تثبت فيه الشفعة لانه فرع تابع لاصل ثابت.
ومنهم من قال: لا شفعة فيها، لان القرار تابع لها، فإذا لم تجب الشفعة فيها إذا بيعت مفردة لم تجب فيها وفى تبعها، وإن كانت دار أسفلها لواحد وعلوها
مشترك بين جماعة، فباع أحدهم نصيبه فإن كان السقف لصاحب السفل لم تثبت الشفعة في الحصة المبيعة من العلو، لانه بناء منفرد، وإن كان السقف للشركاء في العلو ففيه وجهان، أحدهما لا تثبت فيه الشفعة، لانه لا يتبع أرضا.
والثانى: تثبت لان السقف أرض لصاحب العلو يسكنه، ويأوى إليه فهو كالارض.
(فصل)
وإن بيع الزرع مع الارض أو الثمرة الظاهرة مع الاصل لم(14/299)
تؤخذ مع الاصل بالشفعة، لانه منقول فلم يؤخذ مع الارض بالشفعة كثيران الضيعه، فإن بيع وفيه ثمرة غير مؤبرة ففيه وجهان
(أحدهما)
تؤخذ الثمرة مع الاصل بالشفعة، لانها تبعت الاصل في البيع فأخذت معه بالشفعة كالغراس.
(والثانى)
لا تؤخذ لانه منقول فلم تؤخذ مع الاصل كالزرع والثمرة الظاهرة.
(فصل)
ولا تثبت الشفعة إلا للشريك في ملك مشاع، فأما الجار والمقاسم فلا شفعة لهما لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إنما جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، ولان الشفعة إنما تثبت لانه يدخل عليه شريك فيتأذى به، فتدعو الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضرر بنقصان قيمة الملك، وما يحتاج إلى إحداثه من المرافق.
وهذا لا يوجد في المقسوم.
(فصل)
ولا تجب إلا فيما تجب قسمته عند الطللب، فأما ما لا تجب قسمته كالرحا والبئر الصغيرة والدار الصغيرة فلا تثبت فيه الشفعة.
وقال أبو العباس: تثبت فيه الشفعة لانه عقار فثبت فيه الشفعة قياسا على ما تجب قسمته، والمذهب الاول، لما روى عن أمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر والارف تقطع كل شفعة، ولان الشفعه إنما تثبت للضرر الذى يلحقه بالمقاسمة،
وذلك لا يوجد فيما لا يقسم.
وأما الطريق المشترك في درب مملوك ينظر فيه، فان كان ضيقا إذا قسم لم يصب كل واحد منهم طريقا يدخل فيه إلى ملكه فلا شفعة فيه، وان كان واسعا نظرت فان كان للدار المبيعة طريق آخر وجبت الشفعة في الطريق، لانه أرض مشتركة تحتمل القسمة، ولا ضرر على أحد في أخذه بالشفعه فأشبه غير الطريق وان لم يكن للدار طريق غيره ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) لا شفعة فيه، لانا لو أثبتنا الشفعة فيه أضررنا بالمشترى لانه يبقى ملكه بغير طريق، والضرر لا يزال بالضرر
(والثانى)
تثبت فيه الشفعه، لانه أرض تحتمل القسمه فتثبت فيها الشفعه كغير الطريق.(14/300)
(والثالث) أنه إن مكن الشفيع المشترى من دخول الدار ثبت له الشفعة، وإن لم يمكنه فلا شفعة لانه مع التميكن يمكن دفع الضرر من غير إضرار، ولا يمكن مع عدم التمكين إلا بالاضرار.
(فصل)
وتثبت الشفعة في الشقص المملوك بالبيع لِحَدِيثِ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال " فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به " وتثبت في كل عقد يملك الشقص فيه بعوض كالاجارة والنكاح والخلع، لانه عقد معاوضة فجاز أن تثبت الشفعة في الشقص المملوك به كالبيع
(فصل)
فأما فيما ملك فيه الشقص بغير عوض كالوصية والهبة من غير عوض فلا تثبت فيه الشفعه، لانه ملكه بغير بدل فلم تثبت فيه الشفعة، كما لو ملكه بالارث، وإن باع من رجل شقصا فعفا الشفيع فيه عن الشفعه ثم رجع الشقص إليه بالاقالة ثم تثبت فيه الشفعه، لانه لم يملكه بعوض وإنما انفسخ البيع ورجع
المبيع إلى ملكه بغير بدل، فإن باعه شقصا فعفا الشفيع عن الشفعه ثم ولاه رجلا ثبتت فيه الشفعه، لان التوليه بيع برأس المال.
وإن قال لام ولده: إن خدمت ورثتي شهرا فلك هذا الشقص، فخدمتهم ملكت الشقص، وهل تثبت فيه الشفعه؟ فيه وجهان.
أحدهما أنه تثبت لانها ملكته ببدل هو الخدمه فصار كالمملوك بالاجارة
(والثانى)
لا تثبت فيه الشفعه لانه وصية في الحقيقة لانه يعتبر من الثلث فلم تثبت فيه الشفعه كسائر الوصايا، وإن دفع المكاتب إلى مولاه شقصا عن نجم عليه ثم عجز ورق فهل للشفيع في الشقص شفعه أم لا؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا شفعة فيه، لانه بالعجز صار ماله للمولى بحق الملك لا بالمعاوضة وما ملك بغير المعاوضه لا شفعة فيه
(والثانى)
تثبت فيه لانه ملكه بعوض فثبت فيه الشفعه فلا تسقط بالفسخ بعده.
(فصل)
وإن بيع شقص في شركة الوقف، فإن قلنا ان الموقوف عليه لا يملك الوقف لم تجب فيه الشفعه لانه لا ملك له، وان قلنا انه يملك ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يأخذ بالشفعه، لانه يلحقه الضرر في ماله من جهة الشريك فأشبه مالك الطلق
(والثانى)
لا يأخذه لان ملكه غير تام، بدليل أنه لا يملك التصرف فيه، فلا يملك به ملكا تاما(14/301)
(الشرح) قال الضياء المقدسي في شرحه لثلاثيات المسند: الشفعة لغة الزيادة، لان الشفيع يضم ما يشفع فيه إلى نصيبه فكأنه كان وترا فصار شفعا، والشفيع فعيل بمعنى فاعل، وعرفا: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقل عنه من يد من انتقلت إليه.
اه قال الحافظ بن حجر في الفتح: الشفعة بضم المعجمة وسكون الفاء وغلط من حركها، وهى مأخوذة لغة من الشفع وهو الزوج، وقيل من الزيادة، وقيل
من الاعانة، وفى الشرع: انتقال حصة شريك إلى شريك كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى.
اه وقد ثبتت بالسنة والاجماع.
فأما السنة فالحديث الذى ساقه المصنف عن جابر ولفظه عند مسلم والنسائي وأبى دَاوُد " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فان شاء أخذ وإن شاء ترك، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به " ولفظه عند الترمذي وصححه " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعه " ولفظه عند أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجه " إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعه " وفى رواية عند أحمد والبخاري والشافعي في الام " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بالشفعه في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعه " وكلها عن جابر الا الشافعي فقد قال: أخبرنا مالك عن الزهري عن سعيد ابن أبى سلمه.
وقد روى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " إذا قسمت الدار وحددت فلا شفعه " رواه أبو داود وابن ماجه بمعناه أما الاجماع فقد انعقد ولم يختلف العلماء على مشروعيتها إلا ما نقل عن أبى بكر الاصم من إنكارها، وفى ذلك يقول بعضهم: لا عبرة بقول الاصم فإنه عن الحق أصم.
قال الماوردى في الحاوى: إن ما روى في الشفعه وان لم يكن متواترا فالعمل به مستفيض يصير به الخبر كالمتواتر، ثم الاجماع عليه منعقد، والعلم بكونه شرعا واقع وليس في التمسك بحديث " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبِ نفس منه "(14/302)
ما يمنع من الشفعه لان المشترى يعاوض عليها بما بذله فيصل إليه ولا يستحل منه
فإذا ثبت هذا فإن الشفعه تجوز للمسلم والكافر عند الشافعي وأبى حنيفة ومالك.
وخالف أحمد فقهاء مذهبه على أنه لا شفعة لكافر على مسلم، قال الضياء المقدسي نص عليه أحمد قال في الانصاف: وهو المذهب وعليه الاصحاب وهو من مفردات المذهب، وبه قال الحسن البصري والشعبى، وقد أفاض الضياء في شرح عمدة الاحكام في بيان العلة، ووجه المذهب من جهة الدليل، كما تفرد أبو حنيفة دون الثلاثة بوجوب الشفعة للجار، وهو رواية عن أحمد إلا أنها مرجوحة بالمرة حسب الاظهر من المذهب فإذا ثبت هذا فإن الشفعه مستحقة في عراص الارضين.
ويكون ما أثقل بها من الغراس والبناء تبعا، وإن كان المبيع منها مشاعا كانت الشفعه فيه على قولين وإن كان المبيع منها محررا فالذي عليه جمهور الناس أنها غير واجبه، وبه قال من الصحابة عمر وعثمان وعلى في أصح الروايتين عنه، ومن التابعين سعيد بن المسيب وأبو سلمه بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير، ومن الفقهاء ربيعه ومالك وأحمد وإسحاق وأهل الحرمين.
وقال أبو حنيفة وصاحباه وسفيان الثوري: إن الشفعه المجوزة مستحقه للجار وليس لهم فيه سلف، وربما أضافوه إلى ابن مسعود، فان عفا الجار عنها كانت لمن يليه في القرب ثم لمن يليه إلى آخر الجوار، إلا أن تكون الطريق نافذة فلا يجب لغير الجار الملاصق استدلالا برواية عمرو بن الشريد عن أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " الجار أحق بشقصه " وروى " بسقبه " أي بقربه، وبرواية شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال " جار الدار أحق بدار الجار أو الارض " وبرواية عبد الملك بن أبى سليمان عن عطاء عن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم " الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وان كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا "
وروى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق من غيره وروى عمرو بن الشريد بن سويد عن أبيه أنه قال: قلت: يا رسول الله أرض ليس لاحد فيها شرك ولا قسم الا الجوار،(14/303)
بيعت لى، فقال " أنت أحق بشفعة جارك يا شريد " قالوا ولان الشفعة إنما وجبت تخوفا من سوء عشرة الداخل عليه، وهذا قد يوجد في الجار كوجوده في الخليط، فاقتضى أن تجب الشفعة للجار كوجوبها للخليط ودليلنا ما رواه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه قال: الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، وهذا وإن كان مرسلا فمرسل سعيد عند الشافعي حسن، ثم قد رواه مسندا عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزهري عن أبى سلمة عن جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: الشفعه فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، فكان من هذا الحديث دليلان: أحدهما: قوله الشفعه فيما لم يقسم، فكان دخول الالف واللام مستوعبا لجنس الشفعه فلم يجب في المقسوم شفعه والثانى: قوله فإذا وقعت الحدود فلا شفعة.
فصرح بسقوط الشفعه مع عدم الخلطة، فإن قيل: فإنما نفى الشفعه عنه بالقسمة الحادثة بعده ففيه جوابان
(أحدهما)
أنه محمول على عموم القسمه حادثة ومتقدمة
(والثانى)
أنه إنما نفى الشفعة عن المقسوم بما أثبتها في غير المقسوم.
فلما أثبتها في غير المقسوم بالبيع دل على أنه نفاها عن المقسوم بالبيع.
وقال أبو حنيفة: تجب للجار، ثم ساق أحاديث الموجبين لها للجار، وهى التى أوردناها هنا.
ثم قال:
وقال العلقمي في حاشية الجامع الصغير: يحتج بهذا الحديث من أوجب الشفعه للجار - يعنى حديث.
الجار أحق بصقبه - ومن لم يثبتها للجار تأول الجار على الشريك، ويحتمل أن يكون المراد أحق بالبر والمعونة وما في معناهما بسبب قربه من جاره.
وأجابوا عن حديث سمرة بأن أهل الحديث اختلفوا في لقاء الحسن له.
ومن أثبت لقاءه قال: إنه لم يرو عنه إلا حديث العقبة، وقد رواه الحسن عن سمرة.
وعن حديث الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا بأن شعبة قال: سها فيه عبد الملك راوي الحديث.(14/304)
قال الامام أحمد: هذا الحديث منكر.
وقال ابن معين: لم يروه إلا عبد الملك وقد أنكر عليه.
وقال بعض علماء الحنفيه: يلزم الشافعية القائلين بحمل اللفظ على حقيقته ومجازه أن يقولوا بشفعة الجوار، لان الجار حقيقة في المجاور مجاز في الشريك وأجيب عنه بأن محل ذلك عند التجرد عن القرائن، وقد قامت القرينه هنا للمجاز فان حديث جابر صريح في اختصاص الشفعه بالشريك، وحديث أبى رافع مصروف الظاهر اتفاقا، لانه يقتضى أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك، ولا قائل به، فان القائلين بشفعة الجوار قدموا الشريك مطلقا، ثم المشارك في الطريق ثم الجار على من ليس بمجاور.
(قلت) واختار شيخ الاسلام ابن تيميه ثبوت الشفعه للجار بشرط أن يكون شريكا في الطريق محتجا بآخر حديث جابر مرفوعا: الجار أحق بشفعة جاره.
قال، وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية أبى طالب حيث قال: إذا كان طريقهما واحدا شركاء لم يقتسموا، فإذا طرقت وعرفت الحدود فلا شفعه.
قلت: واختار بعض الحنابلة هذا الرأى ولكن لو استعرضنا مذهب الجمهور في نفى شفعة الجار لوجدنا أمة من الصحابة والتابعين كعمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهرى ويحيى الانصاري وأبو الزناد وربيعه والمغيرة بن عبد الرحمن ومالك والاوزاعي وأحمد والشافعي وأبو ثور وابن المنذر.
وقال ابن شبرمة والثوري وابن أبى ليلى وأصحاب الرأى: الشفعة بالشركة ثم بالشركة في الطريق ثم بالجوار.
ولان الشفعة ثبتت في موضع الوفاق على خلاف الاصل لمعنى معدوم في محل النزاع فلا تثبت فيه.
وبيان انتفاء المعنى هو أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه الحاجه إلى مقاسمته، أو يطلب الداخل المقاسمه فيدخل الضرر على الشريك بنقص قيمة ملكه وما يحتاج إلى احداثه من المرافق، وهذا لا يوجد في المقسوم.
م 10: 14(14/305)
فأما حديث أبى رافع فليس بصريح في الشفعة فإن الصقب القرب، قال الشاعر: كوفية نازح محلتها
* لا أمم دارها ولا صقب وبقية الاحاديث التى تثبت الشفعة للجار فيها مقال كما قال ابن المنذر على أنه يحتمل أنه أراد بالجار الشريك فإن ذلك جار على ألسنة الشعراء، ويسمى كل واحد من الزوجين جارا، قال الاعشى: أجارتنا بينى فإنك طالقه
* وموموقة ما كنت فينا ووامقه وتسمى الضرتان جارتين لاشتراكهما في الزوج.
قال حمل بن مالك: كنت بين جارتين لى فضربت إحداهما الاخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، وهذا كله يمكن حمل حديث أبى رافع عليه، فإذا ثبت أن الشفعة واجبة بالخلطه دون
الجوار فالكلام فيها يشتمل على أربعة أقسام.
(أحدها) ما تجب به الشفعة.
(والثانى)
ما تجب فيه (والثالث) من تجب له (والرابع) ما تؤخذ به.
فأما ما تجب به فهو انتقال الملك بعقد المعاوضات والعقود على ثلاثة أقسام قسم يجب فيه العوض، وقسم لا يجب فيه العوض، وقسم اختلف قول الشافعي في وجوب العوض فيه، فأما الموجب للعوض فخمسة عقود، البيع والاجارة والصلح والصداق والخلع، فالشفعة بجميعها مستحقه كالمبيع لانتقال الملك بها عوضا أو معوضا وسنشرح كلا في موضعه.
وأما ما لا يوجب العوض إما لانه لا ينقل الملك كالرهن والعارية، أو لانه لا يوجب العوض مع انتقال الملك كالوقف والوصيه فلا شفعة به لان ما لا ينقل لملك استحق به نقل الملك، وما لا عوض فيه لا معوض فيه.
واختلف أصحابنا هل يغلب في ملك أم الولد للشقص حكم المعاوضات أو حكم الوصايا إذا قال لها: إن خدمت ورثتي سنة بعد موتى فلك هذا الشقص ففعلت على وجهين.
أحدهما: أن حكم المعاوضات عليه أغلب لاستحقاقه بالخدمة، فعلى هذا يأخذه الشفيع بعد انقضاء السنة بأجرة مثل خدمتها تلك السنة.(14/306)
والوجه الثاني: وهو ظاهر المذهب أن حكم الوصايا أغلب عليه لامرين.
أحدهما اعتباره من الثلث، والثانى: ملك الشقص من لم يملك الخدمة.
وأما ما اختلف قوله في وجوب العوض فعقد الهبة اختلف قوله في وجوب المكافأة عليها فقال في القديم والاملاء بالوجوب، فعلى هذا تجب الشفعة بهما بالثواب الذى تجب به المكافأة، فعلى هذا لو شرط الثواب فيها قدرا معلوما كان
على قولين.
أحدهما قاله في الاملاء: إن الهبة جائزة والشفعه فيها واجبة بالثواب المشروط، لانها إذا صحت مع الجهل بالثواب كانت مع العلم به أصح.
والقول الثاني: إن الهبة بشرط الثواب باطله، والشفعه فيها ساقطه لان العوض فيها يجعلها بيعا والبيع بلفظ الهبة باطل، فهذا حكم الهبة على قوله في القديم والاملاء.
وقال في الجديد: ان المكافأة على الهبة غير واجبه، فعلى هذا لا شفعة بها، ويكون في انتقال الملك بها في سقوط الشفعة به كانتقاله بالميراث فهذا حكم الفصل.
وأما القسم الثاني: وهو ما تجب فيه الشفعه فهى عراص الارضين وما يتبعها متصلا دون غيرها، وهى على ثلاثة أنواع، أحدها ما وجب في الشفعه معقودا وهى عراص الارضين المحتمله للقسمة الجبريه، فان لم تحتملها لصغرها كطريق ضيقه وبياض يسير فلا شفعة هكذا حكاه الماوردى.
وقال أبو العباس بن سريج: يجب فيه الشفعة تعليلا بسوء المشاركة، واستدامة الضرر بها لتعذر القسمة، وبه قال أبو حنيفة.
وعند الشافعي أنه لا شفعه فيها تعليلا في وجوبها بالخوف من مؤونة القسمه وأن ما لا يقسم جبرا فلا شفعة فيه لارتفاع الضرر بمؤونة القسمة.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله " لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة ولا ركح ولا رهوة " رواه أبو الخطاب من أصحاب الامام أحمد في رءوس المسائل، والمنقبة الطريق الضيقة تكون بين الدارين والركح بضم الراء ناحية البيت من ورائه وما كان فضاء للسابلة والمارة، والرهوة الجوبة تكون في محلة القوم يسيل فيها ماء المطر وغيره.(14/307)
والنوع الثاني: ما تجب فيه الشفعة تبعا وهو البناء والغرس إن كان مبيعا مع الارض وجبت فيه الشفعة تبعا للارض إن كان فيها ما يحتمل قسمته الاجبار، وإن لم يحملها لم تجب فيه الشفعة عند الشافعي، ووجبت فيه عند أبى العباس بن سريج، وهو قول أبى حنيفه، وإن كان البناء والغرس منفصلا عن الارض في البيع فلا شفعة فيه عند الشافعي وأبى حنيفة.
وقال مالك: يجب الشفعة في البناء المنفرد وفى الثمار والمقائى والمباطخ لاتصاله بعراص الارض المستحق فيها الشفعة وهذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم " الشفعة فيما لم يقسم " رواه البخاري.
فإذا أوقعت الحدود فلا شفعة فجعل حدود القسم شرطا في إبطال الشفعة، فدل على استحقاقها فيما يجبر فيه على القسمة، ولان البناء والغرس تبع لاصله، فلما لم يستحق في الارض شفعة لخروجها عن العقد لم يجب في البناء والغرس شفعة، وان دخلت في العقد، فإذا تقرر ألا شفعة فيما أفرد بالبيع من البناء والغرس، وكانت دار ذات علو مشترك، وسفلها لغير الشركاء في علوها فباع أحد الشركاء في العلو حقه نظر في السقف، فان كان لارباب السفل فلا شفعة في الحصة المبيعة من العلو لانها بناء مفرد، وان كان السقف لارباب العلو ففى وجوب الشفعة في الحصة المبيعة منه وجهان.
(أحدهما)
لا شفعة فيه لانه لا يتبع أرضا (والوجه الثاني) فيه الشفعه، لان السقف كالعرصه.
ولقول الشافعي في كتاب الصلح ان السقف أرض لصاحب العلو، ولانه إذا حاز أحدهما حصة من البناء والسقف أمكنه سكناه كالارض.
والنوع الثالث: لا تجب فيه الشفعة لا مقصودا ولا تبعا وهو سائر الاشياء سوى ما ذكرنا، وقال عطاء بن أبى رباح: الشفعة واجبة في كل مشترك من متاع وحيوان وغيره في صنوف الاموال وسائر الكلام معه.
وأما القسم الثالث وهو من تجب له الشفعة فهو الخليط في الملك المبيع دون
الجار، وقد مضى الكلام مع أبى حنيفة في شفعة الجوار، وإذا كان كذلك فلا فرق بين أن يكون الخليط وافر السهم وبين أن يكون قليله حتى لو خالط بنسبة واحد من ألف استحق الشفعة، وإذا تعدد الخلطاء كانت بينهم على ما سيأتي.(14/308)
ولا فرق بين أن يكون ملكه صار إليه بابتياع أو ميراث أو هبة أو وصية من بائع الشقص أو من غيره لانه مالك قد يستضر بسوء المشاركة ويتأذى بمؤونة المقاسمة.
وأما إذا كانت حصة الخليط وقفا نظر في الوقف فان كان عاما كالوقف على الفقراء والمساكين، أو كان خاصا لا يملك كالوقف على جامع فلا يستحق به شفعة في المبيع، وان كان خاصا على مالك الوقف على رجل بعينه أو على جماعة بأعيانهم فلا يملك به الواقف شفعة لزوال ملكه عن الوقف، فأما الموقف عليه، فقد اختلف قول الشافعي هل يكون مالكا لرقبة الوقف أم لا؟ على قولين، أحدهما: يستحق به الشفعة لثبوت ملكه واستضراره بسوء المشاركة والوجه الثاني: لا شفعة له لانه ليس بتام الملك ولا مطلق التصرف.
ثم الشفعة تجب للاب على ابنه وللابن على أبيه وللرجل على زوجته وللمرأة على زوجها وللسيد على مكاتبه وللمكاتب على مولاه ولا يستحقها السيد على عبده ولا على مدبره ولا على أم ولده ولا يستحقها أحدهم عليه.
وأما القسم الرابع وهو ما تؤخذ به الشفعة فهو ما جعل بدلا عن الشقص المنقول الملك من ثمن ان كان في أجرة أو بيع أو أجرة المثل ان كان في اجارة أو مهر المثل ان كان في صداق على ما سنفصله والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان اشترى شقصا وشرط الخيار فيه للبائع لم يكن للشفيع أن يأخذ قبل انقضاء الخيار لانه في أحد الاقوال لا يملك الشقص، وفى القول
الثاني ملكه موقوف، فلا يعلم هل يملك أم لا؟ وفى القول الثالث يملكه ملكا غير تام، لان للبائع أن يفسخه، ولانه إذا أخذ بالشفعة أضر بالبائع لانه يسقط حقه من الفسخ والضرر لا يزال بالضرر وان شرط الخيار للمشترى وحده فان قلنا أنه لا يملك أو قلنا أنه موقوف لم يأخذ لما ذكرناه في خيار البائع وان قلنا: انه يملكه ففيه قولان أحدهما لا يأخذه، لانه بيع فيه خيار فلا يأخذ به كما لو كان الخيار البائع.
والثانى: يأخذه وهو الصحيح لانه لا حق فيه لغير(14/309)
المشترى، والشفيع يملك اسقاط حقه، ولهذا يملك اسقاط حقه بعد لزوم البيع واستقرار الملك، فلان يملك قبل لزومه أولى.
(فصل)
وتثبت الشفعة للكافر على المسلم لحديث جابر رضى الله عنه لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه فان باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ولم يفرق ولانه خيار جعل لدفع الضرر عن المال فاستوى فيه الكافر والمسلم كالرد بالعيب.
(فصل)
ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على العوض لانه إذا أخذه ولم يقدر على العوض أضر بالمشترى والضرر لا يزال بالضرر فان أحضر رهنا أو ضمينا أو عوضا عن الثمن لم يلزم قبوله لان ما استحق أخذه بالعوض لم يلزم قبول الرهن والضمين والعوض فيه كالمبيع في يد البائع.
(فصل)
ويأخذ الشفيع بالعوض الذى ملك به فان اشتراه أخذه بالثمن لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال فان باعه فهو أحق به بالثمن وإن اشترى شقصا وسيفا بثمن قسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما وأخذ الشقص بحصته وترك السيف على المشترى بحصته لان الثمن ينقسم على المبيع على قدر قيمته ولا يثبت للمشترى الخيار في فسخ البيع بتفريق الصفقة عليه لانه
دخل في العقد على بصيرة أن الصفقة تفرق عليه وإن اشترى الشقص بثمن ثم ألحق به زيادة أو حط عنه بعضه أو وجد به عيبا فأخذ عنه الارش فعلى ما ذكرناه في بيع المرابحة فان نقص الشقص في يد المشترى فقد روى المزني أن الشفيع يأخذه بجميع الثمن وقال في القديم يأخذه بالحصة واختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من قال فيه قولان وهو الصحيح أحدهما يأخذه بجميع الثمن كالعبد المبيع إذا ذهبت عينه في يد البائع فان المشترى يأخذه بجميع الثمن والقول الثاني أنه يأخذه بالحصة وهو الصحيح لانه أخذ بعض ما دخل في العقد فأخذه بالحصة كما لو كان معه سيف.
ومنهم من قال إن ذهب التأليف ولم يذهب من الاجزاء شئ أخذ بالجميع لان الذى يقابله الثمن أجزاء العين وهى باقية فان تلف بعض الاجزاء(14/310)
من الآجر والخشب أخذه بالحصة لانه تلف بعض ما يقابله الثمن فأخذ الباقي بالحصة وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن كانت العرصة باقية أخذ بالجميع لان العرصة هي الاصل وهى باقيه فان ذهب بعض العرصة أخذ بالحصة لانه تلف بعض الاصل فأخذ الباقي بالحصة وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن تلف بجائحة من السماء أخذ بالجميع لانه لم يحصل للمشترى بدل التالف وأن تلف بفعل آدمى أخذ بالحصة لانه حصل للمشترى بدل التالف وحمل القولين على هذين الحالين.
(فصل)
وإن اشترى الشقص بمائة مؤجلة ففيه ثلاثة أقوال أحدها يأخذ بمائة مؤجلة لان الشفيع تابع للمشترى في قدر الثمن وصفته فكان تابعا له في التأجيل.
والثانى: أنه يأخذه بسلعة تساوى مائة إلى الاجل، لانه لا يمكن أن يطالب بمائة حالة لان ذلك أكثر مما لزم المشترى، ولا يمكن أن يطالب بمائة مؤجلة، لان الذمم لا تتماثل فتجعل ذمة الشفيع مثل ذمة المشترى، فوجب أن
يعدل إلى جنس آخر بقيمته كما يعدل فيما لا مثل له إلى جنس آخر بقيمته.
والثالث: وهو الصحيح أنه يخبر بين أن يعجل الثمن ويأخذ، وبين أن يصبر إلى أن يحل فيأخذ، لانه لا يمكن أن يطالب بمائة حالة ولا بمائة مؤجلة لما ذكرناه ولا يمكن أن يأخذ بسلعة لان الشفيع إنما يأخذ بالمثل أو بالقيمة، والسلعه ليست بمثل الثمن ولا هي قيمته فلم يبق إلا التخيير.
(فصل)
وإن باع رجل في مرضه من وارثه شقصا يساوى ألفين بألف ولم تجز الورثة بطل البيع في نصفه لانه قدر المحاباة فان اختار الشفيع أن يأخذ النصف بالالف لم يكن للمشترى الخيار في تفريق الصفقة لان الشفيع أخذه بالف وان لم ياخذه الشفيع فللمشترى أن يفسخ البيع ليفرق الصفقة عليه وان باع من أجنبي وحاباه والشفيع وارث فاحتمل الثلث المحاباة ففيه خمسة أوجه أحدها أن البيع يصح في نصف الشقص بالالف، وللشفيع أن ياخذه ويبقى النصف للمشترى بلا ثمن، لان المحاباة وصية والوصية للمشترى تصح، ولا تصح للشفيع، فيصير كانه وهب له النصف وباع منه النصف بثمن المثل، وياخذ الشفيع النصف بجميع(14/311)
الثمن، ويبقى النصف للمشترى بغير ثمن.
والثانى أن البيع يصح في نصفه بالالف لانا إن دفعنا الجميع إلى الشفيع بالالف حصلت الوصية للوارث وإن دفعنا إليه النصف بالالف وتركنا النصف على المشترى ألزمنا الشفيع في النصف أكثر مما لزم المشترى فلم يبق إلا الفسخ بالنصف، ودفع النصف إلى الوارث من غير محاباة، والثالث أن البيع باطل لان المحاباة تعلقت بالكل فلا يجوز أن تجعل في نصفه، والرابع أنه يصح البيع وتسقط الشفعه، لان اثبات الشفعة يؤدى إلى إبطال البيع، وإذا بطل البيع سقطت الشفعة، وما أدى ثبوته إلى سقوطه وسقوط غيره سقط فسقطت الشفعة وبقى البيع، والخامس وهو الصحيح أنه يصح البيع
في الجميع بالالف، ويأخذ الشفيع الجميع بالالف، لان المحاباة وقعت للمشترى دون الشفيع والمشترى أجنبي فصحت المحاباة له (الشرح) قال الشافعي: وان علم يعنى بالبيع فطالب مكانه فهى له، وإن أمكنه فلم يطلب بطلت شفعته قال الماوردى في الحاوى: اعلم أن الشفعة تجب بالبيع وتستحق بالطلب وتملك بالاخذ، فإذا بيع الشقص ووجبت فيه الشفعة لم يخل حال الشفيع من أحد أمرين اما أن يعلم بالبيع أو لا يعلم، فان لم يعلم بالبيع فهو على حقه من الشفعه إذا علم وان تطاول به الزمان كالمشترى إذا لم يعلم بعيب ما اشترى كان على حقه من الرد إذا علم، وأما إذا علم بالبيع فله حالتان احداهما: أن يكون قادرا على الطلب.
والحال الثانية: أن يكون معذورا، فان كان قادرا على الطلب فله ثلاثة أحوال إحداها: أن يبادر إلى الطلب، فهو على حقه من الشفعة، ولا يحتاج إلى حكم حاكم في الاخذ بها لانها ثبتت بنصر واجمال وانما يفتقر إلى حكم الحاكم فيما ثبت باجتهاده فلو قال الشفيع حين بادر بالطلب: انظروني بالثمن واحكموا لى بالملك لم يجز، وهكذا لو قال: احكموا لى بالملك متراخص الثمن لم يجز أن يحكم له بالملك.
لانه لا يجوز أن يزيل الضرر عن نفسه بالشفعة ويدخله على المشترى بالتأخير، فان سأل التوقف حتى يحضر الثمن جاز أن ينظره الحاكم به يوما أو يومين وأكثره ثلاثا، فان جاء بالثمن كان على حقه من الشفعة وان أخره عن المدة التى أنظره الحاكم بها بطلت شفعته.(14/312)
والحال الثانية: من أحوال الشفيع بعد علمه بالبيع أن يعفو عن الشفعة، والعفو على ضربين صريح وتعريض، فالصريح أن يقول: قد عفوت عن الشفعة أو تركتها أو نزلت عنها: فهذا مبطل لشفعته، والتعريض أن يساوم المشترى في الشقص أو يطالبه بالقسمة أو يستأجر منه أو يساميه، فهل يكون التعريض
بهذه الالفاظ كصريح العفو في إبطال الشفعه أم لا؟ على قولين نص عليهما في القديم
(أحدهما)
أنها كالصريح في إبطال الشفعه
(والثانى)
إنه على حقه ما لم يصرح بالعفو لما فرق الله به في الخطبة بين حكم التعريض والتصريح.
فأما قوله للمشترى " بارك الله لك في صفقتك " فليس بعفو صريح ولا تعريض لان وصوله إلى الثمن من الشفيع بركة في صفقته، وهكذا لو شهد للمشترى في ابتياعه لم يكن عفوا صريحا ولا تعريضا، لان الشهادة وثيقة في البيع الذى بتمامه يستحق الشفعة.
وجعل أبو حنيفة هذين الامرين عفوا صريحا والحال الثالثة بعد علمه بالبيع وتمكنه من الاخذ أن يمسك عن الطلب.
ففيه ثلاثة أقاويل: (أحدها) وهو قوله في الجديد والاملاء وبه تقع الفتيا أن الشفعه قد بطلت بتقضى زمان المكنة وان حق طلبها على الفور
(والثانى)
أن حق الشفعة مؤقت بثلاثة أيام بعد المكنة، فإن طلبها إلى ثلاث كان على حقه، وان مضت الثلاث قبل طلبه بطلت قاله الشافعي في كتاب السير قال وهذا استحسان وليس بأصل.
(والقول الثالث) أن حق الشفعة ممتد على التراخي من غير تقدير بمدة، وبه قال في القديم.
(قلت) فإذا قيل بالاول (الفور) وبه قال أبو حنيفة، فإن أخذها فهى له وإن تركها رجع باللائمة على نفسه، وإذا قيل بالثاني بتقديره بثلاثة أيام بعد المكنة فوجهه أن الشفعه موضوعه لارتفاق الشفيع بها في التماس الحظ لنفسه في الاخذ والترك والاختيار والمشترى في حسن المشاركة ليقر، أو في سوء المشاركة ليصرف فكان تقديرها بثلاثة أيام يتوصل بها إلى إتمام حظه، ولا يضر المشترى(14/313)
بتأخيره بخلاف ما قال مالك من تقديرها بسنة في رواية ابن وهب، وبأربعة أشهر في رواية غيره.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " الشفعه كنشيطة عقال، فان أخذها فهى له وإن تركها رجع باللائمة على نفسه (فرع)
تثبت الشفعه للكافر على المسلم إذا كان شريكا لحديث جابر " لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه " وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز والنخعي وإياس بن معاويه وحماد بن أبى سليمان والثوري ومالك والشافعي والعنبري وأصحاب الرأى لعموم الحديث.
وقال أحمد: لا شفعة لمسلم على كافر وتصح من الذمي للذمي، وهو مروى عن الحسن والشعبى أخذ من حديث " لا شفعة لنصراني " وهو حديث لم يصح إسنادا ودليلنا عموم الحديث وقواعد البياعات لانها خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب (فرع)
قال الشافعي: وان اشتراها بثمن إلى أجل قيل للشفيع: ان شئت تعجل الثمن وتعجل الشفعه، وان شئت فدع حتى يحل الاجل، وصورتها في رجل اشترى شقصا بثمن مؤجل وحضر الشفيع مطالبا ففيه قولان
(أحدهما)
وهو قوله في القديم وبه قال مالك: إن للشفيع أن يتعجل أخذها ويكون الثمن مؤجلا في ذمته إن كان ثقة، وإن كان غير ثقة أقام ضمينا ثقة.
قال الشافعي: وهذا أشبه بصلاح الناس.
ووجه هذا القول شيئان
(أحدهما)
أن الشفيع يدخل مدخل المشترى في قدر الثمن وصفاته والاجل وصفاته، فاقتضى أن يأخذها بمثل الثمن وأجله.
(والثانى)
أن تعجيل المؤجل زيادة في القدر تتفاضل الاثمان به وليس للمشترى أن يشتريه.
وتأخير الشفيع دفع له عن حقه، وليس للمشترى دفع الشفيع
والقول الثاني وبه قال في الجديد، وهو قول أبى حنيفه أن الشفيع لا يتعجل الشقص بالثمن المؤجل، ويقال له: أنت مخير بين أن تعجل الثمن فتعجل أخذ الشقص وبين أن تصبر إلى حلول الاجل فتدفع الثمن وتأخذ الشقص.
ووجه هذا القول شيئان (ا) إن أخذ الشفعه باستحقاق والاجل يدخل في عقود(14/314)
المراضاة ولا يدخل في الاستحقاق ما لم يكن مراضاة (ب) إن رضا البائع بذمة المشترى لا يوجب على المشترى أن يرضى بذمة الشفيع، ولذلك حل دين الميت لان رضى ربه بذمته لا يوجب عليه الرضا بذمة وارثه فإذا تقرر توجيه القولين فللمشترى والشفيع أربعة أحوال (أحدها) أن يعجل الشفيع الثمن فيجبر المشترى على تسليم الشقص على القولين معا، لانه قد تعجل مؤجلا وأمن خطرا.
والحال الثانية أن يرضى المشترى تسليم الشقص وتأجيل الثمن فيلزم الشفيع أن يأخذ أو يعفو على القولين معا، لانه قد يتعجل منافع الشقص حتى لا يستضر بتعجيل الثمن، فإن لم يفعل وانتظر لاخذه بحلول الاجل بطلت شفعته على قوله في القديم، وفى بطلانها على الجديد وجهان.
أحدهما وهو قول ابى العباس بن سريج أنه على شفعته إلى حلول الاجل، لان تأجيل الثمن قد جعل حق الطلب مقدرا به.
والوجه الثاني وهو الاصح: أن شفعته قد بطلت لان طلبه قدر بمدة الاجل رفقا بالمشترى فصار من حقوقه لا من حقوق الشفيع.
والحال الثالثة: أن يدعو المشترى إلى تعجيل الشئ وتسليم الشقص، فلا يلزم الشفيع ذلك على القولين معا، لان تعجيل المؤجل استزادة في الثمن والمشترى ممنوع من الاستزادة فيه، فلو قال المشترى: أنا أحطه من الثمن بسبب التعجيل قدر ما بين الحال والمؤجل لم يجز لامرين:
(أحدهما)
أنه مفض إلى الربا
(والثانى)
أن ما استحق تأجيله لم يلزم تعجيله والحال الرابعة: أن يطالب الشفيع بالشقص معجلا، ويؤخر الثمن إلى حلول الاجل فهى مسألة القولين، فعلى قوله في القديم يجاب إلى ذلك إن كان ثقة أو يضمنه ثقة، فعلى هذا لو مات المشترى حل ما عليه من الثمن ولم يحل ما على الشفيع منه وكان باقيا إلى أجله، ولو مات الشفيع حل ما عليه من الثمن وللمشترى أن يتعجله وما عليه باق إلى أجله، ولو كان المشترى قد دفع الثمن رهنا لم يلزم الشفيع أن يدفع به رهنا، لان الرهن وثيقة في الثمن، وليس في جملة الثمن وعلى قوله في الجديد يمنع من الشقص إلى حلول الاجل والمشترى يمكن من التصرف فيه بما شاء من سكنى واستغلال وإجارة وبيع ما لم يستهلك، لان تعلق حق(14/315)
الشفيع به لا يزيل ملك المشترى عنه فلا يمنع من التصرف في ملكه إلا بما يفضى إلى إبطال حق الشفيع من الاستهلاك والاتلاف وليس البيع استهلاكا لانه بعد البيع يقدر على أخذه بأى العقدين شاء فلو مات المشترى حل ما عليه من الثمن وكان للشفيع أن يصبر إلى حلول الاجل، ولو مات الشفيع كان لورثته أن يصبروا إلى حلول الاجل لانه لم يتعلق بذمته ما يحل بموته بخلاف القول الاول (فرع)
لو باع الرجل في مرض موته شقصا بألف درهم وهو يساوى ثلاثة آلاف حاباه في ثمنه بألفين فللمشترى وللشفيع ثلاثة أحوال: إحداهن أن يكونا أجنبيين من البائع، والثانية أن يكون المشترى وارثا والشفيع أجنبيا، والثالثة أن يكون المشترى أجنبيا والشفيع وارثا.
فأما الحال الاولى فلا تخلو حال البائع من أن يملك مالا غير الشقص أو لا، فإن كان يملك مالا تخرج المحاباة من ثلثه صحت المحاباة وأخذ المشترى الشقص بألف درهم وللشفيع أن يأخذه منه بالالف لانه يملك الشفعة بالثمن مسترخصا كان أو غاليا، وإن كان البائع لا يملك غير
الشقص فللمشترى الخيار في أن يأخذ عن الشقص بألف درهم أو يرد ليحصل له نصف المحاباة، وهى ألف تكون ثلث التركة ويرجع إلى الورثة ثلث الشقص وقيمته ألف مع ألف حصلت لهم ثمنا فيصير مثلى المحاباة بالالف ثم للشفيع أن يأخذ بالالف ثلثى الشقص الصائر للمشترى بالالف.
أما الحال الثانية: وهو أن يكون المشترى وارثا والشفيع أجنبيا فالمحاباة باطلة.
وإن خرجت من الثلث لانها وصية لوارث والمشترى بالخيار بين أن يأخذ ثلث الشقص بألف وبين أن يرده، فإن أخذ مثله بالالف فللشفيع أخذ الثلث منه بالالف، وان رده المشترى عرض على الشفيع قبل رده، فإن رضى أن يأخذ ثلث الشقص بألف كان أحق وبطل رد المشترى لانه يرد ليحصل له الثمن الخارج من يده وقد حصل له ذلك من جهة الشفيع فوصل إلى حقه ومنع من إبطال حق الشفيع برده، كالمنع من رده بعيب لو ظهر إذا رضى الشفيع، ويكون عهدة الشفيع على المشترى، فلو أن باقى الورثة أجازوا للوارث محاباته وأعطوا الشقص كله بالالف جاز.
وفيما يأخذه الشفيع قولان مبنيان على اختلاف قولين في إجازة الورثة هل تكون عطية أو إمضاء؟(14/316)
(أحدهما)
أنه امضاء فعلى هذا للشفيع أن يأخذ الشقص كله بالالف
(والثانى)
أنه ابتداء عطية فعلى هذا يأخذ ثلث الشقص بالالف ويخلص للمشترى ثلثاه لانها عطية له خالصة.
وأما الحال الثالثة وهو أن يكون المشترى أجنبيا والشفيع وارثا، فالمحاباة وهى ألفا درهم ثلاثة أحوال: حال يحتمل الثلث جميعها، وحال لا يحتمل شيئا منها، وحال يحتمل الثلث بعضها، فإن لم يحتمل الثلث شيئا منها لاحاطة الدين بالتركة بطلت المحاباة وكان للمشترى الخيار في أخذ ثلث الشقص بالالف أو رده، فإن أخذه كان الشفيع أحق به، وإن كان وارثا لانه لا محاباة
فيه.
وان احتمل الثلث جميع المحاباة لانه ذو مال تخرج الالفان من ثلثه فالمحاباة بثلثي الشقص.
وان احتمل الثلث بعضها وهو أن لا يملك غير الشقص المقوم بثلاثة آلاف درهم احتمل الثلث نصف المحاباة وهو ثلث الشقص.
وفيها أربعة أوجه حكاها ابن سريج: (أحدها) أنها جائزة للمشترى والشفيع لان المشترى مقصود بها فصحت له، والشفيع داخل عليه فوجبت له.
فعلى هذا يأخذ المشترى ثلثى الشقص بألف درهم وللشفيع أخذ هذين الثلثين بالالف ويرجع الثلث على الورثة مع الالف الصائر إليهم ثمنها والوجه الثاني: أن المحاباة جائزة للمشترى دون الشفيع، لان المشترى ممن تصح محاباته - وهو بها مقصود - والشفيع ممن لا تصح محاباته، وهو بها غير مقصود.
فعلى هذا يأخذ المشترى ثلث الشقص بألف، وللشفيع أن يأخذ منه ثلثه بألف ويرجع إلى الورثة الثلث، فيصير الشقص أثلاثا: ثلثه للورثه، لان الثلث لا يحتمل، وثلثه للمشترى لانها محاباة له، وثلثه للشفيع بعد رد المحاباة التى لا تصح له.
والوجه الثالث: أن المحاباة باطلة للمشترى وللشفيع جميعا، لانها قد تفضى إلى الشفيع الذى لا يملكها وهى مقترنة بالمبيع الذى لا يجوز أن يفرد عنها، فعلى هذا للمشترى أن يأخذ ثلث الشقص بالالف، وللشفيع أن يأخذه منه بالالف ويرجع الثلثان على الورثة.(14/317)
والوجه الرابع أن المحاباة موقوفه مراعاة فإن عفى الشفيع عن شفعته صحت المحاباة للمشترى واستحق الشفيع المحاباة بشفعته، لانها ليست محاباة من المشترى
ألا تراه يأخذها منه جبرا بلا اختيار.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن اشترى الشقص بعرض فإن كان له مثل كالحبوب والادهان أخذه بمثله، لانه من ذوات الامثال، فأخذ به كالدراهم والدنانير وإن لم يكن له مثل كالعبيد والثياب أخذه بقيمته لان القيمة مثل لما لا مثل له ويأخذه بقيمته حال وحوب الشفعة كما يأخذ بالثمن الذى وجب عند وجوب الشفعة وان اشترى الشقص بعبد وأخذ الشفيع بقيمته ووجد البائع بالعبد عيبا ورده أخذ قيمة الشقص وهل يثبت التراجع للشفيع والمشترى بما بين قيمة العبد وقيمة الشقص فيه وجهان أحدهما لا يتراجعان لان الشفيع أخذ بما استقر عليه العقد وهو قيمة العبد فلا يتغير بما طرأ بعده والثانى يتراجعان فإن كانت قيمة الشقص أكثر رجع المشترى على الشفيع وإن كانت قيمة العبد أكثر رجع الشفيع على المشترى لانه استقر الشقص على المشترى بقيمته فثبت التراجع بما بين القيمتين وان وجد البائع بالعبد العيب وقد حدث عنده عيب آخر فرجع على المشترى بالارش نظرت فإن أخذ المشترى من الشفيع قيمة العبد سليما لم يرجع عليه بالارش لان الارش دخل في القيمة وإن أخذ قيمته معيبا فهل يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَرْجِعُ لانه أخذ الشقص بقيمة العبد المعيب الذى استقر عليه العقد.
والثانى يرجع بالارش لانه استقر الشقص عليه بقيمة عبد سليم فرجع به على الشفيع.
(فصل)
وان جعل الشقص أجرة في إجارة أخذه الشفيع بأجرة مثل المنفعة فإن جعل صداقا في نكاح أو بدلا في خلع أخذ الشفيع بمهر مثل المرأة لان المنفعة لا مثل لها فأخذ بقيمتها كالثوب والعبد وان جعل متعة في طلاق امرأة أخذ الشفيع بمتعة مثلها لا بالمهر لان الواجب بالطلاق متعة مثلها لا المهر.
(فصل)
والشفيع بالخيار بين الاخذ والترك لانه حق ثبت له لدفع الضرر(14/318)
عنه فخير بين أخذه وتركه وفى خياره أربعة أقوال قولان نص عليهما في القديم أحدهما له على التراخي لا يسقط إلا بالعفو أو بما يدل على العفو كقوله بعنى أو قاسمني وما أشبههما لانه حق له لا ضرر على المستحق عليه في تأخيره فلم يسقط إلا بالعفو كالخيار في القصاص والثانى أنه بالخيار إلى أن يرفعه المشترى إلى الحاكم ليجبره على الاخذ أو العفو لانا لو قلنا أنه على الفور أضررنا بالشفيع لانه لا يأمن مع الاستعجال أن يترك والحظ في الاخذ أو يأخذه والحظ في الترك فيندم وإن قلنا أنه على التراخي إلى أن يسقط أضررنا بالمشترى لانه لا يقدر على التصرف والسعى في عمارته خوفا من الشفيع فجعل له إلى أن يرفع إلى الحاكم ليدفع عنه الضرر.
والثالث نص عليه في سير حرملة أنه بالخيار إلى ثلاثة أيام لانه لا يمكن أن يجعل على الفور لانه يستضر به الشفيع ولا أن يجعل على التراخي لانه يستضر به المشترى فقدر بثلاثة أيام لانه لا ضرر فيه على الشفيع لانه يمكنه أن يعرف ما فيه من الحظ في ثلاثة أيام ولا على المشترى لانه قريب.
والرابع نص عليه في الجديد أنه على الفور وهو الصحيح لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال الشفعة لمن واثبها وروى أنه قال الشفعة كنشطة العقال إن قيدت ثبتت وان تركت فاللوم على من تركها.
فَعَلَى هَذَا إنْ أَخَّرَ الطَّلَبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَ لِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَسَقَطَ بِالتَّأْخِيرِ من غير عذر كالرد بالعيب وان أخره لطهارة أو صلاة أو طعام أو لبس ثوب أو اغلاق باب فهو على شفعته لانه ترك الطلب لعذر وان قال سلام عليكم أنا مطالب بالشفعة ثبتت الشفعة لان السلام قبل الكلام سنة فلا تسقط به الشفعه وان قال بارك الله في
صفقة يمينك أنا مطالب بالشفعه لم تسقط لان الدعاء له بالبركة لا يدل على ترك الشفعه لانه يجوز أن يكون دعاء للصفقه بالبركه لانها أوصلته إلى الاخذ بالشفعه وان قال صالحني عن الشفعه على مال لم يصح الصلح لانه خيار فلا يجوز أخذ العوض.
عنه كخيار الشرط وفى شفعته وجهان أحدهما تسقط لانه أعرض عن طلبها من غير عذر والثانى لا تسقط لانه تركها على عوض ولم يسلم له العوض(14/319)
فبقى على شفعته فان أخذه بثمن مستحق ففيه وجهان أحدهما تسقط لانه ترك الاخذ الذى يملك به من غير عذر والثانى لا تسقط لانه استحق الشقص بمثل الثمن في الذمه فإذا عينه فيما لا يملك سقط التعيين وبقى الاستحقاق كما لو اشترى شيئا بثمن في الذمه ووزن فيه ما لا يملك.
(الشرح) قال الشافعي وللشفيع الشفعة بالثمن الذى وقع به البيع، وهذا كما قال: وإنما أخذه بالثمن لرواية بعضهم ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصا، ولانه يدخل مدخل المشترى فوجب أن يأخذ الشقص بما أخذه المشترى، ولان عدولهما عن الثمن لا يخلو من ثلاثة أحوال فاسدة، إما أن يأخذه بما يرضى به المشترى، وفى ذلك ضرر على الشفيع لانه قد لا يرضى إلا ببعض الثمن، وإما أن يأخذه بالقيمة فقد تكون أقل من الثمن فيستضر المشترى وقد يكون أكثر من الثمن فيستضر الشفيع، وإذا بطلت هذه الاحوال فثبت أخذه بالثمن.
فإذا ثبت أن الشفيع يأخذه بالثمن فلا يخلو أن يكون الثمن مما له مثل كالدراهم والدنانير والبر والشعير أو مما لا مثل له كالحيوان والعروض، فإن كان مما له مثل أخذه بمثله جنسا وصفة وقدرا، وإن كان مما لا مثل له اخذه الشفيع بقيمته في أقل الاحوال من وقت العقد إلى وقت تسليم المشترى له إلى البائع، لانه إن زاد فالزيادة حادثة في ملك البائع لم يتناولها العقد، وإن نقص فالنقصان مضمون
على المشترى فخرج من العقد.
فلو كان الثمن ألف درهم فدفعها المشترى إلى البائع فوجدها البائع زيوفا فهو بالخيار بين أن يسامح وبين أن يبدلها، فإن رضى بها فللشفيع أن يأخذ الشقص بألف درهم جياد، أو لو كان الثمن حيوانا فاعور الحيوان في يد المشترى فللبائع الخيار بين فسخ البيع في الحيوان وبين الرضا بالعور وإمضاء البيع فإن رضى بالعور أخذه الشفيع بقيمة الحيوان أعور.
وقال أبو حنيفة: يأخذه بقيمته سليما كما يأخذه بمثل الالف جيادا، لانه ليس الرضا بالعيب الحادث خطأ في الثمن وهذا خطأ، لان رضاه بعيبه رضا منه بأنه هو الثمن بعينه والفرق بين الحيوان والالف أن عور الحيوان لما أحدث له خيارا في فسخ البيع صار الحيوان(14/320)
الاعور ثمنا وزيافة الدراهم لا تحدث له خيارا في فسخ البيع، وإذا استحق أخذ بدلها فصار الجيد ثمنا له.
(فرع)
إذا اشترى شقصا من دار بمائة دينار ثم وجد به عيبا نقصه عشر الثمن فصالحه البائع عن العيب على شئ كمذياع صغير أو كبش ثم حضر الشفيع فله أخذ الشقص بتسعين دينارا لان المشترى قد استرجع العشر أرشا، فإن استحق المذياع أو الكبش من يد المشترى أو ردها بخيار شرط أو عيب نظر، فإن دفع البائع إلى المشترى العشرة التى هي أرش العيب فقد وصل إلى حقه من تمام الثمن ولا مطالبة بينه وبين الشفيع، وإن امتنع البائع من دفعها ولم يرض إلا برد المبيع لم يجبر على بذل الارش، وقيل للشفيع: إن دفعت إلى المشترى عشرة لتتم المائة التى دفعها ثمنا جمعت لك الشفعة، وإن امتنعت لم تجبر على دفعها ولزمك رد الشقص على المشترى واسترجاع التسعين التى دفعتها، فإذا عاد الشقص إلى المشترى كان بالخيار بين أن يأخذه معيبا بالمائة كلها وبين أن يرده، فإن رضى
بأخذه بالمائة فلا شفعه للشفيع إن عاد يريدها لانها قد عرضت عليه بالمائة فردها فلو أن الشفيع أنكر تقدم العيب وتصادق عليه البائع والمشترى كان القول قول الشفيع مع يمينه على العلم دون البت ولا يصدقان في الازدياد عليه، فان نكل الشفيع حلف المشترى دون البائع لانه هو المتروك لنقص العيب، فان حلف كان الشفيع مخبرا بين دفع العشرة تكملة المائة أو الرد.
(فرع)
وقال الشافعي: فان تزوجها على شقص فهو للشفيع بقيمته وهذا كما قال: إذا تزوجها على شقص أصدقها وجب فيه الشفعه وهكذا لو خالعها عليه، وقال أبو حنيفة: لا شفعه فيه استدلالا بأمرين.
أحدهما: أنه مملوك بغير مال فلم تجب فيه الشفعه كالهبه والميراث.
والثانى: أن البضع لا يقوم إلا في عقد أو شبهة عقد، وليس بين الشفيع وبينهما ما يوجب تقويم بضعها.(14/321)
ودليلنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: الشفعة فيما لم يقسم، ولانه عقد معاوضة فجاز أن تثبت فيه الشفعة كالبيع، ولانه معنى وضع لرفع الضرر عن المالك فوجب أن يثبت في الصداق كالرد بالعيب، ولانه معنى يوجب زوال اليد المستحدثة عن المشترى فوجب أن يستحق زوال اليد عن الصداق كالاستحقاق ولان كل عضو استحق فيه إقباض الشقص معاوضة، استحق به إقباضه بشفعة كالبيع، ولان كل قبض وجب في عقد البيع وجب في عقد الصداق كالقبض الاول وبيانه أن في البيع قبضين، قبض المشترى من البائع وقبض الشفيع من الزوجة وأما الجواب عن قوله: إنه مملوك بغير مال فهو أن البضع في حكم الاموال لامرين.
أحدهما: أنه يعاوض عليه بمال في الصداق والخلع، وما لم يكن في حكم
الاموال فلا يجوز أن يعاوض عليه بمال.
والثانى: أنه معتبر في اغتصابه بالمال وما لم يكن مالا لم يقوم في استهلاكه بالمال، ثم المعنى في الهبة والميراث أنه مملوك بغير بدل فلم تجب فيه الشفعة، والصداق مملوك ببدل فوجبت فيه الشفعه.
واما الجواب عن قوله: ان البضع لا يقوم الا في عقد أو شبهة عقد فهو أنه غير مسلم لان المغتصبه مقومة البضع عندنا على غاصبها والمشهود بطلاقها مقومة البضع على الشهود إذا رجعوا للزوج دونها، فصار بضعها مقوما في غير عقد وشبهته في حقها وحق غيرها فلم يمنع من تقويمه في شفعة صداقها.
فإذا ثبت وجوب الشفعه في الصداق والخلع فمذهب الشافعي أنه مأخوذ بمهر المثل.
وقال مالك وابن أبى ليلى يؤخذ بقيمته لا بمهر المثل، وحكى نحوه عن الشافعي في القديم لان المهر قد يزاد فيها وينقص فخالفت البيوع، وهذا فاسد من وجهين، أحدهما: وجود هذا المعنى في الاثمان لجواز الزيادة والنقصان فيها، ثم لم يمتنع أن يؤخذ الشقص بمثل الثمن، كذلك لا يمتنع في الصداق أن يؤخذ بقيمة البضع، والثانى: أن ما لا مثل له من الاعواض يوجب الرجوع إلى قيمة العوض دون الشقص كالعبد والثوب، كذلك البضع الذى لا مثل له يوجب الرجوع إلى قيمته من المهر دون الشقص والله اعلم.(14/322)
(فرع)
مضى كلامنا في الخيار للشفيع بين الاخذ والترك والمدة التى يجوز له فيها الرد، ونزيد البحث فنقول: إذا قيل بأن حق الشفعه مقدر بثلاثة أيام بعد المكنة فوجهه أن الشفعه موضوعه لارتفاق الشفيع بها في التماس الحظ لنفسه في الاخذ والترك والاختيار والمشترى في حسن المشاركة ليقر أو في سوء المشاركة ليصرف.
وقلنا إنه لو روعى
فيه الفور ضاق على الشفيع، ولو جعل على التأبيد أضر بالمشترى فاحتاج إلى مدة يتوصل بها الشفيع إلى إتمام حظه ولا يستضر المشترى بتأخيره فكان أولى الامور تقديرها بثلاثة أيام لامرين: أحدهما: أن الثلاث حد في الشرع لمدة الخيار.
والثانى أنها أقصى حد القله وأدنى حد الكثرة.
ألا ترى أن الله تعالى قد قضى بهلاك قوم أنظرهم بعده ثلاثا، فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا، فعلى هذا لو حصل في خلال الثلاثة الايام زمان يتعذر فيه المطالبة لم يحتسب به منها، ولقوله من زمان الملكة ثلاثة أيام يتمكن جميعها من المطالبة، فإذا قيل بأن حق الشفعه على التراخي فوجهه قوله صلى الله عليه وسلم " فإن باع فشريكه أحق به حتى يؤديه " فكان على عموم الاوقات، ولان ما ملك من الحقوق لا يبطل بالتأخير كالديون ولان تأخير الشفعه أرفق بالمشترى في حصول المنفعة وتملك الاجرة، فعلى هذا الذى يسقط حقه من الشفعه ثلاثة أقاويل.
(أحدها) العفو الصريح دون غيره من التعويض، وليس للقاضى أن يقطع خياره إذا رفع إليه، لان الحاكم لا يملك إسقاط الحقوق وكالديون.
والثانى: أن شفعته تسقط بأحد أمرين: إما بالعفو الصريح أو بما يدل عليه من التعريض على ما ذكرنا.
والقول الثالث: أن شفعته تسقط بأحد ثلاثه.
أحدها العفو الصريح أو بما يدل عليه من التعريض أو بأن يتحاكم المشترى إلى القاضى فيلزمه الاخذ أو الترك فإن أخذ وإلا حكم عليه بإبطال الشفعه، لان القاضى مندوب إلى فصل الخصومات(14/323)
فإذا تقرر ما وصفنا وأخذ الشفيع الشقص بالشفعه لم يجز أن يشرط فيه خيار
الثلاث، وفى استحقاق خيار المجلس وجهان حكاهما أبو القاسم: أحدهما له خيار المجلس لانه يوافق عقد البيع.
والثانى لا خيار له لانه يملك الشقص ملك إجبار لا عن مراضاة.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن وجبت له الشفعة وهو محبوس أو مريض أو غائب نظرت فان لم يقدر على الطلب ولا على التوكيل ولا على الاشهاد فهو على شفعته، لانه ترك بعذر، وان قدر على التوكيل فلم يوكل ففيه ثلاثه أوجه (أحدها) وهو قول القاضى أبى حامد أنه تسقط شفعته لانه ترك الطلب مع القدرة فأشبه إذا قدر على الطلب بنفسه فترك
(والثانى)
وهو قول أبى على الطبري أنه لا تسقط، لان التوكيل إن كان بعوض لزمه غرم وفيه ضرر، وإن كان بغير عوض احتاج إلى التزام منه وفى تحملها مشقة وذلك عذر فلم تسقط به الشفعة ومن أصحابنا من قال: إن وجد من يتطوع بالوكالة سقطت شفعته لانه ترك الطلب من غير ضرر، فإن لم يجد من يتطوع لم تسقط لانه ترك للضرر، وان عجز عن التوكيل وقدر على الاشهاد فلم يشهد ففيه قولان
(أحدهما)
تسقط شفعته لان الترك قد يكون للزهد وقد يكون للعجز وقد قدر على أن يبين ذلك بالشهادة، فإذا لم يفعل سقطت شفعته
(والثانى)
لا تسقط لان عذره في الترك ظاهر فلم يحتج معه إلى الشهادة
(فصل)
وإن قال أخرت الطلب لانى لم أصدق، فإن كان قد أخبره عدلان سقطت شفعته لانه أخبره من يثبت بقوله الحقوق، وان أخبره حر أو عبد أو امرأة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تسقط لانه ليس ببينة
(والثانى)
تسقط لانه أخبره من يجب تصديقه في الخبر وهذا من باب الاخبار فوجب تصديقهم فيه
(فصل)
فإن قال المشترى اشتريت بمائة فعفا الشفيع ثم بان أنه اشترى بخمسين فهو على شفعته لانه عفا عن الشفعة لعذر، وهو انه لا يرضاه بمائه(14/324)
أو ليس معه مائة.
وإن قال اشتريت بخمسين فعفا ثم بان أنه كان قد اشتراه بمائة لم يكن له أن يطالب لان من لا يرضى الشقص بخمسين لا يرضاه بمائة، وإن قال اشتريت نصفه بمائة فعفا ثم بان أنه قد اشترى جميعه بمائة فهو على شفعته لانه لم يرض بترك الجميع، وإن قال اشتريت الشقص بمائة فعفا ثم بان أنه كان قد اشترى نصفه بمائه لم يكن له أن يطالب بالشفعة.
لان من لم يرض الشقص بمائة لا يرضى نصفه بمائه.
وإن قال اشتريت بأحد النقدين فعفا ثم بان أنه كان قد اشتراه بالنقد الاخر فهو على شفعته لانه يجوز أن يكون عفا لاعواز أحد النقدين عنده أو لحاجته إليه.
وإن قال اشتريت الشقص فعفا ثم بان أنه كان وكيلا فيه.
وإنما المشترى غيره، فهو على شفعته لانه قد يرضى مشاركة الوكيل، ولا يرضى مشاركة الموكل.
(فصل)
وإن وجبت له الشفعة فباع حصته، فإن كان بعد العلم بالشفعة سقطت شفعته، لانه ليس له ملك يستحق به، وإن باع قبل العلم بالشفعة ففيه وجهان
(أحدهما)
تسقط لانه زال السبب الذى يستحق به الشفعة، وهو الملك الذى يخاف الضرر بسببه
(والثانى)
لا تسقط لانه وجبت له الشفعه والشركة موجودة فلا تسقط بالبيع بعده.
(فصل)
ومن وجبت له الشفعه في شقص لم يجز أن يأخذ البعض ويعفو عن البعض، لان في ذلك اضرارا بالمشترى في تفريق الصفقه عليه، والضرر لا يزال بالضرر، فإن أخذ البعض وترك البعض سقطت شفعته لانه لا يتبعض
فإذا عفا عن البعض سقط الجميع كالقصاص.
وان اشترى شقصين من أرضين في عقد واحد فأراد الشفيع أن يأخذ أحدهما دون الاخر ففيه وجهان، أحدهما: لا يجوز، وهو الاظهر لما فيه من الاضرار بالمشترى في تفريق الصفقه عليه.
(والثانى)
يجوز لان الشفعه جعلت لدفع الضرر وربما كان الضرر في أحدهما دون الاخر، فان كان البائع أو المشترى اثنين جاز للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما دون الاخر، لان عقد الواحد مع الاثنين عقدان، فجاز أن يأخذ أحدهما دون الاخر كما لو اشتراه في عقدين متفرقين(14/325)
(فصل)
وإن كان للشقص شفعاء نظرت فإن حضروا وطلبوا أخذوا، فإن كانت حصة بعضهم أكثر ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يقسم الشقص بينهم على عدد الرؤوس، وهو قول المزني، لان كل واحد منهم لو انفرد أخذ الجميع، فإذا اجتمعوا تساووا كما لو تساووا في الملك
(والثانى)
أنه يقسم بينهم على قدر الانصباء لانه حق يستحق بسبب الملك فيقسط عند الاشتراك على قدر الاملاك كأجرة الدكان وثمرة البستان، وإن عفا بعضهم عن حقه أخذ الباقون جميعه.
لان في أخذ البعض إضرارا بالمشترى، فإن جعل بعضهم حصته لبعض الشركاء لم يصح بل يكون لجميعهم، لان ذلك عفو وليس بهبة.
وإن حضر بعضهم أخذ جميعه، فإن حضر آخر قاسمه، وإن حضر الثالث قاسمهما، لانا بينا أنه لا يجوز التبعيض، فإن أخذ الحاضر الشقص وزاد في يده، بأن كان نخلا فأثمرت، ثم قدم الغائب قاسمه على الشقص دون الثمار، لان الثمار حديث في ملك الحاضر فاختص بها.
وإن قال الحاضر: أنا آخذ بقدر مالى لم يجز، وهل تسقط شفعته فيه وجهان أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أنها تسقط لانه قدر على أخذ الجميع وقد تركه.
والثانى: وهو قول أبى إسحاق أنها لا تسقط لانه تركه بعذر، وهو أنه يخشى أن يقدم الغائب فينتزعه منه.
والترك للعذر لا يسقط الشفعة، كما قلنا
فيمن أظهر له المشترى ثمنا كثيرا فترك ثم بان بخلافه
(فصل)
وإن كان المشترى شريكا بأن كان بين ثلاثة دار فباع أحدهم نصيبه من أحد شريكيه لم يكن للشريك الثاني أن يأخذ الجميع لان المشترى أحد الشريكين فلم يجز للآخر أن يأخذ الجميع - كما لو كان المشترى أجنبيا - وقال أبو العباس للشريك أن يأخذ الجميع، لانا لو قلنا انه يأخذ النصف لتركنا النصف على المشترى بالشفعة، والانسان لا يأخذ بالشفعة من نفسه، والمذهب الاول، لان المشترى لا يأخذ النصف من نفسه بالشفعة، وإنما يمنع الشريك أن يأخذ الجميع، ويبقى الباقي على ملكه
(فصل)
وان ورث رجلان من أبيهما دارا ثم مات أحدهما وخلف ابنين ثم باع أحد هذين الابنين حصته ففى الشفعة قولان.
أحدهما أن الشفعة بين الاخ والعلم وهو الصحيح لانهما شريكان للمشترى فاشتركا في الشفعة كما لو ملكاه بسبب واحد(14/326)
(والثانى)
أنها للاخ دون العم لان الاخ أقرب إليه في الشركة لانهما ملكاه بسبب واحد والعم ملك بسبب قبلهما فعلى هذا إن عفا الآخ عن حقه فهل يستحق العم فيه وجهان.
أحدهما.
يستحق به لانه شريك وإنما قدم الاخ عليه لانه أقرب في الشركة فإذا ترك الاخ ثبت للعم كما نقول فيمن قتل رجلين أنه يقتل بالاول لان حقه أسبق فإذا عفا ولى الاول قتل بالثاني: والوجه الثاني أنه لا يستحق لانه لم يستحق الشفعة وقت الوجوب فلم يستحق بعده.
وإن كان بين ثلاثة أنفس دار فباع أحدهم نصيبه من رجلين، وعفا شريكاه عن الشفعة، ثم باع أحد المشتريين نصيبه، فعلى القولين
(أحدهما)
أن الشفعة للمشترى الآخر لانهما ملكاه بسبب واحد، والشريكان الاخران ملكاه بسبب
سابق لملك المشتريين
(والثانى)
أنها بين الجميع لان الجميع شركاء في الملك في حال وجوب الشفعه، وان مات رجل عن دار وخلف ابنتين وأختين ثم باعت إحدى الاختين نصيبها ففيه طريقان، من أصحابنا من قال: هي على القولين.
أحدهما: أن الشفعة للاخت لانها ملكت مع الاخت بسبب واحد وملك البنات بسبب آخر.
والثانى: أن الشفعه بين البنات والاخت لان الجميع شركاء في الملك: ومنهم من قال: إن الشفعه بين البنات والاخت قولا واحدا، لان الجميع ملكن الشقص في وقت واحد لم يسبق بعضهن بعضا.
(الشرح) قال الشافعي: فان علم وأخر الطلب فان كان له عذر من حبس أو غيره فهو على شفعته والا فلا شفعة له، ولا يقطعها طول غيبة، وانما يقطعها أن يعلم فيتركه، وهذا كما قال: إذا علم الشفيع بالبيع وكان معذورا بترك الطلب اما لغيبة أو مرض أو حبس فله ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يقدر على الترك، فان وكل كان على حقه من الشفعة بل لو وكل وهو قادر على الطلب بنفسه جاز وكان على شفعته، لان من ثبت له حق فله الخيار(14/327)
في استيفائه بنفسه أو بوكيله، وهل إذا قدر على التوكيل مع عجزه عن الطلب بنفسه يكون التوكيل واجبا وشرطا في بقاء شفعته أم لا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حامد المروروذى في جامعه: إن التوكيل واجب عليه بعوض وغير عوض لكونه قادرا به على الطلب.
والوجه الثاني وهو قول أبى على الطبري في إفصاحه: إن التوكيل غير واجب عليه بعوض وغير عوض، لان بذل العوض التزام غرم.
والوجه الثالث وهو قول بعض المتأخرين: إن وجد متطوعا بالوكاله وجب
عليه التوكيل لقدرته على الطلب من غير ضرر، وإن لم يجد إلا مستجعلا - والمستجعل طالب الجعالة لم يجب عليه التوكيل لما فيه من التزام زيادة على الثمن، فعلى هذا إن قيل بوجوب التوكيل بطلت شفعته إن لم يوكل، وان قيل: انها غير واجبة كان على شفعته.
والحال الثانيه: أن يعجز عن التوكيل ويقدر على الاشهاد بالطلب، فعند أبى حنيفة أن الاشهاد شرط في استحقاق الشفعة مع القدرة على الطلب ومع العجز عنه وانه متى لم يشهد مع مكنته من الاشهاد بطلت الشفعة، وعند الشافعي أن الاشهاد مع القدرة على الطلب ليس بواجب، لان الاشهاد انما يراد ليكون بينة له على ارادة الطلب فاستغنى عنه بظهور الطلب، فأما وجوب الاشهاد مع العجز عن الطلب ففيه قولان.
أحدهما وهو ظاهر نص الشافعي أن الاشهاد ليس بواجب، وهو على شفعته ان ترك كالقادر على الطلب.
والقول الثاني: أن الاشهاد واجب، وتركه مبطل للشفعة، والفرق بين القادر على الطلب والعاجز عنه أن ظهور الطلب من القادر عليه يغنى عن الاخبار بمراده، والعاجز عنه قد يحتمل أن يكون امساكه تركا للشفعة، ويحتمل أن يكون قصدا للطلب مع المكنة فافتقر إلى نفى الاحتمال في الاخبار عن مراده بالاشهاد فعلى هذا يجب أن يشهد ويكون بينة كاملة عند الحاكم وهو أن يشهد شاهدين عدلين أو شاهدا وامرأتين، فإن أشهد شاهدا واحدا ليحلف معه لم يجز لان من الحكام(14/328)
من لا يحكم بالشاهد واليمين فلم يصر مستوثقا لنفسه بالاشهاد، ولو أشهد عبدا أو صبيانا أو فساقا لم يجزه.
وقال أبو حنيفة: يخرجهم به اشهادهم لانه قد ينعتق العبيد ويرشد الفساق
ويبلغ الصبيان وهذا خطأ، لان مقصود الشهادة هو الاداء، فلم ينفع اشهاد من لا يصح منه الاداء، وليس ما ذكره من جواز انتقالهم من أحوالهم بأغلب من جواز بقائهم على أحوالهم، فلو يشهد وطالب عند الحاكم بالشفعة فهو أقوى من الاشهاد في ثبوت الشفعة.
والحال الثالثة: أن يعجز عن التوكيل والاشهاد فهو على حقه من الشفعة، وان تطاول به الزمان ما لم يقدر على القدوم للطلب، فإن قدر على القدوم فأخذ فيه على المعهود في الناقب والمسير من غير ارهاق ولا استعجال كان على شفعته، وان أخر قدومه عن وقت المكنة بطلت شفعته، قال الماوردى: فإن اختلفا فقال المشترى تأخرت مع القدرة عليه، وقال الشفيع: تأخرت للعجز عنه فالقول قول الشفيع مع يمينه إذا كان ما قال ممكنا ويكون على شفعته ولم يقبل قول المشترى في ابطالها، وهكذا لو قال المشترى: قدمت بغير المطالبة، وقال الشفيع: قدمت للطلب كان القول قوله مع يمينه، وهو على شفعته.
(فرع)
وهكذا لو قال المشترى: تقدم علمك على زمان الطلب، وقال الشفيع لم أعلم الا وقت الطلب فالقول قول الشفيع مع يمينه، فأما ما يصير به عالما فالبينة العادلة، وكل جهر طرق سمعه صوته ووقع في نفسه، ولو من امرأة أو عبد أو كافر لان ما تعلق بالمعاملات يستوى فيه خبر الحر والعبد والعدل والفاسق إذا وقع في النفس أن المخبر صادق.
وقال أبو حنيفة: لا يصير عالما الا بالبينة العادله لان الحق لا يثبت الا بها فلو علم الشفيع بالبيع فأمسك عن الطلب لجهله باستحقاق الشفعه ففى بطلانها وجهان مخرجان من اختلاف قولين في الامة إذا أعتقت تحت عبد فأمسك عن الفسخ لجهله باستحقاقه.
(فرع)
إذا باع بمصر شقصا من دار بدمشق وحضر الشفيع فأخر طلبها مع(14/329)
القدرة عليه ليأتي دمشق فيطالبه بها بطلت شفعته لان قدرته على أخذها بدمشق كقدرته على أخذها بمصر.
ولكن لو أنكر المشترى بمصر أنه خليط فأخرها ليقيم البينة في دمشق كان على شفعته إذا لم يجد بينة بدمشق قال الماوردى واختلف أصحابنا فيمن شهد به البينة في استحقاق الشفعة على وجهين: أحدهما أنه لا شفعة له إلا أن تشهد له البينة بالملك، وبه قال أبو حنيفة لئلا ينتزع ملكا بأمر محتمل والوجه الثاني: أنه يستحق الشفعة إذا شهدت له البينة باليد، وبه قال أبو يوسف، لانها حجة في الملك، لكن يحلف الشفيع مع بينته أنه مالك، ثم يحكم له بالشفعة.
وإذا عرض الشقص قبل البيع على الشفيع فلم يشتره ثم بيع فله المطالبة بالشفعة ولا يسقط حقه منها بامتناعه من الشراء لوجوبها بالبيع الحادث.
فلو عفا الشفيع عنها قبل الشراء كان عفوه باطلا وهو على حقه من الشفعة بعد الشراء لانه عفا عنه قبل استحقاقها فصار كإبرائه من الدين قبل وجوبه.
فإذا صالح الشفيع المشترى على مال يأخذه منه عوضا على تركه الشفعة لم يجز وكان صلحا باطلا وعوضا مردودا، كما لا يجوز أن يعاوض على ما قد استحقه من دين أو شرط.
وفى بطلان شفعته بذلك وجهان
(أحدهما)
أنها قد بطلت لانه تارك لها.
والوجه الثاني: أنها لم تبطل لان الترك مشروط بعوض فلما بطل العوض بطل الترك.
وإذا عفا الشفيع عن بعض الشفعة لم يتبعض العفو، وفيه وجهان.
أحدهما أن العفو باطل وهو على حقه من الشفعه في الكل، لان العفو لما لم يكمل بطل، وبه قال أبو يوسف
والوجه الثاني وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ العفو صحيح في الكل تعليقا لما ظهر من حكم التسليم، وبه قال محمد بن الحسن (فرع)
إذا وجبت الشفعة بخليط فباع حصته قبل الاخذ أو الترك لم يخل حاله عند بيعها من أحد أمرين، إما أن يبيعها قبل العلم بالشفعه أو بعد العلم بها، فإن باع حصته بعد العلم بالشفعة فلا شفعة له، لان المعنى الموجب لها من سوء(14/330)
المشاركة والخوف من مئونة القسمة قد ارتفع بالبيع وزوال المالك، فعلى هذا لو باع بعض حصته ففى بطلان شفعته وجهان مخرجان من العافى عن بعض شفعته.
أحدهما: أنها لا تبطل وهو على حقه منها لانها لا تستحق بقليل الملك كما تستحق بكثيره.
فأما إن كان بيعه لحصته قبل العلم بشفعته ففى بطلان الشفعة وجهان.
أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّ شفعته قد بطلت لانه باع الملك المقصود بالشفعة كما له منافعه.
والثانى حكاه أبو حامد الاسفرايينى أنه على شفعته لانه قد ملكها، وليس في بيعه قبل العلم عفو عنها.
والوجه الاول أصح فإذا علم بالمبيع وقيل له إن الثمن ألف درهم فعفا عن الشفعة ثم بان ان الثمن مائة دينار كانت له الشفعة ولا يؤثر فيها ما تقدم من العفو لانه قد يعفو عن الدراهم لاعوازها معه، وهكذا لو قيل له إن الثمن مائة دينار فعفا عن الشفعه ثم بان أنه ألف درهم كان على شفعته.
وقال أبو يوسف: إن كان قيمة الالف مائة دينار فصاعدا فلا شفعة له، وان كانت قيمته أقل فله الشفعه، وقد خطأ أصحابنا هذا.
وإذا تعدد الشفعاء فقد قال الشافعي: إذا حضر أحد الشفعاء أخذ الكل بجميع الثمن، فان حضر الثاني أخذ منه النصف بنصف الثمن، فان حضر الثالث أخذ منهما الثلث بثلث الثمن حتى يكونوا في ذلك سواء.
وصورتها في دار بين
أربعة شركاء باع أحدهم حصته على غير شركائه فالشفعة فيها واجبه لشركائه الثلاثه، فان كانوا حاضرين وطلب بعضهم الشفعه دون بعض فيعطى الطالب وتبطل الشفعه لمن عفا، وللطالب أن يأخذ جميع الشقص بشفعته وليس له أن يبعض ويأخذ الثلث لما فيه من تفريق الصفقه فإذا كانوا جميعا غائبين فهم على حقوقهم من الشفعه ما لم يكن منهم عفو، فإذا ادعى المشترى على أحدهم العفو عن شفعته لم تسمع دعواه، لان للآخرين أن يأخذا الجميع فلم يكن لدعواه معنى، ولكن لو ادعى شريكان على الثالث منهم العفو سمعت دعواهما لما فيه من توفر حقه عليهما وأحلف لهما ولم تسمع شهادة المشترى عليه بالعفو لما فيها من شفعة عن مطالبته ولو ادعى المشترى على الثلاثة كلهم العفو كان له إحلافهم لانهم لو نكلوا(14/331)
ردت اليمين عليه وسقط حقهم من الشفعة، فان حلف أحد الثلاثه ونكل إثنان منهم لم ترد أيمانهما على المشترى بنكولهما، لان عفو بعض الشفعاء مما يوجب الترك على المشترى ويأخذه من لم يعف ثم لا يقضى للحالف بالشفعة في الكل الا أن يحلف أن شريكيه قد عفوا، فإذا حلف أخذ كل الشقص وإن نكل أخذ منه قدر حصته وأخذ الناكلان منه قدر حصته.
وقال الشافعي: إذا كان الاثنان اقتسما كان للثالث نقض قسمتهما، وهذا كما قال: إذا كان للشقص المبيع ثلاثة شفعاء فحضر إثنان فأخذا الشقص بينهما لغيبة الثالث منعا من قسمته لان في الشقص حقا لشريكهما الغائب مع السهم الذى لم بقديم ملك، فان اقتسماه كانت القسمة باطلة، فلو حضر فعفا عن الشفعه لم تصح القسمة المتقدمة لفسادها ولو أراد الشفيعان الحاضران أن يبيعا ما كان لهما بقديم الملك وما أخذاه
بحادث الشفعة لم يمنعا من ذلك لحق الغائب وقدرته على أخذه بأى العقدين شاء، فإذا قدم الغائب وقد باع الحاضران ما أخذاه بالشفعة فهو بالخيار بين أن يأخذ بالشفعتين وبين أن يأخذ بالاولى ويعفو عن الثانيه، وبين أن يأخذ بالثانية ويعفو عن الاولى.
فان أراد أن يأخذ بالشفعتين أخذ بالاولة ثلث الشقص وبطل البيع فيه وأخذ بالثانيه نصف الباقي وهو ثلث الشقص، لانه أخذ شفعتين ففضل له ثلث الشقص بالشفعتين وإن أراد أن يأخذ بالشفعه الثانيه ويعفو عن الاولة صح البيع في الجميع وأخذ نصف الشقص كله لانه أخذ شفعتين.
وإن أراد أن يأخذ بالشفعه الاولة ويعفو عن الثانيه أخذ ثلث الشقص لانه أخذ ثلث الشفعه، فان أحب أن يأخذه بشفعته الثانيه صح البيع في الكل وكان له أخذ الجميع بها لانه شفيع واحد.
وإن أراد أن يأخذه بالشفعتين أخذ ثلث الشقص بشفعته الاولة وبطل فيه البيع وصح في ثلثيه فيما كان لهما بقديم الملك وأخذهما بشفعته الثانيه (فرع)
قال الشافعي: ولو ورثه رجلان فمات أحدهما وله ابنان فباع أحدهما نصيبه فأراد أخوه الشفعه دون عمه فكلاهما سواء، لانهما فيها شريكان.(14/332)
قال المزني: هذا أصح من أحد قوليه: إن أخاه أحق بنصيبه.
قال المزني: وفى تسويته بين الشفعتين على كثرة ما للعم على الاخ.
وصورتها في دار بين رجلين، إما أخوين أو أجنبيين ملكاها بسبب واحد أو بسببين مات أحدهما وترك ابنين فصارت الدار بينهم على أربعة أسهم للباقى من الاخوين المالكين سهمان ولكل واحد من ابن الميت سهم واحد، باع أحد الابنين حقه وهو سهم واحد على أجنبي فالشفعة مستحقة فيه، وهل يختص بها أخوه أو تكون بينه وبين العم.
فيه قولان
أحدهما: وهو أحد قوليه في القديم: ان الاخ أحق بشفعة أخيه من العم لامرين: أحدهما أنهما اشتركا في سبب ملكه، وتميز العم عنهما بسببه فكان الاخ لمشاركته في السبب أحق بشفعة أخيه من العم لتفرده (بسببه) ؟
(والثانى)
أن ملك الاخوين كان مجتمعا في حياة الاب وقد يجرى عليه حكم الاجتماع بعد موت الاب.
ألا ترى لو ظهر على الاب دين تعلق بالسهمين معا ولم يتعلق بسهم العم.
والقول الثاني قاله في الجديد وبعض القديم أن الشفعة مشتركة بين الاخ والعم لامرين:
(أحدهما)
أنه لما تساويا في الاشتراك وجب أن يتساويا في الاستحقاق كالمختلفى الاسباب
(والثانى)
أن ما أخذ بالشفعة أخذت به الشفعة، وقد ثبت أن العم لو باع حصته تشاركا في شفعته، فاقتضى أن يشاركهما بشفعته.
فإذا تقرر توجيه القولين، فان قيل بأن الاخ أحق بها تفرد بأخذها دون العم، فان عفا الاخ عنها احتمل استحقاق العم لها وجهين.
(أحدهما)
لا حق له فيها لخروجه عن استحقاقها والوجه الثاني: يستحقها لخلطته، وإنما قدم الاخ عليه لامتزاج سببه، وان قيل إنها بينهما نصفين بالسوية، وبه قال أبو حنيفة لامرين: أنها تستحق بقليل الملك كما تستحق بكثيره حتى لو ملك أحد الشريكين سهما من عشرة أسهم أخذ به شفعة التسعة الباقيه، ولو بيع السهم أخذه صاحب التسعه الباقيه فاقتضى أن يتساوى الشريكان فيهما.(14/333)
وإن تفاضلا في المال اعتبارا بأعداد الرؤوس لا بقدر الاملاك كالعبد المشترك يملك أحد الثلاثة نصفه والثانى ثلثه والثالث سدسه فإذا أعتق صاحبا النصف والسدس حقوقهما معا قوم عليهما الثلث نصفين وعتق بينهما بالسوية
كذلك الشفعة.
والثانى: أن استحقاق الشفعة لرفع الضرر بها وقد يستضر صاحب الاقل كاستضرار صاحب الاكثر فوجب أن يساوى صاحب الاقل منهما صاحب الاكثر فعلى هذا تصير الدار بينهم على ثمانية أسهم، خمسة منها للعم منها أربعة بقديم ملكه وسهم بشفعته، وثلاثة أسهم للاخ منها سهمان بقديم ملكه وسهم بشفعته.
والقول الثاني قاله في الجديد - وهو الصحيح - أنها بينهما على قدر مالهما اعتبارا بالاملاك، وبه قال مالك لامرين.
أحدهما: أن منافع الملك يتوزع على قدره كالارباح في التجارة والنتاج في الحيوان.
والثانى: أن الشفعة إنما وجبت لرفع الضرر بها عن الملك الداخل عليه بحق لا بظلم مثل مؤونة القسمة ونقصان القيمة بعد القسمة، وهذا يقل ويكثر لقلة الملك وكثرته فوجب أن يتقسط على الاملاك دون الملاك.
وأما سوء الم؟ اركة فظلم يمكن رفعه بالسلطان، وفى هذا انفصال، فعلى هذا تكون الشفعة بينهما على ثلاثة أسهم لصاحب النصف سهمان ولصاحب الربع سهم واحد وتصبر جميع الدار بينهما أثلاثا.
فأما المزني فإنه اختار من القولين الاولين أن تكون الشفعة بينهما وهو أصح القولين ثم اختار من القولين الآخرين أن يكون بينهما نصفين استدلالا بما ذكرنا من العتق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن تصرف المشترى في الشقص ثم حضر الشفيع نظرت، فان تصرف بما لا تستحق به الشفعة كالوقف والهبة والرهن والاجارة فللشفيع أن يفسخ ويأخذ لان حقه سابق للتصرف ومع بقاء التصرف لا يمكن الاخذ فملك الفسخ، وإن تصرف بما تستحق به الشفعة كالبيع والصداق فهو بالخيار بين أن(14/334)
يفسخ ويأخذ بالعقد الاول وبين أن يأخذ بالعقد الثاني، لانه شفيع بالعقدين، فجاز أن يأخذ بما شاء منهما، وإن قايل البائع أو رده عليه بعيب فللشفيع أن يفسخ الاقالة والرد بالعيب، ويأخذه لان حقه سابق ولا يمكن الاخذ مع الاقالة والرد بالعيب، فملك الفسخ، وإن تحالفا على الثمن وفسخ العقد جاز للشفيع أن يأخذ بالثمن الذى حلف عليه البائع، لان البائع أقر للمشترى بالملك وللشفيع بالشفعة بالثمن، الذى حلف عليه، فإذا بطل حق المشترى بالتحالف بقى حق الشفيع، وإن اشترى شقصا بعبد ووجد البائع بالعبد عيبا ورده قبل أن يأخذ الشفيع ففيه وجهان.
أحدهما: يقدم الشفيع لان حقه سابق لانه ثبت بالعقد وحق البائع ثبت بالرد، والثانى أن البائع أولى لان في تقديم الشفيع اضرارا بالبائع في إسقاط حقه من الرد والضرر لا يزال بالضرر وإن أصدق إمرأته شقصا وطلقها قبل الدخول وقبل أن يأخذ الشفيع ففيه وجهان.
(أحدهما)
يقدم الزوج على الشفيع لان حق الزوج أقوى لانه ثبت بنص الكتاب وحق الشفيع ثبت بخبر الواحد فقدم حق الزوج (الثاني) يقدم الشفيع لان حقه سابق لانه ثبت بالعقد وحق الزوج ثبت بالطلاق.
(الشرح) الاحكام: على المنصوص من حق الشفيع بقدم الملك أن يفسخ تصرف المشترى في الشقص إذا بذله فيما لا تستحق به الشفعة كأن وقفه أو وهبه أو رهنه أو آجره لسبق حقه على التصرف الحادث بعد قيام حقه في الشفعة لانه لا يملك الاخذ للشقص ما دام تصرفه نافذا فلا مناص من الفسخ.
أما البيع والصداق فهو مخير بين أن يأخذ بأحد العقدين، فإما أن يأخذ بالثمن الذى بذله المشترى أو بالثمن الذى أخذه أو بمهر المثل بما هو الاحظ له.
فإذا تبايع الرجلان شقصا فعفا الشفيع عن شفعته فلا شفعة فيه بالاقالة لانها رفع
للعقد وليست استيفاء ولم يكن الشفيع قد عفا حتى تقايلا كان للشفيع إبطال الاقاله لما فيها من إسقاط حقه من الشفعة ثم يأخذ الشقص بشفعة البائع فلو كان مشترى(14/335)
الشقص قد وقفه قبل عفو الشفيع فللشفيع إبطال الوقف وأخذ الشقص بالشفعه وكذا إذا رهنه أبطل الرهن وأخذه بالشفعة، ولو أجره أخذه ثم له الخيار في إمضاء الاجارة وفسخها، ولا تبطل بأخذ الشفيع بخلاف الرهن، فإن أمضاها الشفيع فالاجرة للمشترى دون الشفيع لانه عقدها في ملكه، ولو كان المشترى قد باع الشقص على غيره كان الشفيع مخيرا بين إمضاء البيع وأخذه بالشفعة من المشترى الثاني وبين فسخه وأخذه بالشفعة من المشترى الاول.
وفى الصداق خلاف بين الفقهاء فقد قال مالك وابن أبى ليلى: يأخذ الشقص بقيمته لا بمهر المثل، وحكى نحوه عن الشافعي في القديم لان المهور قد يزاد فيها وينقص فخالفت البيوع وهذا فاسد من وجهين.
(أحدهما)
وجود هذا المعنى في الاثمان لجواز الزيادة والنقصان فيها ثم لم يمنع ذلك من أن يؤخذ الشقص بمثل الثمن، كذلك لا يمتنع في الصداق أن يؤخذ بقيمة البضع
(والثانى)
أن ما لا مثل له من الاعواض يوجب الرجوع إلى قيمة العوض دون الشقص من ذلك البضع الذى لا مثل له فإنه يوجب الرجوع إلى قيمته من المهر دون الشقص، فإذا ثبت أنه مأخوذ بمهر المثل فسواء كان قيمة المثل بازاء مهر المثل أو كان زائدا عليه أو ناقصا عنه حتى لو كان مهر المثل دينارا وأخذ الشقص بمائة دينار فعلى هذا لو اختلفا في مهر المثل فترافعا فيه إلى الحاكم ليجتهد في مهر مثلها ويسقط تنازعهما.
(فرع)
قال الشافعي: فان طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف قيمة الشقص وهذا كما قال: إذا طلقها الزوج وقد أصدقها شقصا من دار لم يخل
حال الطلاق من أن يكون قبل الدخول أو بعده، فان كان بعد الدخول فلا رجوع له بشئ منه، وان كان قبل الدخول فقد استحق الرجوع بنصف الصداق لقوله تعالى " وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ثم لا يخلو حال الشفيع من ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن يكون قد أخذ الشقص من الزوجة شفعته فللزوج أن يرجع عليها بنصف قيمة الشقص في أقل أحواله قيمة من حين أصدق إلى أن أقبض، ويكون استحقاقه بالشفعة لزوال ملكها عنه ببيع أو هبة(14/336)
والحال الثانية: أن يكون الشفيع قد عفا عن شفعته فيه فللزوج أن يرجع عليها بنصفه لبقائه في يدها ولا شفعة على الزوج في النصف الذى ملكه بالطلاق لانه ملك بغير بدل.
والحال الثالثة: أن يكون الشفيع على حقه لعذر طال به فلم يعف ولم يأخذ حتى طلق الزوج، فأيهما أحق بالشفعة؟ فيه وجهان " أحدهما " أن الزوج أحق من الشفيع لان حقه ثابت بنص كتاب مقطوع به، وحق الشفيع ثبت استدلالا بخبر الواحد فكان ظنيا، والقطعي يرد الظنى، فعلى هذا يرجع الزوج بنصف الشقص ويكون الشفيع بعد ذلك مخيرا في أخذ النصف الباقي بنصف مهر المثل.
والوجه الثاني وهو أصح أن الشفيع أحق به من الزوج لامرين: (ا) لان الزوج يرجع عن الشقص إلى بدل، والشفيع لا يرجع عنه إلى بدل (ب) أن حق الزوج متأخر وحق الشفيع اسبق، فعلى هذا يعرض على الشفيع فان أخذه رجع الزوج عليها بنصف قيمته، وإن تركه رجع الزوج بنصفه، وقد زعم بعض الاصحاب أن تخريج هذين الوجهين في اختلافهم في نصف الصداق هل يملكه الزوج بالطلاق أو بالتملك، فان قيل بالطلاق كان أحق من الشفيع، وإن
قيل بالتملك كان الشفيع أحق.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان اشترى شقصا وكان الشفيع غائبا فقاسم وكيله في القسمة أو رفع الامر إلى الحاكم فقاسمه وغرس وبنى ثم حضر الشفيع أو أظهر له ثمنا كثيرا فقاسمه ثم غرس وبنى ثم بان خلافه وأراد الاخذ فان اختار المشترى قلع الغراس والبناء لم يمنع لانه ملكه فملك نقله ولا تلزمه تسوية الارض لانه غير متعد، وإن لم يختر القلع فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ الشقص بالثمن والغراس والبناء بالقيمة وبين أن يقلع الغراس والبناء ويضمن ما بين قيمته قائما ومقلوعا، لان النبي صلى الله عليه سلم قال: لا ضرر ولا ضرار، ولا يزول الضرر عنهما إلا بذلك.(14/337)
(فصل)
وإن اشترى شقصا وحدث فيه زيادة قبل أن يأخذ الشفيع نظرت فان كانت زيادته لا تتميز كالفسيل إذا طال وامتلا، فان الشفيع يأخذه مع زيادته لان ما لا يتميز يتبع الاصل في الملك كما يتبعه في الرد بالعيب، وإن كانت متميزة كالثمرة فان كانت ثمرة ظاهرة لم يكن للشفيع فيها حق لان الثمرة الظاهرة لا تتبع الاصل كما قلنا في الرد بالعيب، وإن كانت غير ظاهرة ففيها قولان.
قال في القديم: تتبع الاصل كما تتبع في البيع.
وقال في الجديد: لا تتبعه لانه استحقاق بغير تراض، فلا يؤخذ به إلا ما دخل بالعقد ويخالف البيع لانه استحقاق عن تراض يقدر فيه على الاستثناء فإذا لم يستثن تبع الاصل
(فصل)
إذا أراد الشفيع أن يأخذ الشقص ملك الاخذ من غير حكم الحاكم لان الشفعة ثابتة بالنص والاجماع فلم تفتقر إلى الحاكم كالرد بالعيب، فإن كان الشقص في يد المشترى أخذه منه، وإن كان في يد البائع ففيه وجهان
أحدهما يجوز أن يأخذ منه لانه استحق فملك الاخذ، كما لو كان في يد المشترى.
والثانى لا يجوز أن يأخذ منه، بل يجبر المشترى على القبض ثم يأخذه منه، لان الاخذ من البائع يؤدى إلى إسقاط الشفعه، لانه يفوت به التسليم، وفوات التسليم يوجب بطلان العقد، فإذا بطل العقد سقطت الشفعة، وما أدى إثباته إلى إسقاطه سقط.
(فصل)
ويملك الشفيع الشقص بالاخذ لانه تملك مال بالقهر فوقع الملك فيه بالاخذ كتملك المباحات، ولا يثبت فيه خيار الشرط، لان الشرط إنما يثبت مع تملك الاختيار، والشقص يؤخذ بالاجبار فلم يصح فيه شرط الخيار، وهل يثبت له خيار المجلس فيه وجهان
(أحدهما)
يثبت لانه تملك مال بالثمن فثبت فيه خيار المجلس كالبيع
(والثانى)
لا يثبت لانه إزالة ملك لدفع الضرر فلم يثبت فيه خيار المجلس كالرد بالعيب.
(فصل)
وإن وجد بالشقص عيبا فله أن يرده لانه ملكه بالثمن فثبت له الرد بالعيب كالمشترى في البيع، وإن خرج مستحقا رجع بالعهدة على المشترى لانه أخذ منه على أنه ملكه فرجع بالعهدة عليه كما لو اشتراه منه(14/338)
(الشرح) قال الشافعي: ولو قاسم وبنى قيل للشفيع: إن شئت فخذ الثمن وقيمة البناء أو دع لانه بنى غير متعد فلا يهدم ما بناه قال المزني: هذا غلط، وكيف لا يكون متعديا وقد بنى فيما للشفيع فيه شرك مشاع، ولولا أن للشفيع فيه شركا ما كان شفيعا.
وصورة هذه المسألة في رجل اشترى شقصا من دار وقاسم عليه ثم بنى في حصته وحضر الشفيع مطالبا لشفعته قال الشافعي: قيل للشفيع إن شئت فخذ الشقص بثمنه وبقيمة البناء قائما، ولا يجبر المشترى على قلعه لانه بناء غير متعد، وهكذا عمارة الارض للزرع.
قال المزني: هذا غلط من الشافعي لان القسمة إن وقعت مع الشفيع فقد
بطلت شفعته وصحت القسمة، وإن لم يقاسمه الشفيع فالقسمة باطلة والشفعة واجبة، فلم تجتمع صحة القسمة مع بقاء الشفعة.
وهذا الذى اعترض به المزني على الشافعي من تنافى بقاء الشفعة وصحة القسمة غلط، لانه قد تصح القسمة مع بقاء الشفعة من خمسة أوجه.
(أحدها) أن يكون الشفيع غائبا وقد وكل في مقاسمة شركائه وكيلا فيطالب المشترى الوكيل بمقاسمته على ما اشترى، فيجوز للوكيل أن يقاسمه لتوكيله في المقاسمة، ولا يجوز أن يطالبه بالشفعة لانه غير موكل في طلب الشفعة ويكون الشفيع على شفعته بعد القسمه ويكون المشترى غير متعد في البناء.
والوجه الثاني: أن لا يكون للشفيع الغائب وكيل في القسمة فيأبى المشترى التحاكم فيسأله أن يقاسمه على الغائب فيجوز للحاكم مقاسمة المشترى إذا كان الشريك بعيد الغيبة وليس له أن يأخذ للغائب بالشفعة الا لمولى عليه، ولا تبطل شفعة الغائب بمقاسمة الحاكم عنه، والمشترى غير متعد في البناء.
والوجه الثالث: أن يذكر المشترى للشفيع ثمنا موفورا فيعفو عن الشفعة لوفور الثمن ويقاسم المشترى، ثم يبين أن الثمن أقل مما ذكره المشترى فالقسمة صحيحه والشفعه واجبه والمشترى غير متعد ببنائه، لانه بالكذب متعد في قوله لا في قسمته وبنيانه، فصار كرجل ابتاع دارا بثمن قد داسه بعيب ثم بنى ووجد البائع العيب في الثمن فعليه إذا رد المعيب واسترجع الدار أن يدفع إلى المشترى قيمة البناء قائما لانه بناء غير متعد في فعله، وان دلس كاذبا في قوله(14/339)
والوجه الرابع أن ينكر المشترى الشراء ويدعى الهبة فيكون القول قوله مع يمينه ولا شفعة عليه في الظاهر فيقاسمه الشريك ثم يبنى وتقوم البينة عليه بعد بنائه بالشراء، فالشفعة واجبة مع صحة القسمه ولا يكون متعديا بالبناء مع جحوده
الشراء لانه تعدى في القول دون الفعل والوجه الخامس: أن يكون الشفيع طفلا أو مجنونا فيمسك الولى عن طلب الشفعة ويقاسم المشترى، ثم يبلغ الطفل ويفيق المجنون فتكون له الشفعة مع صحة القسمة، ولايكون إمساك الولى عن الشفعة مبطلا للقسمه، ولا مقاسمته مبطلا للشفعة.
فإذا صحت القسمة مع بقاء الشفعة من هذه الوجوه الخمسة وبطل اعتراض المزني بها لم يجبر المشترى على قلع بنائه وقيل للشفيع إن شئت فخذ الشقص بثمنه وقيمة البناء.
وقال أبو حنيفة: يجبر المشترى على قلع بنائه ولا قيمة له على الشفيع استدلالا بأن حق الشفيع أسبق من بنائه فصار كالاستحقاق بالغصب.
وهذا خطأ لان المشترى تام الملك قبل أخذ الشقص، ألا تراه يملك النماء، ومن بنى في ملكه لم يتعد كالذى لا شفعة عليه، ومن بنى في ملكه لم يكن جواز انتزاعه من يده موجبا لتعديه ونقض بنائه كالموهوب له إذا بنى ورجع الواهب في هبته، ولان الشفعه موضوعه لازالة الضرر فلم يجز أن تزال بضرر.
وفى أخذ المشترى بهدم بنائه ضرر.
فأما الجواب عما ذكره من إلحاقه بالغصب فهو تعدى الغاصب بتصرفه في غير ملكه، وليس المشترى متعديا لتصرفه في ملكه (فرع)
قال الشافعي: ولو كان الشقص في النخل فزادت كان له أخذها زائدة.
أما النخل فلا يخلو حال بيعها من ثلاثة أقسام " أحدها " أن تباع مفردة عن الارض فلا شفعة فيها.
وكذلك سائر الاشجار كالابنيه التى إذا أفردت بالعقد لم تجب فيها الشفعه، لانها مما ينتقل عن الارض والمنقول لا شفعة فيه كالزرع.
والقسم الثاني أن تباع النخل مع الارض فتجب فيها الشفعه تبعا للارض بخلاف الزرع، لانه لا يتبع الارض في البيع ولا يتبعها في الزرع، والفرق
بينهما ان إقرار الزرع في الارض غير مستدام واقرار النخل والشجر مستدام.(14/340)
وأوجب أبو حنيفة الشفعه في الزرع تبعا للارض.
والقسم الثالث أن يباع النخل مع قرارها مفردة عما يتخللها من بياض الارض ففى وجوب الشفعة فيها وجهان، وكذلك بيع البناء مع قراره دون البياض على هذين الوجهين: " أحدهما " فيه الشفعه لانه فرع لاصل ثابت " والوجه الثاني " أنه لا شفعة فيه لان قرار النخل يكون تبعا لها، فلما لم تجب الشفعه فيها مفردة لم تجب في تبعها فإذا تقرر هذا وكان المبيع شقصا من أرض ذات نخل وشجر فزادت بعد البيع وقبل أخذ الشفيع لغيبه أو عذر لا تبطل به الشفعه لم يخل حال الزيادة من أحد أمرين: إما أن تكون مثمرة أو غير مثمرة، فإن كانت الزيادة غير مثمرة كالفسيل إذا طال وامتلا، والغرس إذا استغلظ واستوى فللشفيع أن يأخذ ذلك بزيادته، لان مالا يتميز من الزيادة تبعا لاصله، وان كانت الزيادة متميزة كالثمرة الحادثه بعد البيع فلا يخلو حالها عند الاخذ بالشفعه من أن تكون مؤبرة أو غير مؤبرة، فإن كانت مؤبرة فلا حق فيها للشفيع وهى ملك المشترى، لان ما كان مؤبرا من الثمار لا يتبع أصله وعلى الشفيع أن يقرها على نخله إلى وقت الجداد، وان كانت الثمرة غير مؤبرة ففى استحقاق الشفيع لها قولان: أحدهما: يستحقها لاتصالها كما يدخل في البيع تبعا.
وهذا قوله في الجديد، ويكون الفرق بين الشفعه والبيع أن البيع نقل ملك بعوض عن مراضاة فجاز أن يكون ما لم يؤبر من الثمار تبعا للقدرة على استثنائها بالعقد، والشفعه استحقاق ملك بغير مراضاة فلم يملك بها الا ما تناوله العقد، وهكذا الحكم في كل ما استحق بغير مراضاة كالشفعه والتفليس، أو يكون بغير عوض كالرهن والهبة، هل يكون ما لم يؤبر من الثمار فيها تبعا لاصلها على ما ذكرنا من القولين
(فرع)
أما قوله: إذا أراد الشفيع أن يأخذ الشقص ملك الاخذ الخ، فقد مضى قولنا ما حاصله ان كان الشفيع قادرا على الطلب فله ثلاثة أحوال: (ا) أن يبادر إلى الطلب فهو على حقه من الشفعه ولا يحتاج إلى حكم حاكم في الاخذ بها، لانها ثبتت بالنص الصحيح المرفوع وبالاجماع، ولم يشذ الا الاصم، وللحاكم أن ينظره حتى يحضر الثمن يوما أو يومين.(14/341)
(ب) خياره في التمسك بالشفعة والعفو عنها والعفو على ضربين صريح وتعريض، وذهب أبو حنيفة إلى صحة العفو في بعض التعريض القوى لشبهه بالتصريح (ج) زمان المكنة، وقد أوضحنا كل هذه الاحوال بما لا مزيد عليه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَرْعٌ)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وإذا اشترى شقصا على أنها بالخيار جميعا فلا شفعة حتى يسلم البائع، وإن كان الخيار للمشترى دون البائع فقد خرج من ملك البائع وفيه الشفعه اه.
قلت: إن ما يثبت من الخيار في البيع على أربعة أقسام: 1 - خيار عقد 2 - خيار شرط 3 - خيار رؤية 4 - خيار عيب فالاول هو خيار المجلس فلا تستحق فيه الشفعة إلا بعد إمضائه بالافتراق عن تمام، وسواء قيل: إن الملك منتقل بنفس العقد أو بالافتراق مع تقديم العقد لان ثبوت الفسخ لكل واحد منهما يمنع من استقرار العقد بينهما، ولان البائع لما لم يلزمه عقد المشترى فأولى أن لا يلزمه شفعة الشفيع، فإذا افترقا عن تمام وإمضاء استحق الشفيع حينئذ أن يأخذ بالشفعة.
وبماذا يصير الشفيع مالكا على ثلاثة أقوال من اختلاف أقواله في اقتضاء الملك.
1 - أن يكون مالكا لها بنفس العقد 2 - أن يكون مالكا للشفعة بافتراقهما عن تراض وهذا على القول الذى يقول فيه: لا ينتقل إلا بالعقد والافتراق.
3 - أن ملك الشفعة كان موقوفا على اتمام العقد وامضائه فتمامه يدل على تقديم ملكها بالعقد، وفسخه يدل على أنه لم يملكها بالعقد، وهذا يدل على الذى يقول فيه: ان الملك موقوف فإذا أخذ ذلك بالشفعة بعد الافتراق عن تراض بحكم أو بغير حكم فهل ثبت له بعد الاخذ خيار المجلس أم لا؟ على وجهين لاصحابنا أحدهما: أن له خيار المجلس لانه يملك بمعاوضة كالبيع.
والوجه الثاني وهو أصح: أنه لا خيار له لان الشفعه موضوعه لرفع الضرر بها(14/342)
كالرد بالعيب الذى لا يملك فيه بعد الرد خيارا وليس كالبيع الموضوع للمعاينه وطلب الارباح.
وأما خيار الشرط فله ثلاثة أحوال: ا - أن يكون خيار الثلاث مشروطا للبائع والمشترى.
ب - أن يكون مشروطا للبائع دون المشترى.
ج - أن يكون مشروطا للمشترى دون البائع، فإن كان الخيار مشروطا للبائع والمشترى أو للبائع دون المشترى فلا حق للشفيع في أخذه بالشفعه ما لم تنقض مدة الخيار لما ذكرنا في خيار المجلس، فإذا تم البيع بينهما بانقضاء مدة الخيار استحق الشفيع حينئذ الاخذ بالشفعه، وبماذا يصير مالكا لها؟ على ما مضى من الاقوال الثلاثه، وان كان الخيار مشروطا للمشترى دون البائع فقد روى المزني ههنا أن للشفيع أخذه بالشفعه، ورواه الربيع أيضا، قَالَ الرَّبِيعُ: وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا حق للشفيع في أخذه الا بعد نقض مدة الخيار، فإن قيل: انه لا ينتقل
الا بالعقد وانقضاء مدة الخيار لان الشفيع يملك عن المشترى فامتنع أن يملك ما لم يملكه المشترى، وان قيل: ان الملك قد انتقل بنفس العقد ففيه قولان.
1 - أن فيه الشفعه لان علقة البائع عنه منقطعه وخيار المشترى فيه كخياره في الرد بالعيب وهو لا يمنع الشفيع من الاخذ وهى رواية المزني.
2 - أنه لا شفعة فيه الا بانقضاء مدة الخيار لان المشترى لم يرض بدخوله في عهدة العقد فخالف خيار العيب الموضوع لاستدراك الغبن الذى قد يحصل له من جهة الشفيع، وهى رواية الربيع.
وأما خيار الرؤيه فهو حال غياب العين المبيعة وفى صحة البيع به قولان ويتفرع عليهما خلاف في صحة الشفعة، وأما خيار العيب فإما أن يكون في الشقص أو في الثمن فالاول خياره للمشترى وللشفيع أن يأخذه منه بعيبه ويمنعه من رده، لان رد المشترى بالعيب لاستدراك الغبن وهو يستدرك من الشفيع للحصول على الثمن الذى دفعة، فلو صالح المشترى البائع على أرشه كان للشفيع أخذه بالباقي بعد اسقاط الارش، ان قيل بجواز أخذ الارش صلحا مع بقاء(14/343)
العين في أحد الوجهين، وإن قيل لا يجوز أخذه الشفيع بجميع الثمن، وأما العيب في الثمن ففى آخر الباب وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن مات الشفيع قبل العفو والاخذ انتقل حقه من الشفعة إلى ورثته لانه قبض استحقه بعقد البيع فانتقل إلى الورثة كقبض المشترى في البيع ولانه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب وان كان له وارثان فعفا أحدهما عن حقه سقط حقه وهل يسقط حق الآخر فيه وجهان.
أحدهما: يسقط لانها شفعة واحدة، فإذا عفى عن بعضها سقط الباقي كالشفيع إذا عفا عن
بعض الشقص، والثانى: لا يسقط لانه عفا عن حقه فلم يسقط حق غيره كما لو عفا أحد الشفيعين.
(فصل)
إذا اختلف الشريكان في الدار فادعى أحدهما على الآخر أنه ابتاع نصيبه فله أخذه بالشفعة، وقال الآخر: بل ورثته أو أوهبته فلا شفعة لك، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، لانه يدعى عليه استحقاق ملكه بالشفعة، فكان القول قوله كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة، فإن نكل عن اليمين حلف المدعى وأخذ بالشفعة، وفى الثمن ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه يقال للمدعى عليه قد أقر لك بالثمن وهو مصدق في ذلك، فاما أن تأخذه أو تبرئه من الثمن الذى لك عليه كما قلنا في المكاتب إذا حمل نجما إلى المولى فادعى المولى أنه مغصوب.
والثانى: أنه يترك الثمن في يد المدعى لانه قد أقر لمن لا يدعيه فأقر في يده كما لو أقر بدار لرجل وكذبه المقر له.
والثالث: يأخذه الحاكم ويحفظه إلى أن يدعيه صاحبه لانهما اتفقا على أنهما لا يستحقان ذلك.
(فصل)
وان ادعى كل واحد منهما على شريكه أنه ابتاع حصته بعده، وأنه يستحق على ذلك بالشفعة، فالقول قول كل واحد منهما، لما ذكرناه، فان(14/344)
سبق أحدهما فادعى وحلف المدعى عليه استقر ملكه.
ثم يدعى الحالف على الآخر فإن حلف أستقر أيضا ملكه.
وإن نكل الاول ردت اليمين على المدعى فإذا حلف استحق، وإن أراد الناكل أن يدعى على الآخر بعد ذلك لم تسمع دعواه، لانه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة (الشرح) الاحكام: سبق الكلام في ميراث الشفعة في فصل مضى، فإذا
صح ما ذكرنا لم يخل أن يكون موت الشفيع قبل البيع أو بعده، فإن كان موته قبل البيع فالشفعة إنما حدثت على ملك الورثة، ولم يكن للموروث فيها حق لتقدم موته على البيع، ثم يكون بين جميع من ملك ميراث الحصة، وفيها قولان
(أحدهما)
أنها بينهم على عدد رؤوسهم، الزوجة والابن فيها سواء على ما حكاه المزني عن الشافعي.
(والثانى)
أنها مقسطة بينهم على قدر مواريثهم للزوجة الثمن وللابن الباقي وعلى هذا لو عفا أحد الورثة لم يسقط حق من لم يعف، وكان لمن بقى من الورثة - ولو كان واحدا - أن يأخذ جميع الشفعة كالشراء، فإذا عفا بعضهم عاد حقه إلى من بقى، وان مات الشفيع بعد البيع فقد ملك الشفعة بالبيع وانتقلت عنه بالموت إلى ورثته، ويستوى فيها الوارث بنسب وسبب، وهى بينهم على قدر مواريثهم للزوجه الثمن والباقى للابن قولا واحدا، لانهم إنما يأخذونها عن ميتهم فكانت بينهم على قدر مواريثهم، ويكون تأويل ما نقله المزني عن الشافعي أن امرأته وابنه في ذلك سواء، يعنى في استحقاقها لجميع الورثة، لا يختصر بها بعضهم دون بعض.
قال الماوردى: كان بعض أصحابنا يغلط فيخرج ذلك على قولين ويجعل ما نقله المزني أحد القولين.
فعلى هذا لو أن أحد الورثة حضر مطالبا قضى له بجميع الشفعه، والقول الثاني وهو أصح أنه لا يرجع على من بقى، لان جميعهم شفيع واحد.
وليسوا كالشركاء الذين كل واحد منهم شفيع مستقل، فعلى هذا لو حضر أحد الورثة مطالبا لم يقض له بشئ حتى يجتمعوا، فإن عفا أحدهم عن حقه فهل تبطل بحقه(14/345)
شفعة من بقى على وجهين " أحدهما " وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إنها قد
بطلت وسقط حق من لم يعف لانها شفعة واحدة عفا عن بعضها فصار كالشفيع إذا عفا عن بعض شفعته سقط جميعها.
والثانى وبه قال أبو حامد الاسفرايينى: إن من لم يعف على شفعته يأخذ منها بقدر ميراثه ولا يكون عفو غيره مبطلا لحقه بخلاف الواحد إذا عفا عن بعض شفعته، لان الواحد قد كان له أخذ جميعها فجاز أن يسقط بعفوه عن البعض جميعها، وليس كذلك أحد الورثة لانه لا يملك منها إلا قدر حقه فلم يبطل بالعفو عن غير حقه، ولان العافى عن البعض مختار للعفو فجاز أن يسرى عفوه في جميع حقه، وليس الباقي من الورثة مختارا للعفو فلم يسر عفو غيره في حقه.
(فرع)
إذا ادعى على شريكه: أنك اشتريت نصيبك من عمرو فلى شفعته فصدقه عمرو فأنكر الشريك وقال: بل ورثته من أبى فأقام المدعى بينة أنه كان ملك عمرو لم تثبت الشفعة بذلك، وقال محمد بن الحسن: تثبت.
ويقال له: إما أن تدفعه وتأخذ الثمن وإما أن ترده إلى البائع فيأخذه الشفيع منهما لانهما شهدا بالملك لعمرو فكأنهما شهدا بالبيع فإذا ادعى الشفيع على بعض الشركاء أنك اشتريت نصيبك فلى أخذه بالشفعة فإنه يحتاج إلى تحرير دعواه فيحدد المكان الذى فيه الشقص، ويذكر قدر الشقص والثمن ويدعى الشفعة فيه، فإذا فعل ذلك سئل المدعى عليه، فإن أقر لزمه.
وان أنكر وقال: انما اتهبته أو ورثته فلا شفعة لك فيه فالقول قول من ينفيه، كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة، فإن حلف برئ وان نكل وقضى عليه.
وان قال: لا تستحق على الشفعة، فالقول قوله مع يمينه، ويكون يمينه على حسب قوله في الانكار.
وإذا نكل وقضى عليه بالشفعة عرض عليه الثمن فإن أخذه دفع إليه، وان قال لا أستحقه ففيه ثلاثة أوجه 1 - يقر في يد الشفيع إلى أن يدعيه المشترى فيدفع إليه، كما لو أقر له بدار
فأنكرها.
2 - أن يأخذه الحاكم فيحفظه لصاحبه إلى أن يدعيه المشترى.
ومتى ادعاه دفع إليه(14/346)
3 - يقال له: اما أن تقبضه واما أن تبرئ منه كسيد المكاتب إذا جاءه المكاتب بمال المكاتبة فادعى أنه حرام، اختار هذا القاضى، وهذا مفارق للمكاتب لان سيده يطالبه بالوفاء من غير هذا الذى أتاه به فلا يلزمه ذلك بمجرد دعوى السيد تحريم ما أتاه به، وهذا لا يطالب الشفيع بشئ، فلا ينبغى ان يكلف ابراءه مما لا يدعيه.
والوجه الاول أولى، وبهذا قال الحنابله (فرع)
إذا كانت دار بين رجلين، فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه يستحق ما في يديه بالشفعة سألناهما متى ملكتماها؟ فإن قالا: ملكناها دفعة واحدة، فلا شفعة لاحدهما على الآخر، لان الشفعة انما تثبت بملك سابق في ملك متجدد بعد وان قال كل واحد منهما ملكى سابق ولاحدهما بينة بما ادعاه قضى له، وان كان لكل واحد منهما بينة قدمنا أسبقهما تاريخا، وان شهدت بينة كل واحد منهما بسبق ملكه وتجدد ملك صاحبه تعارضتا، وان لم تكن لواحد منهما بينة نظرنا إلى السابق بالدعوى فقدمنا دعواه وسألنا خصمه، فان أنكر فالقول قوله مع يمينه لانه منكر، فان حلف سقطت دعوى الاول ثم تسمع دعوى الثاني على الاول فان أنكر وحلف سقطت دعواهما جميعا وان ادعى الاول فنكل الثاني عن اليمين قضينا عليه ولم تسمع دعواه، لان خصمه قد استحق ملكه، وان حلف الثاني ونكل الاول قضينا عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان اختلفا في الثمن فقال المشترى الثمن ألف وقال الشفيع هو
خمسمائة فالقول قول المشترى مع يمينه لانه هو العاقد فكان أعرف بالثمن ولانه مالك للشقص فلا ينزع منه بالدعوى من غير بينة
(فصل)
وان ادعى الشفيع أن الثمن ألف، وقال المشترى لا أعلم قدره فالقول قول المشترى، لان ما يدعيه ممكن، فانه يجوز أن يكون قد اشترى بثمن جزاف، ويجوز أن يكون قد علم الثمن ثم نسى، فإذا حلف لم يستحق الشفعا لانه لا يستحق من غير بدل ولا يمكن أن يدفع إليه ما لا يدعيه(14/347)
وقال أبو العباس: يقال له إما أن تبين قدر الثمن أو نجعلك ناكلا فيحلف الشفيع أن الثمن ألف ويستحق كما نقول فيمن ادعى على رجل ألفا فقال المدعى عليه لا أعلم القدر، والمذهب الاول، لان ما يدعيه ممكن، فإنه يجوز أن يكون قد اشتراه بثمن جزاف لا يعرف وزنه، ويجوز أن يكون قد علم ثم نسى، ويخالف إذا ادعى عليه ألفا، فقال: لا أعرف القدر، لان هناك لم يجب عن الدعوى.
وههنا أجاب عن استحقاق الشفعه، وإنما ادعى الجهل بالثمن
(فصل)
وإن قال المشترى: الثمن ألف.
وقال الشفيع لا أعلم هل هو ألف أو أقل، فهل له أن يحلف المشترى؟ فيه وجهان
(أحدهما)
ليس له أن يحلفه حتى يعلم، لان اليمين لا يجب بالشك
(والثانى)
له أن يحلفه لان المال لا يملك بمجرد الدعوى، وإن قال المشترى الثمن ألف، وقال الشفيع لا أعلم كم هو؟ ولكنه دون الالف، فالقول قول المشترى، فإن نكل لم يحلف الشفيع حتى يعلم قدر الثمن، لانه لا يجوز أن يحلف على ما لم يعلم
(فصل)
وإن اشترى الشقص بعرض وتلف العرض (واختلفا) ؟ في قيمته، فالقول قول المشترى، لان الشقص ملك له فلا ينتزع بقول المدعى
(فصل)
وإن أقر المشترى أنه اشترى الشقص بألف وأخذ الشفيع بألف ثم ادعى البائع أن الثمن كان ألفين وصدقه المشترى لم يلزم الشفيع أكثر من الالف، لان المشترى أقر بأنه يستحق الشفعه بألف فلا يقبل رجوعه في حقه فان كذبه المشترى فأقام عليه بينة أن الثمن ألفان لزم المشترى الالفان، ولا يرجع على الشفيع بما زاد على الالف، لانه كذب البينة بإقراره السابق (الشرح) قال الشافعي: وان اختلف فالثمن فالقول قول المشترى مع يمينه، وهذا كما قال: إذا اختلف الشفيع والمشترى في قدر الثمن فادعى المشترى أن الثمن ألف.
وقال الشفيع خمسمائة ولا بينه لواحد منهما فالقول قول المشترى مع يمينه لامرين:(14/348)
(أحدهما)
أنه مباشر للعقد فكان أعلم به من غيره
(والثانى)
أنه مالك للشقص فلم ينتزع منه الا بقوله، فإن حلف المشترى على ما ادعاه من الثمن أخذه الشفيع به، وإن نكل المشترى ردت اليمين على الشفيع، فإن حلف أخذه بما قال.
فإن قيل: فهذا تحالفا عليه كما يتحالف المتبايعان.
قيل لان كل واحد من المتبايعين مدع ومدعى عليه فتحالفا لاستوائهما في الشقص.
والشفيع وحده منفرد بالدعوى أنه مالك للشقص بما ادعى، فكان القول قول المشترى لتفرده بالانكار، فلو أقام أحدهما بينة بما ذكره من الثمن حكم بها: والبينة شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين، فإن أقامها المشترى استفاد بها سقوط اليمين، فلو شهد له البائع بما ادعاه من الثمن ردت شهادته لانه شاهد بالزيادة لنفسه.
ولو أقام الشفيع البينة استفاد بها الحكم لقول الشافعي: فإن شهد له البائع بما ادعى من الثمن ردت شهادته لانه متهوم في شهادته بنقص الثمن عند الرجوع
عليه بالدرك مع أنه عاقد في الحالين فلم تقبل شهادته فيما تولى عقده فلو أقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه من الثمن، فعند أبى حنيفة ومحمد ابن الحسن أن بينة الشفيع أولى للاتفاق عليها.
وعند أبى يوسف أن بينة المشترى أولى، لان فيها زيادة علم، ويخرج في مذهب الشافعي على قولين من تعارض البينتين.
1 - اسقاطهما بالتعارض.
ويكون القول قول المشترى مع يمينه 2 - الاقراع بينهما فمن قرعت بينته كان أولى، وهل يحلف معها أم لا؟ على قولين من اختلاف قولين في القرعة، هل جاءت مرجحة للدعوى أو مرجحة للبينة.
فعلى هذا لو أخذه الشفيع بالالف عند يمين المشترى ثم قامت البينه أن الثمن خمسمائه رجع الشفيع على المشترى بخمسمائه ولا خيار للشفيع، لانه لما رضى الشقص بالالف كان له بخمسمائة أرضى ولو أخذه الشفيع بخمسمائة بيمينه ثم قامت البينه أن الثمن ألف كان الشفيع مخيرا بين أن يأخذه بالالف أو يرده(14/349)
ولو ادعى المشترى أن الثمن سيارة قيمتها ألف فأخذه الشفيع بها ثم ظهر أن الثمن (ريكوردر) المسجل للصوت، فان كانت قيمته ألفا لم يتراجعا بشئ، لان المستحق فيه القيمة وهما سواء، وإن كانت قيمة المسجل أكثر لم يرجع المشترى بالزيادة لانه مقر باستيفاء حقه.
وإن كانت قيمة المسجل أقل رجع الشفيع بنقصها على المشترى ولا خيار له.
فلو قال المشترى ان الثمن ألف وقال الشفيع لست أعلم قدر الثمن مع علمي بنقصه عن الالف فله إحلاف المشترى، فإن رد اليمين عليه لم يكن له أن يحلف حتى يعلم قدر الثمن، ولو لم يعلم الشفيع هل الثمن ألف أو أقل فهل
يستحق إحلاف المشترى أم لا؟ على وجهين: 1 - لا يستحق إحلافه حتى يعلم خلاف قوله، لان اليمين لا يجب بالشك.
2 - يستحق إحلافه ما لم يعلم صدقه لان المال لا يملك بمجرد القول.
(فرع)
ولو قال المشترى: لا أعلم قدر الثمن لنسيان حدث.
قيل للشفيع: أتعلم قدره أم لا؟ فان قال لا أعلم قدره فلا شفعة له، وله إحلاف المشترى أنه لا يعلم قدر الثمن، وإنما يطلب لانها تستحق بالثمن فكان جهلها به مانعا من استحقاقها بمجهول.
فان قال الشفيع أنا أعلم قدر الثمن وهو خمسمائة درهم.
وقال المشترى: قد نسيت قدر الثمن، قيل للمشترى: أفتصدق الشفيع على ما ذكر من الثمن فان قال نعم، أخذ الشفيع الشقص بخمسمائة من غير يمين.
وإن أكذبه قال الشافعي حلف المشترى بالله ما يعلم قدر الثمن ولا شفعته.
واختلف أصحابنا في ذلك.
فكان أبو حامد المروروذى وأبو حامد الاسفرايينى يجعلان هذا القول مذهبا له في هذه المسألة، ويبطلان بيمين المشترى الشفعه تعليلا بأن الثمن موقوف على عاقده وقد جهل الثمن بنسيانه فبطلت الشفعة به.(14/350)
وكان أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أبى هريرة يجعلان هذا الجواب مصروفا إلى المسألة الاولى عند نسيان المشترى وجهل الشفيع دون المشترى، ويحكم له بالشفعه، وهذا هو الصحيح لان نسيان المشترى كالنكول فوجب رد اليمين على الشفيع.
قال الشافعي: وسواء في ذلك قديم الشراء وحديثه، وهذا إنما أراد به
ما ادعى، فانه قال: إن ادعى المشترى نسيان الثمن والشراء حديثا حلف الشفيع وحكم له بالشفعه، وإن كان الشراء قديما حلف المشترى وبطلت الشفعه ورفض الماوردى هذا الفرق وقال: هذا قول مرذول وفرق معلول.
فأما إن اختلف البائع والمشترى في الثمن فقال البائع: بعته بألف، وقال المشترى: اشتريته بخمسمائه فانهما يتحالفان، فإذا حلفا ففى بطلان البيع بتحالفهما وجهان ذكرا في البيوع.
أحدهما: أنه قد بطل فعلى هذا يعود الشقص إلى البائع ولا شفعة فيه.
والثانى: أن البيع لا يبطل إلا بالفسخ، فعلى هذا لا يخلو حال المثمن من أحد أمرين إما أن يكون معينا أو غير معين، فان كان المثمن معينا كقول البائع بعتك شقصى بهذه السيارة فيقول المشترى: اشتريته بهذا (الريكوردر) المسجل فإذا تحالفا وامتنع المشترى أن يأخذه بالسيارة التى ادعاها البائع ثمنا لم يعرض على الشفيع لان عين هذه السيارة لا تحصل للبائع من جهة الشفيع، وفسخ الحاكم البيع بينهما وأبطل الشفعة فيه، وإن كان الثمن غير معين كقول البائع بعتك الشقص بألف فيقول المشترى بخمسمائة، عرض الشقص على المشترى والشفيع بالالف ليأخذاه أو يرداه لانه قد يحصل للبائع ما ادعاه من القدر من الشفيع والمشترى، فلذلك عرض عليها، وإذا كان كذلك فللشفيع والمشترى أربعة أحوال.
ا - أن يرضيا جميعا به فيلزم المشترى الالف وللشفيع أن يأخذ منه الشقص بالالف.
ب - أن يرداه جميعا بالالف فيفسخ البيع وتبطل الشفعة.(14/351)
ج - أن يرضاه المشترى بالالف ويرده الشفيع بها فيلزم البيع للمشترى
بالالف وتبطل شفعة الشفيع.
د - أن يرضى به الشفيع بالالف ويرده المشترى فيكون رد المشترى باطلا لما فيه من إسقاط حق الشفيع، ويصير البيع لازما للمشترى ليتوصل به الشفيع إلى حقه من الشفعة ويأخذ الشقص فيه بالالف، فلو رده الشفيع بعيب رده على المشترى ورجع عليه بالثمن لان عهدته عليه، وللمشترى حينئذ أن يفسخ البيع فيه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
(فصل)
فإن كان بين رجلين دار وغاب أحدهما وترك نصيبه في يد رجل فادعى الشريك على من في يده نصيب الغائب أنه اشتراه منه، وأنه استحق أخذه بالشفعة، فأقر به، فهل يلزمه تسليمه إليه بالشفعة؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يسلمه، لانه أقر بالملك للغائب، ثم ادعى انتقاله بالشراء، فلم يقبل قوله
(والثانى)
يسلم إليه لانه في يده فقبل قوله فيه.
(فصل)
وإن أقر أحد الشريكين في الدار أنه باع نصيبه من رجل ولم يقبض الثمن، وصدقه الشريك وأنكر الرجل، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لا تثبت الشفعة للشريك، لان الشفعه تثبت بالشراء ولم يثبت الشراء، فلم تثبت الشفعة للشريك، وذهب عامة أصحابنا إلى أنه تثبت الشفعة، وهو جواب المزني فيما أجاب فيه على قول الشافعي رحمه الله، لانه أقر للشفيع بالشفعه، وللمشترى بالملك، فإذا أسقط أحدهما حقه لم يسقط حق الآخر كما لو أقر لرجلين بحق فكذبه أحدهما وصدقه الاخر، وهل يجوز للبائع أن يخاصم المشترى.
فيه وجهان.
أحدهما: ليس له ذلك لانه يصل إلى الثمن من جهة الشفيع فلا حاجة به إلى خصومة المشترى.
والثانى: له أن يخاصمه لانه قد يكون المشترى أسهل في المعاملة من الشفيع،
فإن قلنا: لا يخاصم المشترى أخذ الشفيع الشقص من البائع وعهدته عليه لانه منه أخذ، واليه دفع الثمن.(14/352)
وإن قلنا: يخاصمه، فان حلف أخذ الشفيع الشقص من البائع ورجع بالعهدة عليه، وإن نكل فحلف البائع سلم الشقص إلى المشترى وأخذ الشفيع الشقص من المشترى، ورجع بالعهدة عليه لانه منه أخذ، واليه دفع الثمن، وان أقر البائع بالبيع وقبض الثمن، وأنكر المشترى، فمن قال: لا شفعة إذا لم يقر بقبض الثمن لم تثبت الشفعة إذا أقر بقبضه، ومن قال: تثبت الشفعة إذا لم يقر بقبض الثمن اختلفوا إذا أقر بقبضه، فمنهم من قال: لا تثبت لانه يأخذ الشقص من غير عوض، وهذا لا يجوز، ومنهم من قال: تثبت، لان البائع أقر له بحق الشفعة وفى الثمن الاوجه الثلاثة التى ذكرناها، فيمن ادعى الشفعه على شريكه وحلف بعد نكول الشريك، والله أعلم.
(الشرح) قال الشافعي: وعهدة المشترى على البائع وعهدة الشفيع على المشترى، قال الماوردى في الحاوى: أما العهدة فمشتقة من العهد لما فيه من الوفاء بموجبه قال تعالى " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " وقال الفيومى في المصباح: العهد الوصية يقال: عهد إليه يعهد من باب تعب إذا أوصاه وعهدت إليه بالامر قدمته وفى التنزيل " ألم أعهد اليكم يا بنى آدم ألا تعبدوا الشيطان " والعهد الامان والموثق والذمه، ومنه قيل للحربى يدخل بالامان ذو عهد.
ومعاهد أيضا بالبناء للفاعل والمفعول، لان الفعل من اثنين فكل واحد يفعل بصاحبه مثل ما يفعل صاحبه - إلى أن قال - وقولهم: عهدته عليه من ذلك لان المشترى يرجع على البائع بما يدركه وتسمى وثيقة المتبايعين عهدة لانه يرجع إليها عند الالتباس اه.
ونعود إلى قول الشافعي فنقول: لقد سمى ضمان الدرك عهدة ثم سمى كتاب
الشراء (الفاتورة) عهدة، واختلف الفقهاء في عهدة الشفيع هل تجب على البائع أو على المشترى؟ فذهب الشافعي إلى أن عهدة الشفيع على المشترى وعهدة المشترى على البائع.
وقال ابن أبى ليلى: عهدة الشفيع على البائع، وقال أبو حنيفة: ان كان الشفيع(14/353)
قد قبضه من المشترى فعهدته على المشترى، وان كان قد قبضه من البائع فسخ عقد المشترى وكانت عهدته على البائع.
فأما ابن أبى ليلى فاستدل بأن البائع أصل والمشترى فرع، فكان الرجوع على البائع أولى من المشترى، لانه لا اعتبار بالفرع مع وجود الاصل.
قال: ولان المشترى يحل محل الوكيل للشفيع لدخوله على علم بانتقال الشراء إلى الشفيع، ثم ثبت في شراء الوكيل أن العهدة على البائع دون الوكيل، كذلك في استحقاق الشفيع.
وأما أبو حنيفة فاستدل على أن للشفيع أن يفسخ عقد المشترى بأنه لما استحق إزالة ملكه عنه استحق فسخ عقده فيه لان ثبوت العقد لاستيفاء الملك ودليلنا هو أن الشفيع يملك الشقص عن المشترى، بدليل أنه لو تركه لكان مقرا على ملك المشترى، ولو حدث منه نماء لكان للمشترى، فوجب أن تكون العهدة عليه كما كانت على البائع للمشترى، وتحريره قياسا أن انتقال الملك بالعوض ممن يظاهر بملك المعوض يوجب أخذه بالعهدة كالبيع، ولان الرجوع بالثمن قد يستحق في الرد بالعيب كما يستحق في الاستحقاق بالشفعة فلما كان الرجوع به في الرد بالعيب مستحقا على المشترى دون البائع وجب أن يكون الرجوع به في الاستحقاق بالشفعة مستحقا على المشترى دون البائع وقد يتحرر من اعتلال هذا الاستدلال قياسان:
(أحدهما)
أن أحد نوعيه ما يوجب الرجوع بالثمن فوجب أن يستحقه الشفيع على المشترى دون البائع قياسا على الرد بالعيب
(والثانى)
أن من استحق عليه الثمن في الرد بالعيب لم يستحق عليه الثمن في الاستحقاق وبالغصب قياسا على المشترى لو كان بائعا فأما الجواب عن استدلال ابن أبى ليلى بأن البائع أصل والمشترى فرع فمنتقض بالمشترى لو باع على الشفيع، ثم نقول ان المشترى وان كان فرعا للبائع فانه أصل للشفيع.
وأما الجواب عن استدلاله بالوكيل فهو امتناع الجمع بينهما من وجهين: (ا) ان الشفيع لما كان مخيرا بين أخذه من المشترى وبين تركه عليه صار مالكا(14/354)
عنه لا عن البائع، ولما لم يكن للموكل خيار في أخذه من الوكيل وتركه عليه صار مالكا عن البائع دون الوكيل.
(ب) إنه لما استحق الشفيع الرد بالعيب على المشترى دون البائع صار مالكا عنه لا عن البائع، ولما استحق الموكل الرد بالعيب على البائع دون الوكيل صار مالكا عنه لا عن الوكيل.
وأما الجواب عن استدلال أبى حنيفة بأنه لما ملك إزالة ملكه رفع عقده فمن وجهين: (ا) انه قد يملك إزالة ملكه بعد القبض ولا يملك رفع عقده فكذلك قبل القبض.
(ب) أنه بالعقد ملك الشفعة، وفى رفعه إبطال الشفعة.
(فرع)
فأما قبض الشفيع الشقص من البائع قبل قبض المشترى له أو من ينوب عنه ففيه وجهان حكاهما ابن سريج
(أحدهما)
ليس له ذلك لانه يحل محل المشترى في الاخذ بالثمن، ولا يجوز شراء ما لم يقبض، فكذلك لا يجوز أخذ
شفعة ما لم يقبض.
فعلى هذا يأخذ الحاكم المشترى بالقبض، فإذا صار بيده انتزعه الشفيع منه، فإن كان المشترى غائبا وكل الحاكم عنه من يقبض له ثم حكم للشفيع بأخذه منه.
(والثانى)
وهو اختيار ابن سريج أن للشفيع أخذه من البائع قبل قبض المشترى، لان الشفيع يأخذه جبرا بحق، وإن كره المشترى فجاز، وإن كان قبل قبضه، كما يجوز الفسخ والاقالة قبل القبض ويبرأ البائع من ضمانها بقبض الشفيع لانه يأخذها بحق توجه على المشترى، وبالوجه الاول قال أبو إسحاق المروزى.
(فرع)
قال المزني: ولو أن البائع قال قد بعت من فلان شقصا بألف درهم وأنه قبض الشقص وأنكر ذلك فلان وادعاه الشفيع، فإن الشفيع يدفع الالف إلى البائع ويأخذ الشقص.
وصورتها في رجل ادعى بيع شقصه على رجل فأنكر المشترى الشراء وحضر الشفيع مصدقا للبائع ومطالبا بالشفعة، فهذا على ضربين (ا) أن يكون البائع مدعيا بقاء الثمن على المشترى (ب) أن يكون مقرا بقبضه، فان كان مع ادعاء البيع مدعيا بقاء الثمن(14/355)
حكم عليه للشفيع بالشفعة لانه مدع على المشترى ومقر للشفيع فيحكم عليه باقراره وإن ردت دعواه.
وفى منعه من محاكمة المشترى واحلافه على الانكار وجهان: 1 - أن يكون البائع مدعيا بقاء الثمن على المشترى 2 - أن يكون مقرا بقبضه، فان كان مع ادعاء البيع مدعيا بقاء الثمن حكم عليه للشفيع بالشفعة لانه مدع على المشترى ومقر للشفيع فيحكم عليه باقراره وإن ردت دعواه.
وفى منعه من محاكمة المشترى وإحلافه على الانكار وجهان: 1 - قول أبى على بن أبى هريرة: ليس له إحلافه، لان قصده حصول الثمن وقد حصل له، وسواء حصل له من مشترى أو شفيع، ولانه لا يؤمن ان أحلف أن يحكم بفسخ البيع، وفيه إبطال لحق الشفيع 2 - له إحلافه لاستحقاق اليمين عليه بانكاره، ولما فيه من البغية لوصول الملك إلى مستحقه، ولا يبطل ليمينه حق الشفيع، فإذا قضى للشفيع بالشفعة لزمه دفع الثمن إلى البائع وتكون عهدة الشفيع هنا على البائع دون المشترى، لانه لما لم يلزمه الشراء مع انكاره لم تلزمه عهدته.
هذا ولم يتسع المقام لاستقصاء فروع الشفعة وجميع الاوجه وأحكامها، وسأفرد ما قيدته فيها في كتاب مستقل ان شاء الله تعالى.
والله أعلم بالصواب.(14/356)
كتاب القراض
القراض جائز لما روى زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر ابن الخطاب رضى الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على عامل لعمر بن الخطاب رضى الله عنه فرحب بهما وسهل وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكما فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه في المدينة وتوفران رأس المال إلى أمير المومنين ويكون لكما ربحه، فقالا وددنا، ففعل فكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال، فلما قدما وباعا وربحا فقال عمر أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما؟ فقالا لا، فقال عمر ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما.
أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين لو هلك المال ضمناه فقال أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر:
يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فأخذ رأس المال ونصف ربحه.
وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال، ولان الاثمان لا يتوصل إلى نمائها المقصود الا بالعمل فجاز المعاملة عليها ببعض النماء الخارج منها كالنخل في المساقاة
(فصل)
وينعقد بلفظ القراض لانه لفظ موضوع له في لغة أهل الحجاز وبلفظ المضاربة لانه موضوع له في لغة أهل العراق وبما يؤدى معناه لان المقصود هو المعنى فجاز بما يدل عليه كالبيع بلفظ التمليك
(فصل)
ولا يصح إلا على الاثمان وهى الدراهم والدنانير، فأما ما سواهما من العروض والنقار والسبائك والفلوس، فلا يصح القراض عليها لان المقصود بالقراض رد رأس المال والاشتراك في الربح، ومتى عقد على غير الاثمان لم يحصل المقصود لانه ربما زادت قيمته فيحتاج أن يصرف العامل جميع ما اكتسبه في رد مثله ان كان له مثل، وفى رد قيمته ان لم يكن له مثل.
وفى هذا إضرار بالعامل، وربما نقصت قيمته فيصرف جزءا يسيرا من الكسب في رد مثله أو رد قيمته، ثم يشارك رب المال في الباقي، وفى هذا إضرار برب المال، لان(14/357)
العامل يشاركه في أكثر رأس المال.
وهذا لا يوجد في الاثمان لانها لا تقوم بغيرها، ولا يجوز على المغشوش من الاثمان لانه تزيد قيمته وتنقص كالعروض
(فصل)
ولا يجوز إلا على مال معلوم الصفة والقدر، فإن قارضه على دراهم جزاف لم يصح، لان مقتضى القراض رد رأس المال، وهذا لا يمكن فيما لا يعرف صفته وقدره، فان دفع إليه كيسين في كل واحد منهما ألف درهم فقال قارضتك على أحدهما وأودعتك الآخر ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح لانهما متساويان
(والثانى)
لا يصح لانه لم يبين مال القراض من مال الوديعة، وإن قارضه
على ألف درهم هي له عنده وديعة جاز لانه معلوم، وان قارضه على ألف درهم هي له عنده مغصوبة ففيه وجهان " أحدهما " يصح كالوديعة " والثانى " لا يصح لانه مقبوض عنده قبض ضمان، فلا يصير مقبوضا قبض أمانة (الشرح) قال ابن بطال: القراض مشتق من القرض وهو القطع، كأنه يقطع له قطعة من ماله أو قطعة من الربح.
وقيل اشتقاقه من المساواة، يقال: تقارض الشاعران إذا ساوى كل منهما صاحبه في المدح، وتقارضا الثناء.
وقال الصنعانى في سبل السلام: القراض بكسر القاف وهو معاملة العامل بنصيب من الربح.
وهذه تسميته في لغة أهل الحجاز، وتسمى مضاربة، مأخوذة من الضرب في الارض لما كان الربح يحصل في الغالب بالسفر أو من الضرب في المال وهو التصرف.
اه وقال الرافعى: ولم يشتق للمالك منه اسم فاعل لان العامل يختص بالضرب في الارض، فعلى هذا تكون المضاربة من المفاعلة التى تكون من واحد، مثل عاقبت اللص.
وقال ابن قدامة في المغنى من كتب الحنابلة: وهذه المضاربة تسمى قراضا أيضا، ومعناها أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه، على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه، فأهل العراق يسمونه مضاربة، مأخوذة من الضرب في الارض.
اه وقد جمع النووي بين الاسمين في المنهاج فقال: القراض والمضاربة أن يدفع(14/358)
إليه مالا ليتجر فيه والربح مشترك.
قال السبكى.
قد يشاح النووي في قوله: أن يدفع.
ويقال القراض العقد المقتضى للدفع لا نفس الدفع.
قال الشربينى في شرح المنهاج: وأركانه خمسة: مال وعمل وربح وصيغه وعاقدان.
وقال الرشيدى في حاشيته على شرح شمس الدين الرملي للمنهاج في عطف
الشارح: المقارضة على القرض، أي إن القراض يجوز أن يكون مشتقا من القرض ومن المقارضة.
وهذا الصنيع ظاهر في أن دفع المال على الوجه الآتى لا يسمى مقارضة بل قراضا ومضاربة، وهو ظاهر المتن حيث اقتصر عليهما.
لكن ظاهر كلام المحلى يخالفه حيث عطف المقارضة على ما في المتن فأفاد أن القراض والمضاربة بمعنى قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة.
وقال الصنعانى لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الاسلام وقال ابن حزم: كل أبواب الفقه فيه أصل من الكتاب والسنة حاشا القراض فما وجدنا له أصلا في السنة لكنه إجماع صحيح، ويقطع بأنه كان في عصره صلى الله عليه وسلم وعلم به وأقره.
(قلت) ولسنا نخالف ابن حزم الا في أن أمرا مجمعا عليه من الامة منذ عهد نبيها صلى الله عليه وسلم ثم لا يتبين مصدره واضحا بالاخبار، ولعل ابن حزم لم يبلغه لبعد الشقه ما بلغ غيره، وإن كانت هذه الاخبار المرفوعة يعتريها بعض الوهن من ناحية الاسناد فانها مؤيدة بأخرى صحيحة موقوفة على الصحابة، وهو لا يدل بالاستقراء على أنه كان موجودا في عهده صلى الله عليه وسلم، وانما يدل بمنطوقه على وجوده، فيكون استقراؤه من الاجماع على وجوده ينقصه ما رويناه عن الصحابة من صحيح الاخبار فأما المرفوع فقد روى ابن ماجه عن صهيب إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل والمقارضة وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع " أورده ابن حجر في بلوغ المرام وضعف اسناده.
وأما الموقوف فما رواه الدارقطني ورجاله ثقات عن حكيم بن حزام أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة أن لا تجعل مالى في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به في بطن مسيل، فان فعلت شيئا من ذلك فقد(14/359)
ضمنت مالى.
وقال مالك في الموطأ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ عن أبيه عن جده أنه عمل في مال لعثمان على أن الربح بينهما، وروى حميد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة يعمل به في العراق، وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر خرجا في جيش إلى العراق فتسلفا من أبى موسى مالا وابتاعا به متاعا، وقدما به إلى المدينة، فباعاه وربحا فيه، فأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا، فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا قال: قد جعلته، وأخذ منهما نصف الربح، وقد ساقها المصنف بأوفى من هذا.
وعن قتادة عن الحسن أن عليا قال: إذا خالف المضارب فلا ضمان، هما على ما شرطا، وعن ابن مسعود وحكيم بن حزام أنهما قارضا.
قال الماوردى في الحاوى: والاصل في إحلال القراض وإباحته قوله تَعَالَى " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا من ربكم " وفى القراض ابتغاء فضل وطلب نماء وقد استدل بحديث " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " على جوازها وقد ضارب النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بأموالها إلى الشام وأنفذت لخدمته عبدا لها يقال له ميسرة، وروى ابن أبى الجارود حبيب بن يسار عن ابن عباس قال: كان العباس إذا دفع مالا مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحرا ولا ينزل به واديا ولا يشترى به ذات كبد رطبة، فإن فعل فهو ضامن، قال الماوردى: فرفع ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجازه.
وقد اختلف أصحابنا في وجه الاستدلال من حديث عمر على ثلاثة أوجه: (أحدها) قول الجليس: لو جعلته قراضا، وإقرار عمر على صحة القراض ولو علم عمر فساده لرده، فلم يكن ما فعله معهما قراضا لا صحيحا ولا فاسدا،
ولكن استطاب طهارة انفسهما بما أخذه من ربحهما لاسترابته بالحال واتهامه أبا موسى بالميل لانهما ابنا أمير المؤمنين، الامر الذى ينفر منه الامام العادل وتأباه طبيعة الاسلام.
(والثانى)
أن عمر أجرى عليهما في الربح حكم القراض الفاسد لانهما عملا(14/360)
على أن يكون الربح لهما ولم يكن قد تقدم في المال عقد يصح حملهما عليه، فأخذ منهما جميع الربح، وعاوضهما على العمل بأجرة المثل وقدره بنصف الربح فرده عليهما أجرة، وهو اختيار أبى إسحاق المروزى.
(والثالث) أن عمر أجرى عليهما أجرا في الربح حكم القراض الصحيح، وإن لم يتقدم منهما عقد، لانه كان من الامور العامة ما يتسع حكمه عن العقود الخاصة، فلما رأى المال لغيرهما والعمل منهما ولم يرهما متعديين فيه، جعل ذلك عقد قراض صحيح، وهذا ذكره أبو على بن أبى هريرة، فعلى هذا الوجه يكون القول والفعل معا دليلا، ثم الحديث الذى ساقه المصنف من مساقاة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شطر ما يخرج من تمر وزرع لا يدل بمنطوقه على هذا وإنما يدل بالمفهوم أو المحمول، لان المساقاة عمل في محل استوجب به شطر ثمرها فاقتضى ذلك جواز القراض من طريق المعنى.
وقد ذهب الماوردى إلى أن صحة القراض دليل على جواز المساقاة.
قوله: النقار وهو مذاب الفضة وقبل الذوب هي تبر، والسبائك جمع سبيكة القطعة المستطيلة من الذهب.
والفلوس جمع فلس وهو أدنى ما يتعامل من المال، ويسمى في الشام قرشا وفى العراق فلسا، وفى مصر والسودان مليما، وفى الحجاز ونجد هللة، وفى اليمن بقشة، وفى المغرب والجزائر بيزا أو بسيطة، وفى اليونان دراخما، وفى
اليابان ين، وفى انجلترا وأمريكا بنس، والفرق بين الفلوس قديما وحديثا أوضحناها في كتابنا تاريخ النقود الاسلامية.
فإذا ثبت أن القراض جائز بين المتعاقدين لانه عقد معونة وإرفاق، فانه عقد اختيار وليس عقد لزوم ويجوز لمن شاء منهما أن يفسخه، ومن.
أجل تيسير رد رأس المال على صاحبه لم يبحه الفقهاء إلا بالدراهم والدنانير.
قال الشافعي: ولا يجوز القراض إلا في الدراهم والدنانير التى هي أثمان الاشياء وقيمتها، وحكى عن طاوس والاوزاعي وابن أبى ليلى جواز القراض بالعروض لانها كالدراهم والدنانير، ولان كل عقد صح بالدراهم والدنانير صح بالعروض(14/361)
كالبيع، وهذا خطأ لان القراض مشروط برد رأس المال واقتسام الربح وعقده بالعروض يمنع من هذين الشرطين، أما رد رأس المال فلان من العروض مالا مثل لها فلم يمكن ردها.
وأما الربح فقد يفضى إلى اختصاص أحدهما به دون الآخر لانه إن زاد خيره العامل بالربح فاختص به رب المال، وان نقص أخذ العامل شطر فاضله من غير عمل، وهذه أمور يمنع القراض منها فوجب أن يمنع مما أدى إليها ولان كل مال يوجب القراض منع من أن ينعقد عليه القراض كالمنافع.
فأما الجواب عن قياسهم على الدراهم والدنانير فهو أنها لا تمنع موجب القراض وأما قياسهم على البيع فالمعنى فيه أنه لا يلزم فيه رد مثل ولا قسمة ربح فجاز بكل مال، فإذا ثبت أن القراض لا يصح إلا بالدراهم والدنانير فلا يصح إلا بما كان منها مضروبا لا غش فيه، فإنه بالنقار والسبائك لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وكذلك بالفضة المغشوشة، وذهب أبو حنيفة إلى جوازها إذا كانت الفضة أكثر اعتبارا بحكم الاغلب، وهذا خطأ لان غش الفضة بالنحاس لو تميز عنها
لم يجز به القراض فإذا خالطها لم يجز به القراض، ولان ما لم تخلص فضته لم تجز مقارضته كالكثير الغش.
فإن قيل: فمن شرطها أن تكون معلومة القدر والصفة عند عقد القراض بها فإن تقارضا على مال لا يعلمان قدره كان القراض باطلا للجهل بما تعاقدا عليه، وإن علما قدره وجهلا صفته بطل القراض، لان الجهل بالصفة كالجهل بالقدر في بطلان العقد، فلو عقد القراض على ألف من أنواع شتى، فإن علما كل نوع منها صح العقد، وإن جهلاه بطل.
فلو دفع إليه ألف درهم وألف دينار على أن يقارض بأى الالفين شاء ويستودعه الاخرى لم يجز للجهل بالقراض هل عقد بألف درهم أو بألف دينار، كما لو أعطاه مبلغا من العملة الصعبة كالدولار والمارك والاسترلينى ومبلغا من العمله الاخرى ولكل من النقدين قيمة رسمية وقيمة حرة، وقيمة محلية وأخرى في أسواقها الرسمية أو الدوليه، ولم يحدد له أحد النوعين المراد به القراض كان العقد باطلا(14/362)
ولو دفع إليه بكيسين في كل واحد منهما ألف دينار على أن تكون إحدى الالفين قراضا والاخرى وديعة ففيه وجهان.
(أحدهما)
يجوز ويكون قراضا صحيحا لانه معقود على ألف دينار معلومة لتساوي الالفين.
(والثانى)
لا يجوز للجهل بمال القراض من مال الوديعة، ولكن لو دفع إليه ألفا وألفا على أن له من ربح أحد الالفين النصف ومن ربح الآخر الثلث، فإن عين الالف التى شرط له نصف ربحها من الالف التى شرط له ثلث ربحها جاز وكانا عقدين، وإن لم يعين لم يجز للجهل بمال كل واحد من العقدين.
وإذا كانت لرجل في يد رجل ألف درهم وديعه فقارضه عليها وهما يعلمان
قدرها وصفتها جاز، ولو كانا يجهلان القدر أو الصفة لم يجز، ولو قال له: قد قارضتك على ألف من ديتي التى على فلان فاقتضى منه قراضا لم يجز لانه قراض على ملك غائب، فان قبضها وأنجز بها صح القبض لانه وكل فيه، وكان الربح والخسران لرب المال وعليه، لحدوثها عن ملكه في قراض فاسد، ولو كان له على العامل دين فقال له: قد جعلت ألفا من دينى عليك قراضا في بدل لم يجز تعليلا بأنه قراض على مال غائب، وفيما حصل فيه من الربح والخسران قولان حكاهما أبو حامد في جامعه تخريجا.
(أحدهما)
أنه لرب المال وعليه، كالحادث عن مقارضة من دين على غيره، فعلى هذا تبرأ ذمة العامل من الدين إذا اتجر به.
(والقول الثاني) وهو الاصح أن الربح والخسران للعامل وعليه دين رب المال، والفرق بين كون الدين عليه وبين كونه على غيره أن قبضه من غيره صحيح لانه وكيل فيه لرب المال فعاد الربح والخسران على رب المال لحدوثها عن ملكه وقبضه من نفسه فاسد لانه يصير مشتريا لنفسه بنفسه فعاد الربح والخسران عليه دون رب المال لحدوثها عن ملكه لان في كل واحد من الموضعين يعود الربح والخسران على من له المال.
(فرع)
فأما إذا غصبه ألفا ثم قارضه عليها فهذا على ضربين.
أحدهما: أن(14/363)
يكون قد استهلكها بالغصب فقد صارت بالاستهلاك دينا، فيكون على ما ذكرنا والثانى أن تكون باقية فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يقارض عليهما بعد إبرائه من ضمانها فيجوز لانها تصير بعد الابراء وديعة
(والثانى)
أن تقارضه عليها من غير تصريح بإبرائه منها، ففى القراض وجهان
(أحدهما)
باطل لانها مضمونة عليه كالدين وبما حصل فيها من ربح وخسران
فلرب المال وعليه.
(والثانى)
وهو الصحيح أن القراض صحيح لانه قراض على مال حاضر كما لو باعها عليه أو وهبها منه.
وفى براءته بذلك من ضمانها ثلاثة أوجه: 1 - براءته من ضمانها لانه قد صار مؤتمنا عليها 2 - لا يبرأ من ضمانها كما لا يبرأ الغاصب من ضمان ما ارتهن 3 - أنه ما لم يتصرف فيها بعقد القراض فضمانها باق عليه، وإن تصرف فيها بدفعها في ثمن ما ابتاعه بها برئ من ضمانها إن عاقد عليها بأعيانها، ولم يبرأ إن عاقد بها في ذمته لانها في التعيين مدفوعة إلى مستحقها بإذن مالكها، فصار كردها عليه، وفيما تعلق بذمته يكون مبرئا لنفسه.
فأما إذا دفع إليه عرضا وأمره ببيعه والمضاربة بثمنه لم يجز لعلتين (ا) جهالة ثمنه والقراض بالمال المجهول باطل (ب) عقده بالصفة، والقراض بالصفات باطل فإن باعه العامل كان بيعه جائزا لصحة الاذن فيه، وإن اتجر به كان الربح والخسران لرب المال لحدوثها عن ملكه، وللعامل أجرة مثله في عمل القراض دون القرض، لانه لم يجعل له في بيع القرض جعلا، وإنما جعل له في عمل القراض ربحا فصار متطوعا بالبيع معتاضا على القراض.
ولو قال خذ من وكيلى ألف درهم فضارب بها لم يجز لعلة واحدة، وهو أنه قراض بصفة وما حصل من ربح وخسران فلرب المال وعليه.
فأما إذا دفع شبكة إلى صياد ليصيد بها ويكون الصيد بينهما لم يجز وكان الصيد للصياد وعليه أجرة الشبكة، وقد مضى تفصيل ذلك من التكملة الاولى ومناقشة كل من القائلين بأن الشبكة لمالكها وعليه أجر المثل للصياد.
أو أن المصيد للصياد وعليه أجر الشبكة، والاتفاق على أن الصيد لا يقسم بين الصياد والمالك مرابحة(14/364)
قياسا على المزارعة.
والفرق بين صيد الصياد ونتاج الماشية أن حدوث النتاج من أعيانها فكان لمالكها دون عالفها وحصول الصيد بفعل الصياد فكان له دون مالك الشبكة في رأى الماوردى وكان لمالك الشبكة حتى لا يضيع تعب العامل إذا لم تخرج الشبكة صيدا في رأى السبكى وعلى صاحبها أجر مثله، وعلى هذا لو دفع سفينة إلى ملاح ليعمل فيها بنصف كسبها لم يجز، وكان الكسب للملاح لانه بعمله وعليه لمالك السفينة أجرة المثل، وهذه الاصول من أعظم ما تتميز به شريعتنا الالهية من حماية العامل وجهده وكسبه، وهى السمات الظاهرة المشرقة المشرفة في مجتمع مسلم يقوم على الاسلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يجوز إلا على جزء من الربح معلوم، فان قارضه على جزء مبهم لم يصح، لان الجزء يقع على الدرهم والالف فيعظم الضرر، وإن قارضه على جزء مقدر كالنصف والثلث جاز، لان القراض كالمساقاة، وقد ساقى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ خيبر على شطر ما يخرج من تمر وزرع، وان قارضه على درهم معلوم لم يصح، لانه قد لا يربح ذلك الدرهم فيستضر العامل، وقد لا يربح إلا ذلك الدرهم فيستضر رب المال.
وإن قال قارضتك على أن الربح بيننا ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح لانه مجهول، لان هذا القول يقع على التساوى وعلى التفاضل
(والثانى)
يصح لانه سوى بينهما في الاضافة فحمل على التساوى، كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
وإن قال قارضتك على أن لى نصف الربح ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح ويكون الربح بينهما نصفين، لان الربح بينهما، فإذا شرط لنفسه النصف دل على أن الباقي للعامل
(والثانى)
لا يصح وهو الصحيح، لان الربح كله لرب المال بالملك، وإنما يملك العامل جزءا منه بالشرط ولم يشرط له شيئا فبطل
وإن قال قارضتك على أن لك النصف ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح، لانه لم يبين ما لرب المال
(والثانى)
يصح، وهو الصحيح، لان ما لرب المال لا يحتاج إلى شرط، لانه يملكه بملك المال، وانما يحتاج إلى شرط ما للعامل،(14/365)
فإذا شرط للعامل النصف بقى الباقي على ملك رب المال، فعلى هذا لو قال قارضتك على أن لك النصف ولى الثلث وسكت عن السدس صح، ويكون النصف له، لان الجميع له إلا ما شرطه للعامل، وقد شرط له النصف، فكان الباقي له.
(فصل)
وإن قال: قارضتك على أن الربح كله لى أو كله لك بطل القراض لان موضوعه على الاشتراك في الربح، فإذا شرط الربح لاحدهما فقد شرط ما ينافى مقتضاه فبطل، وإن دفع إليه ألفا وقال: تصرف فيه والربح كله لك فهو قرض لا حق لرب المال في ربحه، لان اللفظ مشترك بين القراض والقرض، وقد قرن به حكم القرض، فانعقد القرض به كلفظ التمليك لما كان مشتركا بين البيع والهبة إذا قرن به الثمن كان بيعا، وإن قال: تصرف فيه والربح كله لى فهو بضاعة، لان اللفظ مشترك بين القراض والبضاعة، وقد قرن به حكم البضاعة فكان بضاعة كما قلنا في لفظ التمليك.
(فصل)
ولا يجوز أن يختص أحدهما بدرهم معلوم ثم الباقي بينهما لانه ربما لم يحصل ذلك الدرهم فيبطل حقه وربما لم يحصل غير ذلك الدرهم فيبطل حق الآخر، ولا يجوز أن يخص أحدهما بربح ما في الكيسين لانه قد لا يربح في ذلك فيبطل حقه أو لا يربح إلا فيه فيبطل حق الاخر ولا يجوز أن يجعل حق أحدهما في عبد يشتريه فان شرط أنه إذا اشترى عبدا أخذه برأس المال أو أخذه العامل بحقه لم يصح العقد لانه قد لا يكون في المال ما فيه ربح غير العبد فيبطل حق الاخر (الشرح) حديث المساقاة رواه الجماعة عن ابن عمر وَلَفْظُهُ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع " ورواه الشيخان بلفظ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظهر على خيبر سأله اليهود أن يقرهم بها على أن يكفون عملها ولهم نصف الثمرة فقال لهم: نقركم بها على ذلك ما شئنا " وللبخاري " أعطى يهود خيبر أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها " ولمسلم وأبى داود والنسائي " دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها " ورواه أحمد عن عمر بلفظ(14/366)
" أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن نخرجهم متى شئنا " ورواه البخاري بمعناه، ورواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس بلفظ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف " ورواه البخاري عن أبى هريرة بلفظ " قالت الانصار للنبى صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا - المهاجرين - النخل، قال: لا، فقالوا: تكفونا العمل ونشرككم في الثمرة، فقالوا سمعنا وأطعنا ".
أما الاحكام فقد قال الشافعي: ولا يشترط أحدهما درهما على صاحبه وما بقى سهما ويشترط أن يوليه سلعة، أو على أن يرتفق أحدهما بشئ دون صاحبه، وهذا صحيح، فقد ظهر ان عقد القراض موجب لاشتراك رب المال والعامل في الربح ولا يختص به أحدهما دون الاخر، لان المال والعمل متقابلان، فرأس المال في مقابلة عمل العامل، ولذلك وجب أن يشتركا في الربح، ولم يجز أن يختص به أحدهما مع تساويهما، وإذا منعنا من اختصاص أحدهما بالربح دون الاخر وجب أن يمنعا مما يؤدى إلى اختصاص أحدهما بالربح دون الاخر، فمن ذلك أن يشترط أحدهما لنفسه من الربح درهما معلوما والباقى لصاحبه أو بينهما، فلا يجوز، لانه قد لا يحصل من الربح إلا الدرهم المشروط فينفرد به أحدهما
وينصرف الاخر بغير شئ مع وجود العمل وحصول الربح، ومثاله في البيوع أن يبيعه الثمرة إلا مدا يستثنيه لنفسه فيبطل البيع لانه قد يجوز أن تهلك الثمرة إلا ذلك المد، فيصير البائع آخذا للثمن والثمرة معا ولو شرطا تفاضلا في الربح مثل أن يشترط أحدهما عشر الربح وتسعة أعشاره للآخر جاز لانه ليس ينصرف أحدهما بغير ربح، ومثاله في البيوع أن يبيع الثمرة إلا عشرها فيصح البيع لان ما بقى منها فهو مبيع وغير مبيع.
قال الماوردى: ومن ذلك أن يشترط أحدهما أن يولى ما يرتضيه أو ما يكتسبه برأس ماله فيبطل القراض لانه قد لا يكون في المشترى ربح إلا فيما تولاه فيصير مختصا بجميع الربح ويخرج الآخر بغير ربح، ومن ذلك أن يشترط أحدهما ربحا دون صاحبه، مثل أن يشترط ركوب ما اشتراه من الدواب أو لبس ما اشتراه(14/367)
من الثياب مدة بقائها في القراض فيبطل العقد لانه قد لا يكون في أثمانها فضل إلا ما اختص به أحدهما من الرفق فيصير منفردا بالربح لان المنفعة مقومة كالاعيان فأما إذا شرطا جميع الربح لاحدهما فهما مسألتان: 1 - أن يشترطا جميع الربح لرب المال 2 - أن يشترطا جميع الربح للعامل، فإذا شرطا الاول نظر فيه، فان لم يقل رب المال عند دفعه: انه قراض ولكن قال: خذه فاشتر به وبع ولى جميع الربح فهذه استعانة بعمله وليس بقراض والعامل متطوع بعمله فيه وجميع الربح لرب المال ولا أجرة للعامل في عمله.
وإن قال خذه قراضا على أن جميع الربح لى، فهذا قراض فاسد وجميع الربح لرب المال، وفى استحقاق العامل أجرة مثله وجهان
(أحدهما)
وهو قول المزني إنه لا أجرة له، لانه مع الرضا بأن لا ربح له متطوع بعمله
(والثانى)
وهو قول
ابن سريج إن له أجرة مثله لعمله في قراض فاسد، فصار كالمزوجة من غير صداق تستحق بذلك مهر المثل.
وأما ان شرطا جميع الربح للعامل فهذا على ضربين
(أحدهما)
أن يقول رب المال خذه قراضا على أن جميع الربح لك، فهذا فاسد وجميع الربح لرب المال على حكم القراض الفاسد وللعامل أجرة مثله لدخوله على عوض لم يحصل له.
والضرب الثاني: أن يقول: خذه على أن جميع ربحه لك ولا يصرح في حال الدفع بأنه قراض، ففيه لاصحابنا وجهان
(أحدهما)
أن يكون سلفا ولا يكون قراضا لانه غير منطوق به، فعلى هذا يكون ضامنا للمال وجميع الربح له.
والوجه الثاني: أن يكون قراضا فاسدا ولا يكون قراضا ولا سلفا لانه غير منطوق به.
فعلى هذا لا يكون ضامنا للمال، ويكون جميع الربح لرب المال، وللعامل أجرة المثل.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
ولا يجوز أن يعلق العقد على شرط مستقبل لانه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع والاجارة.(14/368)
(فصل)
قال الشافعي رحمه الله: ولا تجوز الشريطة إلى مدة، فمن أصحابنا من قال لا يجوز شرط المدة فيه لانه عقد معاوضة يجوز مطلقا فبطل بالتوقيت كالبيع والنكاح، ومنهم من قال: إن عقده إلى مدة على أن لا يبيع بعدها لم يصح لاأ العامل يستحق البيع لاجل الربح، فإذا شرط المنع منه فقد شرط ما ينافى مقتضاه فلم يصح.
وإن عقده إلى مدة على أن لا يشترى بعدها صح، لان رب المال يملك المنع من الشراء إذا شاء، فإذا شرط المنع منه فقد شرط ما يملكه بمقتضى العقد فلم يمنع صحته.
(فصل)
ولا يصح إلا على التجارة في جنس يعم كالثياب والطعام والفاكهة في وقتها، فان عقده على ما لا يعم كالياقوت الاحمر والخيل البلق وما أشبهها أو على التجارة في سلعة بعينها لم يصح لان المقصود بالقراض الربح فإذا علق على ما لا يعم أو على سلعة بعينها تعذر المقصود لانه ربما لم يتفق ذلك ولا يجوز عقده على أن لا يشترى إلا من رجل بعينه، لانه قد لا يتفق عنده ما يربح فيه أو لا يبيع منه ما يربح فيه فيبطل المقصود
(فصل)
وعلى العامل أن يتولى ما جرت العادة أن يتولاه بنفسه من النشر والطى والايجاب والقبول، وقبض الثمن ووزن ما خف كالعود والمسك، لان إطلاق الاذن يحمل على العرف، والعرف في هذه الاشياء أن يتولاها بنفسه، فان استأجر من يفعل ذلك لزمه الاجرة في ماله.
فأما ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع ووزن ما يثقل وزنه فلا يلزمه أن يتولاه بنفسه، وله أن يستأجر من مال القراض من يتولاه، لان العرف في هذه الاشياء أن لا يتولاه بنفسه، فان تولى ذلك بنفسه لم يستحق الاجرة لانه تبرع به.
وإن سرق المال أو غصب فهل يخاصم السارق والغاصب؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
لا يخاصم، لان القراض معقود على التجارة فلا تدخل فيه الخصومة
(والثانى)
أنه يخاصم فيه لان القراض يقتضى حفظ المال والتجارة ولا يتم ذلك الا بالخصومة والمطالبة(14/369)
(فصل)
ولا يجوز للعامل أن يقارض غيره من غير إذن رب المال لان تصرفه بالاذن ولم يأذن له رب المال في القراض فلم يملكه، فان قارضه رب المال على النصف وقارض العامل آخر واشترى الثاني في الذمه ونقد الثمن من مال
القراض وربح بنينا على القولين في الغاصب إذا اشترى في الذمة ونقد فيه المال المغصوب وربح، فان قلنا بقوله القديم إن الربح لرب المال فقد قال المزني ههنا ان لرب المال نصف الربح والنصف الآخر بين العاملين نصفين.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ هذا صحيح لان رب المال رضى أن يأخذ نصف ربح فلم يستحق أكثر منه والنصف الثاني بين العاملين لانهما رضيا أن يكون ما رزق الله بينهما، والذى رزق الله تعالى هو النصف، فان النصف الآخر أخذه رب المال فصار كالمستهلك.
ومن أصحابنا من قال: يرجع العامل الثاني على العامل الاول بنصف أجرة مثله لانه دخل على أن يأخذ نصف ربح المال ولم يسلم له ذلك، وان قلنا بقوله الجديد فقد قال المزني الربح كله للعامل الاول وللعامل الثاني أجرة المثل فمن أصحابنا من قال هذا غلط لان على هذا القول الربح كله للعامل الثاني لانه هو المتصرف فصار كالغاصب في غير القراض.
ومنهم من قال الربح للاول كما قال المزني لان العامل الثاني لم يشتر لنفسه وانما اشتراه للاول فكان الربح له بخلاف الغاصب في غير القراض، فان ذلك اشتراه لنفسه فكان الربح له.*
*
* (الشرح) قال الشافعي: ولا يجوز أن يقارضه إلى مدة من المدد.
فإذا عرفت ما قررناه في أول الباب من أن القراض من العقود الجائزة لا اللازمة فقد صح عقده مطلقا بدون شرط مدة أو تحديد وقت يكون القراض فيه، فلو شرطا مدة يكون القراض فيها لازما بطل.
فإذا ثبت هذا فاشتراط المدة على ضربين:
(أحدهما)
أن يشترطا لرفع العقد فيها فيكون القراض باطلا لما ذكرنا.
(الثاني) أن يشترطا الفسخ في العقد بعدها فهذا على ضربين:(14/370)
(أحدهما)
أن يشترطا فسخ القراض بعد المدة في البيع والشراء فيكون القراض باطلا إذا فاته موجب العقد في بيع ما حصل في القراض من عرض.
(والثانى)
أن يشترطا فسخ القراض بعد المدة في الشراء دون البيع فيكون القراض جائزا، لان له فسخ القراض في الشراء عند مضى المدة فجاز أن يشترطه قبل مضى المدة.
ولو قال: خذ هذا المال قراضا ما شئت أنا من الزمان أو ما شئت أنت جاز لان كذلك تكون العقود الجائزة، ولو قال: خذه ما رضى فلان مقامك أو ما شاء فلان أن يقارضك لم يجز وكان قراضا فاسدا، لانه لا يجوز أن يكون قراضهما موقوفا على رأى غيرهما.
ولو قال: خذ المال قراضا ما أقام العسكر، أو إلى قدوم الحاج نظر، فإن شرط لزومه في هذه المدة كان باطلا، وإن شرط فسخه بعدها في الشراء دون البيع، ففيه وجهان، أحدهما: يجوز لما لهما من ذلك.
والثانى: لا يجوز، لان لجهالة المدة قسطا من الغرر وتأثيرا في الفسخ.
(فرع)
عقد القراض يقتضى تصرف العامل في المال بالبيع والشراء، فإذا قارضه على أن يشترى به نخلا يمسك رقابها ويطلب ثمارها لم يجز لانه قيد تصرفه الكامل بالبيع والشراء، ولان القراض مختص بما يكون النماء فيه نتيجة البيع والشراء وهو في النخل نتيجة عن غير بيع وشراء فبطل أن يكون قراضا ولا يكون مساقاة، لانه عاقده على جهالة بها قبل وجود ملكها، وهكذا لو قارضه على شراء دواب أو مواشي يحبس رقابها ويطلب نتاجها لم يجز لما ذكرنا، فإن اشترى بالمال النخل والدواب صح الشراء ومنع من البيع لان الشراء عن إذن والبيع بغير إذن، وكان الحاصل من الثمار والنتاج ملكا لرب المال لانه نتج عن
ملكه، وللعامل أجرة مثله في الشرط والخدمة لانها عمل عاوض عليها، وحكى عن محمد بن الحسن جواز ذلك كله حتى قال: لو أطلق القراض معه جاز له أن يشترى أرضا أو يستأجرها ليزرعها أو يغرسها ويقتسما فضل زرعها وغرسها وهذا فاسد لما بيناه.(14/371)
وأما القسم الثاني وهو مئونة العمل فمنه ما يجب في مال القراض ومنه ما يلزم العامل ولا يجب في مال القراض.
فأما الاول فأجرة النقل والشحن وأرضيات الجمارك إذا لم يتأخر عن تسلمها من إهمال، وأجر الصوامع والمخازن، وما صار معهودا من الرسوم والضرائب والدمغات التى لا يقدر على عدم أدائها فله دفع ذلك كله بالمعروف من رأس المال ثم وضعه من الربح الحاصل فيه ليكون الفاضل بعد ذلك من الربح هو المقسوم بينهما على شرطهما.
وأما ما يلزم العامل ماليا فما يدفع من المخالفات ورسوم الارضية في الجمارك نتيجة الاهمال في ترك الاسراع لتسلمها وتخليصها، وما يلزمه عمليا فهو ما يفعله التجار من تحرير العقود ومباشرة عمليات التسويق والبيع وتنضيد السلع وعرضها وكتابة الاسعار عليها إن كانت أوامر السلطان تقضى بذلك، أما الاعلان عن السلعة في الصحف أو الحوائط أو شاشات العرض فتكون في مال القراض.
وأما القسم الثالث وهو نفقة العامل فهو نوعان
(أحدهما)
ما يختص العامل بالتزامه كمأكوله وملبوسه ونفقة إقامته
(والثانى)
نفقة سفره، فالذي رواه المزني في مختصره أن له النفقة بالمعروف.
وقال في جامعه الكبير: والذى أحفظ له أنه لا يجوز القراض إلا على نفقة معلومة في كل يوم وعما يشتريه فيكتسبه، فروى في مختصره وجامعه وجوب النفقة، وجعلها في جامعه معلومة كنفقات الزوجات، وفى مختصره بالمعروف كنفقات الاقارب، فهذا ما رواه المزني.
وروى أبو يعقوب البويطى أنه لا ينفق على نفسه من مال المضاربة حاضرا كان أو مسافرا.
فاختلف أصحابنا، فكان أبو الطيب وأبو حفص بن الوكيل يجعلان اختلاف الروايتين على اختلاف قولين
(أحدهما)
وهو رواية المزني أنه ليس له النفقة في سفره لاختصاص سفره بمال القراض بخلاف نفقة الاستيطان والقول الثاني: لا نفقة له لما فيه من اختصاصه بالربح أو بشئ منه دون رب المال.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْن أَبِي هريرة: لا نفقة له قولا واحدا على ما رواه البويطى، وحملا رواية المزني على نفقة المبتاع دون العامل، وهذا(14/372)
التأويل مدفوع بما بينه المزني في جامعه الكبير بقوله: نفقة معلومة في كل يوم، وثمن ما يشتريه فيكتسبه.
(فرع)
قال الشافعي: وإذا سافر كان له أن يكترى من المال من يكفيه بعض المئونة في الاعمال التى لا يعملها العامل، وله النفقة بالمعروف اه والكلام في هذه المسألة التى ذكرها المصنف واستدللنا له عليها بقول الشافعي مشتمل على ثلاثة أقسام: 1 - في جواز سفر العامل بمال القراض 2 - في مئونة العمل 3 - في نفقة العامل فأما الاول فلرب المال معه ثلاثة أحوال (ا) أن ينهاه عن السفر به فلا يجوز أن يسافر إجماعا، فإن أذن له في السفر إلى بلد لم يجز أن يسافر إلى غيره، وان لم يخص به بلدا جاز أن يسافر به إلى البلدان المأمونة المسالك والامصار التى جرت عادة أهل بلده أن يسافروا بأموالهم ومتاجرهم إليها ولا يخرج عن العرف المعهود فيها، وفى البعد إلى أقصى البلدان، فإن أبعد إلى أقصى البلدان ضمن المال
(ب) أن يطلق فلا يأمره ولا ينهاه، فقد اختلف الناس في جواز سفره بالمال، فذهب الشافعي أنه لا يجوز أن يسافر به قريبا ولا بعيدا سواء رد الامر إلى رأيه أم لا.
وقال أبو حنيفة يجوز له أن يسافر بالمال إذا رأى، وان لم يأمره بذلك ما لم ينهه، وقال محمد بن الحسن وأبو يوسف: يجوز أن يسافر بالمال إلى حيث يمكنه الرجوع من قبل الليل، وقال محمد بن الحسن: يجوز له أن يسافر بالمال إلى حيث لا يلزمه إليه مؤونة.
ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " ان المسافر وماله على قلت الا ما وقى الله " يعنى على خطر، وهو لا يجوز أن يخاطر بالمال، ولانه مؤتمن فلم يجز أن يسافر بالمال كالوكيل، ولان كل سفر منع منه الوكيل منع منه العامل، كالسفر البعيد.
(فرع)
قال الشافعي: فإن قارض العامل بالملك آخر من غير اذن صاحبه فهو ضامن، فإن ربح به صاحب المال شطر الربح ثم يكون للذى عمل شطره مما قى(14/373)
قال المزني: هذا قوله في القديم وأصل قوله الجديد المعروف أن كل عقد فاسد لا يجوز.
قال المزني: فإن اشترى بعين المال فهو فاسد، وإن اشترى بغير العين جائز والربح للعامل الاول وعليه الضمان، وللعامل الثاني أجرة مثله في قياس قوله.
وقال الماوردى: إن العامل في القراض ممنوع أن يقارض غيره بمال القراض ما لم يأذن له رب المال به إذنا صحيحا صريحا.
وقال أبو حنيفة: إن قال له رب المال عند دفعه له: اعمل فيه برأيك جاز أن يدفع منه قراضا إلى غيره لانه مفوض إلى رأيه فجاز أن يقارض لانه من رأيه.
وهذا خطأ لان قوله: اعمل فيه برأيك يقتضى أن يكون عمله فيه موكولا إلى رأيه، فإذا قارض به كان
العمل لغيره ولانه لو قارض بجميع المال لم يجز، وإن كان ذلك من رأيه لعدوله بذلك عن عمله إلى عمل غيره، فكذلك إذا قارض ببعضه، فإذا تقرر أنه لا يجوز أن يقارض غيره بالمال الا بإذن صريح من رب المال فلا يخلو رب المال من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يأذن له في العمل بنفسه ولا يأذن له في مقارضة غيره
(والثانى)
أن يأذن له في مقارضة غيره فأما القسم الاول فإن قارض غيره بالمال فقد تعدى وصار ضامنا للمال بعدوانه كالغاصب فيكون ربحه حكمه حكم الغاصب.
ولمن يكون الربح؟ على قولين: أحدهما وهو القديم أن ربح المغصوب لرب المال، فعلى هذا قال المزني ههنا ان لرب المال نصف الربح والنصف الآخر بين العاملين الاول والثانى فاختلف أصحابنا في ذلك، فكان أبو العباس بن سريج يقول: يجب أن يكون على هذا القول جميع الربح لرب المال، لانه ربح مال مغصوب فأشبه المغصوب من غير مقارضه، فإذا أخذ رب المال ماله وربحه كله رجع العامل الثاني على العامل الاول بأجرة مثله لانه هو المستهلك لعمله والضامن له بقراضه، فلو تلف المال في يد العامل الثاني كان رب المال بالخيار في الرجوع برأس ماله وربحه على من شاء منهما، لان الاول ضامن بعدوانه والثانى ضامن بيده، فإن أغرم الاول لم يرجع على الثاني بشئ لانه أمينه فيما غرمه.
وان أغرم الثاني رجع على الاول بما غرمه مع أجرة مثل عمله، ولا يلزم رب المال - وان(14/374)
أخذ جميع الربح - أن يدفع إلى واحد من العاملين أجرة المثل لاجراء حكم الغصب عليهما بالمخالفة.
وذهب أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هريرة وجمهور أصحابنا إلى أن ما رواه المزني على هذا القول صحيح، وأن رب المال ليس له من الربح الا نصفه
خلاف المأخوذ غصبا محضا، لاب رب المال في هذا الموضع دفع المال راضيا بالنصف من ربحه وجاعلا نصفه الباقي لغيره، فلذلك لم يستحق منه الا النصف.
فأما النصف الثاني فقد روى المزني أنه يكون بين العاملين، فاختلف أصحابنا على وجهين.
(أحدهما)
وهو قول أبى اسحاق المروزى أن هذا خطأ من المزني في نقله، ويجب أن يكون النصف الباقي من الربح للعامل الاول ولا حق فيه للثاني لفساد عقده، ويرجع على الاول بأجرة مثل عمله، فجعل الربح بين رب المال والعامل الاول، ويجعل للثاني أن يرجع بأجرة مثله على الاول.
والوجه الثاني وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن نقل المزني صحيح ويكون النصف الباقي من الربح بين العاملين نصفين على شرطهما، لانه لما جرى على العامل الاول حكم القراض مع رب المال جرى على العامل الاول حكم القراض مع العامل الثاني، فهذا حكم قوله الجديد.
(والثانى)
وهو قوله في الجديد: ان ربح المال المغصوب للغاصب، فعلى هذا لا شئ لرب المال في الربح وله مطالبة أي العاملين شاء برأس ماله، لان الاول ضامن بعدوانه والثانى ضامن بيده.
وقال أبو حنيفة: ان الربح للغاصب دون المغصوب لان كل نماء حدث عن سبب كان ملك النماء لمالك السبب، وربح المال المغصوب ناتج عن التقلب والعمل دون المال فاقتضى أن يكون ملكا لمن له العمل دون من له المال، وهذه هي النظرية الحديثة المعاصرة التى تقول بأن فائض القيمة ناتج عن عمل العامل وأما الثالث وهو أن يأذن له في مقارضة غيره ولا يأذن له في العمل بنفسه فهو وكيل في عقد القراض مع غيره، فلم يجز أن يقارض نفسه كوكيل البيع لا يجوز له أن يبايع نفسه.
ثم ينظر فإن كان رب المال قد عين له من يقارضه لم(14/375)
يجز أن يعدل عنه إلى غيره وإن لم يعينه له اجتهد رأيه فيمن يراه أهلا لقراضه من ذوى الامانة والخبرة، فإن قارض أمينا غير خبير بالتجارة لم يجز، وإن قارض خبيرا بالتجارة غير أمين لم يجز حتى يجتمع الشرطان، فإن عدل عن ذلك كان ضامنا.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
ولا يتجر العامل إلا فيما أذن فيه رب المال فان أذن له في صنف لم يتجر في غيره، لان تصرفه بالاذن فلم يملك ما لم يأذن له فيه، فإن قال له اتجر في البز جاز أن يتجر في أصناف البز من المنسوج من القطن والابريسم والكتان وما يلبس من الاصواف، لان اسم البز يقع على ذلك كله، ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش لانه لا يطلق عليه اسم البز.
وهل يجوز أن يتجر في الاكسية البركانية؟ فيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه يلبس فأشبه الثياب
(والثانى)
لا يجوز لانه لا يطلق عليه اسم البز.
ولهذا لا يقال لبائعه بزاز، وإنما يقال له كسائي، ولو أذن له في التجارة في الطعام لم يجز أن يتجر في الدقيق ولا في الشعير، لان الطعام لا يطلق إلا على الحنطة.
(فصل)
ولا يشترى العامل بأكثر من رأس المال، لان الاذن لم يتناول غير رأس المال، فإن كان رأس المال ألفا فاشترى عبدا بألف، ثم اشترى آخر بألف قبل أن ينقد الثمن في البيع الاول فالاول للقراض لانه اشتراه بالاذن.
وأما الثاني فينظر فيه فان اشتراه بعين الالف فالشراء باطل، لانه اشتراه بمال استحق تسليمه في البيع الاول فلم يصح، وإن اشتراه بألف في الذمة كان العبد له ويلزمه الثمن في ماله لانه اشترى في الذمة لغيره ما لم يأذن فيه فوقع الشراء له
(فصل)
ولا يتجر إلا على النظر والاحتياط فلا يبيع بدون ثمن المثل ولا بثمن مؤجل لانه وكيل فلا يتصرف الا على النظر والاحتياط، وإن اشترى معيبا رأى شراءه جاز لان المقصود طلب الحظ وقد يكون الربح في المعيب، وان(14/376)
اشترى شيئا على أنه سليم فوجده معيبا جاز له الرد، لانه فوض إليه النظر والاجتهاد فملك الرد
(فصل)
وان اختلفا فدعا أحدهما إلى الرد والآخر إلى الامساك فعل ما فيه النظر لان المقصود طلب الحظ لهما، فإذا اختلفا حمل الامر على ما فيه الحظ.
(فصل)
وان اشترى من يعتق على رب المال بغير إذنه لم يلزم رب المال لان القصد بالقراض شراء ما يربح فيه وذلك لا يوجد في شراء من يعتق عليه وإن كان رب المال امرأة فاشترى العامل زوجها بغير اذنها ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يلزمها لان المقصود شراء ما تنتفع به وشراء الزوج تستضر به لان النكاح ينفسخ وتسقط نفقتها واستمتاعها
(والثانى)
يلزمها لان المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه والزوج كغيره في الربح فلزمها شراؤه
(فصل)
ولا يسافر بالمال من غير اذن رب المال لانه مأمور بالنظر والاحتياط، وليس في السفر احتياط، لان فيه تغريرا بالمال، ولهذا يروى أن المسافر ومتاعه لعلى قلت، فان أذن له في السفر فقد قال في موضع له أن ينفق من مال القراض، وقال في موضع آخر لا نفقة له، فمن أصحابنا من قال لا نفقة له قولا واحدا لان نفقته على نفسه فلم تلزم من مال القراض كنفقة الاقامة، وتأول قوله على ما يحتاج إليه لنقل المتاع وما يحتاج إليه مال القراض.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
لَا ينفق لما ذكرناه
(والثانى)
ينفق لان سفره لاجل المال فكان
نفقته منه كأجرة الحمال.
فإن قلنا ينفق من مال القراض ففى قدره وجهان
(أحدهما)
جميع ما يحتاج إليه، لان من لزمه نفقة غيره لزمه جميع نفقته
(والثانى)
ما يزيد عل؟ نفقة الحضر لان النفقة انما لزمته لاجل السفر فلم يلزمه الا ما زاد بالسفر
(فصل)
وإن ظهر في المال ربح ففيه قولان
(أحدهما)
أن الجميع لرب المال فلا يملك العامل حصته من الربح إلا بالقسمة لانه لو ملك حصته من الربح لصار شريكا لرب المال حتى إذا هلك شئ كان هالكا من المالين، فلما لم يجعل التالف من المالين دل على أنه لم يملك منه شيئا
(والثانى)
أن العامل يملك حصته من(14/377)
الربح لانه أحد المتقارضين فملك حصته من الربح بالظهور كرب المال.
(فصل)
وإن طلب أحد المتقارضين قسمة الربح قبل المفاصلة فامتنع الآخر لم يجبر لانه إن امتنع رب المال لم يجز إجباره لانه يقول الربح وقاية لرأس المال فلا أعطيك حتى تسلم لى رأس المال، وإن كان الذى امتنع هو العامل لم يجز إجباره لانه يقول لا نأمن أن نخسر فنحتاج أن نرد ما أخذه، وإن تقاسما جاز لان المنع لحقهما وقد رضيا، فإن حصل بعد القسمة خسران لزم العامل أن يجبره بما أخذ لانه لا يستحق الربح إلا بعد تسليمه رأس المال
(فصل)
وإن اشترى العامل من يعتق عليه فإن لم يكن في المال ربح لزم الشراء في مال القراض لانه لا ضرر فيه على رب المال، فإن ظهر بعد ما اشتراه ربح، فإن قلنا انه لا يملك حصته قبل القسمة لم يعتق، وإن قلنا إنه يملك بالظهور فهل يعتق بقدر حصته؟ فيه وجهان
(أحدهما)
إنه يعتق منه بقدر حصته لانه ملكه فعتق.
(والثانى)
لا يعتق لان ملكه غير مستقر، لانه ربما تلف بعض المال فلزمه
جبرانه بماله، وإن اشترى وفى المال ربح، فان قلنا إنه لا يعتق عليه صح الشراء لانه لا ضرر فيه على رب المال، وإن قلنا يعتق لم يصح الشراء لان المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه، وهذا لا يوجد فيمن يعتق عليه.
(الشرح) قد ذكرنا أن القراض خاص وعام، فأما العام فهو أن يطلق تصرف العامل في كل ما يرجو فيه ربحا، فهذا جائز على عموم التصرف، وأما الخاص فهو أن يختص بالعامل على نوح واحد فهو على ثلاثة أضرب: (أحدها) ما يوجد في عموم الاحوال كالحنطة والبر فيجوز، ويكون مقصور التصرف على النوع الذى أذن فيه، فلو أذن له أن يتجر في البز جاز له أن يتجر في صنوف البز كلها وجاز أن يتجر في القطن والكتان والحرير والصوف ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش.
وهل يجوز أن يتجر في الثياب والاكسية أم لا؟ على وجهين:
(أحدهما)
يجوز لانها ملبوسة
(والثانى)
لا يجوز لخروجها عن اسم البز(14/378)
فلو أذن له أن يتجر في الطعام اقتصر على الحنطة وحدها دون الدقيق.
وقال محمد بن الحسن: يجوز أن يتجر في الحنطة والدقيق، وعندي أن تصنيف السلع يمكن أن تقوم على ما جرى العرف بتناسقه وانسجامه واعتبار التاجر فيه جامعا لما يندرج تحته بالعرف لمفردات المجموعة من الاصناف المتشابهة التى يتجر فيها فلو أذن له في البقالة اندرج تحت هذا الاسم أنواع الجبن والزيتون والمعلبات والصابون والمأكولات المجففة.
وإذا أذن له في الخردوات (البازار) اندرج تحت هذا الاسم مجموعة من الاصناف كالخيوط والاشرطة والعطور وما أشبه ذلك.
وهكذا في كل مجموعة من السلع المتشابهة يطلق على من يتجر فيها اسم عند ما يسمعه المرء مثلت للذهن
أصناف متجره بغير عناء.
فإذا أذن له في فتح محل حاتى فلا يفتح مسمطا ولا فوالا ولا طباخا، وان كانت كلها مأكولات، ولكن العرف حدد لكل نوع منها اسمه الذى لا يختلط بغيره وهكذا.
فإذا أذن له في أن يتجر فيما ندر وجوده وعز مطلبه، كالياقوت الاحمر والخيل البلق والعبيد الخصيان فالقراض باطل سواء وجده أو لم يجده لانه على غير ثقة من وجوده.
فإذا أذن له أن يتجر في ثمار موسمية كالثمار والفواكه فينظر في عقد القراض، فان كان في غير أوان تلك الثمار فالقراض باطل، فان جاءت تلك الثمار من بعد لم يصح القراض بعد فساده، وان كان ذلك في أوان الثمار وإبانها فالقراض جائز ما كانت تلك الثمار باقية، فان انقطعت ففى القراض وجهان
(أحدهما)
قد بطل بانقطاعها، وليس له في العام المقبل أن يتجر فيها الا باذن وعقد مستجد.
والوجه الثاني: أن القراض على حاله ما لم يصرح بفسخه في كل عام أتت فيه تلك الثمرة فيتجر فيها بالعقد الاول.
أما إذا كان انقطاعه في العام قليلا فالقراض على وجهه وحاله.(14/379)
(فرع)
إذا تقرر أنه لا يشترى إلا في حدود رأس المال المأذون فيه كان ممنوعا من البيع والشراء نسيئة، فإذا عاقد بالنساء فذلك نوعان بيع وشراء فالشراء ضربان.
(أحدهما)
أن يشترى بالنساء في مال القراض فيكون الشراء باطلا.
(والثانى)
أن يشترى بالنساء في ذمته فيكون الشراء لازما له، وأما البيع فباطل ولا ضمان عليه ما لم يقبضه فإن قبضه ضمنه حينئذ بالاقباض، وعليه
استرجاعه ما كان باقيا، فإن تلف فلرب المال أن يأخذ بضمانه وغرمه من شاء من العامل أو المشترى، فإن أغرم العامل رجع بما غرمه على المشترى، وإن أغرم المشترى لم يرجع على العامل لان الغرم ثبت على من كان في يده التلف.
فلو قال رب المال للعامل: اعمل في القراض برأيك لم يجز أن يعاقد بالنساء وإذا قارضه على غير مال ليشترى بالنساء فإن القراض باطل لانه يصح في الاعيان ولا يصح في الذمم، ولو قارضه على مال فأذن له في الشراء بالنساء لم يكن للعامل أن يشترى نساء بأكثر من مال القراض قدرا لان ما زاد عليه خارج منه.
(فرع)
لا يجوز له أن يبيع بأقل من ثمن المثل إلا إذا كان عن رغبة في تأليف المبتاعين وترويج السلعة والقناعة بالقليل من الربح ما دام يتصرف على النظر والاحتياط وتوخى ما فيه الحظ له ولصاحبه بشرط أن لا يكون كثيرا لا يتغابن الناس بمثله.
(فرع)
قال الشافعي: ومتى شاء رب المال أخذ ماله قبل العمل وبعده ومتى شاء العامل أن يخرج من القراض يخرج منه، وقد سبق أن قررنا أن عقد القراض عقد جواز وليس عقد لزوم فلكل واحد من رب المال والعامل أن ينفرد بالفسخ قبل العمل وبعده مع وجود الربح أو حدوث الخسران، فإذا فسخها أحدهما انفسخت فصار كاجتماعهما على قسمها، فإذا كان المال من جنس رأس المال فالعامل ممنوع من التصرف فيه ببيع أو شراء سواء كان هو الفاسخ أو صاحبه، ثم نظر فان كان فيه فضل تقاسماه على شرطهما، وإن لم يكن فيه فضل أو كان فيه خسران أخذه رب المال ولا شئ فيه للعامل، وإن كان من غير جنس رأس المال فحكم(14/380)
هذا كحكمه لو كان عرضا، ولهما في العرض بعد فسخ القراض أربعة أحوال.
(ا) أن يجتمعا على بيعه فيلزم العامل أن يبيعه لانه من لوازم عقده فإذا قضى
ثمنه أخذ رب المال ماله فضلا إن كان فيه.
(ب) أن يتفقا على ترك بيعه فهذا على نوعين: أحدهما: لا يكون في ثمنه - لو بيع - فضل، فقد سقط حق العامل منه فصار العرض ملكا لرب المال بزيادته ونقصه، فان زاد ثمنه بعد ترك العامل له لم يكن له حق في زيادته لخروجه بالترك عن قراضه.
والنوع الثاني: أن يكون في ثمنه فضل لو بيع عند تركه نظر في ترك العامل فان كان قد تركه إسقاطا لحقه فقد صار العرض بزيادته ونقصه ملكا لرب المال ولا شئ للعامل فيه، وإن كان قد ترك تأخير البيع فهو على حقه من فضل ثمنه وله بيعه متى شاء.
(ج) أن يدعو العامل إلى بيعه ويمنعه رب المال منه فهذا على ضربين.
أحدهما: أن لا يرجو في ثمنه فضلا، ولا يأمل ربحا فليس له بيعه، ويمنع منه لانه لا يستفيد ببيعه شيئا.
والضرب الثاني: أن يرجو في ثمنه فضلا ويأمل ربحا فله بيعه وليس لرب المال أن يمنعه ليصل بالبيع إلى حقه من الربح، فلو بذل له رب المال حصته من ربحه ففى منعه من بيعه وجهان مخرجان من اختلاف قولين في سيد العبد الجاني إذا امتنع المجني عليه من بيعه وبذل له قدر قيمته.
(أحدهما)
يمنع المجني عليه من بيعه لوصوله إلى قيمته ويمنع العامل من بيع العرض لوصوله إلى حقه.
(والقول الثاني) أن المجني عليه لا يمنع من بيع الجاني، وكذلك لا يمنع العامل من بيع القراض لانه قد يرجو زيادة على القيمة لوجود راغب.
(د) أن يدعو رب المال إلى بيعه ويمتنع العامل منه، فان كان امتناعه تركا لحقه منه ففى إجباره على بيعه وجهان، أحدهما: لا يجبر عليه لان البيع والشراء
انما يلزم في حقيهما وببطلان القراض قد سقط أن يكون ذلك حقا لهما.(14/381)
والثانى: أن يجبر على بيعه، لان رأس المال مستحق عليه وليس العرض هو رأس المال وانما هو بدل عنه.
(فرع)
سبق أن قررنا أنه لا يجوز له أن يسافر بغير إذن رب المال وأوضحنا من النفقات ما يؤخذ من القراض بالمعروف كنفقة الاقارب أو مقدرة كنفقة الزوجة، وقال أبو حنيفة: له في نفقته أجرة حمامه وعلاجه وطبيبه وما يباج من شهواته، وهذا غير صحيح من وجهين.
(أحدهما)
أن نفقات الزوجات أوكد من نفقات العامل ومع ذلك ليس فيها شئ من ذلك.
(والثانى)
أن ذلك مما لا يختص بالسفر ولا بعمله، على أن من أصحابنا من جعل له نفقة السفر ما زاد على نفقة الحضر، وحكاه أبو على بن أبى هريرة عن بعض متقدميهم وهو أشبه بالقياس، فان دخل في سفره بيتا فله النفقة ما أقام فيه مقام المسافر ما لم يتجاوز أربعا فإن زاد على إقامة أكثر من أربع نظر، فان كان بغير مال القراض من مرض طرأ أو عارض يختص به فنفقته في ماله دون القراض وإن كان مقامه لاجل مال القراض انتظارا لبيعه وقبض ثمنه أو التماسا لحمله أو لسبب يتعلق به فنفقته في سفره لاختصاصه بالقراض.
قال الشافعي: وإن خرج بمال لنفسه كانت النفقة على قدر المالين بالحصص، ويستفاد من ذلك أنه يصح أن يسافر بمال نفسه مع مال القراض، ومنعه بعض العراقيين لان عمله مستحق في مال القراض فصار كالاجير، وقد خطأ بعض أصحابنا هذا لانه إذا كان له أن يعمل في ماله ومال القراض حضرا جاز له ذلك سفرا ولان عمله في القراض لا يمنعه من العمل في جميع الاعمال ما دام يؤدى ما لزمه من
عمل القراض وسواء فيما لسواه ممسكا أو عاملا فلو شرطه في العقد أن لا يسافر بمال لنفسه بطل القراض لانه قد أوقع عليه حجرا غير مستحق، والمطلوب منه أن لا يخلط ماله بمال القراض، وعليه تمييز كل واحد من المالين، فان خلطهما فعلى ضربين.
(أحدهما)
أن يكون باذن رب المال فيجوز ويصير شريكا ومضاربا، ومؤونة(14/382)
المال مقسطة على قدر المالين، ونفقة نفسه إن قيل: إنها لا تجب في مال القراض فهو مختص بها، وإن قيل انها تجب في مال القراض فهى مقسطة على قدر المالين
(والثانى)
أن يخلط المالين بغير إذن رب المال فيبطل القراض لانه يصير كالعادل به عن حكمه فيلتزم نفقة نفسه، وتكون نفقة المالين بقدر الحصص وربح مال القراض كله لرب المال لفساد القراض وللعامل أجرة المثل بحيث لا يوجب له أجرة كاملة لان عمله قد توزع على ماله ومال القراض (فرع)
إذا أبضع رب المال عامله في مال القراض بضاعة - أي أعطاه قطعة من المال يتجر فيها لنفسه - يختص بربحها جاز إن كان من غير شرط في القراض ولم يجز ان كان عن شرط وخالف مالك (فرع)
إذا ادعى ظهور الربح في المال وطالب بالقسمة لم يجبر المالك ما لم يعترف بظهور الربح أو يتحاسبان فيظهر له الربح، ولا يلزم رب المال أن يحاسبه إلا بعد حضور المال لانه قد لا يصدق فيما يخبر به من وفوره أو سلامته فإذا حضر المال وتحاسبا فوجدا رأس المال ناقصا ترادا الربح ليستكمل رأس المال، ولو رضى رب المال والعامل بالمحاسبة عليه مع غيبة المال عنهما ففى جوازه وجهان:
(أحدهما)
يجوز لانه احتياط لهما تركاه
(والثانى)
لا يجوز.
وقد ذكره الشافعي في موضع لانهما يتحاسبان على جهالة والله أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
والعامل أمين فيما في يده فان تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن لانه نائب عن رب المال في التصرف فلم يضمن من غير تفريط كالمودع، فان دفع إليه ألفا فاشترى عبدا في الذمة ثم تلف الالف قبل أن ينقده في ثمن العبد انفسخ القراض لانه تلف رأس المال بعينه.
وفى الثمن وجهان:
(أحدهما)
أنه على رب المال لانه اشتراه له فكان الثمن عليه، كما لو اشترى الوكيل في الذمة ما وكل في شرائه فتلف الثمن في يده قبل أن ينقده.
(والثانى)
أن الثمن على العامل، لان رب المال لم يأذن له في التجارة إلا في رأس المال فلم يلزمه ما زاد.(14/383)
وان دفع إليه ألفين فاشترى بهما عبدين ثم تلف أحدهما ففيه وجهان: أحدهما: يتلف من رأس المال وينفسخ فيه القراض لانه بدل عن رأس المال فكان هلاكه كهلاكه.
والثانى: أنه يتلف من الربح لانه تصرف في المال فكان في القراض، وان قارضه رجلان على مالين، فاشترى لكل واحد منهما جارية ثم أشكلتا عليه ففيه قولان " أحدهما " تباعان فان لم يكن فيهما ربح قسم بين ربى المال، وإن كان فيهما ربح شاركهما العامل في الربح، وان كان فيهما خسران ضمن العامل ذلك لانه حصل بتفريطه، والقول الثاني أن الجاريتين للعامل ويلزمه قيمتهما، لانه تعذر ردهما بتفريطه فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما
(فصل)
ويجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء لانه تصرف في مال الغير باذنه فملك كل واحد منهما فسخه كالوديعة والوكالة، فان فسخ العقد والمال من غير جنس رأس المال وتقاسماه جاز.
وإن باعاه جاز لان الحق لهما، وان
طلب العامل البيع وامتنع رب المال أجبر، لان حق العامل في الربح، وذلك لا يحصل الا بالبيع فان قال رب المال أنا أعطيك مالك فيه من الربح وامتنع العامل، فان قلنا انه ملك حصته من الربح بالظهور لم يجبر على أخذه، كما لو كان بينهما مال مشترك وبذل أحدهما للآخر عوض حقه.
وان قلنا لا يملك ففيه وجهان بناء على القولين في العبد الجاني إذا امتنع المولى عن بيعه وضمن للمجني عليه قيمته " أحدهما " لا يجبر على بيعه لان البيع لحقه وقد بذل له حقه " والثانى " أنه يجبر لانه ربما زاد مزايد ورغب راغب فزاد في قيمته.
وان طلب رب المال البيع وامتنع العامل أجبر على بيعه لانه حق رب المال في رأس المال ولا يحصل ذلك الا بالبيع، فان قال العامل أنا أترك حقى ولا أبيع فان قلنا ان العامل يملك حصته بالظهور لم يقبل منه، لانه يريد أن يهب حقه وقبول الهبات لا يجب.
وان قلنا انه لا يملك بالظهور ففيه وجهان: " أحدهما " لا يجبر على بيعه لان البيع لحقه وقد تركه فسقط " والثانى " يجبر لان البيع لحقه ولحق رب المال في رأس ماله، فإذا رضى(14/384)
بترك حقه لم يرض رب المال بترك رأس ماله، وإن فسخ العقد وهناك دين وجب على العامل أن يتقاضاه لانه دخل في العقد على أن يرد رأس المال فوجب أن يتقاضاه ليرده.
(فصل)
وإن مات أحدهما أو جن انفسخ لانه عقد جائز فبطل بالموت والجنون كالوديعة والوكالة.
وإن مات رب المال أو جن وأراد الوارث أو الولى أن يعقد القراض والمال عرض، فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق يجوز لانه ليس بابتداء قراض، وإنما هو بناء على مال القراض فجاز.
ومنهم
من قال لا يجوز وهو الصحيح لان القراض قد بطل بالموت وهذا ابتداء قراض على عرض فلم يجز.
(فصل)
وإن قارض في مرضه على ربح أكثر من أجرة المثل ومات اعتبر الربح من رأس المال، لان الذى يعتبر من الثلث ما يخرجه من ماله والربح ليس من ماله، وإنما يحصل بكسب العامل فلم يعتبر من الثلث، وإن مات وعليه دين قدم العامل على الغرماء لان حقه يتعلق بعين المال فقدم على الغرماء
(فصل)
وإن قارض قراضا فاسدا وتصرف العامل نفذ تصرفه لان العقد بطل وبقى الاذن فملك به التصرف، فان حصل في المال ربح لم يستحق العامل منه شيئا لان الربح يستحقه بالقراض وقد بطل القراض.
فأما أجرة المثل فإنه ينظر فيه فان لم يرض إلا بربح استحق لانه لم يرض أن يعمل إلا بعوض، فإذا لم يسلم له رجع إلى أجرة المثل، وان رضى من غير ربح بأن قارضه على أن الربح كله لرب المال ففى الاجرة وجهان
(أحدهما)
لا يستحق وهو قول المزني لانه رضى أن يعمل من غير عوض فصار كالمتطوع بالعمل من غير قراض
(والثانى)
أنه يستحق وهو قول أبى العباس لان العمل في القراض يقتضى العوض فلا يسقط بإسقاطه كالوطئ في النكاح.
وإن كان له على رجل دين فقال اقبض مالى عليك فعزل الرجل ذلك وقارضه عليه لم يصح القراض، لان قبضه له من نفسه لا يصح، فإذا قارضه عليه فقد(14/385)
قارضه على مال لا يملكه فلم يصح، فإن اشترى العامل شيئا في الذمة ونقد في ثمنه ما عزله لرب المال وربح ففيه وجهان
(أحدهما)
أن ما اشتراه مع الربح لرب المال لانه اشتراه له بإذنه ونقد فيه
الثمن باذنه وبرئت ذمته من الدين، لانه سلمه إلى من اشترى منه باذنه ويرجع العامل بأجرة المثل لانه عمل ليسلم له الربح ولم يسلم فرجع إلى أجرة عمله.
(والثانى)
أن الذى اشتراه مع الربح له لا حق لرب المال فيه، لان رب المال عقد القراض على مال لا يملكه فلم يقع الشراء له
(فصل)
وان اختلف العامل ورب المال في تلف المال، فادعاه العامل وأنكره رب المال، أو في الخيانة فادعاها رب المال وأنكر العامل فالقول قول العامل لانه أمين والاصل عدم الخيانة فكان القول قوله كالمودع
(فصل)
فان اختلفا في رد المال فادعاه العامل وأنكره رب المال ففيه وجهان: " أحدهما " لا يقبل قوله لانه قبض العين لمنفعته فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير " والثانى " يقبل قوله لان معظم منفعته لرب المال، لان الجميع له إلا السهم الذى جعله للعامل فقبل قوله عليه في الرد كالمودع
(فصل)
فان اختلفا في قدر الربح المشروط فادعى العامل انه النصف وادعى رب المال انه الثلث تحالفا، لانهما اختلفا في عوض مشروط في العقد فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن، فان حلفا صار الربح كله لرب المال ويرجع العامل بأجرة المثل لانه لم يسلم له المسمى فرجع ببدل علمه
(فصل)
وان اختلفا في قدر رأس المال، فقال رب المال ألفان، وقال العامل ألف فان لم يكن في المال ربح فالقول قول العامل لان الاصل عدم القبض فلا يلزمه إلا ما أقر به، وان كان في المال ربح ففيه وجهان(14/386)
أحدهما: أن القول قول العامل لما ذكرناه.
والثانى: أنهما يتحالفان لانهما اختلفا فيما يستحقان من الربح فتحالفا كما لو اختلفا في قدر الربح المشروط، والصحيح هو الاول لان الاختلاف في الربح المشروط اختلاف في صفة العقد فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن وهذا اختلاف فيما قبض فكان الظاهر مع الذى ينكر كالمتبايعين إذا اختلفا في قبض الثمن فان القول قول البائع.
(فصل)
وإن كان في المال عبد فقال رب المال اشتريته للقراض، وقال العامل اشتريته لنفسي أو قال رب المال اشتريته لنفسك، وقال العامل اشتريته للقراض فالقول قول العامل لانه قد يشترى لنفسه وقد يشتريه للقراض ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالنية فوجب الرجوع إليه، فان أقام رب المال البينة انه اشتراه بمال القراض ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه يحكم بالبينة لانه لا يشترى بمال القراض الا للقراض.
(والثانى)
أنه لا يحكم بها لانه يجوز أن يشترى لنفسه بمال القراض على وجه التعدي فلا يكون للقراض لبطلان البيع.
(فصل)
وان كان في يده عبد فقال رب المال كنت نهيتك عن شرائه وأنكر العامل فالقول قول العامل لان الاصل عدم النهى ولان هذا دعوى خيانة والعامل أمين فكان القول فيهما قوله.
(فصل)
وإن قال ربحت في المال ألفا ثم ادعى أنه غلط فيه أو أظهر ذلك خوفا من نزع المال من يده لم يقبل قوله لان هذا رجوع عن الاقرار بالمال لغيره فلم يقبل كما لو أقر لرجل بمال ثم ادعى أنه غلط، فان قال قد كان فيه ربح ولكنه هلك قبل قوله لان دعوى التلف بعد الاقرار لا تكذب اقراره فقيل.
(الشرح) سبق أن قررنا أن القراض عقد معونة وارفاق يجوز بين المتعاقدين ما أقاما عليه مختارين وليس بلازم لهما، ويجوز فسخه لمن شاء منهما، فهو عقد
ائتمان كالوديعة والعارية، فإذا تلف في يده فعلى تفصيل نضرب له مثلا تجتمع فيه(14/387)
صور المسألة: رب مال دفع ألفى دينار قراضا فتلف أحد الالفين في يد العامل وبقى ألف، فلا يخلو حال تلفها من ثلاثة أقسام.
(أحدها) أن يكون تلفها قبل ابتياع العامل لهما فهذا يكون رأس المال فيه الالف الباقية ولا يلزم العامل أن يجبر بالربح الالف التالفة لانها بالتلف قبل التصرف قد خرجت عن أن تكون قراضا.
(والقسم الثاني) أن يكون تلفها بعد أن اشترى بها وباع ثم تلفت الالف من ثمن ما باع فيكون رأس المال كلا الالفين ويلزم العامل أن يجبر بالربح الالف التالفة لانها بالتصرف الكامل قد صارت قراضا.
(القسم الثالث) أن يكون تلفها بعد أن اشترى بها عرضا وتلف العرض قبل بيعه ففيه وجهان.
أحدهما: أنها قراض لتلفها بعد التصرف بها في الابتياع فعلى هذا يكون رأس المال الفى دينار، وعلى العامل أن يجبر بالربح الالف التالفة لانها قد صارت قراضا.
(والوجه الثاني) أن الالف التالفة لا تصير قراضا لتلفها قبل كمال التصرف ببيع ما اشترى بها فعلى هذا يكون رأس المال ألفى درهم ولا يلزم العامل أن يجبر بالربح الالف التالفة لانها لم تصر قراضا.
فإذا دفع رب المال ألف درهم قراضا فاشترى العامل بها عرضا ثم تلفت الالف قبل دفعها في ثمن العرض فلا يخلو حال الشراء من أمرين
(أحدهما)
أن يكون قد تعين الالف فيكون الشراء باطلا، لان تلف الثمن المعين قبل القبض موجب لبطلان البيع، فعلى هذا قد بطل القراض ويسترجع البائع عرضه
(والثانى)
أن يكون الشراء في ذمة العامل ولم يعقده على عين الالف ففى الشراء وجهان.
(أحدهما)
يكون للعامل لانه لم يبق بيده من مال القراض ما يكون الشراء مصروفا إليه، وهذا على الوجه الذى يقول فيه الشافعي: ان ما تلف بعد الشراء وقبل البيع خارج من القراض.
(والوجه الثاني) أن الشراء يكون في القراض لانه معقود له، وهذا على الوجه الذى يقول فيه الشافعي: ان ما تلف بعد الشراء وقبل البيع داخل في(14/388)
القراض، فعلى هذا يجب على رب المال أن يدفع ألفا ثانية، تصرف في ثمن العرض، يصير رأس المال ألفى دينار، وعلى العامل أن يجبر بالربح الالف التالفة فلو تلفت الالف الثانية قبل دفعها في ثمن العرض لزم رب المال أن يدفع ألفا ثالثة، ويصير رأس المال ثلاثة آلاف دينار، وعلى العامل أن يجبر بالربح كلا الالفين التالفتين.
فإذا دفع ألفا قراضا فعمل بها العامل وخسر مائة وأخذ منها رب المال مائة ثم عمل العامل بالباقي فصارت ألفا وخمسمائة وأرادا أن يعرفا قدر رأس المال ليقتسما الربح، فوجه العمل فيه أن يقال لما خسر في الالف مائة لزم تقسيطها على التسعمائة فيكون قسط كل مائة دينار أحد عشر دينارا وتسع، وهو القدر المسترجع من الالف ويبقى رأس المال ثمانمائة وثمانية وثمانين وثمانية أتساع دينار فلو كان قد خسر العامل مائتي دينار واسترجع رب المال مائة صار رأس المال ثمانمائة وخمسة وسبعين لان قسط كل مائة من الخسران خمسة وعشرون ثم على هذا القياس.
(فرع)
قال الشافعي: وإن مات رب المال صار لوارثه فإن رضى ترك المقارض على قراضه وإلا فقد انفسخ قراضه، وإن مات العامل لم يكن لوارثه أن يعمل مكانه
وهذا كما قال: عقد القراض يبطل بموت كل واحد من رب المال والعامل لان العقود الجائزة دون اللازمة تبطل بموت عاقدها وهما في العقد سواء، لانه تم بهما وهو غير لازم، فإذا بطل بموت كل واحد منهما لم يخل أن يكون الميت هو رب المال أو العامل، فان كان الميت منهما هو رب المال لم يخل أن يكون المال ناضا أو عرضا، فان كان ناضا - والناض النقود - منع العامل أن يتصرف فيه ببيع أو شراء ثم لورثة رب المال أن يسترجعوا رأس المال ويقاسموا العامل على ربح إن كان، فان أدنوا له في المقام على قراض أبيهم كان ذلك عقدا مبتدأ، فلا يخلو حالهم فيه من أحد أمرين، إما أن يكونوا عالمين بقدر المال أو جاهلين به، فان(14/389)
كانوا عالمين بقدره صح القراض إن كانوا أهل رشد لا يولى عليهم ولم يتعلق بتركة ميتهم ديون ولا وصايا وإن كانوا بخلاف ذلك لم يصح إذنهم، ثم إذا صح فلا يخلو أن يكون قد حصل للعامل فيه ربح قبل موت رب المال أو لم يحصل، فان لم يحصل فكل المال الذى في يده قراض لورثة ربه، وإن كان قد حصل فيه ربح قبل موت ربه فهو شريك في المال بحصته من ربحه، ويختص بما يحصل من فضله ومضاربته فيما يبقى من الربح مع رأس المال بما شرط له من ربحه.
وإن كان الورثة جاهلين بقدر المال عند إذنهم له بالقراض ففيه وجهان مخرجان من وجهين.
(أحدهما)
أن القراض باطل لانه معقود بمال مجهول.
(والثانى)
أن القراض صحيح لانه مبتدأ لعقد صحيح، فإن كان مال القراض عند موت ربه عرضا فقد قال الماوردى: للعامل بيعه من غير استئذان الورثة، ولا يجوز ان يشترى بثمنه شيئا من غير إذن الورثة لان البيع من حقوق العقد الماضي، وليس الشراء من حقوقه إلا بعقد مستأنف، فإن أذن له الورثة في
المقام على قراض أبيهم - فإن كان بعد بيعه للعرض فقد صار الثمن ناضا - أي نقودا - فيكون كاذنهم له بالقراض والمال ناض.
وان كان قبل بيع العرض ففى جواز القراض وجهان خرج منهما الوجهان المذكوران، أحدهما وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إن القراض باطل لان عقده بالقرض باطل.
الثاني وهو قول أبى إسحاق المروزى أن القراض جائز لانه استصحاب لعقد جائز.
وإن كان الميت منهما هو العامل فليس لوارثه أن يبيع ويشترى سواء كان المال ناضا أو عرضا، والفرق بين أن يموت رب المال فيجوز للعامل أن يبيع بغير إذن الوارث وبين أن يموت العامل فلا يجوز لوارثه أن يبيع إلا باذن رب المال أن عقد القراض قد أوجب ائتمان العامل على التصرف في المال سواء كان المال لربه أو لوارثه، وما أوجب ائتمان وارث العامل في المال لا مع ربه ولا مع وارثه، وإذا كان كذلك نظر في المال، فان كان ناضا استرجع رب المال رأس ماله واقتسما(14/390)
ربحا ان كان فيه، فلو أذن رب المال لوارث العامل في المقام على القراض صح ان كانا عالمين بقدر المال.
ويبطل ان كانا جاهلين بقدره وجها واحدا.
والفرق بين هذا حيث بطل بجهالة القدر وبين أن يموت رب المال من جهة ربه والعمل من جهة العامل، فإذا مات رب المال كان المقصود من الامرين باقيا فجاز استصحاب العقد المقدم لبقاء مقصوده، ولم يبطل بحدوث الجهالة فيه، وإذا مات العامل فقد فات أخذ المقصود به فلم يكن استصحاب العقد المتقدم وكان استئنإف عقد مع وارثه فبطل بحدوث الجهالة فيه.
وان كان مال القراض عند موت العامل عرضا لم يجز لوارثه أن ينفرد ببيع العرض من غير اذن رب المال به، فإذا أذن له باعه واقتسما بعد رد رأس المال
بفضل ان كان فيه، فلو أذن رب المال لوارث العامل أن يقيم على عقد القراض كالعامل - فان كان بعد بيع العرض والعمل بثمنه - صح، وان كان العرض باقيا أو ثمنه مجهولا بطل وجها واحدا لما ذكرنا.
(فرع)
قال الشافعي: وبيع ما كان في يديه مع ما كان من ثياب أو أداة للسفر أو غير ذلك مما قل أو كثر، فان كان فيه فضل كان لوارثه وان كان خسرانا كان ذلك في المال، وهذا كقوله: وإذا بطل القراض بموت أحدهما وجب بيع كل ما كان من مال القراض من غير عرض للتجارة أو أداة للسفر.
قال الشافعي: مع ما كان من ثياب فتمسك بذلك من ذهب من أصحابنا إلى أن للعامل أن ينفق على نفسه في سفره من مال القراض، لانه لو لم يشتر ثياب سفره من مال القراض لم يجز بيعها في القراض وهو لعمري ظاهر يجوز التمسك به وقد تأوله من ذلك إلى أنه لا نفقة له على ثياب اشتراها العامل للتجارة، أو اشتراها لنفسه وهى غير مختصة بسفره، فإذا بيع جميع ما وصفنا فلا يخلو ما حصل من ثمن جميعه من ثلاثة أنواع.
1 - أن يكون بقدر رأس المال فهو لرب المال ولا حق للعامل فيه لعدم ربحه 2 - أن يكون أكثر من رأس المال فلرب المال أن يأخذ رأس ماله ثم العامل(14/391)
شريكه في الربح على مقتضى الشرط من نصف أو ثلث أو ربع، فلو تلف بعض المال بعد أن صار ناضا - نقودا - نظر فيه، فإن كانا قد عينا حق العامل منها فيه كان التالف منه تالفا بالحصص.
وإن لم يكونا قد عينا حق العامل فيه فالتالف منه تالف من الربح وحده، لان الربح قبل أن يتعين ملك للعامل مرصد لجبران رأس المال.
3 - أن يكون أقل من رأس المال، إما بخسران حصل في المال أو لحادث أتلف شيئا منه فيكون ذلك عائدا على رب المال دون العامل، لان الربح يعود عليهما والخسران مختص برب المال.
فإن قيل فهلا كان الخسران عليهما كما كان الربح لهما؟ قيل هما في الحكم سواء وإن عاد الخسران على رب المال لان الخسران يعود إليه، إلى ما تناوله عقد القراض، لانه إنما تناول عملا من جهة العامل ومالا من جهة رب المال، فعاد الخسران على العامل بذهاب عمله وعلى رب المال بذهاب ماله.
فعلى هذا لو شرطا في عقد القراض تحمل العامل الخسران كان القراض باطلا لاشتراطهما خلاف موجبه.
(فرع)
قال المزني " وإن دفع مالا قراضا في مرضه وعليه دين ثم مات بعد أن اشترى وباع وربح أخذ العامل ربحه واقتسم الغرماء ما بقى من ماله " وهذا صحيح لانه يجوز للمريض أن يدفع مالا قراضا لما فيه من تثمير ماله، وسواء قارض العامل على تساو في الربح أو تفاضل فكان أقلهما سهما أو أكثر، ويكون ما يصل إلى العامل من كثير الربح من رأس المال دون الثلث، لانه بيسير الربح واصل إلى ما لم يكن واصلا إليه لو كف عن القراض.
وهكذا الخلاف فيمن أجر دارا بأقل من أجرة المثل لانه قد كان مالكا للمنفعة، فإذا عاوض عليها في مرضه ببعض الاجرة فقد أتلف بعض ملكه فكان معتبرا في الثلث، وليس رب المال مالكا لربح المال الذى صار إلى بعضه فلذا كان من رأس المال فإذا تقرر صحة القراض من رأس المال في قليل الربح وكثيره تولى رب المال وان كان حيا محاسبة العامل واستيفاء الحقين من أصل وربح، فإن مات مفلسا وكثرت ديونه عن ماله قدم العامل بحصته من الربح على سائر الغرماء لانه إن كان(14/392)
شريكا فالشريك لا يدفعه الغرماء عن شركته، وإن كان أجيرا فحقه متعلق بعين المال كالمرتهن، والمرتهن لا يزاحمه الغرماء في رهنه.
وهكذا لو أخذ المريض مالا قراضا صح.
وإن كان بأقل السهمين من الربح وكان من رأس المال، لان قليل الربح كسب وليس بإتلاف (فرع)
قال المزني: من ذلك لو دفع إليه ألف درهم فقال: خذها فاشتر بها هرويا أو مرويا (1) بالنصف كان فاسدا لانه لم يبين، فان اشترى فجائز وله أجرة مثله، وإن باع فباطل لان البيع بغير أمره إذا دفع رب المال إلى العامل ألف درهم وقال: اشتر بها هرويا أو مرويا كان فاسدا باتفاق أصحابنا، وانما اختلفوا في علة فساده على ثلاثة أوجه: أحدها: أن علته أنه قال: فاشتر بها هرويا أو مرويا فلم يبين أحد النوعين من المروى والهروى ولا جمع بينهما فجعله مشكلا، والقراض انما يصح بأن يعم جميع الاجناس أو يعين أحد الاجناس وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هريرة أن علة فساده أنه قال بالنصف ولم يبين النصف هل يكون لرب المال أو للعامل.
قال واشتراطه نصف الربح للعامل غير مبطل له فصار لنفسه مبطلا للقراض ما لم يبين نصيب العامل، واشتراطه نصف الربح للعامل غير مبطل للقراض، فصار القراض بهذا القول مترددا بين الصحة والفساد فبطل والثالث: وهو اختيار أبى إسحاق المروزى: أنه بطل بقوله فاشترى ولم يقل وبع، والقراض انما يصح بالشراء والبيع فلذلك بطل، فإذا تقرر ما وصفنا من اختلاف أصحابنا في علة فساده، فان اشترى كان الشراء جائزا لانه مأمور به وله أجرة مثله، وان باع كان البيع باطلا لانه غير مأمور به وإذا قال: خذ هذا المال قراضا، ولم يزد على ذلك كان قراضا فاسدا للجهل
بنصيب كل واحد منهما من الربح.
الا أن شراء العامل وبيعه جائز، لانه أمر
__________
(1) ثياب تنسب إلى مدنها التى صنعت فيها مثل هراه ومرو وهما مدينتان بين بخارى ونيسابور وراء بحر قزوين.(14/393)
أمر بهما لكونهما من موجبات القراض وللعامل أجرة مثله.
وحكى عن أبى العباس بن سريج أن القراض جائز ويكون الربح بينهما نصفين، لان ذلك هو الغالب من أحوال القراض فحمل إطلاقه عليه.
قال الماوردى: وهذا المحكى عنه غير صحيح لانه لو جاز ذلك في إطلاق القراض لجاز مثله في البيع إذا أغفل فيه الثمن أن يكون محمولا على ثمن المثل وهو القيمة، وكذا في الاجارة وكل العقود.
فأما إذا قال: خذ هذا المال فاشتر به وبع ولم يزد عليه فلا خلاف بين أصحابنا أنه لا يكون قراضا صحيحا، ويصح شراء العامل وبيعه، وهل يكون قراضا فاسدا أو معونة؟ على وجهين: أحدهما: يكون استعانة بعمله كما لو قال: اشتر وبع على أن جميع الربح لى.
فعلى هذا لا أجرة للعامل في عمله والثانى: أنه يكون قراضا فاسدا لانه الاغلب من حال أمره وحال قوله: على أن جميع الربح لى لما فيه من التصريح بأن لا شئ له فيه.
فعلى هذا يكون للعامل أجرة مثله، وسواء حصل في المال فضل أو لم يحصل (فرع)
قال المزني: وإن قال خذها قراضا أو مضاربة على ما شرط فلان من الربح لفلان، فان علما ذلك فجائز، وإن جهلاه أو أحدهما ففاسد.
وهذا كما قال: إذا دفع المال قراضا من غير أن يسمى في الربح قدرا ففعله محمول على مثل ما قارض
زيد عمرا.
فان علما ما تقارض زيد وعمرو عليه صح قراضهما، لانهما عقداه بمعلوم من الربح، إذ لا فرق بين قوله على أن الربح بيننا نصفين وبين قوله: على مثل ما قارض به زيد عمرا كان القراض باطلا لجهلهما بقدره.
والجهالة بقدر الربح مبطلة للقراض فان علما بعد ذلك ما تقارض عليه زيد وعمرو لم يصح لوقوعه فاسدا.
وهكذا لو علمه أحدهما حال العقد وجهله الآخر لم يصح القراض، لان جهل(14/394)
أحد المتعاقدين بالعوض كجهلهما معا به، فلو قال: خذه قراضا على ما تقارض به زيد وعمرو كان باطلا، لان زيدا قد يقارض عمرا وقد لا يقارضه، وقد يقارض على قليل أو كثير.
وهكذا لو قال خذه قراضا على ما يوافقك عليه زيد لم يجز للجهل بما يكون من موافقته.
وهكذا لو قال: خذه قراضا على أن لك من الربح ما يكفيك أن يقنعك لم يجز لجهله بكفايته وقناعته، فان اشترى وباع في هذه المسائل كلها صح بيعه وشراؤه وكان جميع الربح والخسران لرب المال وعليه، وللعامل أجرة المثل: (فرع)
إذا اختلف رب المال والعامل في قدر رأس المال فقال العامل: هو ألف دينار وقال رب المال هو ألفان، فان لم يكن ربح فالقول قول العامل مع يمينه، وان كان في المال ربح بقدر ما ادعاه رب المال من رأس ماله، مثل أن يدعى العامل - وقد أحضر الفى دينار - أن أحد الالفين رأس مال وليس فيها ربح، ففيه لاصحابنا وجهان، وعن أبى حنيفة روايتان مخرجان من اختلاف قولين في العامل هل هو وكيل أو شريك؟
(أحدهما)
أن القول قول رب المال إذا قيل: ان العامل وكيل مستأجر.
وهذا قول زفر بن الهذيل
(والثانى)
أن القول قول العامل إذا قيل انه شريك مساهم.
وهذا قول محمد ابن الحسن، وهو أصح الوجهين في اختلافهما، لان قوله نافذ فيما بيده، فعلى هذا لو أحضر ثلاثة آلاف دينار وذكر أن رأس المال منها ألف والربح ألفان.
وقال رب المال: رأس المال منها ألفان والربح ألف حكم بقول العامل واقتسما الالفين ربحا، وجعل رأس المال ألفا.
فلو قال العامل وقد أحضر ثلاثة آلاف: رأس المال منها ألف والربح ألف والالف الثالثة لى، أو وديعة في يدى، أو هي دين على من قراض وادعاها رب المال ربحا فالقول قول العامل مع يمينه لمكان يده والله أعلم.(14/395)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب العبد المأذون له في التجارة) لا يجوز للعبد أن يتجر بغير إذن المولى لان منافعه مستحقة له فلا يملك التصرف فيها بغير إذنه فإن رآه يتجر فسكت لم يصر مأذونا له لانه تصرف يفتقر إلى الاذن فلم يكن السكوت إذنا فيه كبيع مال الأجنبي فان اشترى شيئا في الذمة فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الاصطخرى وأبو إسحاق لا يصح لانه عقد معاوضة فلم يصح من العبد بغير إذن المولى كالنكاح.
وقال أبو على بن أبى هريرة: يصح لانه محجور عليه لحق غيره فصح شراؤه في الذمة كالمفلس ويخالف النكاح فانه تنقص به قيمته ويستضر به المولى فلم يصح من غير اذنه، فإن قلنا: أنه يصح دخل المبيع في ملك المولى لانه كسب للعبد فكان للمولى كما لو احتش أو اصطاد ويثبت الثمن في ذمته لان اطلاق البيع يقتضى إيجاب الثمن في الذمة، فإن علم البائع برقه لم يطالبه حتى يعتق لانه رضى بذمته فلزمه الصبر إلى أن يقدر كما نقول فيمن باع من مفلس، وإن لم يعلم ثم علم فهو
بالخيار بين أن يصبر إلى أن يعتق وبين أن يفسخ البيع ويرجع إلى عين ماله لانه تعذر الثمن فثبت الخيار كما نقول فيمن باع من رجل ثم أفلس بالثمن، وان قلنا ان الشراء باطل وجب رد المبيع لانه مقبوض عن بيع فاسد فان تلف في يد العبد أتبع بقيمته إذا عتق لانه رضى بذمته وان تلف في يد السيد جاز له مطالبة المولى في الحال ومطالبة العبد إذا عتق لانه ثبتت يد كل واحد منهما عليه بغير حق.
(فصل)
وان أذن له في التجارة صح تصرفه لان الحجر عليه لحق المولى وقد زال وما يكتسبه للمولى لانه ان دفع إليه مالا فاشترى به كان المشترى عوض ماله فكان له، وان أذن له في الشراء في الذمة كان المشترى من أكسابه لانه تناوله الاذن فان لم يكن في يده شئ اتبع به إذا عتق لانه دين لزمه برضى من له الحق فتعلق بذمته ولا تباع فيه رقبته لان المولى لم يأذن له في رقبته فلم يقض منها دينه.(14/396)
(فصل)
ولا يتجر الا فيما أذن به لان تصرفه بالاذن فلا يملك الا ما دخل فيه فان أذن له في التجارة لم يملك الاجارة، ومن أصحابنا من قال: يملك اجارة ما يشتريه للتجارة لانه من فوائد المال فملك العقد عليه كالصوف واللبن، والمذهب الاول لان المأذون فيه هو التجارة.
والاجارة ليست من التجارة فلم يملك بالاذن في التجارة.
(فصل)
ولا يبيع بنسيئة ولا بدون ثمن المثل لان اطلاق الاذن يحمل على العرف والعرف هو البيع بالنقد وثمن المثل ولانه يتصرف في حق غيره فلا يملك إلا ما فيه النظر والاحتياط وليس فيما ذكرناه نظر ولا احتياط فلا يملك ولا يسافر بالمال لان فيه تغريرا بالمال فلا يملك من غير إذن، وان اشترى من يعتق على مولاه بغير إذنه ففيه قولان.
(أحدهما)
أنه لا يصح وهو الصحيح لان الاذن في التجارة يقتضى ما ينتفع به ويربح فيه وهذا لا يوجد فيمن يعتق عليه
(والثانى)
أنه يصح لان العبد لا يصح منه الشراء لنفسه فإذا أذن له فقد أقامه مقام نفسه فوجب أن يملك جميع ما يملك فان قلنا يصح فان لم يكن عليه دين عتق، وان كان عليه دين ففيه قولان، أحدهما يعتق لانه ملكه، والثانى: لا يعتق لان حقوق الغرماء تعلقت به فان اشتراه باذنه صح الشراء فان لم يكن عليه دين عتق عليه، وان كان عليه دين فعلى القولين ومتى صح العتق لزمه أن يغرم قيمته للغرماء لانه أسقط حقهم منه بالعتق.
(فصل)
وإذا اكتسب العبد مالا بأن احتش أو اصطاد أو عمل في معدن فأخذ منه مالا أو ابتاع أو اتهب أو أوصى له بمال فقبل دخل ذلك في ملك المولى لانها اكتساب ماله فكانت له فان ملكه مالا ففيه قولان، قال في القديم: يملكه لما روى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ولانه يملك البضع فملك المال كالحر، وقال في الجديد.
لا يملك لانه سبب يملك به المال فلا يملك به العبد كالارث فان ملكه جارية وأذن له في وطئها ملك وطأها في قوله القديم ولا يملك في الجديد وان ملكه نصابا لم يجب زكاته على المولى في قوله القديم ويجب في الجديد، فان(14/397)
وجب كفارة عليه كفر بالطعام والكسوة في قوله القديم وكفر بالصوم في قوله الجديد، وأما العتق فلا يكفر به على القولين لان العتق يتضمن الولاء والعبد ليس من أهل الولاء وان باعه وشرط المبتاع ماله جاز في قوله القديم أن يكون المال مجهولا لانه تابع ولا يجوز في الجديد لانه غير تابع والله أعلم.
(الشرح) الاحكام: لا يبطل الاذن بالاباق، وقال أبو حنيفة: يبطل لانه يزيل به ولاية السيد عنه في التجارة بدليل أنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا رهنه
فأشبه ما لو باعه.
وقال أحمد: ان الاباق لا يمنع ابتداء الاذن له في التجارة فلم يمنع استدامته كما لو غصبه غاصب أو حبس بدين عليه أو على غيره، وما ذكره أبو حنيفة غير صحيح، فان سبب الولاية باق وهو الرق، ويجوز بيعه واجارته ممن يقدر عليه ويبطل بالمغصوب.
ولا يجوز للمأذون في التجارة التبرع بهبة الدراهم ولا كسوة الثياب ولا الهبة بالمأكول ولا اعارة الدابة، وقال أحمد: يجوز هبته واعارته دابته واتخاذ الدعوة ما لم يكن اسرافا، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: أنه تبرع بمال مولاه فلم يجز كهبة دراهمه، وقد استدل أحمد وأبو حنيفة بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يجيب دعوة المملوك، وروى أبو سعيد مولى أبى أسيد أنه تزوج فحضر دعوته أناس مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم منهم عبد الله بن مسعود وحذيفة وأبو ذر فأمهم وهو يومئذ عبد، رواه صالح في مسائله باسناده، قال ابن قدامة: ولان العادة جارية بذلك بين التجار فجاز كما جاز للمرأة الصدقة بكسرة الخبز من بيت زوجها وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(14/398)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب المساقاة
تجوز المساقاة على النخل لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، وتجوز على الكرم لانه شجر تجب الزكاة في ثمرته فجازت المساقاة عليه كالنخل، وتجوز على الفسلان وصغار الكرم إلى وقت تحمل لانه بالعمل عليها تحصل الثمرة كما تحصل بالعمل على النخل والكرم، ولا تجوز على المباطخ والمقاثئ والعلف وقصب
السكر لانها بمنزلة الزرع فكان المساقاة عليها كالمخابرة على الزرع.
واختلف قوله في سائر الاشجار المثمرة كالتين والتفاح، فقال في القديم: تجوز المساقاة عليها، لانها شجر مثمر فأشبه النخل والكرم.
وقال في الجديد: لا تجوز لانه لا تجب الزكاة في ثماره فلم تجز المساقاة عليه كالغرب (1) والخلاف.
واختلف قوله في المساقاة على الثمرة الظاهرة فقال في الام: تجوز لانه إذا جاز على الثمرة المعدومة مع كثرة الغرر فلان تجوز على الثمرة الموجودة وهى من الغرر أبعد أولى.
وقال في البويطى: لا تجوز، لان المساقاة عقد على غرر، وإنما أجيز على الثمرة المعدومة للحاجة إلى استخراجها بالعمل، فإذا ظهرت الثمرة زالت الحاجة، فلم تجز.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه الجماعة، وقد جاء في رواية الصحيحين عن ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ظهر على خيبر سألته اليهود أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف الثمرة، فقال لهم: نقركم بها على ذلك ما شئنا "
__________
(1) قال ابن بطال: الغرب ضرب من الشجر يسمى بالفارسية اسبنددار.
والخلاف شجر يستخرج منه ماء طيب كماء الورد، وسمعناه بالتخفيف وروى بالتشديد.
وذكر ابن قتيبة في كتاب عيون الاخبار ان الخلاف شجر سقط ثمره قبل تمامه وهو الصفصاف.(14/399)
وعن عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامل يهود خيبر على أن نخرجهم متى شئنا رواه أحمد والبخاري بمعناه.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قالت الانصار للنبى صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخل.
قال لا، فقالوا تكفونا العمل ونشرككم في الثمرة، فقالوا سمعنا وأطعنا.
رواه البخاري.
وعن طاوس
أن معاذ بن جبل أكرى الارض عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان على الثلث والربع، فهو يعمل به إلى يومك هذا.
رواه ابن ماجه.
قال البخاري وقال قيس بن مسلم عن أبى جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع على وسعد بن مالك وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبى بكر وآل على وآل عمر.
قال وعامل عمر الناس على أن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر.
وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا.
وقال الشافعي: ساقى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ خيبر على أن نصف الثمر لهم فكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم وان شئتم فلى.
والمساقاة على إطلاقها أن يدفع الرجل إلى آخر شجره ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره، إلا أن هذا التعريف على سعتة يقتضى وقوع غبن وغرر إذا ظل على إطلاقه، فقيد الشافعي هذا المفهوم الواسع وقصره على ما يكفل الرفق بالعامل وصاحب المال، فخص المساقاة في قوله الجديد بالنخل والكروم وخصها داود بالنخل فقط، وتجاوز مالك فجعلها تشمل الزرع والشجر واستثنى منها البقول، وأجازها عبد الله بن دينار في البقول، وجعلها أحمد في الشجر والنخل والكرم وقد ثبتت المساقاة بالسنة والاجماع، فأما السنة فقد مضى حديث ابن عمر المتفق عليه، وأما الاجماع فقد قال أبو جعفر محمد بن على بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: عامل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع، وهذا عمل به الخلفاء الراشدون في مدة خلافتهم، واشتهر ذلك فلم ينكره أحد، فإن عبد الله ابن عمر الذى روى حديث معاملة أهل خيبر قد رجع عنه وقال: كنا نخابر(14/400)
أربعين سنة حتى حدثنا رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن المخابرة.
وهذا يمنع انعقاد الاجماع ويدل على نسخ حديث ابن عمر لرجوعه عن العمل به إلى حديث رافع.
(قلت) هذا الكلام فيه نظر، لانه لا يجوز حمل حديث رافع على مخالفة الاجماع، ولا حديث ابن عمر، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يزل يعامل أهل خيبر حتى مات ثم عمل به الخلفاء من بعده، ثم من بعدهم، فكيف يتصور نهى الرسول عن شئ ثم يخالفه؟ أم كيف يعمل بذلك في عهد الخلفاء ولم يخبرهم من سمع النهى وهو حاضر معهم وعالم بفعلهم فلم يخبرهم.
قال ابن قدامة: فلو صح خبر رافع لوجب حمله على ما يوافق السنة والاجماع وعلى أنه قد روى في تفسير خبر رافع عنه ما بدل على صحة قولنا، فروى البخاري بإسناده قال: كنا نكرى الارض بالناحية منها تسمى لسيد الارض، فربما يصاب ذلك وتسلم الارض، وربما تصاب الارض ويسلم ذلك فنهينا.
فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ، روى تفسيره أيضا بشئ غير هذا من أنواع الفساد وهو مضطرب جدا وسئل أحمد بن حنبل عن حديث رافع فقال: رافع روى عنه في هذا ضروب قال الاثرم كأنه يرى أن اختلاف الروايات عنه يوهن حديثه، وقال طاوس: إن أعلمهم - يعنى ابن عباس - أخبر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ ينه عنه ولكن قال " لان يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجا معلوما " متفق عليه وأنكر زيد بن ثابت حديث رافع عليه، وكيف يجوز نسخ أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات وهو يفعله ثم أجمع عليه خلفاؤه وأصحابه بعد بخبر لا يجوز العمل به ولو لم يخالفه غيره، ورجوع ابن عمر إليه يحتمل أنه رجع عن
شئ من المعاملات الفاسدة التى فسرها رافع في حديثه.
وأما غير ابن عمر فقد أنكر على رافع ولم يقبل حديثه وحمله على أنه غلط في روايته والمعنى يدل عليه.
فإن كثيرا من اصحاب النخيل والكروم يعجزون عن سقيه والقيام على شئونه، وقال الماوردى في الحاوى: والمساقاة في تسميتها ثلاثة تأويلات، أحدها أنها(14/401)
سميت بذلك لانها مفاعلة على ما تشرب بساق.
والثانى: أنها سميت بذلك لان موضع النخل والشجر سمى سقيا فاشتقوا اسم المساقاة منه.
والثالث أنها سميت بذلك لان غالب العمل المقصود فيها هو السقى فاشتق اسمها منه.
قال والمساقاة جائزة لا يعرف خلاف بين الصحابة والتابعين في جوازها وهو قول الفقهاء كافة إلا أبا حنيفة وحده دون سائر أصحابه، فانه تفرد بابطالها، وحكى عن النخعي كراهتها.
واستدل من نصر قول أبى حنيفة على إبطال المساقاة بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الغرر، وغرر المساقاة متردد بين ظهور الثمرة وعدمها، وبين قلتها وكثرتها، فكان الغرر فيها أعظم: فاقتضى أن يكون بابطال العقد أحق، ولانه عقد على منافع أعيان باقية فامتنع أن يكون معقودا ببعضها كالمخابرة، ولانه عقد تناول ثمرة لم تخلق فوجب أن يكون باطلا كالبيع، لانه عمل العوض عليه ثمرة لم تخلق فوجب أن يكون باطلا كما لو استؤجر على عمل بثمرة هذه الثمار في القابل ولان المساقاة اجارة على عمل جعلت الثمرة فيه أجرة والاجرة لا تصح إلا أن تكون معينة أو ثابته في الذمة، وما تثمره نخل المساقاة غير معين ولا ثابت في الذمة فوجب أن تكون باطلة ولان ما امتنع من المساقاة فيما سوى النخل والكرم من الشجر من جهالة الثمن منع فيها من النخل لجهالة الثمن.
فإذا ثبت ما ذكرنا فان المساقاة لا تصح في الزروع لانها كالمخابرة على الزروع
وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه أحمد ومسلم عن جابر قال " كنا نخابر عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فنصيب من القصرى ومن كذا ومن كذا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ له أرض فليزرعها وليحرثها أخاه وإلا فليدعها " وأختلف قوله في سائر الاشجار فأجازها في قوله القديم في التين والتفاح لانها شجر مثمر فأشبه النخل إلا أنه قال في الجديد " والمساقاة جائزة بما وصفت في النخل والكرم دون غيرهما، لان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ صدقتهما بالخرص وثمرهما مجتمع بائن من شجره، ولا حائل دونه يمنع احاطة النظر إليه، وثمر غيرهما متفرق بين أصفاف ورق شجره ولا يحاط بالنظر إليه.(14/402)
وجملة الثمر من النبات مثمرا على ثلاثة أقسام، قسم لا يختلف مذهب الشافعي في جواز المساقاة عليه وهو النخل والكرم، وقال داود: المساقاة جائزة في النخل دون الكرم، وحكى عن الليث بن سعد جواز المساقاة فيما لم يكن بعلا من النخل ومنع منها في البعل من النخل وفى الكرم، واختلف أصحابنا في جواز المساقاة في الكرم، هل قال به الشافعي نصا أو قياسا، فقال بعضهم: بل قال به نصا وهو مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساقى في النخل والكرم، وقال آخرون - وهو الاشبه: إنه قال به قياسا على النخل من وجهين ذكرهما، أحدهما لاشتراكهما في وجوب الزكاة فيها، والثانى: بروز ثمرهما وإمكان خرصهما (والقسم الثاني) ما لا يختلف مذهب الشافعي في بطلان المساقاة فيه، وهو المقاثى والمباطخ والباذنجان ويسميها الزراعيون النباتات الزاحفة (1) وهى التى تمتد أوراقها وعروقها على الارض.
وحكى عن مالك جوازها في هذا كله ما لم يبد صلاحه.
(والقسم الثالث) ما كان شجرا وهو الذى له ساق من الخشب ففى جواز
المساقاة عليه قولان، أحدهما: وبه قال في القديم وهو قول أبى ثور: ان المساقاة عليه جائزة، ووجهه أنه لما اجتمع في الاشجار معنى النخل مع بقاء أصلها ومنع إجارتها كانت كالنخل في جواز المساقاة عليها، مع أنه قد كان بأرض خيبر شجر لم يَرْوِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إفرادها عن حكم النخل، ولان المساقاة مشتقة مما يشرب بساق.
والقول الثاني: وبه قال في الجديد، وهو قول أبى يوسف أن المساقاة على الشجر باطلة اختصاصا بالنخل والكرم لما ذكره الشافعي من المعنيين في الفرق بين النخل والكرم وبين الشجر.
__________
(1) عند علماء النبات: الزاحفة كالبطيخ والشمام والدباء والقثاء والخيار، والمتسلقة كالعنب والياسمين واللوف، والنباتات الدرنيه كالبطاطس والقلقاس والبطاطا وهذه كلها لا يجوز المساقاة فيها واختلفوا كما ذكرنا في الاشجار الخشبية المثمرة للفواكه كالتفاح والبرتقال والمانجو فعلى الجديد لا تصح فيها المساقاة.(14/403)
(أحدهما)
اختصاص النخل والكرم بوجوب الزكاة فيهما دون ما سواهما من جميع الاشجار.
(والثانى)
بروز ثمرهما وإمكان خرصهما دون غيرهما من سائر الاشجار، فأما إذا كان بين النخيل شجر قليل فساقاه عليها صحت المساقاة فيها وكان الشجر تبعا كما تصح المخابرة في البياض الذى بين النخل ويكون تبعا.
(فوائد أصولية) انعقد اجماع الصحابة عن سيرة أبى بكر وعمر رضى الله عنهما في مساقاة أهل خيبر بعد النبي صلى الله عليه وسلم اتباعا له إلى أن حدث من أجلائهم ما حدث، ثم الدليل من طريق المعنى هو أنها عين تنمى بالعمل فإذا لم تجز اجارتها جاز العمل
عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير في القراض ثم الاستدلال بالقراض من وجهين، أحدهما ذكره أبو على بن أبى هريرة أن الامة مجمعة على جواز القراض وما انعقد الاجماع عليه فلا بد أن يكون حكمه مأخوذا عن توقيف أو اجتهاد يرد إلى أصل، وليس في المضاربة توقيف نص عليه، فلم يبق الا توقيف اجتهاد أدى إلى الحاقه بأصل، وليس في المضاربة في الشرع أصل ترد إليه الا المساقاة، وإذا كانت المساقاة أصلا لفرع مجمع عليه كانت أحق بالاجماع عليه، والثانى: ذكره أبو حامد الاسفرايينى وهو أنه لما جازت المضاربة اجماعا وكانت عملا على عوض مظنون من ربح مجوز كانت المساقاة أولى بالجواز لانها عوض على عمل معتاد من ثمرة نمائية.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تجوز الا على شجر معلوم، وان قال: ساقيتك على أحد هذين الحائطين لم يصح، لانها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الاعيان فلم يجز على حائط غير معين كالبيع وهل يجوز على حائط معين لم يره؟ فيه طريقان أحدهما: أنه على قولين كالبيع: والثانى: أنه لا يصح قولا واحدا لان المساقاة معقودة على الغرر فلا يجوز أن يضاف إليها الغرر لعدم الرؤية بخلاف البيع.(14/404)
(فصل)
ولا تجوز الا على مدة معلومة لانه عقد لازم، فلو جوزناه مطلقا استبد العامل بالاصل فصار كالمالك، ولا تجوز على اقل من مدة توجد فيها الثمرة فإن ساقاه على النخل أو على الودى إلى مدة لا تحمل لم يصح، لان المقصود أن يشتركا في الثمرة، وذلك لا يوجد، فإن عمل العامل فهل يستحق أجرة المثل؟ فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يستحق، وهو قول المزني، لانه رضى أن يعمل بغير عوض
فلم يستحق الاجرة كالمتطوع في غير المساقاة
(والثانى)
أنه يستحق، وهو قول أبى العباس، لان العمل في المساقاة يقتضى العوض فلا يسقط بالرضا بتركه كالوطئ في النكاح، وان ساقاه إلى مدة قد تحمل وقد لا تحمل ففيه وجهان.
أحدهما: أنها تصح لانه عقد إلى مدة يرجى فيها وجود الثمرة، فأشبه إذا ساقاه إلى مدة توجد الثمرة فيها في الغالب.
والثانى: أنها لا تصح وهو قول أبى اسحاق لانه عقد على عوض غير موجود، ولا الظاهر وجوده، فلم يصح، كما لو أسلم في معدوم إلى محل لا يوجد في الغالب، فعلى هذا ان عمل استحق أجرة المثل، لانه لم يرض أن يعمل من غير ربح، ولم يسلم له الربح، فرجع إلى بدل عمله.
واختلف قوله في أكثر مدة الاجارة والمساقاة، فقال في موضع: سنة، وقال في موضع: يجوز ما شاء، وقال في موضع: يجوز ثلاثين سنة، فمن أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: لا تجوز بأكثر من سنة، لانه عقد على غرر أجيز للحاجة ولا تدعو الحاجة إلى أكثر من سنة، لان منافع الاعيان تتكامل في سنة.
والثانى: تجوز ما بقيت العين، لان كل عقد جاز إلى سنة جاز إلى أكثر منها كالكتابة والبيع إلى أجل.
والثالث: أنه لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة، لان الثلاثين شطر العمر، ولا تبقى الاعيان على صفة أكثر من ذلك، ومنهم من قال: هي على القولين الاولين، وأما الثلاثون فانما ذكره على سبيل التكثير، لا على سبيل التحديد، وهو الصحيح.
فان ساقاه إلى سنة لم يجب ذكر قسط كل شهر، لان شهور السنة لا تختلف(14/405)
منافعها، وإن ساقاه إلى سنتين ففيه قولان، أحدهما: لا يجب ذكر كل سنة كما
إذا اشترى أعيانا بثمن واحد لم يجب ذكر قسط كل عين منها، والثانى: يجب، لان المنافع تختلف باختلاف السنين، فإذا لم يذكر قسط كل سنة لم نأمن أن ينفسخ العقد فلا يعرف ما يرجع فيه من العوض، ومن أصحابنا من قال: القولان في الاجارة، فأما في المساقاة فإنه يجب ذكر قسط كل سنه من العوض، لان الثمار تختلف باختلاف السنين، والمنافع لا تختلف في العادة باختلاف السنين.
(فصل)
وإذا ساقاه إلى عشر سنين فانقضت المدة ثم أطلعت ثمرة السنة العاشرة لم يكن للعامل فيها حق لانها ثمرة حدثت بعد انقضاء العقد وان أطلعت قبل انقضاء المدة وانقضت المدة وهى طلع أو بلح تعلق بها حق العامل لانها حدثت قبل انقضاء المدة (الشرح) قال الشافعي: فإذا ساقى على النخل والعنب بجزء معلوم فهى المساقاة التى ساقى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اه.
(قلت) إذا تقرر هذا، فإن المساقاة من العقود اللازمة وليست من العقود الجائزة كالمضاربة، والفرق بينهما أن نماء النخل في المساقاة متأخر عن العمل، فكان في ترك لزومه تفويت العمل بغير بدل، ونماء المال في المضاربة متصل بالبيع فلم يكن في ترك لزومه تفويت للعمل بغير بدل فلذلك انعقد لازما في المساقاة وجائزا في المضاربة، وإذا كان كذلك فان صحة العقد فيها معتبرة بأربعة شروط 1 - أن تكون النخل معلومة، فان كانت مجهولة بأن قال: ساقيتك أحد حوائطي، أو على مال يثبت من نخلى كان باطلا، لان النخل أصل في العقد فبطل بالجهالة كالبيع، فلو ساقاه على نخل غائب بشرط خيار الرؤية فقد اختلف أصحابنا فيه، فخرجه بعضهم على قولين كالبيع، وذهب آخرون منهم - وهو الاصح - إلى فساد العقد قولا واحدا.
وفرقوا بين المساقاة والبيع بأن البيع يغرى بالغرر، فإذا دخل عليه غرر العين
الغائبة بخيار الرؤية، جرى على احتماله فصح فيه، وعقد المساقاة غرر فإذا دخل(14/406)
عليه غرر العين الغائبة صعب احتماله فبطل فيه، وإذا لم يكن يجوز إلا على معين مشاهد - فإن كانت عند عقد المساقاة مثمرة - فقد قال المزني: إن كان ذلك قبل بدو الصلاح جاز.
وإن كان بعده لم يجز.
وقال أبو ثور: إن احتاجت إلى القيام بها حتى يطيب جاز، وإن لم تحتج لم يجز.
وقال أبو يوسف ومحمد: إن كانت تزيد جاز، وإن لم تزد لم يجز.
فأما الشافعي فقد حكى عنه في الاملاء جوازه من غير تفصيل، لانه لما جازت المساقاة على ثمرة معدومة كان جوازها بالمعلومة أولى، ولعل هذا على قوله في الام إنه أجير، والمشهور من مذهبه والاصح على أصله أن المساقاة باطلة بكل حال.
وقد حكى البويطى ذلك عنه نصا كما أشار إليه الماوردى، لان علة جوازها عنده أن لعمله تأثيرا في حدوث الثمرة، كما أن لعامل المضاربة تأثيرا في حصول الربح، ولو حصل ربح المال قبل عمل العامل لم يكن له فيه حق، كذلك المساقاة، فلو ساقاه على النخل المثمرة على ما تحدث من ثمرة العام المقبل لم يجز لانه قد يتعجل العمل فيها استصلاحا لثمرة قائمة من غير بدل.
(فرع)
فإذا ثبت أن المساقاة عقد لازم فإنها لا تجوز إلا على مدة معلومة وهذا الشرط هو أحد الشروط الاربعة أن يكون النخل معلوما، وأن يكون نصيب العامل من الثمرة معلوما مدة تكون لهما معلومة.
وأن يعقد بلفظ المساقاة وقال بعض أصحاب الحديث: يجوز اطلاقها من غير تقدير بمدة محددة، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يقدر لاهل خيبر مدة.
وقال أبو ثور: إن قدر مدة لزمت إلى انقضائها، وإن لم يقدر مدة صحت وكانت على سنة واحدة، وكلا القولين خطأ عندنا، فإذا كانت المدة المعلومة
شرطا فيها فأقلها مدة تطلع فيها الثمرة وتستغني عن العمل، ولا يجوز أن يقدرها بذلك حتى يقدرها بالشهور التى قد أجرى الله تعالى العادة بأن الثمار تطلع فيها طلوعا متناهيا، فإن تأخر طلوعها فيها بحادث أطلعت بعد تقضيها فعلى الاصح من المذهب في أن العامل شريك تكون بينهما، وإن انقضت المدة، وإن استحق الثمرة إلا فيما اخنص بالثمرة من تأبير وتلقيح إن قيل بأن العامل أجير فلا حق(14/407)
له في الثمرة الحادثة بعد انقضاء المدة وانقطاع العمل، ولا يستهلك عمله بغير بدل فيحكم له حينئذ بأجرة المثل، فأما أكثر مدة المساقاة فقد قال الشافعي: تجوز المساقاة سنين.
(قلت) فإذا عرفنا أن أقلها مدة تطلع فيها الثمرة وتستغني عن العمل فان أقصاها، فقد حكى الماوردى أنها كالاجارة.
وقد رأينا كيف اختلف قول الشافعي في أكثر مدة الاجارة على قولين
(أحدهما)
لا يجوز إلا سنة واحدة لزيادة الغرر فيما زاد على السنة.
والقول الثاني: يجوز سنين كثيرة قال الشافعي يجوز ثلاثين سنة.
فمن أصحابنا من جعل الثلاثين حدا لاكثر المدة اعتبارا بظاهر كلامه.
وذهب سائرهم - وهو الصحيح - إلى أن قوله ثلاثين سنة ليس بحد لاكثر المدة، ولهم فيه تأويلان
(أحدهما)
أنه قاله على وجه التكثير
(والثانى)
أنه محمول على ما لا يبقى أكثر من ثلاثين سنة فعلى هذا تجوز الاجارة سنين كثيرة، فهل ذكر أجرة كل سنة لازم فيها على قولين
(أحدهما)
يلزم أن يبين أجرة كل سنة منها
(والثانى)
لا يلزم فأما المساقاة فأحد القولين أنها لا تجوز أكثر من سنة واحدة كما لا تجوز الاجارة أكثر من سنة
(والثانى)
تجوز سنين كثيرة يعلم بقاء النخل إليها كما تجوز الاجارة سنين كثيرة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تجوز إلا على جزء معلوم، فإن ساقاه على جزء مقدر كالنصف والثلث جاز، لحديث ابن عمر، فإن عقد على جزء غير مقدر كالجزء والسهم والنصيب لم يصح، لان ذلك يقع على القليل والكثير، فيعظم الغرر.
وإن ساقاه على صاع معلوم لم يصح، لانه ربما لم يحصل ذلك فيستضر العامل، وربما لا يحصل إلا ذلك فيستضر رب النخل، وإن ساقاه على أن له ثمر نخلات بعينها لم يصح لانه قد لا تحمل تلك النخلات فيستضر العامل، أو لا يحمل إلا هي فيستضر رب النخل، وإن ساقاه عشر سنين وشرط له ثمرة سنة غير السنة العاشرة(14/408)
لم يصح، لانه شرط عليه بعد حقه عملا لا يستحق عليه عوضا.
وإن شرط له ثمرة السنة العاشرة ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يصح كما يصح أن يعمل في جميع السنة، وإن كانت الثمرة في بعضها
(والثانى)
لا يصح لانه يعمل فيها مدة تثمر فيها ولا يستحق شيئا من ثمرها.
(فصل)
ولا يصح إلا على عمل معلوم فإن قال إن سقيته بالسيح فلك الثلث وان سقيته بالناضح فلك النصف لم يصح لانه عقد على مجهول.
(فصل)
وتنعقد بلفظ المساقاة لانه موضوع له وتنعقد بما يؤدى معناه، لان القصد منه المعنى، فصح بما دل عليه، فان قال استأجرتك لتعمل فيه على نصف ثمرته لم تصح لانه عقد الاجارة بعوض مجهول القدر فلم تصح
(فصل)
ولا يثبت فيه خيار الشرط لانه إذا فسخ لم يمكن رد المعقود عليه وفى خيار المجلس وجهان
(أحدهما)
يثبت فيه لانه عقد لازم يقصد به المال فيثبت فيه خيار المجلس كالبيع
(والثانى)
لا يثبت لانه عقد لا يعتبر فيه قبض العوض في المجلس، فلو ثبت فيه خيار المجلس لثبت فيه خيار الشرط كالبيع.
(فصل)
وإذا تم العقد لم يجز لواحد منهما فسخه لان النماء متأخر عن العمل، فلو قلنا انه يملك الفسخ لم يأمن أن يفسخ بعد العمل ولا تحصل له الثمرة
(فصل)
وعلى العامل أن يعمل ما فيه مستزاد في الثمرة من التلقيح وصرف الجريد واصلاح الاجاجين وتنقية السواقى والسقى وقلع الحشيش المضر بالنخل، وعلى رب النخل عمل ما فيه حفظ الاصل من سد الحيطان ونصب الدولاب وشراء الثيران، لان ذلك يراد لحفظ الاصل ولهذا من يريد انشاء بستان فعل هذا كله واختلف أصحابنا في الجذاذ واللقاط، فمنهم من قال لا يلزم العامل ذلك، لان ذلك يحتاج إليه بعد تكامل النماء، ومنهم من قال يلزمه لانه لا تستغنى عنه الثمرة.
(فصل)
وان شرط العامل في القراض والمساقاة أن يعمل معه رب المال لم يصح لان موضوع العقد أن يكون المال من رب المال والعمل من العامل، فإذا لم يجز شرط المال على العامل لم يجز شرط العمل على رب المال، وان شرط أن(14/409)
يعمل معه غلمان رب المال فقد نص في المساقاة أنه يجوز.
واختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه، فمنهم من قال لا يجوز فيهما لان عمل الغلمان كعمل رب المال، فإذا لم يجز شرط عمله لم يجز شرط عمل غلمانه، وحمل قوله في المساقاة على أنه أراد ما يلزم رب المال من سد الحيطان وغيره
(والثانى)
يجوز فيهما، لان غلمانه ماله، فجاز أن يجعل تابعا لماله كالثور والدولاب والحمار لحمل المتاع، بخلاف رب المال فإنه مالك، فلا يجوز أن يجعل تابعا لماله (والثالث) أنه يجوز في المساقاة ولا يجوز في القراض، لان في المساقاة ما يلزم رب المال من سد الحيطان وغيره، فجاز أن يشترط فيها عمل غلمانه،
وليس في القراض ما يلزم رب المال، فلم يجز شرط غلمانه.
فإذا قلنا إنه يجوز لم يصح حتى تعرف الغلمان بالرؤية أو الوصف، ويجب أن يكون الغلمان تحت أمر العامل، وأما نفقتهم فإنه إن شرط على العامل جاز، لان بعملهم ينحفظ الاصل وتزكو الثمرة، وإن لم يشرط ففيه ثلاثة أوجه: (أحدها) أنها على العامل، لان العمل مستحق عليه فكانت النفقة عليه.
(والثانى)
أنها على رب المال، لان شرط عملهم عليه فكانت النفقة عليه: (والثالث) أنها من الثمرة لان عملهم على الثمرة فكانت النفقة منها.
(فصل)
وإذا ظهرت الثمرة ففيه طريقان من أصحابنا من قال هي على القولين في العامل في القراض
(أحدهما)
تملك بالظهور
(والثانى)
بالتسليم.
ومنهم من قال في المساقاة تملك بالظهور قولا واحدا، لان الثمرة لم تجعل وقاية لرأس المال فملك بالظهور.
والربح جعل وقاية لرأس المال فلم يملك بالظهور في أحد القولين
(فصل)
والعامل أمين فيما يدعى من هلاك وفيما يدعى عليه من خيانة، لانه ائتمنه رب المال فكان القول قوله، فان ثبتت خيانته ضم إليه من يشرف عليه ولا تزال يده، لان العمل مستحق عليه ويمكن استيفاؤه منه فوجب أن يستوفى وإن لم ينحفظ استؤجر عليه من ماله من يعمل عنه لانه لا يمكن استيفاء العمل بفعله فاستوفى بغيره
(فصل)
وان هرب رفع الامر إلى الحاكم ليستأجر من ماله من يعمل عنه فان لم يكن مال افترض عليه، فإن لم يجد من يقرضه فلرب النخل أن يفسخ،(14/410)
لانه تعذر استيفاء المعقود عليه فثبت له الفسخ، كما لو اشترى عبدا فأبق من يد البائع فان فسخ نظرت فان لم تظهر الثمرة فهى لرب النخل لان العقد زال قبل ظهورها وللعامل أجرة ما عمل، وان ظهرت الثمرة فهى بينهما فان عمل فيه رب
النخل أو استأجر من عمل فيه بغير اذن الحاكم لم يرجع لانه متبرع وان لم يقدر على اذن الحاكم فان لم يشهد لم يرجع لانه متبرع، وان أشهد ففيه وجهان.
أحدهما يرجع لانه موضع ضرورة، والثانى لا يرجع لانه يصير حاكما لنفسه على غيره وهذا لا يجوز لا لضرورة ولا لغيرها
(فصل)
وان مات العامل قبل الفراغ فان تمم الوارث العمل استحق نصيبه من الثمرة وان لم يعمل، فان كان له تركة استؤجر منها من يعمل لانه حق عليه يمكن استيفاؤه من التركة فوجب أن يستوفى كما لو كان عليه دين وله تركة، وان لم تكن له تركة لم يلزم الوارث العمل لان ما لزم الموروث لا يطالب به الوارث كالدين ولا يقترض عليه لانه لا ذمة له ولرب النخل أن يفسخ لانه تعذر استيفاء المعقود عليه فان فسخ كان الحكم فيه على ما ذكرناه في العامل إذا هرب.
(فصل)
وان ساقى رجلا على نخل على النصف فعمل فيه العامل وتقاسما الثمرة ثم استحق النخل رجع العامل على من ساقاه بالاجرة لانه عمل بعوض ولم يسلم له العوض فرجع ببدل عمله، فان كانت الثمرة باقية أخذها المالك فان تلفت رجع بالبدل، فان أراد تضمين الغاصب ضمنه الجميع لانه حال بينه وبين الجميع، وان أراد أن يضمن العامل ففيه وجهان، أحدهما يضمنه الجميع لانه ثبتت يده على الجميع فضمنه كالعامل في القراض في المال المغصوب، والثانى لا يضمن الا النصف لانه لم يحصل في يده الا ما أخذه بالقسمة وهو النصف، فأما النصف الآخر فانه لم يكن في يده، لانه لو كان في يده لزمه حفظه كما يلزم العامل في القراض
(فصل)
إذا اختلف العامل ورب النخل في العوض المشروط، فقال العامل شرطت لى النصف وقال رب النخل شرطت لك الثلث تحالفا لانهما متعاقدان اختلفا في العوض المشروط ولا بينة فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن وبالله التوفيق.(14/411)
(الشرح) حديث ابن عمر هو حديث معاملة الرسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل خيبر وقد مضى تخريجه وبيان طرقه وما قيل من رجوع ابن عمر عنه، أما قوله: السيح فهو الماء الجارى ويسميه الفلاحون في ديارنا المصرية (السقى بالراحة) وهو ما لا يحتاج إلى شد للماء بالسواقي أو الشواديف وإنما يرتفع الماء في جداوله على أعلى من مستوى سطح الارض فيفتح الزارع فتحة من المسقاة فينساب الماء سيحانا إلى الارض المراد سقيها فيغمرها في لحظات قصيرة، أما التلقيح فهو التأبير، أما صرف الجريد وهو تنحيته وتخفيفه وبتر أسافله لتهذيب النخل والخلوص إلى العذوق بغير أن تؤذى سلاها والاجاجين جمع أجانة وهو الطسوت والمواجير والمراكن الكبير التى تغسل فيها الثياب.
أما الاحكام: فقد قال الشافعي: ولا تجوز المساقاة إلا على أجر معلوم.
قلت: لانه عقد معاوضة فلم يصح مع جهالة العوض كالبيع والاجارة، فلو ساقاه على ما يكفيه أو ما يرضيه بطلت المساقاة للجهل بقدر نصيبه منها، إذ قد لا يرضيه إلا جميعها، ولا يكفيه إلا أكثرها، فإن قيل: فإذا صحت المساقاة مع الجهالة بقدر الثمرة فهل صحت مع الجهاله بقدر نصيبه من الثمرة؟ قيل: لان العلم بقدر ما يحدث من الثمرة غير ممكن فلم يعتبر العلم بقدر نصيبه منها.
(فرع)
قال الشافعي: وان ساقاه على أن له ثمر نخلات بعينها من الحائط لم يجز، قال الماوردى: هذا صحيح، لان عقد المساقاة يوجب اشتراك العامل ورب النخل في الثمر فإذا عقداها على أن للعامل ثمر نخلات بعينها منها وأفضى إلى أن يستبد أحدهما بجميع الثمرة دون صاحبه لانه قد يجوز أن لا تحمل تلك النخلات فينصرف العامل بغير شئ، ويجوز أن لا تحمل الا تلك النخلات فينصرف رب المال بغير شئ فلذلك بطل اه.
(فرع)
وتحديد نصيب العامل من الثمرة بقدر معلوم أحد شروط عقد المساقاة على أن يكون شائعا في الثمرة غير معين من نصف أو ربع أو ثلث أو عشر قل ذلك الجزء أو كثر، فإن جهل نصيبه بأن جعل له ما يرضيه أو ما يكفيه أو ما يحكم له(14/412)
الحاكم لم يجز للجهل به، وهكذا لو جعل له منها مائة صاع مقدرة لم يجز للجهل به من جملة الثمرة، وأنه ربما كان جميعها أو سهما يسيرا منها، فلو قال: قد ساقيتك على هذه النخل سنة ولم يذكر قدر نصيبه من ثمرها فقد حكى عن أبى العباس بن سريج جوازها وجعل الثمرة بينهما نصفين بالسوية حملا لهما على عرف الناس في المساقاة وتسويته بينهما في الثمرة، وقد خطأ الماوردى هذا لان ترك ذكر العوض في العقد لا يقتضى حمله على معهود الناس عرفا، كالبيع والاجارة، مع أن العرف مختلف.
فإذا قال: عاملتك على هذه النخل سنة ولم يذكر قدر نصيبه منها لم يجز عند أبى العباس لانه ليس للمعاملة عنده عرف، فلو قال: ساقيتك على مثل ما ساقى زيد عمرا فإن علما قدر ذلك جاز، وان جهلاه أو أحدهما لم يجز ويجوز أن يكون النصيب مختلفا فيكون في السنة الاولى النصف والثانية الثلث والثالثة الربع ومنع مالك من اختلاف نصيب العامل في كل عام حتى يتساوى نصيبه في جميع الاعوام وهذا خطأ لان ما جاز أن يكون العوض في أحواله متفقا جاز أن يكون مختلفا كالبيع والاجارة، فإذا علم نصيب العامل ورب المال فمذهب الشافعي أن العامل شريك في الثمرة بقدر حصته.
وقد خرج قول آخر أنه أجير كالمضاربة، ويختص رب المال بتحمل الزكاة دون العامل والاصح أنه شريك تجب الزكاة عليه إن بلغت حصة كل واحد نصابا ففى وجوب الزكاة قولان من اختلاف قولين في الخلطة في غير المواشى هل يكون
كالخلطة في المواشى، وقد مضى في الزكاة للامام النووي إفاضة وإفادة فيه.
(فرع)
الشرط الرابع من شروطها عقدها بلفظ ساقيتك لينتفي الاحتمال عنها فان عقداه بلفظ الاجارة بأن قال: استأجرتك للعمل فيها كان العقد باطلا لان الاجارة فيها لا تصح، فإذا عقدا بلفظ الاجارة، انصرف إلى الاجارة فبطل، وان لم يعقداه بواحدة من اللفظين وقال.
قد عاملتك عليها بالعمل فيها على الشطر من ثمرها ففيه وجهان.(14/413)
أحدهما: أن العقد صحيح لان هكذا يكون عقد المساقاة.
والثانى: أن العقد باطل، لان هذا من أحكام العقد فلم ينعقد به العقد، وهذان الوجهان من اختلاف أصحابنا في البيع على ما فصله واستقصاه مجيدا السبكى في التكمله الاولى إذا عقد بلفظ التمليك.
(فرع)
فإذا اشتمل العقد على شروطه المعتبرة فيه صح ولم يجز فيه خيار الثلاث، واختلف أصحابنا هل يثبت فيه خيار المجلس أم لا؟ على وجهين كالاجارة ويجوز أن يستوثق فيه بالشهادة ولا يجوز أن يستوثق فيه بالرهن والضمان، لانه عقد غير مضمون، ثم يؤخذ العامل بالعمل المشروط عليه، فان لم يعمل في النخل حتى أثمرت كان له نصيبه من الثمرة ان قيل: انه شريك، ولا شئ له فيها ان قيل: انه أجير، ولرب العمل أن يأخذ العامل جبرا بالعمل للزوم العقد، فان أراد العامل أن يساقى غيره عليها مدة مساقاته جاز بمثل نصيبه فما دون كالاجارة، ولا يجوز بأكثر من نصيبه لانه لا يملك الزيادة، والفرق بين المساقاة حيث كان للعامل أن يساقى عليها وبين المضاربة حيث لم يجز للعامل أن يضارب بها أن تصرف العامل في المضاربة تصرف في حق رب المال لان العقد ليس بلازم فلم يملك الافتيات عليه في تصرفه، وتصرف العامل في المساقاة تصرف في حق نفسه
للزوم العقد فملك الاستنابة في تصرفه.
(فرع)
قال الشافعي: وكل ما كان مستزادا في الثمرة من اصلاح للمار وطريق الماء وتصريف الجريد، وابار النخل وقطع الحشيش الذى يضر بالنخل أو ينشف عنه الماء حتى يضر بثمرتها جاز شرطه على المساقاة، وأما سد الحظار فليس فيه مستزاد لاصلاح في الثمرة ولا يصلح شرطه على المساقى، فان قال: فان كان أصلح للنخل أن يسد الحظار - بحاء مفتوحة كسحاب ومكسورة ككاب بعد ظاء معجمة: الحائط - فكذلك أصلح لها أن يبنى عليها حظار لم يكن، وهو لا يجيزه في المساقاه، وليس هذا الاصلاح من الاستزاده في شئ من النخل انما هو دفع الداخل، قلت: والعمل المشروط في المساقاه على أربعة أنواع: 1 - ما يعود نفعه على الثمرة دون النخل.
2 - ما يعود نفعه على النخل دون الثمرة.(14/414)
3 - ما يعود نفعه على النخل والثمرة 4 - مالا يعود نفعه على الثمرة ولا النخل.
فالاول مثل الابار وتصريف الجريد وتلقيح الثمرة ولقاطها رطبا أو جدادها تمرا.
فهذا النوع يجوز اشتراطه على العامل وينقسم إلى (ا) ما يجب عليه فعله من غير شرط وهو كل مالا تصلح الثمرة إلا به كالتلقيح والابار (ب) مالا يجب عليه فعله إلا بالشرط، وهو كل ما فيه مستزاد للثمرة، وقد تصلح بعدمه كتصريف الجريد وتدلية الثمرة (ج) ما هو مختلف فيه، وهو كل ما تكاملت الثمرة قبله كاللقاط والجداد ففيه وجهان.
(أحدهما)
أنه لا يجب على العامل إلا بشرط لتكامل الثمرة بعدمه.
(الثاني) أنه واجب على العامل بغير شرط، لان الثمرة لا تستغنى عنه،
وإن تكاملت قبله.
وأما النوع الثاني وهو ما يعود على النخل دون الثمرة، فمثل سد الحظار وحفر الآبار وشق السواقى ورفع مياه الانهار، فكل هذا مما يعود نفعه على النخل دون الثمرة، فلا يجوز اشتراط شئ من ذلك على العامل.
وكذا ما شاكله من عمل الدواليب وإصلاح الزرانيق، فإن شرط رب المال على العامل شيئا مما ذكرنا كان الشرط باطلا، والمساقاة فاسدة.
وقال بعض أصحابنا: يبطل الشرط وتصح المساقاة حملا على الشروط الزائدة في الرهن تبطل ولا تبطل معها الرهن في أحد القولين، وقد خطأ جمهور فقهائنا هذا لان عقود المعاوضات إذا تضمنت شروطا فاسدة بطلت كالشروط الفاسدة في البيع والاجارة والنوع الثالث وهو ما يعود نفعه على النخل والثمرة، فكالسقى والابارة وقطع الحشيش المضر بالنخل إلى ما جرى هذا المجرى مما فيه اصلاح النخل ومستزاد في الثمرة مما لا تصلح الثمرة الا به كالسقى فيما لا يشرب بعروقه كنخل البصرة فهو وغيره من شروط هذا الفعل سواء، وفيه لاصحابنا ثلاثة أوجه: (أحدها) أنه واجب على العامل بنفس العقد واشتراطه عليه تأكيدا لما فيه من صلاح النخل وزيادة الثمرة (والوجه الثاني) أنه واجب على رب النخل، واشتراطه عليه مبطل للعقد(14/415)
لانه بصلاح النخل أخص منه بصلاح الثمرة (والثالث) أنه يجوز اشتراطه على العامل لما فيه من زيادة الثمرة، ويجوز اشتراطه على رب النخل لما فيه من صلاح النخل فلم يتناف الشرطان فيه، فإن شرط على العامل لزمه، وإن شرط على رب النخل لزمه، وان أغفل لم يلزم واحدا منهما، أما العامل فلانه لا يلزمه إلا ما كان من موجبات العقد أو من شروطه، وأما رب النخل فلانه لا يجبر
على تثمير ماله.
وأما النوع الرابع، وهو مالا يعود نفعه على النخل ولا على الثمرة، فهو كالاشتراط على العامل أن يبنى له قصرا أو يخدمه شهرا أو يسقى له زرعا تنافى العقد وتمنع من صحته، لانه لا تعلق لها به ولا تختص بشئ من مصلحته (فرع)
قال الشافعي: ساقى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، والمساقون عمالها لا عامل للنبى صلى الله عليه وسلم فيها غيرهم، فإذا كان يجوز للساقي أن يساقى نخلا على أن يعمل فيه عمال الحائط، لان رب الحائط رضى ذلك جاز أن يشترط رقيقا ليسوا في الحائط يعملون فيه، لان عمل من فيه وعمل من ليس فيه سواء، وإن لم تجز إلا بأن يكون على الداخل في المساقاة العمل كله لم يجز أن يعمل في الحائط أحد من رقيقه، وجواز الامرين من أشبه الامور عندنا والله أعلم قال ونفقة الرقيق على ما تشارطا عليه، وليس نفقة الرقيق بأكثر من أجرتهم، فإذا جاز أن يعملوا للمساقي بغير أجرة جاز أن يعملوا له بغير نفقة.
اه وبقية الفروع التى فصلها المصنف على وجهها، والله تعالى الموفق للصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب المزارعة)
لا تجوز المزارعة على بياض لا شجر فيه لما روى سليم بن بشار أن رافع بن خديج قال: كنا نخابر عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أمر كان لنا نافعا وطاعة الله ورسوله أنفع لنا وأنفع.
قلنا وما ذاك؟ قال رسول الله صلى الله عليه: من كانت له أرض فليزرعها ولا يكرها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى.
فأما إذا كانت(14/416)
الارض بين النخل لا يمكن سقى الارض إلا بسقيها نظرت فإن كان النخيل كثيرا
والبياض قليلا جاز أن تساقيه على النخل وتزارعه على الارض لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع فان عقد المزارعة على الارض ثم عقد المساقاة على النخل لم تصح المزارعة لانها إنما أجيزت تبعا للمساقاة للحاجة ولا حاجة قبل المساقاة، وإن عقدت بعد المساقاة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا تصح لانه أفرد المزارعة بالعقد فأشبه إذا قدمت
(والثانى)
تصح لانهما يحصلان لمن له المساقاة، وان عقدها مع المساقاة وسوى بينهما في العوض جاز لان النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، فإن فاضل بينهما في العوض ففيه وجهان، أحدهما: يجوز وهو الصحيح لانهما عقدان فجاز أن يفاضل بينهما في العوض، والثانى لا يجوز لانهما إذا تفاضلا تميزا فلم يكن أحدهما تابعا للآخر، فان كان النخل قليلا والبياض كثيرا ففيه وجهان
(أحدهما)
يجوز لانه لا يمكن سقى النخل الا بسقي الارض فأشبه الكثير
(والثانى)
لا يجوز لان البياض أكثر فلا يجوز أن يكون الاكثر تابعا للاقل.
(الشرح) حديث رافع بن خديج راه البخاري ومسلم بلفظ " كنا أكثر الانصار حقلا فكنا نكرى الارض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك.
فأما الورق فلم ينهنا " وفى لفظ للبخاري " كنا أكثر أهل الارض مزدرعا، كنا نكرى الارض بالناحية منها لسيد الارض قال فربما يصاب ذلك وتسلم الارض، وربما تصاب الارض ويسلم ذلك فنهينا.
فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ " وفى لفظ عند مسلم وأبى داود والنسائي " انما كان الناس يؤاجرون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بما على الماذيانات (1)
__________
(1) الماذيانات: حكى القاضى عياض عن بعض الرواة فتح الذال في غير صحيح مسلم، وهى ما ينبت على حافة النهر ومسايل الماء، وليست عربية لكنها
سوادية، وهى في الاصل مسايل المياه فتسمية النابت عليها باسمها، كما وقع في بعض الروايات يؤاجرون على الماذيانات مجاز مرسل والعلاقة المجاورة والمحلية والاربعاء جمع ربع وهو النهر الصغير كنبى وأنبياء.(14/417)
وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كرى إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شئ معلوم مضمون فلا بأس به.
وفى رواية عند أحمد والبخاري والنسائي عن رافع قال " حدثنى عماى أنهما كانا يكريان الارض عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بما ينبت على الاربعاء وبشئ يستثنيه صاحب الارض قال: فَنَهَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ".
وفى رواية عند أحمد " إن الناس كانوا يكرون المزارع فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالماذيانات وما يسقى الربيع وشئ من التين فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كرى المزارع بهذا ونهى عنها ".
وقد حكى في الفتح الحافظ بن حجر عن الجمهور أن النهى محمول على الوجه المفضى إلى الغرر والجهالة، لا عن إكرائها مطلقا حتى بالذهب والفضة قال: ثم اختلف الجمهور في جواز إكرائها بجزء مما يخرج منها فمن قال بالجواز حمل أحاديث النهى على التنزيه قال: ومن لم يجز إجارتها بجزء مما يخرج قال: النبي عن كرائها محمول على ما إذا اشترط صاحب الارض ناحية منها أو شرط ما ينبت على النهر لصاحب الارض لما في كل ذلك من الغرر والجهاله.
وفى رواية رافع عند البخاري أنه قال: ليس بها بأس بالدينار والدرهم، قال ابن حجر: يحتمل أن يكون رافع قال ذلك باجتهاده، ويحتمل أن يكون علم ذلك
بطريق التنصيص على جوازه أو علم أن النهى عن كرى الارض ليس على إطلاقه بل بما إذا كان بشئ مجهول ونحو ذلك فاستنبط من ذلك جواز الكرى بالذهب والفضه ويرجح كونه مرفوعا بما أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عَنْهُ قَالَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن المحاقله والمزابنة وقال: إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض ورجل منح أرضا، ورجل اكترى أرضا بذهب أو فضة " لكن بين النسائي من وجه آخر أن المرفوع منه النهى عن المحاقلة والمزابنه، وأن بقيته مدرج من كلام سعيد بن المسيب.(14/418)
وقد أخرج أبو داود والنسائي ما هو أظهر في الدلالة على الرفع من هذا، وهو حديث سعد بن ابى وقاص " إن أصحاب المزارع فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقى وما صعد بالماء مما حول النبت فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصموا في بعض ذلك فنهاهم أن يكروا بذلك وقال: اكروا بالذهب والفضة " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهذا الحديث يدل على تحريم المزارعة على ما يفضى إلى الغرر والجهالة ويوجب المشاجرة وعليه تحمل الاحاديث الواردة في النهى عن المخابرة التى فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر لما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم استمر عليها إلى موته واستمر على مثل ذلك جماعة من الصحابة، ويؤيد هذا تصريح رافع في هذا الحديث بجواز المزارعة على شئ معلوم مضمون، ولا يشكل على جواز المزارعة بجزء معلوم حديث أسيد ابن حضير قال " كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أو افتقر إليه أعطاها بالنصف والثلث والربع، ويشترط ثلاث جداول، والقصارة وما يسقى الربيع وكان يعمل فيها عملا شديدا، ويصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أمر كان لكم نافعا، وطاعة رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ لكم، نهاكم
عن الحقل " رواه أحمد وابن ماجه.
والقصارة بقية الحب في السنبل بعدما يداس.
نعم لا يشكل هذا الحديث لان مجموع ما في الحديث غير المخابرة التى أجازها صلى الله عليه وسلم وفعلها في خيبر، نعم حديث رافع عند أبى داود والنسائي وابن ماجه " من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يكارها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى ".
وكذلك حديثه أيضا عند أبى داود باسناد فيه بكر بن عامر البجلى الكوفى وهو فيه مقال قال: إنه زرع أرضا فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يسقيها فسأله: لمن الزرع؟ ولمن الارض؟ فقال زرعي ببذرى وعملى ولى الشطر ولبنى فلان الشطر فقال أربيتما، فرد الارض على أهلها وخذ نفقتك.
ومثله حديث زيد بن ثابت عند أبى داود قال " نهى رسول الله عن المخابرة قلت: وما المخابرة؟ قال: أن يأخذ الارض بنصف أو ثلث أو ربع " فيها دليل(14/419)
على المنع من المخابرة بجزء معلوم، ومثل هذه الاحاديث، حديث أسيد على فرض أنه نهى عن المزارعة بجزء معلوم وعدم تقييده بما فيه من كلام أسيد ولكنه لا سبيل إلى جعلها ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وهو مستمر على ذلك إلى موته وتقريره لجماعة من الصحابة عليه ولا سبيل إلى جعل هذه الاحاديث المشتملة على النهى منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم وتقريره لصدور النهى عنه في أثناء مدة معاملته، ورجوع جماعة من الصحابة إلى رواية من روى النهى، والجمع ما أمكن هو الواجب.
قال الشوكاني: النهى يحمل على معناه المجازى وهو الكراهة.
قال الشافعي أخبرنا سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: سمعت ابن عمر يقول كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نهى عنها فتركناها لقول رافع.
قال الشافعي: والمخابرة استكراء الارض ببعض ما يخرج منها فدلت سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نهيه عن المخابرة على أن لا يجوز المزارعة على الثلث ولا على الربع ولا جزء من أجزاء، وذلك أن المزارع يقبض الارض بيضاء لا أصل فيها ولا زرع ثم يستحدث فيها زرعا، والزرع ليس بأصل والذى هو في معنى المزارعة الاجارة، ولا يجوز أن يستأجر الرجل الرجل على أن يعمل له شيئا الا بأجر معلوم يعلمانه قبل أن يعمله المستأجر لما وصفت من السنة.
ثم قال الشافعي بعد أن جوز كراء الارض بالذهب والفضة: وإذا كان النخل منفردا فعامل عليه رجل وشرط أن يزرع ما بين ظهرانى النخل على المعاملة، وكان ما بين ظهرانى النخل ومنافعها من الجريد والكرانيف، وان كان الزرع منفردا عن النخل له طريق يؤتى منها أو ماء يشرب متى شربه لا يكون ريا للنخل ولا شرب للنخل ريا له لم تحل المعاملة عليه، وجازت اجارته، وذلك أنه في حكم المزارعة لا حكم المعاملة على الاصل، وسواء قل البياض في ذلك أو كثر اه ومن هنا نرى الامام الشافعي يجيز المزارعة في بياض النخل تبعا للمساقاة، وقد قال في المساقاة: وإذا كان البياض بين أضعاف النخل جاز فيه المساقاة كما تجوز(14/420)
في الاصل، وإن كان منفردا عن النخل له طريق غيره لم تجز فيه المساقاة ولم تصح إلا أن يكترى كراء، وسواء قليل ذلك وكثيره ولا حد فيه إلا ما وصفت اه.
وقال الماوردى: وإذا كانت المخابرة هي استكراء الارض لزراعتها ببعض ما يخرج منها فهى على ضربين، ضرب أجمع الفقهاء على فساده، وضرب اختلفوا فيه، فأما الضرب الذى أجمعوا على فساده فهو أن تكون حصة كل واحد منهما من زرع الارض مفردة عن حصة صاحبه مثل أن يقول: قد زارعتك على هذه
الارض على ما نبت من الماذيانات كان لى، وما نبت على السواقى والجداول كان لك أو على أن ما سقى بالسماء فهو لى وما سقى بالرشا فهو لك، فهذه مزارعة باطلة اتفق الفقهاء على فساده لرواية سعيد بن المسيب عن سعد بن أبى وقاص ثم ساق الحديث، وأما الضرب الثاني الذى اختلف الفقهاء فيه فهو أن يزارعه على ارضه ليكون العمل على الاجير والارض لربها والبذر منهما أو من أحدهما بحسب شرطهما على أن ما أخرج الله تعالى من زرع كان بينهما على سهم معلوم من نصف أو ثلث أو ربع ليأخذ الزارع سهمه بعمله، ويأخذ رب الارض سهمه بأرضه فهذه هي المخابرة، والمزارعة التى اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة مذاهب: أحدها وهو مذهب الشافعي أنها باطلة سواء شرط البذر على الزارع أو على رب الارض، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله ورافع ابن خديج رضى الله عنهم ومن التابعين سعيد بن جبير وعكرمة ومن الفقهاء الشافعي ومالك وأبو حنيفة.
والمذهب الثاني أنها جائزة سواء شرط البذر على الزارع أو على رب الارض وبه قال من الصحابة على بن أبى طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد ابن أبى وقاص ومعاذ بن جبل رضى الله عنهم ومن التابعين سعيد بن المسيب ومحمد ابن سيرين وعبد الرحمن بن أبى ليلى، ومن الفقهاء سفيان الثوري وأبو يوسف ومحمد، والمذهب الثالث: أنه إن شرط البذر على صاحب الارض لم يجز، وإن شرطه على الزارع جاز وهو مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، واستدل من أجاز ذلك برواية عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم(14/421)
عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج من ثمر وزرع، وروى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قال: قلت لطاوس يا أبا عبد الرحمن لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عنها فقال: يا عمرو أخبرني أعلمهم ابن عباس أنه لم ينه عنها، ولكن قال: لان يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما.
والدليل على فسادها ما رواه الشافعي عن ابن عمر، وروى يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال: كنا نخابر إلى أن قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا ربع ولا طعام مسمى.
وروى أبو خيثم عن أبى الزبير عن جابر قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: من لم يدع المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله، ولان الاصول التى تصح إجارتها ولا تصح المعاملة عليها ببعض كسبها، وكذا الارض لما جازت إجارتها لم تجز المخابرة عليها فهذه دلائل الفريقين في صحة المخابرة وفسادها، ولما اقترن بدلائل الصحه عمل أهل الامصار مع الضرورة الماسة إليها، وكان ما عارضها محتملا أن يكون جاريا على ما فسره زيد بن ثابت، وقال عبد الله بن عباس كان صحة المخابرة أولى من فسادها مع شهادة الاصول لها في المساقاة والمضاربة، ومن خلال هذا الحوار المفتوح بين المؤيدين والمعارضين تبرز حقيقة ماثلة وهى أن الاصل هو التغلب على أسباب الغبن والغرر، ثم إن ما منيت به البشريه من بلشفيه ملحدة قتلت الحوافز، وكفت الارادة، وجعلت من الانسان آلة صماء لا تعقل ليجعلنا أحوج ما نكون إلى فهم روح الشريعة السمحة.
تم الجزء الرابع عشر ويليه الجزء الخامس عشر وأوله كتاب الاجارة(14/422)
التكملة الثانية
المجموع شرح المهذب
للامام ابي زكريا محيى الدين بن شرف النووي
المتوفى سنة 676 هـ
الجزء الخامس عشر
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع(15/1)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الإجارة
يجوز عقد الاجارة على المنافع المباحة، والدليل عليه قوله تعالى (فان ارضعن لكم فآتوهن أجورهن) وروى سعيد بن المسيب عن سعد رضى الله عنه قال: كنا نكرى الارض بما على السواقى من الزرع، فنهى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذلك وامرنا ان نكريها بذهب أو ورق.
وروى أبو أمامة التيمى قال: سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكرى في هذا الوجه، وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا، فقال ابن عمر: ألستم تلبون وتطوفون بين الصفا والمروة، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فسأل عما تسألونني عنه فلم يرد عليه حتى نزل (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم) فتلاها عليه.
وروى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره، ولان الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الاعيان، فلما جاز عقد البيع على الاعيان وجب أن يجوز على المنافع
(فصل)
ولا تجوز على المنافع المحرمة لانه يحرم فلا يجوز أخذ العوض عليه كالميتة والدم.
(فصل)
واختلف أصحابنا في استئجار الكلب المعلم، فمنهم من قال يجوز لان فيه منفعة مباحة فجاز استئجاره كالفهد، ومنهم من قال: لا يجوز، وهو الصحيح، لان اقتناءه لا يجوز إلا للحاجة.
وهو الصيد وحفظ الماشية وما لا يقوم غير الكلب فيه مقامه إلا بمؤن، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ وما ابيح للحاجة لم يجز أخذ العوض عليه كالميتة، ولانه لا يضمن منفعته بالغصب فدل على أنه لا قيمة لها.
(فصل)
واختلفوا في استئجار الفحل للضراب، فمنهم من قال يجوز لانه(15/3)
يجوز أن يستباح بالاعارة فجاز أن يستباح بالاجارة كسائر المنافع، ومنهم من قال لا يجوز، وهو الصحيح، لما روى ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل، ولان المقصود منه هو الماء الذى يخلف منه وهو محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عليه كالميتة والدم
(فصل)
واختلفوا في استئجار الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان واستئجار الاشجار لتجفيف الثياب والاستظلال، فمنهم من قال يجوز، لانه منفعة مباحة فجاز الاستئجار لها كسائر المنافع.
ومنهم من قال لا يجوز، وهو الصحيح، لان الدراهم والدنانير لا تراد للجمال ولا الاشجار لتجفيف الثياب والاستظلال، فكان بذل العوض فيه من السفه وأخذ العوض عنه من أكل المال بالباطل، ولانه لا يضمن منفعتها بالغصب فلم يضمن بالعقد (الشرح) حديث سعد بن أبى وقاص رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقد
سكت عنه أبو داود والمنذري.
قال ابن حجر في فتح الباري: رجاله ثقات إلا أن محمد بن عكرمة المخزومى لم يرو عنه الا ابراهيم بن سعد.
وأما حديث أبى أمامة التيمى فاخرجه احمد وغيره، وقد مضى تخريجه وبيان ما يشتمل عليه من احكام في كتاب الحج.
واما حديث (مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ ماشية) فقد أخرجه أحمد في مسنده والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر.
وأما حديث النهى عن ثمن عسب الفحل فقد رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود، ورواه الدارقطني عن أبى سعيد الخدرى بلفظ (نهى عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان) وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، الا أن ابراهيم النخعي لم يسمع من أبى سعيد فيما أحسب.
وأخرجه أيضا البيهقى وعبد الرزاق واسحاق في مسنده وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع والاصل في جواز الاجارة الكتاب والسنة والاجماع، فأما الكتاب فقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) (قالت إحداهما: يا أبت استأجره(15/4)
إن خير من استأجرت القوى الامين، قال إنى أريد أن أنكحك إحدى إبنتى هاتين على أن تأجرني ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) وروى ابن ماجه عن عتبة بن المنذر قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقرأ (طس) حتى إذا بلغ قصة موسى قال (إن موسى عليه السلام أجر نفسه ثمانى حجج أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه) وقال تعالى (فوجد فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه، قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) وأما السنة فقد ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر استأجرا
عبد الله بن الاريقط الديلى وكان خريتا - وهو الخبير بمسالك الصحراء والوهاد العالم بجغرافية بلاد العرب على الطبيعة - ليكون هاديا ومرشدا لهما في هجرتهما من مكة إلى المدينة.
وفى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره) والاحاديث في هذا كثيرة أما الاجماع فقد انعقد بين أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الاجارة إلا ما روى عن عبد الرحمن الاصم الذى قيل فيه: إنه عن الحق أصم من أنه لا يجوز ذلك لانه غرر، لانه يعقد على منافع لم تخلق، ولو تحقق ما يتصوره الاصم صوابا لتعطلت الصنائع والمساكن والمتاجر والموصلات بكل أنواعها لانها كلها - وهى تستغرق مظاهر الحياة قديما وحديثا - قائمة على المؤاجرات والمعاوضات على المنافع كالمعاوضات على الاعيان سواء بسواء.
بل إن المعاوضات على المنافع أوسع مدى وأكثر عددا وأشمل مرفقا، ولان المنافع المتاحة أوسع آفاقا من الاعيان والعروض.
فإذا ثبت هذا فإن الاجارة كالبيع تنعقد بأربعة: بمؤجر ومستأجر ومؤاجر وأجرة.
فالاول فهو باذل المنفعة كالبائع، والثانى طالب المنفعة كالمشترى، وكل من صح شراؤه صح استئجاره.
والثالث فهو كل عين صح الانتفاع بها مع بقائها صحت إجارتها كالدور والعقار إذا لم يكن المقصود من منافعها أعيانا كالنخل(15/5)
والشجر، وما تم الانتفاع به مع عينه لم تصح اجارته كالدراهم والمأكول، لان منفعة الدراهم بإزالتها عن الملك، ومنفعة المأكول بالاستهلاك كاستئجار الدراهم والدنانير للجمال والزينة والطعام ليعتبر مكيلا ففيه لاصحابنا وجهان:
(أحدهما)
يصح لوجود المعنى وحصول الانتفاع مع بقاء العين (والوجه الثاني) لا يصح لان هذا نادر من منافع ذلك، والاغلب سواه، فصار حكم الاغلب هو المغلب، ولان المنافع المضمونة بالاجارة هي المضمونة بالغصب، ومنافع الدراهم والطعام لا تضمن بالغصب كنشر الثياب فوق الشجر فلم يصح أن تضمن بالاجارة.
وهكذا كل ما كانت منافعها أعيانا من النخل والشجر، لان منافعها ثمار هي أعيان يمكن العقد عليها بعد حدوثها، فلم يصح العقد عليها قبله.
فإن استأجر ذلك لمنفعة تستوفى مع بقاء العين كالاستظلال بالشجر أو ربط ماشية إليها فذلك ضربان:
(أحدهما)
أن يكون هذا غالبا فيها ومقصودا من منافعها فتصح الاجارة عليها
(والثانى)
أن يكون نادرا غير مقصود في العرف، فيكون على ما مضى من الوجهين.
ثم العقد وان توجه إلى العين فهو أنه ربما تناول المنفعة لان الاجرة في مقابلتها وانما توجه إلى العين لتعتبر المنفعة بها.
وقال أبو إسحاق المروزى: العقد انما تناول العين دون المنفعة ليستوفى من العين مقصوده من المنفعة، لان المنافع غير موجودة حين العقد فلم يجز أن يتوجه العقد إليها.
وهذا خطأ، ألا ترى أنه قد يصح العقد على منفعة مضمونة في الذمة غير مضافة إلى عين؟ كرجل استأجر من رجل عملا مضمونا في ذمته، وإذا كان كذلك فلا بد أن تكون المنفعة معلومة كما لابد أن يكون المبيع معلوما، فإن كانت مجهولة لم تصح الاجارة، كما لو كان المبيع مجهولا، والعلم بها قد يكون من وجهين:
(أحدهما)
تقدير العمل مع الجهل بالمدة
(والثانى)
تقدير المدة مع الجهل بقدر العمل، وسيأتى تفصيلهما وبالله والتوفيق.(15/6)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلفوا في الكافر إذا استأجر مسلما إجارة معينة، فمنهم من قال فيه قولان لانه عقد يتضمن حبس المسلم فصار كبيع العبد المسلم منه.
ومنهم من قال يصح قولا واحدا لان عليا كرم الله وجهه كان يستقى الماء لامرأة يهودية كل دلو بتمرة
(فصل)
ولا يصح إلا من جائز التصرف في المال لانه عقد يقصد به المال فلم يصح الا من جائز التصرف في المال كالبيع
(فصل)
وينعقد بلفظ الاجارة لانه لفظ موضوع له، وهل ينعقد بلفظ البيع، فيه وجهان
(أحدهما)
ينعقد لانه صنف من البيع لانه تمليك يتقسط العوض فيه على المعوض كالبيع فانعقد بلفظه
(والثانى)
لا ينعقد لانه يخالف البيع في الاسم والحكم فلم ينعقد بلفظه كالنكاح.
(فصل)
ويجوز على منفعة عين حاضرة، مثل أن يستأجر ظهرا بعينه للركوب ويجوز على منفعة عين في الذمة مثل أن يستأجر ظهرا في الذمة للركوب، ويجوز على عمل معين مثل أن يكترى رجلا ليخيط له ثوبا أو يبنى له حائطا، ويجوز على عمل في الذمة، مثل أن يكترى رجلا ليحصل له خياطة ثوب أو بناء حائط لانا بينا أن الاجارة بيع والبيع يصح في عين حاضرة وموصوفة في الذمة، فكذلك الاجارة.
وفى استئجار عين لم يرها قولان
(أحدهما)
لا يصح
(والثانى)
يصح ويثبت الخيار إذا رآها كما قلنا في البيع
(فصل)
وتجوز على عين مفردة وعلى جزء مشاع لانا بينا أنه بيع، والبيع يصح في المفرد والمشاع فكذلك الاجارة.
(فصل)
ولا تجوز إلا على عين يمكن استيفاء المنفعة منها، فان استأجر أرضا للزراعة لم تصح حتى يكون لها ماء يؤمن انقطاعه، كماء العين والمد بالبصرة
والثلج والمطر في الجبل لان المنفعة في الاجارة كالعين في البيع فإذا لم يجز بيع عين لا يقدر عليها لم تجز إجارة منفعه لا يقدر عليها فإن اكترى أرضا على نهر إذا زاد سقى وإذا لم يزد لم يسق، كأرض مصر والفرات وما انحدر من دجلة نظرت فان اكتراها بعد الزيادة صح العقد لانه يمكن استيفاء المعقود عليه، فهو كبيع الطير(15/7)
في القفص، وإن كان قبل الزيادة لم يصح لانه لم يعلم هل يقدر على المعقود عليه أو لا يقدر فلم يصح كبيع الطير في الهواء، وان اكترى أرضا لا ماء لها ولم يذكر أنه يكتريها للزراعة ففيه وجهان، أحدهما: لا يصح لان الارض لا تكترى في العادة الا للزراعة، فصار كما لو شرط أنه يكتريها للزراعة، والثانى: ان كانت الارض عالية لا يطمع في سقيها صح العقد لانه يعلم أنه لم يكترها للزراعة.
وان كانت مستفلة يطمع في سقيها بسوق الماء إليها من موضع لم يصح لانه اكتراها للزراعة مع تعذر الزراعة، فإن اكترى أرضا غرقت بالماء لزراعة ما لا يثبت في الماء كالحنطة والشعير نظرت فان كان للماء مغيض إذا فتح انحسر الماء عن الارض وقدر على الزراعة صح العقد، لانه يمكن زراعتها بفتح المغيض، كما يمكن سكنى الدار بفتح الباب، وان لم يكن له مغيض ولا يعلم أن الماء ينحسر عنها لم يصح العقد لانه لا يعلم هل يقدر على المعقود عليه أم لا يقدر فلم يصح العقد كبيع ما في يد الغاصب، فان كان يعلم أن الماء ينحسر وتنشفه الريح ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لانه لا يمكن استيفاء المنفعة في الحال.
والثانى يصح وهو قول أبى إسحاق وهو الصحيح لانه يعلم بالعادة امكان الانتفاع به، فان اكترى أرضا على ماء إذا زاد غرقت فاكتراها قبل الزيادة صح العقد لان الغرق متوهم فلا يمنع صحة العقد (الشرح) خبر على رضى الله عنه رواه أحمد وجود الحافظ بن حجر اسناده ولفظه (جعت مرة جوعا شديدا فخرجت لطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا
بامرأة قد جمعت مدرا فظننتها تريد بله، فقاطعتها كل ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يداى، ثم أتيتها فعدت لى ست عشرة تمرة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأكل معى منها) وقد أخرجه ابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس أن عليا أجر نفسه من يهودى يسقى له كل دلو بتمرة) وعندهما أن كل عدد التمر سبع عشرة تمرة.
وفى اسناده حنش راويه عن عكرمة وهو ضعيف، وقوله (ذنوبا) الدلو مطلقا أو التى فيها ماء أو الممتلئة أو غير الممتلئة وكلها في القاموس، وقوله (مجلت) بكسر الجيم أي غلظت وتنفطت وقد أمجلها العمل أو المجل أن يكون بين الجلد واللحم ماء، أو المجلة جلدة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل.(15/8)
وهذا الخبر يدل دلالة يعجز القلم عن استقصاء ما توحى به، من بيان ما كانت الصحابة عليه من الحاجة وشدة الفاقة والصبر على الجوع وبذل الوسع وإتعاب النفس في تحصيل القوام من العيش للتعفف عن السؤال وتحمل المتن، وأن تأجير النفس لا يعد دناءة، وإن كان المستأجر غير شريف أو كافرا والاجير من أشراف الناس وعظمائهم، وقد أورده صاحب المنتقى ليستدل به على جواز الاجارة معاددة يعنى أن يفعل الاجير عددا معلوما من العمل بعدد معلوم من الاجرة.
(فرع)
الاجارة عوض في مقابلة المنفعة كالثمن في مقابلة المبيع وحكمه كحكمه في جوازه معينا وفى الذمة، قال الشافعي: فالاجارات صنف من البيوع لانها تمليك من كل واحد منهما لصاحبه اه.
ومن هذا اخذ الفقهاء انه عقد لازم لا يجوز فسخه إلا بعيب كالبيع، فإن كان العيب موجودا في الشئ المؤاجر كالدار إذا خربت والدابة إذا مرضت فللمستأجر أن يفسخ دون المؤجر كما لو وجد بالمبيع عيب كان للمشترى أن يفسخ
دون البائع، وإن كان العيب موجودا في الاجرة فان كانت في الذمة أبدل المعيب بغيره ولا خيار، وان كانت معيبة فللمؤجر ان يفسخ دون المستاجر كما يفسخ البائع بوجود العيب في الثمن المعين دون المشترى: ولا يجوز فسخ الاجارة بعذر يطرأ إذا لم يطرأ في المعقود عليه عيب، ومن هنا كان لاصحابنا وجهان في انعقاده بلفظ البيع، ونظرا لان عقد الاجارة كعقد النكاح يؤخذ جانب البيع فيه بمفهوم المعاوضه وليس بمنطوق التعاقد لذلك قالوا: إنه يخالف البيع في الاسم والحكم فلم ينعقد بلفظه كالنكاح، والوجه الثاني: ينعقد بلفظ البيع لانه تمليك يتقسط العوض فيه على الباذل كالبيع سواء بسواء.
إذا ثبت هذا: فهل المعقود عليه العين لانها الموجودة فيقال: أجرتك دارى أم أن العقد يتعلق بالمنفعه دون الاعيان، فيقال: أجرتك دارى أو منفعة دارى بكذا، أو بعتك منفعتها، وهذا الاخير هو قول مالك وأبى حنيفة وأحمد وأكثر أصحاب الشافعي، ويصح العقد على منفعة مضمونه في الذمه غير مضافه إلى عين كرجل استأجر من رجل عملا مضمونا في ذمته، وإذا كان كذلك فلابد أن تكون(15/9)
المنفعة معلومة كما لا بد ان يكون المبيع معلوما، فإن كانت مجهوله لم تصح الاجارة كما لو كان المبيع مجهولا، ومن ثم كانت الاجارة على نوعين، نوع يكون عقده على مدة معلومه: ونوع يكون على عمل معلوم فالاول كالدار والارض فلا تجوز إجارتها إلا على مدة ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد، لان الجمع بينهما يزيدها غررا، لانه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة، فإن استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما تعاقدا عليه وإن لم يعمل كان تاركا للعمل في بعض المدة، وقد لا يفرغ من العمل في المدة، فإن أتمه عمل في غير المدة، وهذا غرر أمكن التحرز منه، ولم يوجد مثله في محل الوفاق
فلم يجز العقد معه، (فرع)
قال الشافعي: إذا تكارى الرجل الارض ذات الماء من العين أو النهر نيل أو غير نيل أو الغيل أو الآبار على أن يزرعها غلة الشتاء والصيف فزرعها إحدى الغلتين والماء قائم ثم نضب فذهب قبل الغلة الثانية فأراد رد الارض بذهاب الماء فذلك له ويكون عليه من الكراء بحصة ما زرع إن كانت حصة الزرع الذى زرع الثلث أو النصف أو الثلثين أو أقل أو أكثر أدى ذلك وسقطت عنه حصه الزرع الثاني اه.
قال النووي في المنهاج: ولا يصح استئجار آبق ومغصوب وأعمى للحفظ وأرض للزراعة لا ماء لها دائم، ولا يكفيها المطر المعتاد، ويجوز إن كان لها ماء دائم، وكذا إن كفاها ماء المطر الدائم أو الثلوج المجتمعة، والغالب حصولها في الاصح اه.
قال الشربينى الخطيب في المغنى: ومجرد الامكان لا يكفى كإمكان عود الآبق والمغصوب، نعم لو قال المكرى أنا أحفر لك بئرا وأسقى أرضك منها أو أسوق الماء إليها من موضع آخر صحت الاجارة كما قال الرويانى.
أما لو استأجرها للسكنى فإنه يصح، وإن كانت بمحل لا يصلح لها كالمفازة، إلى أن قال: ويجوز استئجار أراضي مصر للزراعة بعد ريها بالزيادة، وكذا قبله على الاصح إن كانت ترزى من الزيادة الغالبة كخمسة عشر ذراعا فما دونها كما نقله في الكفايه عن أبى الطيب وابن الصباغ واقتضاه كلام الشيخين.
وقال السبكى: وما يروى من خمسة عشر كالموثوق به عادة.
وما يروى من(15/10)
ستة عشر وسبعة عشر غالب الحصول، وإن كان الاحتمال متطرقا إلى الستة عشر وإلى السبعة عشر كثيرا اه وتصح الارض للزراعة قبل انحسار الماء عنها، وإن سترها عن الرؤية، لان
الماء من مصلحتها كاستتار اللوز والجوز بالقشرة، فإن قيل: ينبغى عدم الصحة لان الانتفاع عقب العقد شرط، والماء يمنعه أجيب بأن الماء من مصالح الزرع، وبأن صرفه ممكن في الحال بفتح موضع ينصب إليه فيتمكن من الزرع حالا كاستئجار دار مشحونة بالامتعة التى يمكن نقلها في زمن لا أجرة له هذا إن وثق بانحساره وقت الزراعة وإلا فلا يصح، وإن كانت الارض على شط نهر، والظاهر أنه يجرفها بفيضانه أو تنهار من أمواجه لم يصح استئجارها لعدم القدرة على تسليمها، وإن احتمله ولم يظهر جاز لان الاصل والغالب السلامة.
وإن استأجر أرضا للزراعة وأطلق دخل فيها شربها ان اعتيد دخوله بعرف مطرد والشرب بكسر الشين النصيب من الماء، بخلاف مالو باعها لا يدخل، لان المنفعة هنا لا تحصل بدونه أو شرط في العقد، فإن اضطرب العرف فيه أو استثنى الشرب ولم يوجد شرب غيره لزوال المانع بالاغتناء عن شربها، والامتناع الشرعي لتسليم المنفعة كالحسى في حكمه.
وقد أورد المصنف وجهين في الارض التى يغطيها الماء وعلم انحسار أو احتمال تبخرها وجفافها، أحدهما: عدم صحة العقد لعدم امكان استيفاء المنفعة حالا، والثانى: وهو قول أبى اسحاق المروزى وهو الصحيح والذى عليه الفتوى من أئمه المذهب أنه يصح، لانه يعلم بالعادة المطردة إمكان الانتفاع وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وان استأجر رجلا ليعلمه بنفسه سورة وهو لا يحسنها ففيه وجهان
(أحدهما)
يصح كما يصح أن يشترى سلعه بدراهم، وهو لا يملكها ثم يحصلها ويسلم
(والثانى)
لا يصح لانه عقد على منفعة معينة لا يقدر عليها فلم يصح كما لو أجر عبد غيره.
(فصل)
ولا تصح الاجارة الا على منفعة معلومة القدر لانا بينا أن الاجارة(15/11)
بيع والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر فكذلك الاجارة ويعلم مقدار المنفعة بتقدير العمل أو بتقدير المدة، فإن كانت المنفعة معلومة القدر في نفسها كخياطة ثوب وبيع عبد والركوب إلى مكان قدرت بالعمل لانها معلومة في نفسها فلا تقدر بغيرها، وإن قدر بالعمل والمدة بأن استأجره يوما ليخيط له قميصا فالاجارة باطله لانه يؤدى إلى التعارض وذلك انه قد يفرغ من الخياطة في بعض اليوم فان طولب في بقية اليوم بالعمل اخل بشرط العمل وان لم يطالب اخل بشرط المدة، فان كانت المنفعة مجهولة المقدار في نفسها كالسكنى والرضاع وسقى الارض والتطيين والتجصيص قدر بالمدة لان السكنى وما يشبع به الصبى من اللبن وما تروى به الارض من السقى يختلف ولا ينضبط، ومقدار التطيين والتجصيص لا ينضبط لاختلافهما في الرقة والثخونة فقدر بالمدة، واختلف اصحابنا في استئجار الظهر للحرث، فمنهم من قال يجوز ان يقدر بالعمل بان يستأجره ليحرث أرضا بعينها، ويجور ان يقدر بالمدة بأن يستأجره ليحرث له شهرا، ومنهم من قال لا يجوز تقديره بالمدة والاول أظهر لانه يمكن تقديره بكل واحد منهما فجاز التقدير بكل واحد منهما
(فصل)
وما عقد على مدة لا يجوز الا على مدة معلومة الابتداء والانتهاء.
فان قال أجرتك هذه الدار كل شهر بدينار فالاجارة باطلة، وقال في الاملاء تصح في الشهر الاول وتبطل فيما زاد، لان الشهر الاول معلوم وما زاد مجهول فصح في المعلوم وبطل في المجهول، كما لو قال اجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه، والصحيح هو الاول لانه عقد على الشهر وما زاد من الشهور.
وذلك مجهول فبطل، ويخالف هذا إذا قال أجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه لان هناك أفرد الشهر الاول بالعقد وههنا لم يفرد الشهر عما بعده بالعقد، فبطل
بالجميع، فإن أجره سنة مطلقة حمل على سنة بالاهلة، لان السنة المعهودة في الشرع سنة الاهلة.
والدليل عليه قوله عزوجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج.
فوجب ان يحمل العقد عليه، فإن كان العقد في أول الهلال عد اثنا عشر شهرا بالاهلة، تاما كان الشهر أو ناقصا، وان كان في اثناء الشهر عد ما بقى من الشهر وعد بعده احد عشر شهرا بالاهلة ثم كمل عدد الشهر(15/12)
الاول بالعدد ثلاثين يوما لانه تعذر اتمامه بالشهر الهلالي فتمم بالعدد، فان أجره سنة شمسيه ففيه وجهان:
(أحدهما)
لا يصح لانه على حساب انسئ فيه أيام والنسئ حرام، والدليل عليه قوله تعالى، (انما النسئ زيادة في الكفر)
(والثانى)
انه يصح لانه وان كان النسئ حراما، الا أن المدة معلومة فجاز العقد عليها كالنيروز والمهرجان، وفى أكثر المدة التى يجوز عقد الاجارة عليه طريقان ذكرناهما في المساقاة
(فصل)
ولا تصح الاجارة الا على منفعة معلومة، لان الاجارة بيع والمنفعة فيها كالعين في البيع، والبيع لا يصح الا في معلوم فكذلك الاجارة، فان كان المكترى دارا لم يصح العقد عليها حتى تعرف الدار لان المنفعة تختلف باختلافها فوجب العلم بها ولا يعرف ذلك الا بالتعيين لانها لا تضبط بالصفة فافتقر إلى التعيين كالعقار والجواهر في البيع، وهل يفتقر إلى الرؤية؟ فيه قولان بناء على القولين في البيع، ولا يفتقر إلى ذكر السكنى ولا إلى ذكر صفاتها لان الدار لا تكترى الا للسكنى وذلك معلوم بالعرف فاستغنى عن ذكرها كالبيع بثمن مطلق في موضع فيه نقد معروف، وان اكترى ارضا لم يصح حتى تعرف الارض لما ذكرناه في الدار، ولا يصح حتى يذكر ما يكترى له من الزراعة
والغراس والبناء، لان الارض تكترى لهذه المنافع وتاثيرها في الارض يختلف فوجب بيانها.
وان قال: أجرتك هذه الارض لتزرعها ما شئت جاز، لانه جعل له زراعة أضر الاشياء، فأى صنف زرع لم يستوف به أكثر من حقه، وان قال اجرتك لتزرع واطلق ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح لان الزروع مختلفة في التأثير في الارض فوجب بيانها
(والثانى)
يصح لان التفاوت بين الزرعين يقل وان قال أجرتك لتزرعها أو تغرسها لم يصح لانه جعل له أحدهما ولم يعين فلم يصح، كما لو قال بعتك أحد هذين العبدين، وان قال أجرتك لتزرعها وتغرسها ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح وهو قول المزني وأبى العباس وأبى اسحاق لانه(15/13)
لم يبين المقدار من كل واحد منهما
(والثانى)
يصح وله ان يزرع النصف ويغرس النصف، وهو ظاهر النص، وهو قول أبى الطيب بن سلمة، لان الجمع يقتضى التسوية فوجب ان يكون نصفين (الشرح) هذا الحكم في تعليم القران ينبنى على ان تعليم القرآن هل يجوز بأجر أو لا؟ فقد روى ابن ماجه والبيهقي والرويانى في مسنده عن أبى بن كعب قال: علمت رجلا القرآن فاهدى لى قوسا، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (إن أخذتها أخذت قوسا من نار) فرددتها.
قال البيهقى وابن عبد البر: هو منقطع، يعنى عطية الكلاعى وأبى بن كعب وكذلك قال المزى، وتعقبهم الحافظ بن حجر بأن عطية ولد فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعله ابن القطان بالجهل بحال عبد الرحمن بن سلم الراوى عن عطية،
*
*
*
وورد عن عبادة بن الصامت عند أبى داود وابن ماجه بلفظ (علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فاهدى إلى رجل منهم قوسا فقلت: ليست بمال وأرمى عليها في سبيل الله عزوجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاسألنه فاتيته فقلت: يا رسول الله، إنه رجل اهدى إلى قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمى عليها في سبيل الله، فقال: إن كنت تحب ان تطوق طوقا من نار فاقبلها) وفى اسناده المغيرة بن زياد أبو هاشم الموصلي، وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وتكلم فيه جماعة.
وقال احمد: ضعيف الحديث، حدث بأحاديث مناكير وكل حديث رفعه فهو منكر.
وقال أبو زرعة الرازي: لا يحتج بحديثه، ولكنه قد روى عن عبادة من طريق اخرى عند أبى داود بلفظ (فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ فقال جمرة(15/14)
بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها) وفى هذه الطريق بقية بن الوليد، وقد تكلم فيه جماعة ووثقة الجمهور إذا روى عن الثقات، وقد أورد ابن حجر حديث عبادة هكذا في كتاب النفقات من تخليص الحبير وتكلم عليه، وفى هذا المعنى ورد عن معاذ عند الحاكم والبزار بنحو حديث أبى، وعن أبى الدرداء عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضا.
وقد استدل بهذه الاحاديث القائلون بعدم جواز الاجرة على تعليم القرآن كاحمد بن حنبل واصحابه وأبى حنيفة، وبهذا قال عطاء والضحاك بن قيس والزهرى واسحاق بن راهوية وعبد الله بن شقيق، وذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية إلى أنها تحل الاجرة على تعليم القرآن، وأجابوا عن هذه الاحاديث بأجوبة منها ان حديثى عبادة وأبى قضيتان في عين فيحتمل أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أنهما فعلا ذلك خالصا لله فكره أخذ العوض عنه، وأما من علم القرآن على أنه لله وأن يأخذ من المتعلم ما دفعه إليه بغير سؤال ولا استشراف نفس فلا بأس به.
وقد استدلوا على الجواز بحديث سهل بن سعد عند الشيخين (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امرأة فقالت: يا رسول الله إنى قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها ان لم يكن لك بها حاجة فقال صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شئ تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي الا إزارى هذه، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ أعطيتها إزارك، جلست لا إزار لك فالتمس شيئا فقال، ما اجد شئا فقال: التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل معك من القران شئ؟ فقال: نعم سورة كذا وسورة كذا يسميها، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ زوجتكها بما معك من القرآن) وفى رواية (قد ملكتكها بما معك من القرآن) ولمسلم (زوجتكها تعلمها القرآن) وفى رواية لابي داود (علمها عشرين آية وهي امرأتك) ولاحمد (قد أنكحتكها على ما معك من القرآن)(15/15)
ومن أدلة الجواز حديث عمر المتقدم في كتاب الزكاة (إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ له: ما اتاك من هذا المال من غير مسألة ولا اشراف نفس فخذه، ومن ادلة الجواز حديث الرقية المشهور الذى اخرجه البخاري عن ابن عباس وفيه (ان أحق ما اخذتم عليه اجرا كتاب الله) .
فإذا ثبت هذا: فان كان الاجر على تعليم السورة لا يحفظها ففى صحة ذلك وجهان (احدهما) يصح كما يصح شراء مالا يملكه ثمنه على ان يحصلها ثم يدفعها
(والثانى)
لا يصح لان المنفعة غير مقدور عليها فلم يصح.
قال العلامة الشربينى في المغنى على المنهاج: اما إذا استاجره مدة لجميعه فانه لا يصح على الاصح فان فيه جمعا بين الزمان والعمل وحينئذ كان ينبغى ان يقول المصنف - يعنى النووي - تعليم قرآن بالتنكير، فان الشافعي رضى الله عنه في باب التدبير نص على ان القران بالالف واللام لا يطلق الا على جميعه، فإذا قدر التعليم بمدة كشهر هل يدخل الجميع اولا؟ أفتى الغزالي بان ايام السبوت مستثناة في استئجار اليهودي شهرا لاطراد العرف به.
وقال البلقينى: ويقاس عليه الاحد للنصارى، والجمع في حق المسلمين، ثم قال ويشترط على المنعاقدين بما يقع العقد على تعليمه، فان لم يعلماه وكلا من يعلم ذلك ولا يكفى ان يفتح المصحف ويقول: تعلمني من هنا إلى هنا، لان ذلك لا يفيد معرفة المشار إليه بسهولة أو صعوبة، فإذا اطلق العقد في تعلم القرآن ولم يشترط قراءة بعينها فقد قال الماوردى والرويانى تفريعا على ذلك: يعلمه الاغلب من قراءة البلد كما لو اصدقها دراهم فانه يتعين دراهم البلد، أي فان لم يكن فيها أغلب علمه ما شاء من ذلك وهذا أوجه، فان عين له قراءة تعينت.
فان أقرأه غيرها ولم يستحق اجرة في احد وجهين يظهر ترجيحه، ولا يشترط رؤية المتعلم، ويشترط في المتعلم أن يكون مسلما أو يرجى إسلامه، فان لم يرج لم يعلم كما يباع المصحف من الكافر.
(فرع)
قال الشافعي وكذلك يملك المستأجر المنفعة التى في العبد والدار والدابة إلى المدة التى اشترط حتى يكون أحق بها من مالكها، ويملك بها صاحبها(15/16)
العوض فهى منفعة معقولة من عين معروفة فهى كالعين المبيعة، ولو كان حكمها خلاف حكم العين لكان في حكم الدين ولم يجز أن يكترى بدين لانه حينئذ يكون
دينا بدين، وقد نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدين بالدين، فإذا وقع ما أكرى وجب له جميع الكراء كما إذا دفع ما باع وجب له جميع الثمن إلا أن يشترط أجلا اه.
وجملة القول في عقد الاجارة أن يتضمن تمليك منافع في مقابلة أجرة، فأما المنافع فلا خلاف أنها تملك بالعقد ويستقر الملك بالقبض، وأما الاجارة فلها ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن يشترطا حلولها وتكون حالة اتفاقا.
(والثانى)
أن يشترطا تأجيلها أو تنجيمها فتكون مؤجلة أو منجمه اجماعا (والثالث) ان يطلقاها فلا يشترطا فيها حلولا ولا تأجيلا، فقد اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة مذاهب: فمذهب الشافعي منها أن الاجرة تكون حالة تملك بالعقد وتستحق بالتمكين، وقال أبو حنيفة: لا يتعجل الاجرة بل تكون في مقابلة المنفعة، فكلما مضى من المنفعة جزء ملك ما في مقابلته من الاجرة، وقال مالك: لا يستحق الاجرة الا بمضي جميع المدة استدلالا بقوله تعالى، فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن، فاقتضى أن تكون باستكمال الرضاع يستحق الاجرة، وبما رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف عرقه) فكان ذلك منه حثا على تعجيلها في أول زمان استحقاقها، وذلك بعد العمل الذى يعرف به، ولان أصول العقود موضوعة على تساوى المتعاقدين فيما يملكانه بالعقد ويكون ملك العوض تاليا لملك المعوض كالبيع إذا ملك على البائع المبيع ملك به الثمن، وإذا سلم المبيع استحق قبض المنافع مؤجلا وجب أن يكون قبض الاجرة مؤجلا، وتحريره قياسا أنه عقد معاوضه فوجب أن يكون استحقاق العوض بعد اقباض المعوض كالبيع، ولان ما استحق من الاعواض على المنافع يلزم أداؤه بعد تسليم المنافع كالجعالة والقراض، ولان
من ملك للاجرة يمنع من استحقاقها عليه بالعقد، وقد ثبت أن الدار المؤجرة من الاجرة فدل على أنه لم يكن مالكا للاجرة.(15/17)
ودليلنا هو أن ما لزم من عقود المنافع استحق العوض فيه حالا كالنكاح، ولان كل عوض تعجل بالشرط فإطلاقه يوجب حلوله كالثمن، ولان الاصول موضوعة على أن تسليم المعوض يوجب تسليم العوض ليستوي حكم المتعاقدين فيما يملكانه من عوض ومعوض كما هو مقرر في الاصول فلا يكون حظ أحدهما فيه أقوى من حظ الآخر كالبيع إذا سلم المبيع فيه وجب تسليم الثمن، وكالنكاح إذا حصل التمكين وجب تسليم الصداق، كذلك الاجارة إذا حصل تسليم المنفعة وجب تسليم الاجرة، والمنافع ههنا مقبوضة بالتمكين حكما، وإن لم يكن القبض مستقرا.
(فرع)
قال الشافعي: وله أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة، أما عقد الاجارة على سنة واحدة فيجوز لان الغرر يسير فيها والضرورة داعية إليها فأما ما زاد على السنة الواحدة فقد حكى مالك أنه جوزها إلى خمس سنين أو ست سنين لا غير، وللشافعي فيما زاد على السنة الواحدة قولان.
(أحدهما)
لا تجوز الاجارة أكثر من سنة، لان الاجارة غرر لانها عقد قد تسلم وقد لا تسلم، فإذا قل الزمان قل غررها فجاز، وإذا طال الزمان كثر غررها فبطل كالخيار، ولان السنه هي المدة التى تكمل فيها منافع الزراعة في الارضين، ولا تتغير فيها غالبا الحيوانات والدور فلذلك تقدرت مدة الاجارة بها وبطلت فيما جاوزها.
(والقول الثاني) وهو أصح القولين هنا، أن الاجارة تجوز أكثر من سنة بثلاثين سنة قدرها الشافعي على سبيل الكثرة، أما أدناها فأقل مدتها ما أمكن
فيه استيفاء المنفعة المعقود عليها وذلك قد يختلف باختلاف المؤاجر، فإن كان ذلك دارا للسكنى جازت إجارتها يوما واحدا، وان كان ذلك أرضا للزراعة فأقلها مدة زراعتها، فأما أكثر المدة فهو ما علم بقاء الشئ المؤاجر فيها، فإن كان ذلك أرضا تأيد بقاؤها، وإن كان دارا روعى فيها مدة يبقى فيها بناؤها، وإن كان حيوانا روعى فيه الاغلب من مدة حياته.(15/18)
(فرع)
فأما إذا آجر داره كل شهر بدينار ولم يذكر عدد الشهور وغايتها لم تصح الاجارات فيما عدا الشهر الاول للجهالة بمبلغه، فصار كقوله: أجرتكها مدة، واختلف أصحابنا في صحتها ولزومها في الشهر الاول على وجهين.
(أحدهما)
أن الاجارة فيه صحيحه لكونه معلوما.
(والوجه الثاني) وهو الاصح أنها باطلة لكونه واحدا من عدد مجهول فلم يتميز في الحكم.
وقال أبو حنيفة: الاجارة صحيحه وللمستأجر فسخ الاجارة في كل شهر قبل دخوله، فإذا دخل قبل فسخه لزمه وجعل إطلاق الشهور مع تسمية الاجرة لكل شهر جاريا مجرى بيع الصبرة المجهولة القدر إذا سمى ثمن كل قفيز، وهذا خطأ للخطأ بما تناوله العقد من الشهور بخلاف الصبرة التى قد أشير إليها وينحصر كيلها، ولانه لا يخلو أن تصح الاجارة فلا يكون له فسخها من غير عذر أو تبطل، فلا يجوز أن يقيم عليها مع العذر، ويلزم أجرة المثل إن سكن دون المسمى.
فإذا قدر المدة بسنه حملت على السنه الهلاليه المعهودة شرعا فان شرط هلاليه كان تأكيدا، وإن قال عدديه أو سنه بالايام كان له ثلاثمائة وستون يوما، لان الشهر العددى يكون ثلاثين يوما، وإن استأجر سنه هلاليه أول الهلال عد اثنى عشر شهرا بالاهلة سواء كان الشهر تاما أو ناقصا، لان الشهر الهلالي ما بين
الهلالين ينقص مرة ويزيد أخرى، وإن كان العقد في أثناء شهر عد ما بقى من الشهر وعد بعده أحد عشر شهرا بالهلال ثم كمل الشهر الاول بالعدد ثلاثين يوما لانه تعذر اتمامه بالهلال فتممناه بالعدد وأمكن استيفاء ما عداه بالهلال فوجب ذلك لانه الاصل، وقد مضى في السلم بحث في الشهور العربية الهلاليه والشمسية الرومية ويعد ذلك أساسا لتوقيت التعامل هنا كمثله هناك.
(فرع)
قال في المنهاج: يشترط كون المنفعة معلومة ثم تارة تقدر بزمان كدار سنه، وتارة بعمل كدابه إلى مكة وكخياطه ذا الثوب فلو جمعهما فاستأجره ليخيطه بياض النهار لم يصح في الاصح، ويقدر تعليم القرآن بمدة أو تعيين سور وفى البناء يبين الموضع والطول والعرض والسمك وما يبنى به إن قدر بالعمل،(15/19)
وإذا صلحت الارض لبناء وزراعة وغراس اشترط تعيين المنفعة، ويكفى تعيين الزراعة عن ذكر ما يزرع في الاصح، ولو قال: لتنتفع بما شئت صح، وكذا لو قال: إن شئت فازرع وإن شئت فاغرس في الاصح، ويشترط في إجارة دابة لركوب معرفة الراكب بمشاهدة أو وصف تام، وقيل لا يكفى الوصف، وكذا الحكم فيما يركب عليه من محمل وغيره إن كان له.
وقال السبكى: لا بد في تصوير هذه المسألة من زيادة ما شئت فيقول: إن شئت فازرع ما شئت أو اغرس ما شئت، فإن لم يزد ما ذكر عاد الخلاف في وجوب تعيين ما يزرع، اه وإذا صلحت الارض لغراس أو بناء أو زراعة أو لاثنين من هذه الثلاثة اشترط تعيين المنفعة في الصورتين لاختلاف الضرر اللاحق باختلاف منافع هذه الجهات، فإن أطلق لم يصح، أما إذا لم تصلح إلا لجهة واحدة فإنه يكفى الاطلاق فيها كأراضي الاحكار فإنه يغلب فيها البناء، وبعض البساتين فانه
يغلب فيها الغراس، ويكفى في أرض استؤجرت للزراعة تعيين الزراعة عن ذكر ما يزرع فيها، كقوله أجرتكها للزراعة أو لتزرعها، فيصح لقلة التفاوت بين أنواع الزرع، ويزرع ما شاء للاطلاق قال الرافعى: وكان يحتمل أن ينزل على أقل الدرجات.
وما قاله حكاه الخوارزمي وجها، فيكون الوجه الثاني أنه لا يكفى لان ضرر الزرع مختلف.
نعم إن أجر على غيره بولاية أو نيابة لا يكفى الاطلاق لوجوب الاحتياط.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وإن استأجر ظهرا للركوب لم يصح العقد حتى يعرف جنس المركوب، لان الغرض يختلف باختلافه، ويعرف ذلك بالتعيين والوصف لانه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والوصف كما قلنا في البيع، فإن كان في الجنس نوعان مختلفان في السير كالمهماج والقطوف من الخيل ففيه وجهان
(أحدهما)
يفتقر إلى ذكره لان سيرهما يختلف
(والثانى)
لا يفتقر لان التفاوت(15/20)
في جنس واحد يقل ولا يصح حتى يعرف الراكب، ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين لانه يختلف بثقله وخفته وحركته وسكونه، ولا يضبط ذلك بالوصف فوجب تعيينه، ولا يصح حتى يعرف ما يركب به من سرج وغيره، لانه يختلف ذلك على المركوب والراكب.
فإن كان عماريه أو محملا ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يجوز العقد عليه بالوصف لانه يمكن وصفه فجاز العقد عليه بالصفة كالسرج والقتب، والثانى إن كانت من المحامل البغدادية الخفاف جاز العقد عليه بالصفة لانها لا تختلف وإن كانت من الخراسانيه الثقال لم يجز إلا بالتعيين لانها تختلف وتتفاوت
(والثالث) وهو المذهب انه لا يجوز إلا بالتعيين لانها تختلف بالضيق والسعه والثقل والخفه وذلك لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه.
واختلف أصحابنا في المعاليق كالقدر والسطيحه، فمنهم من قال لا يجوز حتى يعرف قولا واحدا لانها تختلف فوجب العلم بها.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
لَا يَجُوزُ حتى يعرف لما ذكرناه
(والثانى)
يجوز وتحمل على ما جرت به العادة لانه تابع غير مقصود فلم تؤثر الجهالة فيه كالغطاء في الاجارة والحمل في البيع، وان كان السير في طريق فيه منازل معروفه جاز العقد عليه مطلقا لانه معلوم بالعرف فجاز العقد عليه مطلقا كالثمن في موضع فيه نقد متعارف، فان لم يكن فيه منازل معروفه لم يصح حتى يبين لانه مختلف لا عرف فيه فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه.
(فصل)
فان استأجر ظهر الحمل متاع صح العقد من غير ذكر جنس الظهر لانه لا غرض في معرفته ولا يصح حتى يعرف جنس المتاع انه حديد أو قطن لان ذلك يختلف على البهيمه ولا يصح حتى يعرف قدره لانه يختلف، فان كان موزونا ذكر وزنه، وان كان مكيلا ذكر كيله، فإن ذكر الوزن فهو أولى لانه أخصر وأبعد من الغرر، فان عرف بالمشاهدة جاز كما يجوز بيع الصبرة بالمشاهدة وان لم يعرف كيلها، فان شرط أن يحمل عليها ما شاء بطل العقد لانه دخل في الشرط ما يقتل البهيمه، وذلك لا يجوز فبطل به العقد.
فأما الظروف التى فيها المتاع فانه ان دخلت في وزن المتاع صح العقد لان(15/21)
الغرر قد زال بالوزن وإن لم تدخل في وزن المتاع نظرت فان كانت ظروفا معروفة كالغرائر الجبلية جاز العقد عليها من غير تعيين لانها لا تتفاوت، وإن كانت غير معروفة لم يجز حتى تعين لانها تختلف ولا تضبط بالصفة فوجب تعيينه.
(الشرح) المهملج.
قال في القاموس: والهملجة فارسي معرب، وشاة هملاج لا مخ فيها لهزالها، وأمر مهملج مذلل منقاد، والهملاج بالكسر من البراذين، والقطوف الدابة ضاق مشيها، قال زهير: بارزة الفقارة لم يخنها قطاف في الركاب ولا خلاء والعمارية نسبة إلى موضع باليمامة والمحمل كمجلس الهودج فكأن منها ما يصلح للركوب، ومنها ما يصلح للحمل، والمعاليق جميع معلاق، وهو ما يعلق بعروة بلا شد ولا ربط، والسطيحة إناء مسطح من الجلد.
أما الاحكام فإنه يشترط في إجارة الظهر للركوب عينا أو ذمة معرفة الراكب بمشاهدة أو وصف تام له لينتفي الغرر.
وذلك بنحو ضخامة أو نحافة، كما في الحاوى الصغير خلافا للبلقينى وغيره من اعتبار الوزن، إذ أن ثقل الوزن يخل بتوازنه أو بحشمته، وإنما اعتبروا في نحو المحمل الوصف مع الوزن لانه إذا عين لا يتغير، والراكب قد يتغير بسمن أو هزال، فلم يعتبر جمعهما فيه، وقيل لا يكفى الوصف وتتعين المشاهدة لانه ليس الخبر كالعيان، ولما يأتي من عدم الاكتفاء بوصف الرضيع، وكذا الحكم فيما معه من متاع، وفيما يركب عليه من محمل وسرج وأكاف إن فحش تفاوته ولم يكن هناك عرف مطرد أو كان ذلك تحت يد المكترى ولو بعارية فيشترط معرفته بمشاهدته أو وصفه التام، فإذا كان الراكب مجردا فلا حاجة إلى ذكر ما يركب عليه، ويركبه المؤجر على ما شاء من سرج يليق بالدابة ويناسب قوتها، فان كان هناك عرف مطرد فلا حاجة إلى ذكره أو النص عليه خلافا للاذرعي، ولا بد في نحو المحمل من وطاء وهو ما يجلس عليه.
وكذا غطاء إن شرط في العقد، فان كان ثمة عرف مطرد حمل الاطلاق عليه، ولو شرط في عقد الاجارة حمل المعاليق فسد العقد في الاصح لاختلاف الناس فيها قلة وكثرة
(والثانى)
يصح ويحمل على الوسط المعتاد،(15/22)
وإن لم يشرطه لم يستحق حملها في الاصح، هكذا أفاده النووي والرملى وغيرهما ويقاس على هذا ما ينبغى أن تكون عليه مؤاجرة السيارات للركوب لانتقال أو ارتحال، فقد تحددت في زماننا هذا حمولة السيارات الركوبية بعدد الراكبين وما يجوز حمله بالعرف المطرد من حقائب، وكذلك السيارات الحمولية تحددت حمولتها بالوزن ومقصد الشرع المحافظة على البهيمة من وجهين: حرمة الحياة وحرمة المال.
(فرع)
وأما الآلات والعربات ففيها حرمة يجب في الايجار أن يعرف المحمول وقدره وجنسه، فإذا كان في أو طبه وأجوله أو صناديق امتحنها وعرف ما فيها، فان كانت عارية فلا كلام وإن كانت مظروفة في أكياس أو معبأة وجب امتحانها ومعرفتها جنسا ووزنا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَجُوزُ من ذلك شئ على شئ مغيب لا يجوز حتى يرى الراكب والراكبين، وظرف المحمل والوطاء وكيف الظل إن شرطه لان ذلك يختلف فيتباين أو تكون الحمولة بوزن معلوم أو كيل معلوم أو ظرف ترى أو تكون إذا شرطت عرفت مثل غرائر الحلبه وما أشبه هذا.
وقال أيضا (وإذا تكارى الرجل الدابه إلى موضع فجاوزه إلى غيره فعليه كراء الموضع الذى تكاراها إليه الكراء الذى تكاراها به وعليه من حين تعدى إلى أن ردها كراء مثلها من ذلك الموضع، وإذا عطبت عليه لزمه الكراء إلى الموضع التى عطبت فيه وقيمتها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان استأجر ظهرا للسقي لم يصح العقد حتى يعرف الظهر، لانه لا يجوز الا على مدة، وذلك يختلف باختلاف الظهر فوجب العلم به على الاظهر
ويجوز أن يعرف ذلك بالتعيين والصفة، لانه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والصفة، كما يجوز بيعه بالتعيين والصفة، ولا يصح حتى يعرف الدولاب لانه يختلف، ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين، لانه لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه.(15/23)
(فصل)
وإن استأجر ظهرا للحرث لم يصح حتى يعرف الارض، لانه يختلف ذلك بصلابة الارض ورخاوتها، فإن كان على جربان لم يفتقر إلى العلم بالظهر لانه لا يختلف، وإن كان على مدة وقلنا إنه يصح لم يجز حتى يعرف الظهر الذى يحرث به، لان العمل يختلف باختلافه، ويعرف ذلك بالتعيين والصفه لما ذكرناه في السقى.
(فصل)
وان استأجر ظهرا للدياس لى يصح حتى يعرف الجنس الذى يداس لان العمل يختلف باختلافه، فان كان على زرع معين لم يفتقر إلى ذكر الحيوان الذى يداس به، لانه لا غرض في تعيينه، فان كان على مدة لم يصح حتى يعرف الحيوان الذى يداس به، لان العمل يختلف باختلافه
(فصل)
وإن استأجر جارحة للصيد لم يصح حتى يعرف جنس الجارحه لان الصيد يختلف باختلافه ويعرف ذلك بالتعيين والصفه لانه يضبط بالصفة ولا يصح حتى يعرف ما يرسله عليه من الصيد، لان لكل صنف من الصيد تأثيرا في اتعاب الجارحه.
(الشرح) يجوز اكتراء الدابه للاستقاء بالغرب وهو الدلو العظيمه ونحوه كالدولاب، فلا بد من معرفته لانه يختلف بكبره وصغره، ويقدر بكيله متريا أو قياسه أو وزنه، ولا يجوز تقدير ذلك بحوض في الارض أو حفرة فيها للجهالة ولتسرب الماء في باطن التربه
فإن قدره بعدد المرات احتاج إلى معرفة الموضع الذى يستقى منه والذى يذهب إليه، لان ذلك يختلف بالقرب والبعد والسهولة والحزونه، وان قدره بملء شئ معين احتاج إلى معرفته ومعرفة ما يستقى منه، هذا ما يقال في الاستيقاء.
ولما كانت البهيمة تؤجر للحرث والدراس والطحن غير ما مضى من الحمل والنقل فنقول: ان جواز كراء الدابة للحمل ثابت بالكتاب (وتحمل أثقالكم إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلَّا بِشِقِّ الانفس)(15/24)
أما كراء البقر للحرث فقد ثبت بالنص والعرف قال النبي صلى الله عليه وسلم (بينما رجل يسوق بقرة أراد أن يركبها فقالت: إنى لم أخلق لهذا، وإنما خلقت للحرث، رواه الشيخان، على أن هذا يحتاج إلى شرطين، معرفة الارض وتقدير العمل، فأما الارض فلا تعرف الا بالمشاهدة لاختلافها صلابة ورخاوة وسعة وضيقا وقد كانت الارض تقدر مساحتها بالجربان جمع جريب وهو ما يبلغ ستين ذراعا مربعا مهيا للزرع ولذلك كانوا يقولون فلان يملك ألف جريب وألف خريب ويعنون بالخريب غير المهيأ للزراعة ويحتاج إلى اصلاح حتى يكون جريبا، ومن هنا اختلف كراء الجريب عن الخريب لان الجريب تكون مستوية السطح خالية من الحجارة والحفر بعكس الخريب لذلك وجب رؤيتها لانها لا تعرف الا بالمشاهدة وأما تقدير العمل فيجوز بأحد شيئين اما بالمدة كيوم ويومين واما بالارض كهذه القطعة، أو من هذا المكان أو بالمساحة كقصبة أو قصبتين (والقصبة 355 س م.
) والفدان 333 وثلث قصبة.
أما الدراس أو الدياس والدياس جعلوها مصدرا لداس يدوس دوسا
ودياسا مثل الدراس فمن علماء اللغة من ينكر كون الدياس من كلام العرب، ومنهم من يقول: هو مجاز وكأنه مأخوذ من داس الارض دوسا إذا شدد وطأه عليها بقدمه، والمدوس الذى تداس به الحنطة بكسر الميم لانه آلة.
وأما المداس الذى ينتعله الانسان فإن صح سماعه فقياسه كسر الميم لانه آلة والا فالكسر أيضا حملا على النظائر الغالبة من العربية، ولا أدرى وجه صاحب القاموس المحيط في جعله زنة سحاب قلت: أما تأجير البقر للدراس أو غير البقر فأشبه الحرث في معرفة نوع الزرع المراد دياسه وهل بالنورج أم بدونه وعلى مدة ومعرفة الحيوان، لان الغرض يختلف باختلافه، فمن الحيوانات ما يكون نجس البول والروث فيختلط بالطعام فيحتاج إلى اختياره وتحديد نوعه وكذلك ادارة الرحى للطحن يفتقر إلى شيئين، معرفة الحجر بالمشاهدة، واما بصفة تعرف بها حالته من الثقل أو الخفة وتقدير العمل اما بالزمان كيوم ويومين ونوع المطحون فقد يكون عسير الطحن لصلابته.(15/25)
(فرع)
إذا استأجر جارحة للصيد لم يصح حتى يعرف جنسها لانها إذا كانت الجارحة كلبا فلا يصح استئجاره كما صحح ذلك النووي، وحكى الرملي والشربينى منازعة النووي في هذا، وقال الاذرعى: المختار قول الغزالي، يعنى من حيث جواز إجارة الكلب المعلم للصيد.
أما الجوارح الاخرى كالبازي والعقاب والفهد فيجوز استئجارها قولا واحدا كما يجوز استئجار السنور لصيد الفأر وعلى هذا يصح استئجارها أعنى الجوارح من ذمى أو مجوسي ويجرى عليها حكم صيد المسلم بكلب النصراني واليهودى، إن قلنا بصحة استئجاره فإن صيده جائز.
أما الجوارح الاخرى فإنه يصح استئجارها من يهودى أو نصراني ويصح صيدها
قال العبدرى: وبه قال الفقهاء كافة.
وقال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَكَمُ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وهو أصح الروايتين عن عطاء وَمِمَّنْ كَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ راهويه، وقال أحمد: كلب النصراني واليهودى عندي أهون من المجوسى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان استأجر رجلا ليرعى له مدة لم يصح حتى يعرف جنس الحيوان: لان لكل جنس من الماشية تأثيرا في اتعاب الراعى.
ويجوز أن يعقد على جنس معين وعلى جنس في الذمة، فإن عقد على موصوف لم يصح حتى يذكر العدد، لان العمل يختلف باختلافه، ومن أصحابنا من قال: يجوز مطلقا ويحمل على ما جرت به العادة أن يرعاه الواحد من مائه أو أقل أو أكثر، والاول أظهر لان ذلك يختلف وليس فيه عرف واحد.
(فصل)
وان استأجر امرأة للرضاع لم يصح العقد حتى يعرف الصبى الذى عقد على ارضاعه، لانه يختلف الرضاع باختلافه، ولا يعرف ذلك الا بالتعيين، لانه لا يضبط بالصفة ولا يصح حتى يذكر موضع الرضاع لان الغرض يختلف باختلافه.(15/26)
(فصل)
وان استأجر رجلا ليحفر له بئرا أو نهرا لم يصح العقد حتى يعرف الارض لان الحفر يختلف باختلافها ولا يصح حتى يذكر الطول والعرض والعمق، لان الغرض يختلف باختلافها، وان استأجر لبناء حائط لم يصح العقد حتى يذكر الطول والعرض وما يبنى به من الآجر واللبن والجص والطين، لان الاغراض تختلف باختلافها، وان استأجره لضرب اللبن لم يصح حتى يعرف
موضع الماء والتراب، ويذكر الطول والعرض والسمك والعدد، وعلى هذا جميع الاعمال التى يستأجر عليها.
وان كان فيما يختلف الغرض باختلافه، رجع فيه إلى أهل الخبره ليعقد على شرطه، كما إذا أراد أن يعقد النكاح، ولم يعرف شروط العقد رجع إلى من يعرفه ليعقد بشروطه، وان عجز عن ذلك فوضه إلى من يعرفه ليعقد بشرطه كما يوكل الاعمى في البيع والشراء من يشاهد المبيع.
(فصل)
وان استأجر رجلا ليلقنه سورة من القرآن لم يصح حتى يعرف السورة لان الغرض يختلف باختلافها، وان كان على تلاوة عشر آيات من القرآن لم يصح حتى يعينها لان آيات القرآن تختلف، فإن كان على عشر آيات من سورة معينة ففيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح، لان الاعشار تختلف
(والثانى)
يصح، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرضت نفسها عليه، فقال لها: اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا فيك، ولكن تملكيننا أمرك؟ قالت: نعم، فنظر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وجوه القوم، فدعا رجلا منهم فقال لها: انى أريد أن أزوجك هذا ان رضيت فقالت: ما رضيت لى يا رسول الله فقد رضيت، ثم قال للرجل: هل عندك من شئ؟ قَالَ لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: ما تحفظ من القرآن؟ قال سورة البقرة والتى تليها، قال: قم فعلمها عشرين آية وهى امرأتك) وهل يفتقر إلى تعيين الحرف؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يصح حتى يعين الحرف، لان الاغراض تختلف باختلاف الحرف
(والثانى)
لا يحتاج إلى تعيين الحرف، لان ما بين الاحرف من الاختلاف قليل.(15/27)
(فصل)
وإن استأجر للحج والعمرة لم يصح حتى يذكر أنه إفراد أو قران أو تمتع، لان الاغراض تختلف باختلافها، فأما موضع الاحرام فقال في الام لا يجوز حتى يعين وقال في الاملاء: إذا استأجر أجيرا أحرم من الميقات ولم يشرط التعيين، واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق المروزى: فيه قولان:
(أحدهما)
لا يجوز حتى يعين، لان الاحرام قد يكون من الميقات، وقد يكون من دويرة أهله، وقد يكون من غيرهما، فإذا أطلق صار العقد على مجهول فلم يصح
(والثانى)
أنه يجوز من غير تعيين ويحمل على ميقات الشرع، لان الميقات معلوم بالشرع فانصرف الاطلاق إليه كنقد البلد في البيع ومن أصحابنا من قال: إن كان الحج عن حى لم يجز حتى يعين، لانه يمكن الرجوع إلى معرفة غرضه، وإن كان عن ميت جاز من غير تعيين، لانه لا يمكن الرجوع إلى معرفة غرضه، وحمل القولين على هذه الحالين.
ومنهم من قال: إن كان للبلد ميقاتان لم يجز حتى يبين لانه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فوجب بيانه كالثمن في موضع فيه نقدان.
وإن لم يكن له إلا ميقات واحد جاز من غير تعيين، كالثمن في موضع ليس فيه إلا نقد واحد، وحمل القولين على هذين الحالين، فإن ترك التعيين وقلنا إنه لا يصح فحج الاجير، انعقد الحج للمستأجر لانه فعله بإذنه مع فساد العقد فوقع له كما لو وكله وكالة فاسدة في بيع (الشرح) أوردنا في صدر هذا الباب آية استئجار شعيب لموسى، وقد روى أحمد والبخاري وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه وأنت؟ قال نعم.
كنت أرعاها على قراريط لاهل مكة، وقال سويد بن سعيد: يعنى كل شاة بقيراط.
وقال ابراهيم الحربى: قراريط اسم موضع، وقد صوب ابن الجوزى وابن ناصر التفسير الذى ذكره ابراهيم الحربى: لكن الذى رجح تفسير ابن سويد
أن أهل مكة لا يعرفون مكانا يقال له: قراريط وقد روى النسائي من حديث نصر بن حزن قال: افتخر أهل الابل والغنم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بعث موسى وهو راعى غنم، وبعث داود(15/28)
وهو راعى غنم وبعثت وأنا راعى غنم أهلى بجياد، وفى الحديث دليل على جواز الاجارة على رعى الغنم، ويلحق بها في الجواز غيرها من الحيوان، وهل يصح أن يرعى قطيعا بغير عدد من الغنم، أو قطيعا بغير عدد من البقر قل أو كثر؟ قولان
(أحدهما)
وهو الاصح أن يذكر العدد وأن يكون الاجر مناسبا لقدر المنفعة والعمل
(والثانى)
إذا جرى عرف مطرد بأن يرعى القطيع من غير عدد صح عقده.
(فرع)
مذهب الشافعي رضى الله عنه على أنه يجوز استئجار الام لارضاع ولدها.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة اه.
ولا يجوز استئجار امرأة حرة منكوحة لرضاع أو غيره مما يؤدى إلى خلوة محرمة إلا بإذن زوجها على الاصح، ويؤخذ من قول الاذرعى أنه يجوز لها ذلك إذا كان زوجها غائبا فأجرت نفسها لعمل مباح لا خلوة فيه بأجنبى ينقضى أجله قبل قدومه، وقد اعترض الغزى على هذا بأن المرأة ومنافعها مستحقة لزوجها بعقد النكاح.
قال الرملي: وهذا الاعتراض ممنوع بأنه لا يستحقها، وانما يستحق المنفعة منها وهى متعذرة منه، ولو اختلفت الزوجة مع زوجها حول الاذن صدق الزوج ولا كلام.
على أن الاقيس على ظاهر المذهب أنه يصح لها ذلك على حد قول الاذرعى لانه لما جاز للزوج أن يستأجر زوجته لارضاع ولده ولو كان منها فان ذلك يفيد بمفهومه ملكها المنفعة، إذا تقرر هذا فهل يجوز أن يستأجر المرضعة بطعامها
وكسوتها؟ مذهب الشافعي على أن ذلك لا يجوز في الظئر ولا في غيره من أنواع الاجارات وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن استأجر أجيرا بطعامه وكسوته أو جعل أجرا وشرط طعامه وكسوته فروى عنه جواز ذلك وهو مذهب مالك واسحاق وروى عن أبى بكر وعمر وأبى موسى أنهم استأجروا الاجراء بطعامهم وكسوتهم، وروى عن أحمد أن ذلك جائز في الظئر دون غيره لقوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فأوجب لهن النفقة والكسوة(15/29)
على الرضاع، ولم يفرق بين المطلقة وغيرها، بل في الآية قرينة تدل على طلاقها لان الزوجة تجب نفقتها وكسوتها بالزوجية وإن لم ترضع، لان الله تعالى قال (وعلى الوارث مثل ذلك) والوارث ليس بزوج، ولان المنفعة في الحضانة والرضاع غير معلومة، فجاز أن يكون عوضها كذلك.
وروى عنه رواية ثالثة: لا يجوز ذلك بحال، لا في الظئر ولا في غيرها.
وبهذا قال الشافعي وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لان ذلك يختلف اختلافا كثيرا متباينا فيكون مجهولا، والاجر من شرطه أن يكون معلوما.
إذا ثبت هذا فهل تدخل الحضانة في الرضاع أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
لا تدخل وهو قول أبى ثور وابن المنذر لان العقد لم يتناولها
(والثانى)
تدخل وهو قول أصحاب الرأى، لان العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبى فحمل الاطلاق على ما جرى به العرف والعادة.
ويشترط لعقد الرضاعة أربعة شروط: 1 - أن تكون مدة الرضاع معلومة، لانه لا يمكن تقديره إلا بها، فإن السقى والعمل فيها يختلف.
2 - معرفة الصبى بالمشاهدة، لان الرضاع يختلف باختلاف الصبى في كبره وصغره ونهمته وقناعته.
3 - موضع الرضاع لانه يختلف فيشق عليها في بيته ويسهل عليها في بيتها
4 - معرفة العوض وكونه معلوما كما سبق (فرع)
إذا استأجر عاملا يحفر له بئرا وحدد له مكان البئر وسعتها وأجره، أو استأجر عاملا يضرب له لبنا وهيأ له الماء والتبن والتراب والمكان الصالح اضرب اللبن، ثم انهارت البئر أو تلف اللبن بمطر أو داست عليه بهيمة فأتلفته فقد استحق العامل أجره، ولا ضمان عليه في البئر ولا في اللبن (فرع)
يجوز أن يأخذ الاجرة على تعليم القرآن أو سورة منه مع تعيينها أو قدر منه مع تعيينه وتحديده كما يجوز أن يأخذ الاجرة على تعليم الفقه والحديث ونحوهما ان كان محتاجا وهو وجه في المذهب، ولا يصح الاستئجار على القراءة على الموتى لنصه في الام حيث قال: إن القراءة لا تحصل له.
وقال الشربينى في المغنى: الاجارة للقرآن على القبر مدة معلومة أو قدرا معلوما(15/30)
جائزة للانتفاع بنزول الرحمة حيث يقرأ القرآن ويكون الميت كالحى الحاضر، سواء أعقب القرآن بالدعاء أم جعل قراءته له أم لا فتعود منفعة القرآن إلى الميت في ذلك، ولان الدعاء يلحقه وهو بعدها أقرب إلى الاجابة وأكثر بركة، ولانه إذا جعل أجرة الحاصل بقراءة للميت فهو دعاء بحصول الاجر فينتفع به.
فقول الشافعي رضى الله عنه أن القراءة لا تحصل له محمول على غير ذلك.
وقد أفتى الشهاب الرملي بذلك وأفاده ولده شمس الدين في نهاية المحتاج قلت: وقد أجمع أهل العلم على أن القارئ إذا قرأ ابتغاء المال وطلبا للنقود لا سيما في زماننا الذى عمت فيه حرفة القراءة، وصاروا يتقاولون على القراءة ويتزيدون كما يتزيد المتبذلون من أهل الغناء والفتنة فإنه لا ثواب له وقد يكون مأزورا آثما لانه لا يبتغى بالقرآن وجه الله، ولم يقف عند عجائبه فيحرك به قلبه، وكما يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: الموعظة زكاة نصاب الاتعاظ
ومن لا نصاب عنده لا زكاة عليه، ففاقد الاتعاظ بكتاب الله ليس عنده ما يمنحه غيره من الموعظة (فرع)
قال أصحابنا: أعمال الحج معروفة فإذا علمها المتعاقدان عند الاجارة صَحَّتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ جَهِلَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ تَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ والبغوى وَالْمُتَوَلِّي، وَهَلْ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمِيقَاتِ الَّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ الْأَجِيرُ؟ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَمُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ، وَنَصَّ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لا يشترط وللاصحاب أَرْبَعُ طُرُقٍ، أَصَحُّهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَوَافَقَ الْمُصَنَّفُونَ عَلَى تَصْحِيحِهِ: فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُشْتَرَطُ، وَيُحْمَلُ عَلَى مِيقَاتِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ فِي الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَقَعُ عَلَى حَجٍّ شَرْعِيٍّ، وَالْحَجُّ الشَّرْعِيُّ لَهُ مِيقَاتٌ مَعْقُودٌ شَرْعًا وَغَيْرُهَا فَانْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا يُقَرِّرَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ وَمَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَوْ الْعُرْفِ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُطْلَقٍ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ النَّقْدُ الْغَالِبُ ويكون كما لو قَرَّرَاهُ.
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَصْحِيحِ هَذَا الْقَوْلِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ والرافعي وآخرون.
والثانى: يُشْتَرَطُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْمِيقَاتِ وَفَوْقَهُ وَدُونَهُ، وَالْغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ فَوَجَبَ بَيَانُهُ(15/31)
والطريق الثاني: إن كان للبلد طريقان مختلفان إلى الميقات أو طريق يفضى إلى ميقاتين اشترط بيانه وإلا فلا.
والطريق الثالث: إنْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَنْ حَيٍّ اُشْتُرِطَ، وَإِنْ كان عن ميت فلا لانه قد يتعلق للحى غرض فيه وهذا الطريق هو الذى حكاه المصنف هنا وحكاه الشيخ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ، وَضَعَّفَهُ الشَّيْخُ أبو حامد الاسفرايينى وآخرون، وهذا والذى قبله ليس بشئ عندهم ونقله إمام الحرمين.
والطريق الرابع: ما حكاه الدارمي من أنه يشترط قولا واحدا، وعلى هذا إن شرطاه فأهملاه فسدت الْإِجَارَةُ، لَكِنْ يَصِحُّ الْحَجُّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَعَلَيْهِ أجرة المثل، أما تَعْيِينُ زَمَانِ الْإِحْرَامِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِلَا خِلَافٍ.
قالوا: وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ اُشْتُرِطَ بِلَا خلاف بيان أنهما إفراد أو تمتع أو قران لاختلاف الغرض بذلك، هذا وقد نَقَلَ الْمُزَنِيّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي الْمَنْثُورِ أَنَّهُ إذَا قَالَ الْمَعْضُوبُ: مَنْ حَجَّ عَنَى فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَحَجَّ عَنْهُ إنْسَانٌ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ، قَالَ الْمُزَنِيّ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، لِأَنَّ هَذَا إجَارَةٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْأَجْرِ، هَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ، وقد ذكر المصنف المسألة في باب الجعالة، وللاصحاب فيها ثلاثة أوجه (أصحها) صحة الحج عن المستأجر واستحقاق الاجير أجرة المثل، لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ وَالْجَعَالَةُ تَجُوزُ عَلَى عمل مجهول فوقوعها عن معلوم أولى، هذا وبقيه ما يتعلق بالاجارة عن الحج من انفراد أجير أو تعدد أجراء أو حصول الاجارة بمكة أو غيرها مفصل مبسوط في كتاب الحج من المجموع فاشدد به يديك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
ولا تصح الاجارة الا على أجرة معلومة لانه عقد يقصد به العوض، فلم يصح من غير ذكر العوض كالبيع، ويجوز اجارة المنافع من جنسها ومن غير جنسها: لان المنافع في الاجارة كالاعيان في البيع، ثم الاعيان يجوز بيع بعضها ببعض فكذلك المنافع.
(فصل)
ولا تجوز الا بعوض معلوم لم روى أبو سعيد الخدرى (رض)(15/32)
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (من استأجر أجيرا فليعلمه أجره) ولانه عقد معاوضة فلم يجز بعوض مجهول كالبيع، وان عقد بمال جزاف نظرت، فإن كان
العقد على منفعة في الذمة ففيه قولان، لان اجارة المنفعة في الذمة كالسلم، وفى السلم على مال جزاف قولان، فكذلك في الاجارة، فإن كان العقد على منفعة معينه ففيه طريقان، من أصحابنا من قال يجوز قولا واحدا، لان اجارة العين كبيع العين، وفى بيع العين يجوز أن يكون العوض جزافا قولا واحدا، فكذلك في الاجارة، ومنهم من قال: فيه قولان
(أحدهما)
يجوز
(والثانى)
لا يجوز، لانه عقد على منتظر، وربما انفسخ فيحتاج إلى الرجوع إلى العوض، فكان في عوضه جزافا قولان كالسلم.
وان كانت الاجارة على منفعه معينه جاز بأجرة حالة ومؤجلة، لان اجارة العين كبيع العين، وبيع العين يصح بثمن حال ومؤجل، فكذلك الاجارة، فإن أطلق العقد وجبت الاجرة بالعقد، ويجب تسليمها بتسليم العين، لما روى أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (أعطوا الاجير أجره قبل أن يجف رشحه) .
ولان الاجارة كالبيع ثم في البيع يجب الثمن بنفس العقد ويجب تسليمه بتسليم العين، فكذلك في الاجارة، فإن استوفى المنفعة استقرت الاجرة لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ ربكم عزوجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بى ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره ولانه قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل كما لو قبض المبيع، فان سلم إليه العين التى وقع العقد على منفعتها ومضت مدة يمكن فيها الاستيفاء استقر البدل لان المعقود عليه تلف تحت يده فاستقر عليه البدل كالمبيع إذا تلف في يد المشترى فان عرض العين على المستأجر ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء استقرت الاجرة لان المنافع تلفت باختياره فاستقر عليه ضمانها كالمشترى إذا أتلف المبيع
في يد البائع.
فإن كان هذا في اجارة فاسدة استقر عليه أجرة المثل، لان الاجارة كالبيع(15/33)
والمنفعة كالعين، ثم البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل، فكذلك في الاجارة فإن كان العقد على منفعة في الذمة لم يجز بأجره مؤجلة، لان إجارة ما في الذمة كالسلم، ولا يجوز السلم بثمن مؤجل، فكذلك الاجارة، ولا يجوز حتى يقبض العوض في المجلس كما لا يجوز في السلم، ومن أصحابنا من قال: إن كان العقد بلفظ السلم وجب قبض العوض في المجلس لانه سلم، وإن كان بلفظ الاجارة لم يجب لانه إجارة والاول أظهر، لان الحكم يتبع المعنى لا الاسم.
ومعناه معنى السلم فكان حكمه كحكمه، ولا تستقر الاجرة في هذه الاجارة إلا باستيفاء المنفعة، لان المعقود عليه في الذمة فلا يستقر بدله من غير استيفاء كالمسلم فيه: (الشرح) حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رواه أحمد ولفظه (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن استئجار الاجير حتى يبين له أجره، وعن النجش واللمس والقاء الحجر) قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح الا أن ابراهيم النخعي لم يسمع من أبى سعيد فيما أحسب.
وأخرجه أيضا البيهقى وعبد الرزاق وإسحاق بن راهويه وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع، ولفظ بعضهم (من استأجر أجيرا فليسلم له أجرته) وفى هذا الحديث دليل على وجوب بيان قدر الاجرة، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال مالك وأحمد بن حنبل وابن شبرمة: لا يجب للعرف واستحسان المسلمين، قال صاحب البحر: لا نسلم بل الاجماع على خلافه اه.
ويؤيد قول المذهب القياس على ثمن المبيع.
اما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَقُولُ الله
تعالى: ثلاثة انا خصمهم يوم القيامة، الحديث) فقد أخرجه أحمد والبخاري، وأخرجه أيضا البزار وفى اسناد البزار هشام بن زياد (أبو المقدام) وهو ضعيف قال ابن التين: هو سبحانه خصم لجميع الظالمين الا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصريح، والخصم يطلق على الواحد والاثنين وعلى أكثر من ذلك.
وقال الهروي: الواحد بكسر أوله، قال الفراء في الطلاق الخصم على الواحد فاكثر هو قول الفصحاء، ويجوز في الاثنين خصمان، قلت: استعمل القرآن(15/34)
في الاثنين خصمان في قوله تعالى (خصمان بغى بعضنا على بعض) وهو ابلغ استعمال وافصحه.
قوله (من كنت خصمه خصمته) هذه الزيادة ليست في صحيح البخاري ولكنه أخرجها أحمد وابن حبان وابن خزيمة والاسماعيلي، قوله (باع حرا وأكل ثمنه) في رواية لابي داود (ورجل اعتبد محرره) وهو أعم في الفعل وأخص في المفعول.
قال الخطابى: اعتباد الحر يقع بأمرين، ان يعتقه ثم يكتم ذلك أو يجحده، والثانى أن يستخدمه كرها بعد العتق، والاول أشدهما.
قال في الفتح: الاول أشد لان فيه مع كتم الفعل أو جحده العمل بمقتضى ذلك من البيع وأكل الثمن فمن ثم كان الوعيد عليه أشد.
وفى قضاء الاجر عند توفية العمل خلاف بين العلماء فعند أبى حنيفة وأصحابه إنما تملك بالعقد فتتبعها أحكام الملك، وعند الشافعي واصحابه أنها تستحق بالعقد وهذا في الصحيحة، وأما الفاسدة فقال في البحر: لا تجب بالعقد إجماعا وتجب بالاستيفاء إجماعا.
والاجارة أصول في أنفسها تتنوع على وجهها، وهى كالبيع سواء بسواء، قال الشافعي رضى الله عنه: البيوع الصحيحة صنفان بيع عين يراها المشترى
والبائع، وبيع صفة مضمونة على البائع، وبيع ثالث وهو الرجل يبيع السلعة بعينها غائبة عن البائع والمشترى، غير مضمونة على البائع إن سلمت السلعة حتى يراها المشترى كان فيها بالخيار باعه إياها على صفة وكانت على تلك الصفة التى باعه إياها، أو مخالفة لتلك الصفة، لان بيع الصفات التى تلزم المشترى ما كان مضمونا على صاحبه، ولا يتم البيع في هذا حتى يرى المشترى السلعة فيرضاها ويتفرقان بعد البيع من مقامهما الذى رآه فيه، فحينئذ يتم البيع ويجب عليه الثمن كما يجب عليه الثمن في سلعة حاضرة اشتراها حتى يتفرقا بعد البيع عن تراض ولا يجوز أن تباع هذه السلعة بعينها إلى أجل من الآجال قريب ولا بعيد من قبل أنه إنما يلزم بالاجل ويجوز فيما حل لصاحبه، وأخذه مشتريه ولزمه بكل وجه اه.
ونقل السبكى في فتاويه عن القفال قوله: أما الاجارة على الذمة فيثبت فيها خيار المجلس لا محالة بناء على أنها ملحقه بالسلم حتى يجب فيها قبض البدل في المجلس(15/35)
وقال: أما الرجل يؤاجر نفسه فالاجارة تجوز معينا، وفى الذمة، فإن أجره معينا فلا بد أن تكون المنفعة معلومة بأحد أمرين بتقدير العمل أو المدة، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وما عقد من الاجارة على منفعة موصوفة في الذمة يجوز حالا ومؤجلا في الذمة كالسلم، والسلم يجوز حالا ومؤجلا، فكذلك الاجارة في الذمة وإن استاجر منفعة في الذمة وأطلق وجبت المنفعة حالة، كما إذا أسلم في شئ واطلق وجب حالا، فان استأجر رجلا للحج في الذمة لزمه الحج من سنته، فإن أخره عن السنة نظرت، فان كانت الاجارة عن حى كان له أن يفسخ، لان حقه تأخر، وله في الفسخ فائدة، وهو أن يتصرف في الاجرة، فإن كانت عن ميت
لم يفسخ، لانه لا يمكن التصرف في الاجرة إذا فسخ العقد، ولابد من استئجار غيره في السنة الثانية، فلم يكن للفسخ وجه، وما عقد على منفعة معينة لا يجوز إلا حالا، فإن كان على مدة لم يجز إلا على مدة يتصل ابتداؤها بالعقد، وإن كان على عمل معين لم يجز الا في الوقت الذى يمكن الشروع في العمل لان إجارة العين كبيع العين وبيع العين لا يجوز الا على ما يمكن الشروع في قبضها فكذلك الْإِجَارَةِ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ لَمْ يَجُزْ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ التَّوَجُّهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ اسْتِيفَاءُ المعقود عليه عن حال العقد، وإن كان فِي مَوْضِعٍ بَعِيدٍ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ إلَّا أَنْ يَسِيرَ قَبْلَ أَشْهُرِهِ لَمْ يَسْتَأْجِرْ إلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الشروع في الاستيفاء، فإن قال أجرتك: هذه الدار شهرا لم يصح.
لانه ترك تعيين المعقود عليه في عقد شرط فيه التعيين، فبطل كما لو قال: بعتك عبدا، فإن أجر دارا من رجل شهرا من وقت العقد ثم أجرها منه الشهر الذى بعده قبل انقضاء الشهر الاول، ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يصح، لانه اجارة منفعة معينة على مدة متأخرة عن العقد، فأشبه إذا أجرها من غيره.(15/36)
(والثانى)
أنه يصح، وهو المنصوص، لانه ليس لغيره يد تحول بينه وبين ما استاجره.
ولان أحد شهريه لا ينفصل عن الآخر، فأشبه إذا جمع بينهما في العقد.
(الشرح) قال المحاملى في المجموع: لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ فِي إجَارَةِ الْعَيْنِ إلا في الوقت الذى يتمكن فيه.
وقال النووي: إن كان في موضع قريب لم يجز استئجاره قبل أشهر الحج.
وإن كان في موضع بعيد لم يستأجره إلَّا فِي الْوَقْتِ
الَّذِي يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ وقت الشروع في الاستيفاء.
وقال أبو الطيب لا يمكن إجارة إلَّا فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ الْعَمَلُ فِيهِ أَوْ يحتاج فيه إلى السبب.
اه ومن هنا إذَا لَمْ يَشْرُعْ فِي الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ كَانَتْ الاجارة على العين انفسخت لفوات موضوع العقد قولا واحدا، وإن كانت في الذمة، فإن لم تتعين السنة فهو كتعيين السنة الاولى، وعند بعض اصحابنا يجوز التأخر عن السنة الاولى ويثبت الخيار للمستأجر، وإن عينا السنة وتأخر عنها فطريقان أَصَحُّهُمَا: عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا لَوْ انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فيه عند حلول الاجل (أ) لا ينفسخ العقد وهو الاظهر (ب) يَنْفَسِخُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هنا.
وإن كان الاستئجار عن ميت فلا خيار للمستأجر، وهذا هو رأى المصنف وأصحابنا العراقيين، وقد قال إمام الحرمين: وفيما ذكروه نظر لانه لا يمنع أن يثبت للورثة الخيار ويستردون الاجرة بالفسخ، وهذا استدراك على المصنف يجعل للورثة الحق في أن يبذلوا الاجرة لاجير آخر، وهذا أجدر بحصول المقصود وقد تابع الغزالي شيخه على هذا.
وقال البغوي وآخرون بوجوب مراعاة الولى المصلحة في ذلك، فإن رأى الفسخ لخوف إفلاس الاجير أو هربه وإلا تركه وضمن، وصحح الرافعى هذا وحمل الرافعى قول المصنف وأصحابه من العراقيين على أن الْمَيِّتُ قَدْ أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فُلَانٌ فتكون الوصية مستحقة الصرف إليه.
وقال أبو إسحاق المروزى: للمستأجر أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي لِيَفْسَخَ الْعَقْدَ(15/37)
إن كانت المصلحة تقتضيه.
قال الرافعى: فإن نَزَلَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ ارْتَفَعَ الخلاف، وإن على الثاني هان امره.
قوله (لانه اجارة منفعة معينة على مدة متأخرة) قال النووي في المنهاج: ولا تجوز اجارة عين لمنفعة مستقبلة.
اه وذلك كإجارة هذه الدار السنة المستقبلة أو سنة أولها من غد، وكذا ان قال أولها من أمس، وكإجارة أرض مزروعة لا يمكن تفريغها الا بعد مدة لمثلها أجرة، وذلك كما لو باعه عينا على ان يسلمها له بعد ساعة بخلاف اجارة الذمة كما مر، ولو قال وقد عقد آخر النهار: اولها يوم تاريخه لم يضر لان القرينة ظاهرة في أن المراد باليوم الوقت أو في التعبير باليوم عن بعضه، ويستثنى من المنع في المستقبلة صور، كما لو أجره ليلا ليعمل نهارا.
وهذا عرف شائع في ديارنا ابان الحصاد وجنى القطن ونقاوة الدودة وشتل الارز وتعفير الطماطم بالكبريت قبل جفاف الندى.
ومثله اجارة دار بغير بلد المتعاقدين، كمن يستأجر عشة برأس البر ليصطاف فيها فأجرها قبل الصيف لان استيفاء العقد لا يكون الا صيفا، وإذا لم يؤجرها فاته الانتفاع بمقصوده.
فلو آجر الشهر الثاني لمستأجر الشهر الاول أو السنة الثانية لمستأجر السنة الاولى قبل انقضائها جاز في الاصح لاتصال المدتين مع اتحاد المستأجر، كما لو آخر منه السنتين في عقد، ولا نظر إلى احتمال انفساخ العقد الاول لان الاصل عدمه، فان وجد ذلك لم يقدح في الثاني.
(فرع)
في جواز الوارث ما آجره الميت من المستأجر تردد.
أفاد شمس الدين الرملي أن الاقرب منه الجواز لانه نائبه.
وقال الزركشي: أنه الظاهر، وهذا إذا لم يحصل فصل بين السنين، والا فلا يصح، وهذا يشمل الطلق والوقف، نعم لو شرط الواقف أن لا يؤجر الوقف أكثر من ثلاث سنين فأجره الناظر ثلاثا في عقد آخر قبل مضى المدة فالمعتمد كما افتى به ابن الصلاح ووافقه السبكى والاذرعى وغيرهما عدم صحة
العقد الثاني.
وان قلنا بصحة اجارة الزمان القابل من المستأجر اتباعا لشرط الواقف، لان المدتين المتصلتين في العقدين في معنى العقد الواحد.
وهذا بعينه(15/38)
يقتضى المنع في هذه الصورة لوقوعه زائدا على ما شرطه الواقف، وان خالفه ابن الاستاذ وقال: ينبغى ان يصح نظرا إلى ظاهر اللفظ.
(فرع)
مذهبنا انه لا تصح اجارة المسلم للجهاد في سبيل الله لحرب أعداء الدين، لان الجهاد فرض عليه ما دام مستطيعا، ولانه إذا حضر الصف تعين عليه القتال فريضة، ويصح للامام ان يستأجر غير المسلمين لقتال غير المسلمين من الكفار.
ولا يصح استئجار المسلم لعبادة تحتاج إلى نية الا الحج وتفرقة الزكاة أو تعليم قرآن، وتصح الاجارة لتجهيز ميت ودفنه، وتصح الاجارة للصوم عن الميت، وتصح لذبح الهدى والاضاحي ونحوها.
ويصح الاستئجار لشعار غير فرض كالاذان.
قال الشربينى في المغنى: ولا يصح الاستئجار للامامة ولو نافلة كالتراويح لان فادتها من تحصيل فضيلة الجماعة لا تحصل للمستأجر بل للاجير، ويصح استئجار بيت ليتخذه مصلى، وصورته كما قال صاحب الانتصار ان يستأجره للصلاة، اما إذا استأجره ليجعله مسجدا فلا يصح بلا خلاف، ولا يصح الاستئجار لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الرملي وغيره: فزيارة قبر غيره أولى.
هكذا افاده الخطيب الشربينى وشمس الدين الرملي الشبراملسى في شروحهم لمنهاج النووي، وعزا الرملي إلى الماوردى هذا ووافقه عليه.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
فإن اكرى ظهرا من رجلين يتعاقبان عليه أو اكترى من رجل عقبة ليركب في بعض الطريق دون بعض جاز.
وقال المزني: لا يجوز اكتراء
العقبة الا مضمونا لانه يتأخر حق احدهما عن العقد فلم يجز، كما لو اكراه ظهرا في مدة تتأخر عن العقد، والمذهب الاول، لان استحقاق الاستيفاء مقارن للعقد، وانما يتأخر عن القسمة وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو باع من رجلين صبرة فانه يصح، وان تأخر حق أحدهما عند القسمة، فان كان ذلك في طريق فيه عادة في الركوب والنزول، جاز العقد عليه مطلقا، وحملا في الركوب والنزول على العقادة لانه معلوم بالعادة.
فحمل الاصلاق عليه كالنقد المعروف(15/39)
في البيع، وإن لم يكن فيه عادة لم يصح حتى يبين مقدار ما يركب كل واحد منهما لانه غير معلوم بالعادة، فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه، فان اختلفا في البادئ في الركوب أقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة قدم لانهما تساويا في الملك فقدم بالقرعة.
(الشرح) التعاقب التناوب، فينزل هذا نوبة وهذا نوبة.
وفى الحديث (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكه بالنهار) والعقب بضم العين جمع عقبة، أي نوبة قال الشافعي رضى الله عنه: فان تكارى منه لعبده فأراد أن يركب الليل دون النهار بالاميال، أو أراد ذلك به الجمال فليس ذلك لواحد منهما، ويركب على ما يعرف الناس العقبة، ثم ينزل فيمشي بقدر ما يركب، ثم يركب بقدر ما مشى، فيفدحه ولا الركوب فيضر بالبعير اه.
ويفهم من كلامه ان القصد من عقد الاجارة تحقيق المنفعة للمستأجر وعدم المضارة بالبهيم لحرمته.
قال النووي رضى الله عنه (ويجوز كراء العقب في الاصح) وبيان ذلك ان يؤجر دابة رجلا ليركبها بعض الطريق ويمشى بعضها أو يركبه المالك تناوبا
أو يؤجرها رجلين ليركب ذا أياما وذا أياما كذلك تناوبا، أو يقول: آجرتك نصفها لمكان كذا أو كلها لتركبها نصف الطريق فيصح كبيع المشاع، ويبين البعضين في الصورتين كنصف أو ربع ما لم يكن ثم عادة معروفه مضبوطة بالزمن أو المسافة ثم يقتسمان بالتراضى، فإذا تنازعا أيهما يبدأ أقرع بينهما، لانهما يملكان المنفعة معا، ويغتفر التأجير الواقع لضرورة القسمة.
نعم شرط الصحه في الاولى تقدم ركوب المستأجر، وإلا بطلت لتعلقها حينئذ بزمن مستقبل، ومقابل الاصح في قول النووي أوجه أصحها المنع لانها إجارة أزمان متقطعه.
وفى الروضة أنه ليس لاحدهما أن يطلب المشى ثلاثا والركوب ثلاثا للمشقه.
اه(15/40)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وما عقد من الاجارة على مدة لا يجوز فيه شرط الخيار، لان الخيار يمنع من التصرف، فان حسب ذلك على المكرى زدنا عليه المدة، وإن حسب على المكترى نقصنا من المدة وهل يثبت فيه خيار المجلس؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يثبت لما ذكرناه من النقصان والزيادة في خيار الشرط.
(والثانى)
يثبت لانه قدر يسير، ولكل واحد منهما إسقاطه، وإن كانت الاجارة على عمل معين ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يثبت فيه الخياران، لانه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار
(والثانى)
يثبت فيه الخياران، لان المنفعة المعينة كالعين في البيع، ثم العين المعينه يثبت فيها الخياران فكذلك المنفعة (والثالث) يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط، لانه عقد على منتظر فيثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط كالسلم.
وإن كانت الاجارة على منفعه في الذمه ففيه وجهان (احدهما) لا يثبت فيه
الخياران، لانه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار
(والثانى)
يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط، لان الاجارة في الذمة كالسلم، وفى السلم يثبت خيار المجلس دون خيار الشرط، فكذلك في الاجارة.
(فصل)
وإذا تم العقد لزم ولم يملك واحد منهما ان ينفرد بفسخه من غير عيب لان الاجارة كالبيع، ثم البيع إذا تم لزم فكذلك الاجارة وبالله التوفيق (الشرح) مذهبنا أنه لا خيار بعد لزوم العقد.
وقال أبو حنيفة: يجوز للمستأجر فسخ الاجارة بالاعذار الظاهرة مع السلامه من العيوب، ولا يجوز للمؤجر أن يفسخ بالاعذار، مثل أن يستأجر دارا ليسكنها ثم يريد النقلة عن البلد أو يستأجر حرز لمتاعه ثم يريد بيعه، أو يستأجر من يطحن له برا ثم يريد بذره.
إلى ما أشبه ذلك من الاعذار، فيجعل له بها فسخ الاجارة للعذر.
ألا ترى أن من استؤجر لقلع فدانين من الحطب جاز للمستأجر فسخ الاجارة للعذر الطارئ ولم يجبر على قلع فدانيه، وكذا كل عذر.(15/41)
ودليلنا على أبى حنيفة قوله تعالى (يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) فكان عموم هذا الامر يوجب الوفاء بكل عقد ما لم يقم دليل بتخصيصه، ولان كل عقد لزم العاقدين مع سلامة الاحوال لزمهما ما لم يحدث بالعوضين نقص كالبيع، ولان كل عقد لزم العاقد عند ارتفاع العذر لم يحدث له خيار بحدوث عذر كالزوج، ولان كل سبب لا يملك المؤجر الفسخ لم يملك المستأجر به الفسخ كالاجرة لا يكون حدوث الزيادة فيها موجبا لفسخ المؤجر كما لم يكن حدوث النقصان فيها موجبا لفسخ المستأجر، لان نقصانها في حق المستأجر كزيادتها في حق المؤجر ولانه عقد إجارة فلم يجز فسخه بعذر كالمؤجر، ولان العقود نوعان، لازمة فلا يجوز فسخها بعذر كالبيع، وغير لازمة فيجوز فسخها بغير عذر كالقراض.
فلما لم يكن عقد الاجارة ملحقا بغير اللازم في جواز فسخه بغير عذر وجب أن يكون ملحقا باللازم في إبطال فسخه بعذر.
فأما الجواب عن قياسه على الوكالة فهو أن الوكالة غير لازمة يجوز فسخها بعذر وغير عذر، وليس كذلك الاجارة، وأما استدلاله بأن للاعذار تأثيرا في عقود الاجارات كالضرس المستأجر على قلعه إذا برئ، فالجواب عنه هو أن من ملك منفعة بعقد إجارة فقد استحقها، وليس يجب عليه استيفاؤها، ألا ترى أن من استأجر سكنى دار فله أن يسكنها، ولا يجبر على سكناها، فإن مكن من سكناها فلم يسكن فعليه الاجرة، هذا أصل مقرر في الاجارة، وإذا كان كذلك - فإن كان الضرس على حال مرضه وألمه - فقلعه مباح، وللمستأجر أن يأخذ الاجير بقلعه إن شاء، فإن أبى المستأجر أن يقعله من ألمه لم يجبر عليه.
وقيل له: قد بذل لك الاجير القلع وأنت ممتنع، فإذا مضت مدة يمكن فيها قلعه فقد استحق أجرته كما لو مضت مدة السكنى، وان برئ الضرس في الحال قبل إمكان القلع بطلت الاجارة، لان قلعه قد حرم، وعقد الاجارة انما يتناول مباحا لا محظورا، فصار محل العمل معدوما، فلذلك بطلت الاجارة كما لو استأجر لخياطة ثوب فلف، إذ لا فرق بين تعذر العمل بالتلف وبين تعذره بالحظر.(15/42)
فإذا تقرر أن عقد الاجارة من العقود اللازمة، وأن فسخه بالعذر غير جائز فلا يجوز اشتراط الثلاث فيه، وقال أبو حنيفة: يجوز اشتراط الخيار فيه كما يجوز في البيع لانهما معا من عقود المعاوضات.
ودليلنا: هو ان ما لزم من عقود المنافع لم يصح اشتراط الخيار فيه كالنكاح ولان اشتراط الثلاثة يتضمن اتلاف بعض المعقود عليه فيما ليس متابع للمعقود
عليه مع بقاء العقد في جميعه فلم يصح، كما لو شرط في ابتياع جوادين أنه ان تلف أحدهما في يد البائع لم يبطل البيع.
ولان المعقود إذا لم يبق جميعه في مدة الخيار لم يصح اشتراط الخيار قياسا على بيع الطعام الرطب.
فإذا صح ان خيار الشرط لا يدخله فقد اختلف أصحابنا هل يدخله خيار المجلس ام لا؟ على وجهين.
(احدهما) يدخله كالبيع لكونهما عقدى معاوضة.
فعلى هذا ان أخرها المؤجر من غير المستأجر في خيار المجلس صحت الاجارة الثانية وكان ذلك فسخا للاجارة الاولى.
هكذا أفاده الماوردى.
وقال بعض أصحابنا: تفسخ الاجارة الاولى ولا تصح الاجارة الثانية لتقدم الفسخ.
لانه لا يصير الفعل الواحد فسخا وعقدا لتنافيهما.
ولهذا القول وجه فإن كان المذهب هو ان استقرار العقد الثاني يوجب فسخ العقد الاول بالتأهب الثاني.
وعلى هذا الوجه لو أخره المستأجر كانت اجارته باطلة سواء قبضه أو لم يقبضه.
لان خيار المؤجر يمنع من امضاء المستأجر.
وعلى هذا الوجه لو افترقا عن تراض لم يكن للمستأجر أن يؤجر قبل قبضه كما ليس للمشترى بيع ما لم يقبضه (والوجه الثاني) ان خيار المجلس لا يدخله.
ويصير العقد بالبذل والقبول لازما.
لان خيار المجلس يفوت بعض المدة فاشبه خيار الشرط.
فعلى هذا لو أجره المؤجر قبل الافتراق أو بعده لم يجز.
ولو آجره المستأجر.
فان كان بعد القبض جاز.
وان كان قبله؟ فعلى وجهين.
(أحدهما)
يجوز لمفارقته البيع في الخيار ففارقه في القبض.
(الوجه الثاني) لا يجوز لكون المنفعة مضمونه على المستأجر فأشبه ضمان(15/43)
المبيع على البائع وان فارق البيع في حكم الخيار وهذان الوجهان في اجارة ما لم يقبض مبنى
على اختلاف اصحابنا في عقد الاجارة هل تناول الدار المؤاجرة لاستيفاء المنفعة منها أو تناول المنفعة؟ فقال أبو إسحاق المروزى: عقد الاجارة انما تناول الدار الموجودة، لان المنافع غير مخلوقة، فعلى هذا يمنع من إجارتها قبل القبض كما يمنع من البيع.
(والوجه الثاني) وهو الاكثر من أصحابنا أن العقد إنما تناول المنفعة دون الرقبة لان العوض في مقابلتها، ولا يصح أن يتوجه العقد إلى ما لم يقابله العوض وتصير المنافع بتسليم الرقبة مقبوضة حكما، وإن لم يكن القبض مستقرا إلا بمضي المدة فعلى، هذا تجوز إجارتها قبل قبضها.
وقال النووي: لا تنفسخ الاجارة بعذر كتعذر وقود حمام وسفر ومرض مستأجر دابة لسفر، ولو استأجر أرضا لزراعه فزرع فهلك الزرع بجائحه فليس له الفسخ، ولا حط شئ من الاجرة، وتنفسخ بموت الدابه والاجير المعينين في المستقبل لا الماضي في الاظهر، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(بَابُ مَا يلزم المتكاريين وما يجوز لهما) يجب على المكرى ما يحتاج إليه المكترى للتمكين من الانتفاع كمفتاح الدار وزمام الجمل والبرة التى في أنفه والحزام والقتب والسرج واللجام للفرس لان التمكين عليه ولا يحصل التمكين إلا بذلك، فان تلف شئ منه في يد المكترى لم يضمنه كما لا يضمن العين المستأجرة وعلى المكرى بدله لان التمكين مستحق عليه إلى أن يستوفى المستأجر المنفعة وما يحتاج إليه لكمال الانتفاع كالدلو والحبل والمحمل والغطاء فهو على المكترى، لان ذلك يراد لكمال الانتفاع، واختلف أصحابنا فيما يشد به أحد المحملين إلى الآخر، فمنهم من قال: هو على المكرى لانه من آلة التمكين، فكان على المكرى، ومنهم من قال: هو على المكترى
لانه بمنزلة تأليف المحمل وضم بعضه إلى بعض.(15/44)
(فصل)
وعلى المكرى إشالة المحمل وحطه وسوق الظهر وقوده، لان العادة أنه يتولاه المكرى فحمل العقد عليه، وعليه أن ينزل الراكب للطهارة وصلاة الفرض لانه لا يمكن ذلك على الظهر، ولا يجب ذلك للاكل وصلاة النفل، لانه يمكن فعله على الظهر وعليه أن يبرك الجمل للمرأة والمريض والشيخ الضعيف، لان ذلك من مقتضى التمكين من الانتفاع، فكان عليه فأما أجرة الدليل فينظر فيه فإن كانت الاجارة على تحصيل الراكب فهو على المكرى لان ذلك من مؤن التحصيل، وإن كانت الاجارة على ظهر بعينه فهو على المكترى لان الذى يجب على المكرى تسليم الظهر وقد فعل، وعلى المكرى تسليم الدار فارغة الحش، لانه من مقتضى التمكين، فإن امتلا في يد المكترى ففى كسحه وجهان:
(أحدهما)
أنه على المكرى لانه من مقتضى التمكين فكان عليه
(والثانى)
أنه على المكترى لانه حصل بفعله فكان تنقيته عليه كتنظيف الدار من القمامة وعلى المكرى إصلاح ما تهدم من الدار وإبدال ما تكسر من الخشب، لان ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه.
واختلف أصحابنا في المستأجرة على الرضاع هل يلزمها الحضانة وغسل الخرق؟ فمنهم من قال يلزمها لان الحضانة تابعة للرضاع، فاستحقت بالعقد على الرضاع ومنهم من قال لا يلزمها لانهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الاخرى فلا تلزم بالعقد على إحداهما الاخرى وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن ويصلح به، وللمستأجر أن يطالبها بذلك لانه من مقتضى التمكين من الرضاع، وفى تركه إضرار بالصبى
(فصل)
وعلى المكرى علف الظهر وسقيه لان ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه، فان هرب الجمال وترك الجمال فللمستأجر أن يرفع الامر إلى الحاكم ليحكم في مال الجمال بالعلف لان ذلك مستحق عليه فجاز أن يتوصل بالحكم إليه فإن أنفق المستأجر ولم يستأذن الحاكم لم يرجع لانه متطوع، وإن رفع الامر الحاكم ولم يكن للجمال مال اقترض عليه، فإن اقترض من المستأجر وقبضه منه(15/45)
ثم دفعه إليه لينفق جاز، وان لم يقبض منه ولكنه أذن له في الانفاق عليها قرضا على الجمال ففيه قولان.
(أحدهما)
لا يجوز لانه إذا أنفق احتجنا أن يقبل قوله في استحقاق حق له على غيره
(والثانى)
يجوز لانه موضع ضرورة، لانه لا بد للجمال من علف وليس ههنا من ينفق غيره، فإن أذن له وأنفق ثم اختلفا في قدر ما أنفق فان كان ما يدعيه زيادة على المعروف لم يلتفت إليه لانه ان كان كاذبا فلا حق له وان كان صادقا فهو متطوع بالزيادة فلم تصح الدعوى، وإن كان ما يدعيه هو المعروف فالقول قوله لانه مؤتمن في الانفاق فقبل قوله فيه، فان لم يكن حاكم فأنفق ولم يشهد لم يرجع لانه متطوع، وإن أشهد فهل يرجع؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يرجع لانه يثبت حقا لنفسه على غيره من غير اذن ولا حاكم.
(والثانى)
يرجع لانه حق على غائب تعذر استيفاؤه منه فجاز أن يتوصل إليه بنفسه، كما لو كان له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه، فان لم يجد من يشهد أنفق.
وفى الرجوع وجهان
(أحدهما)
لا يرجع، لما ذكرناه فيه إذا أشهد،
(والثانى)
يرجع، لان ترك الجمال مع العلم أنه لا بد لها من العلف إذن في الانفاق.
(الشرح) قوله (برة) محذوفة اللام، هي حلقة تجعل في أنف البعير تكون
من النحاس ونحوه، وأبريت البعير جعلت له برة، وقوله (القماش) وهو ما على وجه الارض من فتات الاشياء، حتى يقال لرذالة الناس قماش.
وما أعطاني إلا قماشا، أي أردأ ما وجد، أفاده في القاموس.
وقوله في ترجمة الباب (ما يلزم المتكاريين) أي ما يتعين لدفع الخيار، فعلى المكرى تسليم مفتاح ضبة الدار إلى المكترى لتوقف الانتفاع عليه، وهو أمانة بيده، فو تلف ولو بتقصير فعلى المكرى تجديده، فان امتنع لم يجبر ولم يأثم وينبنى على ذلك سؤال: هل تصح إجارة دار لا باب لها؟ ففى هذه الصورة نظر وقد تتوجه الصحه إن أمكن الانتفاع بها بلا باب، كأن أمكن التسلق من الجدار، وعلى القول(15/46)
بالصحة هل يثبت الخيار للجاهل، كأن رآها قبل سد بابها ثم استأجرها اعتمادا على الرؤية السابقة؟ قلنا يثبت له الخيار وجها واحدا.
فأما القفل فلا يجب تسليمه فضلا عن مفتاحه لانه منقول وليس بتابع، كما أن عليه من أسباب التمكين مبنيا على أصل المذهب إضاءة المدخل واستكمال المرافق الصحيه، فإن لم يفعل لم يجبر، وكان المكترى بالخيار والمستأجر عليه كنس السلم والفناء لان ذلك ميسور لَهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كراء الابل والدواب من الام: وعلى المكرى أن يركب المرأة البعير باركا وتنزل عنه باركا، لان ذلك ركوب النساء.
اما الرجال فيركبون على الاغلب من ركوب الناس، وعليه أن ينزله للصلوات وينتظر حتى يصليها غير معجل له ولما لا بد له منه كالوضوء، وليس عليه أن ينتظره لغير ما لابد له منه.
قال وليس للجمال إذا كانت القرى هي المنازل أن يتعداها إن أراد الكلا، ولا للمكترى إذا أراد عزلة الناس، وكذلك إن اختلفا
في الساعة التى يسيران فيها، فان أراد الجمال أو المكترى ذلك في حر شديد نظر إلى مسير الناس بقدر المرحلة التى يريدان وقال الشافعي رضى الله عنه: وعلف الدواب والابل على الجمال أو مالك الدواب، فان تغيب واحد منهما فعلف المكترى فهو متطوع إلا أن يرفع ذلك إلى السلطان، وينبغى للسلطان أن يوكل رجلا من أهل الرفقة بأن يعلف ويحسب ذلك على رب الدابه والابل، وإن ضاق ذلك فلم يوجد أحد غير الراكب.
فان قال قائل: يأمر الراكب أن يعلف لان من حقه الركوب والركوب لا يصلح إلا بعلف ويحسب ذلك على صاحب الدابة، وهذا موضع ضرورة، ولا يوجد فيه الا هذا، لانه لابد من العلف والا تلفت الدابه ولم يستوف المكترى الركوب كان مذهبا ثم قال الشافعي رضى الله عنه: وفى هذا أن المكترى يكون أمين نفسه، وأن رب الدابه إن قال لم يعلفها الا بكذا، وقال الامين: علفتها بكذا لاكثر،(15/47)
فإن قبل قول رب الدابة في ماله سقط كثير من حق العالف، وإن قبل قول المكترى العالف كان القول قوله فيما يلزم غيره، وإن نظر إلى علف مثلها فصدق به فيه فقد خرج مالك الدابة والمكترى من أن يكون القول قولهما، وقد ترد أشباه من هذا في الفقه فيذهب بعض أصحابنا إلى أن لا قياس، وأن القياس ضعيف، وقد ذكر في غير هذا الموضع، ويقولون: يقضى بين الناس بأقرب الامور في العدل فيما يراه إذا لم يجد فيه متقدما من حكم يتبعه.
قال الشافعي رضى الله عنه: فيعيب هذا المذهب بعض الناس من كره الرأى فإن جاز أن يحكم فيه بما يكون عدلا عند الناس فيما يرى الحاكم فهو مذهب أصحابنا في بعض أقاويلهم، وإن لم يجز فقد يترك أهل القياس القياس،
والله تعالى أعلم.
(فرع)
إذا استأجر دارا فانطمت آبارها وامتلات حشوشها فالذي عليه أصحابنا أن تنقية ذلك وتنظيفه على المؤجر دون المستأجر من غير تفصيل لما عليه من حقوق التمكين.
قال الماوردى: والذى عندي وأراه مذهبا أن تنقية ما انطم من آبارها على المؤجر وتنقية ما امتلا من حشوشها على المستأجر، لان امتلاء الحشوش من فعله فصار كتحويل القماش وليس كذلك انطمام الآبار، فلو امتنع المستأجر من تنقية الحشوش أجبر عليه، ولو امتنع المؤجر ما يلزمه من الآبار لم يجبر عليه، وكان المستأجر بالخيار، والله أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
واختلف أصحابنا في رد المستأجر بعد انقضاء الاجارة، فمنهم من قال: لا يلزمه قبل المطالبة لانه أمانة فلا يلزمه ردها قبل الطلب كالوديعة، ومنهم من قال: يلزمه لانه بعد انقضاء الاجارة غير مأذون له في إمساكها، فلزمه الرد كالعارية المؤقتة بعد انقضاء وقتها، فإن قلنا: لا يلزمه الرد لم يلزمه مؤنة الرد كالوديعة، وان قلنا: يلزمه لزمه مؤنة الرد كالعارية.
(فصل)
وللمستأجر أن يستوفى مثل المنفعة المعقود عليها بالمعروف، لان إطلاق العقد يقتضى المتعارف، والمتعارف كالمشروط، فإن استأجر دارا للسكنى(15/48)
جاز أن يطرح فيها المتاع، لان ذلك متعارف في السكنى، ولا يجوز أن يربط فيها الدواب ولا يقصر فيها الثياب ولا يطرح في أصول حيطانها الرماد والتراب، لان ذلك غير متعارف في السكنى، وهل يجوز أن يطرح فيها ما يسرع إليه الفساد، فيه وجهان.
(أحدهما)
لا يجوز لان الفأر ينقب الحيطان للوصول إلى ذلك.
(والثانى)
يجوز، وهو الاظهر، لان طرح ما يسرع إليه الفساد من الطاهر المأكول متعارف في سكنى الدار، فلم يجز المنع منه، وإن اكترى قميصا للبس لم يجز أن ينام فيه بالليل، ويجوز بالنهار، لان العرف أن يخلع لنوم الليل دون نوم النهار.
وإن استأجر ظهرا للركوب ركب عليه لا مستلقيا ولا منكبا: لان ذلك هو المتعارف، وإن كان في طريق العادة فيه السير في أحد الزمانين من ليل أو نهار لم يسر في الزمان الآخر لان ذلك هو المتعارف، وان اكترى ظهرا في طريق العادة فيه النزول للرواح ففيه وجهان.
(أحدهما)
يلزمه النزول، لان ذلك متعارف والمتعارف كالمشروط.
(والثانى)
لا يلزمه، لانه عقد على الركوب في جميع الطريق فلا يلزمه تركه في بعضه، فإن اكترى ظهرا إلى مكة لم يجز أن يحج عليه، لان ذلك زيادة على المعقود عليه، وإن اكتراه للحج عليه، فله أن يركبه إلى منى ثم إلى عرفة ثم إلى المزدلفة ثم إلى منى ثم إلى مكة، وهل يجوز أن يركبه من مكة عائدا إلى منى للمبيت والرمى؟ فيه وجهان
(أحدهما)
له ذلك لانه من تمام الحج
(والثانى)
ليس له لانه قد حل من الحج.
(الشرح) قد عرفنا مما سبق من الشواهد والادله والنصوص أن عقد الاجارة يصح على العين مدة تبقى بصفاتها غالبا لامكان استيفاء المعقود عليه كسنة أو عشر سنين أو ثلاثين سنة على ما يليق بكل عين مستأجرة.
قال البغوي: الا أن الحكام اصطلحوا على أن لا يؤجروا الوقف أكثر من ثلاث سنين لئلا يندرس الوقف.
قال السبكى: ولعل سببه أن اجارة الوقف(15/49)
تحتاج إلى أن تكون بالقيمة وتقويم المدة المستقبلة البعيدة صعب.
وللمستأجر
في اجارة العين أن ينتفع بها من أول العقد ويده عليها يد أمانة فيأتى فيه ما مر في الوديع مدة الاجارة ان قدرت بزمن، أو مدة امكان استيفاء المنفعة ان قدرت بمحل عمل لعدم امكان الاستيفاء للمنفعة بدون وضع يده، وبه فارق كون يده يد ضمان على طرف مبيع قبضه فيه لتمحض قبضه لغرض نفسه، ويجوز السفر للمكترى بالعين المكتراة عند انتفاء الخطر لملكه المنفعة فجاز له استيفاؤها حيث شاء، وظاهره عدم الفرق بين اجارة العين وهو ظاهر، والذمة وهو محتمل، نعم سفره بها كسفر الوديع فيما يظهر أخذا مما مر في الوديعة.
ووجه ما قررنا أنه عقد لا يقتضى الضمان لان العين أمانة في يد المستأجر ان تلفت بغير تفريط لم يضمنها، وسئل أحمد بن حنبل عن المظل والخيمة إلى مكة فتذهب من المكترى بسرق أو ذهاب هل يضمن؟ قال: أرجو أن لا يضمن، وكيف يضمن؟ إذا ذهب لا يضمن.
اه فإذا انقضت المدة فعليه رفع يده، وليس عليه الرد في قول غير أن عليه أن يتوقف عن الانتفاع، وفارق العارية فإنه عليه أن يردها من حيث أخذها، ووجهه أنه عقد لا يقتضى الضمان فلا يقتضى رده ومؤنته كالوديعه وفارق العارية فإن ضمانها يجب فكذلك ردها، وعلى هذا متى انقضت المدة كانت العين في يده أمانة كالوديعه، ان تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه.
والقول الآخر: يضمن إذا انتهت مدة الاجارة لانه بعد انقضاء الاجارة غير مأذون له في امساكها أشبه العارية المؤقته بعد وقتها، فإن ضمن المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد لانه ينافى مقتضى العقد، وهل تفسد الاجارة به؟ فيه وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع.
وروى عن ابن عمر أنه قال: لا يصلح الكراء بالضمان.
وعن فقهاء المدينة أنهم كانوا يقولون: لا تكترى بضمان، الا أنه من شرط على كراء أنه لا ينزل
متاعه بطن واد أو لا يسير به ليلا مع أشباه هذه الشروط فتعدى ذلك فتلف شئ مما حمل في ذلك التعدي فهو ضامن، فأما غير ذلك فلا يصح شرط الضمان(15/50)
فيه، وإن شرطه لم يصح الشرط لان ما لا يجب ضمانه لا يصير بالشرط مضمونا وما يجب ضمانه لا ينتفى ضمانه بشرط نفيه.
فأما إن أكراه عينا وشرط عليه أن لا يسير بها في الليل أو وقت القائلة أو لا يتأخر بها عن القافلة أو لا يجعل سيره في آخرها؟ أو لا يسلك بها الطريق الفلانية وأشباه هذا مما له فيه غرض مخالف ضمن لانه متعد لشرط كرائه فضمن ما تلف به، كما لو شرط عليه أن لا يحمل عليها إلا قفيزا فحمل قفيزين، فإذا كانت العين دارا فلا يصح أن يقتنى فيها ما يؤدى إلى المضارة بالبناء إلى الحد الذى جعل بعض الاصحاب يمنع أن يكون في متاعه بعض المأكولات التى تحدث رائحة تجلب الفيران لما يترتب عليه من احداث شقوق في جدار البيت، وقد رد هذا القول جمهور العلماء بأن المتعارف بين الناس وما تحكم به ضرورات المعيشة أن كل مأكولات الانسان تغرى الفيران وتجذبها إليها ولذا فقد عفى في الاصح عما لا يمكن التحرز منه أو الاستغناء عنه ومقتضى أصول المذهب أن كل متعارف هو كالمشروط فلا يلزمه تركه.
(فرع)
يشترط في اجارة الذمة أو العين للركوب بيان قدر السير كل يوم وكونه ليلا أو نهارا والنزول في عامر أو صحراء لتفاوت الاغراض بذلك، ولو أراد أحدهما مجاوزة المحل المشروط أو نقصا منه لخوف لحوق ضرر منه ولو كان ظنا جاز دون غيره كما لو استأجر مطية للذهاب والاياب فإنه لا تحسب عليه مدة اقامتها لخوف الا أن يكون بالطريق منازل مضبوطة بالعادة، فينزل عليها، فإن لم تنضبط اشترط بيان المنازل أو التقدير بالزمن وحده، والا امتنع التقدير بالسير
به لعدم تعلقه بالاختيار، وحينئذ يتعذر الاستئجار في طريق مخوفة لا منازل فيها (فرع)
من اكترى مطية ليحج عليها فله الركوب عليها إلى مكة ومن مكة إلى عرفة والخروج عليها إلى منى لانه من تمام الحج، وقيل ليس له الركوب إلى منى لانه بعد التحلل من الحج، والاولى له ذلك لانه من تمام الحج وتوابعه، ولذلك وجب على من وجب عليه دون غيره فدخل فِي قَوْله تَعَالَى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا) ومن اكترى إلى مكة فقط فليس له الركوب(15/51)
إلى الحج لانها زيادة، ويحتمل أن له ذلك لان الكراء إلى مكة عبارة عن الكراء إلى الحج لكونها لا يكترى إليها الا للحج غالبا فكان بمنزلة المكترى للحج، هذا مذهبنا وبه قال أحمد وأصحابه.
قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا تكارى رجل محملا من المدينة إلى مكة فشرط سيرا معلوما فهو أصح، وان لم يشترط فالذي أحفظ أن المسير معلوم وأنه المراحل فيلزمان المراحل لانها الاغلب من سير الناس، فإن قال قائل كيف لا يفسد في هذا الكراء والسير يختلف؟ قيل: ليس للافساد ههنا موضع، فان قال: فبأى شئ قسته، قيل: بنقد البلد، البلد له نقد وصنج وغلة مختلفة فيبيع الرجل بالدراهم ولا يشترط نقدا بعينه، ولا يفسد البيع، ويكون له الاغلب من نقد البلد وكذلك يلزمهما الغالب من مسير الناس اه.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
فان اكترى ليحمل له أرطالا من الزاد فهل له أن يبدل ما يأكله فيه قولان.
(أحدهما)
له أن يبدل وهو اختيار المزني كما أن له أن يبدل ما يشرب من الماء
(والثانى)
ليس له أن يبدله، لان العادة أن الزاد يشترى موضعا واحدا
بخلاف الماء قال أبو إسحاق: هذا إذا لم تختلف قيمة الزاد في المنازل، فأما إذا كانت قيمته تختلف في المنازل جاز له أن يبدله قولا واحدا لان له غرضا أن لا يشترى موضعا واحدا.
(فصل)
وان اكترى ظهرا فله أن يضربه ويكبحه باللجام ويركضه بالرجل للاستصلاح لما روى جابر قال: سافرت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاشترى منى بعيرا وحملنى عليه إلى المدينة، وكان يسوقه وأنا راكبه وأنه ليضربه بالعصا ولا يتوصل إلى استيفاء المنفعة الا بذلك فجاز له فعله.
(فصل)
وللمستأجر أن يستوفى مثل المنفعة المعقود عليها وما دونها في الضرر ولا يملك أن يستوفى ما فوقها في الضرر، فإن اكترى ظهرا ليركبه في طريق فله أن يركبه في مثله وما دونه في الخشونه ولا يركبه فيما هو أخشن منه،(15/52)
فإن استأجر أرضا ليزرع فيها الحنطة فله أن يزرع مثلها وما دونها في الضرر ولا يزرع ما فوقها، لان في مثلها يستوفى قدر حقه وفيما دونها يستوفى بعض حقه، وفيما فوقها يستوفى أكثر من حقه، فان اكترى ظهرا ليحمل عليه القطن لم يحمل عليه الحديد لانه أضر على الظهر من القطن لاجتماعه وثقله، فان اكتراه للحديد لم يحمل عليه القطن لانه أضر من الحديد، لانه يتجافى ويقع فيه الريح فيتعب الظهر، فان اكتراه ليركبه بسرج لم يجز أن يركبه عريا لان ركوبه عريا أضر، فان اكتراه عريا لم يركبه بسرج لانه يحمل عليه أكثر مما عقد عليه، فان اكترى ظهرا ليركبه لم يجز أن يحمل عليه المتاع لان الراكب يعين الظهر بحركته والمتاع لا يعينه، فان اكتراه لحمل المتاع لم يجز أن يركبه لان الراكب أشد على الظهر لانه يقعد في موضع واحد والمتاع يتفرق على جنبيه، فان اكترى قميصا للبس لم يجز أن يتزر به، لان الاتزار أضر من اللبس، لانه يعتمد فيه على طاقين وفى
اللبس يعتمد فيه على طاق واحد، وهل له أن يرتدى به فيه وجهان:
(أحدهما)
يجوز لانه أخف من اللبس
(والثانى)
لا يجوز لانه استعمال غير معروف فلا يملكه كالاتزار
(فصل)
وله أن يستوفى المنفعة بنفسه وبغيره، فان اكترى دارا ليسكنها فله أن يسكنها مثله ومن هو دونه في الضرر، ولا يسكنها من هو أضر منه، فان اكترى ظهرا ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه ولا يركبه من هو أثقل منه لما ذكرناه في الفصل قبله.
(الشرح) حديث جابر رواه البخاري ومسلم بلفظ (أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: ولحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لى وضربه فسار سيرا لم يسر مثله فقال: بعنيه، فقلت لا، ثم قال: بعنيه فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلى، وفى لفظ لاحمد والبخاري (وشرطت ظهره إلى المدينة) وتمام الحديث في الصحيحين (فلما بلغت أتيته فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثرى فقال: أتراني ماكستك لا آخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهو لك) أما أحكام هذه الطائفة من الفصول فانه إذا اكترى دابة في الذمة فانه لا خيار(15/53)
في عقدها إذا وجد بالدابة عيبا، لان المعقود عليه في الذمة بصفة السلامة، والمعقود عليه هنا غير سليم، فإذا لم يرض به رجع إلى ما في الذمة، ولو عجز عن الابدال ثبت للمستأجر الخيار، كما ذكر ذلك الاذرعى، ويخص المكترى بما تسلمه فله إيجار، ويمتنع إبدالها بغير رضاه ويتقدم بمنفعتها على جميع الغرماء.
فإذا ثبت هذا بالنسبة للدابة فانه يلزم ثبوته للطعام المحمول ليؤكل في الطريق إذا لم يتعرض في العقد لابداله ولا لعدمه فانه يبدل إذا أكل في الاظهر عملا بمقتضى اللفظ لتناوله حمل كذا إلى كذا.
وكأنهم قدموه على العادة بأنه لا ببدل
لعدم اطرادها.
(والثانى)
لا، لان العادة عدم الابدال للزاد ولو لم يجده فيما بعد محل الفراغ بسعره فيه أبدل جزما.
نعم لو شرط عدم إبداله اتبع الشرط، ولو شرط قدرا فلم يأكل منه فالظاهر كما قاله السبكى أنه ليس للمؤجر مطالبته بنقص قدر أكله اتباعا للشرط، ويحتمل أن له ذلك للعرف، لانه لم يصرح بحمل الجميع في جميع الطريق.
قال: وهو الذى إليه نميل.
وخرج بعض الفقهاء ما يحمل عما يؤكل، وما حمل فتلف قبل الوصول فانه يبدل قطعا.
قال الشافعي رضى الله عنه: وإن اختلفا في الرحله رحل لا مكبوبا ولا مستلقيا، وان انكسر المحمل أو الظل أبدل محملا مثله أو ظلا مثله، وإن اختلفا في الزاد الذى ينفد بعضه، فقال صاحب الزاد: أبدله بوزنه فالقياس أن يبدل له حتى يستوفى الوزن وقال: ولو قال قائل: ليس له أن يبدل من قبل أنه معروف أن الزاد ينقص قليلا ولا يبدل مكانه كان مذهبا والله تعالى أعلم من مذاهب الناس.
(فرع)
يجوز للمستأجر ضرب الدابة بقدر ما جرت به العادة، ويكبحها باللجام وحثها على السير بحسب طبيعتها، فان كانت من النوع الذى قال فيه علقمة: فأدركها ثانيا من عنانه
* يمر كمر الرائح المتحلب فليس له أن يضربها لادراكها المقصود مع راحة الراكب في سرعتها(15/54)
وأما إن كانت غير ذلك فعلى حد قول امرئ القيس: فللساق ألهوب وللسوط درة
* وللزجر منه وقع أهوج منعب إلا أنه لا يجوز أن يكون أهوج منعب، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نخس بعير جابر وضربه، وكان أبو بكر رضى الله عنه يخرش بعيره بمحجنه.
قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا اكترى الرجل من الرجل الدابة فضربها أو نخسها بلجام أو ركضها فماتت سئل أهل العلم بالركوب، فان كان فعل من ذلك ما تفعل العامه فلا يكون عندهم فيه خوف تلف أو فعل بالكبح والضرب مثل ما يفعله بمثلها عندما فعله فلا أعد ذلك خرقه ولا شئ عليه، وان فعل ذلك عند الحاجه إليه بموضع قد يكون بمثله تلف أو فعله في الموضع الذى لا يفعل في مثله ضمن في كل حال من قبل أن هذا تعد، والمستعير هكذا إن كان صاحبه لا يريد أن يضمنه، فان أراد صاحبه أن يضمنه العارية فهو ضامن تعد أو لم يتعد.
وأما الرائض فان من شأن الرواض الذى يعرف به إصلاحهم للدواب الضرب على حملها من السير، والحمل عليها من الضرب أكثر ما يفعل الركاب غيرهم، فإذا فعل من ذلك ما يكون عند اهل العلم بالرياضة اصلاحا وتأديبا للدابة بلا إعناف بين لم يضمن إن عيت، وان فعل خلاف هذا كان متعديا وضمن والمستعير الدابة هكذا كالمكترى في ركوبها إذا تعدى ضمن، وإذا لم يتعد لم يضمن ثم قال: والذى ناخذ به في المستعير انه يضمن تعدى أو لم يتعد، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم (العارية مضمونه مؤداة) وهو آخر قوله صلى الله عليه وسلم اه هذا وقد سئل احمد رضى الله عنه عن ضرب الصبيان فقال: على قدر ذنوبهم ويتوقى يجهده الضرب.
وإذا كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه.
ومن ضرب من هؤلاء الضرب المأذون فيه لم يضمن ما تلف.
وبهذا في الدابة قال مالك والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد.
وقال الثوري وأبو حنيفة: يضمن لانه تلف بجنايته فضمنه كغير المستأجر، وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب الصبى لانه يمكنه تأديبه بغير الضرب (فرع)
إذا كترى دابة إلى مسافة فسلك أشق منها فهى مثل مسألة الزرع(15/55)
ولانه متعد فلرب الدابة منعه من سلوك تلك الطريق.
وان اكترى لحمل القطن فحمل بوزنه حديدا أو حديدا فحمل بوزنه قطنا فالصحيح أن عليه أجر المثل لان ضرر أحدهما مخالف لضرر الآخر، فلم يتحقق كون المحمول مشتملا على المستحق بعقد الاجارة وزيادة عليه، فإذا أكراه لحمل قفيزين فحملها فوجدهما ثلاثة، فان كان المكترى تولى الكيل ولم يعلم المكرى بذلك رطل حنطة فحمل مائة شعيرا أو عكس ذلك لاجتماعهما بسبب ثقلها في محل واحد، وهو لخفته يأخذ من ظهر الدابة أكثر، فضررهما مختلف، وكذا كل مختلفى الضرر كما قلنا في الحديد والقطن.
فلو اكترى لعشرة اقفزة شعير فحمل عشرة اقفزة حنطة لانها أثقل دون عكسه بأن اكتراه لحمل عشرة أقفزة حنطة فحمل عشرة أقفزة شعيرا من غير زيادة أصلا فلا ضمان عليه لاتحاد جرمهما باتحاد كيلهما مع كون الشعير أخف، فلو اكترى لحمل مائة فحمل مائة وعشرة لزمه مع المسمى أجرة المثل للزيادة لتعديه، وان تلفت بذلك المحمول أو بسبب آخر ضمنها ضمان يد إن لم يكن صاحبها معها لكونه غاضبا لها بحمل الزيادة.
فان كان صاحبها معا وتلفت بسبب الحمل دون غيره إذ ضمانها ضمان جناية لاسيما ومالكها معها ضمن قسط الزيادة فقط لاختصاص يده بها، ولهذا لو سخره مع دابته فتلفت لم يضمنها المسخر لتلفها في يد مالكها، وفى قول يضمن نصف القيمة توزيعا على الرؤس.
ولو سلم المائة والعشرة إلى المؤجر فحملها جاهلا بالزيادة، كان قال له: مائه فصدقه ضمن المكترى القسط واجرة الزيادة على المذهب إذ المكرى لجهله صار كالآلة بتأثير تدليس المكترى.
والطريق الثاني أنه على القولين في تعارض الغرر والمباشرة، فان كان عالما كان وزن المؤجر وحمل، أو رأى المكترى يكيل ويحمل، أو أعلمه المكترى بحقيقة الكيل فلا أجرة للزيادة لعدم تدليس المستأجر ولا ضمان إن تلفت، وبهذا قال أحمد وأصحابه، الا أنهم اختلفوا في أجر القدر الزائد على العقد(15/56)
على وجهين
(أحدهما)
لا اجر له كمذهبنا
(والثانى)
له أجر الزائد لانهما اتفقا على حمله على سبيل الاجارة فجرى مجرى المعاطاة في البيع ودخول الحمام من غير تقدير اجره.
قالوا وان كاله المكرى وحمله المكترى على الدابة عالما بذلك من غير ان يامر بحمله عليها فعليه اجر القفيز الزائد.
وان امره ففى وجوب الاجر وجهان عندهم.
(فرع)
قال النووي (رض) : وللمكترى استيفاء المنفعة بنفسه وبغيره.
قلت: وينبغى ان يكون غيره امينا، فلو شرط المكرى استيفاء المنفعة بنفسه بطل العقد، لان المكترى يملك المنفعة فلا ينازعه فيها المكرى، ومثله كمثل من يشترط على المشترى الا يبيع ما اشتراه، وله ان يركب ويسكن من هو مثله في الضرر اللاحق بالعين ودونه بالاولى، لان ذلك استيفاء للمنفعة المستحقة من غير زيادة، ولا يسكن حدادا ولا قصارا لما يحدثه القصار من الدق والازعاج وتاثير الدق في المبنى والازعاج للجار.
قال الرملي: الا إذا قال: لتسكن من شئت كازرع ما شئت، ونظر فيه الاذرعى فقال ان مثل ذلك يقصد به التوسعه دون الاذن في الاضرار، وقد رد الرملي بان الاصل خلافه، كما لا يجوز ابدال ركوب بحمل ويجوز عكسه، وان قال اهل الخبرة لا يتفاوت الضرر.
وبهذا قال احمد واصحاب الراى قال الشافعي مقررا: وهم يزعمون ان رجلا لو تكارى من رجل بيتا لم يكن
له ان يعمل فيه رحى ولا قصارة ولا عمل حدادين لان هذا مضر بالبناء، فأن عمل هذا فانهدم البيت فهو ضامن لقيمة البيت، وان سلم البيت فله اجره.
ويزعمون ان من تكارى قميصا فليس له ان ياتزر به، لان القميص لا يلبس هكذا، فان فعل فتخرق ضمن قيمة القميص، وان سلم كان له اجره، ويزعمون انه لو تكارى قبة لينصبها فنصبها في شمس أو مطر فقد تعدى لاضرار ذلك بها.
فان عطبت ضمن وان سلمت فعليه اجرها مع اشياء من هذا الضرب يكتفى باقلها حتى يستدل على انهم قد تركوا ما قالوا ودخلوا فيما عابوا مما مضت به الآثار، ومما فيه صلاح الناس.
اه(15/57)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فان استأجر عينا لمنفعة وشرط عليه ان لا يستوفى مثلها أو دونها أو لا يستوفيها لمن هو مثله أو دونه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن الاجارة باطله لانه شرط فيها ما ينافى موجبها فبطلت
(والثانى)
أن الاجارة جائزة، والشرط باطل، لانه شرط لا يؤثر في حق المؤجر، فألغى وبقى العقد على مقتضاه (والثالث) أن الاجارة جائزة والشرط لازم، لان المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به.
(فصل)
وللمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها لان الاجارة كالبيع وبيع المبيع يجوز بعد القبض فكذلك إجارة المستأجر، ويجوز من المؤجر وغيره كما يجوز بيع المبيع من البائع وغيره وهل يجوز قبل القبض فيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يجوز كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ
(والثانى)
يجوز لان المعقود عليه هو المنافع، والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين، فلم يؤثر فيها قبض العين (والثالث) أنه يجوز إجارتها من المؤجر لانها في قبضته، ولا يجوز من
غيره لانها ليست في قبضته، ويجوز أن يؤجرها برأس المال وبأقل منه وبأكثر لانا بينا أن الاجارة بيع وبيع المبيع يجوز برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه، فكذلك الاجارة
(فصل)
وإن استأجر عينا لمنفعة فاستوفى أكثر منها فإن كانت زيادة تتميز بأن اكترى ظهرا ليركبه إلى مكان فجاوز أو ليحمل عليه عشرة أقفزة فحمل عليه أحد عشر قفيزا لزمه المسمى لما عقد عليه وأجرة المثل لما زاد لانه استوفى المعقود عليه فاستقر عليه المسمى واستوفى زيادة فلزمه ضمان مثلها، كما لو اشترى عشرة أقفزة فقبض أحد عشر قفيزا.
فان كانت الزيادة لا تتميز بأن اكترى أرضا ليزرعها حنطة فزرعها دخنا، فقد اختلف أصحابنا فيه، فذهب المزني وأبو اسحاق إلى أن المسألة على قولين
(أحدهما)
يلزمه أجرة المثل للجميع، لانه تعدى بالعدول عن المعقود عليه إلى غيره، فلزمه ضمان المثل كما لو اكترى أرضا للزراعة فزرع أرضا أخرى.(15/58)
(والثانى)
يلزمه المسمى وأجرة المثل للزيادة، لانه استوفى ما استحقه وزيادة، فأشبه إذا استأجر ظهرا إلى موضع فجاوزه، وذهب القاضى أبو حامد المروروذى إلى أن المسألة على قول واحد، وأن صاحب الارض بالخيار بين أن يأخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة، وبين أن يأخذ أجرة للجميع، لانه أخذ شبها ممن استأجر ظهرا إلى مكان فجاوزه، وشبها ممن اكترى أرضا للزرع فزرع غيرها، فخير بين الحكمين.
(فصل)
وان أجره عينا ثم أراد أن يبدلها بغيرها لم يملك لان المستحق معين فلم يملك إبداله بغيره كما لو باع عينا فأراد أن يبدلها بغيرها.
(الشرح) إذا اشترط ألا يستوفى في المنفعة مثلها أو ما دونها أو اشتراط أن
لا يستوفيها بمثله أو من هو دونه، فعلى ثلاثة أوجه.
أحدها: أن الاجارة باطله لاشتراط ما ينافى موجبها وقد عرفنا من الشواهد الماضية أنه لو اشتراط أمرا كأن قال: أتكارى منك محملا أو زاملة على المنصوص في الام، فإن هذا الشرط يبطل العقد، كما لو قال أبيعك أقل من عشرة فما دونها بكذا فان هذا البيع باطل، لانه ينافى موجب العقد الذى يوجب ملك المنفعة والتسلط على استيفائها بنفسه وبنائبه، واستيفاء بعضها بنفسه وبعضها بنائبه.
والشرط ينافى ذلك فكان باطلا.
والوجه الثاني: أن الاجارة جائزة والشرط باطل لانه شرط لا يؤثر في حق المستأجر من استيفاء المنفعة، وفارق البيع، لان البائع يده هنا على المبيع والمستأجر يده على المنفعة، وبهذا قال أحمد، لان المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به.
والوجه الثالث: صحة الشرط وصحة العقد لان المستأجر يملك المنفعة من قبل المؤجر فليس للمستأجر أن يتعدى بامتلاك لم يرض به فلزمه الشرط وصحت الاجارة وقد فصلنا ذلك على أصل المذهب، ونصه في الام على ما سيأتي.
(فرع)
يجوز للمستأجر أن يؤجر العين التى استأجرها إذا قبضها، ونص أحمد على ذلك، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة(15/59)
وأبى سليمان بن عبد الرحمن والنخعي والشعبى والثوري والشافعي وأصحاب الرأى وذكر القاضى من الحنابلة فيه رواية أخرى أنه لا يَجُوزُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ربح ما لم يضمن، والمنافع لم تدخل في ضمانه، ولانه عقد على ما لم يدخل في ضمانه فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه، والاول أصح، لان قبض العين قام مقام قبض المنافع بدليل أنه يجوز التصرف فيها فجاز العقد
عليها كبيع الثمرة على الشجرة، وقياس الرواية الاخرى باطل على هذا الاصل إذا ثبت هذا: فإنه لا تجوز إجارته إلا لمن يقوم مقام أو دونه في الضرر لما مضى فأما اجارتها قبل قبضها فلا تجوز من غير المؤجر في أحد الوجوه الثلاثة عندنا وأحد الوجهين عند الحنابلة، وهو قول أبى حنيفة، لان المنافع مملوكة بعقد معاوضة فاعتبر في جواز العقد عليها القبض كالاعيان.
والوجه الثاني يجوز العين لان قبض العين لا ينتقل به الضمان إليه، فلم يقف جواز التصرف عليه، فأما إجارتها قبل القبض من المؤجر - وهو الوجه الثالث عندنا وهو قول عند الحنالبة - فإذا قلنا: لا يجوز من غير المؤجر كان فيه وجهان أحدهما: لا يجوز لانه عقد عليها قبل قبضها، والثانى: يجوز لان القبض لا يتعذر عليه بخلاف الأجنبي، وأصلهما: بيع الطعام قبل قبضه لا يصح من غير بائعه رواية واحدة، وهل يصح من بائعه؟ على روايتين، فأما إجارتها بعد قبضها من المؤجر فجائزة، وبهذا قال أحمد والشافعي رضى الله عنه.
وقال أبو حنيفة لا يجوز لان ذلك يؤدى إلى تناقض الا حاكم، لان التسليم مستحق على الكراء، فإذا اكتراها صار مستحقا له فيصير مستحقا لما يستحق عليه، وهذا تناقض.
دليلنا أن كل عقد جاز مع غير العاقد جاز مع العاقد كالبيع وما ذكروه لا يصح لان التسليم قد حصل، وهذا المستحق له تسليم آخر يبطل بالبيع فإنه يستحق عليه تسليم العين، فإذا اشتراها استحق تسليمها، فان قال: التسليم ههنا مستحق في جميع المدة بخلاف البيع.
قلنا: المستحق تسليم العين وقد حصل، وليس عليه تسليم آخر غير أن العين من ضمان المؤجر، فإذا تعذرت المنافع بتلف الدار وغصبها رجع عليه لانها بسبب كان في ضمانه.(15/60)
(فرع)
ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الاجر وزيادة، وهذا قول أحمد
والشافعي وأبى ثور وابن المنذر، وروى ذلك عن عطاء والحسن والزهرى.
وفى رواية لاحمد: إن أحدث في العين زيادة جاز له أن يكريها بزيادة، والا لم تجز الزيادة، فإن فعل تصدق بالزيادة، وروى هذا عن الشعبى والثوري وأبو حنيفة لانه يربح فيما لم يضمن.
وعن أحمد رواية ثالثة: إذا أذن له فيها المالك جاز، وإذا لم يأذن لم يجز، وكره ابن المسيب وأبو سلمة وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والشعبى والنخعي الزيادة مطلقا لدخولها فيما لم يضمن، دليلنا أنه عقد يجوز برأس المال فجاز بزيادة كبيع المبيع بعد قبضه.
وأما الحديث فإن المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه، فانها لو فاتت من غير استيفائه كانت من ضمانه، ولا يصح القياس على بيع الطعام قبل قبضه.
فإن البيع ممنوع منه بالكلية سواء ربح أو لم يربح، وههنا جائز في الجملة.
وتعليلهم بأن الربح في مقابلة عمله ملغى بما إذا كنس الدار ونظفها، فان ذلك يزيد في أجرها في العادة.
(فرع)
كل عين استأجرها لمنفعة فله أن يستوفى تلك المنفعة وما دونها في الضرر.
هذا ما سبق ان بيناه.
وبه قال أحمد.
ولا نعرف في ذلك مخالفا، ومتى فعل ما ليس له كان ضامنا، وقد ضرب المصنف مثلا بالارض يستأجرها لزرعها حنطة فزرعها دخنا.
قال الماوردى في الحاوى الكبير 1) بعد ان أورد قول الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ: وَلَوْ اكتراها ليزرعها قمحا فله أن يزعها ما لا يضر بالارض إضرار القمح، وهذا كما قال: إذا استأجر أرضا ليزرعها حنطة فله أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة مما يكون ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل، وليس له
__________
(1) الحاوى الكبير مخطوطة في دار الكتب العربية ذات أربعة وعشرين مجلدا ومن نوعها المجلد الاول في دار الكتب الازهرية والحاوى الصغير مخطوطة
في دار الكتب العربية ذات أربعة عشر مجلدا.
على أن نقولنا التى اعتمدناها هنا في التكملة هذه من الحاوى الكبير.(15/61)
أن يزرعها ما ضرره اكثر من ضرر الحنطة.
وقال داود بن على: لا يجوز إذا استأجرها لزرع الحنطة أن يزرعها غير الحنطة، وان كان ضرره أقل من ضرر الحنطة استدلالا بقوله تعالى (أوفوا بالعقود) فلم يجز العدول عما تضمنه العقد قال: ولانه لما لم يجز إذا اشترى بدراهم بأعيانها أن يدفع غيرها من الدراهم وان كانت مثلها لما فيه من العدول عما اقتضاه العقد، كذلك في اجارة الارض لزرع الحنطة لا يجوز أن يعدل فيها عن زرع الحنطة.
ودليلنا ان ذكر الحنطة في اجارة الارض انما هو لتقدير المنفعة به لا لتعيين استيفائه، الا تراه لو تسلم الارض ولم يزرعها لزمته الاجرة، فإذا ثبت أن ذكر الحنطة لتقدير المنفعة فهو إذا استوفى المنفعة فقدرت به في العقد وبغيره جاز، كما لو استأجر لحمل قفيز من حنطة فحمل قفيزا غيره، وكما لو استاجر ليزرع حنطة بعينها فزرع غيرها، ولان عقد الاجارة يتضمن اجرة يملكها المؤجر ومنفعه يملكها المستأجر، فلما جاز للمؤجر ان يستوفى حقه كيف شاء بنفسه وبوكيله وبمن يحيله جاز للمستأجر أن يستوفى حقه من المنفعة كيف شاء بزرعها الحنطة وغير الحنطة، وباعارتها لمن يزرعها وبتركها وتعطيلها.
فأما استدلاله بقوله تعالى (أوفوا بالعقود) فمثل الحنطة ما يتضمنه العقد بما دللنا.
وأما الجواب عما استدل به من تعيين الاثمان بالعقد فكذا في الاجارة، فهو أن الفرق بينهما في التعيين متفق عليه، لان الدارهم تتعين بالعقد حتى لا يجوز العدول إلى جنسها والحنطة لا تتعين في عقد الاجارة وانما الخلاف في تعيين جنسها لاقراره لو استاجرها لزرع حنطة بعينها جاز له العدول إلى غيرها من
الحنطة، فكذلك يجوز ان يعدل إلى غير الحنطة.
اه فإذا تقرر هذا لم يخل حال المستأجر ليزرع الارض حنطة من ثلاثة اقسام: 1 - أن يستأجرها لزرع الحنطة وما أشبهها، فيجوز له مع موافقة داود أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة مما يكون ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل، الا أن داود يجيزه بالشرط ونحن نجيزه بالعقد والشرط تأكيدا 2 - أن يستأجرها لزرع الحنطة ويغفل ذكر ما سوى الحنطة مما ضره أكثر من الحنطة أو أقل،(15/62)
3 - أن يستأجرها لزرع الحنطة على ان لا يزرع سواها ففيه ثلاثة أوجه حكاها ابن أبى هريرة (أحدها) أن الاجارة باطلة
(والثانى)
أن الاجارة جائزة والشرط باطل، وله أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة لانه لا يؤثر في حق المؤجر ما يفى (والثالث) أن الاجارة جائزة والشرط لازم، وليس له أن يزرعها غير الحنطة لان منافع الاجارة إنما تملك بالعقد على ما سمى فيه، ألا تراه لو استأجرها للزرع لم يكن له الغرس فكذلك إذا استأجرها لنوع من الزرع، قال الشافعي: وان كان يضرها مثل عروق تبقى فليس ذلك له، فان فعل فهو متعد ورب الارض بالخيار ان شاء أخذ الكراء وما نقص الارض على ما ينقصها زرع القمح ويأخذ منه كراء مثلها.
قال المزني: يشبه أن يكون قوله الاول أولى، لانه أخذ ما كرى وزاد على الكرى ضررا، كرجل اكترى منزلا يدخل فيه ما يحتمل سقفه فجعل فيه أكثر.
إذا عرف هذا فانه إذا استأجر أرضا لزرع حنطة لم يكن له ان يزرعها ولا أن يغرسها ما هو أكثر ضررا منها لانه غير مأذون فيه فصار كالغاصب، وهل يصير بذلك ضامنا لرقبة الارض حتى يضمن قيمتها ان غصبت أو تلفت بسيل،
على وجهين
(أحدهما)
وهو قول أبى حامد الاسفرايينى أنه يضمنها لانه قد صار بالعدول عما استحقه غاصبا.
والغاصب ضامن
(والثانى)
وهو الاصح، أنه لا يضمن رقبة الارض لان تعديه في المنفعة لا في الرقبة، فإن تمادى الامر بمستأجرها حتى حصد زرعه ثم طولب بالاجرة فالذي نص عليه الشافعي أن رب الارض بالخيار بين أن يأخذ المسمى وما نقصت الارض وبين أن يأخذ أجرة المثل، فاختلف أصحابنا، فكان المزني وأبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يخرجون تخيير الشافعي على قولين
(أحدهما)
أن رب الارض يرجع بأجرة المثل دون المسمى لان تعدى الزارع بعدوله عن الحنطة إلى ما هو أضر منها كتعديه بعدوله عن الارض إلى غيرها، فلما كان بعدوله عن الارض إلى غيرها ملتزما لاجرة المثل دون المسمى فكذلك بعدوله إلى غير الحنطة.
والقول الثاني: أنه يرجع بالمسمى من الاجرة، وينقص الضرر الزائد على(15/63)
الحنطه لانه قد استوفى ما استحقه وزاد، فصار كمن استأجر بعيرا من مكة إلى المدينة فتجاوز به إلى البصرة فعليه المسمى وأجرة المثل في الزيارة.
وقال الربيع وأبو العباس ابن سريج وأبو حامد المروروذى: إن المسألة على قول واحد، وليس التخيير فيه اختلافا للقول فيها، فيكون رب الارض بالخيار بين أن يرجع بالمسمى وما نقصت الارض بالزيادة كالمجاوز بركوب الدابة وبين أن يفسخ الاجارة ويرجع بأجرة المثل لانه عيب قد دخل عليه فجاز أن يكون مخيرا به بين المقام أو الفسخ فأما المزني فإنه اختار أن يرجع بالمسمى وما نقصت الارض.
وتابعه أبو اسحاق المروزى واستدلا بمسألتين: (إحداهما) أن يستأجر بيتا لحمولة مسماة فيعدل إلى غيرها فهذا أمر ينظر،
فان استأجر أسفل البيت ليحرز، فيه مائة رطل حديد فأحرز فيه مائة وخمسين رطلا، أو عدل عن الحديد إلى القطن فلا ضمان عليه، لان سفل البيت لا تؤثر فيه هذه الزيادة ولا العدول عن الجنس، وان كان علو البيت تكون فيه الحمولة على سقفه، فإن كانت الاجارة لمائة رطل من حديد فوضع عليه مائة وخمسين رطلا فهذه زيادة متميزة فيلزمه المسمى من الاجرة وأجرة مثل الزيادة.
وان كان قد استأجر لمائة رطل قطنا فوضع فيه مائة رطل من حديد فهذا ضرر لا يتميز، لان القطن يتفرق على السقف والحديد مجتمع في موضع منه، فكان أضر فيكون رجوع المؤجر على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا في القولين.
والمسألة الثانية من دليل المزني على اختيار أن يستأجر دارا للسكنى فيسكن فيها حدادين أو قصارين أو ينصب رحى، فهذه زيادة ضرر لا تتميز، فيكون رجوع المؤجر على ما وصفنا من اختلاف أصحابنا في القولين.
قال الماوردى: ليس للمزني من دليل فيما استشهد به من مذهب ولا حجاج.
(فرع)
قوله: وان أجره عينا ثم أراد أن يبدلها الخ.
قال الشافعي في الام: وإذا تكارى ابلا بأعيانها ركبها، قال وان تكارى حمولة ولم يذكر بأعيانها وركب ما يحمله، فان حمله على بعير غليظ فان كان ذلك ضررا متفاحشا أمر أن يبدله، وان كان شبيها بما يركب الناس لم يجبر على ابداله.
والله أعلم بالصواب(15/64)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
فإن استأجر أرضا مدة للزراعة فأراد أن يزرع ما لا يستحصد في تلك المدة، فقد ذكر بعض أصحابنا أنه لا يجوز، وللمؤجر أن يمنعه من زراعته فإن بادر المستأجر وزرع لم يجبر على قلعه قبل انقضاء المدة، ويحتمل عندي أنه لا يجوز منعه من الزراعة، لانه يستحق الزراعة إلى أن تنقضي المدة فلا يجوز
منعه قبل انقضاء المدة، ولانه لا خلاف أنه إن سبق وزرع لم يجبر على نقله، فلا يجوز منعه من زراعته.
(فصل)
وإن اكترى أرضا مدة للزرع لم يخل إما أن يكون لزرع مطلق أو لزرع معين، فان كان لزرع مطلق فزرع وانقضت المدة ولم يستحصد الزرع نظرت، فان كان بتفريط منه بأن زرع صنفا لا يستحصد في تلك المدة أو صنفا يستحصد في المدة إلا أنه أخر زراعته، فللمكرى أن يأخذه بنقله، لانه لم يعقد إلا على المدة فلا يلزمه الزيادة عليها لتفريط المكترى، فان لم يستحصد لشدة البرد أو قلة المطر ففيه وجهان.
(أحدهما)
يجبر على نقله، لانه كان يمكنه أن يستظهر بالزيادة في مدة الاجارة، فإذا لم يفعل لم يلزم المكرى أن يستدرك له ما تركه.
(والثانى)
لا يجبر وهو الصحيح، لانه تأخر من غير تفريط منه، فان قلنا يجبر على نقله وتراضيا على تكره باجارة أو إعارة جاز، لان النقل لحق المكرى وقد رضى بتركه، وإن قلنا: لا يجبر فعليه المسمى إلى انقضاء المدة بحكم العقد وأجرة المثل لما زاد لانه كما لا يجوز الاضرار بالمستأجر في نقل زرعه، لا يجوز الاضرار بالمؤجر في تفويت منفعة أرضه.
فان كان لزرع معين لا يستحصد في المدة وانقضت المدة والزرع قائم نظرت فان شرط عليه القلع فالاجارة صحيحة لانه عقد على مدة معلومة ويجبر على قلعه لانه دخل على هذا الشرط، فان تراضيا على تركه باجاره أو إعارة جاز لما ذكرناه وإن شرط التبقيه بعد المدة فالاجارة باطلة لانه شرط ينافى مقتضى العقد فأبطله فان لم يزرع كان لصاحب الارض أن يمنعه من الزراعة لانها زراعة في عقد باطل(15/65)
فان بادر وزرع لم يجبر على القلع، لانه زرع مأذون فيه، وعليه أجرة المثل لانه
استوفى منفعة الارض باجارة فاسدة، فان أطلق العقد ولم يشرط التبقية ولا القلع فَفِيهِ وَجْهَانِ.
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: أنه يجبر على قلعه لان العقد إلى مدة وقد انقضت فأجبر على قلعه كالزرع المطلق.
(والثانى)
لا يجبر لانه دخل معه على العلم بحال الزرع وأن العادة فيه الترك إلى الحصاد، فلزمه الصبر عليه، كما لو باع ثمرة بعد بدو الصلاح وقبل الادراك ويخالف هذا إذا اكترى لزرع مطلق، لان هناك يمكنه أن يزرع ما يستحصد في المدة، فإذا ترك كان ذلك بتفريط منه فأجر على قلعه، وههنا هو زرع معنى علم المكرى أنه لا يستحصد في تلك المدة، فإذا قلنا: يجبر فتراضيا على تركه باجارة أو إعارة جاز لما ذكرناه، وإن قلنا: لا يجبر لزمه المسمى للمدة، وأجرة المثل للزيادة، لانه كما لا يجوز الاضرار بالمكترى في نقل زرعه لا يجوز الاضرار بالمكرى في إبطال منفعة أرضه.
(الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا تكاراها سنة فزرعها فانقضت السنة والزرع فيها لم يباغ أن يحصد - فان كانت السنة يمكنه أن يزرع فيها زرعا يحصد قبلها فالكراء جائز، وليس لرب الارض أن يثبت زرعه وعليه أن ينقله عن الارض إلا أن يشاء رب الارض تركه، وإذا شرط أن يزرعها صنفا من الزرع يستحصد أو يستقصل قبل السنة فأخره إلى وقت من السنة فانقضت السنة قبل بلوغه فكذلك أيضا، وإن تكارى مدة أقل من سنة وشرط أن يزرعها شيئا بعينه ويتركه حتى يحصد فكان يعلم أنه لا يمكنه أن يستحصد في مثل هذه المدة تكاراها فالكراء فاسد من قبل أن أثبت بينهما شرطهما ولم أثبت على رب الارض أن يبقى زرعه فيها بعد انقضاء المدة أبطلت شرط الزارع أن يتركه حتى يستحصد، وإن أثبت له زرعه حتى يستحصد أبطلت شرط رب الارض فكان
هذا كراء فاسدا ولرب الارض كراء مثل أرضه إذا زرع، وعليه تركه حتى يستحصد.(15/66)
وصورة هذه المسألة أن يستأجر الرجل أرضا مدة معلومة ليزرعها موصوفا فزرعها، ثم انقضت المدة قبل استحصاد زرعها، فلا يخلو حال المدة من ثلاثة أحوال (احداها) أن يعلم أن ذلك الزرع يستحصد في مثلها (والثانية) أن يعلم أنه لا يستحق في مثلها (والثالثة) أن يقع الشك فيه، فأما الاولى فلا تخلو من ثلاثة أقسام.
(أحدها) أن تأخير استحصاده لعدوله عن الجنس الذى شرطه إلى غيره مثل أن يستأجر خمسة أشهر لزرع الباقلا فيزرعها برا فتنقضى المدة، والبر غير مستحصد فهذا يؤخذ بقلعه قبل استحصاده، لانه بعدوله عن الباقلا إلى البر يصير متعديا فلم يستحق استيفاء زرع تعدى فيه، فان تراضى المؤجر والمستأجر على تركه إلى أوان الحصاد بأجرة المثل فيما زاد على المدة أقر، وان رضى المستأجر وأبى المؤجر أو رضى المؤجر وأبى المستأجر من بذل أجرة المثل قلع.
(والقسم الثاني) أن يكون تأجير استحصاده لتأخير بذره من عدول عن جنسه فهذا مفرط ويؤخذ بقلع زرعه قبل استحصاده لان تفريطه لا يلزم غيره، فان بذل أجرة مثل المدة الزائدة ورضى المؤجر بقبولها ترك والا قلع.
(والقسم الثالث) أن يكون تأخير استحصاده لامر سماوي من طول برد أو تأخر مطر أو انخفاض نيل أو دوام ثلج ففيه وجهان.
أحدهما: يترك إلى وقت استحصاده لانه لم يكن من المستأجر عدوان ولا تفريط، فإذا ترك إلى وقت الحصاد ضمن المستأجر أجرة مثل المدة الزائدة على عقده.
الوجه الثاني: أن يؤخذ بقلعه ولا يترك لانه قد كان بقدر على الاستظهار لنفسه في استزادة المدة
خوفا مما عساه يحتمل من أسباب سماوية فلو لم يأخذ لنفسه فرصة صار مفرطا.
أما الحال الثانية: وهو أن يعلم مجارى العادة أن مثل ذلك الزرع لا يستحصد في مثل تلك المدة، مثل أن يستأجرها أربعة أشهر لزرعها برا أو شعيرا فهذا اما: (أ) أن يشترط قلعه عند انقضاء المدة، فهذه اجارة جائزة، لانه قد يريد زرعه قصيلا ولا يريده حبا، فإذا انقضت المدة أخذ بقلع زرعه وقطعه.
(ب) أن يشترط تركه إلى وقت حصاده فهذا اجارة فاسدة، لان اشتراط(15/67)
استيفاء الزرع بعد مدة الاجارة ينافى موجبها فبطلت، ثم للزارع استيفاء زرعه وقت حصاده، وإن بطلت الاجارة، ولا يؤخذ بقلع زرعه لانه زرع عن إذن اشترط فيه الترك وعليه أجرة المثل، والفرق بين هذه المسألة في استيفاء الزرع مع فساد الاجارة وبين أن يؤخذ بقلعه فيما تقدم من الاحوال والاقسام مع صحة الاجارة أن الاجارة إذا بطلت روعى الاذن دون المدة، وإذا صحت روعيت المدة (ج) أن يطلق العقد فلا يشترط فيه قلعا ولا تركا فقد اختلف أصحابنا هل إطلاقه يقتضى القلع أو الترك؟ على وجهين.
(أحدهما)
وهو قول أبى إسحاق المروزى: أنه يقتضى القلع اعتبارا بموجب العقد، فعلى هذا الاجارة صحيحة، ويؤخذ المستأجر بقلع زرعه عند تقضى المدة
(والثانى)
وهو ظاهر كلام الشافعي أن الاطلاق يقتضى الترك إلى أوان الحصاد اعتبارا بالعرف فيه، كما أن ما لم يبد صلاحه من الثمار يقتضى إطلاق بيعه للترك إلى وقت الجداد اعتبارا بالعرف فيه، فعلى هذا تكون الاجارة فاسدة، ويكون للمستأجر ترك زرعه إلى وقت حصاده، وعليه أجرة المثل كما لو شرط الترك.
الحال الثالثة: وهو أن يقع الشك في المدة هل يستحصد الزرع فيها؟ كأن استأجرها خمسة أشهر لزرع البر والشعير، فقد يجوز أن يستحصد الزرع في هذه
المدة في بعض البلاد وبعض السنين، ويجوز أن لا يستحصد فيكون حكم هذه الحال حكم ما علم أنه يستحصد فيه، على ما مضى إسقاطا للشك واعتبارا باليقين هكذا أفاده الماوردى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(فصل)
وإن اكترى أرضا للغراس مدة لم يجز أن يغرس بعد انقضائها، لان العقد يقتضى الغرس في المدة فلم يملك بعدها، فإن غرس في المدة وانقضت المدة نظرت، فإن شرط عليه القلع بعد المدة أخذ بقلعه لما تقدم من شرطه ولا يبطل العقد بهذا الشرط، لان الذى يقتضيه العقد هو الغراس في المدة، وشرط القلع بعد المدة لا يمنع ذلك، وإنما يمنع من التبقية بعد المدة، والتبقة بعد(15/68)
المدة من مقتضى الاذن لا من مقتضى العقد، فلم يبطل العقد بإسقاطها، فإذا قلع لم يلزمه تسوية الارض لانه لما شرط القلع رضى بما يحصل به من الحفر، فإن أطلق العقد ولم يشترط القلع ولا التبقية لم يلزمه القلع، لان تفريغ المستأجر على حسب العادة، ولهذا لو اكترى دارا وترك فيها متاعا وانقضت المدة لم يلزمه تفريغها إلا على حسب العادة في نقل مثله، والعادة في الغراس التبقية إلى أن يجف ويستقلع.
فإن اختار المكترى القلع نظرت، فإن كان ذلك قبل انقضاء المدة ففه وجهان أحدهما: يلزمه تسوية الارض، لانه قلع الغراس من أرض غيره بغير إذنه، فلزمه تسوية الارض، والثانى: لا يلزمه لانه قلع الغراس من أرض له عليها يد فإن كان ذلك بعد انقضاء المدة لزمه تسوية الارض وجها واحدا لانه قلع الغراس من أرض غيره من غير إذن ولا يد، فان اختار التبقية نظرت، فان أراد صاحب الارض أن يدفع إليه قيمة الغراس ويتملكه أجبر المكترى على
ذلك لانه يزول عنه الضرر بدفع القيمة، فان أراد أن يقلع نظرت، فان كانت قيمة الغراس لا تنقص بالقلع أجبر المكترى على القلع، لانه لا ضرر عليه في القلع، فان كانت قيمة الغراس تنقص بالقلع، فان ضمن له أرش ما نقص بالقلع أجبر عليه، لانه لا ضرر عليه بالقلع مع دفع الارش، فان أراد أن يقلع ولا يضمن أرش النقص لم يجبر المكترى.
وقال المزني يجبر لانه لا يجوز أن ينتفع بأرض غيره من غير رضاه، وهذا خطأ، لان في قلع ذلك من غير ضمان الارش إضرارا بالمكترى، والضرر لا يزال بالضرر.
فان اختار أن يقر الغراس في الارض ويطالب المكترى بأجرة المثل أجبر المكترى، لانه كما لا يجوز الاضرار بالمكترى بالقلع من غير ضمان، لا يجوز الاضرار بالمكرى بابطال منفعة الارض عليه من غير أجرة، فان أراد المكترى أن يبيع الغراس من المكرى جاز، وإن أراد بيعه من غيره ففيه وجهان، وقد بيناهما في كتاب العارية، فان اكترى بشرط التبقية بعد المدة جاز، لان إطلاق(15/69)
العقد يقتضى التبقية فلا يبطل بشرطها، والحكم في القلع والتبقية على ما ذكرناه فيه إذا أطلق العقد.
(فصل)
فإن اكترى أرضا بإجارة فاسدة وغرس كان حكمها في القلع والاقرار على ما بيناه في الاجارة الصحيحة لان الفاسد كالصحيح فيما يقتضيه من القلع والاقرار فكان حكمهما واحدا، وبالله التوفيق (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وان قال اغرسها وازرعها ما شئت فالكراء جائز، قال المزني: أولى بقوله ألا يجوز هذا لانه لا يدرى يغرس أكثر فيكثر الضرر على صاحبها أو لا يغرس
وهذه العبارة تشتمل على ثلاث مسائل، احداهن أن يقول: أجرتكها لتزرعها ان شئت أو تغرسها ان شئت فالاجارة صحيحة، وهو مخير بين زرعها ان شاء وبين غرسها، فان زرع بعضها وغرس بعضها جاز، لانه لما جاز له غرس الجميع كان غرس البعض أولى بالجواز.
الثانية أن يقول: قد أجرتكها لتزرعها أو تغرسها، فالاجارة باطلة، لانه لم يجعل له الامرين معا، ولا أحدهما معينا، فصار ما أجره له مجهولا الثالثة أن يقول: قد أجرتكها لتزرعها وتغرسها ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو مذهب المزني أن الاجارة باطلة، لانه لما لم يخيره بين الامرين وجمع بينهما صار ما يزرع منها ويغرس مجهولا، وهذا قول أبى اسحاق المروزى
(والثانى)
وهو ظاهر كلام الشافعي.
وقال ابن أبى هريرة: أن الاجارة صحيحة وله أن يزرع النصف ويغرس النصف لان جمعه بين الامرين يقتضى التسوية بينهما، فلو زرعها جميعا جاز، لان زرع النصف المأذون في غرسه أقل ضررا، ولو غرسها جميعا لم يجز لان غرس النصف المأذون في زرعه أكثر ضررا قال الشافعي رضى الله عنه: وان انقضت سنوه لم يكن لرب الارض أن يقلع الغراس حتى يعطيه قيمته وقيمة ثمرته ان كانت فيه يوم نقلعه، ولرب الارض الغراس ان شاء أن نقلعه على أن عليه ما نقص من الارض، والغراس كالبناء إذا كان باذن مالك الارض مطلقا.(15/70)
قال المزني: القياس عندي أنه إذا حد له أجلا يغرس فيه فانقضى الاجل وأذن له أن يبنى في عرصة له، فانقضى الاجل فالارض والعرصة بعد انقضاء الاجل مردودان.
وصورتها فيمن استأجر أرضا ليبنى فيها ويغرس فانقضى الاجل والبناء
والغراس قائم في الارض فليس له بعد انقضاء الاجل أن يحدث بناء ولا غرسا، فإن فعل كان متعديا وأخذ بقلع ما أحدثه بعد الاجل من غرس وبناء، فأما القائم في الارض قبل انقضاء الاجل فلا يخلو حالهما فيه عند العقد من ثلاثة أحوال (أحدها) أن يشترطا قلعه عند انقضاء المدة فيؤخذ المستأجر بقلع غرسه وبنائه لما تقدم من شرطه، وليس عليه تسوية ما حدث من حفر الارض لانه مستحق بالعقد (الثانية) أن يشترطا تركه بعد انقضاء المدة فيقر ولا يفسد العقد بهذا الشرط لانه من موجباته لو أخل بالشرط ويصير بعد انقضاء المدة مستعيرا على مذهب الشافعي فلا يلزمه أجرة، وعلى مذهب المزني عليه الاجرة ما لم يصرح له بالعارية فإن قلع المستأجر غرسة وبنائه لزمه تسوية ما حدث في حفر الارض لانه لم يستحقه بالعقد، وإنما استحقه بالملك، وهذا قول جميع أصحابنا وإنما اختلفوا في تعليله فقال بعضهم: العلة فيه أنه لم يستحقه بالعقد، وهو التعليل الذى ذكرناه فعلى هذا لو قلعه قبل انقضاء المدة لالزمه تسوية الارض.
والحال الثالثة: أن يطلقا العقد فلا يشرطا فيه قلعه ولا تركه فينظر، فإن كانت قيمة الغرس والبناء مقلوعا كقيمته قائما أخذ المستأجر بقلعه لانه لا ضرر يلحقه فيه ولا نقص.
وان كانت قيمته مقلوعا أقل من قيمته قائما وهو الاغلب نظر، فان بذل رب الارض قيمة الغرس والبناء قائما، أو ما بين قيمته مقلوعا لم يكن للمستأجر تركه، لان ما يدخل عليه من الضرر بقلعه يزول ببذل القيمة أو النقص، وقيل: لا يجبرك على أخذ القيمة ولكن يخيرك بين أن تقلعه أو تأخذ قيمته وليس لك إقراره وتركه، وإن لم يبذل رب الارض قيمة الغرس والبناء ولا قدر النقص نظر في المستأجر، فان امتنع من بذل أجرة المثل بعد تقضى(15/71)
المدة لم يكن له إقرار الغرس والبناء وأخذ بقلعه، وإن بذل له أجرة المثل مع امتناع رب الارض من بذل القيمة أو النقص، فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه أن الغرس والبناء مقران لا يؤخذ المستأجر بقلعهما ولا يجبر رب الارض بعد انتهاء المدة على تركهما استدلالا بما ذكره المزني من قول الله تَعَالَى (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) وليس من رب الارض رضى بالترك فلم يجبر عليه، ولانه لما أخذ بقلع زرعه عند انقضاء المدة لم يقر إلى أوان حصاده مع أن زمان حصاده محدود، فلان يؤخذ بقلع الغرس والبناء مع الجهل بزمانهما أولى، ولان تحديد المدة يوجب اختلاف الحكم في الاستيفاء كما أوجب اختلاف الحكم في إحداث الغرس والبناء، وهذا المذهب أظهر حجاجا وأصح اجتهادا.
واستدل أصحابنا على تركه وإقراره بقوله صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق ظالم حق) رواه أبو داود والدارقطني عن عروة بن الزبير مرسلا، فاقتضى ذلك وقوع الفرق بين الظالم والمحق، فلم يجز أن يسوى بينهما في الاخذ بالقلع.
قالوا ولان من أذن لغيره في إحداث حق في ملك كان محمولا فيه على العرف المعهود في مثله كمن اذن لجاره في وضع اجزاعه في جداره كان عليه تركه على الدوام، ولم يكن له اخذه بقلعها، لان العادة جارية باستدامة تركها، كذلك الغرس والبناء العادة فيهما جارية بالترك والاستبقاء دون القلع، والتناول محمول على العادة.
وهذا الاستدلال يفسد بالزرع لان العادة جارية بتركه إلى أوان حصاده.
ثم هي غير معتبرة حين يؤخذ بقلعه.
(فرع)
وإذا كانت الاجارة فاسدة فبنى المستأجر فيها وغرس أو زرع فهو في الاقرار والترك على ما ذكرنا في الاجارة الصحيحة، لان الفاسد في كل عقد حكمه حكم الصحيح في الامانة والضمان.
والله تعالى أعلم بالصواب(15/72)
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
(بَابُ مَا يوجب فسخ الاجارة) إذا وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيبا جاز له ان يرد، لان الاجارة كالبيع، فإذا جاز رد المبيع بالعيب جاز رد المستأجر، وله أن يرد بما يحدث في يده من العيب، لان المستأجر في يد المستأجر كالمبيع في يد البائع، فإذا جاز رد المبيع بما يحدث من العيب في يد البائع، جاز رد المستأجر بما يحدث من العيب في يد المستأجر.
(فصل)
والعيب الذى يرد به ما تنقص به المنفعة، كتعثر الظهر في المشي والعرج الذى يتأخر به عن القافلة وضعف البصر والجذام والبرص في المستأجر للخدمة، وانهدام الحائط في الدار، وانقطاع الماء في البئر والعين والتغير الذى يمتنع به الشرب أو الوضوء وغير ذلك من العيوب التى تنقص بها المنفعة.
فاما إذا اكترى ظهرا فوجده خشين المشي لم يدر، لان ذلك لا تنقص به المنفعة.
وان اكترى ظهرا للحج عليه فعجز عن الخروج بالمرض أو ذهاب المال لم يجز له الرد، وان اكترى حماما فتعذر عليه ما يوقده لم يجز له الرد، لان المعقود عليه باق، وانما تعذر الانتفاع لمعنى في غيره فلم يجز له الرد، كما لو اشترى ظهرا ليحج عليه فعجز عن الحج لمرض أو ذهاب المال، وان اكترى أرضا للزراعة فزرعها ثم هلك الزرع بزيادة المطر أو شدة برد أو دوام ثلج أو أكل جراد لم يجز له الرد لان الجائحة حدثت على مال المستأجر دون منفعة الارض فلم يجز له الرد، وان اكترى دارا فتشعثت فبادر المكرى إلى اصلاحها لم يكن للمستأجر ردها لانه لا يلحقه الضرر، فان لم يبادر ثبت له الفسخ لانه يلحقه ضرر بنقصان المنفعة، فان رضى سكناها ولم يطالب بالاصلاح فهل يلزمه جميع الاجرة ام لا؟ فيه وجهان
(أحدهما)
لا يلزمه جميع الاجرة لانه لم يستوف جميع ما استحقه من المنفعة فلم يلزمه جميع الاجرة، كما لو اكترى دارا سنة فسكنها بعض السنة ثم غصبت
(والثانى)
يلزمه جميع الاجرة لانه استوفى جميع المعقود عليه ناقصا بالعيب(15/73)
فلزمه جميع البدل، كما لو اشترى عبدا فتلفت يده في يد البائع ورضى به.
(فصل)
ومتى رد المستأجر العين بالعيب، فان كان العقد على عينها انفسخ العقد، لانه عقد على معين فانفسخ برده، كبيع العين.
وان كان العقد على موصوف في الذمة لم ينفسخ العقد برد العين، بل يطالب ببدله، لان العقد على ما في الذمة، فإذا رد العين رجع إلى ما في الذمة، كما لو وجد بالمسلم فيه عيبا فرده.
(فصل)
وان استأجر عبدا فمات في يده، فان كان العقد على موصوف في الذمة طالب ببدله لما ذكرناه في الرد بالعيب، وان كان العقد على عينه فان لم يمض من المدة ما له أجرة انفسخ العقد.
وقال أبو ثور من أصحابنا: لا ينفسخ، بل يلزم المستأجر الاجرة لانه هلك بعد التسليم فلم ينفسخ العقد، كما لو هلك المبيع بعد تسليم فلم ينفسخ العقد، والمذهب الاول، لان المعقود عليه هو المنافع، وقد تلفت قبل قبضها فانفسخ العقد كالمبيع إذا هلك قبل القبض.
وان مضى من المدة ماله أجرة انفسخ العقد فيما بقى بتلف المعقود عليه، وفيما مضى طريقان:
(أحدهما)
لا ينفسخ فيه العقد قولا واحدا
(والثانى)
انه على قولين بناء على الطريقين في الهلاك الطارئ في بعض المبيع قبل القبض، هل هو كالهلاك المقارن للعقد ام لا؟ لان المنافع في الاجارة كالمبيع قبل القبض، وفى المبيع قبل القبض طريقان فكذلك الاجارة.
(فصل)
وان اكترى دارا فانهدمت فقد قال في الاجارة ينفسخ العقد،
وقال في المزارعة إذا اكترى أرضا للزراعة فانقطع ماؤها ان المكترى بالخيار بين أن يفسخ وبين أن لا يفسخ.
واختلف أصحابنا فيهما على طريقين، فمنهم من نقل جواب كل واحدة من المسئلتين إلى الاخرى فخرجهما على قولين، وهو الصحيح
(أحدهما)
ان العقد ينفسخ فيهما، لان المنفعة المقصودة هي السكنى والزراعة وقد فاتت فانفسخ العقد، كما لو اكترى عبدا للخدمة فمات.
(والثانى)
لا ينفسخ لان العين باقية يمكن الانتفاع بها وانما نقصت منفعتها فثبت له الخيار كما لو حدث به عيب.
ومنهم من قال إذا انهدمت الدار انفسخ(15/74)
العقد، وان انقطع الماء من الارض لم ينفسخ لان الارض باقية مع انقطاع الماء والدار غير باقية مع الانهدام.
(الشرح) لا ينفسخ عقد الاجارة عينية كانت أو في الذمة بنفسها ولا يفسخ احد العاقدين بالاعذار التى لا توجب خللا في المعقود عليه، كمن استأجر حماما وتعذر عليه جلب الوقود له، أو استأجر سيارة وتعذر على شراء وقودها، أو مرض فحال مرضه دون السفر عليها، أو استأجر بيتا ولم يجد أثاثا يتخذه فراشا فيها، ويقاس على هذه الامثلة كل عذر لا يلحق المعقود عليه خلل في عينه بعيب فيه، وإذا استأجر دارا فوجد ماء بئرها متغيرا، قال أبو حنيفة: إن استطيع الوضوء به فلا خيار للمستأجر.
وعندنا انه ان خالف معهود الآبار في تلك الناحية فله الخيار، فان كان معهودهم الشرب من آبارهم - فإذا كان تغيره يمنع من شربه - فله الخيار، وان أمكن الوضوء منها، وان كان معهودهم الا يشربوا منها فلا خيار، وإن كان غير معهود في ذلك الوقت - فان كان مع نقصانه كافيا لما يحتاج المستأجر من شرب أو طهور، فلا خيار له، وان كان مقصرا عن الكفاية فله الخيار.
فأما رجاء الحصول على الماء إذا تغير ماؤه فلا خيار لمستأجره، ولو نقص ماؤه فله الخيار الا أن يكون معهودا في وقته فلا خيار فيه.
قال الشافعي: وإذا اكترئ الرجل الارض من الرجل بالكراء الصحيح ثم أصابها غرق منعه الزرع أو ذهب بها سيل أو غصبها فحيل بينه وبينها سقط عنه الكراء من يوم أصابها ذلك، وهى مثل الدار يكتريها سنة ويقبضها فتهدم في أول السنة أو آخرها، والعبد يستأجره السنة فيموت في أول السنة أو آخرها فيكون عليه من الاجارة بقدر ما سكن واستخدم ويسقط عنه ما بقى، وان أكراه أرضا بيضاء يصنع فيها ما شاء، أو لم يذكر انه اكتراها للزرع ثم انحسر الماء عنها في أيام لا يدرك فيها زرعا، فهو بالخيار بين أن يأخذ ما بقى بحصته من الكراء أو يرده لانه قد انتقص مما اكترى.
وكذلك ان اكتراها للزرع، وكراؤها للزرع أبين في ان له أن يردها ان شاء، وإن كان مر بها فافسد زرعه أو أصابه(15/75)
حريق أو ضريب 1) أو جراد أو غير ذلك فهذا كله جائحة على الزرع لا على الارض فالكراء له لازم، فان أحب أن يجدد زرعا جدده ان كان ذلك يمكنه، وان لم يمكنه فهذا شئ أصيب به في زرعه لم تصب به الارض فالكراء له لازم، وهذا مفارق للجائحة في الثمرة يشتريها الرجل فتصيبها الجائحة في يديه قبل أن يمكنه جدادها.
ومن وضع الجائحة ثم ابتغى أن لا يضعها ههنا، فان قال قائل: إذا كانتا جائحتين فما بال احداهما توضع والاخرى لا توضع، فان من وضع الجائحة الاولى فانما يضعها بالخبر، وبانه إذا كان البيع جائزا في شراء الثمرة إذا بدا صلاحها وتركها حتى تجدد فانما ينزلها بمنزلة الكراء الذى يقبض به الدار ثم تمر به أشهر ثم تتلف الدار فيسقط عنه الكراء من يوم تلف.
اه وقد اختلف أصحابنا في الفساد الطارئ على المستأجر - بفتح الجيم - على
حسب اختلافهم في الفساد الطارئ على بعض الصفقة، هل يكن كالفساد المقارن للعقد؟ فقال بعض أصحابنا هما سواء، فيكون بطلان الاجارة فيما مضى من المدة على قولين من تفريق الصفقة.
وقال آخرون: ان الفساد الطارئ على العقد مخالف للفساد المقارن للعقد، فتكون الاجارة فيما مضى من المدة غير فاسدة قولا واحدا.
فان قبل ببطلان الاجارة فيما مضى من المدة لزم المستأجر أجرة المثل في الماضي دون المسمى.
وان قيل بصحة الاجارة فيما مضى فقد اختلف أصحابنا هل له الخيار في فسخه أم لا؟ على وجهين
(أحدهما)
لا خيار له لفواته على يده، فعلى هذا ان كانت اجرة السنة كلها متساوية لتساوي العمل فيها فعليه نصف الاجرة المسماة لاستيفاء نصف العمل المستحق بنصف السنة المسماة وان كان العمل فيها مختلفا والاجرة فيه مختلفة مثل ان تكون اجرة النصف الماضي من السنة مائة درهم واجرة النصف الباقي خمسين درهما تقسطت الاجرة على العمل المختلف دون المدة، وكان على المستأجر ثلثى ثلثا الاجرة بمضي نصف المدة لانها تقابل ثلثى العمل
__________
(1) الضريب يقال للثلج الدائب ولسموم الماء انشفه الارض.
هكذا في القاموس(15/76)
(والوجه الثاني) أن له الخيار لتفريق الصفقة عليه بين المقام على الاجارة فيما مضى وبين فسخها فيه، فان أقام على الماضي لزمه من الاجرة ما ذكرناه من الحساب والقسط، وكان بعض أصحابنا يخرج قولا آخر أن يقيم بجميع الاجرة والا فسخ، وهو قول من يجعل الفساد الطارئ كالفساد المقارن، وان فسخ الاجارة في الماضي لزمه فيه أجرة المثل، لان الفسخ قد رفع العقد فسقط حكم المسمى فيه.
(فرع)
وجملة بيان هذه الفصول ان من استأجر عينا مدة فحيل بينه وبين الانتفاع بها لم يخل من أقسام ثلاثة.
(احدها) ان تتلف العين كنفوق دابة فهذا على ثلاثة أضرب، أحدها: ان تتلف العين قبل قبضها، فان الاجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه، لان المعقود عليه تلف قبل قبضه فاشبه ما لو تلف الطعم المبيع قبل قبضه.
(والثانى)
أن تتلف عقيب قبضها، فان الاجارة تنفسخ ايضا ويسقط الاجر عند عامة الفقهاء الا أبا ثور حكى عنه أنه قال: يستقر الاجر، لان المعقود عليه اتلف بعد قبضه أشبه المبيع، وهذا غلط، لان المعقود عليه المنافع، وقبضها استيفاؤها أو التمكن من استيفاؤها، ولم يحصل ذلك فاشبه تلفها قبل قبض العين (والثالث) أن تتلف بعد مضى شئ من المدة، فان الاجارة تنفسخ فيما بقى من المدة دون ما مضى، ويكون للمؤجر من الاجر بقدر ما استوفى من المنفعة، هذا معنى ما نقلناه من الام قبل.
وقال أحمد فيما رواه عنه ابراهيم بن الحارث: إذا اكترى بعيرا بعينه فنفق البعير يعطيه بحساب ما ركب، وذلك لما ذكرنا من ان المعقود عليه المنافع، وقد تلف بعضها قبل قبضه فبطل العقد فيما تلف دون ما قبض، كما لو اشترى صبرتين فقبض احداهما وتلفت الاخرى قبل قبضها.
فان كان المستأجر مختلف الاجر حسب اختلاف الازمان كدار بسيف البحر ايجارها صيفا أكثر من أجرها شتاء، أو دار بأسوان أجرها شتاء أكثر من أجرها صيفا أو دار لها موسم كدور مكة شرفها الله رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة(15/77)
ويقسط الاجر المسمى على حسب قيمة المنفعة كقسمة الثمن على الاعيان المختلفة في البيع، وكذلك لو كان الاجر على قطع المسافة وكانت معروفة بالاميال أو الكيلو مترات.
القسم الثاني: ان يحدث على العين ما يمنع نفعها كدار انهدمت وأرض غرقت أو انقطع عنها الماء فهذه ينظر فيها فان لم يبق فيها أصلا فهى كالتالفة سواء، وان بقى فيها نفع غير ما استأجرها له انفسخت الا في انقطاع الماء لانه لم يحدث في المعقود عليه خلل يفسد العقد فاشبه ما لو نقص نفعها مع بقائه، فهو مخير بين الفسخ والامضاء، فان فسخ فعليه ما مضى من العقد، وان اختار امضاءه فعليه جميع الاجر لان العيب إذا رضى به سقط حكمه.
فإذا انهدمت الدار أو مرض الخادم، فان الاجارة لا تنفسخ لبقاء المعقود عليه، ولكن المستأجر بالخيار لاجل العيب الحادث المؤثر في منفعته بين المقام والفسخ، والخيار فيه على التراخي لا على الفور بخلاف الخيار في البيع لانه يتجدد بمرور الاوقات لحدوث النقص فيها فان كان مرض الخادم مرضا لا يؤثر في العمل نظر فيما استؤجر له من العمل، فان كان مما لا تعاف النفس مرضه فيه كالكنس والرعى وحرث الارض فلا خيار للمستأجر، وان كان مما تعاف النفس مرضه فيه كخدمته في مأكله ومشربه وملبسه فله الخيار.
وقال النووي في الدار: تنفسخ بهدمها.
وقال شمس الدين الرملي: في الاصح وان كانت الاجارة في دار حرث شارعها أو دكان بطلت سوقه فلا خيار له لانه عيب خدث في غير المعقود عليه، فإذا استأجر دارا فانهدم فيها حائط أو سقط فيها سقف نظر، فان لم يمكن سكنى الدار بانهدام حائطها وسقوط سقفها كان كما لو انهدم جميعها في بطلان الاجارة فيها، وان أمكن سكناها لم تبطل الاجارة وكان مخيرا في الفسخ للعيب الحادث.
وأما ان انهدم نصفها وبقى نصفها والباقى منها يمكن سكناه بطلت الاجارة في النصف المنهدم، وهى صحيحة في النصف السليم والمستأجر بالخيار، ومن جعل من أصحابنا الفساد الطارئ على بعض الصفقة كالفساد المقارن للصفقة خرج الاجارة فيما سلم من الدار على قولين.(15/78)
(فرع)
فإذا انهدمت الدار فبناها المؤجر لم تعد الاجارة فيها بعد فسادها الا بعقد جديد: لان بطلانه يمنع من عوده الا باستحداث عقد ولكن لو اشتركت وتشعبت فلم يختر المستأجر الفسخ حين عمرها المؤجر ففى خيار المستأجر وجهان أحدهما: قد سقط لارتفاع موجبة، والثانى: انه باق بحاله لما تقدم من استحقاقه ولكن له لو رام المؤجر ان يمنع المستأجر من الفسخ حتى يعمرها له لم يكن ذلك للمؤجر، وكان المستأجر على خيار.
(فرع)
قال الشافعي رضى الله عنه: ولو اكترى أرضا سنة فغصبها رجل لم يكن عليه كراه لانه لم يسلم له ما اكترى، قلت: ومن هنا نعلم أن الارض إذا غصبت من يد المستأجر فله الفسخ، وهل تبطل الاجارة بالغصب؟ على قولين.
أصحهما: باطلة، والمستأجر برئ من اجرة مدة الغصب، ولا يكون المستأجر خصما للغاصب فيها، لان خصم الغاصب انما هو المالك أو وكيله وليس المستأجر مالكا ولا وكيلا فلم يكن خصما.
والقول الثاني: ان الاجارة لا تبطل لان غاصبها ضامن لمنافعها لكن يكون المستأجر بحدوث الغصب مخيرا بين المقام أو الفسخ فان فسخ سقطت عنه الاجرة ولم يكن خصما للغاصب فيها، وان أقام فعليه المسمى ويرجع باجرة المثل على الغاصب ويصير خصما له في الاجرة دون الرقبة، الا ان يبقى من مدة الاجارة شئ فيجوز أن يصير خصما في الرقبة ليستوفى حقه من المنفعة وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:
(فصل)
وان اكرى نفسه فهرب أو أكرى عينا فهرب بها نظرت، فان كانت الاجارة على موصوف في الذمة استؤجر عليه من ماله كما لو اسلم إليه في شئ فهرب، فانه يبتاع عليه المسلم فيه، وان لم يمكن الاستئجار عليه ثبت للمستأجر
الخيار بين أن يفسخ وبين ان يصبر، لانه تأخر حقه فيثبت له الخيار، كما لو اسلم في شئ فتعذر، وان كانت الاجارة على عين فهو بالخيار بين أن يفسخ وبين أن يصبر، لانه تأخر حقه فثبت له الخيار، كما لو ابتاع عبدا فابق قبل القبض، فان لم يفسخ نظرت، فان كانت الاجارة على مدة انفسخ العقد بمضي المدة يوما بيوم(15/79)
لان المنافع تتلف بمضي الزمان فانفسخ العقد بمضيه، وان كانت على عمل معين لم ينفسخ لانه يمكن استيفاؤه إذا وجده
(فصل)
وان غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر - فان كان العقد على موصوف في الذمة - طولب المؤجر باقامة عين مقامها على ما ذكرناه في هرب المكرى، وان كان على العين فللمستأجر أن يفسخ العقد، لانه تأخر حقه فثبت له الفسخ، كما لو ابتاع عبدا فغصب فان لم يفسخ - فان كانت الاجارة على عمل - لم تنفسخ لانه يمكن استيفاؤه إذا وجده، وان كانت على مدة فانقضت ففيه قولان:
(أحدهما)
ينفسخ العقد فيرجع المستأجر على المؤجر بالمسمى، ويرجع المؤجر على الغاصب باجرة المثل
(والثانى)
لا ينفسخ، بل يخير المستأجر بين ان يفسخ ويرجع على المؤجر بالمسمى، ثم يرجع المؤجر على الغاصب باجرة المثل، وبين ان يقر العقد ويرجع على الغاصب بأجرة المثل، لان المنافع تلفت في يد الغاصب، فصار كالمبيع إذا اتلفه الأجنبي.
وفى المبيع قولان إذا اتلفه الأجنبي فكذلك ههنا.
(فصل)
وان مات الصبى الذى عقد الاجارة على إرضاعه فالمنصوص انه ينفسخ العقد، لانه تعذر استيفاء المعقود عليه، لانه لا يمكن اقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع فبطل.
ومن أصحابنا من خرج فيه قولان آخر انه
لا ينفسخ، لان المنفعة باقية، وانما هلك المستوفى فلم ينفسخ العقد، كما لو استأجر دارا فمات، فعلى هذا ان تراضيا على ارضاع صبى آخر جاز.
وان تشاحا فسخ العقد، لانه تعذر امضاء العقد ففسخ.
(فصل)
وان استأجر رجلا ليقلع له ضرسا فسكن الوجع، أو ليكحل عينه فبرئت، أو ليقتص له فعفا عن القصاص، انفسخ العقد على المنصوص في المسألة قبلها، لانه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ، كما لو تعذر بالموت، ولا ينفسخ على قول من خرج القول الآخر.(15/80)
(الشرح) إذا هرب الاجير أو شردت الدابة المتاجرة أو أخذ المؤجر العين وهرب بها، أو منعه استيفاء المنفعة من غير هرب على نحو ما، لم تنفسخ الاجارة، لكن يثبت للمستأجر خيار الفسخ، فان فسخ فلا كلام، وان لم يفسخ انفسخت الاجارة بمضي المدة يوما فيوما، فان عادت العين في اثناء المدة استوفى ما بقى منها، فان انقضت المدة انفسخت الاجارة لفوات المعقود عليه، وان كانت الاجارة على موصوف في الذمة، كخياطة ثوب أو بناء حائط أو حمل إلى موضع معين استؤجر من ماله من يعلمه، كما لو أسلم إليه في شئ فهرب ابتيع من ماله، فان لم يمكن ثبت للمستأجر الفسخ، فان فسخ فلا كلام، وان لم يفسخ وصبر إلى ان يقدر عليه فله مطالبته بالعمل، لان ما في الذمة لا يفوت بهربه، وكل موضع امتنع الاجير من العمل فيه، أو منع المؤجر المستأجر من الانتفاع إذا كان بعد عمل البعض فلا أجر له فيه على ما سبق، الا أن يرد العين قبل انقضاء المدة أو يتم العمل - ان لم يكن على مدة - قبل فسخ المستأجر، فيكون له أجر ما عمل.
فأما ان شردت الدابة أو تعذر استيفاء المنفعة بغير فعل المؤجر فله من الاجر بقدر ما استوفى بكل حال، والى هذا كله ذهب الحنابله (فرع)
إذا غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر ففيه قولان: أحدهما للمستأجر الفسخ لان فيه تأخير حقه، فان فسخ فالحكم فيه كما لو انفسخ العقد بتلف العين سواء، وان لم يفسخ حتى انقضت مدة الاجارة فله الخيار بين الفسخ والرجوع بالمسمى، وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب باجرة المثل، لان المعقود عليه لم يفت مطلقا بل إلى بدل وهو القيمة، فاشبه ما لو اتلف الثمرة المبيعة آدمى قبل قطعها، ويتخرج انفساخ العقد بكل حال على القول بأن المنافع الغصب لا تضمن، وهو محل خلاف بين أصحابنا، وهو قول أصحاب الرأى وأصحاب أحمد.
(والثانى)
لا تخيير، بل ينفسخ ويرجع المستأجر على المؤجر بالمسمى ويرجع المؤجر على الغاصب بأجرة المثل(15/81)
وقول ثالث لم يذكره المصنف، وهو قول ابن الرفعة: لا خيار ولا فسخ أخذا من النص، وقد استشهد له الغزى.
قال الرملي: فيه نظر.
وقال الاذرعى هو مشكل وما أظن الاصحاب يسمحون به وان كانت الاجارة على عمل في الذمة كخياطة ثوب أو حمل شئ إلى موضع معين فغصبت الماكينة التى يخيط.
بها، أو العربة التى يحمل عليها لم ينفسخ العقد وللمستأجر مطالبة الاجير بعوض المغصوب وإقامة من يعمل العمل، لان العقد على ما في الذمة، كما لو وجد بالمسلم فيه عيبا فرده، فان تعذر البدل ثبت للمستأجر الخيار بين الفسخ أو الصبر إلى أن يقدر على العين المغصوبة فيستوفى منها (فرع)
وتنفسخ الاجارة بموت الطفل، لانه يتعذر استيفاء المعقود عليه
لانه لا يمكن اقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف اللبن باختلافهم، فانه قد يدر على احد الوالدين دون الآخر، وهذا هو منصوص الشافعي، فإذا انفسخ العقد بطلت الاجارة من أصلها بالاجر كله.
وان كان في اثناء المدة رجع بحصة ما بقى.
ومن أصحابنا من خرج قولا آخر انه لا ينفسخ، لان المنفعة باقية ببقاء المرضعة وانما المستوفى هو الذى هلك والعقد باق بين المتعاقدين فإذا تراضيا على إرضاع صبى آخر جاز والا انفسخ العقد.
أما إذا ماتت المرضعة فان الاجارة تنفسخ لفوات المنفعة بهلاك محلها، وحكى عن بعض أصحاب أحمد أنها لا تنفسخ، وكذلك ذهب بعض الاصحاب وقالوا: يجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت لانه كالدين.
(فرع)
يجوز أن يستأجر طبيبا يخلع له ضرسه لانها منفعة مباحة مقصوده فجاز الاستئجار على فعلها كالختان، فإذا برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الاجارة لان قلعه سليما لا يجوز، وان لم يبرأ لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر عليه لان اتلاف جزء من الادمى محرم في الاصل، وانما أبيح القلع إذا صار بقاؤه ضررا، والامر مفوض إلى الانسان في نفسه إذا كان أهلا لذلك.
وصاحب الضرس أعلم بمضرته ومنفعته، وكذلك.
وإذا استأجر طبيبا في الرمد ليكحل عينه بالنترات والاكاسيد فلم يبرأ عينه استحق الاجر، وبه قال أكثر الفقهاء.(15/82)
وقال مالك: إنه لا يستحق أجرا حتى تبرأ عينه، ولم يحك ذلك أصحابه، وهو فاسد، لان المستأجر قد وفى العمل الذى وقع العقد عليه فوجب له الاجر وإن لم يحصل الغرض، كما لو استأجره لبناء حائط يوما أو لخياطة قميص فلم يتمه فيه فان برئت عينه فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ من مدة، لانه قد تعذر
العمل فاشبه ما لو حجر عنه امر غالب، وكذلك لو مات، فان امتنع من العلاج فلم يستعمله مع بقاء المرض استحق الطبيب الاجر بمضي المدة، كما لو استأجره يوما للبناء فلم يستعلمه فيه، فاما ان شارطه على البرء فان مذهبنا ومذهب أحمد ابن حنبل ان ذلك يكون جعالة فلا يستحق شيئا حتى يتحقق البرء، سواء وجد قريبا أو بعيدا، فان برئ بغير دوائه أو تعذر علاجه لموته أو غير ذلك من الموانع التى هي من جهة المستاجر فله أجر مثله، كما لو عمل العامل في الجعالة ثم فسخ العقد، وان امتنع لامر من جهة المعالج أو غير الجاعل فلا شئ له على تفصيل سيأتي في الجعالة ان شاء الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان مات الاجير في الحج قبل الاحرام نظرت، فان كان العقد على حج في الذمة استؤجر من تركته من يحج، فان لم يمكن ثبت المستأجر الخيار في فسخ العقد كما قلنا في السلم، وان كان على حجة بنفسه انفسخ العقد، لانه تلف المعقود عليه قبل القبض، فان مات بعدما أتى بجميع الاركان وقبل المبيت والرمى سقط الفرض لانه أتى بالاركان، ويجب في تركته الدم لما بقى كما يجب ذلك في حج نفسه.
وان مات بعد الاحرام وقبل أن يأتي بالاركان فهل يجوز أن يبنى غيره على علمه؟ فيه قولان، قال في القديم: يجوز لانه عمل تدخله النيابة فجاز البناء عليه كسائر الاعمال.
وقال في الجديد: لا يجوز، وهو الصحيح، لانه عبادة يفسد أولها بفساد آخرها فلا تتأدى بنفسين كالصوم والصلاة، فان قلنا لا يجوز البناء فان كانت الاجارة على عمل الاجير بنفسه بطلت، لانه فات المعقود عليه ويستأجر المستأجر من يستأنف الحج.(15/83)
وان كانت الاجارة على حج في الذمة تبطل، لان المعقود عليه لم يفت بموته، فان كان وقت الوقوف باقيا استؤجر من تركته من يحج، وان فات وقت الوقوف فللمستأجر ان يفسخ لانه تأخر حقه فثبت له الفسخ.
وان قلنا: يجوز البناء على فعل الاجير: فان كانت الاجارة على فعل الاجير بنفسه، بطلت لان حجه فات بموته، فان كان وقت الوقوف باقيا أقام المستأجر من يحرم بالحج ويبنى عمل الاجير، وان كان بعد فوات وقت الوقوف أقام من يحرم بالحج ويتم.
وقال أبو إسحاق: لا يجوز للبانى أن يحرم بالحج، لان الاحرام بالحج في غير أشهر الحج لا ينعقد، بل يحرم بالعمرة ويتم، والصحيح هو الاول لانه لا يجوز ان يطوف في العمرة ويقع عن الحج، وقوله: ان الاحرام بالحج لا ينعقد في غير أشهر الحج لا يصح، لان هذا بناء على إحرام حصل في أشهر الحج، وان كانت الاجارة على حج في الذمة استؤجر من تركه الاجير من يبنى على إحرامه على ما ذكرناه.
(فصل)
ومتى انفسخ العقد بالهلاك أو بالرد بالعيب أو بتعذر المنفعة بعد استيفاء بعض المنفعة قسم المسمى على ما استوفى وعلى ما بقى، فما قابل المستوفى استقر، وما قابل الباقي سقط، كما يقسم الثمن على ما هلك من المبيع وعلى ما بقى، فإذا كان ذلك مما يختلف رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة، وان كان العقد على الحج فمات الاجير أو أحصر نظرت، فان كان بعد قطع المسافة وقبل الاحرام فَفِيهِ وَجْهَانِ
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ: انه لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ بِنَاءُ عَلَى قوله في الام: إن الاجرة لا تقابل قطع المسافة وهو الصحيح، لان الاجرة في مقابلة الحج وابتداء الحج من الاحرام وما قبله من قطع المسافة تسبب إلَى الْحَجِّ وَلَيْسَ بِحَجٍّ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ فِي مُقَابَلَتِهِ أُجْرَةً كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَخْبِزَ لَهُ فَأَحْضَرَ الْآلَةَ
وَأَوْقَدَ النَّارَ وَمَاتَ قَبْلَ أن يخبز.
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي بكر الصيرفى أنه يستحق من مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا قَطَعَ مِنْ الْمَسَافَةِ بناء على قوله في الاملاء أن الاجرة تقابل قطع المسافة والعمل لان الحج لا يتأدى الا بهما فقسطت الاجرة عليهما.(15/84)
وان كان بعد الفراغ من الاركان وقبل الرمى والمبيت ففيه طريقان، أحدهما يلزمه أن يرد من الاجرة بقدر ما ترك قولا واحدا لانه ترك بعض ما استؤجر عليه فلزمه رد بدله، كما لو استؤجر على بناء عشرة أذرع فبنى تسعة، ومنهم من قال: فيه قولان
(أحدهما)
يلزمه لما ذكرناه
(والثانى)
لا يلزمه لان ما دخل على الحج من النقص بترك الرمى والمبيت جبره بالدم، فصار كما لو لم يتركه، وان كان بعد الاحرام وقبل أن ياتي بباقى الاركان ففيه قولان (احدهما) لا يستحق شيئا كما لو قال من رد عبدى الابق فله دينار فرده رجل إلى باب البلد ثم هرب
(والثانى)
انه يستحق بقدر ما علمه وهو الصحيح، لانه عمل بعض ما استؤجر عليه فاشبه إذا استؤجر على بناء عشرة اذرع فبنى بعضها ثم مات.
فإذا قلنا: انه يستحق بعض الاجرة فهل تقسط الاجرة على العمل والمسافة أو على العمل دون المسافة؟ على ما ذكرناه من القولين.
(فصل)
وان اجر عبدا ثم اعتقه صح العتق لانه عقد على منفعة فلم يمنع العتق كما لو زوج امته ثم اعتقها، ولا تنفسخ الاجارة كما لا ينفسخ النكاح، وهل يرجع العبد على مولاه بالاجرة؟ فيه قولان، قال في الجديد: لا يرجع وهو الصحيح، لانها منفعة استحقت بالعقد قبل العتق فلم يرجع ببدلها بعد العتق
كما لو زوج امته ثم اعتقها، وقال في القديم: يرجع لانه فوت بالاجارة ما ملكه من منفعته بالعتق، فوجب عليه البدل.
فان قلنا يرجع بالاجرة كانت نفقته على نفسه لانه ملك بدل منفعته فكانت نفقته عليه، كما لو أجر نفسه بعد العتق، وان قلنا: لا يرجع بالاجرة ففى منفعته وجهان.
(أحدهما)
انها على المولى، لانه كالباقي على ملكه بدليل أنه يملك بدل منفعته بحق الملك، فكانت نفقته عليه.
(والثانى)
أنها في بيت المال لانه لا يمكن ايجابها على المولى، لانه زال ملكه عنه، ولا على العبد لانه لا يقدر عليها في مدة الاجارة، فكانت في بيت المال.(15/85)
(الشرح) إذَا مَاتَ الْأَجِيرُ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ فَلَهُ احوال: 1 - يموت بعد الشروع في الاركان وقبل الفراغ منها.
2 - أَنْ يَمُوتَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي السَّفَرِ وَقَبْلَ الاحرام.
3 - أن يموت بعد الفراغ من الاركان وقبل الفراغ من باقى الاعمال.
فأما الاولى وهى الموت بعد الشروع وقبل الفراغ من الاركان ففى استحقاق الاجرة قولان مشهوران أوردهما المصنف هنا
(أَحَدُهُمَا)
لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: مَنْ رَدَّ ضالتي فَلَهُ دِينَارٌ فَرَدَّهُ إلَى بَابِ الدَّارِ ثُمَّ هربت أو ماتت فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، ووافقه النووي والاصحاب يستحق بقدر عمله، لقيامه بجزء مما استؤجر له فوجب له بقدره كمن استؤجر لقطع عشرة اميال فقطع بعضها أو بناء عَشْرَةِ أَذْرُعِ فَبَنَى بَعْضَهَا ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يستحق بقدره بخلاف الجعالة فانها ليست عقدا لازما، ولكنها التزام بشرط فان لم يوجد الشرط تاما فانه لا يلزمه شئ كالطلاق المعلق، ونقل النووي عن الشيخ أبى حامد والاصحاب القول الاول وهو نص الشافعي في القديم، والثانى
نصه في الجديد والام وهو الاصح.
وسواء مات بعد الوقوف بعرفة أَوْ قَبْلَهُ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.
وحكى الرافعى وجها شاذا أنه يستحق بعده، ثم في استحقاقه إذا قلنا به هل يكون على الاعمال والمسافة معا أم على الاعمال فقط؟ قولان، أصحهما: على الاعمال والمسافة جميعا عند الاكثرين، وممن صححه الرافعى، وأصحهما عند المصنف وطائفة على الاعمال فقط، وفى المسألة طريق آخر ساقه النووي عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ إنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي قُسِّطَ عَلَى الْعَمَلِ فَقَطْ، وَإِنْ قَالَ: لِتَحُجَّ مِنْ بَلَدِ كَذَا قُسِطَ عَلَيْهِمَا جميعها، وحمل القولين على هذين الحالين.
وأما الحال الثانية: وهى أن يموت قبل الاحرام وبعد الشروع في السفر، ففيه وجهان مشهوران الصحيح ومنصوص الشافعي فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: لَا يستحق شيئا من الاجرة لانه لم يقم بشئ من أعمال الحج، وليست المسافة بسبب الحج من الحج كما لو أجر خبازا ليخبز له فاستحضر أدواته(15/86)
وأوقد تنوره ثم مات قبل أن يخبز فلا استحقاق له: وساق النووي تعليلا لغير المصنف بأنه لم يحصل شيئا من المقصود.
والوجه الثاني وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ: يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا قَطَعَ من المسافة.
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا عَنْ أَبِي الْفَضْلِ ابن عَبْدَانَ أَنَّهُ إنْ قَالَ: اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ مِنْ بلد كذا استحق بقسطه، ثم في البناء على فعل الاجير نظر، إنْ كَانَتْ إجَارَةُ عَيْنٍ انْفَسَخَتْ وَلَا بِنَاءَ لِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ، وَهَلْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَبْنِيَ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى الذِّمَّةِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ فَلِوَرَثَةِ الْأَجِيرِ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا مَنْ يَسْتَأْنِفُ الْحَجَّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُمْ
فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِبَقَاءِ الوقت فذاك، وان تأخر إلى القابل ثبت الخيار في فسخ الاجارة، فان جوزنا البناء فلورثة الاجير أن يبنوا.
وأما الحال الثالثة: وهى موتة قبل الفراغ من الاعمال بعد أدائه الاركان فينظر، ان كان قد فات وقتها أو لم يفت ولم نجوز البناء يجبر الباقي بالدم من مال الاجير، وفى رد شئ من الاجرة الخلاف فِيمَنْ أَحْرَمَ بَعْد مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ وَلَمْ يَعُدْ إليه وجبره بالدم، الْمَذْهَبُ وُجُوبُ الرَّدِّ وَإِنْ جَوَّزْنَا الْبِنَاءَ وَكَانَ الوقت متسعا فان كانت الاجارة على العين انفسخت في الباقي من الاعمال، ووجب رد ما يقابلها مِنْ الْأُجْرَةِ، وَيَسْتَأْجِرُ الْمُسْتَأْجِرُ مَنْ يَرْمِي وَيَبِيتُ، ولا حاجة إلى الاحرام لان الرمى والمبيت يؤديان بعد التحلل، ولا يلزم بذلك دم ولا شئ من الاجرة، هكذا ذكره المتولي وغيره، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
وان أجر عينا ثم باعها من غير المستأجر ففيه قولان، أحدهما: أن البيع باطل لان يد المستأجر تحول دونه فلم يصح البيع، كبيع المغصوب من غير الغاصب، والمرهون من غير المرتهن، والثانى: يصح لانه عقد على المنفعة فلم يمنع صحة البيع، كما لو زوج أمته ثم باعها ولا تنفسخ الاجارة كما لا ينفسخ النكاح في بيع الامة المزوجة.
وان باعها من المستأجر صح البيع قولا واحدا(15/87)
لانه في يده لا حائل دونه فصح بيعها منه، كما لو باع المغصوب من الغاصب، والمرهون من المرتهن، ولا تنفسخ الاجارة بل يستوفى المستأجر المنفعة بالاجارة لان الملك لا ينافى الاجارة، والدليل عليه أنه يجوز أن يستأجر ملكه من المستأجر، فإذا طرأ عليها لم يمنع صحتها، وإن تلفت المنافع قبل انقضاء المدة انفسخت الاجارة ورجع المشترى بالاجرة لما بقى على البائع.
(فصل)
فإن أجر عينا من رجل ثم مات أحدهما لم يبطل العقد، لانه عقد لازم فلا يبطل بالموت مع سلامة المعقود عليه كالبيع، فإن أجر وقفا عليه ثم مات ففيه وجهان.
(أحدهما)
لا يبطل لانه أجر ما يملك إجارته فلم يبطل بموته كما لو أجر ملكه ثم مات فعلى هذا يرجع البطن الثاني في تركه المؤجر المدة الباقيه لان المنافع في المدة الباقيه حق له، فاستحق أجرتها.
(والثانى)
تبطل لان المنافع بعد الموت حق لغيره فلا ينفذ عقده عليها من غير إذن ولا ولايه، ويخالف إذا أجر ملكه ثم مات، فان الوارث يملك من جهة الموروث: فلا يملك ما خرج من ملكه بالاجارة والبطن الثاني يملك غلة الوقف من جهة الواقف، فلم ينفذ عقد الاول عليه، وإن أجر صبيا في حجره أو أجر ماله ثم بلغ ففيه وجهان.
أحدهما: لا يبطل العقد لانه عقد لازم عقده بحق الولاية فلا يبطل بالبلوغ كما لو باع داره، والثانى يبطل لانه بان بالبلوغ أن تصرف الولى إلى هذا الوقت والصحيح عندي في المسائل كلها أن الاجارة لا تبطل وبالله التوفيق.
(الشرح) قال الماوردى في الحاوى الكبير: فإذا بيعت الدار المستأجرة فذلك ضربان.
أحدهما: أن تباع على المستأجر فالبيع جائز والاجارة بحالها، ويصير جامعا بين ملك المنفعة بالاجارة والرقبه بالبيع، والفرق بنى أن يرثها المستأجر فتبطل الاجارة وبين أن يبتاعها فلا تبطل أنه بالارث صار قائما مقام المؤجر فلم يجز له عقد على نفسه، وهو بالبيع لا يقوم مقام البائع إلا فيما سمى بالعقد.(15/88)
والضرب الثاني أن تباع على أجنبي غير المستأجر، ففى البيع قولان: أحدهما
أنه باطل والاجارة لحالها، لان يد المستأجر ممنوعة بحق فصارت أسوأ حالا من المغصوب الذى يمنع يد المشترى منه بظلم.
والقول الثاني وهو الصحيح أن البيع صحيح والاجارة لازمة لان ثبوت العقد على المنفعة لا يمنع من بيع الرقبة كالامة المزوجة، فعلى هذا ان كان المشترى عالما بالاجرة فلا خيار له والاجرة للبائع لانه قد ملكها بعقده.
وان كان غير عالم فله الخيار بين المقام والفسخ.
اه قلت: وقد نص أحمد رضى الله عنه على صحة البيع سواء باعها من المستأجر أو من غيره.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقال في الآخر: ان باعها لغير المستأجر لم يصح البيع، لان يد المستأجر حائلة تمنع التسليم إلى المشترى فمنعت الصحة كما في المغصوب.
فإذا ثبت هذا فان المشترى يملك مسلوب المنفعة إلى حين انقضاء الاجارة، ولا يستحق تسليم العين الا حينئذ، لان تسليم العين انما يراد لاستيفاء نفعها، ونفعها انما يستحقه إذا انقضت الاجارة فيصير هذا بمنزلة من اشترى عينا في مكان بعيد، فانه لا يستحق تسليمها الا بعد مضى مدة يمكن احضارها فيها، كالمسلم إلى وقت لا يستحق تسلم المسلم فيه الا في وقته، فان لم يعلم المشترى بالاجارة فله الخيار بين الفسخ وامضاء البيع بكل الثمن.
لان ذلك عيب ونقص.
وعلى هذا إذا اشتراها المستأجر صح البيع أيضا: لانه يصح بيعها لغيره فله أولى لان العين في يده، وهل تبطل الاجارة؟ لا تبطل الاجارة عندنا قولا واحدا.
وعند أحمد وأصحابه وجهان:
(أحدهما)
وهو المذهب عندنا عدم البطلان لانه تملك المنفعة بعقد ثم ملك الرقبة المسلوبة بعقد آخر فلم يتنافيا، كما يملك الثمرة بعقد ثم يملك الاصل بعقد آخر، ولو أجر الموصى بالمنفعة مالك الرقبة صحت الاجارة، فدل على أن ملك
المنفعة لا ينافى العقد على الرقبة.
وكذلك لو استأجر المالك العين المستأجرة من مستأجرها جاز.
فعلى هذا يكون الاجر باقيا على المشترى وعليه الثمن ويجتمعان للبائع كما لو كان المشترى غيره(15/89)
والوجه الثاني: تبطل الاجارة فيما بقى من المدة لانه عقد على منفعة العين فبطل ملك العاقد للعين كالنكاح، فإنه لو تزوج أمة ثم اشتراها بطل نكاحه.
قالوا ولان ملك الرقبة يمنع ابتداء الاجارة فمنع استدامتها كالنكاح، فعلى هذا يسقط عن المشترى الاجر فيما بقى من الاجارة، كما لو بطلت الاجارة بتلف العين، وإن كان المؤجر قد قبض الاجر كله حسب عليه باقى الاجر من الثمن والله تعالى أعلم.
(فرع)
قال المزني: قال الشافعي ولا يفسخ بموت أحدهما إذا كانت الدار قائمة وليس الوارث بأكثر من الموروث الذى عنه ورثوا.
اه فإذا ثبت هذا فان عقد الاجارة لازم لا ينفسخ بموت المؤجر ولا المستأجر وبه قال مالك واحمد واسحاق.
وقال أبو حنيفة وسفيان والليث بن سعد: الاجارة تبطل بموت المؤجر والمستأجر استدلالا بأن عقود المنافع تبطل بموت العاقد كالنكاح والمضاربة والوكالة، ولان الاجارة تفتقر إلى مؤجر ومواجر فلما بطلت بتلف المواجر بطلت بتلف المؤجر، وتحريره قياسا أنه عقد اجارة يبطل بتلف المواجر فوجب ان يبطل بتلف المؤجر قياسا عليه إذا أجر نفسه، ولان زوال ملك المؤجر عن رقبة المواجر يوجب فسخ الاجارة قياسا عليه إذا باع ما أجره برضى المستأجر، ولان منافع الاجارة انما تستوفى بالعقد والملك، وقد زال ملك المؤجر بالموت وان كان عاقدا.
والوارث لا عقد عليه وان صار مالكا، فصارت منتقلة من العاقد إلى من ليس بعاقد، فوجب أن يبطل لتنافى اجتماع
العقد والملك.
ودليلنا هو ان ما لزم من عقود المعاوضات المحضة لم تنفسخ بموت أحد المتعاقدين كالبيع، فان قيل ينتقض بموت من أجر نفسه لم يصح لان العقد انما يبطل بتلف المعقود عليه لا بموت العاقد، ألا تراه لو كان حيا فزمن بطلت الاجارة، وان كان العاقد حيا، ولان السيد قد يعاوض على بضع أمته بعقد النكاح كما يعاوض على خدمتها بعقد الاجارة.
فلما لم يكن موته مبطلا للعقد على بضعها لم يبطل بالعقد على استخدامها.
ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان:
(أحدهما)
أنه عقد لازم على منافع ملكه فلم يبطل بموته كالنكاح على أمته(15/90)
(والثانى)
أنه أحد منفعتي الامة فلم يبطل بموت السيد كالمنفعة الاخرى، ولان المنافع قد تنتقل بالمعاوضة كالاعيان فجاز أن تنتقل بالارث كالاعيان.
ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان:
(أحدهما)
أن ما صح أن ينتقل بعوض صح أن تنقل به المنافع في الاجارات ولان بالموت يعجز عن إقباض ما استحق تسليمه بعقد الاجارة فلم يبطل بعد العقد كالجنون والزمانة، ولانه عقد لا يبطل بالجنون فلم يبطل بالموت كالبيع، ولان منافع الاعيان مع بقاء ملكها قد يستحق بالرهن تارة وبالاجارة أخرى.
فلما كان ما تستحق منفعته بارتهانه إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان رهنه وجب أن يكون ما استحقت منفعته بالاجارة إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان إجارته، وقد استدل الشافعي بهذا في الام.
ولان الوارث إنما يملك بالارث ما كان يملكه الموروث، والموروث إنما كان يملك الرقبة دون المنفعة فلم يجز أن يصير الوارث مالكا للرقبة والمنفعة، ولان إجارة الوقف لا تبطل بموت موجره بوفاق أبى حنيفة.
وإن قال بعض
أصحابنا: تبطل، فكذلك إجارة الملك لا تبطل بموت موجره كالوقف وأما الجواب عن قياسه على النكاح والمضاربة مع انتقاضه بالوقف فهو أنه إن رده إلى النكاح، فالنكاح لم يبطل بالموت، وانما انقضت مدته بالموت فصار كانقضاء مدة الاجارة.
وان رده إلى المضاربة والوكالة فالمعنى فيهما عدم لزومهما في حال الحياة، وجواز فسخهما بغير عذر، وليست الاجارة كذلك للزومهما في حال الحياة.
وأما الجواب عن قياسه على انهدام الدار، فهو أن المعنى فيه فوات المعقود عليه قبل قبضه.
وأما الجواب عن قياسه على ما إذا باع ما أجر برضى المستأجر فهو غير مسلم الاصل لان الاجارة لا تبطل بالبيع عن رضاه كما لا تبطل بالبيع عن سخطه، وإنما البيع مخطب في إبطاله ثم ينتقص على أصله بعتق العبد المواجر قد زال ملك(15/91)
سيده عن رقبته مع بقاء الاجارة عليها، فكذلك إذا زال بالبيع والموت.
وأما الجواب عن استدلاله بأن المنافع تستوفى بعقد وملك وهذا مفترق بالموت، فهو أن اجماعهما يعتبر عند العقد ولا يعتبر فيما بعد كما لو أعتق أو باع ولا يمتنع أن يستوفى من يد الوارث ما لم يعاقد عليه كما يستوفى منه ثمن ما اشتراه الموروث ويقبض منه أعيان ما ترك الموروث، لان الموروث قد ملك عليه ذلك بعقده فلم يملكه الوارث بموته.
فأما قول الشافعي: فان قيل: فقد انتفع المكترى بالثمن قيل: كما لو أسلم في متاع لوقت فانقطع ذلك أو ابتاع متاعا غائبا ببلد ودفع الثمن فهلك المتاع رجع بالثمن وقد انتفع به البائع فهذا سؤال أورده الشافعي، وقد اختلف أصحابنا في مراده فقال أبو إسحاق المروزى: أراد به الرد على من اجل الاجره ومنع من
حلولها لئلا ينتفع المكرى بالاجرة قبل انتفاع المكترى بالمنفعة، وقد تنهدم الدار فتفوت المنفعة فقال الشافعي: مثل هذا ليس يمتنع كما أن بائع السلم قد يتعجل مقتضى الثمن وينتفع به وقد يهلك المسلم فيه عند محله فيسترجع ثمن ما انتفع به البائع دون المشترى، وكما يقبض غائب عنه فيتلف قبل قبضه فيرد ثمنه بعد الانتفاع به.
وقال أبو العباس بن سريج: يحتمل أن يريد به الرد على من أبطل الاجاره بموت المؤجر لئلا ينتفع المؤجر بالاجرة ويلزم وارثه تسليم المنفعة فأجاب عنه بما ذكرنا من الجوابين.
وقال أبو حامد الاسفرايينى: انما أراد به ان انهدام الدار وموت العبد في تضاعيف المدة يبطل الاجاره فيما بقى ويوجب أن يرد من الاجره بقسطها، وان انتفع المكرى بها ولم ينتفع المكترى بما قابلها فأجاب بما ذكرنا من انتفاع البائع بثمن المسلم فيه وتلف العين الغائبة.
وقال المزني: هذا تجويز بيع الغائب، وعنه جوابان
(أحدهما)
أنه محمول على أحد قوليه
(والثانى)
أنه محمول على بيع غائب قدراه: فإذا ثبت أن اجارة الملك لا تبطل بموت المؤجر والمستأجر انتقل الكلام إلى اجارة الوقف، فإن أجر ولا حق له في غلته صحت اجارته ولم تبطل بموته(15/92)
لانه لم يؤجل ملكه وإنما ناب عن غيره، وإن أجره من يستحق غلته ويستوجب أجرته لكونه وقفا عليه فقد اختلف أصحابنا في بطلان الاجارة بموته على وجهين
(أحدهما)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن الاجارة قد بطلت بموته وانتقال المنفعة إلى غيره، وفرق بين المالك والوقف بأن وارث الملك يملك عن المؤجر فلم يملك ما خرج عن ملك المؤجر، وليس كذلك الوقف، لان مؤجره يملك منفعته مدة حياته، فإذا فقد انقطع ملكه وانتقل إلى من بعده بشرط
الوقف بالارث.
(والوجه الثاني) وهو الاظهر: الاجارة لا تبطل لان مؤجره وال قد أجره في حق نفسه وحق من بعده بولايته، فإذا انقضى حقه بموته صحت إجارته في حق من بعده بولايته، فإذا كان قد استوفى الاجرة استرجع من تركته أجرة ما بقى من المدة بعد موته.
وإذا استأجر الرجل من أبيه دارا سنة ودفع إليه الاجرة ثم مات الاب نظرت فان لم يكن له غير هذا الابن المستأجر فقد سقط حكم الاجارة لانه صار مالكا للدار والمنفعة إرثا فامتنع بقاء عقده على المنفعة، فان لم يكن على أبيه دين فقد صارت الدار مع التركة إرثا، وإن كان على أبيه دين ضرب مع الغرماء بقدر الاجرة، لانها صارت بانفساخ الاجارة بالارث دينا على الاب فساوى الغرماء فيها، فلو كان للاب ابن آخر انفسخت الاجارة في نصف الدار وهو حصة المستأجر ولزمت في حصة الابن الآخر ورجع المستأجر منهما بنصف الاجره في تركة أبيه لانها صارت دينا عليه.
فإذا أجر الاب أو الوصي صبيا ثم بلغ في الصبى في مدة الاجارة رشيدا لاجارة لازمة لا تنفسخ ببلوغه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(15/93)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
* (باب تضمين المستأجر والاجير)
* إذا تلفت العين المستأجرة في يد المستأجر من غير فعله لم يلزمه الضمان، لانه عين قبضها ليستوفى منها ما ملكه، فلم يضمنها بالقبض كالمرأة في يد الزوج، والنخلة التى اشترى ثمرتها، وإن تلفت بفعله نظرت فان كان بغير عدوان كضرب الدابة وكبحها باللجام للاستصلاح لم يضمن لانه هلك من فعل مستحق فلم يضمنه كما لو هلك تحت الحمل، وان تلفت بعدوان كالضرب من غير حاجة لزمه الضمان،
لانه جناية على مال الغير لزمه ضمانه.
(فصل)
وان اكترى ظهرا إلى مكان فجاوز به المكان فهلك نظرت، فان لم يكن معه صحابه لَزِمَهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ جاوز به المكان إلى أن تلف لانه ضمنه باليد من حين جاوز فصار كالغاصب، وان كان صاحبه معه نظرت، فان هلك بعد نزوله وتسليمه إلى صاحبه لم يضمن، لانه ضمنه باليد فبرئ بالرد كالمغصوب إذا رده إلى مالكه، وان تلف في حال السير والركوب ضمن، لانه هلك في حال العدوان، وفى قدر الضمان قولان.
(أحدهما)
نصف قيمته، لانه تلف من مضمون وغير مضمون، فكان الضمان بينهما نصفين، كما لو مات من جراحته وجراحة مالكه.
(والثانى)
أنه تقسط القيمة على المسافتين، فما قابل مسافة الاجارة سقط، وما قابل الزيادة يجب، لانه يمكن تقسيطه على قدرهما فقط بناء على القولين في الجلاد إذا ضرب رجلا في القذف احدى وثمانين فمات، وان تعادل اثنان ظهرا استأجراه وارتدف معهما ثالث من غير اذن فتلف الظهر ففيه ثلاثه أوجه.
(أحدها) أنه يجب على المرتدف نصف القيمة، لانه هلك من مضمون وغير مضمون.
(والثانى)
يجب عليه الثلث، لان الرجال لا يوزنون فقسط الضمان على عددهم.(15/94)
(والثالث) أنه يقسط على أوزانهم، فيجب على المرتدف ما يخصه بالوزن لانه يمكنه تقسيطه بالوزن فقسط عليه.
(فصل)
وان استأجر عينا واستوفى المنفعة وحبسها حتى تلفت، فإن كان حبسها لعذر لم يلزمه الضمان، لانه أمانة في يده فلم يضمن بالحبس لعذر كالوديعة
وان كان لغير عذر فإن قلنا لا يجب الرد قبل الطلب لم يضمن كالوديعة قبل الطلب، وان قلنا يجب ردها ضمن كالوديعة بعد الطلب
(فصل)
وان تلفت العين التى استؤجر على العمل فيها نظرت، فإن كان التلف بتفريط بأن استأجره ليخبز له فأسرف في الوقود أو ألزقه قبل وقته أو تركه في النار حتى احترق ضمنه لانه هلك بعدوان فلزمه الضمان.
وان استؤجر على تأديب غلام فضربه فمات ضمنه، لانه يمكن تأديبه بغير الضرب، فإذا عدل إلى الضرب كان ذلك تفريطا منه فلزمه الضمان.
وان كان التلف بغير تفريط، نظرت، فإن كان العمل في ملك المستأجر بأن دعاه إلى داره ليعمل له، أو كان العمل في دكان الاجير والمستأجر حاضر، أو اكتراه ليحمل له شيئا وهو معه لم يضمن، لان يد صاحبه عليه فلم يضمن من غير جناية.
وان كان العمل في يد الاجير من غير حضور المستأجر نظرت، فان كان الاجير مشتركا، وهو الذى يعمل له ولغيره، كالقصار الذى يقصر لكل أحد والملاح الذى يحمل لكل أحد ففيه قولان:
(أحدهما)
يجب عليه الضمان، لما روى الشعبى عن أنس رضى الله عنه قال: استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين متاعى.
فضمنيها عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه.
وعن خلاس بن عمرو أن عليا رضى الله عنه كان يضمن الاجير.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن على كرم الله وجهه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ وقال لا يصلح الناس الا ذلك.
ولانه قبض العين لمنفعته من غير استحقاق فضمنها كالمستعير، والثانى: لا ضمان عليه، وهو قول المزني، وهو الصحيح.(15/95)
قال الربيع: كان الشافعي رحمه الله يذهب إلى أنه لا ضمان على الاجير، ولكنه لا يفتى به لفساد الناس، والدليل عليه أنه قبض العين لمنفعته ومنفعة المالك فلم يضمنه كالمضارب.
وإن كان الاجير منفردا وهو الذى يعمل له ولا يعمل لغيره، فقد اختلف أصحابنا فيه، من قال: هو كالاجير المشترك وهو المنصوص، فان الشافعي رحمه الله قال: والاجراء كلهم سواء، فيكون على قولين لانه منفرد باليد فأشبه الاجير المشترك، ومنهم من قال: لا يجب عليه الضمان قولا واحدا لانه منفرد بالعمل فأشبه إذا كان عمله في دار المستأجر.
فإن قلنا إنه أمين فتعدى فيه ثم تلف ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين تعدى إلى أن تلف، لانه ضمن بالتعدي فصار كالغاصب، وان قلنا انه ضامن لَزِمَهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ إلَى حِينِ التَّلَفِ كالغاصب.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه قيمته وقت التلف كالمستعير.
وليس بشئ
(فصل)
وان عمل الاجير بعض العمل أو جميعه ثم تلف نظرت فان كان العمل في ملك صاحبه أو بحضرته وجبت له الاجرة أنه تحت يده فكل ما عمل شيئا صار مسلما له، وان كان في يد الاجير فان قلنا انه أمين لم يستحق الاجرة لانه لم يسلم العمل، وان قلنا انه ضامن استحق الاجرة لانه يقوم عليه معمولا فيصير بالتضمين مسلما للعمل فاستحق الاجرة
(فصل)
وان دفع ثوبا إلى خياط وقال: ان كان يكفيني لقميص فاقطعه فقطعه ولم يكفه لزمه الضمان، لانه أذن له بشرط فقطع من غير وجود الشرط فضمنه.
وان قال: أيكفينى للقميص؟ فقال نعم، فقال اقطعه فقطعه فلم يكفه لم يضمن لانه قطعه بإذن مطلق.
(الشرح) الاخبار الواردة في هذه الفصول كرواية الشعبى عن أنس وخبر
خلاس بن عمرو ففى الام.
وقد روى الشافعي خبر جعفر الصادق قال: أخبرنا بذلك ابراهيم بن أبى يَحْيَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عليا ضمن الغسال(15/96)
والصباغ وقال: لا يصلح الناس الا بذلك.
وقد أعلها الشافعي كما سيأتي في شرح الفصل.
أما الاحكام، فان الدابة إذا لم يكن صاحبها معها لزم المكترى قيمتها كلها، وان كان معها فتلفت في يد صاحبها لم يضمنها المكترى لانها تلفت في يد صاحبها أشبه ما لو تلفت بعد مدة التعدي، وان تلفت بفعل تحت الراكب ففيه قولان.
(أحدهما)
يلزمه نصف قيمتها لانها تلفت بفعل مضمون وغير مضمون أشبه ما لو تلفت بجراحته وجراحة مالكها.
(والثانى)
تقسط القيمة على المسافتين، فما قابل مسافة الاجارة سقط ووجب الباقي، ونحو هذا قول أبى حنفيه فانه قال: من اكترى جملا لحمل تسعة فحمل عشرة فتلف فعلى المكترى عشر قيمته، وموضع الخلاف في لزوم كمال القيمة إذا كان صاحبها مع راكبها أو تلفت في يد صاحبها.
فأما إذا تلفت حال التعدي ولم يكن صاحبها مع راكبها فلا خلاف في ضمانها بكمال قيمتها لانها تلفت في يد عادية فوجب ضمانها كالمخصوبة، وكذلك إذا تلفت تحت الراكب أو تحت حمله وصاحبها معها، لان اليد للراكب وصاحب الحمل، بدليل أنهما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل والآخر آخذ بزمامها لكانت للراكب ولصاحب الحمل، ولان الراكب متعد بالزيادة وسكوت صاحبها لا يسقط الضمان.
كمن جلس إلى انسان فحرق ثيابه وهو ساكت ولانها ان تلفت بسبب تعبها فالضمان على المتعدى، كمن ألقى حجرا في سفينة موقرة فغرقت.
فأما ان تلفت في يد صاحبها بعد نزول الراكب عنها فينظر، فان كان تلفها بسبب تعبها بالحمل والسير فهو كما لو تلفت تحت الحمل والراكب.
وان تلفت بسبب آخر من افتراس سبع أو سقوط في هوة ونحو ذلك فلا ضمان فيها لانها لم تتلف في يد عادية ولا بسبب عدوان.
واختلف أصحاب أحمد في الضمان فظاهر كلام الخرقى وجوب قيمتها إذا تلفت سواء تلفت في الزيادة أو بعد ردها إلى المسافة، وسواء كان صاحبها مع المكترى(15/97)
أو لم يكن.
وهذا ظاهر مذهب فقهاء المدينة السبعة فيما رواه الاثرم بإسناده عن أبى الزناد وقال: ربما اختلفوا في الشئ فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا، فكان الذى وعيت عنهم على هذه الصفة: أن من اكترى دابة إلى بلد ثم جاوز ذلك إلى بلد سواه، فإن الدابة إن سلمت في ذلك كله أدى كراءها وكراء ما بعدها وإن تلفت في تعديها ضمنها وأدى كراءها الذى تكاراها به.
وهذا هو قول الشافعي والحكم وابن شبرمة وأحمد.
وقال القاضى من الحنابلة: إن كان المكترى نزل عنها وسلمها إلى صاحبها ليمسكها أو يسقيها فتلفت فلا ضمان على المكترى، وإن هلكت والمكترى راكب عليها أو حمله عليها فعليه ضمانها.
وقال أبو الخطاب من الحنابلة أيضا: إن كانت يد صاحبها عليها احتمل أن يلزم المكترى جميع قيمتها، واحتمل أن يلزمه نصف قيمتها.
ولنا أن ما نقلنا عن الشافعي رضى الله عنه في ضرب الدابة ونخسها مما مضى في شرح هذه الفصول كاف في توضيح المذهب.
وقال الشافعي أيضا في اختلاف العراقيين: وإذا تكارى الرجل الدابة إلى موضع فجاوزه إلى غيره فعليه كراء الموضع الذى تكاراها إليه الكراء الذى
تكاراها به، وعليه من حين تعدى إلى أن ردها كراء مثلها من ذلك الموضع.
وإذا عطبت لزمه الكراء إلى الموضع الذى عطبت فيه وقيمتها، وهذا مكتوب في كتاب الاجارات.
قال الشافعي رضى الله عنه: الاجراء كلهم سواء، فإذا تلف في أيديهم شئ من غير جنايتهم فلا يجوز أن يقال فيه الا واحد من قولين
(أحدهما)
أن يكون كل من أخذ الكراء على شئ كان ضامنا له يؤديه على السلامة أو يضمنه أو ما نقصه.
ومن قال هذا القول فينبغي أن يكون من حجته أن يقول: الامين هو من دفعت إليه راضيا بأمانته لا يعطى أجرا على شئ مما دفعت إليه، واعطائي هذا الاجر تفريق بينه وبين الامين الذى أخذ ما استؤمن عليه بلا جعل، أو يقول قائل: لا ضمان على أجير بحال من قبل أنه انما يضمن من تعدى فأخذ(15/98)
ما ليس له أو أخذ الشئ على منفعة له فيه، اما يتسلط على اتلافه كما يأخذ سلفا فيكون مالا من ماله فيكون ان شاء ينفقه ويرد مثله.
واما مستعير سلط على الانتفاع بما أعير فيضمن، لانه أخذ ذلك لمنفعة نفسه لا لمنفعة صاحبه فيه.
وهذان معا نقص على المسلف والمعير أو غير زيادة له، والصانع والاجير من كان ليس في هذا المعنى فلا يضمن بحال الا ما جنت يده كما يضمن المودع ما جنت يده.
وليس في هذا سنة أعلمها ولا أثر يصح عند أهل الحديث عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد روى فيه شئ عن عمر وعلى وليس يثبت عند أهل الحديث عنهما ولو ثبت عنهما لزم من يثبته أن يضمن الاجراء من كانوا فيضمن أجير الرجل وحده والاجير المشترك والاجير على الحفظ والرعى وحمل المتاع والاجير على الشئ يصنعه لان عمر ان كان ضمن الصناع فليس في تضمينه لهم معنى الا أن يكون ضمنهم بأنهم أخذوا أجرا على ما ضمنوا فكل من كان أخذ أجرا فهو في معناهم.
وان كان على رضى الله عنه ضمن القصار والصائع، فكذلك كل صانع.
وكل من أخذ أجرة.
وقد يقال للراعي صناعته الراعية، وللحمال صناعته الحمل للناس، ولكنه ثابت عن بعض التابعين ما قلت أولا من التضمين أو ترك التضمين.
ومن ضمن الاجير بكل حال فكان مع الاجير ما قلت مثل أن يستحمله الشئ على ظهره أو يستعمله الشئ في بيته أو غير بيته، وهو حاضر لماله أو وكيل له بحفظه فتلف ماله بأى وجه ما تلف به إذا لم يجن عليه جان فلا ضمان على الصانع ولا على الاجير.
وكذلك ان جنى عليه غيره فلا ضمان عليه، والضمان على الجاني.
اه كلام الشافعي رضى الله عنه (فرع)
إذا ترك الاجير ما يلزمه عمله بلا عذر فتلف ما استؤجر عليه ضمنه والاجير على ضربين: خاص ومشترك، فالخاص هو الذى يقع العقد عليه في مدة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها، كرجل استؤجر لخدمة أو عمل في بناء أو خياطة أو رعاية يوما أو شهرا سمى خاصا لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس، والمشترك الذى يقع العقد معه على عمل معين كخياطة ثوب وبناء حائط وحمل شئ إلى مكان معين، أو على عمل في مدة(15/99)
لا يستحق جميع نفعه فيها كالكحال والطبيب، سمى مشتركا لانه يتقبل أعمالا لاثنين أو ثلاثة أو أكثر لاشتراكهم في منفعته، فالاجير المشترك ضامن لما جنت يده إلا إذا كان المستأجر حاضرا في دكان الاجير وقت العمل كانت يده عليه فيكون كالاجير الخاص لم يضمن من غير جناية ويجب له أجر عمله، فكلما عمل شيئا صار مسلما إليه.
وذهب مالك إلى ما ذهب إليه الاصحاب.
وذهب أحمد إلى أنه لا فرق بين كونه في ملك نفسه أو ملك مستأجره أو كان صاحب العمل حاضرا عنده أو غائبا عنه قياسا على الطبيب والختان إذا جنت يداهما
ضمنا مع حضور المطيب والمختون فأما الاجير الخاص فهو الذى يستأجره مدة فلا ضمان عليه ما لم يتعد.
قال قال أحمد في رواية مهنا في رجل أمر غلامه أن يكيل لرجل بزرا فسقط الرطل من يده فانكسر لا ضمان عليه، فقيل: أليس هو بمنزلة القصار؟ قال لا، القصار مشترك.
قيل: فرجل اكترى رجلا يحرث له على بقرة فكسر الذى يحرث به؟ قال لا ضمان عليه.
قلت وهذا ظاهر مذهب الشافعي ومذهب مالك وأبى حنيفة وأصحابه، وللشافعي قول آخر أن جميع الاجراء يضمنون، والقول الاول أظهر.
قال الربيع: هذا مذهب الشافعي وإن لم يبح به.
وروى ذلك عن عطاء وطاوس وزفر لانها عين مقبوضة بعقد الاجارة فلم تصر مضمونة كالعين المستأجرة.
وما تلف بتعدى الخباز الذى يسرف في الوقود أو يلزقه قبل أوانه من حيث التخمر المطلوب عند خبزه، أو يتركه بعد وقته حتى يحترق، فانه يضمن في كل ذلك.
(فرع)
إذا دفع إلى خياط ثوبا فقال: إن كان يقطع قميصا فاقطعه، فقال هو يقطع، وقطعه فلم يكف فعليه ضمانه.
وإن قال: انظر هذا يكفيني قميصا؟ قال نعم.
قال اقطعه، فقطعه فلم يكفه لم يضمن، وبهذا قال أحمد وأصحاب الرأى.
وقال أبو ثور: لا ضمان عليه في المسألتين لانه لو كان غره في الاولى لكان قد غره في الثانية.
أفاده ابن قدامة في المغنى.(15/100)
دليلنا أنه إنما أذن له في الاولى بشرط كفايته فقطعه بدون شرطه.
وفى الثانية أذن له من غير شرط فافترقا، ولم يجب عليه الضمان في الاولى لتغريره، بل لعدم الاذن في قطعه، لان إذنه مقيد بشرط كفايته فلا يكون إذنا في غير ما وجد فيه
الشرط بخلاف الثانية.
والله أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
واختلف أصحابنا فيما يأخذ الحمامى، هل هو ثمن الماء أو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب، فمنهم من قال هو ثمن الماء وهو متطوع بحفظ الثياب ومعير للسطل، فعلى هذا لا يضمن الثياب إذا تلفت وله عوض السطل إذا تلف.
ومنهم من قال هو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب، فعلى هذا لا يضمن الداخل السطل إذا هلك لانه مستأجر، وهل يضمن الحمامى الثياب؟ فيه قولان لانه أجير مشترك.
(فصل)
وان استأجر رجلا للحج فتطيب في إحرامه أو لبس، وجبت الفدية على الاجير، لانه جناية لم يتناولها الاذن فوجب ضمانها، كما لو استأجره ليشترى له ثوبا فاشتراه ثم خرقه.
وإن أفسد الحج صار الاحرام عن نفسه، لان الفاسد غير مأذون فيه فانعقد له كما لو وكله في شراء عبد فاشترى أمة، فإن كان العقد على حجه في هذه السنة انفسخ، لانه فات المعقود عليه، وإن كان على حج في الذمة ثبت له الخيار، لانه تأخر حقه، فإن استأجر للحج من ميقات فأحرم من ميقات آخر لم يلزمه شئ لان المواقيت المنصوص عليها متساوية في الحكم، وإن كان بعضها أبعد من بعض، فإذا ترك بعضها إلى بعض لم يحصل نقص يقتضى الجبران.
وإن أحرم دون الميقات لزمه دم، لانه ترك الاحرام من موضع يلزمه الاحرام منه، فلزمه دم كما لو ترك ذلك في حجه لنفسه، فإن استأجره ليحرم من دويرة أهله فأحرم دونه لزمه دم، لانه وجب عليه ذلك بعقد الاجارة فصار كما لو لزمه في حجه لنفسه بالشرع أو بالنذر فتركه.
وهل يلزمه أن يرد من الاجرة بقسطه؟ قال في القديم يهرق دما وحجه تام(15/101)
وقال في الام: يلزمه أن يرد من الاجرة بقدر ما ترك، فمن اصحابنا من قال يلزمه قولا واحدا، والذى قاله في القديم ليس فيه نص أنه لا يجب.
ومنهم من قال فيه قولان وهو الصحيح
(أحدهما)
لا يلزمه لان النقص الذى لحق الاحرام جبره بالدم فصار كما لو لم يترك
(والثانى)
انه يلزمه لان ترك بعض ما استؤجر عليه فلزمه رد بدله، كما لو استأجره لبناء عشرة أذرع فبنى تسعة، فعلى هذا يرد ما بين حجه من الميقات وبين حجه من الموضع الذى أحرمه منه فإن استأجره ليحرم بالحج من الميقات فأحرم من الميقات بعمرة عن نفسه ثم أحرم بالحج عن المستأجر من مكة لزمه الدم لترك الميقات، وهل يرد من الاجرة بقدر ما ترك؟ على ما ذكرناه من الطريقين، فإن قلنا يلزمه ففيه قولان قال في الام: يرد بقدر ما بين حَجَّةٍ مِنْ الْمِيقَاتِ وَحَجَّةٍ مِنْ مَكَّةَ، لِأَنَّ الحج من الاحرام وما قبله ليس من الحج.
وقال في الاملاء: يلزمه أن يرد ما بين حجه من بلده وبين حجه من مكة.
لانه جعل الاجرة في مقابلة السفر والعمل وجعل سفره لنفسه، ويخالف المسألة قبلها لان هناك سافر للمستأجر، وإنما ترك الميقات.
وان استأجره للحج فحج عنه وترك الرمى أو المبيت لزمه الدم كما يلزمه لحجه وهل يرد من الاجرة بقسطه؟ على ما ذكرناه فيمن ترك الاحرام من الميقات.
(الشرح) لا تتوقف منفعة الحمام على مجرد وجود الماء، وإنما المطلوب تبليط الحمام وعمل الابواب والبزل وهى الثقوب والفتحات التى يأتي منها الماء أو النور ومجرى الماء.
وما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبكرة فعلى المكترى.
وإن احتاج المكترى للتمكن من الانتفاع إلى تنقية الكف والبالوعة فعلى المكرى، وان امتلات بفعل المكترى فعليه تفريغها، وهذا
مذهب الشافعي وأحمد رضى الله عنهما.
وقال أبو ثور: هو على رب الدار، لان به يتمكن من الانتفاع، فأشبه مالو اكترى وهى ملآى.(15/102)
وقال أبو حنيفة: القياس أنه على المكترى والاستحسان أنه على رب الدار لان عادة الناس ذلك.
وإذا انقضت الاجارة وفى الحمام قمامة من فعله فعليه رفعه.
وهو مذهب الشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى.
قال الشمس الرملي: نعم دخول الحمام بأجرة جائز بالاجماع مع الجهل بقدر المكث وغيره، لكن الاجرة في مقابلة الآلات لا الماء، فعليه ما يغرف به الماء غير مضمون على الداخل، وثيابه غير مضمونة على الحمامى إن لم يستحفظه عليها ويجيبه إلى ذلك، ولا يجب بيان ما يستأجره له في الدار لقرب التفاوت من السكنى ووضع المتاع، ومن ثم حمل العقد على المعهود في مثلها من سكانها، ولم يشترط عدد من يسكن اكتفاء بما اعتيد في مثلها (فرع)
إذا استأجر رجلا للحج فارتكب ما يوجب الفدية، كمس الطيب ولبس المخيط في الاحرام، فعلى الاجير الفدية من ماله، فإن أفسد أعمال الحج انقلب الْحَجُّ إلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ فِي مَالِهِ وَالْمُضِيُّ في فاسده والقضاء، وهذا هو الذى قطع الجمهور بصحته وتظاهرت عليه نصوص الشافعي.
وفى قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ وَلَا يَفْسُدُ وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، بَلْ يَبْقَى صَحِيحًا وَاقِعًا عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَلَا تَفْسُدُ بفعل غيره.
وبهذا القول قال المزني.
ولكن المذهب الاول.
قال الشافعي رضى الله عنه: الْوَاجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ الواجب بالشرع أو الشرط اه.
فَإِنْ أَحْرَمَ مِنْهُ فَقَدْ فَعَلَ وَاجِبًا، وَإِنْ أحرم قبله
فقد زاد خيرا كما قال أبو حامد الاسفرايينى وغيره.
أما إذا عدل الاجير عن الميقات المعتبر إلى طريق آخر مِثْلُ الْمُعْتَبَرِ أَوْ أَقْرَبُ إلَى مَكَّةَ فَطَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْأُمِّ وَبِهِ قَطَعَ البندنيجى والجمهور أنه لا شئ عليه.
وحكى القاضى حسين والبغوى وغيرهما فيه وجهين ساقهما النووي في الحج أصحهما أنه لا شئ عليه لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمِيقَاتِ الْمُعْتَبَرِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ كمن ترك الميقات وأحرم بعده.
وهذا القول الثاني يعتبر الشرط في تعيين المكان.(15/103)
أما إذا اتفقا على تعيين موضع آخَرَ، فَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ مِنْ الشرعي فالشرط فاسد يفسد الاجارة إذ لا يجوز لمريد النسك تجاوز الميقات دون إحرام وإن كان أبعد كدويرة أهله فيلزم الاجير الاحرام منها وفاء بالشرط، فان جاوزها ثم أحرم فهل يلزمه الدم؟ فيه وجهان (أصحهما) كما هو منصوص: عليه الدم لانه جاوز الميقات المشروط فأشبه مجاوزة الميقات الشرعي
(والثانى)
لا دم، فَإِنْ قُلْنَا لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَجَبَ حَطُّ قسط من الاجرة.
قال الشيخ أبو حامد والاصحاب: إن تَرَكَ نُسُكًا لَا دَمَ فِيهِ كَالْمَبِيتِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ إذَا قُلْنَا: لَا دَمَ فِيهِمَا لَزِمَهُ رد شئ من الاجرة بقسطه بلا خلاف فإن لزمه بفعل محظور كاللبس والقلم والطيب لم يحط عنه شئ من الاجرة بلا خلاف.
نقل الغزالي وغيره الاتفاق عليه فإذا اسْتَأْجَرَهُ لِلْقِرَانِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَتَارَةً يَمْتَثِلُ وتارة يعدل، فإن امتثل فعلى من يجب دم القران؟ وجهان (أصحهما) على المستاجر، ولو شرطاه على الاجير فقد نص الشافعي على فساد الاجارة لجمعه بين مجهول الصفة وهو الدم، وبين الاجارة.
فإذا قلنا بالاصح إنه على الاجير، فان كان معسرا فعليه الصوم الايام الثلاثة في الحج، لان الذى في الحج منهما هو الاجير وعلى المستاجر الاجرة بكمالها.
هذا وقد أفرد الامام النووي رضى الله عنه في كتاب الحج من المجموع فصلا عن الاجير أو في والله تعالى أعلم بالصواب.(15/104)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
* (باب اختلاف المتكاريين)
* إذا اختلف المتكاريان في مقدار المنفعة أو قدر الاجرة ولم تكن بينة تحالفا لانه عقد معاوضة فأشبه البيع وإذا تحالفا كان الحكم في فسخ الاجارة كالحكم في البيع، لان الاجارة كالبيع، فكان حكمها في الفسخ كالحكم في البيع، فان اختلفا في التعدي في العين المستأجرة فادعاه المؤجر وأنكره المستأجر، فالقول قول المستأجر، لان الاصل عدم العدوان، والبراءة من الضمان، فان اختلفا في الرد فادعاه المستأجر وأنكره المؤجر، فالقول قول المؤجر أنه لم يرد عليه، لان المستاجر قبض العين لمنفعته، فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير، وان اختلف الاجير المشترك والمستاجر في رد العين فادعى الاجير انه ردها وانكر المستاجر فان قلنا: ان الاجير يضمن العين بالقبض لم يقبل قوله في الرد، لانه ضامن فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير والغاصب.
وان قلنا: انه لا يضمن العين بالقبض فهل يقبل قوله في الرد؟ فيه وجهان كالوكيل يجعل: وقد مضى توجيههما في الوكالة، وان هلكت العين فادعى الاجير انها هلكت بعد العمل، وانه يستحق الاجرة وانكر المستاجر، فالقول قول المستاجر، لان الاصل عدم العمل وعدم البدل.
(فصل)
وان دفع ثوبا إلى خياط فقطعه قباء ثم اختلفنا فقال رب الثوب:
امرتك ان تقطعه قميصا فتعديت بقطعه قباء فعليك ضمان النقص.
وقال الخياط بل امرتي ان اقطعه قباء فعليك الاجرة، فقد حكى الشافعي رحمه الله في اختلاف العراقيين قول ابن أبى ليلى أن القول قول الخياط.
وقول أبى حنيفة رحمه الله عليه ان القول قول رب الثوب.
ثم قال: وهذا اشبه، وكلاهما مدخول.
وقال في كتاب الاجير والمستاجر: إذا دفع إليه ثوبا ليصبغه احمر نصبغه اخضر فقال: امرتك ان تصبغه احمر، فقال الصباغ: بل امرتني ان اصبغه اخضر، انهما يتحالفان.(15/105)
واختلف اصحابنا فيه على ثلاث طرق، فمنهم من قال: فيه ثلاثة اقوال (احدهما) ان القول قول الخياط، لانه ماذون له في القطع فكان القول قوله في صفته
(والثانى)
ان القول قول رب الثوب، كما لو اختلفا في اصل الاذن (والثالث) انهما يتحالفان وهو الصحيح، لان كل واحد منهما مدع ومدعى عليه لان صاحب الثوب يدعى الارش والخياط ينكره، والخياط يدعى الاجرة وصاحب الثوب ينكره فتحالفا كالمتابعين إذا اختلفا في قدر الثمن.
ومن اصابنا من قال: المسألة على القولين المذكورين في اختلاف العراقيين وهو قول أبى العباس وأبى اسحاق وأبى على بن أبى هريرة والقاضى أبى حامد.
ومن اصحابنا من قال: هو على قول واحد انهما يتحالفان، وهو قول أبى حامد الاسفرايينى لان الشافعي رحمه الله ذكر القولين الاولين، ثم قال وكلاهما مدخول فان قلنا: ان القول قول الخياط فحلف لم يلزمه ارش النقس، لانه ثبت بيمينه انه ماذون له فيه، وهل يستحق الاجرة؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ انه لا يستحق الاجرة، لان قوله قبل في سقوط الغرم لانه منكر.
فاما في الاجرة فانه مدع فلم يقبل قوله.
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ان له الاجرة لانا قبلنا قوله في الاذن، فعلى هذا هل يجب المسمى أو اجرة المثل فيه وجهان احدهما يجب المسمى لانا قبلنا قوله انه اذن له فوجب ما اقتضاه
(والثانى)
يجب له اجرة المثل لانا إذا قبلنا قوله لم نامن ان يدعى الفا واجرة مثله درهم.
(وان قلنا) ان القول قول صاحب الثوب فحلف لم تجب الاجرة لانه فعل ما لم يؤمن فيه ويلزمه ارش القطع لانه قطع ما لم يكن له قطعه.
وفى قدر الارش قولان (احدهما) يلزمه ما بين قيمته مقطوعا وصحيحا لانا حكمنا انه لم يؤذن له في القطع فلزمه ارش القطع
(والثانى)
يلزمه ما بين قيمته مقطوعا قميصا وبين قيمته مقطوعا قباء، لانه قد اذن له في القطع، وانما حصلت المخالفة في الزيادة فلزمه ارش الزيادة، فان لم يكن بينهما تفاوت لم يلزمه شئ وإذا قلنا: انهما يتحالفان فتحالفا لم تجب الاجرة، لان التحالف يوجب رفع العقد، والخياطة من غير عقد لا توجب الاجرة وهل يجب ارش القطع فيه قولان(15/106)
(احدهما) يجب، لان كل واحد منهما حلف على ما ادعاه ونفى ما ادعى عليه فبرئا كالمتبايعين
(والثانى)
انه يجب ارش النقص لانا حكمنا بارتفاع العقد بالتحالف، فإذا ارتفع العقد حصل القطع من غير عقد فلزمه ارشه.
ومتى قلنا انه يستحق الاجرة لم يرجع بالخيوط، لانه اخذ بدلها، فان قلنا: لا يستحق الاجرة فله ان ياخذ خيوطه، لانه عين ماله فكان له ان ياخذه (الشرح) قال الشافعي رضى الله عنه: وإذا اختلف الرجلان في الكراء وتصادقا في العمل تحالفا، وكان للعامل اجر مثله فيما عمل، قال وإذا اختلفا في الصفة فقال: امرتك ان تصبغه اصفر أو تخيط قميصا فخطته قباء.
وقال الصانع عملت ما قلت لى، تحالفا وكان على الصانع ما نقص الثوب ولا اجر له، وان
زاد الصبغ فيه كان شريكا بها زاد الصبغ في الثوب، وان نقصت منه فلا ضمان عليه ولا اجره له.
وقال الربيع: الذى ياخذ به الشافعي في هذا ان القول قول رب الثوب وعلى الصانع ما نقص الثوب، وان كان نقصه شيئا لانه مقر باخذ الثوب صحيحا ومدع على انه امره بقطعه أو صبغه كما وصفت فعليه البينة بما قال، فان لم يكن بينة حلف رب الثوب ولزم الصانع ما نقصته الصنعة، وان كانت زادت الصنعة فيه شيئا كان الصانع شريكا بها ان كانت عينا قائمة فيه مثل الصبغ، ولا ياخذ من الاجرة شيئا، فان لم تكن عين قائمة فلا شئ له.
وقال في اختلاف العراقيين: وإذا اختلف الاجير والمستاجر في الاجرة، فان ابا حنيفة كان يقول: القول قول المستاجر مع يمينه إذا عمل العمل وبهذا ياخذ.
وكان ابن أبى ليلى يقول: القول قول الاجير فيما بينه وبين اجرة مثله، الا ان يكون الذى ادعى اقل فيعطيه اياه، وان لم يكن عمل العمل تحالفا وترادا في قول أبى حنيفة.
وينبغى كذلك في قول ابن أبى ليلى.
وقال أبو يوسف بعد: إذا كان شيئا متقاربا قبلت قول المستاجر واحلفته، وإذا تفاوت لم أقبل وجعلت العمل اجر مثله إذا حلف.(15/107)
فلو اعطاه ثوبا ليخيطه بعد قطعه فخاطه قباء وقال امرتني بقطعه قباء، فقال بل قميصا فالاظهر تصديق المالك بيمينه، لانه منكر اذنه له في قطعه قباء، إذ هو المصدق في اصل الاذن فكذا في صفته والقول الثاني: يتحالفان، وانتصر الاسنوى له نقلا ومعنى، ونبه على انهما لو اختلفا قبل القطع تحالفا اتفاقا، وكل ما وجب التحالف مع بقائه وجب مع تغير احواله، فعلى هذا يبدا بالمالك كما حكاه الرملي، ونقل عن الاستوى المنع
منه بل يبدا بالخياط لانه بائع المنفعة.
قال النووي: ولا اجرة عليه - يعنى المؤجر - بعد حلفه، وعلى الخياط ارش النقص لما ثبت من عدم الاذن، والاصل الضمان، وهو ما بين قيمته مقطوعا قميصا ومقطوعا قباء كما رجحه السبكى.
ولان اصل القطع ماذون فيه، وان رجح الاسنوى كابن أبى عصرون.
وجزم به القونوى والبارزي وغيرهما من شراح الحاوى وغيره انه مابين قيمته صحيحا ومقطوعا لانتفاء الاذن من اصله ولا يقدح في ترجيح الاول عدم الاجرة له، إذ لا تلازم بينها وبين الضمان، وللخياط نزع خيطه، وعليه ارش نقص النزع ان حصل، كما قاله الماوردى والرويانى في البحر، وله منع المالك من شد خيط فيه بجره مكانه.
هكذا افاده الشمس الرملي في النهاية.
ويمكننا ان نستلخص مما مضى من اقاويل انهما إذا اختلفا في قدر الاجر فقال اجرتنيها سنة بدينار، قال بل بدينارين تحالفا، ويبدا بيمين الاجر، وهو قول الشافعي واحمد، لان الاجارة نوع من البيع، فإذا تحالفا قبل مضى شئ من المدة فسخا العقد ورجع كل واحد منهما في ماله، وان رضى احدهما بما حلف عليه الآخر قر العقد، وان فسخا العقد بعد المدة أو شئ منها سقط المسمى ووجب اجر المثل، كما لو اختلفا في المبيع بعد تلفه وهذا قول احمد واصحابه، وبه قال أبو حنيفة ان لم يكن عمل العمل، وان كان عمله فالقول قول المستاجر لانه منكر للزيادة في الاجر والقول قول المنكر فإذا عرفنا ان الاجارة نوع من المبيع عرفنا انهما يتحالفان عند اختلافهما في العوض كالبيع، وكما قبل ان يعمل العمل عند أبى حنيفة.(15/108)
وقال ابن أبى موسى: القول قول المالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا
اختلف المتبايعان فالقول قول البائع وقال الشافعي في اول اختلاف العراقيين: إذا اسلم الرجل إلى الخياطة ثوبا فخاطه قباء فقال رب الثوب: امرتك بقميص.
وقال الخياط امرتني بقباء، فان ابا حنيفة رحمه الله كان يقول: القول قول الخياط في ذلك، ولو ان الثوب ضاع من عند الخياط ولم يختلف رب الثوب والخياط في عمله فان ابا حنيفة قال: لا ضمان عليه ولان على القصار والصباغ، وما اشبه ذلك من العمال الا فيما جنت ايديهم، بلغنا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه انه قال: لا ضمان عليهم، وكان ابن أبى ليلى يقول: هم ضامنون لما هلك عندهم وان لم تجن ايديهم فيه.
وقال أبو يوسف: هم ضامنون الا ان يجئ شئ غالب.
وقال الشافعي: وثابت عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ قَالَ: لا ضمان على صانع ولا على اجير، فاما ما جنت ايدى الاجراء، والصناع فلا مسألة فيه فهم ضامنون كما يضمن المستودع ما جنت يده، ولان الجناية لا تبطل عن احد، وكذلك لو تعدوا ضمنوا.
قال الربيع: الذى يذهب إليه الشافعي فيما رايت انه لا ضمان على الصانع الا ما جنت ايديهم، ولم يكن يبوح بذلك خوفا من الضياع.
اه، يعنى خوفا من ان يتمادى الصناع في الاهمال فيفضى ذلك إلى ضياع اموال الناس بفشو التلف بين اصحاب الحرف
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
إذا استاجر صانعا على عمل من خياطة أو صباغة فعمل فهل له ان يحبس العين على الاجرة؟ فيه وجهان (احدهما) لا يجوز لانه لم يرهن العين عنده فلم يجز له احتباسها، كما لو استاجره ليحمل له متاعا فحمله ثم اراد ان يحبس المتاع على الاجرة
(والثانى)
يجوز لان عمله ملكه فجاز له حبسه على العوض
كالمبيع في يد البائع.(15/109)
(فصل)
وإن دفع ثوبا إلى رجل فخاطه ولم يذكر له أجرة فقد اختلف أصحابنا فيه اربعة أوجه.
أحدها: أنه تلزمه الاجرة، وهو قول المزني رحمه الله، لانه استهلك عمله فلزمه أجرته.
والثانى: أنه إن قال له: خطه لزمه، وإن بدأ الرجل فقال: أعطني لاخيطه لم تلزمه وهو قول أبى إسحاق لانه إذا أمره فقد ألزمه بالامر، والعمل لا يلزم من غير أجرة فلزمته، وإذا لم يأمره لم يوجد ما يوجب الاجرة فلم تلزم.
والثالث: أنه إذا كان الصانع معروفا بأخذ الاجرة على الخياطة لزمه، وإذا لم يكن معروفا بذلك لم يلزمه، وهو قول أبى العباس، لانه إذا كان معروفا بأخذ الاجرة صار العرف في حقه كالشرط، وإن لم يكن معروفا لم يوجد ما يقتضى الاجرة من جهة الشرط ولا من جهة العرف.
والرابع: وهو المذهب: أنه لا يلزمه بحال، لانه بذل ماله من غير عوض فلم يجب له العوض، كما لو بذل طعامه لمن أكله، وان نزل رجل في سفينة ملاح بغير اذنه فحمله فيها إلى بلد لزمه الاجرة، لانه استهلك منفعة موضعه من السفينة من غير اذن فلزمه أجرتها، وان نزل فيها عن اذنه ولم يذكر الاجرة، فعلى ما ذكرناه من الوجوه الاربعة في الخياطة، وبالله التوفيق.
(الشرح) قال الماوردى في الحاوى الكبير: وليس لمؤجر الارض أن يحتبس الارض على المستأجر على دفع الاجرة، ولا للجمال أن يحبس ما استؤجر على حمله من المبتاع ليأخذ الاجرة لانه في يده أمانة وليس برهن.
فأما الصانع المستأجر على عمل من خياطة أو صباغة هل له احتباس ما بيده من العمل على
أجرته؟ فيه وجهان.
أحدهما: ليس له ذاك قياسا على ما ذكرنا، والثانى: له ذاك لان عمله ملك له كالبائع، فإذا حبس الصانع الثوب بعد عمله على استيفاء الاجر فتلف ضمنه، لانه لم يرهنه عنده، ولا اذن له في امساكه، فلزمه الضمان كالغاصب، وبهذا قال أصحاب أحمد كما أفاده ابن قدامة.
(فرع)
إذا عمل الصانع عملا لغيره بإذنه كأن دفع ثوبا إلى قصار ليقصره(15/110)
أو إلى خياط ليخيطه ففعل ولم يذكر أحدهما أجرة فلا أجرة له لتبرعه، ولانه لو قال: أسكني دارك شهرا فأسكنه لم يستحق عليه أجرة بالاجماع كما في البحر والاوجه كما بحثه الاذرعى وجوبها في قن ومحجور سفه لانهما غير أهل للتبرع ومثلهما غير المكلف بالاولى.
قال النووي: وقيل: له أجرة مثله، وقيل: أن كان معروفا بذلك العمل بالاجرة فله والا فلا وقد يستحسن اه.
وصورة المسألة إذا دفع ثوبه إلى خياط أو قصار ليخيطه أو يقصره من غير عقد ولا شرط ولا تعريض بأجر مثل أن يقول: خذ هذا فاعمله وأنا أعلم أنك انما تعمل بأجر، وكان الخياط والقصار متوفرين على ذلك وقد عرف عنهما الاجر الذى يأخذانه، وكان لصاحب الدكان لافتة سجل فيها أسعار أجرته كما يفعل الكواءون والحلاقون والخياطون والساعاتيون كان ذلك يجرى مجرى الافهام الذى هو شرط عندنا في صحة الاجارة.
وعند أصحاب أحمد أن العرف الجارى بذلك يقوم مقاوم القول فصار كنقد البلد، ولان شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعيريض، إذا عرف هذا فإن في المسألة أربعة أوجه.
(أحدهما)
وهو قول المزني يستحق الاجر مطلقا لانه استهلك عمله فلزمه عوضه
والثانى: التفريق بين طلب رب الثوب منه أن يخيطه وبين أن يطلب من رب الثوب أن يخيطه له، فإذا قال له رب الثوب خط هذا لى فقد كلفه بعمل له ما يقابله من الاجر فيلزمه لانه يأمره بالعمل والعمل لا يلزم بغير أجرة، وإذا قال الخائط أعطني هذا الثوب لاخيطه لك لم تلزمه أجرته وهو قول أبى اسحاق المروزى، حيث لم يأمره فليس ثم ما يوجب له الاجرة (والثالث) وهو قول أبى العباس بن سريج، وهو الذى أخذ به أحمد واصحابه، وذكره النووي في المنهاج بصيغة التمريض بقوله: وقيل وهو أنه إذا كان الصانع معروفا بأخذ الاجرة على الخياطة لزمه، والا لم يلزمه لان العرف يجرى مجرى الشرط (والرابع) وهو الظاهر من المذهب أنه لا أجرة لن كمن قدم طعامه لمن يأكل فليس له أن يطلب ثمنه.
وخص المصنف والاصحاب السفينة إذا نزلها أو شحن فيها متاعة بغير اذن(15/111)
الملاح فإنه يلزمه عوض استهلاك منفعة موضعه من السفينة.
وقال الشمس الرملي وقد يستحسن ترجيحه لوضوح مدركه وهو يقصد أن يكون الصانع معروفا بأخذ الاجرة إذ هو العرف، وهو يقوم مقام اللفظ كثيرا، ونقل عن الاكثرين، والمعتمد الاول، فإن ذكر أجرة استحقها قطعها إن صح العقد، وإلا فأجرة المثل، وأما إذا عرض كأرضيك أو لا أخيبك أو ترى ما تحبه أو يسرك أو أطعمك فتجب أجرة المثل، نعم في الاخيرة يحسب على الاجير ما أطمعه إياه كما هو ظاهر، وقد تجب من غير تعريض بها كما في عامل الزكاة اكتفاه بثبوتها بالنص فكأنها مسماة شرعا، وكعامل مساقاة عمل ما ليس بلازم له بإذ المالك اكتفاء بذكر المقابل له في الجملة.
قال: ولا يستثنى وجوبها على داخل الحمام أو راكب السفينة مثلا من غير إذن لاستيفائه المنفعة من غيرب أن يصرفها صاحبها إليه
بخلافه بإذنه، وسواء في ذلك أسيسر السفينة بعلم مالكها أم لا.
وقول ابن الرفعة في المطلب لعله فيما إذا لم يعلم به مالكها حين سيرها، وإلا فيشبه أن يكون كما لو وضع متاعة على دابة غيره فسيرها مالكها، فإنه لا أجرة على مالكه، ولا ضمان مردود، فقد فرق العراقى بينهما بأن راكب السفينة بغير إذن غاصب للبقعة التى هو فيها ولو لم يسير، بخلاف واضع متاعه على الدابة لا يصير غاصبا لها بمجرد وضع متاعة، ويفرق أيضا بأن مجرد العلم لا يسقط الاجرة ولا الضمان، فإن السكوت على إتلاف المال لا يسقط الضمان، وهو علم وزيادة، ومالك الدابة بسبيل من إلقاء المتاع قبل تسييرها بخلافه في راكب السفينة اه.
قال الرملي الصغير في النهاية وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.(15/112)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
* (باب الجعالة)
* يجوز عقد الجعالة وهو أن يبذل الجعل لمن عمل له عملا من رد ضالة ورد آبق وبناء حائط وخياطة ثوب وكل ما يستأجر عليه من الاعمال، والدليل عيله قوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وروى أبو سعيد الخدرى (أن ناسا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أتو احيا من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا هل فيكم راق فقالوا لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم قطيع شاء فجعل رجل يقرأ بام القرآن ويجمع بزاقة ويتفل فبرا الرجل فأتوهم بالشاء فقالوا: لا نأخذها حتى نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذلك فضحك وقال: ما أدراك إنها رقية؟ خذوها واضربوا إلى فيها بسهم ولان الحاجة تدعو إلى ذلك من رد ضالة وآبق وعمل لا يقدر عليه فجاز كالاجارة والمضاربة.
(فصل)
ويجوز ان يعقد لعامل غير معين للآية، ولانه قد يكون له عمل
ولا يعرف من يعمله، فجاز من غير تعيين، وروى المزني في المختصر عن الشافعي رحمه الله في المنثور انه قال إذا قال أول من يحج عنى فله مائة فحج عنه رجل أنه يستحق المائة.
وقال المزني: ينبغى أن يستحق أجرة المثل لانه اجازة فلم تصح من غير تعيين، وهذا خطا، لان ذلك جعالة، وقد بينا ان الجعالة تجوز من غير تعيين العامل.
(فصل)
وتجوز على عمل مجهول للآية، ولان الحاجة تدعو إلى ذلك فجاز مع الجهالة كالمضاربة، ولا تجوز الا بعوض معلوم، لانه عقد معاوضة فلا تجوز بعوض مجهول كالنكاح، فان شرط له جعلا مجهولا فعمل استحق أجرة المثل، لان كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب المثل في فاسده، كالبيع والنكاح.(15/113)
(فصل)
ولا يستحق العامل الجعل الا بإذن صاحب المال، فأما إذا عمل له عملا من غير إذنه بأن وجد له آبقا فجاء به، أو ضالة فردها إليه، لم يستحق الجعل لانه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحق العوض، فان عمل باذنه ولم يشرط له الجعل، فعلى الاوجه الاربعة التى ذكرناها في الاجارة، فان اذن له وشرط له الجعل فعمل استحق الجعل، لانه استهلك منفعته بعوض فاستحق العوض كالاجير، فان نادى فقال: من رد عبدى فله دينار فرده من لم يسمع النداء لم يستحق الجعل لانه متطوع بالرد من غير بدل، فان أبق عبد لرجل فنادى غيره ان من رد عبد فلان فله دينار، فرده رجل وجب الدينار على المنادى، لانه ضمن العوض فلزمه، فان قال في النداء: قال فلان: من رد عبدى فله دينار فرده رجل لم يلزمه المنادى، لانه لم يضمن.
وانما حكى قول غيره.
(فصل)
ولا يستحق العامل الجعل الا بالفراغ من العمل، فان شرط له
جعلا على رد الآبق فرده إلى باب الدار ففر منه أو مات قبل ان يسلمه لم يستحق شيئا من الجعل، لان المقصود هو الرد، والجعل في مقابلته ولم يوجد منه شئ، وان قال: من رد عبدى الآبق من البصرة فله دينار وهو ببغداد فرده رجل من واسط استحق نصف الدينار، لانه رد من نصف الطريق، وان رده من أبعد من البصرة لم يستحق اكثر من الدينار، لانه لم يضمن له لما زاد شيئا.
وان أبق له عبدان فقال من ردهما فله دينار، فرد رجل أحدهما استحق نصف الجعل، لانه عمل نصف العمل.
وان قال: من رد عبدى فله دينار، فاشترك في رده اثنان اشتركا في الدينار، لانهما اشتركا في العمل فاشتركا في الجعل وان قال لرجل: ان رددت عبد فلك دينار، وقال لآخر: ان ردته فلك ديناران، فاشتركا في الرد استحق كل واحد منهما نصف ما جعل له، وان جعل لاحدهما دينارا وللآخر ثوبا مجهولا فرداه استحق صاحب الدينار نصف دينار وصاحب الثوب نصف أجرة المثل، لان الدينار جعل صحيح، فاستحق نصفه، والثوب جعل باطل فاستحق نصف اجرة المثل، وان قال لرجل ان رددت عبدى فلك دينار فشاركه غيره في رده، فان قال: شاركته معاونة له كان الدينار للعامل(15/114)
لان العمل كله له فكان الجعل كله له، وان قال شاركته لاشاركه في الجعل كان للعامل نصف الجعل، لانه عمل نصف العمل، ولا شئ للشريك لانه لم يشرط له شيئا.
(الشرح) هي بتثليث الجيم عند ابن مالك وغيره.
واقتصر النووي والجوهري والفيومى صاحب المصباح على كسرها، وابن الرفعة في الكفاية والمطالب على فتحها، وهى لغة اسم لما يجعله الانسان لغيره على شئ يفعله، وكذا الجعل والجعيلة، وأما تعريفها شرعا فهو التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم أو
مجهول بمعين أو مجهول.
وقد أورد المصنف الجعالة عقب الاجارة، وكذلك فعل النووي في الروضة وصاحب الشرح، لان التلازم بين الاجارة والجعالة واضح، لانها عقد على عمل، إلا أن أكثر المصنفين في الفقه جعلوها بعد اللقطة، لانها طلب النقاط الدابة الضالة.
وقد استدل المصنف على انها من العقود الجائزة بقوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير) واعتبر الرملي سوقه الاية استئناسا وليس استدلالا، وعلل ذلك الشبراملسى في حاشيته على النهاية هذه العبارة بان شرع من قبلنا ليس شرعا لنا وان ورد في شرعنا ما يقرره.
اما الحديث الذى ساقه المصنف عن أبى سعيد فقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وأتم هذه الطرق جميعا رواية البخاري ولفظها (انطلق نفر مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفرة سافروها حتى نزلوا على حى من احياء العرب فاستضافوهم فابوا ان يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحى فسعوا له بكل شئ، لا ينفعه شئ، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم ان يكون عندهم بعض شئ، فاتوهم فقالوا: يا ايها الرهط إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شئ لا ينفعه فهل عند احد منكم من شئ؟ قال بعضهم إنى والله لا رقى لكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما انا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من غنم فانطلق يتفل عليه، ويقرأ الحمد لله(15/115)
رب العالمين، فكانما نشط من عقال، فانطلق يمشى وما به قلبة، قال فاوفواهم جعلهم الذى صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذى رقى: لا تفعلوا حتى ناتى النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذى كان، فننظر الذى
يامرنا، فقدموا على النبي صلى الله عليه واسلم فذكروا له ذلك فقال: وما يدريك انه رقية؟ ثم قال: قد اصبتم واضربوا إلى معكم سهما، وضحك النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَوَى البخاري رواية عن ابن عباس بلفظ (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من اهل الماء فقال: هل فيكم من راق فان الماء رجلا لديغا أو سليما، فانطلق رجل منهم فقرا بفاتحة الكتاب على شاء، فجاء بالشاء إلى اصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: اخذت على كتاب الله اجرا؟ حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله اخذ على كتاب الله اجرا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ان احق ما أخذتم عليه اجرا كتاب الله) قوله (فاستضافوهم) في رواية للترمذي انهم ثلاثون رجلا.
وقد روى الحاكم رواية أبى سعيد الخدرى على انه هو الرقى، وهى على شرط مسلم.
قال الزركشي: ويستنبط منه جواز الجعالة على ما ينتفع به المريض من داوء أو رقبة وان لم يذكروه.
وهو متجه ان حصل به تعب والا فلا اخذا مما ياتي.
على ان الاجماع منعقد على جوازها لما تدعو إليه الحاجة من ضالة، أو عمل لا يقدر عليه ولا يجد من يتطوع به، ولا تصح الاجارة عليه لجهالة، فجاز ان يجعل له جعلا كالاجارة والقراض.
واركان الجعالة اربعة: صيغة ومتعاقدان وعمل وعوض.
ولما كان الجعل لا يستحق الا باذن صاحب المال كالاجارة، فانه فارق الاجارة في استحاقه بالعمل، اما الاجارة فانها تستحق بالعقد، لانه لو قال: من رد على ضالتي فله درهم قبلها بطل، هكذا افاده الغزالي في كتاب الدور، وعدم اشتراط قبضه في المجلس مطلقا، ويشترط في المللتزم للجعل مالكا أو غيره ان يكون مطلق التصرف كما في الاجارة فلا يصح بالتزام الصبى أو المحجور عليه للسفه أو
المجنون.
كما يشترط في العامل المعين اهلية العمل بان يكون قادرا عليه ولا(15/116)
تشترط الحرية وغير المكلف، وان يقوم بالعمل باذن وبغير اذن، كما قال ذلك السبكى خلافا لابن الرفعة في اشتراط اذن السيد، ويخرج بذلك العاجز عن العمل كالصغير والضعيف إذا غلبهما العمل، فاشبه استئجار الاعمى للحراسة.
هكذا افاده الزركشي وابن العماد ونقل المزني ان الشافعي نص في المنشور أَنَّهُ إذَا قَالَ الْمَعْضُوبُ: مَنْ حَجَّ عَنَى فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ، فَحَجَّ عَنْهُ إنْسَانٌ اسْتَحَقَّ الْمِائَةَ.
قَالَ الْمُزَنِيّ: يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، لِأَنَّ هَذَا إجَارَةٌ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْأَجْرِ.
هَذَا كَلَامُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ، والمسألة التى ساقها المصنف بذكر النووي رضى الله عنه ان للاصحاب فيها ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ الصَّحِيحُ وُقُوعُ الْحَجِّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ ويستحق الاجرة المسماة.
وبهذا نص الشافعي واختاره النووي، لِأَنَّهُ جَعَالَةٌ وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ.
وَالْجَعَالَةُ تَجُوزُ عَلَى عمل مجهول، فمن باب اولى المعلوم،
(وَالثَّانِي)
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ: أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَسْتَحِقُّ الْأَجِيرُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى.
وقد حَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ مُعْظَمَ الْإِصْحَابِ مَالُوا إلى هذا.
قال النووي.
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: لَا تَجُوزُ الْجَعَالَةُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ.
(وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ يَفْسُدُ الْإِذْنُ وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنْ الْأَجِيرِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ غَيْرُ مُتَوَجِّهٍ إلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَكَّلْتُ مَنْ أَرَادَ بَيْعَ دَارِي فِي بَيْعِهَا.
فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ وَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا التَّوْكِيلِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ.
وذكر امام الحرمين ان شيخ وَالِدَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ أَشَارَ إلَيْهِ فَقَالَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْكُمَ بِفَسَادِ الْإِذْنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا بَلْ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْمَذْهَبِ
وَالدَّلِيلِ.
فَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ وَالْمَنْصُوصِ.
فَقَالَ مَنْ حج عنى فَلَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَسَمِعَهُ رَجُلَانِ وَأَحْرَمَا عَنْهُ.
قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْأَصْحَابُ: إنْ سَبَقَ إحْرَامُ أَحَدِهِمَا وَقَعَ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْقَائِلِ وَيَسْتَحِقُّ السَّابِقُ المائة.
واحرام الثاني يقع عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَصَارَ كَمَنْ عَقَدَ نِكَاحَ أُخْتَيْنِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ.
وَلَوْ قَالَ مَنْ حَجَّ عَنِّي فَلَهُ مائة دينار فحج عَنْهُ رَجُلَانِ.
أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ.(15/117)
وَقَعَ إحْرَامُ السَّابِقِ بِالْإِحْرَامِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْقَائِلِ وله عليه المائة.
ولو احراما معا وقع حج كل منهما عن نفسه ولا شئ لهما على القائل، لانه لَيْسَ فِيهَا أَوَّلٌ.
وَلَوْ كَانَ الْعِوَضُ مَجْهُولًا بأن قال: من حج عنى فله ثوب أو دراهم أو ناقة وقع الحج عن القائل بأجرة المثل.
(فرع)
استدل المصنف من قوله تعالى (ولمن جاء به) على جواز عقدها لغير المعين، كما في المثال الذى سبق فيمن يحج عنه، كما استدل بالآية أيضا على جوازها على عمل مجهول.
وكذلك لو قال: من رد ضالتي من سامعي ندائى فله كذا فرده من علم ندائه ولم يسمع منه لم يستحق، هكذا أفاده الماوردى وصرح بمثله القاضى حسين.
قال الاذرعى، وقول القاضى فان رده بنفسه أو بعده استحق، يفهم عدم الاستحقاق إذا استقل العبد بالرد.
قال النووي، ولو قال أجنبي من رد عبد زيد فله كذا استحقه الراد على الأجنبي.
قال الرملي استحقه الراد العالم به على الأجنبي لانه التزمه فصار كخلع الأجنبي، وكما لو التمس إلقاء متاع غيره في البحر لخوف الهلاك وعليه ضمانه.
إذا ثبت هذا فان العامل بلا إذن لا يستحق الجعالة، لانه لو أذن لشخص
فعمل غيره فلا شئ له ولو كان معروفا برد الضال بعوض لانه لم يلتزم عوضا له فوقع عمله تبرعا.
وقال الشبراملسى عند قوله (فلو عمل أحد بلا إذن فقال ومن ذلك ما جرت به العادة في قرى مصرنا من أن جماعة اعتادوا حراسة الجرين نهارا وجماعة اعتادوا حراسته ليلا، فان اتفقت معاقدتهم على شئ من أهل الجرين أو من بعضهم باذن الباقين لهم في العقد استحق الحارسون ما شرط لهم ان كانت الجعالة صحيحة وإلا فأجرة المثل وأما ان باشروا الحراسة بلا إذن من أحد اعتمادا على ما سبق من دفع أرباب الزرع للحارس سهما معلوما عندهم لم يستحقوا شيئا.
وليس كما لو التزم الثمن في شراء غيره أو الثواب في هبة غيره، لانه عوض تمليك فلا يتصور وجوبه على غير من حصل له الملك، والجعل ليس عوض تمليك.
واستشكل ابن الرفعة هذه بأنه لا يجوز لاحد وضع يده على مال غيره بقول(15/118)
الأجنبي بل يضمنه فكيف يستحق الاجرة.
وأجيب بأنه لا حاجة إلى الاذن في ذلك لان المالك راض به قطعا، أو بأن صورة ذلك أن يأذن المالك لمن شاء في الرد والتزم الأجنبي بالجعل، أو يكون للاجنبي ولاية على المالك، وقد يصور أيضا بما إذا ظنه العامل المالك أو عرفه وظن رضاه.
وظاهر كلام المصنف أنه يلزمه العوض المذكور وإن لم يقل على.
قال الرملي: وهو كذلك فقد قال الخوارزمي في الكافي: ولو قال الفضولي: من رد عبد فلان فله على دينار، أو قال فله دينار، فمن رده استحق على الفضولي ما سمى.
وصرح به ابن يونس في شرح التعجيز، فانه صور المسألة بما إذا قال على ثم قال وألحق الائمة به قوله فله كذا.
وإن لم يقل عليه، لان ظاهره التزام.
ولو قال أحد الشريكين في رقيق: من رد رقيقي فله كذا فرده شريكه فيه استحق
الجعل.
وصورة المسألة إذا لم يكن القائل ولى المالك.
فأما إذا كان وليه وقال ذلك عن محجوره على وجه المصلحة بحيث يكون الجعل قدر أجرة مثل ذلك العمل أو أقل استحقه الراد في مال المالك بمقتضى قول وليه، ويعلم مما تقرر أنه لا يتعين على العامل المعين العمل بنفسه.
فلو قال لشخص معين: إن رددت على ضالتي فلك كذا لم يتعين عليه السعي بنفسه، بل له أن يستعين بغيره، فإذا حصل الفعل استحق الاجرة.
قاله الغزالي في البسيط قال الرملي: وحاصله أن توكيل العامل المعين غيره في الرد كتوكيل الوكيل فيجوز له أن يوكله فيما يعجز عنه وعلم به القائل أو لا يليق به كما يستعين به، وتوكيل غير المعين بعد سماعه النداء غيره، كالتوكيل في الاحتطاب والاستقاء ونحوهما فيجوز، فعلم أن العامل المعين لا يستنيب فيها إلا إن عذر وعلم به الجاعل حال الجعالة.
اه (فرع)
تصح الجعالة على عمل مجهول كما ذكر ذلك المصنف لان الجهالة احتملت في القراض لحصول زيادة، فاحتمالها في رد الحاصل أولى، وهو مقيد كما أفاده جمع بما إذا عسر ضبطه لا كبناء حائط فيذكر محله وطوله وسمكه وارتفاعه وما يبنى به، وخياطة ثوب فيصفه كالاجارة.
أما صحتها على المعلوم فأولى.
ومثال ذلك قوله: من رد على ضالتي من مكان كذا فله كذا، وهذا هو الاصح.(15/119)
(والثانى)
المنع للاستغناء عنه بالاجارة، وقد عرفت أنه لا بد من كون العمل فيه كلفة أو مؤنة، كرد آبق أو ضال، أو أداء حج أو خياطة ثوب أو تعليم علم أو حرفة، أو إخبار فيه غرض وصدق فيه، فلو رد من هو بيده ولا كلفة فيه فلا شئ له، إذ مالا كلفة فيه لا يقابل بعوض فلو قال من دلنى على مالى فله كذا فدله غير من هو بيده استحق، لان الغالب
أنه تلحقه مشقة.
قال الاذرعى ويجب أن يكون هذا فيما إذا بحث عنه بعد جعل المالك.
أما البحث السابق والمشقة السابقة قبل الجعل فلا عبرة بهما ويلزم عدم التوقيت في الجعالة.
لانه لو قال من رد على ضالتي إلى شهر كذا فله كذا لو يصح كما في القراض، لان تقدير المدة مخل بمقصود العقد، فقد لا يظفر به فيها فيضيع سعيه ولا يحصل الغرض، سواء أضم إليه من محل كذا أم لا، وغير واجب على العامل.
فلو قال من دلنى على مالى فله كذا فدله من المال في يده لم يستحق شيئا لان ذلك واجب عليه شرعا، فلا يأخذ عليه عوضا.
وكذا لو قال من رد مالى فله كذا فرده من هو في يده ويجب عليه رده.
وقضيته أنه لو كان الدال أو الراد غير مكلف استحق.
وقد أفتى الامام النووي كما حكى ذلك صاحب نهاية المحتاج فيمن حبس ظلما فبذل مالا لمن يتكلم في خلاصه بجاهه وغيره بأنها جعالة مباحة، وأخذ عوضها حلال، ونقله عن جماعه، ثم قال وفى ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا (قلت) فإذا كان العرف هو الذى يبنى عليه حد الاباحة والمنع في الجعالة فمقتضى العرف الذى نعلمه اليوم أن ذلك رشوة، فإذا كان صاحب جاه يستطيع أن يرفع ظلما وقع على إنسان بجاهه وجب عليه العمل على رفعه، وبذلك تبطل الجعالة، لانها لا تكون إلا عوضا عما لا يجب على العامل.
ومقتضى النصيحة والعمل لاحقاق الحق الذى يلزمه كل مسلم يمنع هذه الصورة التى أفتى بها النووي رحمه الله تعالى.
ولانهم قالوا إن السعي والعمل وبذلك المجهود هي مع حصول المقصود توجب(15/120)
الجعالة، وجعلو إخبار الطبيب للمريض بدوائه عملا تافها لا جهد فيه ولا سعى
فلا يستحق عليه جعلا، فكيف بمن له جاه يمكن أن يؤثر به في رفع ظلم أو قضاء مصلحة بدون مشقة أو جهد أو سعى إلا أن يتفوه بكلمة هل يحل له أن يأخذ جعالة؟ إن قياس المذهب والبناء على أصله يمنع ذلك.
ولا أعلم في ذلك خلاف في الاصل الذى بنينا عليه، لانه يستمد قوته من قوله صلى الله عليه وسلم (الحلال بين والحرام بين) ويشترط لصحة العقد كون الجعل مالا معلوما لانه عوض كالاجرة والمهر ولانه عقد جوز للحاجة، ولا حاجة لجهالة العوض بخلاف العمل، ولان جهالة العوض تفوت مقصود العقد إذ لا يرغب أحد في العمل مع جهالة العوض، ويحصل العلم بالمشاهدة إن كان معينا، وبالوصف إن كان في الذمة.
فلو قال: من رد ضالتي فله ما حملت، وكان ما تحمله معروفا كسرجها ولجامها أو شيئا آخر تنقله ضلت به وكان معروفا للعامل، واستشكل ابن الرفعة اعتبار الوصف في المعين لانهم منعوه في البيع والاجارة وغيرهما.
قال البلقينى: ويمكن الفرق بدخول التخفيف هنا فلم يشدد فيها بخلاف نحو البيع، وقياسه صحته فله نصفه إن علم، وإن لم يعرف محله وهو أوجه الوجهين.
وما قاسه عليه الرافعى من استئجار المرضعة بنصف الرضيع بعد الفطام أجاب عنه في الكفاية بأن الاجرة المعينة تملك بالعقد فجعلها جزءا من الرضيع بعد الفطام يقتضى تأجيل ملكه، وهنا إنما تملك بتمام فلا مخالفة لمقتضى العقد ولا عمل يقع في مشترك، كذا أفاده الرملي (فرع)
إذا قال: من رد على ضالتي من بلد كذا فرده من جهه ذلك البلد لكن من أبعد منه فلا زيادة له لتبرعه بها.
أما إذا قال: من رده من بلد كذا فرده من أقرب منه فلا يستحق الاقسطه من الجعل، لانه جعل كل الجعل
في مقابلة العمل، فبعضه في مقابلة بعضه، فإن رده من نصف الطريق استحق نصف الجعل.(15/121)
فإذا كانت الطريق غير متساوية في الحزونة والسهولة بأن كان النصف الذى قطعه يمكن أن تكون أجرته ضعف أجرة النصف الآخر استحق الثلثين من الجعل، فإن كان من البلد أو من مسافة مثل مسافته ولو من جهة أخرى استحق المسمى.
ولو رد من البلد المعين، ورأى المالك في نصف الطريق فدفعه إليه استحق نصف الجعل.
ولو قال: من رد على ضالتي فله كذا، فرد احدهما استحق نصف الجعل، استوت قيمة الضالتين أو اختلفت.
ولو قال لرجلين ان رددتما ضالتي فلكما كذا فرد أحدهما احداهما استحق الربع أو كليهما استحق النصف أو رداهما استحقا المسمى.
ولو قال أول من يرد ضالتي فله كذا فرداها استحقا المسمى مناصفة لوصفهما بالاوليه في الرد.
ولو قال لكل واحد من ثلاثة ردها ولك دينار، فردوها جميعا استحق كل واحد منهم ثلث دينار توزيعا بالحصص على الرؤوس، هذا إذا عمل كل منهم لنفسه ليأخذ الدينار.
أما لو قال: أعنت صاحبي فلا شئ له ويقتسمان في الدينار، أو قال اثنان ذلك أخذ الثالث الدينار وحده ولا شئ لهما وللآخر جميع المشروط، فان شاركهم رابع فلا شئ له.
أما إذا قصد بمعاونته المالك أو أخذ الجعل منه فلكل واحد من الثلاثة ربع المشروط، فان أعانا أحدهما فلكل واحد من الاثنين ربع المشروط وللمعاون
بفتح الواو النصف، فان شرط لاحدهم جعلا مجهولا، ولكل من الآخرين دينارا فردوه فله ثلث أجرة المثل ولهما ثلثا المسمى.
وهكذا قال النووي إذا اشترك اثنان في رده اشتركا في الجعل.
ولو التزم جعلا لمعين فشاركه غيره في العمل ان قصد اعانته فله كل الجعل.(15/122)
وهنا يقول صاحب النهاية: لان قصد الملتزم الرد ممن التزم له بأى وجه أمكن فلم يقصر لفظه على المخاطب وحده بخلاف ما مر فيما إذا أذن لمعين فرد نائبه مع قدرته، لان المالك لم يأذن فيه اصلا.
ولا شئ للمعين إلا إن التزم له المخاطب أجرة، ويؤخذ من كلامهم هنا، وفى المساقاة كما أفاده السبكى جواز الاستنابة في الامامة والتدريس وسائر الوظائف التى تقبل النيابة، أي ولو بدون عذر فيما يظهر، ولو لم يأذن الواقف إذا استناب مثله أو خيرا منه، ويستحق المستنيب جميع المعلوم، وان أفتى ابن عبد السلام والنووي بأنه لا يستحقه واحد منهما، إذ المستنيب لم يباشر والنائب لم يأذن له الناظر، فلا ولاية له، وما نازع به الاذرعى من كون ذلك سببا لفتح باب أكل أرباب الجهالات مال الوقف دائما مما أرصد للمناصب الدينية، واستنابة من لا يصلح أو يصلح بنذر يسير.
قال غيره: وهكذا جرى فلا حول ولا قوه إلا بالله مردود باشتراط كونه مثله أو خيرا منه.
ولو قال لواحد: إن رددته فلك دينار.
وقال لآخر: إن رددته أرضيك، أو أحلى بالحلوى فمك، فرداه، فللاول نصف الدينار، وللآخر نصف أجرة مثل عمله.
وينقسم العقد باعتبار لزومه وجوازه إلى ثلاثة أقسام: (أحدها) لازم من الطرفين قطعا كالبيع والاجارة والسلم والصلح والحواله
والمسافاة والهبة لغير الفروع بعد القبض والخلع، ولازم من أحدهما قطعا، ومن الاخر على الاصح وهو النكاح فإنه لازم من جهة المرأة قطعا، ومن جهة الزوج على الاصح، وقدرته على الطلاق ليست فسخا.
(ثانيها) لازم من أحد الطرفين جائز من الاخر قطعا كالكتابة، والرهن وهبة الاصول للفروع بعد القبض والضمان والكفالة.
(ثالثها) جائز من الطرفين كالشركة والوكالة والعارية والوديعة، وكذا الجعل له قبل فراغ العمل.(15/123)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويجوز لكل واحد منهما فسخ العقد لانه عقد على عمل مجهول بعوض، فجاز لكل واحد منهما فسخه كالمضاربة، فإن فسخ العامل لم يستحق شيئا لان الجعل يستحق بالفراغ من العمل، وقد تركه فسقط حقه، وإن فسخ رب المال، فان كان قبل العمل لم يلزمه شئ، لانه فسخ قبل أن يستهلك منفعة العامل فلم يلزمه شئ، كما لو فسخ المضاربة قبل العمل، وإن كان بعدما شرع في العمل لزمه أجرة المثل لما عمل، لانه استهلك منفعته بشرط العوض فلزمه أجرته، كما لو فسخ المضاربة بعد الشروع في العمل.
(فصل)
وتجوز الزيادة والنقصان في الجعل قبل العمل، فان قال: من رد عبدى فله دينار، ثم قال: من رده فله عشره، فرده رجل استحق عشرة، وان قال: من رد عبدى فله عشرة، ثم قال: من رده فله دينار، استحق الدينار، لانه مال بذل في مقابلة عمل في عقد جائز فجائز والزيادة والنقصان فيه قبل العمل كالربح في المضاربة.
(فصل)
وإن اختلف العامل ورب المال فقال العامل: شرطت لى الجعل
وأنكر رب المال، فالقول قول رب المال، لان الاصل عدم الشرط وعدم الضمان، وان اختلفا في عين العبد فقال السيد: شرطت الجعل في رد غيره.
وقال العامل: بل شرطت الجعل في رده، فالقول قول المالك، لان العامل يدعى عليه شرط الجعل في عقد، الاصل عدمه، فكان القول فيه قوله، وان اختلفا في قدر الجعال تحالفا كما قلنا في البيع، فإذا تحالفا رجع إلى أجرة المثل كما رجع في البيع بعد هلاك السلعة إلى قيمة العين.
وان اختلف العامل والعبد فقال العامل: أنا رددته.
وقال العبد جئت بنفسى وصدقة المولى، فالقول قول المولى مع يمينه، لان الاصل عدم الرد، وعدم وجوب الجعل، وبالله التوفيق.
(الشرح) قلنا: ان العقود منها الجائز من الطرفين كالشركة والوكالة والعارية(15/124)
والوديعة (والجعالة قبل الفراغ من العمل) ومن ثم يجوز لاى منهما الفسخ قبل تمام العمل، لانه عقد جائز من الطرفين، أما من جهة الجاعل فمن حيث إنها تعلن استحقاق بشرط فأشبهت الوصية.
وأما من جهة العامل فلان العمل فيها مجهول، وما كان كذلك لا يتصف باللزوم كالفراض، وإنما يتصور الفسخ من العامل في الابتداء إذا كان معينا بخلاف غيره فلا يتصور فسخه إلا بعد شروعه في العمل، والمراد بالفسخ رفع العقد ورده، وخرج بقوله: قبل العمل، ما بعده، فإنه لا أثر للفسخ، لان الجعل قد لزم واستقر، وعلم من جوازها انفساخها بموت أحد المتعاقدين أو جنونه أو إغمائه.
فلو مات المالك بعد الشروع في العمل فرده إلى وارثه استحق قسط ما عمله في الحياة من المسمى.
وإن مات العامل فرده وارثه استحق القسط منه أيضا، فإن فسخ قبل الشروع
أو فسخه العامل بعد الشروع فلا شئ له، لانه لم يعمل شيئا في الاولى، ولان الجعل إنما يستحق في الثانية بتمام العمل، وقد فوته باختياره.
وان فسخ المالك بعد الشروع في العمل فعليه أجرة المثل لما مضى في الاصح لان جوازه يقتضى التسلط على رفعه، وإذا ارتفع لم يجب المسمى كسائر الفسوخ لكن عمل العامل وقع محترما فلا يحبط بفسخ غيره فرجع إلى بدله وهو أجرة المثل كالاجارة إذا فسخت بعيب.
والثانى: لا شئ للعامل كما لو فسخ بنفسه، ولا فرق على هذا القول بين أن يكون ما صدر من العامل لا يحصل به مقصود أصلا كرد الضال إلى بعض الطريق أو يحصل به بعضه كما لو قال: ان علمت ابني القرآن فلك كذا ثم منعه من تعليمه ولا يشكل ما رجحوه هنا كما يقول الرملي من استحقاق أجرة المثل بقولهم: إذا مات العامل أو المالك في أثناء العمل حيث ينفسخ ويجب القسط من المسمى لان الجاعل أسقط حكم المسمى في مسئلتنا بفسخه بخلافه في تلك، وما فرق به بعض الشراح من أن العامل في الانفساخ تمم العمل بعده ولم يمنعه المالك منه(15/125)
بخلافه في الفسخ، محل نظر، إذ لا أثر له في الفرق بين خصوص الوجوب من المسمى تارة، ومن أجرة المثل أخرى كما هو ظاهر للمتأمل.
(فرع)
ويجوز للمالك أن يزيد وينقص في العمل وفى الجعل ولو من غير جنسه ونوعه قبل الفراغ كالمبيع في زمن الخيار، سواء ما قبل الشروع في العمل أو بعده، لانه عقد جائز، فلو قال: من رد ضالتي فله عشرة، ثم قال من ردها فله خمسة أو عكس فالاعتبار بالاخير من قوليه، أما بعد الشروع ففائدته وجوب أجرة المثل له، لان النداء الاخير فسخ للاول، والفسخ في أثناء العمل يقتضى
الرجوع إلى أجرة المثل، ومحله قبل الشروع أن يعلم العامل بالتغيير، فإن لم يعلم به فيما إذا كان معينا ولم يعلن به الملتزم فيما إذا كان غير معين، هكذا أفاده في النهاية.
وقال الغزالي في الوسيط: ينقدح أن يقال: يستحق أجرة المثل وهو الراجح وقال الماوردى والرويانى وأقره السبكى: يستحق الجعل الاول، كما أقر ذلك البلقينى وغيره، فعلى الاول لو عمل من سمع النداء الاول خاصة، ومن سمع النداء الثاني استحق الاول نصف أجرة المثل والثانى نصف المسمى الثاني، وعلى قول الماوردى والرويانى والسبكي والبلقيني للاول نصف الجعل الاول وللثاني نصف الثاني.
أما التغيير بعد الفراغ فلا يؤثر، لان المال قد لزم، ويتوقف لزوم الجعل على تمام العمل، ولهذا قال النووي: ولو مات الآبق في بعض الطريق أو هرب فلا شئ للعامل.
قال الشراح: لانه لم يرده والاستحقاق معلق بالرد، ويخالف موت أجير الحج في أثناء العمل فإنه يستحق من الاجرة بقدر ما عمله في الاصح لان القصد بالحج الثواب، وقد حصل للمحجوج عنه الثواب بالبعض، والقصد هنا الرد ولم يوجد، ولو لم يجد المالك سلم المردود إلى الحاكم واستحق الجعل، فإن لم يكن حاكم أشهد واستحقه، ويجرى ذلك في سائر ما يتلف من محال الاعمال.(15/126)
(فرع)
إذا اختلف المالك والعامل فقد قال النووي رضى الله عنه يصدق المالك بيمينه إذا أنكر شرط الجعل أو سعى العامل اه.
والاول كأن يقول: ما شرطت الجعل، أو شرطته في شئ آخر.
والثانى كأن يقول: لم ترده أنت وانما رده غيرك، أو عادت الضالة بنفسها
من غير سعى منك، لان الاصل عدم الرد والشرط وبراءة ذمته، فلو اختلفا بعد الاستحقاق في قدر الجعل أو جنسه أو صفته أو في قدر العمل كأن قال شرطت مائة على رد ضالتين فقال العامل بل على رد هذا فقط تحالفا، وللعامل أجرة المثل كما في القراض والاجارة ن كل هذا إذا اختلفا بعد الفراغ من العمل والتسليم، أو قبل الفراغ فيما إذا وجب للعامل قسطه من العمل الذى عمله وجعالة، فان كان العمل مضبوطا مقدرا فاجارة ولو احتاج إلى تردد غير مضبوط فجعالة والمراد أنه يجوز عقد الاجارة في الشق الاول دون الثاني، ويد العامل على المأخوذ إلى رده يد أمانة.
ولو رفع يده عنه وخلاه بتفريط كأن خلاه بمضيعة ضمنه لتقصيره، وان خلاه بلا تفريط كأن خلاه عند الحاكم لم يضمنه ونفقته على مالكه، فان انفق عليه مدة الرد فمتبرع الا ان أذن له الحاكم فيه أو أشهد عند فقده ليرجع، والله تعالى أعلم بالصواب.(15/127)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب السبق والرمى
تجوز المسابقة والمناضلة لما روى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سابق بين الخيل، المضمرة منها، من الحفيا إلى ثنية الوداع.
وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق وروى أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت له ناقه يقال لها العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقالوا يا رسول الله سبقت العضباء، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه حق على الله أن لا يرتفع من هذه القذرة شئ إلا وضعه.
وروى سلمة بن الاكوع قال: أتى عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ
نترامى فقال (حسن هذا لعبا، ارموا يا بنى اسماعيل، فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع ابن الادرع، فكف القوم أيديهم وقسيهم وقالوا غلب يا رسول الله من كنت معه، قال ارموا وأنا معكم جميعا) فإن كان ذلك للجهاد فهو مندوب إليه لما رَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول على المنبر (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) إلا إن القوة هي الرمى.
قالها ثلاثا وروى عقبة بْنِ عَامِرٍ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول (ارموا واركبوا، ولان ترموا أحب إلى من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا ثلاثة، ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه بقوسه.
ومن علمه الله الرمى فتركه رغبة عنه فنعمة كفرها، وان الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه المحتسب فيه الخير، والرامي، ومنبله)
(فصل)
ويجوز ذلك بعوض لما روى أنه سئل عثمان رضى الله عنه أكنتم تراهنون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ نعم.
راهن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فرس له فجاءت سابقة فهش لذلك وأعجبه، والرهن(15/128)
لا يكون إلا على عوض، ولان في بذل العوض فيه تحريضا على التعلم والاستعداد للجهاد.
(فصل)
ويجوز أن يكون العوض منهما، ويجوز أن يكون من أحدهما ويجوز أن يبذله السلطان من بيت المال، ويجوز أن يكون من رجل من الرعية لانه إخراج مال لمصلحة الدين فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله، ولا يجوز إلا على عوض معلوم إما معينا أو موصوفا في الذمة، لانه عقد معاوضة فلم يجز إلا على عوض معلوم كالبيع، ويجوز على عوض حال ومؤجل لانه
عوض يجوز أن يكون عينا ودينا فجاز أن يكون حالا ومؤجلا كالثمن في البيع،
(فصل)
فإن كان العوض من أحدهما أو من السلطان أو من رجل من الرعية فهو كالجعالة، وان كان منهما ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يلزم كالاجارة وهو الصحيح لانه عقد من شرط صحته أن يكون العوض والمعوض معلومين فكان لازما كالاجارة
(والثانى)
أنه لا يلزم كالجعالة، لانه عقد يبذل العوض فيه على ما لا يوثق به فلم يلزم كالجعالة.
فان قلنا إنه كالاجارة كان حكمهما في الرهن والضمين حكم الاجارة وحكمهما في خيار المجلس، وخيار الشرط حكم الاجارة، ولا يجوز لواحد منهما فسخه بعد تمامه، ولا الزيادة ولا النقصان بعد لزومه، كما لا يجوز ذلك في الاجارة.
وإن قلنا إنه كالجعالة كان حكمه في الرهن والضمان حكم الجعالة، وقد مضى ذلك في كتاب الرهن والضمان، فأما الفسخ والزيادة والنقصان فإن كان قبل الشروع فيه أو بعد الشروع فيه وهما متكافئان فلكل واحد منهما أن يفسخ ويزيد وينقص، لانه عقد جائز لا ضرر على أحد في فسخه والزيادة والنقصان فيه.
وان كانا غير متكافئين نظرت، فإن كان الذى له الفضل هو الذى يطلب الفسخ أو الزيادة جاز، لانه عقد جائز لا ضرر على صاحبه في الفسخ والزيادة فيه، فملك الفسخ والزيادة فيه.
وان كان الذى عليه الفضل هو الذى يطلب الفسخ أو الزيادة ففيه وجهان(15/129)
(أحدهما)
له ذلك، لانه عقد جائز فملك فسخه والزيادة فيه
(والثانى)
ليس له لانا لو جوزنا ذلك لم يسبق أحد أحدا، لانه متى لاح له أن صاحبه يغلب فسخ أو طلب الزيادة فيبطل المقصود.
(الشَّرْحُ) حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ متفق عليه عند الشيخين، ورواه أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ (سابق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الخيل فأرسلت التى ضمرت منها وأمدها الحفياء إلى ثنية الوداع، والتى لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق) وزاد البخاري قال، قال سفيان (من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة.
ومن ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق ميل.
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه عَنْ ابْنُ عُمَرَ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سابق بين الخيل وفضل القرح في الغاية) أما حديث أنس بن مالك فقد رواه أحمد والبخاري بلفظ (كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقة تسمى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه) أما حديث سلمة بن الاكوع فقد أخرجه أحمد والبخاري بلفظ (مَرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نفر من أسلم ينتضلون بالسوق فقال: ارموا يا بنى اسماعيل فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بنى فلان، قال فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما لكم لا ترمون؟ قالوا كيف نرمى وأنت معهم؟ فقال ارموا وأنا معكم) وفى رواية عند ابن حبان والبزار عن أبى هريرة في مثل هذه القصة (وأنا مع ابن الادرع وعند الطبراني من حديث حمزة بن عمرو الاسلمي (وأنا مع محجن بن الادرع) وفى رواية (وأنا مع جماعتكم) وفى رواية للطبراني: أنهم قالوا من كنت معه فقد غلب، وكذا في رواية ابن اسحاق) أما حديث عقبه بن عامر الجهنى فقد رواه أحمد ومسلم، ولفظه (سمعت(15/130)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: واعدوا لهم ما استطعتم من قوة.
ألا إن القوة الرمى، الا ان القوة الرمى، الا ان القوة الرمى.
وفيهما عنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عيله وسلم (من علم الرمى ثم تركه فليس منا) وعنه ايضا عند احمد واصحاب السنن مرفوعا (ان الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر نفر الجنة، صانعه الذى يحتسب في صنعه الخير، والذى يجهز به في سبيل الله.
والذى يرمى به في سبيل الله.
وقال ارموا واركبوا.
فان ترموا خير لكم من ان تركبوا.
وقال كل شئ يلهو به ابن آدم باطل الا ثلاثا: رميه عن قوسه وتاديبه فرسه، وملاعبته اهله، فانهن من الحق، وفى اسناده خالد بن زيد أو ابن يزيد فيه مقال.
وقال فيه ابن حجر في التقريب: خالد ابن زيد أو بن يزيد الجهنى عن عقبة في الرمى، مقبول من الثالثة.
قلت: وبقية اسناده ثقات، وقد اخرجه الترمذي وابن ماجه من غير طريقة.
واخرجه ايضا ابن حبان، وفى رواية ابى داود زيادة (ومن ترك الرمى بعدما علمه فانها نعمة تركها) وفى هذا الاحاديث وغيرها مما سياتب في موضعه دليل على جواز المسابقة ومشروعيتها على جعل وعلى غير جعل، فان كان الجعل من غير المتسابقين كالامام يجعله للسابق جائزة جاز أو من احدهما جاز عند الجمهور.
وكذا إذا كان معهما ثالث محلل بشرط ان لا يخرج من عنده شيئا ليخرج العقد عن صورة القمار وعلى تفصيل سيأتي في موضعه.
وقد وقع الاتفاق على جواز المسابقة بغير عوض لكن قصرها مالك والشافعي على الخف والحافر والنصل، وخصه بعض العلماء بالخبل.
واجازه
عطاء في كل شئ.
وقد حكى عن ابى حنيفة ان عقد المسابقة على مال باطل.
وحكى عن مالك ايضا انه لا يجوز ان يكون العوض من غير الامام، وحكى ايضا عن مالك وابن الصباغ وابن خيران انه لا يصح بذل المال من جهتهما وان دخل المحلل.
وروى عن احمد بن حنبل انه لا يجوز السبق على الفيلة، وروى عن اصحابنا انه يجوز(15/131)
على الاقدام مع العوض.
وقوله (ضمرت)) لفظ البخاري التى اضمرت والتى لم تضمر بسكون الضاد المعجمة والمراد به ان تعلف الخيل حتى تسمن وتقوى ثم يقلل علفها (بقدر القوت) وتدخل بيتا وتغشى بالجلال حتى يحمى فتعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها وقويت على الجرى) هكذا في الفتح والنهاية.
وزاد في الصحاح اربعين يوما.
وقوله (الحفياء) بفتح فسكون بعد ياء ممدودة وقد تقصر.
وحكى الحازمى تقديم الياء على الفاء، وحكى القاضى عياض ضم اوله وخطاه.
وقوله (ثنية الوداع (1)) من منعطفات الجبال قرب المدينة، وكانوا يودعون الحاج منها.
وقوله (قعود) بفتح القاف، وهو ما استحق الركوب من الابل وقال الجوهرى: هو البكر حتى يركب، واقل ذلك ان يكون ابن سنتين إلى ان يدخل في السادسة فيسمى جملا.
وقال الازهرى: لا يقال الا للذكر، ولايقال للانثى قعودة، وانما يقال لها قلوص.
قال وقد حكى الكسائي في النوادر قعودة للقلوص وكلام الاكثر على غيره.
وقال الخليل بن احمد: القعود من الابل ما يقتعده الراعى لحمل متاعه.
قوله (تسمى العضاء) بفتح العين وسكون الضاد المعجمة ومد.
قوله (وكانت لا تسبق) زاد البخاري: قال حميد: أو لا تكاد تسبق.
شك منه وهو
موصول باسناده الحديث المذكور كما قاله ابن حجر.
وقوله ان لا يرفع شيئا الخ فر رواية موسى بن اسماعيل: ان لا يرتفع.
وكذلك في رواية للبخاري، وفى
__________
(1) يزعم بعض من لم يرزق نعمة التمحيص والتحقيق أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل المدينة منها في الهجرة إليها، وقابله أهلها بقولهم (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع) وهذا غير صحيح لانه صلى الله عليه وسلم إنما دخلها من ثنية بنى النجار وهذه في الجنوب وتلك في شمال المدينة.
وإنما قيلت هذه الانشودة من جارية نذرت أن تضرب بين يديه فقال لها: إن كنت نذرت فافعلي، فأخذت تضرب بالدف بين يديه وهى تغنى بها.
هكذا رواها أبو داود وساقها النووي في كتاب النذور من المجموع، أنها قيلت وهو عائد من غزاة تبوك.
ولم يرد أنها قيلت في الهجرة من طريق معتبر.(15/132)
رواية للنسائي (أن لا يرفع شئ نفسه في الدنيا) ولم اطلع على رواية في طرق الحديث فيه لفظ (القذر) والله اعلم فإذا عرف ان السبق والرمى قد ثبتا بالنسبة المستفيضة عرف ايضا انهما ثبتا بالاجماع، والسبق والرماية عنصران فارهان من عناصر مكونات المرء المسلم القوى.
وقد بلغ من حرص النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ يهتم اصحابه رضوان الله عليهم بهما حرصا جعله يحضر مبارياتهم ويشترك فيها ويحث على حضورها ويقول صلى الله عليه وسلم (احضروا الهدف فان الملائكة تحضره، وان بين الهدفين لروضة من رياض الجنة) قال المارودى في الحاوى الكبير: فإذا ثبت جواز السبق والرمى فهو مندوب إليه ان قصده به أهبة الجهاد، ومباح ان قصد به غيره، لانه قد يكون عدة للجهاد ويجوز أخذ العوض في المسابقة والمناضلة منهم ومن السلطان على ما سنصفه.
وحكى عن ابى حنيفة انه منع من اخذ العوض عليه بكل حال، فمن متأخرى اصحابنه من انكره من مذهبه وجعله موافقا.
وقال مالك: ان اخرجه السلطان من بيت المال جاز، وان أخرجه المتسابقون المتناضلون لم يجز، استدلالا بأمرين
(أحدهما)
انه اخذ عوض على لعب فاشبه اخذه على اللهو والصراع
(والثانى)
انه أخذ مال على غير بدل فاشبه القمار.
وَدَلِيلُنَا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا سبق الا في خف أو حافر أو نصل.
فلما استثناه في الاباحة دل على اختصاصه بالعوض، ولولا العوض لما احتاج إلى الاستثناء لجواز جميع الاستباق بغير عوض.
اه وقول المصنف: لما روى انه سئل عثمان رضى الله عنه الخ.
يؤخذ على المصنف فيه أمور: (أحدها) انه ساق الحديث بقوله روى بصيغة التمريض، والحديث رواه احمد في مسنده والدارمى في سننه والدارقطني والبيهقي، ولفظ احمد باسناده إلى انس وقيل له (أكنتم تراهنون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؟ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ(15/133)
صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم والله لقد راهن على فرس يقال له: سبحة فسبق الناس فبهش (1) لذلك واعجبه) ورواية الدارمي والدارقطني والبيهقي عن ابى لبيد قال: اتينا انس بن مالك واخرج نحوه البيهقى من طريق سليمان بن حزم عن حماد بن زيد أو سعيد بن زيد عن واصل مولى ابى عتبة قال حدثنى موسى بن عبيد قال كنا في الحجر بعدما صلينا الغداة فما اسفرنا إذا فينا عبد الله بن عمر فجعل يستقر بنا رجلا رجلا ويقول: صليت يا فلان حتى قال: أين صليت يا أبا عبيد؟ فقلت: ههنا، فقال: بخ لخ، ما يعلم صلاة افضل عند الله من صلاة الصبح جماعة
يوم الجمعة، فسألوه: أكنتم تراهنون عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نعم، لقد راهن على فرس يقال لها سبحة فجاءت سابقة) ثانيها: انه قال سئل عثمان ورواية احمد السؤال كان موجها إلى أنس.
ورواية الدارمي والدارقطني والبيهقي من حديث ابى لبيد قال: اتينا أنس بن مالك، واخرج نحوه البيهقى من طريق سليمان بن حزم التى اوردناها متصلة مسندة إلى ابن عمر وليس في شئ منها سئل عثمان رضى الله عنه.
ثالثها.
رواية بعض الفاظ الخبر بالمعنى كقوله.
فهش لذلك بحذف الباء، وقد تكون هذه الاخيرة من أخطاء النساخ أو الطباعين.
أما بعد فإذا صح جواز السبق بعوض وغير عوض فهو بغير عوض من العقود الجائزة دون اللازمة، وان كان معقودا على عوض ففى لزومه قولان.
(أحدهما)
انه من العقود اللازمة كالاجارة، ليس لواحد منهما فسخه بعد تمامه الا عن تراض منهما بقسمته، ولا يدخله خيار الثلاث، وفى دخول خيار المجلس فيه وجهان كالاجارة، فان شرعا في السبق والرمى سقط خيار المجلس فيه لان الشروع في العمل رضى بالامضاء.
(والقول الثاني) انه من العقود الجائزة دون اللازمة كالجعالة، وبه قال أبو حنيفة، وبكون كل واحد من المتسابقين قبل الشروع في السبق وبعد الشروع فيه بالخيار ما لم يستقر السبق وينبرم، فان شرط فيه اللزوم بطل.
__________
(1) بهش بالباء الموحدة والشين المعجمة أي هش وفرح.(15/134)
فإن قيل بلزومه على القول الاول فدليله شيئان.
(أحدهما)
أنه عقد ومن شرط صحته أن يكون معلوم العوض والمعوض، فوجب أن يكون لازما كالاجارة طردا والجعالة عكسا.
(والثانى)
أن ما أفضى إلى إبطال المقصود بالعقد كان ممنوعا منه في العقد، وبقاء خياره فيه مفض إلى إبطال المقصود به، لانه إذا توجه السبق على أحدهما وفسخ لم يتوصل إلى سبق ولم يستحق فيه عوض، والعقد موضوع لاستقراره واستحقاقه فنافاه الخيار وضاهأه اللزوم.
فإن قيل بجوازه على القول الثاني فدليله شيئان أحدهما أن ما صح من عقود المعاوضات إذا قابل غير موثوق بالقدرة عليه عند استحقاقه كان من المعقود الجائزة دون اللازمة كالجعالة طردا، لانه لا يثق بالغلبة في السبق والرمى كما لا يثق بوجود الضالة في الجعاله، وعكسه الاجاره، متى لم يثق بصحة العمل منه لم يصح العقد، والثانى أن ماكان إطلاق العوض فيه موجبا لتعجيل استحقاقه كان جائزا ولا يكون لازما وحاصل ذلك أن المسابقة إذا كانت بين اثنين أو فريقين لم تخل إما أن يكون العوض منهما أو من غيرهما نظرت، فان كان من الامام جاز سواء كان من ماله أو من بيت المال، لان في ذلك مصلحة وحثا على تعلم الجهاد ونفعا للمسلمين، وإن كان غير إمام جاز له بذل العوض من ماله، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وقال مالك: لا يجوز بذل العوض من غير الامام، لان هذا مما يحتاج إليه للجهاد، فاختص به الامام كتولية الولايات وتأمير الامراء ولصحة العقد على السبق بالاعواض خمسة شروط.
(أحدها) التكافؤ فيما يسبقان عليه، وفيما يتكافآن به وجهان، أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه، أن التكافؤ بالتجانس فيسابق بين فرسين أو بغلين أو حمارين أو بعيرين ليعلم بعد التجانس أيهما السابق ولا يجوز أن يسابق بين فرس وبغل، ولا بين حمار وبعير، لان تفاضل الاجناس(15/135)
معلوم، وأنه لا يجرى البغل في شوط الفرس على ما سيأتي قريبا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أن التكافؤ في الاستباق غير معتبر بالتجانس.
(والشرط الثاني) الاستباق عليها مركوبة لتنتهي إلى غايتها بتدبير راكبها فان شرط إرسالها لتجرى مسابقة بأنفسها لم يجز وبط العقد عليها لانها تتنافر بالارسال ولا تقف على غاية السبق، وإنما يصح ذلك في الاستباق بالطيور إذا قيل بجواز الاستباق عليها لما فيه من الهداية إلى قصد الغاية، وأنها لا تتنافر في طيرانها.
(والشرط الثالث) أن تكون الغاية معلومه لانها مستحقه في عقد معاوضه فان وقع العقد على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر لم يجز لامرين، أحدهما: جهالة الغاية.
والثانى: لانه يفضى ذلك لاجرائهما حتى يعطبا ويتلفا.
(والشرط الرابع) أن تكون الغاية التى يمتد إليها شوطهما يحتملها الفرسان ولا ينقطعان فيها، فان طالت عن انتهاء الفرسين إليها الا عن انقطاع وعطب بطل العقد لتحريم ما أفضى إلى ذلك.
(والشرط الخامس) أن يكون العوض فيه معلوما كالاجور والاثمان ن فان أخرجه غير المتسابقيه جاز أن يتساويا فيه ويتفاضلا، لان الباذل للسبق مخير بين القليل والكثير، فجاز أن يكون مخير بين التساوى في التفضيل، ويجوز أن يتماثل جنس العوضين وان لم يختلف.
قال الشافعي رضى الله عنه: والاسباق ثلاثه سبق يعطيه الوالى أو الرجل غير الوالى من ماله متطوعا به، وذلك مثل أن يسبق بين الخيل من غايه إلى غايه فيجعل للسابق شيئا معلوما وان شاء جعل للمصلى، والثالث والرابع والذى يليه بقدر ما رأى، فما جعل لهم كان على ما جعل لهم، وكان مأجورا عليه أن يؤدى فيه وحلالا لمن أخذه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتجوز المسابقه على الخيل والابل بعوض، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لا سبق الا في نصل أو خف أو حافر) ولان(15/136)
الخيل تقاتل عليها العرب والعجم والابل تقاتل عليها العرب فجازت المسابقة عليها بالعوض واختلف قوله في البغل والحمار، فقال في أحد القولين تجوز المسابقة عليهما بعوض لحديث أبى هريرة، ولانه ذو حافر أهل فجازت المسابقة عليهما بعوض كالخيل
(والثانى)
لا تجوز لانه لا يصلح للكر والفر، فأشبه البقر واختلف أصحابنا في المسابقة على الفيل بعوض، فمنهم من قال: لا تجوز، لانه لا يصلح للكر والفر.
ومنهم من قال: تجوز لحديث أبى هريرة، ولانه ذو خف يقاتل عليه فأشبه الابل.
واختلفوا في المسابقة على الحمام، فمنهم من قال لا تجوز المسابقة عليها بعوض وهو المنصوص لحديث أبى هريرة، ولانه ليس من آلات الحرب فلم تجز المسابقة عليه بعوض، ومنهم من قال تجوز لانه يستعان به على الحرب في حمل الاخبار فجازت المسابقة عليه بعوض كالخيل.
واختلفوا في سفن الحرب كالزبازب والشذوات، فمنهم من قال تجوز، وهو قول أبى العباس، لانها في قتال الماء كالخيل في قتال الارض، ومنهم من قال لا تجوز، لان سبقها بالملاح لا بمن يقاتل فيها واختلفوا في المسابقة على الاقدام بعوض، فمنهم من قال تجوز لان الاقدام في قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان، ومنهم من قال لا تجوز، وهو المنصوص لحديث أبى هريرة، ولان المسابقة بعوض أجيزت ليتعلم بها ما يستعان به في الجهاد، والمشى بالاقدام لا يحتاج إلى التعلم
واختلفوا في الصراع، فمنهم من قال يجوز بعوض، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صارع يزيد بن ركانه على شاء فصرعه، ثم عاد فصرعه، ثم عاد فصرعه، فأسلم ورد عليه الغنم.
ومنهم من قال: لا يجوز.
وهو المنصوص لحديث أبى هريرة، ولانه ليس من آلات القتال.
وحديث يزيد بن ركانة محمول على أنه فعل ذلك ليسلم، ولانه لما أسلم رد عليه ما أخذ منه.(15/137)
(الشرح) حديث ابى هريرة أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ولم يذكر فيه ابن ماجه: أو نصل، وأخرجه أيضا الشافعي والحاكم من طرق وصححه ابن القطان وابن حبان وابن دقيق العبد، وحسنه الترمذي وأعله يحيى بن سعيد القطان بالوقف، ورواه الطبراني وأبو الشيخ من حديث ابن عباس.
وأما حديث يزيد بن ركانة فقد رواه أبو داود بلفظ (عن محمد بن على بن ركانة أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم) وفى إسناده أبو الحسن العسقلاني وهو مجهول.
وأخرجه أيضا الترمذي من حديث العسقلاني أيضا عن أبى جعفر محمد بن ركانة وقال: غريب وليس إسناده بالقائم.
وروى أبو داود في المراسيل عن سعيد بن جبير قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالبطحاء فأتى عليه يزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد ومعه عير له فقال له: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ فقال ما تسبقني أي ما تجعله لى من السبق قال: شاة من غنمي، فصارعه فصرعه فأخذ الشاة، فقال ركانة: هل لك في العود؟ ففعل ذلك مرارا، فقال يا محمد ما وضع جنبى أحد إلى الارض، وما أنت بالذى تصرعنى فأسلم ورد النبي صلى الله عليه وسلم عليه غنمه
قال الحافظ بن حجر: إسناده صحيح إلى سعيد بن جبير إلا أن سعيدا لم يدرك ركانة، قال البيهقى وروى موصولا وفى كتاب السبق لابي الشيخ من رواية عبيد الله بن يزيد المصرى عن حماد عن عمر بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مطولا.
ورواه أبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث أبى أمامة مطولا، وإسنادهما ضعيف وروى عبد الرزاق عن معمر عن يزيد بن أبى زياد، وأحسبه عن عبد الله ابن الحارث قال (صارع النبي صلى الله عليه وسلم أبا ركانة في الجاهلية وكان شديدا ن فقال شاة بشاة، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عاودني في اخرى، فصرعه النبي صلى الله علهى وسلم، فقال عاودني، فصرعه صلى الله عليه وسلم الثالثة، فقال أبو ركانة: ماذا أقول لاهلي؟ شاة أكلها ذئب! وشاة نشزت فما أقول في الثالثة؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كنا لنجمع عليك أن نصرعك فنغرمك خذ غنمك) هكذا وقع فيه: أبو ركانة والصواب ركانه.(15/138)
أما ألفاظ الفصل فقوله: لا سبق هو بفتح الباء.
المال الذى يسابق عليه، والنصل هو السهم، والخف للابل، والحافر للفرس والبغل والحمار، الظلف لسائر البهائم، والمخلب للطير، وقله كالزبازب جمع زبزب نوع من السفن منها الصغير والكبير والاول سريع خفيف، وكذك الشذوات وكلا اللفظين أعجمى أما الاحكام فقد فسر الشافعي رضى الله عنه حديث أبى هريرة بقوله: والخف الابل والحافر الخيل والنصل كل سهم أو ما يشابهه.
وقال في موضع ان الحافر الخيل والبغال والحمير لانها تركب للجهاد كالابل ويلقى عليها العدو كالخيل وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حرب هوازن على بغلته الشهباء فصار في الحافر قولان.
فأما النصل فالمراد به السهم المرمى به عن قوس، وان كان النصل اسما لحديدة السهم فالمراد جميع السهم، فهذه الثلاثة هي التى نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في جواز السبق بها، فاختلف قول الشافعي فيها فقال: يحتمل معنيين.
أحدهما أنها رخصة مستثناة من جمله محظورة لانه أخرج باستثنائه ما خالف حكم أصله، فعلى هذا لا يجوز أن يقاس على هذه الثلاثة غيرها، ويكون السبق مقصورا على التى تضمنها الخبر وهى الخف، والخف الابل وحدها والحافر وفيه قولان.
(أحدهما)
الخيل وحدها
(والثانى)
الخيل والبغال والحمير، والنصل وهو السهام ويكون السبق بما عداها محظورا.
والقول الثاني في المعنيين أن النص على الثلاثة أصل مبتدأ ورد الشرع ببيانه وليس بمستثنى، وان خرج مخرج الاستثناء لان المراد به التوكيد دون الاستثناء فعلى هذا يقاس على كل واحد من الثلاثة ما كان في معناها كما قيس على الستة في الربا ما وافق معناها، وعليه يكون التفريع، فيقاس على الخف السبق بالفيله لانها ذوات أخفاف كالابل، وهى في ملاقاة العدو أنكى من الابل.
وهل يقاس عليها السبق بالسفن والطيارات البحرية التى أطلقوا عليها الزبازب والشذوات أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.(15/139)
(أحدهما)
وهو قول ابن سريج يجوز السبق عليها لانها معدة لجهاد العدو في البحر وحمل ثقله كالابل في البر.
(والوجه الثاني) لا يجوز السبق عليها لان سبقها بقوة ملاحها دون المقاتل فيها، فأما بالزواريق الكبار والمراكب الثقال التى لم تجر العادة في لقاء العدو بمثلها فغير جائز على الوجهين معا هكذا أفاده الماوردى في الحاوى، فأما كون الحافر بالخيل والبغال والحمير نصا في أحد القولين لا نقلا من اسم الحافر
عليها وقياسا في القول الثاني لانها ذوات حوافر كالخيل وفى معناها، واختلف أصحابنا هل يقاس عليها السبق بالاقدام أم لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
(أَحَدِهِمَا)
وَبِهِ قَالَ أَبُو حنيفة: تجوز المسابقة بالاقدام بعوض وبغير عوض لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استبق هو وعائشة على أقدامهما، ولان السعي من قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان.
والوجه الثاني وهو الظاهر من مذهب الشافعي أن المسابقة بالاقدام لا تجوز مطلقا عند الماوردى في الحاوى ويشمل ما كان بغير عوض أو بعوض لانه سبق على فعلها من غير آلة فاشبه الطفرة والوثبة، ولان السبق على ما يستفاد بالتعليم ليكون باعثا على معاطاته، والسعى لا يستفاد بالتعليم، وقيد المصنف عدم الجواز على المذهب والمنصوص أنه ما كان بعوض.
قال الماوردى: فعلى هذا ان قيل: ان المسابقة بالاقدام لا تجوز فالمسابقة بالسباحة أولى أن لا تجوز، وان قيل بجوازها على الاقدام ففى جوازها بالسباحة وجهان
(أحدهما)
تجوز كالاقدام لان أحدهما على الارض والآخر في الماء.
(والوجه الثاني) أنها لا تجوز بالسباحه وان جازت بالاقدام لان الماء مؤثر في السباحه والارض غير مؤثرة في السعي أه.
وهذا كلام من لا يعرف قواعد السباحه وكونها علما ومهارة ولها قواعد لا تتأتى الا بالتعلم والتمرس مع لياقة البدن وقوته حتى تكون المهارة والتفوق والسبق.
وقد تطورت أسباب الاعداد للجهاد فكان منها الضفادع البشريه الذين يغوصون في أعماق البحار ليدمروا السفن الحربيه وقلاع الثغور، وهى أنكى(15/140)
على الاعداء من ركوب الخيل والحمير.
ولولا مهارة عساكر الاسلام وجند القرآن في علوم البحار وأولها إتقان السباحة ما تسنى للصحابة أن ينتصروا على
الروم في معركه ذات الصوارى في الاسكندرية ولا طرقوا بأيديهم القوية أبواب القسطنطينية على عهد معاوية وكانت قيادة الاسطول لولده يزيد.
وأما السبق بالصراع أو المصارعة فقد كانت تقوم عند السلف على قوة البدن وعلى إحسان القبض على الخصم وإلقائه أرضا وهى في زماننا هذا تقوم على أضرب منها الحرة والرومانية واليابانية، ولكل نوع منها أسلوبه في صرع الخصم، وهى تهدف جميعا إلى إحسان القبض على الخصم وإجباره على أن يتخذ وضعا ببدنه يعجز معه عن المقاومة.
وقد اختلف أصحابنا في السبق بالصراع على وجهين:
(أحدهما)
وهو مذهب أبى حنيفة أنه جائز لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه خرج إلى الابطح في قصة يزيد بن ركانة، وقد مضى تخريج طرقها وبيان وجه الحق فيها وهى روايات بمجموعها وإن لم يصح منها واحدة إلا أنها تنهض للاحتجاج.
والوجه الثاني وهو ظاهر مذهب الشافعي، والمنصوص عنه أنه لا يجوز، فالسبق على المشابكه بالايدي لا تجوز.
وإن قيل بجوازه في الصراع ففى جوازه بالمشابكة وجهان كالسباحة.
ومنها اختلاف أصحابنا في السبق بالحمام وجهان، وهو نوع من الحمام الذكى الصبور الذى يعبر البحار ويقطع الفيافي والقفار حتى يصل إلى غايته بسرعة فائقة يحمل الاخبار والكتب، وكان لامراء الاسلام وقواد الجيوش أبراج لتلقى هذه الحمائم فيفضون كتبها بأنفسهم، فمن جيش يطلب النجدة إلى قائد يعلن هزيمة عدوه، فكان لهذا الحمام أثره وفعله، وهو سلاح من أسلحة الجيوش كالبرق وسلاح الاشارة، فالوجه الاول يجوز لانها تؤدى أخبار المجاهدين بسرعة.
والوجه الثاني: لا يجوز لانها لا تؤثر في جهاد العدو.
وأما السبق بنطاح الكباش ونقار الديكة، فهو أسفه أنواع السبق وهو باطل لا يختلف أحد من أهل العلم
في عدم جوازه.
والله أعلم بالصواب(15/141)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وتجوز المسابقة بعوض على الرمى بالنشاب والنبل، وكل ماله نصل يرمى به كالحراب والرانات لحديث أبى هريرة، ولانه يحتاج إلى تعلمه في الحرب فجاز أخذ العوض عليه، ويجوز على رمى الاحجار عن المقلاع، لانه سلاح يرمى به فهو كالنشاب وأما الرمح والسيف والعمود ففيه وجهان، أحدهما تجوز المسابقه عليها بعوض لانه سلاح يقاتل به فأشبه النشاب، والثانى لا تجوز لان القصد بالمسابقة التحريض على تعلم ما يعد للحرب، والمسابقة بهذه الآلات محاربه لا مسابقه، فلم تجز لسبق على أن يرمى بعضهم بعضا بالسهم
(فصل)
وأما كرة الصولجان ومداحاة الاحجار ورفعها من الارض، والمشابكة والسباحه واللعب بالخاتم والوقوف على رجل واحدة وغير ذلك من اللعب الذى لا يستعان به على الحرب، فلا تجوز المسابقة عليها بعوض، لانه لا يعد للحرب، فكان أخذ العوض فيه من أكل المال بالباطل.
(فصل)
وإن كانت المسابقه على مركوبين فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لا تجوز الا على مركوبين من جنس واحد كالفرسين والبعيرين، فإن سابق بين فرس وبعير أو فرس وبغل لم يجز لان تفاضل الجنسين معلوم، وأنه لا يجرى البغل في شروط الفرس كما قال الشاعر: إن المذرع لا تغنى خؤولته كالبغل يعجز عن شوط المحاضير ويجوز أن يسابق بين العتيق والهجين، لان العتيق في أول شوطه أحد وفى آخره ألين، والهجين في أول شوطه ألين وفى آخره أحد.
فربما صارا عند الغاية متكافئين.
ومنهم من قال، وهو قول أبى إسحاق انه يعتبر التكافؤ بالتقارب في
السبق، فإن تقارب جنسان كالبغل والحمار جاز، لانه يجوز أن يكون كل واحد منهما سابقا والآخر مسبوقا، وإن تباعد نوعان من جنس كالهجين والعتيق والبختي والنجيب لم يجز، لانه يعلم أن أحدهما لا يجرى في شوط الآخر.
قال الشاعر: إن البراذين إذا أجريتها مع العتاق ساعة أعنيتها، فلا معنى للعقد عليه
(فصل)
ولا تجوز إلا على مركوبين معينين لان القصد معرفة جوهرهما، ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين.(15/142)
(الشرح) السلاح نوعان نوع يفارق اليد ونوع لا يفارق اليد، فكل سلاح فارق يد صاحبه كالسهام والحراب ومقاليع الاحجار وقسى البندق ورصاصة فهو جائز بالاتفاق، أما ما لا يفارق يد صاحبه من السيوف والرماح والاعمدة فقد اختلف أصحابنا فيها على وجهين.
أحدهما: يجوز كالمفارق ليده، لان جهاد العدو بها.
والوجه الثاني: لا يجوز، لانه يكون بذلك محاربا لا مسابقا، فأما السبق بالمداحى وأكرة الصولجان وما ذكره المصنف من أنواع اللعب فعلى الوجه الذى ذكره المصنف لا وجه غيره، وفرق الماوردى بين السبق بالمداحى وهى إحداث حفرة يلقون بأحجار مستديرة فيها فمن وقع حجره فيها فقد قمر وبين الدحو بالحجر الثقيل أو رفعه من الارض لاختبار القوة والارتياض بها وهو في رياضة حمل الاثقال فيكون السبق عليه كالسبق على الصراع فيكون على وجهين.
(فرع)
عرفت فيما أسلفنا في الفصل قبلة أن لصحة السبق على الاعواض المبذولة خمسة شروط.
أحدها: التكافؤ فيما يسبقان عليه وفيما يتكافآن به وجهان، أحدهما: وهو الظاهر من المذهب وما عليه جمهور الاصحاب أن التكافؤ بالتجانس، فيسابق بين
فرسين أو بغلين أو حمارين أو بعيرين ليعلم بعد التجانس أيهما السابق، ولا يجوز أن يسابق بين فرس وبغل، ولا بين حمار وبعير، لان تفاضل الاجناس معلوم، وأنه لا يجرى البغل في شوط الفرس كما قال الشاعر في البيت الذى ساقه المصنف والمذرع وهو الذى أمه أشرف من أبيه كما يقول الفرزدق: إذا باهلي عنده حنظليه
* له ولد منها فذاك المذرع وإنما سمى البغل مذرعا بالعلامتين المستديرتين السوداوين في ذراعيه الاماميتين ورثهما من الحمار، والمحاضير السريعة العدو واحدها محضار، والعتيق عربي الابوين، والهجين عربي الاب أعجمى الام، والبختي إبل بطيئة العدو، والنجيب الحسن الخلق السريع وانجبته استخلصته، ولكن يجوز السبق بين عتاق الخيل(15/143)
وهجانها لان جميعها جنس، والعتيق في أول الشوط احد من الهجين، والهجين في أول الشوط ألين وفى آخره أحد فربما صار عند الغاية متكافئين، وهذا وجه
(والثانى)
وهو قول أبى إسحاق المروزى: أن التكافؤ في الاستباق غير معتبر بالتجانس، وإنما هو معتبر بأن يكون كل واحد من المستبقين يجوز أن يكون سابقا ويجوز أن يكون مسبوقا، فإن جوز ذلك بين فرس وبغل أو بين بعير وحمار جاز السبق بينهما، وإن علم يقينا أن أحدهما يسبق الآخر عند الاختيار لم يجز السبق بينهما، ولو علم ذلك بين فرسين عتيق وهجين، أو بين بعيرين عربي وبختى لم يجز السبق بينهما، وكذلك لو اتفق الفرسان في الجنس، واختلفا في القوة والضعف فيمنع من الاستباق بينهما وهما من جنس واحد، وتجوز بينهما وهما من جنسين مختلفين اعتبارا بالجواهر دون التجانس.
والشرط الثاني من الشروط الخمسه: الاستباق عليها مركوبة لتنتهي إلى غايتها بتدبير راكبها، فإن شرط إرسالها لتجرى مسابقة بأنفسها لم يجز، وبطل العقد
عليها لانها تتنافر بالارسال، ولا تقف على غاية السبق، وإنما يصح ذلك في الاستباق بالطيور - إذا قيل بجواز الاستباق عليها لما فيه من الهداية إلى قصد الغاية وانها لا تتنافر في طيرانها، وبقية الشروط مضى ذكرها إجمالا، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا تجوز إلا على مسافة معلومة الابتداء والانتهاء لحديث ابْنِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق، ولانهما إذا تسابقا على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر إلى غير غاية لم يؤمن أن لا يسبق أحدهما الاخر إلى أن يعطبا، ولا يجوز أن يكون اجراؤه الا بتدبير الراكب لانهما إذا جريا لانفسهما تنافرا ولم يقفا على الغاية، وان تسابقا على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام فأكثر كان السبق له، فقد قال أبو على الطبري في الافصاح: يجوز ذلك عندي لانهما يتحاطان ما تساويا فيه، وينفرد(15/144)
أحدهما بالقدر الذى شرطه، فجاز كما يجوز في الرمى أن يتناضلا على أن يتحاطا ما تساويا فيه، ويفضل لاحدهما عدد.
قال أبو على الطبري: ورأيت من أصحابنا من منع ذلك وأبطله ولا أعرف له وجها.
(فصل)
وإن كان المخرج للسبق هو السلطان أو رجل من الرعية لم يخل إما أن يجعله للسابق منهم أو لبعضهم أو لجميعهم، فإن جعله للسابقه بأن قال: من سبق منكم فله عشرة جاز، لانه يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق ليأخذ السبق فيحصل المقصود، فإن سبق واحد منهم استحق العشرة لانه سبق، وإن سبق إثنان أو ثلاثة وجاءوا مكانا واحدا اشتركوا في العشرة لانهم اشتركوا في
السبق، فإن جاءوا كلهم مكانا واحدا لم يستحق واحد منهم لانه لم يسبق منهم أحد، وإن جعله لبعضهم بأن جعله للمجلى والمصلى ولم يجعل للباقى جاز، لان كل واحد منهم يجتهد أن يكون هو المجلى أو المصلى ليأخذ السبق فيحصل المقصود وإن جعله لجميعهم نظرت، فإن سوى بينهم بأن قال: من جاء منكم إلى العاية فله عشرة لم يصح، لان القصد من بذلك العوض هو التحريض على المسابقة وتعلم الفروسية، فإذا سوى بين الجميع عليم كل واحد منهم أنه يستحق السبق تقدم أو تأخر فلا يجتهد في المسابقة فيبطل المقصود وإن شرط للجميع وفاضل بينهم بأن قال للمجلى وهو الاول مائة، وللمصلى وهو الثاني خمسون، وللتالى وهو الثالث أربعون، وللبارع وهو الرابع ثلاثون وللمرتاح وهو الخامس عشرون، وللحظى وهو السادس خمسة عشر، وللعاطف وهو السابع عشرة، وللرمل وهو الثامن ثمانية، وللطيم وهو التاسع خمسة.
وللسكيت وهو العاشر درهم، وللفسكل وهو الذى يجئ بعد الكل نصف درهم ففيه وجهان (أحدهما يجوز لان كل واحد منهم يجتهد ليأخذ الاكثر
(والثانى)
لا يجوز لان كل واحد منهم يعلم انه لا يخلوا من شئ تقدم أو تأخر، فلا يجتهد في المسابقة، وان جعل للاول عشرة وللثالث خمسه وللرابع اربعة ولم يجعل للثاني شيئا فييه وجهان (احدهما) يصح ويقوم الثالث مقام الثاني.
والرابع مقام الثالث، لان الثاني بخروجه من السبق يجعل كان لم يكن
(والثانى)
انه يبطل، لانه فضل الثالث والرابع على من سبقهما.(15/145)
(الشرح) حديث ابن عمر مضى تخريجه في اول هذه الفصول وشرحنا غريبه وطريقة.
اما الاحكام فانه يشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة وان يكون لابتداء عدوهما واخره غاية لا يختلفان فيها، لان الغرض معرفة أسبقهما،
ولا يعلم ذلك الا بتساويهما في الغاية، ولان احدهما قد يكون مقصرا في أول عدوه سريعا في انتهائه.
وقد يكون عكس ذلك فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه أو احواله.
ومن الخيل ما هو أصبر والقارح أصبر من غيره وقد روى أبو داود في سننه عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم (سبق بين الخيل وفضل القرح في الغاية) وسبق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وذلك ستة أميال أو سبعة، وبين التى لم تضمر من الثنية إلى مسجد بنى زريق، وذلك ميل أو نحوه.
فان استيفاء بغير غاية لينظرا أيهما يقف أولا لم يجز، لانه يؤدى إلى أن لا يقف احدهما حتى ينقطع فرسه ويتعذر الاشهاد على السبق فيه ويشترط في المسابقة إرسال الفرسين أو البعيرين دفعة واحدة، فان ارسل احدهما قبل الاخر أو لا لم يجز هذا في المسابقة بعوض لانه قد لا يدركه مع كونه اسرع منه لبعد ما بينهما، ويكون عند اول المسافة من يشاهد ارسالهما ويرتبهما، وعند الغاية من يضبط السابق منهما لئلا يختلفا في ذلك.
وقول الشافعي: الاسباق جمع سبق - بفتح الباء - وهو العوض المخرج في المسابقة - وهو باسكان الباء - مصدر سبق من المسابقة اما السبق الاول الذى يراه الشافعي، وهو الذى يخرجه غير المتسابقين فيجوز، سواء اخرجه الامام من بيت المال أو أخرجه غير الامام من ماله.
وكلام مالك من عدم جوازه لغير الامام فاسد من وجهين
(أحدهما)
ان ما فيه معونه على الجهاد جاز ان يفعله غير الائمه كارتباط الخيل واعداد السلاح.
(والثانى)
ان ما جاز أن يخرجه الامام من بيت مال المسلمين جاز ان يتطوع به كل واحد من المسلمين كبناء المساجد والقناطر
فإذا صح جوازه جاز أن يختص به السابق وحده دون غيره، كقول الباذل(15/146)
إذا كان المتسابقون عشرة فقد جعلت للسباق منكم عشرة وهذا جائز، فايهم جاء سابقا لجماعتهم استحق العشرة كلها ولا شئ لمن بعده، وان كانوا متفاضلين، في السبق، فلو سبق اثنان من الجماعة فجاءا معا وتأخر الباقون اشترك الاثنان في العشرة لتساويهما في السبق فاستويا في الاخذ، ولو سبق خمسة اشتركوا في الاخذ كذلك.
ولو سبق تسعة وتاخر واحد اشتركوا في العشرة دون المتأخر منهم، ولو جاءوا جميعا غرضا واحدا لم يتأخر عنهم واحد منهم فلا شئ لهم لانه ليس فيهم سابق ولا مسبوق.
والقسم الثاني: ان يبذله لجماعة منهم ولا يبذله لجميعهم، كان بذل الاول عوضا والثانى عوضا ولكل واحد منهم في اللغة إذا تقدم على غيره خاص.
فيقال للسابق الاول المجلى والثانى المصلى والثالث التالى والرابع البارع والخامس المرتاح والسادس الحظى والسابع العاطف والثامن المؤمل والتاسع الطيم والعاشر السكيت، وليس لما بعد العاشر اسم، الا الذى يجئ آخر الخيل كلها، ويقال له الفسكل.
قال الجاحظ: كانت العرب تعد السوابق ثمانية ولا تجعل لما جاوزها حظا، فأولها السابق ثم المصلى ثم المقفى ثم التالى ثم العاطف ثم المذمر ثم البارع ثم اللطيم.
قال الثعالبي: وكانت العرب تلطم الاخر ان كان له حظ.
وقال أبو عكرمة: اخبرنا ابن قادم معن الفراء انه ذكر في السوابق عشرة اسماء لم يحكها احد غيره وهى: السابق ثم المصلى ثم المسلى ثم التالى ثم المرتاح ثم العاطف ثم الحظى ثم المؤمل ثم اللطيم ثم السكيت.
وقد جاء في الحاوى الكبير للماوردى هذه الاسماء التى ذكرها المصنف مع
جعل المؤمل بدل المرمل، وهو ما يوافق رواية الفراء هنا، فإذا بذل لبعض دون بعض فعلى ضربين: (احدهما) ان يفاضل بين السابق والمسبوق فيجعل للاول الذى هو المجلى - وقد اشنق اسمه من الجلاء - قال ابى بطال: قال المطرزى: يحتمل ان يكون من جلاء الهموم - عشرة، ويجعل للثاني الذى هو المصلى - لان جفلته على صلى السابق وهي منخره، والصلوان عظمان عن يمين الذنب وشماله - تسعة،(15/147)
والثالث الذى هو التالى - أي التابع - خمسة والرابع الذى هو البارع - أي الفائق كما يقال لمن فاق اصحابه في العلم: بارع - اربعة، والخامس الذى هو المرتاح - من راح يراح راحة إذا فحلا أو إذا نشط وجف - ثلاثة، فان هذا جائز لانه قد منع المسبوقين وفاضل بين السابقين فحصل التحريض في طلب التفاضل وخشبة المنع ويتفرع على هذا ان يجعل للسابق عشرة، وللمصلى خمسة ولا يجعل لمن بعدهم شيئا فيكون السابق أو المجلى خمسة والمصلى واحدا الخمسة السابقين بالعشرة لكل واحد درهمان وينفرد المصلى بالخمسة وان صار بها افضل من السابقين لانه اخذ الزيادة لتفرده، بدرجته، ولم ياخذ لتفضيل اصل درجته، وقد كان يجوز ان يشاركه غيره في درجته فيقل سهمه عن سهم من بعده.
ثم على هذا القياس إذا جعل للثاني شيئا ثالثا فحصل في كل درجة انفراد أو اشتراك وجب ان يختص المنفرد بسبق درجته، ويشترك المشتركون بسبق درجتهم.
والضرب الثاني: ان يستوى فيهم بين سابق ومسبوق، كانه يجعل للسابق عشرة وللمصلى عشرة وفاضل بين بقية الخمسة.
وهذا جائز لان مقتضى التحريض ان يفاضل بين السابق والمسبوق، فإذا تساويا فيه بطل مقصوده فلم يجز، وكان
السبق في حق المصى الذى سوى بينه وبين سابقه باطلا، ولم يبطل في حق الاول بطلانه في حق من عداه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في الذى بطل السبق في حقه هل يستحق على الباذل اجرة مثله أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) وَهُوَ قَوْلُ ابى اسحاق المروزى انه لا اجرة له على الباذل، لان منعه عائد عليه لا على الباذل.
فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده باطلا لانه يجوز ان يفضلوا به على من سبقهم.
والوجه الثاني هو قول ابى على الطبري انه له على الباذل اجرة مثله لان من استحق المسمى في العقد الصحيح استحق اجرة المثل في العقد الفاسد اعتبارا بكل واحد من عقدى الاجارة والجعالة.(15/148)
فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده صحيحا، ولكل واحد منهم ما سمى له، وان كان اكثر من اجرة من بطل السبق في حقه، لانه لا يجوز ان يفضلوا عليه إذا كان مستحقا بالعقد.
وهذا مستحق بغيره ويتفرع على هذا إذا جعل للاول عشرة ولم يجعل للثاني شيئا، وجعل للثالث خمسة وللرابع ثلاثة ولم يجعل بعدهم شيئا، فالثاني خارج من السبق لخروجه من البدل.
وفى قيام من بعده مقامه وجهان: (احدهما) يقوم الثالث مقام الثاني، ويقوم الرابع مقام الثالث لانه يصير وجوده بالخروج من السبق كعدمه، فعلى هذا يصح السبق فيها بالمسمى لهما بعد الاول.
والوجه الثاني: انهم يترتبون على التسمية ولا يكون خروج الثاني منهم بالحكم مخرجا له من البدل.
فعلى هذا يكون السبق فيهما باطلا لتفضيلهما على السابق لهما، وهل يكون لهما اجرة مثلهما ام لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين:
والقسم الثالث: ان يبذل العوض لجماعتهم ولا يخلى اخرهم من عوض فينظر فان سوى فيهم بين سابق ومسبوق كان السبق باطلا.
وكان الحكم فيه على ما قدمنا وان لم يساو بين السابق والمسبوق، وفضل كل سابق على كل مسبوق حتى يجعل متاخرهم اقلهم سهما ففى السبق وجهان: (احدهما) انه جائز اعتبارا بالتفضيل في السبق، فعلى هذا ياخذ كل واحد منهم ما سمى له.
والوجه الثاني: ان السبق باطل لانهم قد تكافأوا في الاخذ وان تفاضلوا فيه، فعلى هذا هل يكون باطلا في حق الاخر وحده؟ فيه وجهان: (احدهما) انه باطل في حقه وحده لان بالتسمية له فسد السبق والوجه الثاني: ان يكون باطلا في حقوق جماعتهم، لان اول العقد مرتبط باخره، وهل يستحق كل واحد منهم اجرة مثله ام لا؟ على الوجهين المذكورين فهذا حكم السبق الاول.(15/149)