عنده، فبعث إليهم بمائة ناقة. قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء.
وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقسم منكم خمسون على رجل منهم، فيدفع برمته» فقالوا: أمر لم نشهده، فكيف نحلف عليه؟ قال: «تبريكم اليهود بخمسين يمينا» قالوا:. كيف نحلفهم وهم مشركون؟ فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده.
قلنا: من الخبر ثلاثة أدلة:
أحدها: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بأيمان الأنصار وهم مدعون.
والثاني: أنه علق الاستحقاق بأيمان المدعين، وأبو حنيفة يقول: (الاستحقاق بأيمان المدعى عليهم) .
والثالث: أن الأنصار لما امتنعوا من اليمين.. قال: «تبريكم اليهود بخمسين يمينا» فأخبر: أنهم يبرؤون بأيمانهم. وعند أبي حنيفة: (لا يبرؤون) .
وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إما أن تدوا صاحبكم، أو تأذنوا بحرب من الله» فكان يظن أنهم مقرون بالقتل. ولأن اللوث معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي، فقويت جنبته بذلك فكانت اليمين في جنبته كالمدعى عليه في غير اللوث، وكالمتداعيين في ملك العين وهي في يد أحدهما.
إذا ثبت هذا: وحلف ولي المقتول، فإن كانت الدعوى بقتل الخطأ أو عمد الخطأ.. وجبت له الدية على عاقلة المدعى عليهم، كما لو قامت له البينة بالقتل بذلك.
وإن كانت الدعوى بقتل يقتضي القود.. ففيه قولان:(13/222)
[أحدهما] : قال في القديم: (يجب القود على المدعى عليه) -وبه قال ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والليث، وأحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» ، و (الرمة) : الحبل الذي يقاد به للقتل، وقيل: هو عبارة عن التسليم للقتل. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» ، ومعلوم أن صاحبهم المقتول قد أريق دمه ولا يمكنهم استحقاقه، فثبت أنه أراد دم صاحبكم القاتل.
وروي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل رجلا في القسامة من بني مالك» . ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد، فثبت بها القود، كالشاهدين.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب القود، وإنما تجب الدية) - وبه قال ابن عباس ومعاوية والحسن البصري، وهو الأصح - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إما أن تدوا صاحبكم، وإما أن تأذنوا بحرب من الله» ، فلو كان موجب القتل في القسامة مع اللوث القود.. لقال: إما أن تسلموا صاحبكم ليقاد منه. ولأنها حجة لا يثبت بها النكاح، فلا يثبت بها القود كالشاهد واليمين، وفيه احتراز من الشاهدين. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يقسم «خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» فمحمول على: أنه يسلم برمته لتؤخذ منه الدية. وقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» أي: بدل دم صاحبكم وهو الدية؛ لأن صاحبكم في الحقيقة هو الأنصاري دون اليهودي. وأما رواية عمرو بن شعيب.. فمحمولة على: أن المدعي حلف بعد نكول المدعى عليه في غير اللوث. وسميت القسامة لتكرار الأيمان فيها.
فإذا قلنا بقوله الجديد، وأقسم الولي.. وجبت له الدية مغلظة في مال الجاني.
وإن قلنا بقوله القديم: فإن كان المدعى عليه واحدا.. أقيد منه. وإن كانت الدعوة على جماعة يصح اشتراكهم في القتل؛ كالعشرة وما أشبههم، وأقسم عليهم الولي.. فإنهم يقتلون به. وبه قال مالك.(13/223)
وحكى الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أن أبا العباس ابن سريج قال: إذا حلف الولي على جميعهم.. اختار منهم واحدا وقتله، وأخذ من الباقين بحصتهم من الدية.
وحكى الشيخ أبو إسحاق عن أبي إسحاق مثله، ولم يذكر: أنه يرجع عليهم بشيء؛ ووجهه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأنصار: «يقسم منكم خمسون على رجل منهم، فيدفع برمته» . فلم يجعل لهم استحقاق القود بالقسامة إلا على واحد، فدل على: أن القود لا يستحق بالقسامة على أكثر من واحد.
والمذهب الأول؛ لأنها حجة يقتل بها الواحد، فقتل بها الجماعة، كالشاهدين.
وأما الخبر: فإنما أمرهم بتعيين المدعى عليه للقتل؛ لأن اليهود الذين ادعوا عليهم القتل كانوا جماعة لا يتأتى منهم الاشتراك في القتل. وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليقسم خمسون منكم» فيجوز أنه كان له خمسون وليا.
[مسألة كون المدعي في اللوث واحدا أو أكثر وعدد الأيمان التي يحلفونها]
إذا كان المدعي للقتل في اللوث واحدا.. فإنه يحلف خمسين يمينا، سواء كانت دعواه على الواحد، أو على جماعة يصح اشتراكهم في القتل.
فإن كان المدعي للقتل مع اللوث أكثر من واحد.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب أن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا؛ لأن هذه الأيمان مع اللوث أقيمت مقام اليمين الواحدة مع الشاهد في الأموال، وقد ثبت أن الورثة لو ادعوا مالا عن مورثهم وأقاموا شاهدا واحدا.. فإن كل واحد منهم يحلف معه يمينا، فكذلك هذا مثله. ولأن اللوث حجة ضعيفة فغلظت الأيمان معها بالعدد؛ لكي لا يقدم على اليمين الواحدة، وهذا المعنى موجود إذا ادعى القتل جماعة.
والثاني: أن الخمسين يمينا تقسم بينهم على حصصهم من الدية، فإن حصل فيها كسر.. جبر الكسر، وهو الأصح؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للأنصار: «تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم» . فأوجب على جماعتهم خمسين يمينا.(13/224)
ولأنهم كلهم يثبتون الدية التي كان يثبتها الواحد إذا انفرد، والواحد لا يحلف أكثر من خمسين يمينا، فكذلك الجماعة. وتخالف اليمين مع الشاهد؛ فإنها لا تتبعض، وهذه تتبعض. فإذا قلنا: إن كل واحد منهم يحلف خمسين يمينا.. فلا تفريع. وإذا قلنا: إن كل واحد منهم يحلف على قدر حصته من الدية - وعليه التفريع- فإن كان المدعي ابني المقتول.. حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا. وإن كان أولاده ثلاثة.. حلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا؛ لأن اليمين لا يمكن تبعيضها، فيجبر الكسر منها. وإن كان أولاده أكثر من خمسين رجلا.. حلف كل واحد منهم يمينا.
[فرع خلف المقتول في اللوث ولدا وبنتا أو ولدا وخنثى]
إذا قتل رجل في موضع اللوث وخلف ابنا وبنتا، وقلنا: يحلف كل واحد منهم على قدر حصته من الدية.. حلف الابن أربعا وثلاثين يمينا وأخذ ثلثي الدية، وحلفت البنت سبع عشرة يمينا وأخذت ثلث الدية.
وإن خلف المقتول ابنا واحدا وولدا خنثى مشكلا.. حلف الابن ثلثي الأيمان؛ وهو: أربع وثلاثون يمينا؛ لاحتمال أن الخنثى امرأة، وأخذ من الدية نصفها؛ لاحتمال أن يكون الخنثى رجلا، وحلف الخنثى نصف الأيمان؛ وهي خمس وعشرون يمينا وأخذ ثلث الدية؛ لاحتمال أن يكون امرأة، ويوقف سدس الدية؛ فإن بان الخنثى ذكرا.. دفع ذلك السدس إليه وقد حلف عليه. وإن بان أنه امرأة.. دفع ذلك السدس إلى الابن وقد حلف عليه. وإنما حلف كل واحد منهما أكثر مما يجب عليه من الأيمان، وأعطي أقل مما يجب له من الدية؛ لأنه لا يجوز الحكم بالدية بأقل من خمسين يمينا ممن تجب عليه.
وإن خلف المقتول بنتا وولدا خنثى مشكلا.. حلفت البنت ثلث الأيمان وأعطيناها ثلث الدية؛ لأنه الواجب عليها ولها في الحالين. ويحلف الخنثى ثلثي الأيمان ويعطى ثلث الدية. والذي يقتضي المذهب: أن العصبة يحلفون ثلث الأيمان ولا يدفع إليهم شيء.(13/225)
فإن خلف المقتول ولدين ذكرين وولدا خنثى مشكلا.. حلف كل ذكر خمسي الأيمان وأعطي ثلث الدية، وحلف الخنثى المشكل ثلث الأيمان وأعطي خمس الدية، ويوقف من الدية سهمان من خمسة عشر سهما؛ فإن بان الخنثى ذكرا.. دفعا إليه، وإن بان الخنثى امرأة.. دفع إلى كل ابن سهم. وإن خلف المقتول ابنتين وولدا خنثى مشكلا.. حلفت كل ابنة ربع الأيمان وأعطيت ثلث ثلثي الدية، وحلف الخنثى نصف الأيمان وأعطي ثلث ثلثي الدية، وتحلف العصبة ثلث الأيمان؛ لجواز أن لهم حقا في الدية؛ فإن بان الخنثى ذكرا.. أخذ من الموقوف تمام النصف، وأخذت كل بنت تمام الربع. وإن بان امرأة.. أخذ العصبة الموقوف.
[فرع خلف المقتول بنتا وجدا وخنثى]
وإن خلف المقتول بنتا وجدا وخنثى مشكلا لأب وأم أو لأب.. حلف كل واحد منهم على أكثر نصيبه، وأعطي أقلهما من الدية، ويوقف الباقي، فتحلف البنت نصف الأيمان وتأخذ نصف الدية وذلك أكثر ما يجب لها وعليها، ويحلف الجد ثلث الأيمان ويأخذ ربع الدية، ويحلف الخنثى المشكل ربع الأيمان ويأخذ سدس الدية، ويوقف نصف سدس الدية؛ فإن بان أن الخنثى ذكر.. دفع إليه ذلك، وإن بان امرأة.. دفع ذلك إلى الجد.
[فرع خلف جدا وأختا وخنثى]
فإن خلف المقتول جدا، وأختا لأب وأم، وخنثى مشكلا لأب.. فإن الجد يحلف نصف الأيمان ويأخذ خمسي الدية؛ لجواز أن يكون الخنثى ذكرا، وتحلف الأخت نصف الأيمان وتأخذ نصف الدية؛ لأنها تستحق ذلك بكل حال، ويحلف الخنثى عشر الأيمان؛ لجواز أن يكون رجلا فيستحق عشر الدية، ويوقف العشر ولا يدفع(13/226)
إليه؛ فإن بان الخنثى رجلا.. أخذه، وإن بان امرأة.. أخذه الجد.
وإن خلف المقتول جدا، وأختا لأب وأم، وخنثى مشكلا لأب وأم.. فإن الجد يحلف نصف الأيمان ويأخذ خمسي الدية، وتحلف الأخت ربع الأيمان وتأخذ خمس الدية، ويحلف الخنثى خمس الأيمان ويأخذ ربع الدية، وتصح من عشرين: للجد ثمانية، وللأخت أربعة، وللخنثى خمسة، وتوقف ثلاثة أسهم؛ سهمان مترددان بين الجد والخنثى، وسهم بين الأخت والخنثى؛ فإن بان الخنثى رجلا.. أخذ الثلاثة، وإن بان امرأة.. أخذ الجد من الثلاثة سهمين، وأخذت الأخت سهما.
قال القاضي أبو الطيب: فإن طلب الجد والخنثى أن يصطلحا على سهمين من الثلاثة الموقوفة قبل أن يتبين حال الخنثى.. جاز، وسواء اصطلحا عليه على التساوي أو على التفاضل بشرط أن يكون السهم الباقي للأخت؛ لأنه لا يجوز للحاكم أن يطلق لهما التصرف في بعض الموقوف والمشارك لم يتيقن حقه، فلا يجوز أن يصطلحا على أكثر من سهمين؛ لجواز أن يكون السهم للأخت. وهذا كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا أسلم وتحته ثماني نسوة، فأسلمن معه، ومات قبل أن يختار أربعا منهن.. فإنه يوقف لهن ميراث زوجة؛ فإن جاء منهن أربع يطلبن الميراث.. لم يدفع إليهن شيء، وإن جاء خمس منهن يطلبن الميراث.. دفع إليهن ربع الميراث بشرط أن يكون الباقي للثلاث الباقيات) .
قال ابن الصباغ: وفي هذا نظر؛ لأن ما اصطلحا عليه لا حق للأخت فيه، فلا يلزمهما إسقاط حق الخنثى من السهم الذي يحتمل أن يكون للخنثى ويحتمل أن يكون للأخت، وهكذا ذكره في (ميراث الزوجات) .
[فرع خلف جدا وأخا شقيقا وآخر لأب أو جدا وخنثيين]
وإن خلف المقتول جدا، وأخا لأب وأم، وأخا لأب.. فإن الأخ للأب والأم مع(13/227)
الجد يحجبان الأخ للأب، ولا يستحق الأخ للأب شيئا من الدية بحال، فيحلف الجد ثلثي الأيمان ويأخذ ثلث الدية، ويحلف الأخ للأب والأم ثلثي الأيمان ويأخذ ثلثي الدية.
وإن خلف المقتول جدا وخنثيين مشكلين، أحدهما لأب وأم والثاني لأب.. فإن الجد يحتمل أن يستحق نصف الدية؛ بأن يكون الخنثيان امرأتين، ويحتمل أن يستحق ثلث الدية؛ وهو إذا بانا رجلين، ويحتمل أن يستحق خمسي الدية؛ وهو إذا بان أحدهما ذكرا والآخر امرأة، فيحلف الجد أكثر ما يجب عليه؛ وهو نصف الأيمان، ويدفع إليه من الدية أقل ما يستحقه؛ وهو: ثلث الدية.
وأما الخنثيان: فيحتمل أن يكونا رجلين، فيستحق الأخ للأب والأم ثلثي الدية ولا شيء للأخ من الأب.
ويحتمل أن يكونا امرأتين، فيكون للأخت للأب والأم نصف الدية ولا شيء للأخت للأب. ويحتمل أن يكون الذي للأب والأم رجلا، والذي للأب امرأة، فيكون للأخ للأب والأم ثلاثة أخماس الدية، ولا شيء للأخت للأب. ويحتمل أن يكون الذي للأب والأم امرأة، والذي للأب رجلا، فيكون للأخت للأب والأم نصف الدية، وللأخ للأب عشر الدية.
فإذا تقرر هذا: فإن الخنثى للأب والأم يحلف ثلثي الأيمان؛ لأن ذلك أكثر ما يجب عليه من الأيمان، ويدفع إليه نصف الدية؛ لأن ذلك أقل ما يستحقه من الدية، ويحلف الخنثى للأب عشر الأيمان؛ لجواز أن يكون له عشر الدية، ولا يدفع إليه شيء؛ لجواز أن لا يستحقها، وتصح المسألة في ثلاثين: فيدفع إلى الجد عشرة، وإلى الذي للأب والأم خمسة عشر، وتوقف خمسة أسهم؛ سهمان مترددان بين الجد والخنثى للأب والأم، وثلاثة مترددة بينهم جميعا؛ فإن بان الخنثيان رجلين.. دفعت الخمسة إلى الأخ للأب والأم، وإنا بانا امرأتين.. دفعت الخمسة إلى الجد، وإن بان الذي للأب والأم رجلا والذي للأب امرأة.. دفع إلى الأخ من الأب(13/228)
والأم ثلاثة أسهم - وهي: تمام ثلاثة أخماس- وإلى الجد سهمان، تمام الخمسين.
وإن بان الذي للأب والأم امرأة والذي للأب رجلا.. دفع إلى الجد سهمان وإلى الأخ للأب ثلاثة أسهم؛ فإن أراد الجد والخنثى للأب والأم أن يصطلحا على سهمين من الخمسة الأسهم قبل أن يتبين الحال.. جاز؛ لأنهما لا يخرجان منهما، وإن أرادوا جميعا أن يصطلحوا على الخمسة الأسهم قبل أن يتبين الحال.. جاز؛ لما ذكرناه.
[فرع قتل رجل وهناك لوث وخلف أولادا فمات أحدهم]
وله ابنان وحكم البناء على الأيمان] :
إذا قتل رجل وهناك لوث، وخلف ثلاثة أولاد، فمات واحد منهم وخلف ابنين:
فإن مات قبل أن يقسم.. فإن ابنيه يقسمان؛ فإن قلنا: إن كل واحد من الورثة يحلف خمسين يمينا.. فإن الابنين وابني الابن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وإن قلنا: يقسم كل واحد منهم على قدر حصته من الدية.. فإن كل واحد من ابني المقتول يحلف ثلث الأيمان، ويجبر الكسر، ويحلف كل واحد من ابني الابن سدس الأيمان، ويجبر الكسر. وإن مات الابن بعدما أقسم بعض الأيمان.. لم يجز لابنيه أن يبنيا على أيمانه، بل يستأنفان الأيمان؛ لأن الأيمان في القسامة كاليمين الواحدة، فلا يجوز البناء عليها من اثنين.
وإن أقسم رجل بعض الأيمان، ثم جن أو أغمي عليه.. لم يصح إقسامه في حال الجنون والإغماء؛ لأنه غير مكلف، فإذا أفاق.. بنى على أيمانه؛ لأن فعل الواحد يبنى بعضه على بعض.
[مسألة وعظ الحاكم للحالف قبل الحلف أو النكول]
وإذا أراد الولي أن يقسم.. فإنه يستحب للحاكم أن يعظه ويقول له: اتق الله، ولا تقدم على الأيمان على أمر، وربما كان الأمر بخلاف ما ادعيت. ويقرأ عليه قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الآية [آل عمران: 77] . ويعرفه ما في اليمين الغموس من الإثم، كما يستحب له أن يعظ الزوجين عند اللعان.(13/229)
فإن لم ينزجر عن الأيمان، وطلب أن يحلف.. فإن الحاكم يحلفه على ما يأتي بيانه.
وإن نكل الولي عن الأيمان.. فإن الأيمان تصير في جنبة المدعى عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأنصار حين امتنعوا عن اليمين: «فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا» . فإن كان المدعى عليه واحدا.. حلف خمسين يمينا، وإن كانوا أكثر من واحد.. ففيه قولان:
أحدهما: تقسم عليهم الخمسون يمينا على عدد رؤوسهم، فإن كان فيها كسر.. جبر الكسر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تبرئكم اليهود بخمسين يمينا» .
والثاني: يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهم ينفي عن نفسه ما ينفي عن نفسه إذا كانت الدعوى عليه وحده، والخبر محمول على: أن كل واحد منهم ممن ادعيتم عليه أنه قتل يحلف لكم خمسين يمينا.
بخلاف الأولياء؛ حيث قلنا: الصحيح: أن الأيمان الخمسين تقسم عليهم على قدر مواريثهم؛ لأن كل واحد منهم يثبت لنفسه - إذا كان معه وارث- غير ما يثبته لها إذا انفرد بالإرث.
فإن نكل المدعى عليه عن اليمين في هذه الحالة.. فهل ترد الأيمان على المدعي ثانيا؟ وإن قلنا: إن أيمان المدعي ابتداء توجب المال دون القود.. فإن الأيمان هاهنا ترد على الولي قولا واحدا إذا كان القتل موجبا للقود، ويجب له القود؛ لأن أيمان الولي هاهنا كبينة يقيمها على القتل في أحد القولين، أو كإقرار المدعى عليه في الثاني، والقود يثبت بالجميع. وإن قلنا: إن أيمان الولي ابتداء توجب القود وكانت الدعوى بقتل لا يوجب القود.. فهل ترد عليه الأيمان؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ترد عليه؛ لأن الأيمان قد كانت في جنبته وقد أسقطها بالنكول عنها، فلم ترد عليه، كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فردت على المدعي فنكل.. فإنها لا ترد على المدعى عليه، فلم ترد.(13/230)
والثاني: ترد عليه، وهو الأصح؛ لأن سبب هذه الأيمان غير سبب تلك الأيمان؛ لأن سبب تلك الأيمان قوة جنبة الولي باللوث، وسبب هذه قوة جنبته بنكول المدعى عليه.
[مسألة ادعاء القتل في مكان لا لوث فيه]
وإن ادعى القتل في موضع لا لوث فيه ولا بينة مع المدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم.. لادعى ناس دماء ناس وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» .
ولأن الأيمان إنما تثبت في جنبة المدعي أولا مع اللوث؛ لقوة جنبته باللوث، فإذا لم يكن هناك لوث.. كانت جنبة المدعى عليه أقوى؛ لأن الأصل براءة ذمته، فكانت الأيمان في جنبته ابتداء، وهل تغلظ عليه الأيمان بالعدد؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تغلظ عليه، بل يحلف يمينا واحدة -وهو اختيار المزني - لأنها يمين توجهت في جنبة المدعى عليه ابتداء فكانت يمينا واحدة، كاليمين في سائر الدعاوى.
ولأن التغليظ بالعدد بالأيمان إنما وجب في حق المدعي لأجل اللوث، فإذا لم يكن هناك لوث.. سقط التغليظ.
والثاني: يغلظ عليه بالعدد، وهو الأصح؛ لأن الأيمان إنما تغلظ بالعدد في القتل لحرمة النفس، وهذا موجود في الأيمان إذا توجهت في جنبة المدعى عليه ابتداء. وقول الأول: إنها إنما غلظت على المدعي لأجل اللوث غير صحيح؛ لأن اللوث معنى تقوى به جنبة المدعي، وما قويت به جنبته.. يجب أن يقع به التخفيف عليه لا التغليظ.
فإن قلنا: لا تغلظ الأيمان بالعدد على المدعى عليه: فإن كان واحدا.. حلف يمينا واحدة. وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا. وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. ردت على الولي؛ فإن كان واحدا.. حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا.(13/231)
وإن قلنا: تغلظ الأيمان بالعدد على المدعى عليه: فإن كان واحدا.. حلف خمسين يمينا. وإن كانوا جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، أو تقسم الخمسون يمينا بينهم على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان مضى ذكرهما، والصحيح هاهنا: أن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا.
وإن نكل المدعى عليه عن الأيمان.. ردت على الولي، فإن كان واحدا.. حلف خمسين يمينا. وإن كانوا جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، أو تقسم الخمسون يمينا بينهم على قدر مواريثهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان، مضى ذكرهما، الصحيح: يحلف كل واحد منهم على قدر ميراثه من الدية.
فإذا حلف الولي عند نكول المدعى عليه، فإن كانت الدعوى في قتل العمد.. وجب له القصاص قولا واحدا؛ لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة في أحد القولين، وكالإقرار في القول الآخر، والقصاص يثبت بكل واحد منهما.
وإن كانت الدعوى في قتل الخطأ أو عمد الخطأ.. وجبت الدية، وهل تحملها العاقلة؟
قال القفال: إن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. كانت على عاقلة المدعى عليه. وإن قلنا: إنها كإقرار المدعى عليه.. كانت في ماله؛ لأن العاقلة لا تحمل ما يثبت بالإقرار.
ومن أصحابنا من قال: تجب في مال المدعى عليه قولا واحدا؛ لأنها إنما تكون كالبينة في حق المتداعيين لا في حق غيرهما.
[مسألة دعوى قتل على اثنين أو على أحدهما لوث]
أو على جماعة لا يصح اشتراكهم] :
وإن كانت الدعوى في القتل على اثنين، أو على أحدهما لوث دون الآخر.. حلف الولي على الذي عليه اللوث خمسين يمينا؛ لأن القسامة لا يحكم بها بأقل من خمسين يمينا. فإن كانت الدعوى في قتل العمد.. وجب له عليه القود في قوله القديم،(13/232)
ونصف الدية على الجديد، ويحلف الذي لا لوث عليه على ما مضى.
وإن ادعى القتل على جماعة لا يصح اشتراكهم في القتل، كأهل بلد أو أهل قرية كبيرة.. لم تسمع الدعوى. وقال أبو حنيفة: (تسمع) .
دليلنا: أن هذه الدعوى محال فلم تسمع، كما لو ادعى على رجل أنه قتل وليه، والمدعى عليه ولد بعد قتل مورثه.
وإن قال الولي لجماعة: أنا أعلم أن القاتل أحد هؤلاء، ولا أعلم من هو منهم.. لم تسمع هذه الدعوى؛ لأن تعيين المدعى عليه شرط في صحة الدعوى.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قال لجماعة: أنتم القاتلون أو بعضكم ولا أتحقق القاتل منكم، ولكن يحلف كل واحد منكم.. فهل تسمع هذه الدعوى ويجب تحليفهم؟ فيه وجهان، بناء على من أضل خاتما أو غيره بين اثنين أو جماعة وقال: لا أعرف الآخذ منكم، ولكن يحلف كل واحد منكم.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان.
[مسألة ادعى على رجل أو اشترك معه آخران بقتل وليه عمدا]
وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل وليه عمدا محضا، وهناك لوث، وأقسم الولي.. فقد ذكرنا: أنه هل يجب على المدعى عليه القود أو الدية؟ على قولين.
وإن ادعى عليه أنه قتله خطأ فأنكر، فأقسم المدعي.. وجبت له الدية مخففة على عاقلة المدعى عليه.
وإن ادعى أنه قتله عمد خطأ وأنكر المدعى عليه، فأقسم الولي.. وجبت له دية مغلظة على عاقلة المدعى عليه. وإن قال الولي: قتله هذا ومعه غيره.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن يقول: قتله هذا أو آخران معه عمدا، إلا أن شريكيه غائبان.. فإن الولي يقسم على الحاضر خمسين يمينا؛ لأنه لا يجوز استفتاح الحكم بالقسامة بأقل من خمسين يمينا، فإذا حلف عليه.. استحق عليه القود على قوله القديم، واستحق ثلث الدية مغلظة في مال الجاني على القول الجديد.(13/233)
فإذا حضر أحد الغائبين فأنكر القتل.. أقسم عليه الولي، وكم يجب عليه أن يحلف عليه؟ حكى الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق - فيها وجهين، وحكاهما ابن الصباغ قولين:
أحدهما: يحلف عليه خمسا وعشرين يمينا؛ لأنه لو حضر مع الأول.. لأقسم عليهما خمسين يمينا، فدل على أن لكل واحد منهما نصف الخمسين.
والثاني: لا يجزئه إلا خمسون يمينا، وهو الأصح؛ لأن الأيمان الأولى لم تتناول الثاني، فيجب أن يذكرها؛ لأنه لا يجوز الحكم في القسامة بأقل من خمسين يمينا. ويخالف إذا حضر الثاني مع الأول؛ فإنه قد أقسم عليه خمسين يمينا.
فإذا أقسم على الثاني.. استحق عليه القود في قوله القديم، وثلث الدية مغلظة في ماله في قوله الجديد.
فإذا حضر الثالث وأنكر القتل.. فهل يقسم عليه خمسين يمينا، أو ثلث الخمسين ويجبر الكسر؟ على الوجهين في الثاني. فإذا أقسم عليه.. استحق عليه ما استحق على الثاني.
المسألة الثانية: إذا قال: قتله هذا عمدا وآخران معه خطأ.. فإنه يقسم على الحاضر خمسين يمينا، ولا يستحق عليه القود قولا واحدا؛ لأن شريكيه مخطئان، ويستحق عليه ثلث الدية مغلظة في ماله. فإذا حضر الثاني وأنكر القتل.. أقسم عليه، وهل يقسم عليه خمسين يمينا أو نصفها؟ على الوجهين في التي قبلها، فإذا أقسم عليه.. استحق ثلث الدية مخففة على عاقلته. فإذا حضر الثالث فأنكر القتل.. فهل يقسم عليه خمسين يمينا أو ثلثها؟ على الوجهين، فإذا أقسم عليه.. استحق على عاقلته ثلث الدية المخففة.
المسألة الثالثة: إذا قال: قتله هذا عمدا وآخران معه، لا أدري كيف قتلاه.. فإنه يقسم على الحاضر خمسين يمينا ويستحق ثلث الدية المغلظة في ماله على قوله الجديد، وأما على القول القديم: فيوقف الأمر إلى أن يقدم الغائبان، فإذا حضرا(13/234)
واعترفا بقتل العمد المحض.. وجب عليهما القود قولا واحدا ووجب على الأول القود على قوله القديم.
وإن اعترفا بقتل الخطأ.. وجب في مال كل واحد منهما ثلث دية مخففة وعلى الأول ثلث دية مغلظة قولا واحدا. وإن اعترفا بعمد الخطأ.. وجب في مال كل واحد منهما ثلث دية مغلظة. وإن اعترف أحدهما بقتل عمد الخطأ، والآخر بقتل الخطأ.. اعتبر حكم كل واحد منهما في نفسه في تغليظ الدية وتخفيفها.
وإن أنكرا القتل.. فهل يجوز للولي أن يقسم عليهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز أن يقسم عليهما؛ لأنه إذا أقسم عليهما.. لم يعلم الحاكم ما يحكم به عليهما.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يجوز للولي أن يقسم عليهما؛ لأن جهل الولي بصفة قتلهما ليس بجهل في القتل، فإذا أقسم عليهما.. حبسا حتى يفسرا صفة القتل؛ لأنه لا يعلم إلا من جهتهما. فإذا أقرا بقتل العمد المحض.. وجب عليهما القود قولا واحدا، وهل يجب القود على الأول؟ فيه قولان. وإن أقرا بقتل الخطأ، أو أقر أحدهما بقتل الخطأ وأقر الآخر بقتل العمد.. لم يجب القود على واحد منهما قولا واحدا، وحكم الدية على ما مضى، وكم يقسم الولي عليهما؟ على الوجهين.
المسألة الرابعة: إذا قال: قتله هذا عمدا ونفر يصح اشتراكهم في القتل، لكني لا أعلم عددهم، فإن كانت الدعوى في قتل الخطأ، أو عمد الخطأ، أو في العمد المحض وقلنا: لا يجب القود بأيمان الولي.. لم يكن للولي أن يقسم على الحاضر؛ لأنه إذا أقسم عليه.. لم يعلم كم القدر الذي يجب بجنايته من الدية. وإن كانت الدعوى بقتل العمد المحض، وقلنا: يجب القود بأيمان الولي.. فهل يجوز للولي أن يقسم على الحاضر؟ فيه وجهان:
أحدهما: له أن يقسم عليه؛ لأن الجماعة يقتلون بالواحد عندنا.
والثاني: ليس له أن يقسم عليه؛ لأنه ربما عفا على الدية عن الحاضر، فلا يعلم ما يستحقه عليه من الدية.(13/235)
[مسألة غلبة الظن على صدق المدعي تثبت اللوث]
واللوث الذي تثبت به الأيمان في جنبة المدعي هو: أن يوجد هناك سبب يغلب معه على الظن صدق المدعي، وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك سبعة أسباب:
أحدها: إذا وجد قتيل في محلة قوم أو في قرية أو قبيلة ولا يشاركهم غيرهم في السكنى - وإن كان قد يدخل غيرهم إليهم في تجارة - وبينهم وبين المقتول عداوة ظاهرة، وسواء كان المقتول منهم أو من غيرهم.. فإن ذلك لوث على أهل المحلة أو القرية؛ لأن خيبر كانت دارا محصنة لليهود ولا يسكنها غيرهم، وكان أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدخلونها للتجارة، وكان بينهم وبين الأنصار عداوة ظاهرة، فلما وجد عبد الله بن سهل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها مقتولا.. جعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوثا، وجعل للأنصار أن يقسموا عليهم.
وإن اختل أحد هذين الشرطين؛ بأن كان يسكنها غيرهم، أو لا عداوة ظاهرة بين المقتول وبينهم.. لم يكن لوثا.
السبب الثاني: أن يوجد قتيل في دار قوم أو قريتهم أو حصن أو قبيلة ولا يخالطهم غيرهم في السكنى ولا يدخل إليهم غيرهم في تجارة ولا غيرها.. فإن هذا يكون لوثا عليهم، سواء، كان بينهم وبين المقتول عداوة ظاهرة أو لم يكن، وسواء كان القتيل منهم أو من غيرهم.
والفرق بينها وبين الأولى: أنه إذا كان يدخل إليهم غيرهم في تجارة أو غيرها.. جاز أن يكون الذي قتله هو الداخل إليهم، فلهذا قلنا: يشترط أن يكون بينه وبينهم عداوة ظاهرة، وإن كان لا يدخل إليهم غيرهم.. فالظاهر أنه لم يقتله غيرهم.
السبب الثالث: أن يوجد قتيل في الصحراء، وفيه مسألتان:
إحداهما: أن تتفرق عنه جماعة وهو طري، ولم يكن يقربهم أحد ولا مضى - من(13/236)
حين تفرقهم عنه إلى أن روعي أمرهم- مدة يمكن أن يكون القاتل قد هرب أو اختفى.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس هناك أثر ولا عين) أراد بـ: (الأثر) أثر قدم آدمي. وبـ: (العين) السبع؛ لأنه إن كان هناك سبع.. جاز أن يكون هو الذي قتله، وإذا كان هناك أثر آدمي.. جاز أن يكون هو الذي قتله دون الجماعة الذين تفرقوا عنه، فإن لم يوجد شيء من ذلك.. كان لوثا على الجماعة الذين تفرقوا من عنده؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه.
الثانية: أن يوجد القتيل طريا في الصحراء وبقربه رجل معه سيف مخضوب بالدم أو غيره من السلاح، وليس هناك غيره.. فإنه يكون لوثا عليه؛ لأن الظاهر أنه قتله.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك إذا رأى رجلا يحرك يده كالضارب، ووجد بقربه قتيل.. فإنه يكون لوثا عليه؛ لأن الظاهر أنه قتله.
السبب الرابع: أن يوجد قتيل في أحد صفي القتال، فإن كان الصفان قد التقيا بحيث يقتتلون بالسيوف أو الرماح أو الرمي.. فهو لوث على أهل الصف الثاني؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه دون أهل صفه. وإن كانوا متباعدين؛ بحيث لا يمكن قتالهم بالسيوف والرماح والرمي.. فهو لوث على أهل صفه؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه.
السبب الخامس: إذا ازدحم جماعة في مسجد أو طواف أو سوق فوجد بينهم قتيل.. فهو لوث عليهم؛ لأن الظاهر أنهم قتلوه.
السبب السادس: أن يوجد رجل قتيلا، فتشهد جماعة نساء أو عبيد أن فلانا قتله، فإن جاؤوا متفرقين واتفقت أقوالهم على صفة قتله، ولم يمض من وقت قتله إلى أن قالوا هذه مدة يمكنهم أن يجتمعوا ويتفرقوا.. فإن ذلك يكون لوثا على المشهود عليه؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة أن الجماعة يكذبون في شيء واحد من غير تواطؤ منهم على الكذب. وإن كانت قد مضت مدة من حين قتله يمكن أن يجتمعوا فيها ويتفرقوا.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: لا يكون لوثا على المشهود عليه؛ لأنه يجوز أن يكونوا قد اجتمعوا وتواطؤوا على الكذب.(13/237)
وقال ابن الصباغ: فيها نظر؛ لأنه متى وجد عدد مجتمع على ذلك.. غلب على الظن أنه قتله، وتجويز تواطئهم على الكذب لا يمنع الظن، كتجويز كذب العدل في الظاهر. وإن شهد بذلك صبيان أو فساق أو كفار كشهادة النساء والعبيد.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو إسحاق: لا يكون لوثا على المشهود عليه؛ لأن أخبارهم غير مقبولة في الشرع.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: يكون لوثا على المشهود عليه، وهو الأصح؛ لأنا إنما جعلنا قول الجماعة من النساء والعبيد لوثا؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة أن الجماعة يكذبون في شيء واحد من غير تواطؤ على الكذب، وهذا المعنى موجود في هؤلاء، ولأن لقولهم حكما في الشرع؛ بدليل أن قولهم يقبل في قبول الهدية وفي الإذن في دخول الدار.
السبب السابع: أن يشهد رجل عدل على رجل أنه قتل فلانا.. فإنه يكون لوثا.
هذا مذهبنا، وقال مالك: (جميع هذه الأسباب لا يكون لوثا إلا إذا شهد رجل عدل أنه قتل فلانا.. فإنه يكون لوثا) .
دليلنا: أن قتيل الأنصار وجد في خيبر وهي مسكن اليهود ولا يسكن معهم غيرهم وهم أعداء الأنصار، فجعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لوثا، والمعنى في ذلك: أنه يغلب على الظن مع ذلك أنهم قتلوه، وهذا المعنى موجود في هذه الأسباب، فكانت لوثا، كما لو شهد رجل عدل على رجل أنه قتل رجلا.
إذا ثبت هذا: فشهد رجل عدل على رجل أنه قتل رجلا، وكان القتل موجبا للمال.. حلف المدعي يمينا واحدة وقضي له بالمال؛ لأن ذلك يثبت بالشاهد واليمين. وإن كان القتل موجبا للقود.. فإنه يحلف خمسين يمينا ويجب له القود على القديم، وعلى الجديد لا تثبت له إلا الدية.(13/238)
[فرع وجد قتيلا ومعه عبده]
إذا وجد الرجل قتيلا في دار ومعه عبده.. فلورثته أن يقسموا عليه؛ لأنه يغلب على الظن صدقهم، ويكون لهم القود على القديم، وعلى الجديد الدية، ويستفاد به فكه من الرهن.
[فرع قول المجروح جرحني أو دمي عند فلان]
فأما إذا قال المجروح: جرحني فلان، أو دمي عند فلان، ثم مات.. فإنه لا يكون لوثا عليه. وقال مالك: (يكون لوثا عليه) .
دليلنا: أن من لم يقبل إقراره على غيره بالمال.. لم يقبل إقراره في الجرح، كما لو برئ من الجراحة.
[فرع ادعى على رجل قتل وليه فأنكر فأقام شاهدين لم يتفقا]
على فعل واحد ولكن اتفقا على القتل] :
وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل وليه فأنكر، فأقام عليه شاهدين، فشهد أحدهما أنه قتله بالسيف، وشهد الآخر أنه قتله بالعصا، أو شهد أحدهما أنه قتله غدوة، وشهد الآخر أنه قتله عشية.. لم يثبت القتل بشهادتهما؛ لأن شهادتهما لم تتفق على فعل واحد.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (ويكون ذلك لوثا) . وقال في موضع: (لا يكون لوثا) واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : قال أبو إسحاق: يكون لوثا قولا واحدا؛ لأنهما اتفقا على إثبات القتل، وإنما اختلفا في صفته، فغلب على الظن صدق الولي.
و [الطريق الثاني] : قال أبو الطيب بن سلمة، وأبو حفص ابن الوكيل: لا يكون لوثا قولا واحدا؛ لأن كل واحد من الشاهدين يكذب الآخر، فلا يغلب على الظن صدق الولي.(13/239)
و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: فيه قولان، ووجههما ما ذكرناه.
وإن شهد أحدهم أنه قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله.. لم يثبت القتل بشهادتهما؛ لأنهما لم يتفقا على فعل واحد؛ لأن أحدهما شهد على القتل والآخر على الإقرار، ويثبت اللوث هاهنا قولا واحدا؛ لأن أحدهما لا يكذب الآخر، فيحلف الولي مع أي الشاهدين شاء منهما.
فإن كان القتل خطأ.. حلف يمينا واحدة وتثبت له الدية، فإن حلف مع من شهد بالقتل.. وجبت الدية على العاقلة، وإن حلف مع من شهد بالقتل على الإقرار.. وجبت الدية في مال الجاني. وإن كان عمدا.. حلف خمسين يمينا، ووجب القصاص في القول القديم، والدية في القول الجديد.
[فرع شهدا على أنه قتل من قبل أحد اثنين وعكسه]
وإن شهد شاهدان أن رجلا قتله أحد هذين الرجلين.. كان ذلك لوثا، وللولي أن يقسم على أيهما غلب على ظنه أنه قتل مورثه؛ لأنه قد ثبت أن أحدهما قتله.. فهو كما لو وجد بينهما مقتول.
وإن شهد شاهدان أن هذا الرجل قتل أحد هذين الرجلين.. لم يثبت اللوث؛ لأن اللوث ما يغلب معه على الظن صدق ما يدعيه المدعي ولا يعلم لمن شهدا من الوليين.
فإن كان وليهما واحدا وديتهما مستوية.. فالذي يقتضي المذهب: أن له أن يقسم على المشهود عليه؛ لأنه يستحق بكل واحد منهما ما يستحقه بالآخر.
[مسألة وجد مقتولا في موضع لوث وله ولدان فاختلفا في تعيين القاتل]
إذا قتل رجل في موضع فيه لوث وله ابنان، فادعى أحدهما على رجل بأنه قتله،(13/240)
وكذبه أخوه وقال: لم يقتله هذا.. سقط اللوث في حق المكذب وأما المدعي.. ففيه قولان:
أحدهما: يسقط اللوث في حقه؛ لأن اللوث أمر يحكم فيه بغلبة الظن، وتكذيب أحد الابنين لأخيه لا يدل على صدق المدعي من جهة غلبة الظن، فتعارضا وسقطا، وبقي القتل بغير لوث.
فعلى هذا: يحلف المدعى عليه.
والثاني: لا يسقط اللوث - وهو اختيار المزني - لأن اللوث في الأيمان في القسامة كالشاهد واليمين في سائر الدعاوى في الأموال، ثم ثبت أن أحد الأخوين لو ادعى على رجل مالا لأبيه، وأقام على ذلك شاهدا وكذبه الآخر.. لم تسقط اليمين في حق المدعي، وله أن يحلف معه، كذلك هاهنا مثله.
فعلى هذا: يحلف المدعي ويستحق على المدعى عليه نصف الدية.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل في تكذيب أحدهما للآخر: (أن يكون المكذب عدلا، وأن يقول المكذب: إن المدعى عليه كان في الوقت الذي قتل فيه ببلد لا يمكن أن يصل إليه.. ففيه قولان) ، واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: هذا شرط في القولين كما نقله المزني؛ لأن إبطال اللوث إنما يكون بما هو صحيح في الظاهر، فلا يبطل بقول الفاسق.
وقال أكثر أصحابنا: ليس ذلك شرطا، وإنما أراد تصويرها بذلك، وقد تتصور بغير ذلك، وقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (والعدل والفاسق سواء؛ لأنه جحود في حق نفسه) .
وإن قال أحد الابنين: قتله هذا وحده، وقال الابن الثاني: قتله هذا وآخر معه.. فإن هذا تكذيب له في نصف الدية.
فإن قلنا: إن التكذيب لا يؤثر في اللوث.. فإن الذي ادعى أنه قتله وحده يقسم(13/241)
عليه ويستحق عليه نصف الدية، ويقسم عليه الآخر ويستحق عليه ربع الدية.
وإن قلنا: إن التكذيب يؤثر في اللوث.. فإن كل واحد منهما يقسم عليه ويستحق عليه ربع الدية.
وإن قال أحد الابنين: قتل أبي زيد ورجل آخر لا أعرفه، وقال الابن الثاني: قتل أبي عمرو ورجل معه آخر لم أعرفه.. فإن كل واحد منهما غير مكذب للآخر؛ لجواز أن يكون الذي لا يعرفه هو الذي عينه أخوه فيقسم كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينا ويستحق عليه ربع الدية.
فإن قال كل واحد منهما بعد ذلك: الذي لم أعرفه هو الذي عينه أخي.. حلف عليه وأخذ منه ربع الدية، وهل يحلف عليه خمسين يمينا أو نصف الخمسين؟ على وجهين، مضى ذكرهما.
وإن قال أحدهما للآخر: الذي لا أعرفه هو خالد، وقال الآخر: بل الذي لا أعرفه هو بكر.. فقد صار كل واحد منهما مكذبا لأخيه.
فإن قلنا: إن التكذيب لا يؤثر.. حلف كل واحد منهما على من عينه واستحق عليه ربع الدية. وإن قلنا: إن التكذيب يؤثر في اللوث.. رد كل واحد منهما ما أخذ من الذي عينه أولا.
[فرع ادعى قتل رجل لوليه وهناك لوث وشهد اثنان أنه لم يقتله]
أو أقر رجل بقتله] :
وإن قتل رجل، فادعى وليه أن فلانا قتله، وهناك لوث، فحلف عليه الولي ثم شهد شاهدان عدلان أن هذا الذي أقسم عليه.. لم يقتله وكان وقت القتل غائبا في البلد كذا بحيث لا يمكن وصوله إليه بذلك الوقت.. وجب على الولي رد الدية إن كان أخذها؛ لأن الدية إنما استحقت باللوث والأيمان، وما قامت فيه البينة.. يبطل اللوث، فسقطت الأيمان.(13/242)
وأما إذا شهدا أنه لم يقتله وأطلقا.. لم يبطل اللوث، لأن الشهادة على النفي لا تصح. وإن قالا: ما قتله هذا، وإنما قتله فلان.. بطل اللوث ووجب رد الدية؛ لأن هذه الشهادة تضمنت الإثبات، ولا يحكم للولي على الذي شهدا عليه ثانيا؛ لأنه لا يدعي عليه شيئا. وإن قال رجل.. لم يقتله هذا، وأنا الذي قتلته، فكذبه الولي.. لم يجب على الولي رد الدية، ولا يبطل اللوث؛ لأنه لا يبطل ما حكم له بقول واحد. وإن صدقه الولي.. وجب عليه رد الدية إلى الأول، وهل للولي مطالبة المقر؟ فيه قولان: أحدهما: ليس له مطالبته؛ لأن دعواه على الأول أنه انفرد بالقتل إبراء لغيره من الناس. والثاني: له مطالبته لأن دعواه على الأول ظن وإقرار الثاني على نفسه يقين، فجاز له الرجوع من الظن إلى اليقين.
[فرع قتل في زحمة أو نحوها فادعى وليه على رجل فأنكر]
أنه كان هناك وقت قتله] :
إذا قتل رجل في قرية أو في زحمة أو في صف قتال أو ما أشبه ذلك، فادعى وليه بقتله على رجل، فقال المدعى عليه: لم أكن في القرية أو في الزحمة أو في الصف وقت قتله.. لم يكن للولي أن يقسم عليه حتى يقيم البينة على المدعى عليه أنه كان هنالك عند قتله، فإذا أقام البينة أو أقر المدعى عليه أنه كان هنالك ولكنه قال: لم أقتله.. أقسم عليه الولي. وإن لم يقم عليه البينة ولا أقر.. فالقول قول المدعى عليه أنه لم يكن هنالك، فإن حلف فلا كلام، وإن نكل.. حلف المدعي أنه كان هنالك، ثم أقسم عليه.
[فرع لورثة القتيل أن يقسموا ولو كانوا غائبين عن موضع القتل]
ولورثة القتيل أن يقسموا وإن كانوا غيبا عن موضع القتل، لأنه يمكن أن يعلموا ذلك باعتراف القاتل أو ببينة؛ لأن عبد الله بن سهل قتل بخيبر وعبد الرحمن بن سهل بالمدينة ولم يشاهده، فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم» .(13/243)
فدل على أنه يجوز. ولأن اليمين تكون تارة على يقين وتارة على غلبة الظن.
فاليقين: أن يقرض إنسانا شيئا فينكره، فيحلف أنه أقرضه.
وغلبة الظن: أن يجد شيئا بخطه على إنسان ولا يعلم ذلك متى وقع، أو يجده بخط أبيه ويعلم أن أباه لا يكتب إلا بما كان له وأنه يمحو ما استوفاه.
وكذلك الرجل إذا وكل وكيلا يشتري له عبدا، فأتاه الوكيل بعبد فقال: قد اشتريت هذا، وجاء آخر وادعى ملكه وأنه غصبه منه.. فللموكل أن يقول: هو لي ويحلف عليه؛ لأنه يغلب على ظنه صدق الوكيل.
[فرع ادعى قتل عمد وقيل له صفه فوصفه خطأ أو بعمد خطأ]
وإن ادعى على رجل قتل رجل عمدا وهناك لوث، فقيل له: صف العمد، فوصفه بالخطأ المحض أو بعمد الخطأ.. فقد نقل المزني: (أنه لا يقسم) . ونقل الربيع: (أنه يقسم) . واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: ليس له أن يقسم؛ لأنه إذا ادعى قتل العمد.. فقد أقر ببراءة العصبة، وإذا وصفه بالخطأ أو بعمد الخطأ.. فقد أقر ببراءة المدعى عليه.
والثاني: أن له أن يقسم على ما فسره؛ لأن دعواه قد تحددت بذلك، وليس إذا اعتقد في الخطأ أو عمد الخطأ أنه عمد تبطل دعواه؛ لأن ذلك قد يشتبه عليه.
ومنهم من قال: يقسم قولا واحدا؛ لما ذكرناه. وحيث قال: (لا يقسم) أراد: على ما ادعاه.
وإن ادعى على رجل أنه قتل وليه وهناك لوث، فلم يسأله الحاكم عن صفة القتل ثم حلفه قبل ذلك.. لم تصح هذه الأيمان؛ لأن الأيمان قبل وقتها لا يعتد بها، كما لو حلف المدعى عليه قبل أن يسأله المدعي تحليفه.(13/244)
[مسألة القسامة للمسلم على الكافر وللذمي على المسلم]
مسألة: [تثبت القسامة للمسلم على الكافر وللذمي على المسلم] :
إذا ادعى مسلم على كافر أنه قتل وليه المسلم وأنكر الكافر في موضع فيه لوث.. فللمسلم أن يقسم عليه، والدليل على ذلك: قصة الأنصاري.
وإن ادعى الذمي على المسلم أنه قتل وليه وأنكر في موضع فيه لوث.. كان له أن يقسم عليه؛ لأن القتل يثبت بالبينة، وباللوث والقسامة، ثم ثبت أنه لو أقام عليه البينة.. لثبتت دعواه، فوجب أن تثبت له عليه القسامة.
[فرع قتل عبد وهناك لوث]
وإن قتل عبد وهناك لوث.. فقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن للسيد أن يقسم) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، بناء على القولين في العاقلة: هل تحمل قيمته؟ فإن قلنا: تحملها.. أقسم السيد. وإن قلنا: لا تحملها.. لم يقسم، بل القول قول المدعى عليه.
ومنهم من قال: له أن يقسم عليه قولا واحدا على ما نص عليه؛ لأن القسامة إنما تثبت مع اللوث لحرمة النفس، وهذا المعنى موجود في قتل العبد.
فإن قلنا بهذا: فقتل للمكاتب عبد وهناك لوث.. فللمكاتب أن يقسم؛ لأن المكاتب في عبده كالحر في عبده، فإن لم يقسم حتى عجز.. فللسيد أن يقسم.
وإن أذن لعبده في التجارة، واشترى عبدا وقتل وهناك لوث، وقلنا: للسيد أن يقسم في عبده.. فإن الذي يقسم هو السيد دون المأذون له؛ لأن المالك له في الحقيقة هو السيد.
[فرع أوصى لأم ولده بعبد فقتل وهناك لوث]
وإن أوصى الرجل لأم ولده بعبد، فقتل العبد وهناك لوث.. فللسيد أن يقسم(13/245)
عليه، فإذا أقسم.. كانت قيمته موصى بها. وإن مات السيد قبل أن يقسم.. فللورثة أن يقسموا؛ لأنهم يقومون مقامه في إثبات حقه، فإن حلفوا.. كانت قيمته لأم الولد إن خرجت من الثلث، وإن لم يقسموا.. فهل لأم الولد أن تقسم؟ فيه قولان، بناء على القولين في الرجل إذا مات وله دين له به شاهد وعليه دين، ولم يحلف الورثة مع الشاهد.. فهل للغرماء أن يحلفوا؟ على القولين. فإن قلنا: لها أن تقسم فأقسمت.. استحقت قيمة العبد، وإن لم تقسم.. كان لها مطالبة المدعى عليه باليمين. وإن قلنا: ليس لها أن تقسم.. قال القاضي أبو الطيب: فليس لها مطالبة المدعى عليه باليمين.
وإن دفع السيد إليها عبدا ليخدمها ولم يملكها إياه، فقتل العبد وهناك لوث.. فليس لها أن تقسم، وإنما الذي يقسم عليه هو السيد؛ لأنه هو المالك في الحقيقة.
وإن ملكها إياه، فإن قلنا: إنها لا تملك.. فهو كما لو لم يملكها. وإن قلنا: إنها تملكه.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أنها تقسم؛ لأنها تملكه، فهو كعبد المكاتب.
والثاني: أنها لا تقسم - ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره - لأن ملكها عليه غير مستقر؛ ولهذا: يجوز للسيد أن ينتزعه متى شاء، ولا يجوز لها التصرف فيه بغير إذنه، بخلاف عبد المكاتب. فإذا أقسم كانت القيمة لها.
[مسألة انكشف زحام عن مجروح فارتد ومات أو رجع إلى الإسلام ومات]
وإن انكشف الزحام عن مسلم وهو مجروح، فارتد ومات من جراحته.. لم تثبت فيه القسامة؛ لأنه إنما يقسم وارثه، والمرتد لا وارث له، وإنما ينتقل ماله إلى بيت مال المسلمين وهم لا يتعينون. فإن رجع إلى الإسلام ومات من الجراحة.. فلورثته أن يقسموا؛ لأنهم يرثون ماله، ثم ينظر فيه: فإن أقام في الردة زمانا لا تسري في مثله الجناية.. فهل يجب في القود في الجناية إذا قامت بها البينة أو الإقرار؟ فيه قولان. وأما الدية.. فتجب قولا واحدا.(13/246)
فإذا قلنا هناك: لا يجب القود.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: يجب القود.. فهاهنا قولان. وكل موضع قلنا: لا يجب فيه القود.. فإن الدية تثبت.
وإن أقام في الردة زمانا تسري فيه الجناية.. فإن القود لا يجب قولا واحدا، وهل تجب الدية أو نصفها؟ فيه قولان، مضى ذكرهما في (الجنايات) .
فإن قلنا: تجب فيه جميع الدية.. كان ذلك لورثته.
[مسألة كون المقتول مسلما أو عبدا وله ولي ولم يقسم حتى ارتد]
إذا قتل مسلم وله ولي، فلم يقسم الولي حتى ارتد.. فالأولى أن لا يعرض عليه الحاكم القسامة؛ لأنه لا يتورع مع ردته عن الأيمان الفاجرة، فإن حلفه في حال ردته.. صحت القسامة. وقال المزني: لا تصح أيمانه؛ لأنه كافر فلم تصح يمينه. وهذا خطأ؛ لأن الكافر تصح يمينه، فإذا أقسم.. وجب القود على المدعى عليه على القول القديم، والدية على القول الجديد، ويكون ذلك موقوفا، فإن رجع إلى الإسلام.. استحقه، وإن مات أو قتل على الردة.. كان ذلك للمسلمين واستوفاه لهم الإمام.
وحكي عن أبي حفص بن الوكيل وأبي علي بن خيران أنهما قالا: إنما تجب الدية بأيمانه على القول الذي يقول: لا يزول ملكه بالردة، أو قلنا: إنه موقوف فرجع إلى الإسلام. فأما على القول الذي يقول: إن ملكه يزول بالردة.. فإنه لا يحلف ولا تجب الدية بأيمانه. وهذا خطأ؛ لأن اكتسابه للمال يصح في حال ردته على الأقوال كلها، وهذا من جملة الاكتساب. وإن كان مرتدا عند قتل وليه.. فإنه لا يقسم.
وكذلك: إذا أسلم بعد موت المقتول.. فإنه لا يقسم؛ لأنه ليس بوارث له.
فإن كان المقتول عبدا، فارتد سيده.. فإن الأولى أن لا يعرض الحاكم عليه الأيمان؛ لما مضى. فإن استحلفه في حال ردته.. ثبتت القيمة وكانت موقوفة، سواء ارتد بعد موت العبد أو قبله؛ لأنه يستحق القيمة بالملك لا بالإرث.(13/247)
[فرع زال زحام عن عبد مجروح فأعتق ثم مات]
وإن زال الزحام عن عبد مجروح فأعتق، ثم مات العبد من الجراحة.. وجبت فيه دية حر، وللسيد أقل الأمرين: من أرش الجراحة أو الدية. فإن كانت الدية أقل.. أقسم السيد واستحقها، وإن كان الأرش أقل.. أقسم السيد والورثة، وهل يقسم كل واحد خمسين يمينا، أو يقسم كل واحد على قدر حصته من الدية؟ فيه قولان قد مضى ذكرهما.
وقال أبو إسحاق: لا يقسم السيد، لأنه يقسم على إثبات أرش الطرف.
والمنصوص هو الأول؛ لأن الطرف قد يسري إلى النفس.
[مسألة ادعى على المحجور عليه قتل عمد أو خطأ أو عمد خطأ]
وإن ادعى على المحجور عليه للسفه قتل عمد، فإن أقام عليه البينة.. حكم عليه بموجبه، وإن أقر المدعى عليه.. قبل إقراره؛ لأن القتل يتعلق ببدنه، فقبل إقراره فيه.
وإن أنكر، فإن كان مع المدعي بينة.. حكم عليه بموجب القتل، وإن كان معه لوث أو شاهد.. أقسم عليه الولي خمسين يمينا، واستحق عليه القود في قوله القديم، والدية في قوله الجديد. فإن لم يكن هناك مع المدعي لوث ولا شاهد.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. برئ، وإن نكل.. ردت اليمين على المدعي، وهل تغلظ عليه الأيمان؟ فيه قولان. فإن حلف.. استحق عليه القود، وله العفو عنه على الدية.
وإن ادعى عليه قتل الخطأ أو عمد الخطأ، فأقر له بذلك.. فإن الشيخ أبا حامد وأصحابنا العراقيين قالوا: لا يقبل إقراره؛ لأنه حجر عليه لحفظ ماله، فلو قلنا: يقبل إقراره.. لبطلت فائدة الحجر. وقال الخراسانيون: هل يقبل إقراره؟ فيه قولان.
فإن قلنا: لا يقبل إقراره.. لم يلزمه حكمه، وإن فك عنه الحجر في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى، فإن أقر بجنايته أو إتلاف مال.. لزمه، وإن أقر بدين معاملة.. لم يلزمه.(13/248)
وإن كان مع المدعي لوث.. حلف خمسين يمينا واستحق الدية على العاقلة، فإن كان معه شاهد عدل.. حلف معه يمينا واستحق الدية على العاقلة؛ لأن المال يثبت بالشاهد واليمين.
فإن لم يكن معه لوث ولا شاهد.. فهل تسمع دعواه؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، بناء على أن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه، هل تحل محل البينة أو محل الإقرار؟
فإن قلنا: تحل محل البينة.. سمعت دعواه؛ لأن فيه فائدة؛ وهو: أن المدعى عليه إذا نكل.. ردت اليمين على المدعي، فإذا حلف.. كان كما لو أقام البينة.
وإن قلنا: تحل محل إقرار المدعى عليه.. لم تسمع الدعوى عليه؛ لأن إقراره غير مقبول.
وقال ابن الصباغ: تسمع الدعوى عليه قولا واحدا؛ فإن حلف المدعى عليه.. برئ من الدعوى، وإن نكل.. لم ترد اليمين على المدعي قولا واحدا؛ لأن ذلك بمنزلة إقراره، وإقراره لا يقبل.
[مسألة دعوى في جناية دون نفس]
وإن كانت الدعوى في جناية دون النفس.. فإن اليمين لا تكون في جنبة المدعي ابتداء، سواء كان هناك لوث أو لم يكن؛ لأن الأيمان إنما تكون في جنبة المدعي ابتداء مع اللوث في القتل لحرمة النفس، وهذا لا يوجد فيما دون النفس. فإن لم يكن مع المدعي بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم.. لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن اليمين على المدعى عليه» .
وهل تغلظ اليمين عليه بالعدد؟ على قولين بناء على القولين في الدعوى عليه في القتل إذا لم يكن هناك لوث.(13/249)
فإن قلنا هناك: لا تغلظ عليه بالعدد.. فهاهنا أولى، وإن قلنا: تغلظ هناك عليه بالعدد.. فهاهنا قولان:
أحدهما: لا تغلظ عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكن اليمين على المدعى عليه» . و (اليمين) : اسم للواحدة. ولأن التغليظ لحرمة النفس، وهذا لا يوجد فيما دون النفس.
والثاني: تغلظ عليه بالعدد؛ لأنه تغليظ لا يتعلق بالنفس، فتعلق بما دون النفس، كتغليظ الدية.
فإن قلنا: لا تغلظ بالعدد، فإن كان المدعى عليه واحدا.. حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا واحدة.
فإن رد المدعى عليه اليمين على المدعي، فإن كان واحدا.. حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة.. حلف كل واحد منهم يمينا.
وإن قلنا: تغلظ بالعدد، فإن كان أرش الجناية دية كاملة أو أكثر.. حلف المدعى عليه خمسين يمينا. وإن كان الأرش أقل من دية النفس.. ففيه قولان:
أحدهما: يحلف خمسين يمينا؛ لأن التغليظ لحرمة الدم، وهذا المعنى موجود فيما قل أرشه أو كثر.
والثاني: تقسم الخمسون على الدية، فيحلف من الخمسين بقدر ما يدعى عليه من دية النفس. وإن كان في الأيمان كسر.. دخله الجبر؛ لأن ديته دون دية النفس، فلا يجب عليه أن يحلف عليه ما يحلف على النفس.
فعلى هذا: إن كان المدعى عليه واحدا.. حلف القدر المغلظ عليه، إما خمسين يمينا في أحد القولين، أو بقسط الأرش من الخمسين في الآخر.
وإن كان المدعى عليه جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم ما يحلفه الواحد إذا كان مدعى عليه، أو تقسم الأيمان التي كان يحلفها الواحد على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان مضى ذكرهما.(13/250)
فتحصل من هذا: أنه إذا ادعى قطع يد على جماعة.. فكم يحلف كل واحد منهم؟ فيه خمسة أقوال:
أحدها: أن كل واحد منهم يحلف خمسين يمينا.
والثاني: أن كل واحد منهم يحلف خمسا وعشرين يمينا.
والثالث: أن تقسم الخمسون يمينا عليهم على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر.
والرابع: تقسم الخمس والعشرون يمينا عليهم على عدد رؤوسهم ويجبر الكسر.
والخامس: أن كل واحد منهم يحلف يمينا واحدة.
فإن كان المدعى عليه واحدا، فنكل ورد اليمين، فإن كان المدعي واحدا.. حلف ما يحلفه المدعى عليه. وإن كانوا جماعة.. فهل يحلف كل واحد منهم ما يحلفه المدعى عليه، أو تقسم الأيمان التي يحلفها المدعى عليه على المدعيين على قدر مواريثهم ويجبر الكسر؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.
قال ابن الصباغ: وهذا في دعوى جناية العمد المحض، فأما الدعوى في الخطأ المحض أو في عمد الخطأ.. فإن اليمين فيه واحدة على المدعى عليه وعلى المدعي عند النكول قولا واحدا؛ لأن ذلك دعوى في المال.
وأما الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: فلم يذكرا الفرق بين العمد والخطأ وعمد الخطأ.
[مسألة تغليظ الحاكم اليمين على الولي وصيغة اليمين]
وإذا أراد الولي أن يحلف في القسامة.. فإنه يستحب للحاكم أن يغلظ عليه باللفظ.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فيقول: والله، أو بالله، أو تالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية لقد قتل(13/251)
فلان بن فلان بن فلان الفلاني - ويشير إليه إن كان حاضرا - فلان بن فلان الفلاني عمدا أو خطأ أو عمد خطأ - على حسب ما ادعاه - منفردا بقتله ما شاركه فيه غيره، إن كان ادعى عليه أنه انفرد بقتله) .
وإن ادعى القتل على اثنين.. قال: لقد قتل فلان وفلان -ويرفع في نسبهما- فلان بن فلان - ويرفع في نسبه- منفردين بقتله ما شاركهما فيه غيرهما، فتعد هذه يمينا، ثم يحلف كذلك حتى يكمل الخمسين يمينا.
ويكون اسم الله مخفوضا، فإن رفع الحالف اسم الله أو نصبه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحببت للحاكم أن يعيد عليه) فإن لم يفعل.. أجزأه، سواء تعمده أو لم يتعمده؛ لأن ذلك لحن لا يحيل المعنى ولا يحتمل غير ذلك. فإن اقتصر الحاكم على قوله: والله.. أجزأه؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقتصر في تحليف ركانة على قول: والله» .
وكذلك: إذا حلفه بصفة من صفات الذات؛ كقوله: وعزة الله، وعظمة الله، وعلم الله، وما أشبه ذلك.. أجزأه؛ لأنها يمين بالله؛ فهي كقوله: والله.
وأما قوله: لقد قتل فلان بن فلان، فلان بن فلان منفردا بقتله - إذا ادعى أنه انفرد بقتله- فهو شرط في القسامة؛ لأن الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل.. فكل واحد منهم قاتل إلا أن كل واحد منهم لا يجب عليه من الدية إلا بقسطه، فإذا لم يقل: منفردا بقتله.. يتأول أنه قتله فتؤخذ منه الدية كاملة ولا يجب عليه إلا بقسطه، وإذا قال: منفردا بقتله.. نفى ذلك.
وأما قوله: ما شاركه فيه غيره.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن ذلك تأكيد لا شرط، وقوله: (منفردا بقتله) يكفي.(13/252)
ومنهم من قال: إن ذلك شرط في القسامة؛ لأنه قد ينفرد بقتله فعلا إلا أن غيره أكرهه على قتله، فيكون المكره له مشاركا له في قتله حكما، ويجب عليه نصف الدية بلا خلاف على المذهب.
وقد يتأول الحالف بقوله: (منفردا بقتله) ، أي: فعلا، فلا يحنث. فإذا قال: ما شركه فيه غيره.. انتفى الاشتراك فعلا وحكما.
فإن قيل: فالاعتبار عندكم بنية الحاكم لا بنية الحالف، والحنث يقع على ما نواه الحاكم لا على ما نواه الحالف.. قيل: قد يكون هذا الحالف جاهلا لا يعلم ذلك، وربما ظن أن الاعتبار بما نواه الحالف فيقدم على اليمين الكاذبة ويعتقد أنه لا يحنث إلا على ما نواه، فإذا حلفه الحاكم مثل ما ذكرناه.. لم يقدم على اليمين الكاذبة.
[فرع ما يقوله أو ينفيه المدعى عليه إذا حلف أنه ما قتل]
وإن حلف المدعى عليه أنه ما قتل.. فإنه يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وينفي ستة أشياء، فيقول: ما قتلت فلان بن فلان الفلاني، ولا أعنت على قتله، ولا ناله من فعلي، ولا من سبب فعلي شيء جرحه، ولا وصل إلى شيء من بدنه، ولا أحدثت شيئا مات منه) .
فأما قوله: (ما قتلته) فإنه ينفي أنه ما باشر قتله وحده. وأما قوله: (ولا أعنت على قتله) فإنه ينفي أنه ما جرحه هو وغيره جراحات فيموت منها، وإذا لم يقل ذلك.. فربما اعتقد بقوله: (ما قتلته) ؛ أني: ما انفردت بقتله.
وأما قوله: (ولا ناله من فعله) يعني: أنه لم يصبه سهم ولا حجر.
وأما قوله: (ولا ناله من سبب فعله شيء جرحه) ؛ لأنه قد يرمي حجرا بحجر(13/253)
فتصيب الحجر فتقع الحجر المصابة على الإنسان فتقتله، فيكون قد أصابه بسبب فعله. وأما قوله: (ولا وصل إلي شيء من بدنه) يعني: أنه لم يسقه سما، فمات منه. وأما قوله: (ولا أحدثت شيئا مات منه) يعني: أنه لم يحفر بئرا في طريق الناس أو ينصب له سكينا، فيموت منه بذلك.
فإن قيل: فعندكم لا تصح الدعوى في القتل إلا مفسرة أنها عمد أو خطأ أو عمد خطأ، فتكون يمين المدعى عليه على نفي ما ادعي عليه من ذلك.. فلم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أنه يحلف على نفي جميع الأسباب، فيكون نافيا لقتل العمد والخطأ وعمد الخطأ؟ فاختلف أصحابنا في الجواب:
فمنهم من قال: إنما صور الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هذا في الدعوى إذا كانت لصغير أو مجنون أو سفيه.. فإن الحاكم يستظهر له في اليمين على المدعى عليه كذلك، فأما إذا كانت الدعوى لمن لا ولاية للحاكم عليه.. فإنه لا يحلفه إلا على نفي دعواه عليه. وقال أبو إسحاق: ما ذكره الشافعي هاهنا يدل على قول آخر له: (أن الدعوى تصح في القتل مطلقة ومقيدة) . ووجهه: أن الدعوى في ذلك تكون بالظن دون العلم والمشاهدة.
فعلى هذا: إن كانت الدعوى مقيدة.. لم يحلف المدعى عليه إلا على نفي ما ادعاه المدعي. وإن كانت الدعوى مطلقة.. فإن الحاكم يحلفه على نفي جميع أنواع القتل على ما مضى. قال أصحابنا: وهذا خلاف المذهب.
[فرع استحباب تغليظ اليمين على غير المسلم]
وإن كان الحالف يهوديا.. فإنه يستحب أن يغلظ عليه في يمينه باللفظ، فيقول: والله الذي أنزل التوراة على موسى وأنجاه من الغرق؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف يهوديا فقال له: "قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى: ما له عليك حق» .(13/254)
ولأنهم يعتقدون تعظيم ذلك، فغلظ عليهم به.
وإن كان نصرانيا.. أحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى؛ لأنهم يعتقدون تعظيم ذلك، فغلظ عليهم به. وإن كان مجوسيا.. أحلفه بالله الذي خلقه وصوره ورزقه؛ لأنهم يعتقدون تعظيم ذلك. وإن كان وثنيا.. أحلفه بالله فحسب؛ لأنه لا يعظم لفظا.
[فرع حلف الولي في اللوث وأخذ الدية فقال ظلمته]
] : وإذا حلف الولي مع اللوث وأخذ الدية، ثم قال: الذي أخذته حرام.. سئل عن ذلك، فإن قال: ظلمته في الأيمان ولم يكن المدعى عليه في المحلة وقت قتل مورثي، أو كان فيها ولم يقتل مورثي.. وجب على الولي رد الدية.
وإن قال: أردت أن الذي أعطانيه مغصوب، فإن عين الذي غصب منه.. لزمه رده عليه، ولا يكون له الرجوع بذلك على الذي أخذ منه الدية؛ لأنه لا يقبل قوله عليه، وإن لم يعين الذي غصبه منه.. لم يلزمه رده على أحد.
وإن قال: أردت أني اعتقدت أن الأيمان مع اللوث في جنبة المدعى عليه -كقول أبي حنيفة - قلنا له: اجتهاد الحاكم أولى من اجتهادك.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهكذا لو مات رجل وخلف ابنا، فقال الابن لا أرثه؛ لأنه كان معتزليا أو رافضيا، والمعتزلي والرافضي كافران.. فقد قال القفال والشيخ أبو حامد: المعتزلي والرافضي ليسا بكافرين.
ومن أصحابنا من قال بتكفير أهل الأهواء، وعليه أكثر أهل الأصول.(13/255)
وكذلك: لو قضى قاض حنفي لشافعي بالشفعة بالجوار.. فقال المقضي له: أخذت باطلا.. قلنا له: أنت مخطئ، ويحل لك اعتبارا بحكم الحاكم لا باجتهادك.
فإن ادعى المدعى عليه أن الولي أراد بقوله ذلك: أن المدعى عليه ليس بقاتل، وقال الولي: بل أردت أحد التفسيرين الآخرين.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأنه أعلم بما أراد.
[مسألة مقدار المال الذي لأجله تغلظ اليمين]
بأربعة أشياء] : ومن توجهت عليه يمين، فإن كانت فيما ليس بمال، ولا المقصود منه المال؛ كالقصاص، والنكاح، والطلاق، وحد القذف وما أشبه ذلك.. غلظت عليه اليمين.
وإن كانت في مال أو ما يقصد منه المال، فإن كان المال عشرين مثقالا أو مائتي درهم.. غلظت عليه اليمين. وإن كان دون ذلك.. لم تغلظ فيه اليمين.
وقال أبو علي بن خيران: تغلظ فيه اليمين بالقليل والكثير من المال؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف على منبري يمينا فاجرة ولو على سواك من أراك.. لقي الله وهو عليه غضبان» . وقال مالك: (يغلظ اليمين فيما تقطع فيه يد السارق) .(13/256)
ودليلنا: ما روي: (أن عبد الرحمن بن عوف مر بقوم يحلفون بين الركن والمقام، فقال: أعلى دم؟ قالوا: لا، قال: أفعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام) يعني: يستخفون بحرمته. ففرق بين العظيم وغيره، والعظيم هاهنا أراد به الكثير؛ لأنه قرنه بالدم، وذلك يحتمل القليل والكثير، فكان حمله على النصاب الذي تجب فيه الزكاة أولى؛ لأنه القدر الذي يحتمل المواساة. والخبر الذي احتج به ابن خيران.. فالمراد به: ضرب المثل والمبالغة في التحذير؛ كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة.. بنى الله له بيتا في الجنة» ، والمراد به: ضرب المثل والمبالغة في الترغيب.
فإذا كانت اليمين في العتق، فإن كان الذي يحلف هو العبد.. غلظت عليه اليمين، سواء قلت قيمته أو كثرت؛ لأنه يثبت بيمينه العتق. وإن كان الذي يحلف هو السيد، فإن كانت قيمته أقل من النصاب.. لم تغلظ عليه اليمين. وإن كانت قيمته نصابا.. غلظت عليه اليمين؛ لأن المقصود بيمينه إثبات المال.
إذا ثبت ما ذكرناه: فإن التغليظ في الأيمان يقع بأربعة أشياء: بالعدد، واللفظ، والزمان، والمكان.
فأما العدد: فإنما يكون بالقسامة واللعان، وقد مضى بيانهما.(13/257)
وأما اللفظ: فقد مضى بيانه أيضا.
وأما التغليظ بالمكان والزمان: فهو مشروع عندنا فيما ذكرناه. وبه قال أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وأكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة: (هو غير مشروع في الأيمان) .
دليلنا - على التغليظ بالزمان -: قَوْله تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] الآية [المائدة: 106] . قال أهل التفسير: أراد به العصر.
وعلى التغليظ بالمكان ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على منبري هذا يمينا فاجرة ولو على سواك من أراك.. لقي الله وهو عليه غضبان» . وروى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على منبري هذا يمينا فاجرة.. فليتبوأ مقعده من النار» . فثبت أنه يتعلق به تأكيد اليمين.
والمكان الذي تغلظ فيه اليمين: أن يكون بأشرف موضع في البلد الذي فيه اليمين، والزمان الذي تغلظ فيه اليمين: أن يكون بعد العصر. وهل يستحب التغليظ بالمكان أو يجب؟ فيه قولان، وقد مضى بيان ذلك في (اللعان) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ورأيت ابن مازن وهو قاض بصنعاء يغلظ اليمين بالمصحف. وروي ذلك عن ابن عباس، وهو حسن) .
قال أصحابنا: ويستحب أن يغلظ عليه بإحضار المصحف، ويضع الحالف عليه يده؛ لأنه يشتمل على أسماء الله وكلامه.
[فرع يمين العاجز والزمن والمرأة]
وإن كانت اليمين على رجل زمن أو مريض لا يقدر على الخروج إلى الموضع(13/258)
الشريف.. لا يكلف الخروج إليه؛ لأن في ذلك مشقة، وقد سقط عنه بعض الواجبات بالعجز عنه، كالقيام في الصلاة. وإن كانت اليمين على امرأة، فإن كانت برزة - وهي: التي تبرز في حوائجها - فإنه يغلظ عليها اليمين بالمكان والزمان إلا أن تكون حائضا فلا يجوز أن تدخل المسجد، بل تحلف على باب المسجد. وإن كانت غير برزة - وهي: التي لا تخرج في حوائجها - فإن الحاكم يبعث إليها من يحلفها، وهل يغلظ يمينها بالمكان؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أنها تحضر إلى المكان الشريف فتحلف فيه؛ لأنه تغليظ مشروع في اليمين فشرع في حقها، كالتغليظ بالزمان والألفاظ.
والثاني: أنها لا تحضر إلى المكان الشريف، بل تحلف في بيتها؛ لأن خدرها إذا منع من إحضارها إلى مجلس الحكم.. جرى مجرى المرض، فيسقط به التغليظ بالمكان.
[فرع حلف بالطلاق أو غيره أنه لا يحلف يمينا مغلظة]
وإن حلف رجل يمينا بالطلاق أو غيره: أنه لا يحلف يمينا مغلظة، فتوجهت عليه يمين مغلظة بالزمان أو بالمكان، فامتنع من ذلك، فإن قلنا: إن التغليظ بذلك واجب.. قيل له: إما أن تحلف يمينا مغلظة بذلك وتحنث في يمينك، وإلا.. جعلناك ناكلا. وإن قلنا: إن التغليظ بذلك مستحب.. لم يكلف أن يحلف يمينا مغلظة، ولا يحكم عليه بالنكول بالامتناع من ذلك، وإن امتنع من التغليظ باللفظ.. لم يحكم عليه بالنكول بذلك.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لو امتنع من التأكيد بالزمان أو المكان.. كان نكولا منه، ولو امتنع من التأكيد باللفظ.. ففيه وجهان.
[مسألة لا تقبل اليمين إلا بعد الاستحلاف من الحاكم]
] : ولا تصح اليمين إلا بعد أن يستحلفه الحاكم؛ لما روي: «أن ركانة بن عبد(13/259)
يزيد قال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله: ما أردت إلا واحدة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " والله ما أردت إلا واحدة " فقال: والله ما أردت إلا واحدة» .
فموضع الدليل: أن ركانة حلف قبل أن يستحلفه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يعتد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيمينه، بل استدعى منه اليمين ثانيا. ولأن اليمين تقع على نية الحاكم حتى لا يمكن الحالف أن يتأول فيها فيخرج منها، فلو قلنا: تصح يمينه قبل أن يستحلفه الحاكم.. لم يؤمن أن يحلف وينوي ما لا يحنث به. قال أصحابنا: وفي خبر ركانة اثنتا عشرة فائدة:
إحداها: أنه يجوز الاقتصار في اليمين على اسم الله.
الثانية: يجوز حذف حرف القسم؛ لأنه روي فيه في بعض الأخبار: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: الله ما أردت إلا واحدة» .
الثالثة: أن اليمين قبل استحلاف الحاكم لا تصح.
الرابعة: أن الثلاث لا تقع بقوله: البتة.
الخامسة: أنه لو أراد إيقاع ما زاد على واحدة.. لوقع.
السادسة: أن إيقاع الثلاث ليس بمحرم.
السابعة: أن الطلاق يقع بـ: (البتة) طلقة رجعية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها عليه.
الثامنة: أن المرجع إلى نية المطلق.
التاسعة: أن الطلاق يقع بالصفات والمصادر؛ لأن قوله: (البتة) مصدر.
العاشرة: أن اليمين تعرض في الطلاق.
الإحدى عشرة: أن الإشهاد ليس بشرط في الرجعة؛ لأنه لم ينقل أنه كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيره.
الإثنتا عشرة: أن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة والولي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعتبر رضاهما.(13/260)
[فرع الحلف والاستثناء أو كون الحالف أخرس]
] : قال في " الأم ": (إذا حلف واستثنى بيمينه؛ مثل أن يقول: والله، إن شاء الله.. أعيدت عليه اليمين؛ لأن الاستثناء يرفع اليمين. وكذلك: إذا وصل بيمينه شرطا أو كلاما لم يفهم.. أعيدت عليه اليمين؛ لجواز أن يكون قد صرف اليمين عما نواه الحاكم. وإن كان من وجبت عليه اليمين أخرس لا تفهم إشارته.. وقفت اليمين إلى أن تفهم إشارته، فإن سأل المدعي أن ترد عليه اليمين.. لم ترد عليه اليمين؛ لأنه لم يتحقق نكوله) .
[مسألة الحلف على البت والقطع على فعل نفسه]
، وماذا لو حلف على فعل غيره؟] : وإذا توجهت اليمين على إنسان وأراد أن يحلف، فإن كان يحلف على فعل نفسه.. فإنه يحلف على البت والقطع، سواء حلف على الإثبات أو على النفي.
وإن كان يحلف على فعل غيره.. نظرت: فإن حلف على الإثبات.. حلف على البت والقطع، وإن حلف على النفي.. حلف على نفي العلم. وبه قال عامة أهل العلم.
وذهب الشعبي والنخعي إلى: أن الأيمان كلها على البت والقطع.
وذهب ابن أبي ليلى إلى: أن الأيمان كلها على نفي العلم.
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلف رجلا، فقال: " قل: والله الذي لا إله إلا هو ما له عليك هذا الحق» فجعله على البت؛ لأنه حلفه على فعل نفسه.
وروى الأشعث بن قيس: «أن رجلا من حضرموت ادعى على رجل من كندة أرضا بالمدينة بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الحضرمي: اغتصبنيها أبوك، فقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها، فقال الحضرمي: تحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما تعلم أن(13/261)
أباك اغتصبنيها؟ فتهيأ الكندي لليمين، فلم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سؤال الحضرمي للكندي أن يحلف على نفي علمه» . فدل على: أن حكم اليمين على نفي فعل الغير هكذا. ولأن الإنسان يمكنه الإحاطة بما فعل وبما لم يفعل؛ فلذلك كلف أن يحلف على فعل نفسه على البت والقطع في الإثبات والنفي، ويمكنه التوصل إلى العلم بما فعل غيره فكلف اليمين فيه على الإثبات على البت، ولم يتوصل إلى العلم بما لم يفعل غيره فلم يكلف اليمين فيه على الإثبات.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن حلف بعض الحكام على القطع واليقين فيما يحتاج أن يحلف فيه على نفي العلم.. جاز ذلك، وينصرف ذلك إلى الاستحلاف على نفي العلم دون القطع واليقين) .
[فرع ادعى أن له على أبيه دينا وقال المدعى عليه قد أبرأتني منه]
فرع: [ادعى أن له على أبيه دينا أو له على رجل دينا وقال المدعى عليه قد أبرأتني منه] : وإن ادعى رجل على رجل أن له على أبيه دينا.. لم تسمع دعواه عليه إلا بعد أن يدعي موت أبيه، وأن في يده تركة له، وأنه يستحق ذلك الحق فيها؛ لأنه إذا لم يكن في يده تركة لأبيه.. لم يلزمه قضاء الدين من مال نفسه. فإن أنكر المدعى عليه موت أبيه.. فالقول قوله مع يمينه، ويحلف على نفي العلم. وقال ابن القاص: يحلف على القطع؛ لأنه يمكنه الإحاطة بذلك. والأول أصح؛ لأنها يمين على نفي فعل الغير.
فإن أنكر أن التركة في يده.. حلف أنه ما وصل إليه ما فيه وفاء بالدين ولا ببعضه. ولا يلزمه أن يحلف: ما خلف أبوه شيئا؛ لأنه قد يخلف شيئا ولم يصل إليه.
فإن ادعى رجل على رجل دينا، فقال المدعى عليه: قد أبرأتني من الدين.. فقد أقر بالدين عليه؛ لأن دعواه البراءة تتضمن ثبوت الدين عليه، فإن أقام بينة على البراءة.. برئ، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول من له الدين مع يمينه؛ لأن الأصل عدم البراءة.(13/262)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويحلف بالله: إن هذا الحق - ويسميه بما يصير به معلوما - لثابت عليه، وإنه ما اقتضاه ولا شيئا منه ولا أبرأه منه ولا من شيء منه، وإنه لثابت عليه إلى أن حلفت هذه اليمين) .
وقال في موضع آخر: (يحلف بالله: إن هذا الحق - ويسميه - لثابت عليه وما اقتضاه ولا شيئا منه، ولا اقتضاه أحد بأمره ولا شيئا منه، ولا اقتضى بغير أمره فوصل إليه) . واختلف أصحابنا في هذا:
فقال بعضهم: إن كان المدعى عليه قد ادعى البراءة بجهة خاصة؛ بأن يقول: قبض هذا الحق مني، أو أبرأني منه، أو أحال به علي.. فإن المدعى عليه يحلف على نفي تلك الجهة فحسب. وإن ادعى البراءة مطلقا.. فيحتاج إلى أن يحلف على نفي جميع هذه الجهات لنفي الاحتمال من جميع الوجوه.
قال الشيخ أبو حامد: وإنما حلف أنه ما اقتضى بغير أمره فوصل إليه؛ لأنه إذا قبضه غيره بغير أمره ووصل إليه.. برئ.
ومن أصحابنا من قال: يكفيه أن يحلف أنه ما أبرأ إليه منه، أو أنه لم يبرأ من ذلك الحق بقول ولا فعل؛ لأنه يدخل تحت ذلك سائر جهات البراءة. وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ فإنما ذكره على سبيل الاستحباب لا على سبيل الشرط.
[مسألة ادعى رجل على آخر أنه غصب منه أو أقرضه شيئا]
] : وإن ادعى رجل على رجل أنه غصب منه شيئا أو أقرضه شيئا، فقال المدعى عليه: لا حق لك علي من ذلك، أو لا تستحق علي ذلك.. صح الجواب.
فأما إذا أراد المدعى عليه أن يحلف.. فإنه يحلف أنه لا يستحق عليه ذلك. ولا يكلف اليمين: أنه لم يغصبه منه أو لم يقترض منه؛ لأنه قد يغصب منه أو يقترض منه، ثم يقضيه إياه أو يبرئه منه ولا بينة له على ذلك، فإذا حلف على أنه لم يغصب منه أو لم يقترض منه.. كان حانثا في يمينه. وإن أقر له بذلك.. لم يقبل قوله، فيلزمه(13/263)
الحق المدعى به عليه. وإن قال المدعى عليه في الجواب: ما غصبت منك أو ما اقترضت منك، وسأل المدعي إحلافه، فإن قال المدعى عليه: أحلف ما غصبت منك أو ما اقترضت منك.. كان له ذلك. فإن قال: أحلف أنك لا تستحق علي ذلك أو لا حق لك علي.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن له ذلك؛ لما ذكرناه في التي قبلها.
والثاني: ليس له ذلك، بل يكلف اليمين: أنه ما غصب منه ولا اقترض منه؛ لأنه لما أجاب بذلك.. علم أنه يمكنه أن يحلف عليه، فلزمه أن يحلف عليه.
ولا بد أن يحلف المدعى عليه: أنه لا يستحق عليه ذلك ولا بعضه؛ لأنه إذا حلف أنه لا يستحق عليه ذلك.. فقد يستحق عليه بعضه، فلا يحنث على نفي استحقاق الجميع.
[مسألة ادعاء جماعة على شخص حقا]
إذا ادعى رجلان أو جماعة على رجل حقا، فأنكر المدعى عليه ولا بينة لهم.. فإن الحاكم يحلفه لكل واحد منهم يمينا، فإن حلفه يمينا لهم بغير رضاهم.. لم يعتد بهذه اليمين. وحكي: أن إسماعيل القاضي المالكي حلف رجلا يمينا بحق لرجلين، فخطأه أهل عصره. وإن رضي المدعيان أو الجماعة أن يحلف لهم المدعى عليه يمينا واحدة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن الحق لهم وقد رضوا.
والثاني: لا يصح، وهو الأصح؛ لأن اليمين حجة في حق كل واحد منهم، فإذا رضي بها الجماعة في حقوقهم.. صارت الحجة ناقصة في حق كل واحد منهم، والحجة الناقصة لا تكمل برضا الخصم، كما لو رضي الخصم أن يحكم عليه بشاهد واحد.. فإنه لا يصح.
والله أعلم(13/264)
[كتاب الشهادات](13/265)
كتاب الشهادات الأصل في تعلق الحكم بالشهادة: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] . فمنع من كتمان الشهادة، فدل على: أنه إذا أدى الشهادة.. تعلق الحكم بها. وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] [النور: 4] . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] . وغير ذلك من الآيات.
وأما السنة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة ". وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الشهادة، فقال: " هل ترى الشمس؟ " فقال: نعم! قال: " على مثلها فاشهد أو دع» وغير ذلك من الأخبار.(13/267)
وأما الإجماع: فإنه لا خلاف بين الأمة في تعلق الحكم بالشهادة.
إذا ثبت هذا: فتحمل الشهادة فرض؛ وهو: إذا دعي الرجل ليتحمل الشهادة على نكاح أو دين.. وجبت عليه الإجابة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] وقد قرئ برفع (يضار) وبنصبه، فمن قرأ بالرفع.. فمعناه: لا يضار الكاتب والشهيد بمن يدعوه فيمتنع من إجابته بغير عذر.
وقيل: لا يكتب الكاتب ما لم يستكتب، ولا يشهد الشاهد ما لم يُشهَّد عليه.
ومن قرأ بالنصب.. فمعناه: لا يضار بالكاتب والشهيد؛ بأن يدعوهما للكتابة والشهادة من غير حاجة إلى ذلك فيقطعهما عن حوائجهما.
وهو فرض على الكفاية، إذا دعي إلى الشهادة جماعة فأجاب شاهدان.. سقط الفرض عن الباقين؛ لأن القصد من الشهادة التوثيق، وذلك يحصل بشاهدين.. فإن امتنع جماعتهم عن الإجابة.. أثموا. فإن لم يكن في موضع إلا شاهدان، فدعيا إلى تحمل الشهادة.. تعينت عليها الإجابة، فإن امتنعا.. أثما؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بهما.
وكذلك أداء الشهادة فرض؛ وهو: إذا كان مع رجل شهادة آخر، فدعاه المشهود له إلى أدائها عند الحاكم.. وجب عليه أداؤها عند الحاكم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(13/268)
{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] فنهى عن كتمان الشهادة وتوعده على كتمها، فدل على: أنه يجب إظهارها. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، وهذا يعم حال التحمل وحال الأداء.
وهو فرض على الكفاية، إذا أدى الشهادة اثنان من الشهود.. سقط الفرض عن الباقين؛ لأن القصد منه إثبات الحق، وذلك يحصل بهما.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه إذا دعي لأداء الشهادة.. تعين عليه الأداء وإن كان هناك غيره؛ لأنه إذا امتنع.. ربما امتنع غيره، فيؤدي إلى الإضرار بالمشهود له. والأول هو المشهور. فإن امتنع جميع الشهود من الأداء.. أثموا.
وقد يتعين الأداء على شاهدين، فإن لم يشهد على الحق إلا اثنان، أو شهد عليه جماعة لكنهم غابوا أو ماتوا أو كانوا فساقا إلا اثنين.. فإنه يتعين عليهما الأداء إذا دعيا للأداء؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بهما.
ومن تعين عليه فرض تحمل الشهادة أو أدائها.. لم يجز له أن يأخذ على ذلك أجرة؛ لأنه فرض توجه عليه، فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، كالصلاة. فإن لم يتعين عليه.. فهل يجوز له أن يأخذ عليه أجرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه وثيقة بالحق لم يتعين عليه، فجاز له أخذ الأجرة عليها، ككتب الوثيقة.
والثاني: لا يجوز له ذلك؛ لأن التهمة تلحقه بأخذ العوض.
[مسألة عرض الشهادة إذا كان صاحبها يعلمها]
مسألة: [استحباب عرض الشهادة إذا كان صاحبها يعلمها وإلا فلا وماذا لو كانت بحد؟] :
ومن كانت عنده شهادة لآدمي، فإن كان صاحبها يعلم بها.. استحب له أن لا يعرضها عليه.(13/269)
وإن كان صاحبها لا يعلم بها.. استحب له أن يعلمه بها؛ لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، فيحلف الرجل اليمين لا يسألها، ويأتي بالشهادة قبل أن يسألها»
وروى زيد بن خالد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا أخبركم بخير الشهود؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» .
قال أصحابنا: وكيفية استعمال الخبرين: أن يحمل المدح على الذي يشهد بالشهادة قبل أن يسألها إذا كان صاحبها لا يعلم بها، ويحمل الذم على الذي يشهد بالشهادة قبل أن يسألها إذا كان صاحبها يعلم بها.
وقيل: بل يحمل المدح هاهنا على الشاهد الصادق في شهادته، ويحمل الذم على الكاذب في شهادته؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ثم يفشو الكذب ".(13/270)
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا شهد بحق لآدمي قبل أن يستشهد.. فهل تصح شهادته؟ فيه وجهان.
فإذا قلنا: لا تصح.. فهل يقدح في عدالته؟ فيه وجهان. الأصح: أنه لا يقدح في عدالته إلا أنه أساء.
وإن كانت عنده شهادة بحق لله تعالى.. فالمستحب له: أن لا يشهد بها؛ لأنه مندوب إلى ستره، فإن شهد بها.. جاز؛ لما روي: (أن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينكر عليهم عمر ولا غيره من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -) .
[مسألة الشهادة للنكاح والرجعة]
مسألة: [تشترط الشهادة للنكاح والرجعة في أحد القولين ولا تشترط في غيرهما عند الأكثرين] :
العقود على ضربين: ضرب يشترط الشهادة في صحتها، وضرب لا يشترط الشهادة في صحتها عندنا.
فأما الضرب الذي يشترط الشهادة في صحتها، فالنكاح، وفي الرجعة قولان، وقد مضى ذكر ذلك.
وأما الضروب التي لا يشترط الشهادة في صحتها: فهو ما عدا النكاح والرجعة، كالبيع والرهن والإجارة وغير ذلك من العقود. وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال ابن المسيب: يجب الإشهاد على البيع، وبه قال الشعبي والضحاك وأهل الظاهر، فمن أهل الظاهر من قال: هي شرط في صحة البيع، ومنهم من قال: ليست بشرط. واختلفوا في كيفية الإشهاد، فمنهم من قال: يجب على المتعاقدين أن يقولا: أشهدناكم. ومنهم من قال: إحضارهم يكفي.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] فمنها دليلان:(13/271)
أحدهما: قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] ومعناه: فلم تجدوا من يشهد على الكتاب؛ لأن مجرد الكتابة لا تقع به الوثيقة.
والثاني: أن الله تعالى ذكر الوثائق في الآية ثم قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] [البقرة: 283] فأخبر أنه إذا لم يستوثق بهذه الوثائق وأمن به.. فإنه يجوز، وندب المؤتمن إلى أداء الأمانة في ذلك.
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابتاع من أعرابي فرسا فتبعه ليوفيه الثمن فطفق الناس يعترضونه ويساومونه ولا يشعرون أنه باع، فنادى النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن ابتعته وإلا بعته؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أليس قد بعته؟! " فقال الأعرابي: هلم شهيدا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من يشهد لي؟ " فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد عليك بالبيع، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بم تشهد ولم تحضر؟! " فقال: نصدقك على أخبار السماء ولا نصدقك على أخبار الأرض! فسماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ذا الشهادتين» .
إذا ثبت هذا: فإنه يستحب الإشهاد على البيع؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يستجاب لهم دعوة: رجل باع ولم يشهد عليه، ورجل له امرأة سوء ولم يطلقها، ورجل دفع ماله إلى سفيه» . وهذا نهي إرشاد لا نهي تحريم.(13/272)
[فرع شهدا لرجل بمال عند الحاكم وبيانهما سبب الشهادة]
] : وإن شهد شاهدان لرجل بمال عند الحاكم؛ فإن أضافاه إلى سبب؛ بأن قالا: هو من ثمن مبيع أو ما أشبهه.. فلا كلام. وإن أطلقا الشهادة.. استحب للحاكم أن يسألهما عن جهة الشهادة إن كان لا يثق بسداد عقولهما، كما يستحب له تفريق الشهود إذا ارتاب بهم. وإن كان لهما عقول وافرة.. لم يستحب له أن يسألهما، كما لا يستحب له تفريق الشهود إذا لم يرتب بهم.
والله أعلم(13/273)
[باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل]
لا تقبل الشهادة إلا من عدل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] [الحجرات: 6] فدل على: أنه إذا جاء من ليس بفاسق لا يتبين. ولقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] فدل على: أن شهادة من ليس بعدل لا تقبل.
إذا ثبت هذا: فـ (العدل) في اللغة هو: الذي استوت أحواله واعتدلت. يقال: فلان عديل فلان، إذا كان مساويا له. وسمي العدل عدلا؛ لأنه يساوي مثله على البهيمة.
وأما العدل في الشرع فهو: العدل في أحكامه ودينه ومروءته.
فـ (العدل في الأحكام) : بأن يكون بالغا، عاقلا، حرا.
و (العدل في الدين) : بأن يكون مسلما مجتنبا للكبائر غير مصر على الصغائر.
و (العدل في المروءة) : أن يجتنب الأمور الدنيئة التي تسقط المروءة على ما يأتي بيانه.
فأما الصبي: فلا تقبل شهادته بحال. وبه قال ابن العباس وشريح وعطاء والحسن وطاووس والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه.(13/274)
وقال ابن الزبير والنخعي ومالك: (تقبل شهادة بعضهم على بعض في الجراح إذا كانوا مجتمعين على الصفة التي تجارحوا عليها، فأما إذا تفرقوا ثم جاؤوا وشهدوا.. فلا تقبل شهادتهم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والصبيان ليسوا من الرجال) . ولأنه قال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] الآية [البقرة: 283] فتوعد على كتمان الشهادة، والوعيد لا يلحق بالصبي. ولأنها شهادة من غير مكلف فلم تصح، كما لو شهد بالمال.
ولا تقبل شهادة المجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . ولأنه لا حكم لقوله في ماله، فلأن لا يكون له حكم في حق غيره أولى.
[مسألة شهادة من يكثر سهوه وغلطه]
] : إذا كان الشاهد ممن يكثر منه السهو والغلط، فشهد بحق.. فهل تقبل شهادته؟ ينظر فيه: فإن كان السهو والغلط نادرا منه.. قبلت شهادته؛ لأن أحدا لا يخلو من ذلك، وقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسهو ويغلط.(13/275)
وإن كان يكثر منه السهو والغلط - وهو الذي يسمى بالمغفل - لم تقبل شهادته؛ لأن في قبول شهادته تضييعا للحقوق؛ لأنه لا يؤمن أن يسهو ويغلط في شهادته على ما هو الأغلب في أمره. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال أصحابنا الخراسانيون: تقبل شهادة المغفل إذا كانت مفسرة؛ مثل أن يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا أقر له به، أو اقترضه منه وما أشبهه. ولا تقبل شهادته إذا كانت غير مفسرة؛ مثل أن يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا وكذا، فلا تقبل شهادته. وهل تقبل شهادة الأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تقبل؛ لأن إشارته كعبارة غيره؛ ولهذا جعلت إشارته كعبارة غيره في البيع وغيره.
والثاني: لا تقبل؛ لأن إشارته إنما جعلت كعبارة غيره للضرورة، ولا ضرورة هاهنا في شهادته؛ لأنها تصح من الناطق.
[مسألة شهادة العبد]
ولا تقبل شهادة العبد بقليل ولا كثير على حر ولا عبد. وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس، والحسن البصري، وعطاء، ومجاهد، وشريح، ومالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه. وروي عن أنس: أنه قال: (تقبل شهادة العبد في كل قليل وكثير على الحر والعبد) .
وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (تقبل شهادة العبد على العبد، ولا تقبل على الحر) . وبه قال عثمان البتي، وأحمد، وإسحاق، وداود.(13/276)
وقال النخعي والشعبي: تقبل شهادة العبد في القليل، ولا تقبل في الكثير.
دليلنا: أن الشهادة أمر لا يتبعض بني على المفاضلة، فلم يكن للعبد فيه مدخل، كالميراث والرجم.
فقولنا: (لا يتبعض) احتراز من النكاح والطلاق والعدة والجلد، فإن هذه الأمور للعبد فيها مدخل؛ لأنها تتبعض. وقولنا: (بني على المفاضلة) احتراز من القطع في السرقة، فإن للعبد فيه مدخلا؛ لأنه لم يبن على المفاضلة. وقولنا: (كالميراث والرجم) لأنهما بنيا على المفاضلة؛ لأن ميراث الرجل كميراث امرأتين، وشهادة رجل كشهادة امرأتين، وكذلك الرجم يجب على الكامل ولا يجب على الناقص.
[مسألة شهادة أهل ملة على ملة أخرى]
ولا تقبل شهادة الكفار على المسلمين ولا على الكفار. وبه قال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (تقبل شهادة بعضهم على بعض، سواء شهد على أهل ملته، أو على غير أهل ملته) . وبه قال الحسن البصري، وسوار بن عبد الله القاضي، وعثمان البتي، وحماد. وقال الزهري، والشعبي، وقتادة، والحكم، وإسحاق، وأبو عبيد: تقبل شهادة أهل الملة على بعضهم، ولا تقبل شهادة أهل ملة على أهل ملة أخرى، ولا تقبل شهادة اليهودي على النصراني، ولا شهادة النصراني على اليهودي.
وأجمعوا: على أن شهادتهم لا تقبل على مسلم.
وحكي عن أحمد أنه قال: (تقبل شهادتهم على المسلم في الوصية وحدها إذا(13/277)
لم يكن هناك مسلم، ولا تقبل شهادة بعضهم على بعض) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] [الحجرات: 6] فأمر بالتبين في نبأ الفاسق، وهو خبره، والكافر فاسق، فاقتضى وجوب التبين في خبره، والشهادة خبر. وروى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقبل شهادة أهل دين على غير أهل دينهم إلا المسلمين؛ فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم» .
ولأن من عرف بالكذب وأكل السحت لا تقبل شهادته، وقد أخبر الله تعالى: أن الكفار يفعلون ذلك. قال الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] فلم تقبل شهادتهم.
[مسألة شهادة الفاسق]
مسألة: [لا تقبل شهادة الفاسق] :
ولا تقبل شهادة الفاسق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية [الحجرات: 6] فأمر بالتبين في نبأ الفاسق؛ وهو خبره، والشهادة خبر.
ومن ارتكب شيئا من الكبائر؛ وهي: الكفر بالله أو ببعض أنبيائه - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وسلامه أو ببعض كتبه، والقتل بغير الحق، والزنى، واللواط، وشرب الخمر، والسرقة، والغصب، وشهادة الزور، والقذف.. فسق وردت شهادته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} [النور: 4] الآية [النور: 4] . فأمر الله تعالى برد شهادة القاذف لينبه على رد شهادة القاتل والزاني واللائط؛ لأنها أعظم منه، وأعظم حدا وأغلظ جناية.(13/278)
وروى أبو داود في " سننه ": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة، ولا زان ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه» . و (الخائن) : الغاصب. ولأن من استجاز ركوب كبيرة.. استجاز مثلها، ومن كانت هذه صفته.. لم يؤمن أن يشهد بالزور، فلم تقبل شهادته بذلك.
[فرع مؤخر الصلاة وعدالته]
أو جلوس الرجل على الديباج عند عقد النكاح] : قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن ترك صلاة واحدة؛ بأن اشتغل عنها بشيء.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تسقط عدالته، كما لو تركها ساهيا.
والثاني: تسقط؛ لاشتغاله بأمر من أمور الدنيا عن الصلاة.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن جلس على الديباج أو شرب من إناء فضة أو ذهب.. سقطت عدالته وفسق ما دام جالسا عليه، حتى يقوم. قال بعض أصحابنا: لو جلس على الديباج عند عقد النكاح.. لم ينعقد النكاح؛ لأن التحمل للشهادة كالأداء. وقال سائر أصحابنا: ينعقد.
[مسألة خلط العمل الصالح بالسيئ]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس أحد من الناس يعمل بمحض الطاعة حتى لا يخلطها بالمعصية، ولا بمحض المعصية حتى لا يخلطها بالطاعة، فاعتبر الأغلب من حاله) .(13/279)
قال أصحابنا: وأراد بذلك الصغائر دون الكبائر، فإذا كان الإنسان مجانبا للكبائر وارتكب بعض الصغائر، فإن كان الغالب من أحواله مواقعة الصغائر.. لم تقبل شهادته؛ لأن من استجاز مواقعة الصغائر في غالب أحواله.. استجاز مواقعة الكبائر، فلم تقبل شهادته.
وإن كان الغالب من أحواله ترك ارتكاب الصغائر، وإنما يواقعها نادرا.. لم ترد شهادته بذلك؛ لأنا لو قلنا: ترد شهادته.. أدى إلى أن لا تقبل شهادة أحد؛ لأن أحدا لا ينفك من مواقعة الصغائر نادرا، حتى الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وسلامه؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] [طه: 121] ، وقال الله تعالى في قصة داود: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] [ص: 24] . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية، إلا يحيى بن زكريا» وإذا لم يمكن الاحتراز منها.. علق الحكم على الأغلب من الحال؛ لأن للغلبة تأثيرا في الشرع؛ ولهذا قال الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 9] الآية [الأعراف: 8 - 9] ، وقال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 6] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7] {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 8] {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] [القارعة: 6 - 9] فاعتبر الأغلب.
[مسألة شهادة أهل الأهواء]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا ترد شهادة أحد من أهل الأهواء إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقيه بتصديقه وقبول يمينه، ولشهادة من يرى أن كذبه شرك بالله(13/280)
ومعصية تجب بها النار أولى أن تطيب النفس بقبولها ممن يخفف المآثم في ذلك) . فنص بهذا على قبول شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية.
وقال في " الأم ": (ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث والقياس أو من ذهب منهم إلى أمور اختلفوا فيها، فتباينوا فيها تباينا شديدا، واستحل فيها بعضهم من بعض ما تطول حكايته، فكان ذلك منهم متقادما عن السلف ومن بعدهم إلى اليوم، فلم يعلم أن أحدا ممن سلف من هذه الأمة يقتدى به، ولا من التابعين بعدهم رد شهادة أحد بتأويل وإن خطأه وضلله ورآه استحل منه ما حرم عليه، ولا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول، فكذلك أهل الأهواء) .
وجملة ذلك: أنه لا خلاف بين أصحابنا في أن شهادة الخطابية غير مقبولة؛ وهم: أصحاب أبي الخطاب الكوفي، يعتقدون أن الكذب لا يجوز، فإذا ذكر بعضهم لبعض أن له على رجل حقا.. حلفه وصدقه على ذلك، وشهد له بالحق الذي حلفه عليه؛ لأنهم يشهدون بقول المدعي. قال المسعودي [في " الإبانة "] : إلا أن يفسر الشهادة فيقول: أشهد أن فلانا أقر لفلان بكذا.. فحينئذ يقبل.
والأول أصح؛ لأنه يجوز أن يشهد بالحق مفسرا معتمدا في تفسيره على يمين المدعي الذي حلف له.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إذا كان الرجل يعتقد أن رجلا مباح الدم يحل قتله فيشهد عليه بالقتل.. فلا تقبل شهادته عليه؛ لأنها شهادة بالزور.(13/281)
واختلف أصحابنا في قبول شهادة سائر أهل الأهواء غير الخطابية.
فقال ابن القاص والقفال: لا ترد شهادة واحد منهم.
قال ابن الصباغ: وهو ظاهر قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن لهم شبهة فيما يقولون لا يصل الإنسان إلى حلها إلا بعد إتعاب الفكر، فلم ترد شهادتهم بذلك. وقال الشيخ أبو حامد: أهل الأهواء على ثلاثة أضرب:
ضرب نخطئهم ولا نفسقهم، وضرب نفسقهم ولا نكفرهم، وضرب نكفرهم.
فأما (الضرب الذي نخطئهم ولا نفسقهم) : فهم الذين اختلفوا في الفروع التي يسوغ فيها الاجتهاد؛ مثل أصحاب مالك وأبي حنيفة وغيرهما من أهل العلم الذين يخالفون في نكاح المتعة وفي النكاح بلا ولي ولا شهود وغير ذلك، فهؤلاء لا نفسقهم ولا نرد شهادتهم. قال: وهذا الضرب هو الذي أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأهل الأهواء الذين لم ترد شهادتهم دون غيرهم؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اختلفوا في مسائل كثيرة في الفروع، وخطأ بعضهم بعضا، وأغلظ بعضهم على بعض في القول في الخطأ في ذلك، ولم يرد بعضهم شهادة بعض.
وأما (الضرب الذي نفسقهم ولا نكفرهم) : فهم الروافض الذين يسبون أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والخوارج الذين يسبون عثمان وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلا تقبل شهادتهم؛ لأنهم يذهبون إلى شيء لا يسوغ فيه الاجتهاد، فهم معاندون مقطوع بخطئهم وفسقهم، فلم تقبل شهادتهم.
وأما (الضرب الذين نكفرهم) : فهم القدرية الذين يقولون: إنهم يخلقون(13/282)
أفعالهم دون الله تعالى، ومن يقول بخلق القرآن، ويقولون: إن الله لا يُرى يوم القيامة، والجهمية النافون عن الله تعالى الصفات؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال في مواضع من كتبه: (من قال بخلق القرآن.. فهو كافر) . وإذا حكم بكفرهم.. فلا معنى لقبول شهادتهم. والدليل على ذلك: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القدرية مجوس هذه الأمة، فإذا مرضوا.. فلا تعودوهم، وإذا ماتوا.. فلا تشهدوهم» . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من سب نبيا.. فقد كفر، ومن سب صاحب نبي.. فقد فسق» . وروي عن عمر: أنه قال: (لا تجالسوا(13/283)
القدرية) . وأقل ما في هذا أن لا تقبل شهادتهم.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن) . وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد. ولأن هذه المسائل قد نصب الله تعالى عليها أدلة إذا تأملها المتأمل.. حصل له العلم بها، فنسبوا في مخالفتها إلى العناد كما ينسب المخالف في التوحيد.
وقال أبو إسحاق في " الشرح ": من قدم عليا على أبي بكر وعمر في الإمامة.. فسق؛ لأنه خالف الإجماع، ومن فضل عليا على أبي بكر وعمر وعثمان أو فضل بعضهم على بعض.. لم أفسقه وأقبل شهادته.
وأما قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولشهادة من يرى كذبه شركا بالله) فهم الخوارج؛ لأنهم يرون الكذب معصية وكفرا تجب به النار، ولم يرد به أن شهادتهم تقبل، وإنما أراد أن شهادتهم لا ترد لذلك؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول شهادتهم، وإنما ترد شهادتهم لقولهم بخلق القرآن، وأنهم يخلقون أفعالهم وغير ذلك.
[مسألة تارك المروءة وشهادته]
مسألة: [تارك المروءة وماذا عن أصحاب الحرف؟] : ومن ترك المروءة، فإن كان ذلك نادرا من أفعاله.. لم ترد شهادته بذلك. وإن كان غالب أحواله.. ردت شهادته؛ لأنه إذا لم يستح من ترك المروءة.. لم يستح مما فعل.
والدليل عليه: ما روى أبو مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن مما أدرك(13/284)
الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح.. فاصنع ما شئت» . وإذا كان غير مستح في ذلك.. لم يؤمن أن يشهد بالزور.
وقال أصحابنا العراقيون: ترك المروءة هو: أن يأكل في السوق، أو يمد رجله بين الناس، أو يلبس الثياب المعصفرة، أو ثياب النساء. قال ابن الصباغ: أو يكشف من بدنه ما ليس بعورة منه بحضرة الناس، وما أشبهها.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : المروءة يرجع فيها إلى العرف والعادة، فقد يكون الشيء مروءة لقوم وتركه مروءة لقوم. بيانه: أن الكناس والشرطي لو تطيلسا.. كان ترك مروءة، والفقيه لو تطيلس.. لكان مروءة، ولو تقلنس الشرطي وتمنطق.. كان مروءة، ولو تقلنس الفقيه أو تمنطق.. لكان ترك مروءة.
ومن أكل من التجار الشيء اليسير من الطعام عند باب حانوته عند تفرق الزحمة عنه وخلوته بمن لا يحتشمه من أصحابه.. فلا يؤثر ذلك في عدالته.
ومن كان يهازل زوجته أو جاريته بحيث يسمع غيره.. فهو ترك مروءة. ومن كان رقاصا أو قوالا.. فقد ترك المروءة.
وأما أصحاب الحرف الدنيئة مثل: الحجام والكناس والدباغ والقيم بالحمام.. فهل تقبل شهادتهم؟ ينظر فيهم: فإن كانوا يتوانون في الصلاة والطهارة من الحدث أو النجس.. لم تقبل شهادتهم.
وإن حسنت طريقتهم في الدين.. فهل ترد شهادتهم لأجل حرفهم؟ فيه وجهان:
أحدهما: ترد شهادتهم؛ لأن من رضي لنفسه بمثل هذه الحرف الدنيئة.. سقطت مروءته، ومن لا مروءة له.. لا تقبل شهادته.(13/285)
والثاني: تقبل شهادتهم، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] [الحجرات: 13] فعلق الحكم بالتقوى. ولأن هذه مكاسب مباحة، وبالناس إليها حاجة، فلو تجنبها جميع الناس لأجل الشهادة.. لاستضروا بذلك.
وأما الحائك: فإن قلنا: إن شهادة الحجام والكناس والدباغ تقبل.. فالحائك أولى بالقبول. وإن قلنا: لا تقبل شهادتهم.. ففي الحائك وجهان. الصحيح: أنها تقبل. وأما الصباغون والصواغون: فقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «أكذب الناس الصباغون والصواغون» فقيل: فيه تأويلان:
أحدهما: أنه أراد أنهم يكذبون في مواعيدهم.
والثاني: أنهم يسمون الأشياء بغير أسمائها؛ لأن الصباغ يقول: أصبغ فاحما أو مسكيا وسماويا وزرعيا، ويقول الصواغ: أصوغ طيرا أو سمكة، فهم يقولون ما لا يفعلون. فينظر فيه: فإن تكرر منه الكذب في المواعيد وصار ذلك غالب أحواله.. ردت شهادته بذلك. وإن كذب في التسمية.. لم ترد شهادته؛ لأن هذه الأسماء مجاز، ويجوز استعمال الأسماء مجازا.
قال أكثر أصحابنا: لا ترد شهادتهم لأجل حرفهم؛ لأنها ليست بدنيئة.
وقال صاحب " الفروع ": شهادتهم كشهادة الحائك على ما مضى.(13/286)
[مسألة شهادة لاعب الشطرنج]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (واللاعب بالشطرنج بغير قمار - وإن كرهنا ذلك - أخف حالا ممن يرى استباحة نكاح المتعة وبيع الدرهم بالدرهمين، وإيتاء النساء في أدبارهن) .
وجملة ذلك: أن اللعب بالشطرنج ينظر فيه: فإن كان على غير عوض ولم يشتغل به عن الصلاة.. فإنه لا يحرم ولكنه مكروه كراهة تنزيه.
والدليل على أنه لا يحرم: أنه روي عن ابن عباس جوازه، وعن سعيد بن المسيب أنه قال: لا بأس به.
وروي: أن سعيد بن جبير كان يلعب به استدبارا يعني: أنه كان يولي ظهره، ويقول لصاحبه: بأي شيء لعبت؟ فإذا قال بكذا.. قال للآخر: ألعب بكذا.
والدليل على أنه مكروه: ما روى الحسن عن جماعة من الصحابة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن اللعب بالشطرنج» . وروي: أن عليا كرم الله وجهه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] [الأنبياء: 52] . وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (اللاعب بالشطرنج أكذب الناس، يقول: قتلت، والله ما قتل) .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولأنه ليس من أفعال المروءات والديانات، وإنما يفعله من لا ديانة له) فكرهه. ولأنه يأتي بألفاظ لا حقيقة لها، كقوله: شاه مات،(13/287)
وأكلت الفرس، وأكلت الفيل. ولا يفسق بذلك، ولا ترد به الشهادة. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (ترد به الشهادة) .
دليلنا: أن الشطرنج موضوع على تعلم تدبير أمر الحرب، وربما يتعلم الإنسان بذلك القتال، وكل سبب يتعلم به أمر الحرب والقتال.. كان مباحا؛ بدليل ما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (مررت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوم من الحبشة يلعبون بالحراب، فوقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر إليهم، ووقفت من خلفه، فكنت إذا عييت.. جلست، وإذا قمت.. أتقي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ولأنه أخف ممن يرى استباحة نكاح المتعة، وبيع الدرهم بالدرهمين، وإتيان النساء في أدبارهن، فإذا لم ترد الشهادة بهذه الأسباب.. فلأن لا ترد باللعب بالشطرنج أولى.
وإن لعب به فنسي الصلاة حتى خرج وقتها، فإن كان ذلك نادرا من أفعاله.. لم ترد به الشهادة. وإن أكثر من ذلك.. ردت به شهادته.
وإن لعبه على الطريق، أو تكلم في لعبه بما يسخف من الكلام.. فهو من الصغائر، فإن أكثر منه.. ردت به شهادته، وإن لم يكثر منه.. لم ترد شهادته.
وإن لعب فيه على عوض؛ بأن أخرج كل واحد منهما عوضا على أن من غلب منهما أخذه.. فسق بذلك وردت به شهادته؛ لأنه قمار، والقمار محرم.
وإن أخرج أحدهما العوض دون الآخر على أن من غلب منهما أخذه.. لم يصح؛ لأنه ليس من آلات الحرب، وحكم رد شهادته كحكم ما لو لم يخرج فيه عوض على ما مضى؛ لأنه ليس فيه قمار.(13/288)
[فرع اللعب بالنرد والشارده]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وأكره اللعب بالنرد؛ للخبر) واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: لا يحرم اللعب به، إلا أنه يكره كراهية تنزيه أشد من كراهة اللعب بالشطرنج، والحكم في الفسق باللعب به ورد الشهادة.. حكم اللعب بالشطرنج، على ما مضى.
وقال أكثر أصحابنا: يحرم اللعب به، وهو المنصوص في " الأم "، ويفسق به وترد به شهادته؛ لما روى أبو موسى الأشعري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لعب بالنرد.. فقد عصى الله ورسوله» . وروى سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لعب بالنردشير.. فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقوم يلعبون بالنرد، فقال: " قلوب ساهية، وألسن لاغية، وأيد عاملة» . وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (أنه كان لها دار فيها سكان، فبلغها أن عندهم نردا، فأنفذت إليهم أن أخرجوه وإلا أخرجتكم فأخرجوه) . ولأن أصل النرد وضع على القمار، والقمار محرم، ويخالف الشطرنج؛ فإنه موضوع على تدبير الحرب والقتال، وذلك مباح.(13/289)
ويحرم اللعب بالأربعة عشر؛ وهو: قطعة من خشب يحفر فيها ثلاثة أسطر، فتجعل في تلك الحفر حصى صغار يلعبون بها؛ لأنها كالنرد.
[فرع اتخاذ الحمام]
] : وإن اتخذ رجل الحمام للأنس به.. جاز ولم ترد به الشهادة؛ لما «روى عبادة بن الصامت: أن رجلا أتى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشكا إليه الوحدة، فقال: " اتخذ زوجا من حمام» . فإن اتخذها لحمل الكتب والاستفراخ.. جاز؛ لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك. وإن اتخذها للتطيير والمسابقة عليها.. كان حكمها في القمار حكم الشطرنج على ما مضى. وقال أبو حنيفة ومالك: (يفسق بذلك كله، وترد به الشهادة) ، وقد مضى الدليل عليهما لذلك كله في الشطرنج.
[مسألة شهادة شارب الخمر والأنبذة]
] : ومن شرب شيئا من الخمر - وهو عصير العنب الذي اشتد وأسكر - فسق وردت به شهادته؛ لأنه محرم بالنص والإجماع.(13/290)
ومن اشتراها أو باعها.. فسق وردت به شهادته؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن بائعها ومشتريها» ... ) . فأما عاصرها وممسكها: فقد قال الشيخ أبو حامد: لا يفسق بذلك ولا ترد به شهادته؛ لجواز أن يرجع عن إرادته فيتخذها خلا.
قال ابن الصباغ: ويحتمل أنه إذا اعترف أنه قصد بعصرها أن تصير خمرا ليشربها.. كان محرما وترد به شهادته؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن عاصرها ومعتصرها ... ) .
وأما ما عدا الخمر من الأنبذة: فعلى ضربين: مسكر وغير مسكر.
فأما المسكر: فإنه يحرم شرب قليله وكثيره، فإن شرب نبيذا مسكرا وسكر.. فسق وردت شهادته؛ لأنه معصية بالإجماع. فإن لم يسكر.. لم يفسق ولم ترد به شهادته، سواء اعتقد تحليله أو تحريمه.(13/291)
وحكى القاضي في " المجرد ": أنه إذا كان يعتقد تحريمه.. ردت به شهادته. والمذهب الأول. وقال مالك: (ترد به الشهادة بكل حال) .
دليلنا: أنه مختلف في إباحته، ومن أقدم على مختلف فيه.. لم ترد به شهادته، كمن تزوج امرأة من ولي فاسق. ولأن استحلاله أعظم من شربه؛ بدليل أن من قال: يحل شرب الخمر.. يحكم بكفره، ومن شربها معتقدا لتحريمها.. لم يكفر، وقد ثبت أن من قال: يحل شرب النبيذ للمسكر من غير أن يسكر.. لا ترد شهادته بذلك، فلأن لا ترد شهادة من شرب منه ما لم يسكر به أولى. ويجب به الحد.
وقال المزني: لا يجب به الحد، وقد مضى ذلك في " الحدود ".
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والمستحل للأنبذة يحضر مع أهل السفه الظاهر، ويترك لها حضور الصلوات وغيرها، وينادم عليها.. ترد شهادته لطرح المروءة وإظهار السفه) . وأما ما لا يسكر من عصير العنب ونبيذ التمر والزبيب: فلا يحرم شربها، إلا أنه يكره شرب المنصف والخليطين. و (المنصف) : النبيذ من التمر والزبيب. و (الخليطين) : النبيذ من البسر والرطب؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المنصف والخليطين» . ولأن كل شراب إذا قارب الإسكار.. تتبين فيه مرارة يعلم بها مقاربة الاشتداد، فيجتنب إلا المنصف والخليطين فإنهما يشتدان، وهما حلوان، فلا يتميز للشارب، هل هو مسكر أم لا؟ فكره شربه؛ لأنه لا يؤمن أنه صار مسكرا.
[مسألة شهادة المغني والمستمع له]
] : أما الغناء - وهو: التغني بالألحان - فإن لم يكن معه آلة مطربة.. فهو مكروه عندنا، غير محرم ولا مباح.(13/292)
قال الشافعي: (وهو مكروه يشبه الباطل) . وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وذهب سعيد بن إبراهيم الزهري وعبيد الله بن الحسين العنبري إلى: أنه مباح؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان تغنيان، فقال: مزمور الشيطان - وروي: مزمار الشيطان - في بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دعهما فإنها أيام عيد» ولولا أنه مباح لما أقرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (الغناء من زاد الراكب) . وعن عثمان أنه كان عنده جاريتان تغنيان، فلما كان وقت السحر.. قال لهما: (أمسكا فإن هذا وقت الاستغفار) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] [الحج: 30] . قال محمدابن الحنفية: هو الغناء.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6] [لقمان: 6] . قال ابن مسعود: (لهو الحديث: هو الغناء) . وقال ابن عباس: (لهو الحديث: هو الغناء وأشباهه) ، وشراء المغنيات والملاهي.
وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» . وروى أبو أمامة الباهلي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المغنيات(13/293)
وشرائهن، وثمنهن حرام» ، فحصل الإجماع أن ثمنهن لا يحرم، وأقل ما في هذه الأخبار أنها تقتضي الكراهة. وروي: (أن رجلا سأل ابن عباس عن الغناء: أحلال هو؟ قال: لا، قال: أحرام هو؟ قال: لا، قال: فما هو؟ قال: إذا كان يوم القيامة وجمع الله الحق والباطل أيكون الغناء مع الحق؟ قال: لا، قال: فإذا لم يكن مع الحق كان مع الباطل؟ قال: لا، قال: أفتيت نفسك) . وهذا تصريح منه أنه ليس بمباح. وأما الأخبار التي استدلوا بها على إباحته: فإنها لا تدل على أنه مباح، بدليل ما ذكرناه، بل تدل على أنه غير محرم، وعلى أنا نحملها على نشيد الأعراب دون التغني بالألحان التي تطرب.
إذا ثبت هذا: فإن اتخذ الرجل الغناء صناعة يغشاه الناس في منزله ليسمعوه أو يستدعونه إلى منازلهم ليسمعهم ذلك.. ردت شهادته؛ لأن ذلك سفه وترك مروءة. وإن كان لا يسعى إليه، بل يترنم لنفسه، ولا يغني للناس.. لم ترد شهادته بذلك؛ لأن مروءته لا تذهب بذلك.
وإن اتخذ الرجل غلاما مغنيا أو جارية مغنية، فإن كان يدعو الناس إلى سماعهما.. ردت شهادته بذلك؛ لأن ذلك سفه وترك مروءة، والجارية أشد كراهية من الغلام؛ لأنه دناءة.(13/294)
وأما سامع الغناء، فإن كان يغشى بيوت المغنين أو يستدعيهم إلى يته ليغنوا له، فإن كان في خفية.. لم ترد شهادته لذلك؛ لأن مروءته لا تسقط بذلك. وإن أكثر من ذلك.. ردت شهادته بذلك؛ لأن ذلك سفه.
قال ابن الصباغ: ولم يفرق أصحابنا بين سماع الغناء من الرجل والمرأة، وينبغي أن يكون سماع الغناء من المرأة الأجنبية أشد كراهة من سماعه من الرجال أو من جاريته أو زوجته أو ذات رحم محرم؛ لأنه لا يؤمن الافتتان بصوتها وإن كان صوتها ليس بعورة، كما أن وجهها ليس بعورة ولا يجوز له النظر إليه.
إذا ثبت هذا: فإن الغناء من التغني ممدود مكسور الغين، وأما الغنى بالمال: فإن كسرت الغين.. كان مقصورا، وإن فتحها.. كان ممدودا.
[فرع أصوات الآلات على أنواع]
] : وأما الأصوات المكتسبة بالآلات: فعلى ثلاثة أضرب:
ضرب محرم، وضرب مكروه، وضرب مباح.
فأما (الضرب المحرم) : فهي الآلة التي تطرب من غير غناء؛ كالعيدان، والطنابير، والطبول، والمزامير، والمعازف، والنايات، والأكبار، والرباب، وما أشبهها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] [لقمان: 6] . قال ابن عباس: (هو الغناء وشراء المغنيات والملاهي) . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تمسخ أمة من أمتي بشربهم الخمر، وضربهم الكوبة والمعازف» .(13/295)
وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ظهر في أمتي خمس عشرة خصلة.. حل بهم البلاء: إذا كانت الغنيمة دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وأطاع صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، ولبسوا الحرير، وشربوا الخمور، واتخذوا القينات، والمعازف، ولعن آخر الأمة أولها.. فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا» .
وروي: (أن ابن عمر كان يسير راكبا في طريق ومعه نافع، فسمع مزمار راع، فأدخل أصبعيه في أذنيه، وعدل عن الطريق وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صنع، ثم جعل يقول لنافع: أتسمع يا نافع ... ؟ حتى قال: لا أسمع فرجع ابن عمر إلى الطريق) .
والمستحب لمن سمع ذلك أن يفعل كما فعل ابن عمر، فإن سمع ذلك من غير أن يقصد إلى سماعه.. لم يأثم بذلك؛ لأن ابن عمر لم ينكر على نافع سماعه لذلك.
وأما رد الشهادة بذلك: فإن أكثر من ذلك.. ردت شهادته، وإن كان نادرا من أفعاله.. لم ترد شهادته؛ لأنه من الصغائر، ففرق فيه بين القليل والكثير. وأما (الضرب المكروه) : فهو القصب الذي يزيد الغناء طربا، ولا يطرب بانفراده.. فلا يحرم؛ لأنه تابع للغناء، فلما كان الغناء مكروها غير محرم، فكذلك ما يتبعه، وحكمه في رد الشهادة حكم الشطرنج على ما مضى. وأما (الضرب المباح) : فهو الدف، ويجوز ضربه في العرس والختان، ولا يجوز ضربه في غيرهما؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالغربال» ، يريد به الدف.(13/296)
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدف في النكاح» . وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا سمع صوت الدف.. سأل عنه، فإن كان لعرس أو ختان.. أمسك، وإن كان في غيرهما.. عمد إليهم بالدرة) . ومن أصحابنا من قال: إن صح ما روي: «أن امرأة جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله، إني نذرت: إن رجعت من سفرك سالما أن أضرب على رأسك بالدف، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أوف بنذرك» .. دل على: أنه لا يكره ضربه في جميع الأحوال. والمشهور هو الأول.
[مسألة حداء الركبان وحكمه]
مسألة: [حداء الركبان] : وأما الحداء - وهو ما يقوله الجمالون ليحثوا به الإبل على السير - فهو مباح؛ لما روي «عن ابن عباس أنه قال: كان مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الليلة التي نام فيها عن الصلاة حاديان» . وروي «عن عائشة: أنها قالت: كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال، وكان أنجشة مع النساء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن رواحة: " حرك بالقوم " فاندفع يرتجز، فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل في السير - يعني: أسرعت - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رويدك يا أنجشة رفقا بالقوارير» يعني: النساء.(13/297)
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في سفر، فلقي ركبا من تميم، فقال لهم: " مروا حاديكم أن يحدوا للإبل أول الليل؛ فإن حادينا ينام أول الليل ويحدو آخره " قالوا: نحن أول العرب حداء، فقال: " ولم ذلك؟ " قالوا: كان بعضنا يغير على بعض، فأغار رجل منا على قوم فاستاق إبلهم، فندت الإبل عليه، فضرب غلامه على يده، فصاح: وا يداه، وا يداه، فاجتمعت الإبل لصوته، فاتخذ الحداء من ذلك، فتبسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ممن أنتم؟ " فقالوا: من مضر، فقال: " وأنا من مضر» .
والحداء ممدود؛ لأنه من الأصوات كالدعاء والرغاء.
[فرع استماع الشعر وأحكامه]
] : ويجوز استماع نشيد الأعراب وهو الشعر إذا لم يكن فيه فحش ولا كذب ولا مدح مفرط؛ لما «روى عمرو بن الشريد قال: أردفني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلفه، ثم قال: " هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ " فقلت: نعم، فقال: " هيه " يعني: هات، فأنشدته بيتا، فقال: " هيه " فأنشدته وهو يقول: " هيه " حتى أنشدته مائة(13/298)
بيت» . «وروى جابر بن سمرة قال: (حضرت عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من مائة مرة وأصحابه ينشدون الأشعار ويتذاكرون أمر الجاهلية، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربما سكت وربما أنشد» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنشد بيتا لطرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك من لا تزود بالأخبار
فقال له أبو بكر: ما هكذا يا رسول الله، وإنما هو:
ويأتيك بالأخبار ما لم تزود
فقال: " يا أبا بكر، ما لي وللشعر، وأين الشعر مني؟» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم المدينة.. تلقاه شباب الأنصار وجعلوا يقولون:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع(13/299)
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمعهم ولم ينكره، فدل: على جوازه.
ويجوز قول الشعر إذا لم يكن فيه فحش ولا هجو ولا مدح مفرط ولا كذب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن للشعر لمنزلة كمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في غزوة حنين:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
» فمن الناس من قال: ليس هذا شعرا، وإنما هو كلام موزون. ومنهم من قال: إنما هو شعر.
ولـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد عليه الشعراء ومدحوه وأعطاهم، فأعطى كعب بن زهير(13/300)
بردة كانت عليه) ، (ابتاعها منه معاوية بعشرة آلاف درهم) . قال الشيخ أبو إسحاق: وهي التي مع الخلفاء إلى اليوم. فإن هجا إنسانا في شعر، فإن هجا مسلما.. فسق بذلك وردت شهادته؛ لأن هجوهم محرم. وإن هجا مشركا.. فلا بأس به؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحسان بن ثابت: " اهجهم وجبريل معك» . وروي أنه قال: «اهج قريشا؛ فإن الهجو أشد عليهم من رشق النبل» . وإن شبب بامرأة، فإن ذكرها بفحش.. فسق بذلك وكان قاذفا. وإن لم يذكرها بفحش ولكن وصفها، فإن كانت امرأة معينة وكانت غير زوجته وجاريته.. فسق بذلك؛ لأنه ليس له تعريضها. وإن ذكر امرأة مطلقة.. لم ترد به شهادته؛ لأنه يحتمل أنه أراد به زوجته أو جاريته. وإن مدح إنسانا وأفرط في مدحه.. ردت شهادته؛ لأنه كذب.
[مسألة تحسين الصوت بالقرآن]
] : ويستحب تحسين الصوت بالقرآن؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زينوا القرآن بأصواتكم» . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أذن الله(13/301)
لشيء كأذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن» ، ومعنى قوله: (أذن) أي: استمع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] [الانشقاق: 2] أي: استمعت من ربها، قال الشاعر:
أيها القلب تعلل بدون ... إن همي في سماع وأذن
وروى عبد الله بن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» . قال أبو عبيدة: أراد به الاستغناء بالقرآن.
وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أراد به تحسين الصوت بالقرآن، ولو أراد به الاستغناء.. لقال: من لم يتغان) .(13/302)
والمستحب لمن يقرأ القرآن: أن يقرأ ترتيلا، وحدرا، وتحزينا من غير تطريب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} [المزمل: 4] [المزمل: 4] .
قال ابن الصباغ: وينبغي ألا يشبع الحركات حتى تصير حروفا.
وأما القراءة بالألحان: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (لا أكرهه) وقال في موضع: (أكرهه) . قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (لا أكرهه) إذا لم يمطط، ويفرط في المد، ولم يدغم حرفا في حرف. وحيث قال: (أكرهه) أراد إذا أفرط في المد، وأدخل حرفا في حرف، أو أسقط بعض الحروف.
[فرع الطفيلي يأتي الدعوة]
وحكم نثر المال في الفرح] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (ومن ثبت عليه أنه يغشى الدعوة بغير دعاء من غير ضرورة، ولا يستحل صاحب الطعام، وتتابع ذلك منه.. ردت شهادته بذلك؛ لأنه يأكل طعاما حراما، وإنما اعتبر تكرار ذلك منه؛ لأنه قد يكون له شبهة حيث لم يمنعه صاحب الطعام، فإذا تكرر ذلك منه.. صار دناءة منه وسقوط مروءة) .
قال في " الأم ": (وإن نثر على الناس في الفرح، وأخذ منه إنسان.. لم ترد شهادته بذلك؛ لأن من الناس من يحل ذلك) . قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأنا أكرهه) .
[فرع من تلف ماله حلت له المسألة وماذا لو أعطي الإنسان بدون مسألة]
وإذا أصابت ماله جائحة أو لزمه غرم، فسأل الناس.. حلت له المسألة، ولم ترد شهادته به، وإن كان سؤاله أكثر عمره؛ لأنه يجوز له السؤال. وإن كان يسأل لغير(13/303)
حاجة وشكوى.. ردت شهادته؛ لأنه يكذب ويأخذ مالا حراما. فإن أعطي من غير سؤال فأخذ وكان غنيا، فإن كان تطوعا.. لم ترد به شهادته. وإن كان فرضا، فإن كان جاهلا.. لم ترد شهادته به، وإن كان عالما.. ردت به شهادته.
[مسألة شهادة ولد الزنا والمحدود التائب]
] : وتقبل شهادة ولد الزنا إذا كان عدلا. وإذا تاب المحدود في الزنا أو القذف أو الشرب وشهد به أو بغيره.. قبلت شهادته. وقال مالك: (لا أقبل شهادة ولد الزنا في الزنا، ولا أقبل شهادة المحدود في الزنى والقذف والشرب فيما حد به) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] الآية [النور: 4] ولم يفرق بين أن يشهد به ولد الزنا أو غيره. ولأن كل من قبلت شهادته في القتل.. قبلت شهادته في سائر الحقوق، كولد الحلال. ولأن كل من غصب ثم تاب من الغصب.. قبلت شهادته في الغصب، وكذلك القاذف والزاني والشارب.
[فرع شهادة القروي والبدوي]
] : وتقبل شهادة القروي على القروي والبدوي بلا خلاف، وتقبل شهادة البدوي على البدوي والقروي عندنا.
وقال مالك: (لا تقبل شهادة البدوي على القروي إلا في القتل والجراح) .
دليلنا: ما روي: «أن أعرابيا شهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رؤية الهلال، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مناديا أن ينادي بالصوم» وذلك قبول الشهادة على أهل الحضر. ولأن من قبلت شهادته في القتل والجراحات.. قبلت شهادته على غيره، كالقروي.
[مسألة شاهد الزور]
وإذا شهد بالزور.. فسق وردت شهادته؛ لأنه من أكبر الكبائر.(13/304)
والدليل عليه: ما روى خريم بن فاتك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله " قاله ثلاثا، ثم تلا قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] [الحج: 30] .» وروى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار» .
وإنما يثبت أنه شاهد زور بأن يقر بأنه شاهد زور، أو تقوم البينة بأنه شاهد زور، أو يشهد بما يتيقن الحاكم كذبه، مثل أن يشهد على رجل أنه قتل فلانا في وقت كذا والمشهود عليه في ذلك الوقت عند الحاكم. فأما إذا شهد لرجل بشيء ثم قال: أخطأت في الشهادة.. لم يكن شاهد زور؛ لأنه يحتمل أنه أخطأ به، وكذلك إذا شهد لرجل بملك عين وشهد آخر بملكها لآخر.. لم يكن أحدهما شاهد زور؛ لأن كل واحد منهما يقول: أنا صادق. فإذا ثبت أنه شاهد زور.. عزره الحاكم؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (شاهد الزور عليه أربعون سوطا) . ولأنه فعل كبيرة لا حد فيها، فشرع فيها التعزير. وتعزيره إلى اجتهاد الحاكم، فإن رأى أن يضربه.. ضربه دون الأربعين؛ لأن التعزير عندنا دون أقل الحدود، وإن كان كبيرا أو ضعيفا ورأى أن يحبسه.. فعل؛ لأن الردع يحصل به، ويشهر أمره، وتشهير أمره هو: أن(13/305)
يعرف الناس حاله. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن كان من قبيلة.. ففي قبيلته - والقبيلة هم الجماعة من آباء متفرقين - وإن كان من أهل العلم والحديث.. شهره بين أهل العلم والحديث. وإن كان من أهل المساجد.. شهره في المساجد. وتشهيره: أن يأمر معه الحاكم رجلا ثقة إلى الجماعة الذين يراد تشهيره فيهم، فيقول: السلام عليكم؛ إن القاضي فلانا يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: إن هذا شاهد زور، فاعرفوه) . وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن كان من أهل الصيانة.. لم يناد عليه؛ لما روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» . وليس بشيء. وقال أبو حنيفة: (لا يعزر ولا يشهر من أمره) .
دليلنا: ما روى بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اذكروا الفاسق بما فيه تعرفه الناس» . ولأنه إذا اشتهر أمره.. تجنبه الناس في الإشهاد، وإذا لم يشهره.. اغتر الناس به وأشهدوه. وما ذكره أبو علي غير صحيح؛ لأنه قد خرج بشهادة الزور عن أن يكون من أهل الصيانة. هذا مذهبنا.
وقال شريح: يركب على حمار وينادي على نفسه: هذا جزاء من شهد بالزور.
وحكي عن عبد الملك بن يعلى - قاضي البصرة -: أنه أمر بحلق نصف رؤوسهم، وتسخيم وجوههم، ويطاف بهم في الأسواق.(13/306)
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (يجلد أربعين سوطا، ويسخم وجهه، وتحلق رأسه، ويطاف به، ويطال حبسه) .
دليلنا: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المثلة» ، وهذا مثلة. ولأنها معصية، فلا توجب المثلة، كسائر المعاصي.
[مسألة شهادة من يجر بشهادته لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضررا]
مسألة: [لا تقبل شهادة من يجر بشهادته لنفسه نفعا أو يدفع عنها ضررا] : ولا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه نفعا بشهادته، ولا شهادة من يدفع عن نفسه ضررا بشهادته؛ لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقبل شهادة خصم، ولا ظنين، ولا ذي غمر على أخيه» ، و (الظنين) : المتهم، ومن جر إلى نفسه نفعا(13/307)
بشهادته أو درأ عنها ضررا متهم، فلم تقبل شهادته.
إذا ثبت هذا: فالجار إلى نفسه نفعا هو: أن يشهد السيد لعبده المأذون له في التجارة بماله، فلا يقبل؛ لأن المال إذا ثبت.. يستحقه السيد، وكذلك إذا شهد السيد لمكاتبه بمال.. لم تقبل؛ لأنه قد يعجز فيرجع ذلك المال إلى السيد.
وإن شهد الموكل لوكيله فيما وكله فيه.. لم تقبل؛ لأنه شهادة لنفسه.
وإن شهد الوكيل لموكله بما وكله فيه، أو شهد الوصي لليتيم بشيء.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يجر بذلك إلى نفسه نفعا؛ لأنه إذا ثبت ما شهد به.. استحق التصرف فيه. وإن وكله في شيء ثم عزله، ثم شهد به الوكيل لموكله؛ فإن كان الوكيل قد خاصم فيه قبل العزل.. لم تقبل شهادته، وإن كان لم يخاصم فيه.. ففيه وجهان:
أحدهما: تقبل؛ لأنه لا تلحقه تهمة.
والثاني: لا تقبل؛ لأنه بعقد الوكالة ملك الخصومة فيه.
وإن حجر على رجل للفلس، فشهد بعض غرمائه له بدين على رجل.. لم تقبل شهادته. وكذلك إذا مات وعليه ديون تحيط بتركته، فشهد بعض غرمائه له بدين.. لم تقبل شهادته؛ لأن الدين إذا ثبت.. تعلق به حق الشاهد. وإن شهد لمن له عليه دين قبل أن يحجر عليه، وكان من عليه الدين موسرا.. قبلت شهادته له؛ لأن دين الشاهد لا يتعلق به. وإن كان من عليه الدين معسرا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تقبل؛ لأنه قد ثبت له حق المطالبة.
والثاني: تقبل؛ لأنه لا يتعلق بما شهد به حقه.
[فرع شهادة قريب الجريح والضامن]
ونحوه] : وإن ادعى على رجل أنه جرحه فأنكره، فشهد له بذلك رجلان من ورثته من غير الوالدين والمولودين، فإن كانت الجراحة قد اندملت.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما(13/308)
لا يجران إلى أنفسهما نفعا بشهادتهما. وإن كانت لم تندمل.. لم تقبل شهادتهما؛ لجواز أن تسري الجراحة إلى نفسه، فتجب الدية لهما. وإن ادعى المريض مالا على رجل فأنكره، فشهد له بذلك رجلان من ورثته من غير الوالدين والمولودين.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تقبل شهادتهما، كما قلنا في الجراحة.
والثاني: تقبل؛ لأن المال يثبت للمريض، بخلاف الدية؛ فإنها تثبت للورثة.
وإن شهد رجلان لأخيهما بجراحة لم تندمل، وللمجروح وارث يحجبهما.. قبلت شهادتهما. فإن مات من يحجبهما قبل موت المشهود له.. نظرت: فإن مات من يحجبهما قبل الحكم بشهادتهما.. لم يجز الحكم بشهادتهما؛ لأنهما صارا مستحقين للميراث، فلم يجز الحكم بشهادتهما، كما لو فسقا قبل الحكم بشهادتهما. وإن مات من يحجبهما بعد الحكم بشهادتهما.. لم يؤثر موته في شهادتهما، كما لو فسقا بعد الحكم بشهادتهما. وأما شهادة الدافع عن نفسه ضررا بشهادته؛ فمثل أن يشهد الضامن على المضمون له أنه اقتضى الدين الذي ضمن به عن المضمون عنه أو أبرأه منه.. فإنها لا تقبل؛ لأنه يدفع بهذه الشهادة ضررا عن نفسه؛ وهو مطالبة المضمون له. وكذلك إذا شهد شاهدان على رجل لرجل باستحقاق عين في يده، فشهد وكيل المشهود عليه بجرح الشاهدين عليه، أو شهد الوصي بجرح الشهود على الصبي باستحقاق عين في يده.. فلا تقبل شهادتهما؛ لأن العين إذا استحقت.. انقطع تصرف الوكيل والوصي بها. وكذلك إذا شهدا بإبراء الغريم.. لم تقبل شهادتهما؛ لما ذكرناه.
[فرع جرح عاقلة المدعى عليه لشهود المدعي بجراحته]
] : وإن ادعى على رجل أنه جرحه فأنكر، وأقام عليه شاهدين، وأقام المدعى عليه من عاقلته شاهدين بجرح شاهدي الجراحة عليه، فإن كانت الدعوى عليه في جناية العمد.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعا ولا يدرآن بها ضررا. وإن كانت في الخطأ أو عمد الخطأ، فإن كان الشاهدان بالجرح موسرين.. لم تقبل(13/309)
شهادتهما؛ لأنهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما ضررا؛ وهو تحمل الدية، وإن كانا فقيرين.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (لا تقبل شهادتهما) ، وقال في موضع آخر: (إن كان في عاقلته من هو أقرب منهما بحيث لا يحملان إلا بعد عدم من هو أقرب منهما.. قبلت شهادتهما) . واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وخرجها على قولين:
أحدهما: تقبل شهادتهما؛ لأنهما لا يحملان العقل في هذه الحال، فلم تلحقهما تهمة في الشهادة.
والثاني: لا تقبل شهادتهما؛ لأنه يجوز أن يكونا عند الحول ممن يحمل الدية، فالتهمة تلحقهما في الشهادة، فلم يقبلا.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما فقال: تقبل شهادتهما إذا كان هناك من العاقلة من هو أقرب منهما؛ لأنهما غير معدودين في العاقلة، ولا تقبل شهادتهما إذا لم يكن هناك أقرب منهما؛ لأنهما معدودان في العاقلة، ولا اعتبار بفقرهما؛ لأن المال غاد ورائح، ويجوز أن يكونا غنيين عند الحول.
[مسألة شهادة الخصم والعدو]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا خصم؛ لأن الخصومة موضع عداوة) .
وقال أصحابنا: العداوة على ضربين؛ عداوة دينية، وعداوة دنيوية.
فأما (العداوة الدينية) : فمثل عداوة المسلمين للكفار، وعداوة أهل الحق لأهل الباطل، فهذه لا تمنع قبول الشهادة. وأما (العداوة الدنيوية) : فإنها تمنع قبول الشهادة؛ وذلك مثل أن يقذف رجل رجلا، فيشهد المقذوف على القاذف، فلا تقبل شهادته. وكذلك إذا قطع رجل على رجل الطريق، فشهد المقطوع عليه على القاطع.. فلا تقبل شهادته. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (العداوة لا تمنع قبول الشهادة بحال) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقبل شهادة خصم، ولا ظنين، ولا ذي غمر على أخيه،(13/310)
ولا القانع لأهل البيت» . والعدو خصم. وقوله: (ولا ظنين) والظنين: المتهم، والعدو متهم. وقوله: (ذي غمر) أي: ذي حقد، والعدو ذو حقد. وأما قوله: (ولا القانع لأهل البيت) فقيل: هو السائل، وقيل: هو الوكيل للموكل.
فأما إذا كان بينهما خصومة على مال أو ميراث، فشهد أحدهما على الآخر بحق.. قبلت شهادته عليه؛ لأنا لو قلنا: لا تقبل شهادته عليه.. لكان من عليه حق بشهادة شهود يذهب فيدعي على الشهود مالا لئلا تقبل شهادتهم عليه، فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة الشهود.
[فرع فسق الشاهدين أو حصول عداوة بعد شهادتهما وقبل الحكم]
] : وإن شهد شاهدان على رجل بحق فسمعهما الحاكم، فقذف المشهود عليه الشاهدين قبل الحكم بشهادتهما.. فإن الحاكم يحكم بشهادتهما. ولو فسق الشاهدان بعد الشهادة وقبل الحكم بها.. لم يجز الحكم بشهادتهما.
والفرق بينهما: أن الفسق بعد الشهادة يورث التهمة في الشهادة، والعداوة بعد الشهادة لا تورث التهمة في الشهادة.
[مسألة شهادة الآباء للأبناء وبالعكس]
] : ولا تقبل شهادة الوالدين - وإن علوا - للمولودين، ولا شهادة المولودين - وإن سفلوا - للوالدين. وبه قال: شريح، والحسن، والشعبي، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعمر بن عبد العزيز: (تقبل شهادة بعضهم لبعض) . وبه قال داود، وأبو ثور، والمزني، وابن المنذر، وحكاه ابن القاص(13/311)
عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في القديم، وعن أحمد ثلاث روايات:
إحداهن: (لا تقبل) ، كمذهبنا.
والثانية: (تقبل شهادة الولد للوالد، ولا تقبل شهادة الوالد للولد) .
والثالثة: (تقبل شهادة بعضهم لبعض إذا لم يكن فيها تهمة، كشهادته له بالنكاح، والطلاق، والمال إذا كان الشاهد مستغنيا عنه، ولا تقبل شهادته له بالمال إذا كان فقيرا) .
دليلنا: ما روى الساجي بإسناده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقبل شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده» . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا ظنين في قرابة ولا ولاء» ، و (الظنين) : المتهم، وكل واحد منهم متهم في الشهادة للآخر، فلم تقبل.
وتقبل شهادة الوالد على ولده في كل شيء؛ لأنه لا يتهم في ذلك. وتقبل شهادة الولد على الوالد في غير الحدود والقصاص، وهل تقبل شهادته عليه في الحدود والقصاص؟ فيه وجهان، ومن أصحابنا من حكاهما قولين:
أحدهما: لا تقبل؛ لأن الأب لا يلزمه الحد بقذف الولد، ولا القصاص بجنايته عليه، فلم يلزمه ذلك بقوله.
والثاني: يلزمه، وهو الأصح؛ لأن التهمة لا تلحقه بذلك، ولا يمتنع أن لا يلزمه(13/312)
ذلك بفعله به، ويلزمه بقوله. ألا ترى أن الإنسان لو قذف نفسه أو قطع عضوا من نفسه.. لم يلزمه بذلك حد ولا قصاص، ولو أقر على نفسه بما يوجب الحد أو القصاص.. لزمه؟.
فإن شهد رجلان على زوج أمهما أنه قذف ضرة لأمهما.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا تقبل شهادتهما) ؛ لأنهما يجران بذلك إلى أمهما نفعا؛ لأنه يلزمه بذلك حد القذف، فيحتاج أن يلاعن لإسقاط الحد عنه، فتقع الفرقة بينه وبين ضرة أمهما.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تقبل شهادتهما) ؛ لأن حق أمهما لا يزداد بمفارقة ضرتها.
وإن شهدا عليه أنه طلق ضرة أمهما.. فهل تقبل شهادتهما؟ على القولين ووجههما ما ذكرناه.
[فرع شهادة غير الوالدين والمولودين]
] : ومن عدا الوالدين والمولودين من الأقارب؛ كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، ومن أشبههم.. تقبل شهادة بعضهما لبعض. وبه قال أبو حنيفة.
وقال الثوري: لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم من النسب.
وقال مالك: (لا تقبل شهادة الأخ لأخيه في النسب، وتقبل في غير النسب) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ولم يفرق.
وروي عن عمر وابن عمر: أنهما قالا: (تقبل شهادة الأخ لأخيه في النسب) ولا مخالف لهما. ولأنه لو ملكه لم يعتق عليه.. فقبلت شهادته له، كابن العم.(13/313)
[فرع شهادة المولى]
] : وتقبل شهادة المولى من أعلى للمولى من أسفل؛ وشهادة المولى من أسفل للمولى من أعلى. وقال شريح: لا تقبل شهادة المولى من أعلى للمولى من أسفل.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ولم يفرق.
وروي عن علي كرم الله وجهه: أنه قال لشريح: (في أي كتاب الله وجدت أن شهادة المعتق لا تقبل لمعتقه؟!) ، ولا مخالف له في الصحابة.
[فرع شهادة الزوج لزوجه]
وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر. وبه قال الحسن وأبو ثور.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا تقبل شهادة أحدهما للآخر) ، وحكاه المسعودي [في " الإبانة "] قولا للشافعي، وليس بمشهور. وقال النخعي وابن أبي ليلى والثوري: تقبل شهادة الزوج للزوجة، ولا تقبل شهادة الزوجة للزوج.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ولم يفرق.
وروى سويد بن غفلة: (أن يهوديا كان يسوق بامرأة على حمارة، فنخسها فرمت بها، فوقعت عليها، فشهد عليه أخوها وزوجها بقتلها، فقتله عمر وصلبه. قال سويد: وهو أول مصلوب صلب بالشام) . ولأن كل واحد منهما لو ملك الآخر.. لم يعتق عليه، فقبلت شهادته له، كابني العم.
[فرع شهادة الصديق لصديقه]
] : وتقبل شهادة الصديق لصديقه، سواء كان بينهما مهاداة وملاطفة، أو لا مهاداة بينهما ولا ملاطفة. وبه قال أبو حنيفة وأكثر أهل العلم.(13/314)
وقال مالك: (إذا كان بينهما مهاداة وملاطفة.. لم تقبل شهادته له) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ، وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ولم يفرق.
ولأنه لا يعتق أحدهما على الآخر إذا ملكه، فقلت شهادته له، كما لو لم يكن بينهما مهاداة ولا ملاطفة.
[فرع مودة المؤمنين وتهاديهم وحب الرجل لقومه]
] : وإذا كان الرجل يحب عشيرته وقومه وأهل مذهبه وأهل بلده.. فليس بمكروه، بل هو مندوب إليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تهادوا تحابوا» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون كالبنيان، يشد بعضهم بعضا» ، و: «آخى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة» .(13/315)
وإنما العصبية المذمومة: أن يبغض الرجل قوما لأنهم من بني فلان من غير إساءة منهم إليه. فإن أبغضهم بقلبه دون أن يظهر ذلك على لسانه.. لم يؤثر في شهادته عليهم؛ لأن ما في القلب لا يمكن الاحتراز منه، فإن ظهر ذلك على لسانه؛ بأن يؤلب عليهم ويدعو إلى عداوتهم من غير أن يظهر منه فيهم فحش ولا شتم.. قال ابن الصباغ: فإن كان ذلك في أمر الدين.. لم ترد شهادته بذلك، وإن كان ذلك في أمر الدنيا.. فهو عدو لهم، ولا تقبل شهادته عليهم خاصة لأجل العداوة.
وقال الشيخ أبو حامد: إذا تكرر ذلك منه.. فسق وردت شهادته. وإن كان يشتمهم ويفحش عليهم بالقول.. فهو فاسق ولا تقبل شهادته على أحد.
[فرع رد بعض الشهادة]
] : وإذا جمع في الشهادة بين أمرين، فردت شهادته في أحدهما.. فهل ترد في الآخر؟ ينظر فيه: فإن ردت للعداوة؛ مثل أن يشهد على رجل أنه قذفه وأجنبيا، أو قطع عليه الطريق وعلى غيره.. ردت شهادته؛ لأن هذه الشهادة تتضمن الإخبار عن عداوة.
وإن ردت لغير العداوة؛ بأن يشهد على رجل أنه غصب من أبيه ومن أجنبي عينا.. فإن شهادته ترد في حق أبيه، وهل ترد في حق الأجنبي؟ فيه قولان:(13/316)
أحدهما: ترد، كما لو شهد أنه قذفه وأجنبيا.
والثاني: لا ترد؛ لأنها ردت في حق أبيه للتهمة، ولا تهمة عليه في شهادته للأجنبي.
[مسألة توبة القاذف وقضية قبول شهادته]
] : إذا قذف الرجل محصنة أو محصنا، فوجب عليه الحد ولم يسقط ذلك عن نفسه ببينة ولا لعان.. فقد ذكرنا: أنه يفسق بذلك وترد به شهادته. وإذا تاب.. فإنه لا يسقط عن نفسه الحد ويزول عنه التفسيق بلا خلاف، وتقبل شهادته عندنا. وبه قال عمر من الصحابة. ومن التابعين: عطاء وطاووس والشعبي. ومن الفقهاء: ربيعة ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال شريح والنخعي والثوري وأبو حنيفة: (لا تقبل شهادته أبدا) إلا أن أبا حنيفة يقول: (لا ترد شهادة القاذف حتى يجلد ثمانين، فإن جلد ثمانين إلا جلدة.. كانت شهادته مقبولة) .
والدليل على أن شهادته ترد بنفس القذف قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] فذكر الله القذف وعلق عليه حكمين: الجلد ورد الشهادة، والظاهر أنهما متعلقان به وحده، كما لو قال قائل: من دخل الدار.. فأعطه دينارا وأكرمه، فالظاهر أنه يلزمه أن يعطيه الدينار ويكرمه بنفس الدخول، فمن علق رد الشهادة بمعنى غير القذف.. فقد خالف ظاهر الآية. ولأن الحد كفارة وتطهير؛ بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحدود كفارات لأهلها» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر برجم الغامدية فرجمت.. فسبها رجل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تسبها، فلقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس.. لقبلت منه» . فإذا كان الحد كفارة.. لم يكن سببا لرد الشهادة، كاستيفاء الديون منه.
والدليل على أن شهادة القاذف تقبل إذا تاب قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] [النور: 4 - 5](13/317)
، فذكر الله تعالى الاستثناء عقيب رد الشهادة والتفسيق، فاقتضى الظاهر رجوعه إلى كل واحد منهما؛ لأنه يصلح لكل واحد منهما، كما لو قال رجل لامرأته: هي طالق وعبده حر إن شاء الله.. فإن الاستثناء يرجع إليهما، وعود الاستثناء إلى رد الشهادة أحرى؛ لأنه حكم، والتفسيق خرج مخرج الخبر، والاستثناء إنما يرجع إلى الحكم دون الخبر، كما لو قال لرجل: أعط زيدا درهما - وقد قدم عمرو - إلا أن يدخل الدار.. فإن الاستثناء يرجع إلى الحكم دون الخبر. وروى عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توبة القاذف إكذابه نفسه، فإذا تاب.. قبلت شهادته» وهذا نص.
[مسألة التوبة عقب المعصية وشروطها]
] : وكل من فعل معصية.. فإنه يلزمه التوبة منها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر: «يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم من قبل أن تموتوا» وإذا تاب.. قبل الله توبته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 135] الآية [آل عمران: 135] . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التوبة تجب ما قبلها» .
إذا ثبت هذا: فالتوبة توبتان: توبة في الظاهر، وتوبة في الباطن.
فأما التوبة في الباطن - وهي: التوبة فيما بينه وبين الله تعالى - فينظر في المعصية التي فعلها:(13/318)
فإن لم يجب بها حق لآدمي ولا لله تعالى؛ بأن قبل امرأة أجنبية أو مسها بشهوة وما أشبه ذلك.. فالتوبة من ذلك أن يندم على ما فعل، ويعزم على أن لا يعود إلى مثل ذلك في المستقبل، فإذا أتى بذلك.. فقد أتى بما يجب عليه، ثم القبول إلى الله تعالى.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] الآية [آل عمران: 135] فجعل التوبة من ذلك الاستغفار وأن لا يصروا على ما فعلوا.
وإن وجب بها حق.. فلا يخلو: إما أن يكون لآدمي أو لله تعالى.
فإن كان لآدمي: فالتوبة من ذلك: أن يندم على ما فعل، ويعزم على أن لا يعود إلى مثل ذلك في المستقبل، ويؤدي حق الآدمي، فإن كان مالا باقيا.. رده، وإن كان تالفا.. وجب عليه ضمانه، وإن لم يقدر عليه سأل صاحبه أن يبرئه منه، فإن لم يبرئه منه أو وجد المال ولم يقدر على صاحبه.. نوى أنه إذا لقيه.. وفاه إياه. وإن كان الحق على البدن؛ كحد القذف والقصاص.. اشترط مع الندم والعزم على أن لا يعود إلى مثله أن يمكن صاحب الحق من استيفاء الحق منه ويعرض ذلك عليه؛ لما روى النخعي: (أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى رجلا يصلي مع النساء، فضربه بالدرة، فقال له الرجل: والله إن كنت أحسنت.. فقد ظلمتني، وإن كنت أسأت.. فما علمتني، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اقتص، قال: لا أقتص، قال: فاعف، قال: لا، فافترقا على ذلك، ثم لقيه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من الغد، فتغير لون عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، أرى ما كان مني قد أسرع فيك؟ قال: أجل، قال: فاشهد أني قد عفوت عنك) .
فإن لم يقدر على صاحب الحق.. نوى أنه إذا قدر عليه.. سلمه نفسه لحقه.
فإن وجب بالمعصية حق لله تعالى؛ كحد الزنا واللواط والشرب والسرقة، فإن لم يظهر ذلك.. فالأولى أن يسره في نفسه ولا يظهره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى من هذه(13/319)
القاذورات شيئا.. فليستتر بستر الله؛ فإن من أبدى لنا صفحته.. أقمنا عليه حد الله» ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا سترته بثوبك يا هزال؟» . فإن لم يستر ذلك، بل أظهره على نفسه.. لم يكن محرما؛ لأن ماعزا والغامدية أقرا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا ولم ينكر عليهما. فإذا ظهر ذلك عليه.. احتاج أن يطهر نفسه ويحضر إلى الإمام ويعترف به حتى يستوفي منه الحد؛ لأنه لا معنى لستره مع ظهوره عليه. وأما التوبة الظاهرة التي يتعلق بها قبول الشهادة وعود الولاية.. قال الشيخ أبو حامد: فلا تخلو المعصية إما أن تكون قولا أو فعلا: فإن كانت فعلا، كالزنا واللواط وشرب الخمر والغصب.. فالتوبة من ذلك بالفعل؛ لأن فسقه لما كان بالفعل.. كانت التوبة منه بالفعل، فتمضي عليه مدة يصلح فيها عمله فيأتي بضد تلك المعصية من العمل الصالح، وقدر أصحابنا هذه المدة بسنة، ومن الناس من قدرها بستة اشهر وما ذكرناه أولى؛ لأن السنة قد تعلق بها أحكام في الشرع: وهي الزكاة، والدية، والجزية، ومدة العنة. وإن كانت المعصية قولا.. نظرت: فإن كانت كفرا.. فالتوبة منها أن يأتي بالشهادتين، فإذا فعل ذلك.. حكم بتوبته، وعاد إلى حالة عدالته؛ لأنه إنما حكم بفسقه بالقول، فإذا أتى بما يضاد ذلك.. فقد أتى بالتوبة. وإن كانت المعصية قذفا صريحا.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فالتوبة منه إكذابه لنفسه) ، واختلف أصحابنا فيما يحصل به تكذيب نفسه: فقال أبو سعيد الإصطخري: يحتاج أن يقول كذبت فيما قلت، ولا أعود إلى مثله، وبه قال أحمد بن حنبل؛ لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توبة القاذف إكذابه نفسه» ولأنه قد تقدم منه القذف، فيحتاج أن يرجع عنه بأن يكذب نفسه فيه. وقال أبو إسحاق وأبو علي ابن أبي هريرة: يقول: القذف محرم ولا أعود إليه؛ لأنه قد تقدم منه القذف، فإذا قال: هو محرم.. كان مضادا له. ولا يقول: كذبت فيما قلت؛ لأنه قد يكون صادقا، فلا يؤمر بالكذب. والخبر محمول على الإقرار بالبطلان؛ فإنه نوع إكذاب أيضا.(13/320)
وهل يحتاج إلى إصلاح العمل مع ذلك سنة؟ فيه قولان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يفتقر إلى ذلك - وبه قال أحمد - لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن المعصية قول فكفرت بالتوبة منها بالقول، كالردة.
والثاني: يفتقر مع ذلك إلى إصلاح العمل سنة - ولم يذكر الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق غيره - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] [النور: 4 - 5] وهذا نص.
وأما إذا شهد على غيره بالزنى ولم يتم العدد: فإن قلنا: لا يجب عليه الحد.. فهو على عدالته. وإن قلنا: يجب عليه الحد.. فالتوبة منه بالقول، وهو أن يقول: ندمت على ما كان مني، ولا أعود إلى ما أتهم فيه. فإذا قال ذلك.. قبلت شهادته، ولا يشترط فيه إصلاح العمل؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي بكرة حين شهد على المغيرة بالزنى ولم يتم العدد: (تب أقبل شهادتك) ، ولم يشترط عليه إصلاح العمل، ولم ينكر عليه أحد. والفرق بينه وبين القذف الصريح: أن الفسق بالقذف الصريح علم نصا، والفسق هاهنا بالشهادة علم بالاجتهاد.
وتقبل أخباره قبل التوبة؛ لأن أبا بكرة كانت أخباره مقبولة، ولأن الخبر أوسع من الشهادة؛ بدليل: أن الخبر يقبل من الرقيق ولا تقبل منه الشهادة.
فإن كانت المعصية بشهادة الزور.. فالتوبة منه أن يقول: كذبت فيما قلت، ولا أعود إلى مثله. قال الشيخ أبو إسحاق: ويشترط إصلاح العمل على ما ذكرناه. ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ إصلاح العمل.
[مسألة: شهادة العبد والذمي ونحوهما إذا أعادوا الشهادة بعد كمالهم]
مسألة: [شهادة العبد والذمي والصبي والفاسق بعد التوبة إذا أعادوا الشهادة بعد كمالهم] : وإن شهد صبي أو عبد أو ذمي بشهادة.. لم يسمعها الحاكم، فإن سمعها ثم بان(13/321)
حالهم.. ردها، فإن بلغ الصبي أو أعتق العبد أو أسلم الكافر، ثم أعادوا تلك الشهادة.. قبلت. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: (لا تقبل) .
دليلنا: أن هؤلاء لا عار عليهم في رد شهادتهم، فإذا زال نقصهم وأعادوا تلك الشهادة.. لم تلحقهم التهمة في إعادتها، فقبلت.
وإن شهد فاسق بشهادة، فردت شهادته، ثم تاب وأعاد تلك الشهادة، فإن كان فسقه غير ظاهر.. لم تقبل الشهادة التي أعادها، وإن كان فسقه الذي تاب منه كان يظهره ولا يستره.. فهل تقبل شهادته إذا أعادها بعد التوبة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تقبل؛ كما لو كان غير ظاهر.
والثاني: تقبل؛ لأنه كان يظهره، فقبلت شهادته بعد زواله، كالعبد إذا أعاد شهادته بعد العتق.
وقال داود: (تقبل شهادته بعد التوبة بكل حال) .
دليلنا: أن الفاسق يلحقه العار والنقص برد شهادته، فإذا تاب وأعاد تلك الشهادة.. كان متهما أنه إنما تاب لتقبل شهادته ليزول عنه العار الذي لحقه، وكل شهادة فيها تهمة.. لم تقبل، كشهادة الوالد للولد.
[فرع شهادة المولى لمكاتبه بعد أدائه لمال الكتابة]
] : وإن شهد المولى لمكاتبه، فردت شهادته، ثم أدى المكاتب مال الكتابة فعتق، ثم أعاد تلك الشهادة.. فهل تقبل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تقبل؛ لأنها إنما ردت للتهمة، فإذا أعادها.. لم تقبل، كالفاسق إذا أعاد شهادته بعد التوبة.
والثاني: تقبل؛ لأنها إنما ردت؛ لأنه يجر بها إلى نفسه نفعا وقد زال هذا المعنى، فإذا أعادها.. قبلت. والأول أصح.(13/322)
[فرع إعادة الشهادة التي ردت للتهمة أو للعداوة بعد زوالهما]
] : قال الشيخ أبو إسحاق: وإن شهد رجل على رجل بأنه قذفه وزوجته، فردت شهادته، ثم عفا عن قذفه وحسنت الحال بينهما، ثم أعاد تلك الشهادة للزوجة.. لم تقبل؛ لأنها شهادة ردت للتهمة فلم تقبل وإن زالت التهمة، كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد الشهادة.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ردت شهادته لعداوة ظاهرة، فزالت تلك العداوة وأعاد تلك الشهادة.. فهل تقبل؟ فيه وجهان، كالفسق الظاهر.
وإن شهد لرجل أخوان له بجراحة لم تندمل وهما وارثاه، فردت شهادتهما فاندملت الجراحة وأعادا تلك الشهادة: ففيه وجهان:
أحدهما: تقبل؛ لأنها ردت للتهمة، وقد زالت التهمة.
والثاني: لا تقبل، وهو ظاهر المذهب؛ لأنها ردت للتهمة فلم تقبل، كالفاسق إذا أعاد شهادته بعد التوبة.
والله أعلم(13/323)
[باب عدد الشهود]
الحقوق على ضربين: حقوق لله تعالى، وحقوق للآدميين.
فأما (حقوق الله تعالى) : فعلى ثلاثة أضرب:
ضرب: لا يثبت إلا بأربعة شهود؛ وهو حد الزنى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] فأخبر أنه: لا يسقط حد القذف عن القاذف إلا بأن يأتي بأربعة شهداء على الزنى، فدل على: أن الزنى لا يثبت بأقل من أربعة شهداء، ولقوله تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] الآية [النساء: 15] فذكر الله: أنه لا يثبت الزنى إلا بأربعة شهداء، وأوجب فيه حكما، ثم نسخ ذلك الحكم ولم ينسخ الشهادة فيه، فبقي عدد الشهادة على مقتضى الآية. وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن سعدا قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا، أفأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: " نعم» فثبت أنه: لا يثبت إلا بأربعة شهداء. ولأن الزنى لا يتم إلا من نفسين فيصير كالشهادة على فعلين، فاعتبر فيه أربعة أنفس، ولا مدخل للنساء في الشهادة بذلك. وحكي عن عطاء وحماد بن أبي سليمان أنهما قالا: يجوز ثلاثة رجال وامرأتان.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] [النور: 4] ، والهاء بعد الثلاثة إلى العشرة إنما تدخل في عدد المذكر دون المؤنث.
وروي «عن الزهري: أنه قال: (مضت سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخليفتين من بعده ألا تقبل شهادة النساء في الحدود» . وأما اللواط: فلا يثبت إلا بأربعة شهداء.
وقال أبو حنيفة: (يثبت بشاهدين) فبنى ذلك على أصله: أن اللواط لا يوجب الحد.(13/324)
دليلنا: أن الله تعالى سماه فاحشة؛ لقوله: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] [الأعراف: 80] وأخبر: أن الفاحشة لا تثبت إلا بأربعة شهداء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية [النساء: 15] . ولأنا نبني على أصلنا وأنه يوجب حد الزنى وأغلظ منه، فلم يثبت إلا بأربعة شهداء كالزنى.
وأما إتيان البهيمة: فإن قلنا: أن الواجب فيه القتل أو حد الزنى.. لم يثبت إلا بأربعة شهود، كحد الزنى. وإن قلنا: إن الواجب فيه التعزير.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت إلا بأربعة؛ لأنه فرج حيوان تجب بالإيلاج فيه العقوبة، فاعتبر في الشهادة عليه أربعة، كالزنى.
والثاني: أنه يثبت بشاهدين؛ لأنه لا يلحق بالزنى في الحد، فلم يلحق به في الشهادة. والأول أصح.
والقسم الثاني من حقوق الله تعالى وهو: حد الخمر والقتل في المحاربة والردة.. فلا يثبت إلا بشاهدين؛ لأنه يتم من فرد، فجاز إثباته بشهادة رجلين، بخلاف الزنى.
القسم الثالث: هو الإقرار بالزنى، وفيه قولان:
أحدهما: يثبت بشاهدين؛ لأنه إثبات إقرار، فقبل من اثنين، كالإقرار بسائر الحقوق.
والثاني: لا يثبت إلا بأربعة شهداء؛ لأنه سبب يثبت به حد الزنى، فاعتبر فيه أربعة شهود، كالشهادة على الفعل.
وإن كان المقر أعجميا.. ففي عدد المترجمين عنه وجهان، بناء على القولين في الإقرار بالزنى.
ولا مدخل لشهادة النساء في هذين القسمين؛ لما ذكرناه من حديث الزهري.
[مسألة قبول الشهادة لحقوق الله من غير دعوى]
وماذا لو تطاول الزمان على شهادة الزنى؟] : تقبل الشهادة على حقوق الله عز وجل؛ مثل الزنى، وشرب الخمر، والقتل في المحاربة، والردة، من غير دعوى؛ لأن الحق لله تعالى وليس هناك مدع.(13/325)
وإذا شهد أربعة على الزنى بعد تطاول الزمان من وقت الزنى إلى وقت الشهادة.. قبلت شهادتهم. وقال أبو حنيفة: (لا تقبل) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] ولم يفرق. ولأنه حد يثبت بالشهادة على الفور، فوجب أن يثبت مع تطاول الزمان، كسائر الحقوق.
[فرع شهادة أربعة على زان وحكم تعدد المجلس أو موتهم قبل الحكم]
فرع: [شهادة أربعة على زان وحكم تعدد المجلس أو غيبتهم أو موتهم قبل الحكم] : وإذا شهد أربعة على الزنى.. وجب الحد على المشهود عليه، سواء شهدوا في مجلس واحد أو في مجالس. وقال أبو حنيفة: (إذا شهدوا في مجالس.. لم يثبت الزنى وكانوا قذفة) . وحد المجلس عنده ما دام الحاكم جالسا وإن طال جلوسه.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] ولم يفرق. ولأن كل حق يثبت بالشهود إذا شهدوا به في مجلس.. ثبت وإن شهدوا به في مجالس كسائر الحقوق.
وإن شهد أربعة بالزنى ثم غابوا أو ماتوا قبل الحكم بشهادتهم.. جاز للحاكم أن يحكم بشهادتهم.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز أن يحكم بشهادتهم) .
دليلنا: أن كل شهادة جاز للحاكم أن يحكم بها مع حضور الشهود وحياتهم.. جاز مع موتهم وغيبتهم، كسائر الشهادات.
[مسألة نقصان نصاب الشهادة في الزنى]
] : وإذا شهدوا على الزنى ولم يتم العدد؛ بأن شهد على زنى ثلاثة أو أقل.. لم يجب حد الزنى على المشهود عليه، وفي الشهود قولان:
أحدهما: أنهم ليسوا بقذفة، ولا يفسقون، ولا ترد به شهادتهم، ولا يحدون؛(13/326)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] فذكر الله القاذف وبين حكمه، وأنه إذا لم يأت بأربعة شهداء.. جلد ثمانين جلدة، وكان فاسقا، وردت شهادته. وهذه الآية لا تتناول الشاهد في الزنى؛ لأنه قد لا يحد ولا يفسق ولا ترد شهادته وإن لم يأت بأربعة شهداء؛ وهو: إذا أتى بثلاثة شهداء معه، فدل على: أنه ليس بقاذف إذ لو كان قاذفا.. لما خالف سائر القذفة. ولأنه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة عند الحاكم فلم يكن قاذفا، كما لو تم عدد الأربعة. ولأنا لو قلنا: يجب عليهم الحد إذا لم يتم العدد.. لأدى ذلك إلى أن لا تقام الشهادة على الزنى أصلا؛ لأن الشهود لا يمكنهم التلفظ بالشهادة على الزنى دفعة واحدة، وإنما يشهد واحد بعد واحد، وكذلك كل واحد منهم يتوقف عن الشهادة خوفا من أن لا يتم العدد فيجب عليهم الحد، وإذا كان ذلك يفضي إلى هذا.. لم يصح.
والقول الثاني: أنهم قذفة، ويجب عليهم حد القذف، ويفسقون، وترد به شهادتهم - وهو المشهور من المذهب وبه قال مالك وأبو حنيفة - لما روي: (أن أربعة حضروا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليشهدوا على رجل بالزنى، فصرح ثلاثة منهم بالشهادة بالزنى عليه ولم يصرح الرابع، بل قال: رأيتهما في ثوب واحد، فإن كان هذا زنى.. فهو زان، فجلد علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الثلاثة الذين صرحوا بالشهادة بالزنى، وعزر الرجل والمرأة) .
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استخلف المغيرة بن شعبة على البصرة، فكان نازلا في سفل دار، وكان أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد وزياد في علو الدار، فهبت ريح ففتحت الباب ورفع الستر، فرأوا المغيرة بين رجلي امرأة فلما كان من الغد.. تقدم المغيرة ليصلي بهم، فأخره أبو بكرة، وقال: تنح عن مصلانا، فكتب بذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فاستحضر عمر المغيرة بن شعبة إليه والشهود، فلما قدموا على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بالزنى وصرحوا عليه به، فلما أراد زياد أن يشهد.. قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هذا رجل شاب ولا يشهد إلا(13/327)
بحق إن شاء الله، فقال زياد: أما زنى.. فلا أشهد به، ولكني رأيت أمرا منكرا قبيحا؛ رأيت استا تنبو، ونفسا يعلو، ورجلين كأنهما أذنا حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الله أكبر، وجلد الثلاثة الذين صرحوا بالزنى) . وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم ينكر عليه أحد.
ولأنهم أدخلوا المعرة عليه بإضافة الزنى إليه بسبب لم يسقطوا به إحصانه، فجاز أن يجب عليهم الحد، كما لو قذفوه صريحا. فقولنا: (بسبب لم يسقطوا به إحصانه) احتراز من العدد إذا تم، ولأنا لو لم نوجب عليهم الحد.. لجعلت الشهادة على الزنى طريقا إلى القذف؛ لأنه يؤدي إلى أن الإنسان يقذف إنسانا بالزنى ولا يجب عليه الحد حتى ولو شهد عليه عند الحاكم، ولا سبيل إلى ذلك شرعا.
فإن قيل: فالصحابة كلهم عدول لا فاسق فيهم ولا بد هاهنا من تفسيق المغيرة أو الشهود عليه؟ فالجواب: أنا لا نقطع بتفسيق أحدهم؛ لأنه يجوز أن يكون المغيرة تزوج تلك المرأة سرا، وكان من مذهب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد من نكح سرا، فلما رأوه.. قالوا: هذه زوجتك؟ قال: لا؛ خوفا من أن يجلده عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه أراد ما تزوجتها ظاهرا، وحمل الشهود الأمر على الظاهر: أن هذا الفعل بامرأة ليست بزوجة له زنى.
[فرع رد شهادة أحد الأربعة الشهود بالزنا بسبب الزوجية]
أو غيره] : وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وأحدهم الزوج.. فإن شهادة الزوج لا تقبل عليها(13/328)
ولا يجب عليها الحد، وهل يجب حد القذف على الشهود الثلاثة غير الزوج؟ على القولين.. وأما الزوج: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان؛ لأنه أضاف الزنا إليها بلفظ الشهادة، فهو كالثلاثة.
ومنهم من قال: يجب عليه الحد قولا واحدا؛ لأنه ممن لا تقبل شهادته عليها، فهو كما لو قذفها صريحا. وإن شهد أربعة على رجل بالزنا، فرد الحاكم شهادة أحدهم.. فإن الحد لا يجب على المشهود عليه بالزنى؛ لأن عدم العدالة كعدم تمام العدد. وهل يجب الحد على الثلاثة العدول؟ ينظر في الرابع الذي ردت شهادته:
فإن ردت شهادته لسبب ظاهر، كالصغر والرق والكفر والأنوثية.. ففي وجوب الحد عليهم قولان؛ لأنهم مفرطون في الشهادة معه.
قال الشيخ أبو حامد: وينبغي أن يجب الحد على الرابع مع هذه الأسباب قولا واحدا؛ لأنه لما شهد مع علمه أنه لا يقبل.. فكأنه قصد قذفه صريحا.
وإن ردت شهادته بأمر خفي؛ بأن كان عدلا في الظاهر، فلما بحث الحاكم عن حاله وجده فاسقا في الباطن.. ففي وجوب الحد على الثلاثة طريقان، ومن أصحابنا من قال: فيهم قولان؛ لأن العدالة الباطنة معتبرة كالعدالة الظاهرة.
ومنهم من قال: لا يجب عليهم الحد قولا واحدا؛ لأنهم غير مفرطين في الشهادة؛ لأن العدالة الباطنة لا يعلمها إلا الحاكم عند البحث عنه.
[فرع شهد أربعة بالزنا ثم رجع أحدهم أو كلهم]
] : وإن شهد أربعة على رجل بالزنا، فرجع واحد منهم قبل أن يحكم بشهادتهم.. لم يلزم المشهود عليه حد الزنا؛ لأن البينة عليه بالزنا لم تتم، وهل يجب حد القذف على الراجع؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب: فيه قولان؛ لأنه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة عند الحاكم.
وقال أكثر أصحابنا: يجب عليه الحد قولا واحدا، وهو الأصح؛ لأنه إن قال: عمدت إلى الشهادة.. فقد اعترف بالقذف، وإن قال: أخطأت.. فهو مفرط كاذب.(13/329)
وأما الثلاثة الذين لم يرجعوا.. فالمنصوص: (أنهم لا يحدون) .
ومن أصحابنا من قال: في وجوب الحد عليهم قولان. قال الشيخ أبو حامد: وينبغي أن لا يحكى هذا؛ لأنه لا شيء.
وإن رجعوا كلهم.. وجب عليهم الحد قولا واحدا.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان. والأول أصح.
وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا، وشهد أربع نسوة أنها بكر.. لم يجب الحد على المرأة. وقال مالك: (يجب عليها الحد) .
دليلنا: أنه يحتمل أن البكارة أصلية، وذلك شبهة في سقوط الحد عنها، ولا يجب الحد على الشهود؛ لجواز أن تكون البكارة عائدة، وذلك شبهة في درء الحد عنهم.
[مسألة أنواع البينة في حقوق الآدميين المالية وغيرها مما يطلع عليه الرجال]
] : وأما حقوق الآدميين: فتنقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما هو مال أو المقصود منه المال؛ مثل: البيع، والرهن، والضمان، والغصب، والشفعة، والعارية، والإجارة، والوصية له، وما أشبهه.. فهذا يثبت بشاهدين أو بشاهد وامرأتين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] الآية [البقرة: 282] ، والدين المؤجل لا يكون إلا الثمن في البيع أو المسلم فيه أو الأجرة أو الصداق أو عوض الخلع، فإذا ثبت ذلك في الدين.. ثبت في غيره من المال مثله.
القسم الثاني: ما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال؛ كالنكاح، والرجعة، والطلاق، والعتاق، والوكالة، والوصية إليه، وقتل العمد، والحدود وما أشبهه.. فلا تثبت إلا بشاهدين، ولا تثبت بشاهد وامرأتين، وبه قال الزهري والنخعي ومالك.
وقال أبو حنيفة: (النكاح يثبت بشاهد وامرأتين) . وقد مضى الدليل عليه.(13/330)
وقال الحسن البصري: لا يثبت القصاص في النفس إلا بأربعة.
ودليلنا: أنه أحد نوعي القصاص فيثبت بالشاهدين، كالقصاص في الطرف.
[فرع ثبوت مقدار المهر بشاهد وامرأتين]
وماذا عن الخلع] : وإن اتفق الزوجان على النكاح واختلفا في الصداق.. فإنه يثبت بالشاهد والمرأتين، لأنه مال. وإن ادعت المرأة الخلع وأنكر الزوج.. لم يثبت إلا بشاهدين؛ لأنه ليس بمال وإن ادعى الزوج الخلع وأنكرت المرأة.. ثبت ما ادعاه الزوج عليها بشاهدين وامرأتين؛ لأنه يدعي المال.
[فرع ادعاء العبد المكاتبة]
] : وإن ادعى العبد على سيده أنه كاتبه وأنكر السيد.. لم يحكم عليه بشاهد وامرأتين؛ لأنه يتضمن العتق.
فإن اتفقا على الكتابة واختلفا في قدر المال، أو ادعى المكاتب أنه قد أدى إليه النجم الأول، أو أنه أبرأه منه، وأنكر السيد.. ثبت ذلك بالشاهد والمرأتين؛ لأنه شهادة على المال.
وإن ادعى المكاتب أنه أدى إليه النجم الأخير أو أبرأه منه وأنكر السيد، فأقام المكاتب على ذلك شاهدا وامرأتين.. ففيه وجهان: أحدهما: يحكم بذلك؛ لأنها شهادة على المال.
والثاني: لا يحكم بذلك؛ لأنه في الحقيقة شهادة على العتق.(13/331)
[فرع ادعى على رجل سرقة نصاب أو اغتصاب مال منه]
] : وإن ادعى على رجل أنه سرق منه نصابا من حرز مثله ممن يقطع بسرقة ماله، وأنكر السارق، فأقام عليه شاهدا وامرأتين.. لم يجب على السارق قطع؛ لأنه ليس بمال، ويحكم على السارق بالمال المشهود به.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] قولا آخر: أنه لا يحكم عليه بالمال، كما لا يحكم عليه بالقطع.
والمشهور هو الأول؛ لأن هذه البينة تعلق بها حكمان: القطع والغرم، وقد ينفرد الغرم عن القطع؛ وهو: إذا سرق من مال أبيه.
فإذا ادعى رجل على رجل أنه غصب منه مالا فأنكر، وحلف المدعى عليه بطلاق امرأته أنه ما غصب منه، ثم أقام المدعي شاهدا وامرأتين.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإنه يحكم للمدعي بالمال الذي شهد به الرجل والمرأتان، ولا يحكم على المدعى عليه بالطلاق؛ لأنه ليس بمال) .
قال أبو العباس: هذا إذا حلف بطلاق امرأته قبل ثبوت الغصب، فأما إذا أقام المدعي شاهدا وامرأتين أنه غصب منه، ثم حلف المدعى عليه بطلاق امرأته: أنه ما غصب منه.. فإنه يحكم عليه بالطلاق؛ لأنا قد حكمنا عليه بالغصب قبل الطلاق، فإذا حلف.. حكمنا عليه بالحنث.
[فرع ادعى على رجل قتلا أو جناية]
فإن ادعى على رجل قتلا يقتضي القود فأنكر، فأقام عليه شاهدا وامرأتين.. لم يثبت القصاص ولا الدية.
فإن قيل: فهلا أوجبتم الدية كما قلتم فيمن أقام شاهدا وامرأتين أنه سرق منه نصابا: أنه لا يجب عليه القطع ويجب عليه الغرم؟(13/332)
قلنا: الفرق بينهما: أن الشهادة بالسرقة توجب القطع والغرم على سبيل الجمع، فإذا كانت البينة مما لا يثبت بها القطع.. بقي الغرم والجناية التي يجب بها القود - في أحد القولين - والأرش بدلا عنه. والثاني: يجب أحدهما لا بعينه، وإنما يجب أحدهما بالاختيار، فلو أوجبنا الدية.. أوجبنا في العمد حقا معينا، وهذا خلاف مقتضى الجناية التي يجب بها القود.
وإن ادعى عليه جناية لا يجب بها القصاص، وإنما يجب بها المال، كقتل الخطأ وعمد الخطأ وقتل المسلم للكافر وما أشبه ذلك.. فإن ذلك يثبت بالشاهد والمرأتين؛ لأنه مال. وهل تثبت الهاشمة والمنقلة بالشاهد والمرأتين؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يثبتان؛ لأنها شهادة تتضمن إثبات الموضحة، والموضحة يثبت فيها القصاص، وكل جناية يثبت فيها القصاص: فإنها لا تثبت بالشاهد والمرأتين.
والثاني: يثبتان؛ لأنه لا قصاص فيهما وإنما القصاص في ضمنهما.
[فرع ادعى رجل على آخر جراحة أو قتلا ثم عفا ثم أقام شاهدا وامرأتين]
] : وإن ادعى على رجل أنه جرحه جراحة يثبت فيها القصاص، أو قتل وليه قتلا يثبت به القصاص، فأنكر المدعى عليه، وقال المدعي: قد عفوت عن القصاص، وأقام على الجناية شاهدا وامرأتين.. قال في " الأم ": (فإنه لا يحكم له بهذه الشهادة؛ لأن عفوه عن القصاص كلا عفو؛ لأنه عفا عنه قبل ثبوته، فإذا لم يصح عفوه.. فهو مدع جناية تقتضي القصاص، فلم تثبت بالشاهد والمرأتين) .
[فرع رمى رجلا بسهم فقتله ثم نفذ فيه فأصاب رجلا فقتله]
] : إذا رمى رجل رجلا بسهم فأصابه، ونفذ فيه السهم فأصاب رجلا فقتله، فادعى(13/333)
ولي الرجلين على الرامي أنه قتلهما، وأقام عليه شاهدا وامرأتين، فإن كانت الدعوى عليه على الأول جناية لا تقتضي القود.. فإن الجنايتين على المقتولين خطأ فيثبتان بالشاهد والمرأتين. وإن كانت الدعوى عليه على الأول جناية تقتضي القود.. لم تثبت بالشاهد والمرأتين، ولكن إذا شهد له الرجل والمرأتان.. كان ذلك لوثا تثبت به الأيمان في جنبة الولي. وأما الجناية على الثاني: فالمنصوص في " الأم ": (أنها جناية خطأ) ، فيقضى فيها بالشاهد والمرأتين. وحكى ابن الصباغ قولا آخر: أنها لا تثبت إلا بعد ثبوت جنايته على الأول؛ لأنها جناية واحدة فلا يثبت بعضها دون بعض.
والأول أصح؛ لأن الجناية على الثاني خطأ محض فقضي فيها بالشاهد والمرأتين.
[فرع ادعى ولدا وجارية أو عبدا في يد آخر]
] : إذا كان في يد رجل جارية ولها ولد، فادعى رجل أنها مملوكته استولدها في ملكه هذا الولد، فأنكر المدعى عليه، وأقام المدعي شاهدا وامرأتين.. فإنه يحكم له بالجارية؛ لأن أم الولد في حكم المملوكة؛ بدليل: أنه يجوز له وطؤها واستخدامها وإجارتها. وترد إليه، ويحكم بأنها أم ولد له، فتعتق بموته.
وأما الولد: فإنه لا يدعي ملكه، وإنما يدعي حريته وثبوت نسبه منه، وهل يحكم له بذلك بالشاهد والمرأتين؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يحكم بذلك؛ لأن الحرية والنسب لا يثبتان بالشاهد والمرأتين.
فعلى هذا: يكون باقيا على ملك المدعى عليه.
والثاني: يحكم بذلك - وهو اختيار المزني - لأنه قد حكم بملك الجارية، والولد من نمائها، ومن ثبت له ملك عين.. حكم له بملك نمائها.
وإن ادعى رجل أن العبد الذي في يد فلان كان له وأنه كان قد أعتقه، وأنكر من هو بيده فأقام المدعي بذلك شاهدا وامرأتين.. فاختلف أصحابنا فيه:(13/334)
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يحكم له بهذه الشهادة؛ لأنها شهادة بملك متقدم فلم تقبل، كما لو ادعى ملك عين وأقام بينة أنها كانت له.
والثاني: يحكم له بها؛ لأن البينة شهدت موافقة لدعواه، فحكم بها. ويفارق إذا ادعى ملك العين في الحال، وشهدت له البينة أنها كانت له ملكا؛ فإن البينة لم تشهد موافقة لدعواه.
ومنهم من قال: يحكم بها هاهنا قولا واحدا، وهو المنصوص في " المختصر "، واحتج بها المزني على ما اختاره في الأولى. والفرق بينها وبين الأولى: أنه هاهنا ادعى أن العبد كان ملكا له، وإنما قد أعتقه، فحكم فيه بالشاهد والمرأتين، وفي التي قبلها: لم يدع ملك الولد، وإنما ادعى حريته ونسبه، فلم يحكم بذلك بالشاهد والمرأتين.
[مسألة الشهادة على ما ليس بمال ولا يطلع عليه الرجال]
] : قد ذكرنا: أن حقوق الآدميين على ثلاثة أقسام، ومضى الكلام على قسمين، وبقي الكلام على القسم الثالث؛ وهو: ما ليس بمال ولا المقصود منه المال ولا يطلع عليه الرجال، وهو مثل: الرضاع، والولادة، واستهلال الولد، وعيوب النساء تحت الثياب كالرتق والقرن.. فهذا كله وما أشبهه يثبت بالشاهدين، أو بالشاهد وامرأتين، أو بأربع نسوة منفردات، وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلي: (لا يثبت الرضاع بشهادة النساء منفردات) .
دليلنا: أن الرجال لا يطلعون على ذلك في العادة، فلو لم تقبل فيه شهادة النساء منفردات.. لبطل.
والدليل على أن شهادة النساء منفردات تقبل في الرضاع: أنها شهادة على عورة يثبت فيها تحريم أو حرمة، فقبل فيها شهادة النساء منفردات، كالولادة. وفيه احتراز من الشهادة على الزنا.(13/335)
وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء منفردات.. فاختلف أهل العلم في عددهن:
فمذهبنا: أنه لا يقبل إلا من أربع نسوة عدول، وبه قال عطاء.
وقال عثمان البتي: تقبل من ثلاث. وقال مالك والأوزاعي: (تقبل من اثنتين) . وقال أبو حنيفة: (تقبل شهادة القابلة وحدها في الولادة) . وقال ابن عباس والزهري: (تقبل شهادة الواحدة في الرضاع) ؛ لما «روى عقبة بن الحارث: أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء فذكرت: أنها قد أرضعتهما، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كيف وقد شهدت السوداء أنها قد أرضعتكما؟» .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن " فقالت امرأة: يا رسول الله، ما ناقصات العقل والدين؟ قال: " أما نقصان العقل: فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقصان الدين: فإنها تمكث شطر دهرها لا تصلي» . فأخبر الله ورسوله: أن شهادة امرأتين شهادة رجل، وقد ثبت أن هذه الحقوق لا يقبل فيها من الرجال إلا رجلان، فثبت أنه لا تقبل فيها من النساء إلا أربع.
وأما الخبر الذي احتج به لابن عباس: فإنما أمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك المرأة استحبابا لا وجوبا، بدليل قوله: " كيف وقد شهدت السوداء؟ " أي: اترك ذلك، كيف وقد انضاف إلى ما قلت لك من الترك بشهادة السوداء، ولو أمره بتركها موجبا.. لقال له: اتركها؛ لأن السوداء قد شهدت بأنها قد أرضعتكما.(13/336)
[فرع شهادة المرضعة]
] : وإن شهدت المرضعة بأنها أرضعت طفلا مع ثلاث نسوة معها وهن عدول.. حكم بكونه ابنا لها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كيف وقد شهدت السوداء؟ " فسماها شهادة. ولأنها لا تجر بهذه الشهادة إلى نفسها نفعا ولا تدفع بها عنها ضررا، فقبلت هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: إن شهدت المرضعة على أنها أرضعت طفلين، فإن ادعت أجرة.. لم تقبل. وإن لم تدع أجرة.. نظرت: فإن شهدت على فعل نفسها؛ بأن قالت: أشهد أني أرضعتهما.. لم تقبل؛ لأنها تشهد على فعل نفسها. وإن قالت: أشهد أنهما ارتضعا مني.. قبلت شهادتها.
[فرع تزوجا واتفقا على رضاع بينهما أو أنكر أحدهما]
] : إذا تزوج رجل امرأة، واتفقا على أن بينهما رضاعا يحرم.. انفسخ النكاح، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء لها، وإن كان بعد الدخول.. وجب لها مهر مثلها.
وإن ادعى الزوج أن بينهما رضاعا يحرم، وأنكرت المرأة.. انفسخ النكاح؛ لأنه قد أقر بتحريمها عليه، ولا يقبل قوله فيما يسقط حقها، فإن كان قبل الدخول.. وجب لها نصف المسمى، وإن كان بعد الدخول.. وجب لها المسمى.
وإن أقام عليها بينة بالرضاع، فإن كان قبل الدخول.. فلا شيء لها عليه، وإن كان بعد الدخول.. قال أصحابنا: حكم لها بمهر مثلها. ويحتمل وجها آخر: أنه يحكم لها بأقل الأمرين: من المسمى أو مهر المثل؛ لأن مهر المثل إن كان أقل.. لم يحكم لها بأكثر منه؛ لأنا قد حكمنا ببطلان النكاح، وإن كان المسمى أقل.. لم يحكم لها بأكثر منه؛ لأنها لا تدعيه. وإذا أقام الزوج عليها ابنتها أو أمها.. قبلتا؛ لأنهما يشهدان عليها. وإن ادعت الزوجة رضاعا يحرم، وأنكر الزوج ولا بينة.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. لم يحكم بانفساخ النكاح عليه.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ويحلف الزوج: أنه لا يعلم أن بينهما رضاعا، فإن نكل.. ردت اليمين عليها، وتحلف على البت والقطع.(13/337)
[مسألة ما ثبت بشاهد وامرأتين يثبت بشاهد ويمين]
] : كل حق يثبت بالشاهد والمرأتين على ما مضى.. فإنه يثبت بالشاهد ويمين المدعي.
وبه قال أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي بن كعب، وعمر بن عبد العزيز، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، وشريح، وفقهاء المدينة، وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الزهري، والنخعي، وابن شبرمة، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يقضى بالشاهد واليمين بحال) .
دليلنا: ما روى عمرو بن دينار، عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشاهد مع اليمين» . قال عمرو بن دينار: وكان ذلك في الأموال. وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بشهادة الشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق» . وروى(13/338)
جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأمرني: أن أقضي باليمين مع الشاهد» . ولأنه أحد المتداعيين، فجاز أن يثبت اليمين في جنبته ابتداء كالمدعى عليه.
[فرع لا تكفي أربع نسوة ولا امرأتان مع اليمين]
وبيان كيفية اليمين مع الشاهد في شهادة الأموال] : وإن ادعى رجل مالا أو ما المقصود منه المال، وأقام على ذلك أربع نسوة منفردات.. لم يحكم له بذلك بلا خلاف. وإن أقام امرأتين وأراد أن يحلف معهما.. لم يكن له ذلك. وقال مالك: (يكون له ذلك) .
دليلنا: أنها بينة لا تقبل في النكاح، فلم تقبل مع اليمين، كالنساء منفردات.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكيفية اليمين مع الشاهد: أن يحلف المدعي أن شاهده لصادق، وأنه لمحق.
[فرع ادعى قطع يده من الساعد فأقام شاهدا وطلب الحلف]
] : وإن ادعى عليه أنه قطع يده من الساعد عمدا فأنكره، فأقام عليه شاهدا وأراد أن يحلف معه.. فحكى ابن الصباغ فيها وجهين:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد -: أن له أن يحلف ويحكم له بما ادعاه؛ لأنها جناية لا قصاص فيها، فهي كالجائفة.
والثاني: - وهو قول القاضي أبي الطيب -: ليس له أن يحلف؛ لأن من قطعت يده من الساعد.. له أن يقتص من الكوع، وكل جناية وجب فيها القصاص.. فإنها(13/339)
لا تثبت بالشاهد واليمين. ويشبه أن يكون هذان الوجهان مأخوذين من القولين في الهاشمة والمنقلة، وهل يثبتان بالشاهد والمرأتين؟
[مسألة ادعوا لأبيهم دينا فأقاموا شاهدا وكان بعضهم صغيرا أو غائبا]
مسألة: [ادعوا لأبيهم دينا فأقاموا شاهدا أو ادعى جماعة حقا وأقام بعضهم شاهدا وكان بعضهم صغيرا أو غائبا] : إذا مات رجل وخلف جماعة ورثة، فادعوا أن لأبيهم على رجل دينا فأنكر، فأقاموا شاهدا، فإن حلفوا معه.. استحقوا الدين، فإن كان على الميت دين.. قضي منه دينه، وإن وصى بوصية.. نفذت منه وصيته.
وإن حلف بعضهم دون بعض.. استحق الحالف قدر نصيبه من الدين، ولا يشاركه من لم يحلف من الورثة. وحكى ابن الصباغ: أن ابن القاص قال: وفيها قول آخر: أنهم يشاركونه؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (إذا ادعى رجلان دارا ورثاها من أبيهما في يد رجل، فأقر لأحدهما بنصفها.. شاركه الآخر فيه) .
وهذا ليس بصحيح؛ لأن الذي لم يقر له بالدار.. لم يسقط حقه؛ ولذلك شارك أخاه، وهاهنا الذي امتنع من اليمين.. أسقط حقه، فلم يستحق بيمين غيره.
فإن امتنع جميع الورثة من اليمين، فإن كان على الميت دين، فإن كان للميت مال غير هذا المال المدعى به يفي بالدين.. لم يكن لصاحب الدين أن يحلف مع الشاهد؛ لأنه يمكنه استيفاء دينه من المال. وإن لم يكن له مال غير هذا الدين الذي يشهد به الشاهد.. فهل له أن يحلف مع الشاهد؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (له أن يحلف معه) ؛ لأن حقه متعلق به؛ لأنه إذا ثبت.. استوفى منه دينه.
و [الثاني] : قال في الجديد: (ليس له أن يحلف مع الشاهد) ؛ لأن المال إذا(13/340)
ثبت.. استحقه الورثة، ولا يجوز أن يحلف لإثبات المال لغيره.
قال ابن الصباغ: فإذا قلنا: له أن يحلف فحلف، ثم أبرأ الميت من دينه.. فإن المال الذي حلف عليه يرد على المدعى عليه، ولا يرد إلى ورثة الميت. وإن لم يكن على الميت دين، ولكنه قد أوصى بوصايا تتعلق بالمال المشهود به.. فهل للموصى له أن يحلف مع الشاهد عند امتناع الورثة من اليمين؟ فيه قولان، كما قلنا في الغريم. فإن حلف بعض الورثة، وعلى الميت دين.. فهل يقضى جميع الدين مما يستحقه الحالف؟ قال ابن الصباغ: عندي أنه ينبني على يمين الغريم، فإن قلنا: إنه يحلف إذا امتنع الورثة.. لم يلزم الحالف من الورثة إلا قدر نصيبه من الدين. وإن قلنا: إن الغريم لا يحلف، فإن قلنا بالقول الذي حكاه ابن القاص: أن الورثة يشاركونه.. قضي جميع الدين منه؛ لأنه تركة. وإن قلنا: الورثة لا يشاركونه.. بني على أن بعض الورثة إذا أقر بدين على مورثهم وجحد الباقون.. فهل يلزمه جميع الدين؟ فيه قولان، يأتي بيانهما في موضعهما. وإن كان في الورثة صغير أو معتوه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وقف حقه) . قال أبو إسحاق: أراد: وقفت يمينه حتى يبلغ الصغير ويعقل المعتوه؛ لأن يمينه لا تصح ووليه لا ينوب عنه في اليمين. وقال أبو علي في " الإفصاح ": يجب أن يوقف حقه من المال، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أحد القولين، إذا ادعى مالا وأقام شاهدا، وطلب أن يحبس له الخصم أو الكفيل إلى أن يقيم الآخر. فإن مات الصغير أو المعتوه.. قام وارثه مقامه، فإذا حلف.. استحق نصيبه.
وإن كان لجماعة حق على رجل، فأقام بعضهم شاهدا، وكان بعضهم صغيرا أو غائبا.. فهل يحتاج الصغير إذا بلغ، أو الغائب إذا حضر إلى إعادة الشاهد؟(13/341)
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان الحق من جهة واحدة كالإرث عن شخص واحد.. لم يفتقر إلى إعادة الشاهد، وإلا.. فتعاد.
[مسألة ادعى وقف عين وأقام شاهدا وطلب اليمين]
إذا ادعى رجل وقف عين عليه، وأقام شاهدا وأراد أن يحلف معه.. فهل له ذلك؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق وأكثر أصحابنا: يبنى على القولين في الوقف، هل ينتقل إلى الله سبحانه أو إلى الموقوف عليه؟ فإن قلنا: ينتقل إلى الله تعالى.. لم يكن له أن يحلف مع الشاهد، كما قلنا في العتق. وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الموقوف عليه.. كان له أن يحلف مع الشاهد، كالبيع. وقال أبو العباس: له أن يحلف مع الشاهد قولا واحدا؛ لأنا وإن قلنا: إنه ينتقل إلى الله تعالى، إلا أن القصد بالوقف تمليك الموقوف عليه منفعة الوقف، فهو كالإجارة، بخلاف العتق؛ فإن المقصود منه تكميل أحكام العبد دون المال.
[مسألة أقام شاهدا على أن أباه أوقف عليه وعلى أخويه دارا]
ثم على أولادهم من بعدهم ثم على الفقراء والمساكين] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: [ولو أقام شاهدا أن أباه تصدق عليه بهذه الدار صدقة محرمة موقوفة وعلى أخوين له، فإذا انقرضوا فعلى أولادهم، ثم على الفقراء والمساكين، فمن حلف منهم.. ثبت حقه وصار ما بقي ميراثا، فإن حلفوا معا.. خرجت الدار من ملك صاحبها) . واختلف أصحابنا في صورتها: فقال أبو إسحاق وغيره من أصحابنا: صورتها: أن يموت رجل ويخلف دارا وثلاثة أولاد ومعهم وارث غيرهم، فادعى أحد الأولاد أن أباه وقف الدار عليه وعلى أخويه ثم على أولادهم(13/342)
بعدهم، ثم على الفقراء والمساكين، وصدقه أخواه على ذلك وأنكر الوارث الذي معهم، فأقام المدعي شاهدا.. فهل للمدعي أن يحلف مع الشاهد؟
إن قلنا: لا يقضى بالشاهد مع اليمين في الوقف.. لم يحلف. وإن قلنا: يقضى بالشاهد مع اليمين في الوقف.. نظرت: فإن حلف الأولاد الثلاثة.. صار جميع الدار وقفا عليهم. وإن لم يحلف واحد منهم.. لم يحكم بالوقف قبل القسمة، بل تكون الدار موروثة، فإن كان على الميت دين.. قضي منها دينه، وإن كان له وصية.. نفذت منها وصيته، فإن لم يكن عليه دين ولا وصية.. قسمت الدار بين الورثة، فما أصاب سائر الورثة الذين ينكرون الوقف.. يكون مطلقا يتصرفون فيه بما شاؤوا، وما أصاب الأولاد الذين ادعوا الوقف.. حكم بوقفه عليهم بإقرارهم. فأما إذا حلف واحد من الأولاد ولم يحلف الآخران.. حكم بثلث الدار وقفا على الحالف، والثلثان الباقيان من الدار يكون موروثا يقضى منه دين الميت وتنفذ منه وصاياه، وما بقي بعد ذلك.. يقسم بين الأولاد الثلاثة والوارث معهم المنكر للوقف. فما أصاب المنكر للوقف من الدار.. يكون مطلقا يتصرف فيه بما شاء، وما أصاب الأولاد الثلاثة من الدار.. يكون وقفا على الولدين اللذين لم يحلفا؛ لأن الحالف يعترف لهما بذلك؛ لأنه لا يدعي إلا ثلث الدار وقد حصل له ذلك بيمينه. قال أبو إسحاق: فأما إذا خلف الميت ثلاثة أولاد، وادعوا أن أباهم وقف عليهم دارا يملكها وقد صارت في يد رجل، فادعوا أنه غصبها وأقاموا شاهدا.. فإن لهم أن يحلفوا مع الشاهد قولا واحدا؛ لأنهم ادعوا الغصب، والغصب يحكم فيه بالشاهد واليمين. فإذا حلفوا مع شاهدهم.. نزعت الدار ممن هي في يده وصارت وقفا عليهم قولا واحدا بإقرارهم، وهذا كما لو أقر رجل أن أباه أعتق عبدا، وأن فلانا غصبه، وأقام عليه شاهدا وحلف معه.. فإنه يحكم على الغاصب بالعبد ويحكم بعتق العبد.(13/343)
ومن أصحابنا من قال: صورتها: أن يموت رجل ويخلف ثلاثة أولاد، فادعى أحد الأولاد الثلاثة على رجل أجنبي في يده دار أن أباه وقف عليه الدار وعلى أخويه ثم على أولادهم ثم على الفقراء، وأنكر من بيده الدار، وأقام المدعي شاهدا، فإن قلنا: لا يحكم بالشاهد واليمين في الوقف.. فلا كلام. وإن قلنا: يحكم بالشاهد واليمين في الوقف.. نظرت: فإن حلف الأولاد الثلاثة.. حكم بجميع الدار وقفا عليهم. وإن لم يحلف واحد منهم.. كانت الدار ميراثا لمن هي في يده. وإن حلف أحد الأولاد وامتنع الآخران من اليمين.. حكم بثلث الدار وقفا على الحالف، وكان ثلثاها ميراثا لمن هي في يده. قال: والدليل على أن هذه صورتها: قوله: (فمن حلف منهم.. ثبت نصيبه وقفا، وصار ما بقي ميراثا) . وهذا إنما يتصور على هذه الطريقة، وأما على الطريقة الأولى: فمن لم يحلف من الأولاد.. صار نصيبه وقفا بإقراره. وقال الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا: الصحيح: أن صورتها ما ذكره أبو إسحاق، والدليل عليه قوله: (وأقام عليه شاهدا أن أباه تصدق عليه) ، وهذا كناية ترجع على المذكور، وليس هاهنا مذكور إلا المدعي، وأما ما احتج به الأول وهو قوله: (صار ما بقي ميراثا) فله تأويلان:
أحدهما: أنه أراد أن نصيب من حلف نحكم بأنه وقف من الواقف، ونصيب من لم يحلف لا يحكم بأنه وقف منه وإنما يصير وقفا بإقراره.
والثاني: أنه أراد أن نصيب من أنكر الوقف من الورثة، فأما نصيب الأولاد.. فلم يتعرض له.
إذا ثبت هذا، وحلف الأولاد الثلاثة مع الشاهد ثم ماتوا دفعة واحدة وخلفوا أولادا وقد كان الواقف شرط انتقال الوقف إلى أولادهم بعدهم.. فهل يحتاج أولاد الأولاد أن يحلفوا؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق، وأكثر أصحابنا -: أنهم لا يحتاجون أن يحلفوا، وهو ظاهر المذهب؛ لأن الوقف إذا ثبت للأصل بيمينه مع الشاهد.. لم يحتج في(13/344)
انتقاله إلى من هو دونه إلى اليمين، كما لو ادعى رجل حقا وأقام عليه شاهدا وحلف معه، ثم مات وخلف ولدا.. فإن ولده لا يحتاج إلى اليمين بعده.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أنه لا بد أن يحلف ولد الولد؛ لأنه يأخذ الوقف عن الواقف، فلما لم يستحق الولد إلا باليمين.. فكذلك ولد الولد، كما لو شرك بين الولد وولد الولد في الوقف.
وهذان الوجهان مأخوذان من القولين في البطن الثاني، هل يتلقون الوقف من الواقف أو من البطن الأول؟ وفيه قولان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
فإن مات الأولاد متفرقين بعيد أن حلفوا.. فإن الأول لما مات.. لا ينتقل نصيبه إلى ولده؛ لأن الواقف شرط أن لا ينتقل الوقف إلى أولاد الأولاد إلا بعد انقراض الأولاد، فيصرف نصيبه إلى أخويه الباقيين، وهل يحتاجان إلى أن يحلفا ثانيا على نصيب الميت؟ إن قلنا: إن الأولاد إذا ماتوا كلهم انتقل الوقف إلى أولادهم ولا يحتاجون أن يحلفوا.. لم يحتج الأخوان أن يحلفا على نصيب أخيهما الذي مات قبلهما. وإن قلنا: إن أولاد الأولاد يحتاجون أن يحلفوا.. فهل يحلف الولدان الباقيان هاهنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحلفان؛ لأن نصيب أخيهما ينتقل إليهما بموته، كما ينتقل الوقف إلى أولاد الأولاد بعد موت الأولاد.
والثاني: لا يحتاجان أن يحلفا؛ لأنهما قد حلفا وحكم بأنهما من أهل الوقف بأيمانهما، بخلاف أولاد الأولاد؛ فإنه لم يحكم بأنهم من أهل الوقف.
وإن حلف الأولاد الثلاثة وماتوا وأمضي الوقف إلى الفقراء والمساكين؛ بأن مات أولاد الأولاد بعدهم، أو لم يخلف الأولاد أولادا، فإن قلنا يظاهر المذهب، وأن أولاد الأولاد لا يحتاجون أن يحلفوا بعد موت الأولاد.. حكم بالوقف هاهنا على الفقراء والمساكين. وإن قلنا بقول أبي العباس، وأن أولاد الأولاد لا بد أن يحلفوا.. فلا يمكن إيجاب اليمين هاهنا على الفقراء والمساكين؛ لأنهم لا يتعينون ولا(13/345)
ينحصرون، وأما الحكم في الوقف؟ ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يحكم ببطلان الوقف؛ لأنا قد قلنا: لا يمكن الحكم بالوقف إلا بعد يمين المستحق له، واليمين متعذرة من جهة الفقراء والمساكين، فحكم ببطلان الوقف.
والثاني: أنه يحكم بالوقف للفقراء والمساكين؛ لأنه قد ثبت كونه وقفا، وإنما يحكم ببطلانه لامتناع الموقوف عليه من اليمين إذا كان الموقوف عليه متعينا، فأما إذا كان أهل الوقف غير متعينين.. لم يمكن إيجاب اليمين عليهم، فسقط اعتبارها في حقهم.
والثالث - ذكره القاضي أبو الطيب -: أنها تكون وقفا، وتصرف إلى أقرب الناس بالواقف؛ لأن اليمين شرط في استحقاق الوقف، واليمين متعذرة من جهة الفقراء والمساكين فخرجوا من الوقف، وقد حكم بكونه وقفا، فيصير كالمنقطع الانتهاء، فيرجع إلى أقرب الناس بالواقف.
والذي يقتضي المذهب: أنه يعتبر يمين أقرب الناس بالواقف - على هذا - إذا حلف جميع الورثة الأولاد، فأما إذا حلف واحد منهم وامتنع الآخران من اليمين.. فقد ذكرنا: أن ثلث الدار تصير وقفا على الحالف، ويقسم ثلثا الدار على الأولاد الثلاثة ومن معهم من الورثة، فما خص الأولاد الثلاثة.. صار وقفا على الولدين الآخرين اللذين لم يحلفا، فإن مات الحالف.. نظرت: فإن مات بعد موت أخويه.. فإن نصيبه ينتقل إلى ولد الولد، وهل يحلف معه؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
وإن مات الحالف قبل موت أخويه.. فإلى من ينتقل ثلث الدار الذي يحكم بوقفه عليه؟ فيه ثلاثة أوجه:(13/346)
أحدها: ينتقل إلى أخويه؛ لأنه لا ينتقل إلى ولد الولد إلا بعد انقراض الأولاد، ولم ينقرضوا.
فعلى هذا: هل يفتقر الأخوان إلى أن يحلفا على ذلك؟ فيه وجهان، كما قلنا في الوجهين في أولاد الأولاد.
والوجه الثاني: أن ينتقل إلى أقرب الناس بالواقف؛ لأنه لا يمكن نقله إلى ولد الولد؛ لأن شرط الانتقال إليهم هو انقراض الولد ولم يوجد، ولا يمكن نقله إلى الولدين الباقيين؛ لأنهما قد أسقطا حقهما من الوقف بامتناعهما من اليمين، فيصير كالوقف المنقطع الوسط.
فعلى هذا: هل يحلف الأقرب؟ قال ابن الصباغ: على الوجهين المذكورين في أولاد الأولاد بعد أيمان الأولاد.
والوجه الثالث: أنه ينتقل إلى ولد الولد؛ لأن الولدين أسقطا حقهما من الوقف بامتناعهما عن اليمين، فصارا كالمعدومين، ولو عدما.. لنقل الوقف إلى ولد الولد.
فعلى هذا: هل يحلف ولد الولد؟ على الوجهين.
فإن امتنع جميع الأولاد عن اليمين.. فقد ذكرنا: أن جميع الدار تقسم بين جميع الورثة، فما خص الأولاد منها.. يكون وقفا، وما خص الوارث معهم.. يكون طلقا. فإن خلف الأولاد أولادا فقالوا: نحن نحلف مع الشاهد ليكون جميع الدار وقفا علينا.. ففيه قولان:
أحدهما: ليس لهم ذلك؛ لأن الولد أصل وولد الولد تابع، فإذا لم يحلف الأصل.. لم يثبت الوقف للأصل، فلم يثبت للتبع.
والقول الثاني: أن لهم أن يحلفوا - وهو اختيار الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وهو الأصح - لأن ولد الولد يأخذ الوقف من الواقف كما يأخذه منه الولد، فإذا امتنع الولد.. أسقط به حقه دون حق ولد الولد، فكان له أن يحلف عليه. ولأنا لو قلنا:(13/347)
لا يحلفون.. لكنا قد جعلنا للولد إبطال الوقف على من بعده، وهذا لا سبيل إليه.
وهكذا: لو حلف أحد الأولاد وامتنع الآخران، ثم ماتا وخلفا أولادا فأرادوا أن يحلفوا مع الشاهد.. فهل لهم ذلك؟ على القولين. وهذا إنما يكون بعد موت الولد الحالف، فأما قبل موت الحالف.. فليس لهم أن يحلفوا؛ لأن الوقف إنما ينتقل إلى ولد الولد بعد انقراض جميع الأولاد. وهل لهذا الحالف أن يحلف على نصيب أخويه؟ يحتمل أن يكون على هذين القولين، واختلف أصحابنا في أصل هذين القولين: فمنهم من قال: أصلهما الوقف إذا كان متصل الابتداء منقطع الانتهاء.. فهل يصح؟ فيه قولان. فإذا قلنا: إنه صحيح.. كان لأولاد الأولاد أن يحلفوا. وإن قلنا: إنه باطل.. لم يكن لهم أن يحلفوا. ومنهم من قال: القولان أصل في نفسيهما غير مبنيين على غيرهما. هذا كله إذا وقف الواقف الوقف على الأولاد ثم على أولادهم من بعدهم، فأما إذا أشرك بينهم؛ مثل أن ادعى الأولاد الثلاثة أنه قال: وقفت هذه الدار على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا، ثم على الفقراء والمساكين، فجاء الأولاد فادعوا ذلك وأقاموا شاهدا، فإن كان هناك ولدُ ولدٍ معهم.. فإنه لا يستحق شيئا من غير يمين وجها واحدا؛ لأنهم يستحقون الوقف من جهة الواقف من غير واسطة، بخلاف الأولى. وإن لم يكن هناك غير الأولاد الثلاثة فحلفوا.. استحقوا الوقف. فإن حدث ولدُ ولدٍ.. عزل له ربع غلة الوقف من حين ولد؛ لأن الأولاد قد أقروا أنه شريك لهم، فوقف إلى أن يبلغ، فإن حلف.. استحقه ولا يحتاج إلى إعادة الشاهد، وإن لم يحلف.. رد على الأولاد الثلاثة.
فإن قيل: هلا قلتم: إن نصيب ولد الولد من الغلة يسلم إلى وليه؛ لأن الأولاد قد اعترفوا له به؟(13/348)
فالجواب: أنهم إنما أقروا بذلك إقرارا مضافا إلى سبب؛ وهو الوقف، وقد ثبت أن أهل الوقف لا يستحقون شيئا منه إلا بعد اليمين. وإن مات ولد الولد قبل بلوغه.. كان ما عزل له من الغلة لورثته إذا حلفوا، أو تقسم غلة الوقف بعد موت ولد الولد بين الأولاد الثلاثة؛ لأنه ليس هناك من يشاركهم. وإن مات أحد الأولاد الثلاثة قبل بلوغ ولد الولد.. فإنه يعزل لولد الولد قبل موت الولد من غلة الوقف الربع، ويعزل له من غلة الوقف بعد موت الولد الثلث، فإن بلغ ولد الولد وحلف.. استحق ما عزل له من غلة الوقف، وإن مات قبل أن يبلغ.. كان لوارثه أن يحلف ويستحقه، ولا يستحق شيئا من غلة الوقف بعد موته، بل يكون للولدين الباقيين. وإن بلغ ولد الولد وامتنع من اليمين.. فإن الربع المعزول من غلة الوقف قبل موت الولد يقسم بين الأولاد الثلاثة أثلاثا، فما خص الولد الميت.. يكون لورثته، والثلث المعزول من غلة الوقف بعد موت الولد يرد على الولدين الباقيين. وإن كان هناك حين الدعوى ولد ولد صغير.. فإن الأولاد الثلاثة إذا حلفوا.. استحقوا ثلاثة أرباع الوقف، ويعزل ربع الوقف إلى أن يبلغ ولد الولد، فإن حلف.. استحقه، وإن لم يحلف.. لم يستحقه. وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد والقاضي أبا الطيب قالا: يرد ذلك على الأولاد الثلاثة، كما قلنا فيما عزل لولد الولد الحادث. قال ابن الصباغ: وهذا غير صحيح؛ لأن الواقف شرك في الوقف بين الأولاد وأولاد الأولاد، وقد ثبت أن الأولاد الثلاثة إذا كانوا بالغين فحلف اثنان منهم وامتنع الثالث.. فإن نصيبه يكون مقسوما بين الورثة، ولا فرق بين الممتنع والصغير، ويفارق ولد الولد الحادث؛ لأن بأيمان الأولاد الثلاثة مع شاهدهم حكمنا بأن جميع الدار وقف، فلا يبطل بامتناع من حدث، وفي حق الموجود لا يمكن الحكم فوقف جميعه بيمين بعض الموقوف عليهم.
والله أعلم(13/349)
[باب تحمل الشهادة وأدائها]
لا يجوز لأحد أن يتحمل الشهادة على شيء ولا يؤديها إلا بعد حصول العلم له بذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] الآية [الإسراء: 36] . فحكي عن قتادة في تفسيرها أنه قال: لا تقل ما لم تسمع، وما لم تر، وما لم تعلم. وقَوْله تَعَالَى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] [الزخرف: 86] ، فمدح من يشهد بما يعلم، فثبت أن العلم شرط. وقوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] [الزخرف: 19] ، وهذا وعيد يوجب التحفظ في الشهادة. وروي: «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشهادة فقال: " هل ترى الشمس؟ " قال: نعم، قال: " على مثلها فاشهد أو فدع» .
إذا ثبت هذا: فالأشياء التي يحصل من جهتها العلم بالشهادة ثلاثة أشياء:
أحدها: ما لا يحصل العلم به إلا بالمشاهدة.
والثاني: ما لا يحصل العلم به إلا بالمشاهدة والسماع.
والثالث: ما لا يحصل العلم به إلا بالسماع.
فأما (الذي لا يحصل العلم به إلا بالمشاهدة) فهي: الشهادة على الأفعال؛ مثل القتل والغصب وإتلاف المال والزنى والسرقة والولادة، فهذه الأشياء وما أشبهها إذا شاهدها إنسان.. يحصل له العلم بالمشهود عليه قطعا ويقينا، وجازت له الشهادة بذلك، ولا يجوز تحمل الشهادة عليها بالسماع من طريق الاستفاضة؛ لأنه يمكن مشاهدتها يقينا، فلا يجوز الرجوع فيها إلى الظن. ولا خلاف أن الرجل إذا وقع(13/350)
نظره على فرج امرأة ورجل وهما يزنيان، أو على فرج امرأة في حال الولادة، أو على ثديها وهي ترضع، أو على عيب في بدنها تحت ثيابها من غير أن يقصد النظر إلى ذلك.. جاز له أن يشهد بما شاهد من ذلك. وإن أراد أن يقصد إلى النظر في ذلك إلى العورة ليتحمل الشهادة على ذلك.. فهل يجوز له ذلك؟ فيه أربعة أوجه:
[الأول] : قال أبو إسحاق: يجوز له أن يتعمد النظر في جميع ذلك ليتحمل الشهادة، وهو المنصوص؛ لما روي: أن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد تعمدوا النظر إلى فرج المغيرة والمرأة وشهدوا بذلك عند عمر، ولم ينكر عليهم عمر ولا غيره من الصحابة ذلك، فدل على أنه إجماع.
[الوجه الثاني] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز له أن يتعمد النظر إلى العورة في جميع ذلك؛ لأن الزنى مندوب إلى ستره، والولادة والرضاع والعيوب تحت الثياب تقبل فيها شهادة النساء متفرقات، فلا حاجة به إلى تحمل الشهادة في ذلك.
[الوجه الثالث] : من أصحابنا من قال: يجوز له النظر إلى فرج الزاني ليتحمل الشهادة عليه، ولا يجوز له التعمد إلى النظر إلى الفرج عند الولادة ولا إلى الثدي عند الرضاع ولا إلى ما تحت الثياب من العيوب؛ لأن الزنى لا يثبت بشهادة النساء فكان بالرجال حاجة إلى النظر إلى ذلك ليشهدوا، وفي غير الزنى يجوز فيه شهادة النساء متفرقات فلا حاجة للرجال إلى النظر فيها. ولأن الزاني هتك حرمة الله تعالى فجاز أن يتعمد النظر إلى فرجه لتهتك حرمته، وغير الزاني لم يهتك حرمة الله، فلم يجز التعمد إلى النظر إلى عورته.
[الوجه الرابع] : من أصحابنا من قال: لا يجوز أن بتعمد النظر إلى فرج الزاني، ويجوز التعمد للنظر إلى عورة غيره؛ لأن الحق في الزنا لله، وحقوق الله مبنية على المسامحة ومندوب إلى سترها، والحق في تلك الأشياء للآدميين، وهي مبنية على التأكيد ولا تقبل المسامحة.(13/351)
وأما (الذي لا يحصل العلم به إلا بالمشاهدة والسماع) فهي: الشهادة على العقود؛ مثل البيع والرهن والصلح والإجارة والنكاح، فلا يحصل له العلم بالشهادة في ذلك إلا بمشاهدة الشاهد للعاقدين وسماعه لقولهما. وكذلك الشهادة على الطلاق والقذف والإقرار وغير ذلك من الأقوال.. فإنه لا يحصل العلم إلا بمشاهدة القائل وسماعه لقوله، ولا يجوز له أن يتحمل الشهادة على ذلك بالاستفاضة؛ لأنه يمكنه الرجوع في ذلك إلى اليقين والإحاطة، فلا يجوز له الرجوع فيها إلى الظن.
وأما (الذي يحصل العلم به بالسماع من غير أن يشاهد المشهود عليه) فهي ثلاثة أشياء: النسب، والموت، والملك المطلق. فأما (النسب) : فإنه إذا استفاض في الناس أن فلانا ابن فلان، وسمع رجل هذه الاستفاضة.. جاز له أن يشهد أن فلانا ابن فلان - وبه قال أبو حنيفة وأحمد - لأن إلحاق النسب بالأب إنما يكون من طريق الظاهر؛ وهو: إذا ولد على فراشه ولا يمكن إلحاقه به من طريق القطع، فجاز التحمل بالشهادة في ذلك من طريق الظاهر أيضا. وأما (الموت) : فإنه إذا استفاض في الناس أن فلانا مات، وسمع رجل هذه الاستفاضة.. جاز له أن يشهد أن فلانا مات؛ لأنه قد يموت في السفر والحضر، فيشق أن يشهد على موته الشهود، ولأنه مأمور بتعجيل دفنه ولا ينتظر به الشهود، ولأنه يتعذر معرفة موته قطعا؛ لأنه قد يموت بعلة معروفة وغير معروفة، والموت يشبه السكتة، فجاز تحمل الشهادة على ذلك من طريق الظن. وأما (الملك المطلق) : فيجوز تحمل الشهادة فيه بالسماع، فإذا استفاض في الناس أن هذه الدار لفلان، وسمع ذلك رجل.. جاز له أن يشهد بملك الدار له. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز تحمل الشهادة على ذلك بالسماع؛ لأنه شهادة بمال، فلم يجز تحملها بالسماع من غير المشهود عليه، كالدين) .
دليلنا: أن الملك يقع بأسباب مختلفة؛ مثل البيع والهبة والإرث والإحياء والاصطياد وغير ذلك، وقد يتعذر معرفة سببه، فجازت الشهادة عليه بالاستفاضة كالنسب والموت.(13/352)
قال ابن الصباغ: وأما الدين.. فإن أصحابنا لا يسلمونه، ويمكن أن يفرق بينهما: بأن قدره لا يقع فيه استفاضة، وإنما يستفيض الدين في الجملة من حيث المطالبة والملازمة، بخلاف الأعيان.
فإن قيل: فقد يمكنه أن يعلم الملك بمشاهدة سببه، فلا حاجة به إلى الشهادة عليه بالاستفاضة؟ فالجواب: أن وجود السبب لا يثبت به الملك قطعا ويقينا؛ لأنه يجوز أن يشتري من إنسان شيئا لا يملكه، أو يصطاد صيدا قد اصطاده غيره وانفلت منه، وإنما يتصور ذلك نادرا؛ مثل: أن يشاهد رجل ماء نزل من السماء فأخذه إنسان ولم يغب عن عين الشاهد من حين نزل إلى أن أخذه من أخذه، وكذلك إذا شاهد رجلا أخذ ماء من ماء دجلة أو من البحر.. فقد قال بعض أصحابنا: يجوز أن يكون هذا الماء أخذه غيره قبله ثم رده إلى دجلة أو إلى البحر بعد أن ملكه الأول، وهذا ضعيف.
ولا يجوز أن يشهد بملك مضاف إلى سبب، كالبيع والهبة وما أشبههما بالاستفاضة، فيقول: أشهد أنه ملكه بالبيع أو الهبة؛ لأنه يمكنه مشاهدة العاقدين إلا الميراث؛ فإنه يجوز له إذا سمع الناس يقولون: ورث فلان هذه الدار.. جاز له أن يشهد أنها ملكه ميراثا؛ لأن الموت يثبت بالاستفاضة وكذلك ما يتعلق بسببه، بخلاف سائر أسباب الملك، مثل: البيع والهبة وغيرهما من العقود؛ فإنه لا تجوز الشهادة عليها بالاستفاضة، وكذلك ما يتعلق بسببها.
وكل موضع قلنا: يجوز تحمل الشهادة فيه بالسماع بالاستفاضة.. اختلف أصحابنا في أقل عدد يجوز للشاهد الرجوع إليهم وتحمل الشهادة عن قولهم:
فقال الشيخ أبو حامد: أقل ذلك أن يسمع الشاهد ذلك من رجلين عدلين. قال ابن الصباغ: ويسكن قلبه إلى خبرهما على هذا؛ لأن الحقوق تثبت بشهادة اثنين.
وقال القاضي أبو الحسن الماوردي: لا يقبل إلا من عدد يقع العلم بخبرهم؛(13/353)
لأن ما دون ذلك من أخبار الآحاد. فلا يقع العلم من جهتهم. وظاهر كلامه أنه أراد: ما يقع به خبر التواتر، وهذا بعيد. وقال ابن الصباغ: ظاهر كلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقتضي: أن تكثر به الأخبار؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (العلم من ثلاثة أوجه: منها: ما عاينه وشهد به) وأراد به الشهادة على الأفعال، (ومنها: ما تظاهرت به الأخبار، وتثبت معرفته في القلوب) وأراد بذلك ما يعلم بالاستفاضة. (ومنها: ما أثبته سماعا مع إثبات حضور من المشهود عليه) وأراد به الشهادة على العقود، فشرط في الاستفاضة ظاهر الأخبار، وذلك يكون بانتشارها وكثرتها.
وظاهر قول ابن الصباغ: أنه أراد إذا سمع ذلك من عدد فوق الاثنين ووقع في نفسه صدقهم.. جاز له أن يشهد بذلك وإن كان دون العدد الذي يقع به خبر التواتر.
[مسألة إخباره عن أبوة صبي والشهادة بمجرد السماع]
] : وإن سمع رجلا يقول لصبي صغير مجهول النسب: هذا ابني، وكان الصبي ممن يجوز أن يكون ابنا له، أو سمع رجلا مجهول النسب يقول لرجل: هذا أبي، فسمعه الأب وسكت وهو ممن يجوز أن يكون ابنا له.. جاز له أن يشهد بذلك النسب؛ لأن سكوت الأب بمنزلة إقراره، والإقرار جهة يثبت بها النسب. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يشهد بالنسب حتى تتكرر الدعوى من أحدهما والسكوت من الآخر، وليس بشيء. وإن كذبه الأب.. لم يجز له أن يشهد؛ لأن النسب لا يثبت مع التكذيب.
[فرع تصرف شخص بدار كهدم ونحوه والشهادة له بالملك]
] : إذا رأى رجل دارا في يد رجل يتصرف فيها بالهدم والبناء والإعارة والإجارة.. فله أن يشهد له بها باليد، وهل يجوز له أن يشهد له بملكها؟ ينظر في المدة التي رآها في يده:
فإن كانت قليلة - قال الشيخ أبو حامد: كالشهر والشهرين - فليس له أن يشهد له(13/354)
بملكها بلا خلاف على المذهب. وإن كانت في يده مدة طويلة.. فهل يجوز له أن يشهد له بالملك؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يجوز؛ لأن اليد تدل على الملك، والتصرف يقوي ذلك، فجازت الشهادة بالملك لأجله.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يجوز.
وقال الشيخ أبو حامد: وهو الأشبه؛ لأن اليد قد تكون بملك وغير ملك، فلا يجوز له أن يشهد له بالملك بمجرد اليد.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يشهد بالملك في المدة القليلة والطويلة) .
ودليلنا عليه: ما مضى.
[فرع الشهادة على النكاح والوقف والعتق والولاء بمجرد الاستفاضة]
] : واختلف أصحابنا في أربعة أشياء، هل تجوز الشهادة عليها بالاستفاضة؟ وهي: النكاح، والوقف، والعتق، والولاء. فقال أبو إسحاق: لا يجوز - وهو اختيار الشيخ أبي حامد - لأنها شهادة على عقد، فلم تجز بالاستفاضة، كالشهادة على البيع. وقال أبو سعيد الإصطخري: يجوز - وبه قال أحمد، وهو اختيار ابن الصباغ - لأن الناس يقولون: عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونافع مولى ابن عمر، وإن لم يعاينوا ذلك، وإنما حصل لهم معرفة ذلك بالسماع والاستفاضة، كما حصل لهم العلم بأن فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فدل على أن ذلك جائز. ولأن الشهادة بهذه الأشياء ليست بشهادة بالعقود، وإنما هي شهادة بالملك الحاصل بتلك العقود، فهي بمنزلة الشهادة على الملك. ولأن هذه الأشياء تتأبد ويموت شهودها، فلو لم تجز الشهادة فيها بالاستفاضة.. أدى إلى ضياعها. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز في الولاء إذا اشتهر، مثل: عكرمة مولى ابن عباس. وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز في النكاح والدخول؛ لأن ذلك يستفيض في الناس) .
دليلنا عليهم: ما مضى.(13/355)
[مسألة تحمل الشهادة لمن ليس من أهل أدائها]
مسألة: [يجوز تحمل الشهادة لمن ليس من أهل أدائها] : يجوز لمن ليس من أهل أداء الشهادة أن يتحملها، كالصبي والعبد والفاسق والكافر؛ لأن الاعتبار في الحكم بالشهادة حال الأداء لا حال التحمل كالصبي، فلم يعتبر حال الشاهد حال التحمل. وإن رأى الشاهد رجلا قتل إنسانا، أو أتلف عليه مالا، أو تبايع رجلان عند رجل وسمعهما.. جاز أن يشهد عليهما وإن لم يشهداه.
وكذلك: لو حضر رجل عند رجلين فتبايعا أو تحاسبا عنده وقالا له: لا تشهد علينا.. فله أن يشهد عليهما؛ لأن الاعتبار بحصول العلم للشاهد بالذي يشهد به، والعلم قد حصل له، فجاز له أن يشهد. وإن أقر رجل بحق عند رجل ولم يشهده على نفسه.. فهل له أن يشهد عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له أن يشهد عليه، كما لو سمعه يشهد بحق مطلق، فلا يجوز له أن يشهد على شهادته من غير أن يستدعيه.
والثاني: يجوز له أن يشهد عليه، وهو المشهور؛ لأن العلم قد حصل له بذلك، بخلاف الشهادة على الشهادة؛ فإنه يجوز أن يكون شهد عليه بحق وعده به.
[فرع شهادة المختفي]
] : وتقبل شهادة المختفي عندنا؛ وهو: أن يكون لرجل عند رجل حق يقر له به في الباطن ويجحده في الظاهر، فأحضر من له الحق شاهدين وأخفاهما في موضع، وأحضر من عليه الحق وسأله أن يقر له بما عليه فيما بينه وبينه ولم يعلم المقر بالشاهدين، فأقر له بالحق والشاهدان ينظران إلى المقر ويسمعان إقراره.. فيجوز لهما أن يشهدا عليه بإقراره. وبه قال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة.
وقال شريح والشعبي والنخعي: لا تقبل شهادتهما.(13/356)
وقال مالك: (إن كان المشهود عليه جلدا باطشا لا يمكن أن يخدع ليقر.. صح تحمل الشهادة عليه بذلك، وإن كان ضعيفا يمكن أن يخدع بالإقرار.. لم يصح تحمل الشهادة عليه) . هذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون: مذهب مالك: (أنه لا تقبل شهادة المختفي بكل حال) وهو قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القديم.
والمشهور من المذهب هو الأول؛ لأن طريق تحمل الشهادة حصول العلم للشاهد، وقد حصل له العلم بما شهد به فقبلت شهادته، كما لو شهد المختفي بالقتل والغصب.. فإنه يقبل بلا خلاف.
وإذا ثبت هذا: فالمستحب للشاهدين المختفيين أن يظهرا للمقر ويخبراه بأنا قد شهدنا على إقرارك؛ حتى لا يكذبهما فيعذر لأجل ذلك.
[مسألة شهادة الأعمى]
] : كل موضع قلنا: لا يصح تحمل الشهادة إلا بمشاهدة المشهود عليه؛ كالشهادة على القتل والغصب والزنى وما أشبه ذلك.. فلا يجوز أن يكون الأعمى شاهدا في ذلك بلا خلاف؛ لأن العلم في هذه الأشياء يحصل من طريق حاسة النظر، والنظر معدوم منه. وأما الأشياء التي يحصل بها العلم للشاهد من طريق الاستفاضة؛ كالشهادة على النسب والموت والملك المطلق.. فهل يصح للأعمى أن يتحمل الشهادة في ذلك في حال العمى ويؤديها به؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أكثر أصحابنا: يصح أن يتحمل الشهادة في ذلك في حال العمى، ويشهد به؛ لأن العلم يحصل له بذلك من طريق السماع، والأعمى كالبصير في السماع.
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: لا يصح ذلك منه - وهو اختيار ابن الصباغ وقول أبي حنيفة - لأنه لا يصح له تحمل الشهادة بالسماع إلا ممن تعرف عدالته، والأعمى لا يمكنه معرفة العدل بالمشاهدة، فلم يجز أن يتحمل الشهادة عن قول من لا يعرفه.(13/357)
وأما ما لا يحصل العلم به للشاهد إلا بمشاهدة المشهود عليه وسماع قوله، كالشهادة على البيع وغيره من العقود.. فلا يصح أن يكون الأعمى شاهدا في شيء من ذلك. وبه قال علي بن أبي طالب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وسوار القاضي، وعثمان البتي.
وذهبت طائفة إلى: أنه إذا عرف العاقد وميزه عن غيره.. صح أن يكون شاهدا في هذه الأشياء - وهو قول ابن عباس، وشريح، وعطاء، والزهري، وربيعة، ومالك، والليث، والمزني - كما يجوز أن يستمتع بامرأته إذا عرف صوتها.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون إذا ألف وعرف صوت العاقدين: أنه يجوز له أن يشهد عليه بذلك، كما قال أصحابنا في شهادته بما ثبت بالاستفاضة.
والمشهور هو الأول؛ لأنها شهادة على عقد عدم فيه رؤية العاقد، فلم يصح كما لو كانت الشهادة على العقد بالاستفاضة، ويخالف وطء امرأته؛ لأن أمر الوطء يخالف الشهادة؛ ولهذا قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا لمس امرأة فعرف أنها امرأته بعلامة فيها.. حل له وطؤها وإن لم يسمع صوتها) وتحمل الشهادة بمثل ذلك لا يصح. وقال أصحابنا: ولو أن رجلا تزوج امرأة فزفتها إليها امرأة وقالت له: هذه زوجتك.. حل له وطؤها. ومثل هذا في الشهادة لا يجوز، فدل على: أن الوطء أوسع من الحكم في الشهادة.
[فرع تحمل الأعمى شهادة قول أو فعل أو مضبوط ثم عمي]
وغير ذلك] : وإن تحمل الشهادة على رجل بالفعل أو بالقول هو مبصر، ثم عمي وأراد أن يؤدي الشهادة، فإن كان يعرف المشهود عليه بعينه واسمه ونسبه.. جاز أن يشهد عليه عند الحاكم.
وإن كان لا يعرفه إلا بعينه، وهو خارج عن يده حال الأداء.. لم يجز أن يشهد عليه.(13/358)
وقال أبو حنيفة: (إذا تحمل الشهادة وهو بصير ثم عمي.. بطلت شهادته، سواء كان يعرف المشهود عليه بعينه أو باسمه أو نسبه) .
دليلنا: أن البصر معنى لا يزول التكليف بزواله، فلم يمنع زواله من أداء الشهادة على من يعرفه باسمه ونسبه، كحاسة السمع.
وأما شهادة الأعمى على المضبوط وهو: أن يشهد رجل بصير على رجل لا يعرفه إلا بعينه بفعل أو قول، وأمسكه الشاهد بيده، ثم عمي الشاهد وجاء به إلى الحاكم، فشهد عليه بما فعل أو سمع، أو وضع رجل فاه على أذن الأعمى فأقر لرجل بشيء معروف، أو طلق امرأته، أو وضع الأعمى يده على رأسه وضبطه إلى أن أتى به إلى الحاكم فشهد عليه بما سمع منه.. فتقبل شهادته في ذلك ويحكم بها.
حكى المسعودي [في " الإبانة "] في ذلك وجها آخر: أن شهادته في ذلك لا تقبل، وبه قال أبو حنيفة. والمنصوص هو الأول؛ لأنه شهد بذلك على علم.
وتقبل شهادة الأعمى في الترجمة؛ لأنه يعبر بما سمعه عند الحاكم.
وإن شهد البصير بشهادة عند الحاكم، فقبل أن يحكم بها الحاكم عمي الشاهد.. لم تبطل شهادته. وقال أبو حنيفة: (تبطل) .
دليلنا: أن ذهاب بصره لا يورث شبهة في شهادته، فلم تبطل شهادته، كما لو ذهب سمعه.
[مسألة كيفية أداء الشهادة في النكاح والرضاع]
] : قد مضى الكلام في تحمل الشهادة، وأما الكلام في أدائها.. فينظر في الشاهد: فإن شهد في النكاح.. فلا بد أن يقول: أشهد أنه نكحها من ولي مرشد بلفظ الإنكاح أو التزويج، وقبل الزوج على الفور؛ لأن الناس يختلفون فيما ينعقد به النكاح، والنظر في ذلك إلى الحاكم.(13/359)
ومن شهد بالرضاع.. لم تقبل شهادته حتى يشهد: أنه ارتضع من لبنها، أو سقي من لبنها، وله دون الحولين خمس رضعات متفرقات، ووصل اللبن في كل مرة إلى جوفه؛ لأن الناس يختلفون في الرضاع الذي يثبت به التحريم، فلم يكن بد من ذكر ذلك ليحكم الحاكم فيه باجتهاده. فإن قيل: كيف اعتبرتم في الشهادة وصول اللبن إلى الجوف والشاهد لا يعلم ذلك مشاهدة؟ قلنا: إنما يعتبر علم الشاهد فيما يشهد به مشاهدة فيما يمكن مشاهدته، وأما ما لا يمكن مشاهدته.. فإنما يعتبر علم الشاهد فيه من طريق الظاهر، فمتى علم الشاهد أن المرأة ذات لبن ورأى الصبي التقم ثديها وحرك شفتيه فامتصه وقتا يعلم أن اللبن يصل إلى جوفه.. فقد حصل له العلم بذلك من طريق الظاهر. فإن شهدت أمه أو أخته من الرضاع، أو أن بينهما رضاعا يحرم.. لم يحكم بهذه الشهادة؛ لجواز أن تعتقد التحريم بما لا يقع به التحريم عند الحاكم.
وإن رأى امرأة أدخلت صبيا تحت ثيابها، وسمعه يمتص شيئا.. لم يجز له أن يشهد بالرضاع؛ لجواز أن تكون قد أعدت له شيئا فيه لبن من غيرها على هيئة الثدي، فسمع الصبي يمتص ذلك.
[مسألة كيفية أداء الشهادة في الجناية]
وإن شهد الشاهدان في الجناية.. فلا تقبل شهادتهما في إثبات القصاص إلا مع زوال الشبهة في لفظهما. فإن كانت الشهادة بالقتل، فقالا: نشهد أنه ضربه بالسيف فمات، أو فوجدناه ميتا.. لم يثبت القتل بهذه الشهادة؛ لجواز أن يكون ضربه فمات بسبب آخر. فإن قالا: ضربه بالسيف فمات منه، أو ضربه بالسيف فقتله.. ثبت القتل بشهادتهما؛ لأنهما قد صرحا بإضافة القتل إليه.
فإن قالا: ضربه بالسيف فأنهر دمه ومات مكانه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يثبت القتل بشهادتهما؛ لأنه قوله: فأنهر دمه يبين أنه مات منه) .
وإن كانت الشهادة بالجراح، فإن قالا: ضربه بالسيف فاتضح رأسه، أو فوجدناه(13/360)
موضحا.. لم تثبت الموضحة بشهادتهما؛ لأنه قد يضربه بالسيف ولا يوضحه، ثم تتضح رأسه بعد ضربه. وإن قالا: ضربه بالسيف فأوضحه، أو قالا: ضربه بالسيف فاتضح رأسه منه، أو فوجدناه موضحا من ضربه.. تثبت الموضحة بشهادتهما؛ لأنهما قد أضافا الإيضاح إليه. ولا بد أن ينعتا الموضحة ليجب القصاص فيها. فإن كان في رأسه موضحتان.. احتاج الشاهدان إلى بيان الموضحة التي شهدا أنه أوضحه إياها، فإن قالا في شهادتهما: أوضحه في موضع كذا من رأسه قدرها كذا وكذا.. قبلت شهادتهما. وإن قالا: أوضحه موضحة لا نعلم موضعها ولا قدرها.. لم يجب القصاص؛ لأنه يتعذر مع الجهالة بها، ويجب له أرش الموضحة.
وإن قالا: ضربه بالسيف فسال دمه.. لم تقبل شهادتهما في الدامية؛ لأنهما لم يضيفا إسالة الدم إليه. وإن قالا: ضربه بالسيف فأسال دمه، أو فسال دمه من ضربه.. ثبتت الدامية بشهادتهما؛ لأنهما أضافا إسالة الدم إليه. وإن قالا: ضربه بالسيف فأسال دمه ومات.. لم يثبت القتل بشهادتهما؛ لأنهما لم يضيفا القتل إليه. وإن قالا: ضربه بالسيف فأسال دمه فمات منه.. تثبت شهادتهما بالقتل؛ لأنهما أضافا القتل إليه. وإن قالا ضربه بالسيف فأسال دمه ومات مكانه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لم يثبت القتل بشهادتهما) . والفرق بين هذه وبين قوله: (فأنهر دمه ومات مكانه) حيث قلنا: يثبت القتل بشهادتهما.. أن إنهار الدم يكون منه الموت في العادة، وسيلان الدم لا يكون منه الموت في العادة.
وإن قالا: ضربه فأسال دمه، فوجد في رأس المجروح موضحة.. لم يلزم المشهود عليه القصاص في الموضحة ولا أرشها؛ لأنهما لم يضيفا الإيضاح إليه، ويجوز أن يكون أوضحه غير الجاني.(13/361)
[فرع شهدا أنه قطع يد رجل مقطوع اليدين ولم يعينا اليد]
] : وإن قالا: نشهد أنه قطع يده، ولم يعينا اليد، وكان المشهود عليه مقطوع اليدين، فإن طلب المجني عليه القصاص.. لم يكن له ذلك؛ لأن الشاهدين لم يعينا اليد. وإن طلب دية اليد.. كان له؛ لأن ديتهما لا تختلف.
[فرع شهدا أنه ضربه ملففا فقده نصفين]
] : ولو شهدا أنه ضربه ملففا فقده نصفين، فإن أثبتا الحياة.. فقد ثبت القتل ولا يشترط أن يقولا: ضربه وهو حي، بل يقولان: تلفف وهو حي ثم ضربه.. فإنه يكفي.
فإن لم يشهدا بالحياة.. فقد قال في موضع: (يثبت القتل) وقال في موضع: (لا يثبت) واختلف أصحابنا الخراسانيون: فمنهم من قال: فيه قولان.
أحدهما: يثبت القتل؛ لأن الأصل حياة المضروب.
والثاني: لا يثبت؛ لأن الأصل براءة ذمة الضارب.
ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين: فإن كان ملففا في ثياب الأموات.. فلا يثبت القتل. وإن كان ملففا في ثياب الأحياء.. ثبت القتل.
والأول أصح؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على: (أنه لو هدم بيتا على جماعة فاختلفوا، هل كانوا أحياء؟ على قولين) . وأصل هذا اعتراض الأصل والظاهر، فإذا قلنا: القول قول الولي.. حلف ويستحق الدية ولا يجب القصاص بيمينه. وقال القاضي أبو الطيب: ينبغي أن يكون في القصاص قول آخر، كما قلنا في (القسامة) .
قال ابن الصباغ: ويمكن عندي أن يفرق بينهما: بأن القسامة تتكرر فيها الأيمان وفي مسألتنا يمين واحدة.(13/362)
[مسألة أسئلة يوجهها الحاكم للشهود عن ملابسات الزنى]
] : وإن شهد أربعة على رجل بالزنى.. سألهم الحاكم عن أربعة أشياء:
عمن زنى بها، وعن كيفية الزنى، وعن المكان الذي زنى به، وعن الزمان.
فأما سؤاله (عمن زنى بها) : فلأنهم قد يرونه يطأ جارية ولده، أو جارية مشتركة بينه وبين غيره فيعتقدون أن ذلك زنى وليس ذلك بزنى، أو يرونه على بهيمة فيعتقدون أن ذلك زنى ولا يعتقده الحاكم زنى. فإن ذكروا أنه وطئ امرأة أجنبية.. سألهم (عن كيفية الزنى) ؛ لأنه قد يطؤها فيما دون الفرج أو يقبلها أو يلمسها، وقد يقع عليه اسم الزنى ولا يجب به الحد. فإن قالوا: رأيناه أدخل ذكره في فرجها.. فهذا هو التصريح بالزنى، وإن قالوا مع ذلك: مثل المرود في المكحلة والرشاء في البئر.. فهو آكد؛ والدليل عليه: ما روى أبو هريرة: «أن ماعز بن مالك الأسلمي شهد على نفسه عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أصاب امرأة أجنبية حراما أربع مرات، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض عنه، فلما كان في الخامسة.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنكتها؟ " قال نعم، قال: " حتى دخل ذلك منك في ذلك منها مثل المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ " قال: نعم، فقال له: " أتعرف الزنى؟ " قال: نعم، قال: " وما هو؟ " قال: هو أن ينال الرجل من امرأة حراما مثل ما ينال من امرأته حلالا، فلما ذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ما تريد؟ " قال: طهرني، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمه» . فاستفسر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإقرار حتى أتى بالصريح الذي لا يحتمل غير الزنى، فإذا وجب ذلك في الإقرار.. فلأن يجب في الشهادة أولى. ولما روي: (أن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد وزيادا لما شهدوا على المغيرة عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. صرح أبو بكرة ونافع وشبل بالزنا عليه، وأتى زياد ليشهد فقال عمر: إنك شاب، وأرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال زياد: رأيت استا تنبو ونفسا تعلو، ورأيت رجليها على كتفيه كأنهما أذنا حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (الله(13/363)
أكبر) ، ودرأ الحد عن المغيرة وجلد الثلاثة وإنما لم يجلد المغيرة؛ لأن زيادا لم يصرح بالشهادة في الزنى عليه.
الشرط الثالث: أن يسألهم (عن المكان الذي زنى به) ؛ لأنهم قد يختلفون فيدرأ عنه الحد.
والشرط الرابع - ذكره ابن الصباغ ولم يذكره الشيخ أبو حامد -: أن يسألهم (عن الزمان) ؛ لأنهم قد يختلفون فيدرأ عنه الحد.
إذا ثبت هذا: فقد ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسائل في ذلك:
إحداهن: إذا جاء أربعة ليشهدوا على رجل بالزنى، فصرح ثلاثة في الشهادة بالزنى عليه ولم يصرح الرابع بالزنى عليه.. فلا يحد المشهود عليه؛ لأن البينة لم تكمل عليه ولا يحد الرابع الذي لم يصرح بالزنى؛ لأنه لم يقذفه، وهل يحد الثلاثة؟ فيه قولان.
الثانية: إذا شهد أربعة بالزنى على رجل، فسألهم الحاكم عن تفسير الشهادة، فصرح ثلاثة منهم في الشهادة بالزنى عليه، وفسر الرابع ما ليس بزنى.. فلا يحد المشهود عليه؛ لأن البينة عليه بالزنى لم تكمل، ويحد الرابع قولا واحدا؛ لأنه قاذف، وهل يحد الثلاثة؟ على قولين.
الثالثة: إذا شهد أربعة على رجل بالزنى، فلما سألهم الحاكم. صرح ثلاثة بالشهادة عليه بالزنى ومات الرابع قبل أن يفسر.. فلا يحد المشهود عليه؛ لأن البينة لم تكمل، ولا يحد الثلاثة قولا واحدا؛ لجواز أن يكون ما شهد به الرابع زنى.
الرابعة: إذا شهد أربعة بالزنى، ثم استفسرهم الحاكم ففسروا ما ليس بزنى.. فلا يحد المشهود عليه؛ لأنهم لم يصرحوا بالزنى عليه، ويحد الشهود قولا واحدا؛ لأنهم قذفة.
الخامسة: إذا لم يشهدوا بالزنى وإنما عرضوا بالشهادة به.. فلا يحد المشهود عليه؛ لأن ما شهدوا به ليس بزنى، ولا يحد الشهود؛ لأنهم لم يقذفوه بالزنى.
[فرع يشهد في السرقة والردة على أمور]
] : ومن شهد بالسرقة.. فيشترط في وجوب القطع على السارق أن يذكر الشاهدان:(13/364)
السارق، والمسروق منه، والحرز، والنصاب، وصفة السرقة؛ لأن الناس مختلفون في ذلك. وإن شهد شاهدان على رجل بالردة.. اشترط أن يذكرا ما سمعا منه؛ لاختلاف الناس فيما يصير به مرتدا.
[فرع يتعرض للشهود بالتوقف من قبل الحاكم]
] : وهل يجوز للحاكم أن يعرض للشهود في حدود الله بالتوقف عن الشهادة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأن فيه قدحا بالشهادة.
والثاني: يجوز؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عرض لزياد في التوقف عن الشهادة على المغيرة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولأنه يجوز للحاكم أن يعرض للمقر في التوقف عن الإقرار بذلك، فجاز له التعريض للشاهد بالتوقف.
فإن قيل: كيف ساغ لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يعرض لزياد في التوقف عن الشهادة لدرء الحد عن المغيرة، وفي ذلك إيجاب الحد على الثلاثة الشهود الذين صرحوا بالزنا قبله؟ قيل: إنما ساغ له ذلك لثلاثة معان:
أحدها: أن الحد الذي كان يجب على المغيرة الرجم، وفيه إتلاف النفس، والحد الذي يجب على الشهود هو حد القذف وليس فيه إتلاف النفس، فجاز دفع أعظم الضررين بأخفهما.
والثاني: أن الثلاثة الذين شهدوا على الزنى تركوا أمرا مندوبا إليه؛ وهو الستر؛ بدليل: «أن ماعزا لما ذكر لهزال أنه زنى، فقال له: بادر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن ينزل الله عز وجل فيك قرآنا، فلما أتى ماعز رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبره بقول هزال.. قال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " هلا سترته بثوبك يا هزال» فلما خالفوا المندوب.. غلظ عليهم.
والثالث: أن سكوت الرابع عن الشهادة لم يسقط به الحد عن المشهود عليه؛ لأنه لم يجب بعد، فلم يجب به الحد على الثلاثة؛ لأن الحد إنما وجب عليهم بقولهم.
والله أعلم(13/365)
[باب الشهادة على الشهادة]
الشهادة على الشهادة جائزة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] ، ولم يفرق بين الإشهاد على أصل الحق أو على شهود الحق. ولأن الشهادة في الأصل إنما جوزت للحاجة إليها، وهو الاستيثاق بالحق؛ لأن من عليه الحق قد يموت أو يغيب أو يجحد، وكذلك شاهد الأصل قد يغيب أو يموت أو يمرض، فدعت الحاجة إلى الإشهاد عليه للتوثيق.
إذا ثبت هذا: فالحقوق على ضربين: حقوق الله، وحقوق الآدميين.
فأما (حقوق الآدميين) : فتقبل الشهادة على الشهادة في جميعها، كالمال والنكاح والطلاق والرجعة وحد القذف والقصاص وغير ذلك.
وقال أبو حنيفة: (لا تقبل الشهادة على الشهادة في القصاص، وتقبل في غيره من حقوق الآدميين) .
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهو قول مخرج لنا من الشهادة على الشهادة في حقوق الله تعالى، وليس بمشهور.
والدليل على أن الشهادة على الشهادة في هذا تقبل: لأنه حق آدمي فقبلت فيه الشهادة على الشهادة، كالمال. ولأن الشهادة على الشهادة إنما جوزت للاستيثاق وهذا المعنى موجود في القصاص وغيره من حقوق الآدميين.
وأما (حقوق الله تعالى) : فذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الشهادة على الشهادة يقبل منها فيما لا يسقط بالشبهة. ولعله أراد الشهادة على هلال رمضان للصوم وهلال ذي الحجة للحج، والشهادة على الزكاة فيما يتعلق من الأحكام بالشهادة فيها.
وأما حقوق الله تعالى التي تسقط بالشبهة؛ وهي: حد الزنى وحد السرقة وحد قطع(13/366)
الطريق وحد الخمر.. فهل تقبل فيه الشهادة على الشهادة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تقبل فيه - وبه قال أبو حنيفة - لأنه مندوب إلى سترها، وفي الشهادة على الشهادة فيها إبانتها فلم تصح.
والثاني: تقبل - وبه قال مالك، واختاره الشيخ أبو حامد - لأن كل ما يثبت بالشهادة.. يثبت بالشهادة على الشهادة، كحقوق الآدميين.
وما قاله الأول يبطل.. بأصل الشهادة؛ فإن لها مدخلا في هذه الحقوق وإن كانت تراد للاستيثاق.
قال ابن القاص: وفي الشهادة على الشهادة في إحصان من ثبت عليه الزنى قولان، كالشهادة على الشهادة في حد الزنى، قلته تخريجا.
ويجوز الشهادة على الشهادة بأن الحاكم قد حد فلانا - قولا واحدا - لأن هذا حق لآدمي؛ لأنه يسقط به عنه الحد.
وكل حق قبلت فيه الشهادة على الشهادة.. قبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وكل حق لا تقبل فيه الشهادة على الشهادة.. لا يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي الكاتب، فكان كالشهادة على الشهادة.
[مسألة الحالات التي تقبل فيها شهادة الفرع بدل شهادة الأصل]
إذا شهد شاهدان على شهادة رجل بحق.. فلا يجوز للحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الفرع مع حضور شاهدي الأصل؛ لأن على الحاكم أن يبحث عن عدالة شاهدي الفرع وشاهدي الأصل، وإذا أمكنه سماع شهادة شاهدي الأصل.. استغنى عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع.(13/367)
وإن مات شاهد الأصل أو غاب أو مرض مرضا يشق عليه معه الوصول إلى مجلس الحاكم، أو كان محبوسا في موضع لا يقدر على الوصول إلى مجلس الحاكم.. جاز للحاكم سماع شهادة شاهدي الفرع عليه والحكم بها.
وقال الشعبي: لا تسمع شهادة شاهدي الفرع إلا إذا مات شاهد الأصل.
دليلنا: أنه قد تعذر حضور شاهد الأصل، فجاز سماع شهادة شاهدي الفرع والحكم بها، كما لو مات شاهد الأصل.
واختلف أصحابنا في حد غيبة شاهد الأصل التي يجوز فيها سماع شهادة شاهدي الفرع والحكم بها:
قال بعضهم: هو أن يكون شاهد الأصل في موضع من موضع الحاكم لو حضر منه إلى مجلس الحكم وأقام الشهادة فيه.. لم يمكنه أن يأوي في الموضع الذي خرج منه، فأما بدون ذلك.. فلا تقبل فيه شهادة شاهدي الفرع على شاهد الأصل - وبه قال أبو يوسف - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، وفي تكليف الشاهد سفر يوم إلى الليل إضرار به.
وقال القاضي أبو الطيب: إذا كان بين الشاهد وموضع الحاكم مسافة القصر.. جاز سماع شهادة شاهدي الفرع، وإن كان بينهما أقل من ذلك.. لم يجز سماع شهادة شاهدي الفرع - وبه قال أبو حنيفة، إلا أن مسافة القصر عنده: ثلاثة أيام، وعندنا: يومان - لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر.
وقال الشيخ أبو حامد: لا يعتبر في ذلك حد، وإنما يعتبر خوف المشقة غالبا، فإن كان شاهد الأصل لا تلحقه مشقة غالبا في الحضور.. لم تسمع شهادة شاهدي الفرع عليه، وإن كان يلحقه مشقة غالبا في الحضور.. سمعت شهادة شاهدي الفرع عليه. وقوله قريب من الوجه الأول إلا أنه غير محدود عنده.(13/368)
[مسألة شهادة النساء في الشهادة على الشهادة]
] : ولا تقبل في الشهادة على الشهادة، ولا في كتاب القاضي إلى القاضي شهادة النساء في جميع الحقوق.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الحق مما تقبل فيه شهادة النساء على أصل الحق.. قبل فيه شهادة النساء) إلا أن عندنا لا تقبل شهادة النساء فيما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال، وعنده تقبل شهادتهن في ذلك، وقد مضى الدليل عليه.
والدليل على صحة قولنا هاهنا: أن الشهادة على الشهادة ليست بمال ولا المقصود منها المال، وإنما هي إثبات قول الشاهد وذلك مما يطلع عليه الرجال، فلم يكن فيه للنساء مدخل، كالقصاص والحدود.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: إن كان المشهود به مالا يثبت بشاهد وامرأتين.. قبل. وليس بشيء.
[مسألة عدد شهود الفرع على الأصل]
وأما عدد شهود الفرع: فإن كان عدد شهود الأصل شاهدين، فشهد شاهدان على شهادة أحد الشاهدين، ثم يشهد شاهدان آخران على شهادة الشاهد الآخر.. ثبتت شهادة شاهدي الأصل بالإجماع؛ لأن قول كل واحد منهما قد ثبت بشاهدين.
وإن شهد على شهادة كل واحد من شاهدي الأصل شاهد واحد.. لم تثبت شهادة الأصل ولا أحدهما عندنا. وبه قال شريح والشعبي، والنخعي، وربيعة، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة.
وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وعثمان البتي، وعبيد الله بن الحسن العنبري، وإسحاق: تثبت شهادة شاهدي الأصل.
دليلنا: أن الشهادة على الشهادة ليست بمال ولا المقصود منها المال، وإنما هي إثبات قول الشاهد، فلا يثبت قول الشاهد إلا بشاهدين، كالشهادة على الطلاق.(13/369)
وإن شاهد شاهدان على شهادة أحد شاهدي الأصل، ثم شهدا على شهادة شاهد الأصل الثاني.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يثبتان شهادة شاهدي الأصل، وإنما يثبتان شهادة أحدهما - وهو اختيار المزني - لأن من ثبت به أحد طرفي الشهادة.. لا يجوز أن يثبت به الطرف الآخر، كما لو شهد رجل بحق وكان أصلا في الشهادة، ثم شهد مع آخر على شهادة أصل آخر.. فإنه لا يقبل، فكذلك هذا مثله.
والثاني: يثبتان شهادة شاهدي الأصل - وبه قال ربيعة ومالك وأبو حنيفة، وهو الأصح - لأنهما شهدا على قول اثنين فقبلا، كما لو شهدا على إقرار رجلين. ويخالف إذا شهد بشهادة وكان أصلا فيها، ثم شهد مع آخر على شهادة آخر.. فإنها لا تقبل؛ لأنه يجر بشهادته الثانية إلى نفسه نفعا؛ وهو تصديق شهادته الأولى.
إذا ثبت هذا: فقال الشيخ أبو حامد: أصل هذين القولين: هل شهود الفرع يقومون مقام شهود الأصل، ويثبت الحق بشهادة شهود الفرع كما يثبت بشهادة شهود الأصل، أو لا يقومون مقام شهود الأصل وإنما يثبتون شهادة شهود الأصل، ولا يثبت الحق إلا بشهادة شهود الأصل دون شهود الفرع؟ وفيه قولان.
فإن قلنا: إن شهود الفرع يقومون مقام شهود لأصل.. فلا بد أن يقوم مقام كل واحد من شاهدي الأصل شاهدان منفردان.
وإن قلنا: إنهم لا يقومون مقام شهود الأصل، وإنما يثبتون شهادة شهود الأصل.. جاز أن يشهد على شهادة شهود الأصل شاهدان.
قال ابن الصباغ: ولا معنى لقوله: إنهم يقومون مقام شهود الأصل، ويثبت الحق بشهادة شهود الفرع؛ لأنهم لا يشهدون بالحق وإنما يثبتون شهادة شهود الأصل، ولو قاموا مقامهم.. لقام كل واحد منهم مقام واحد.(13/370)
فإن كان شهود الأصل شاهدا وامرأتين، فإن قلنا: إن قول كل واحد من الشاهدين لا يثبت إلا بشاهدين.. لم يثبت قول كل واحد من هؤلاء إلا بشاهدين، فيفتقر إلى ستة شهود.
وإن قلنا: إن قول الشاهدين معا يثبت بقول شاهدين.. ثبت قول الرجل والمرأتين بشاهدين أيضا.
وإن كان شهود الأصل أربع نسوة في الرضاع والولادة، فإن قلنا: إن قول كل واحد من شاهدي الأصل لا يثبت إلا بشاهدين.. لم يثبت قول كل واحدة من النساء إلا بشاهدين. وإن قلنا: يثبت قول الشاهدين بشاهدين.. ثبت قول الأربع بشاهدين.
[فرع شهدا على شهادة رجل أو بدار لرجل ثم شهدا ضدها]
] : وإن شهد شاهدان على شهادة رجل: أن هذه الدار لزيد، ثم شهدا على شهادة رجل آخر: أن هذه الدار بعينها لعمرو.. قال الشيخ أبو حامد: قبلا قولا واحدا. فيكون قد ثبت لزيد في الدار شاهد ولعمرو فيها شاهد؛ لأنهما يثبتان قول كل واحد من الشاهدين لواحد ولا تناقض في شهادتهما.
وإن شهد شاهدان: أن هذه الدار لزيد، ثم شهدا: أن هذه الدار لعمرو.. كان ذلك تناقضا ورجوعا عن الشهادة الأولى.
[فرع إثبات شهادة الشهود على الزنى بالشهادة]
وإن أرادا إثبات شهادة الشهود في الزنا بالشهادة، فإن قلنا: إن الحدود لله لا تقبل فيها الشهادة على الشهادة.. فلا تفريع عليه.
وإن قلنا: تقبل فيها الشهادة على الشهادة، فإن قلنا: إن قول شاهدي الأصل في غير الزنا يثبت بشاهدين.. ففي القدر الذي يثبت به شهادة شهود الزنا قولان:
أحدهما: يثبت قول الأربعة بشاهدين، كما يثبت قول الشاهدين في غير الزنا بشاهدين.
فعلى هذا: يكون عدد شهود الفرع أقل من عدد شهود الأصل.(13/371)
والثاني: أنه لا يثبت قول الأربعة إلا بأربعة؛ لأن أصل الحق هاهنا لا يثبت إلا بأربعة فافتقر إلى ذلك العدد في إثبات قول الأربعة، كما أن قول الشاهدين في غير حد الزنا لا يثبت إلا باثنين.
وإن قلنا: إن قول كل واحد من شاهدي الأصل في غير الزنا لا يثبت إلا بشاهدين.. فهاهنا قولان.
أحدهما: لا يثبت قول كل واحد من الأربعة إلا بشاهدين، كما قلنا في الشاهدين في غير الزنا، فيكون عدد شهود الفرع على هذا ثمانية.
والثاني: لا يثبت قول كل واحد من الأربعة إلا بأربعة؛ لأن الحق الذي يثبت بشاهدين لا يثبت قول كل واحد من الشاهدين إلا بالعدد الذي يثبت به أصل الحق، وأصل الحق هاهنا لا يثبت إلا بأربعة، فلم يثبت قول كل واحد من الأربعة إلا بذلك العدد، فيكون عدد شهود الفرع هاهنا ستة عشر، فيحصل في هذه الشهادة على الشهادة في الزنا خمسة أقوال:
أحدها: لا يقبل فيها الشهادة على الشهادة.
والثاني: يقبل فيها شاهدان على شهادة الأربعة.
والثالث: لا يقبل إلا أربعة على أربعة.
والرابع: لا يقبل إلا ثمانية في الشهادة على الأربعة.
والخامس: لا يقبل إلا ستة عشر على الأربعة.
[مسألة شهادة شهود الفرع بتعديلهم وتسميتهم لشهود الأصل]
] : وإذا شهد شهود الفرع على شهود الأصل.. لم يجز الحكم بشهادتهم حتى يعلم الحاكم عدالة شهود الفرع والأصل؛ لأن معرفة عدالة الشهود شرط في الحكم.
فإن شهد شهود الفرع على شهادة رجل وسمياه باسم يتميز به عن غيره وعدلاه،(13/372)
وعرف الحاكم عدالة شهود الفرع.. قبل الحاكم شهادتهم في ذلك كله بلا خلاف؛ لأن شهود الفرع غير متهمين في تعديلهم لشاهدي الأصل.
وإن قال شهود الفرع: نشهد على شهادة عدلين بكذا ولم يسموهما.. لم يجز الحكم بهذه الشهادة حتى يسموا شاهدي الأصل. وبه قال أكثر أهل العلم، إلا ابن جرير؛ فإنه قال: يحكم بهذه الشهادة.
وهذا خطأ؛ لأن الناس يختلفون في تعديل الشهود، وقد يكون شاهدا الأصل عدلين عند شهود الفرع ولا يكونان عدلين عند الحاكم، فلا بد من تسميتهما ليعرفهما الحاكم. ولأن المشهود عليه قد يجرح شهود الأصل، فإذا لم يعرفهما.. لم يمكنه جرحهما.
وإن سمى شهود الفرع شاهدي الأصل، ولم يعدلوهما.. فإن الحاكم يسمع هذه الشهادة ويسأل عن عدالة شاهدي الأصل. وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال الثوري وأبو يوسف: إذا لم يعدلوهما.. لم يسمع الحاكم شهادتهم.
دليلنا: أنها شهادة، فجاز سماعها وإن لم يعرف عدالة الشهود، كشهود الأصل.
[مسألة تحمل الشهادة على الشهادة]
مسألة: [وجوه يصح فيها تحمل الشهادة على الشهادة] :
وتحمل الشهادة على الشهادة يصح من وجوه:
أحدها: أن يسمع رجلان رجلا يشهد لرجل بحق مضاف إلى سبب يقتضي وجوب الحق؛ مثل أن يسمعه يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا من ثمن مبيع أو أجرة؛ لأنه مع ذكر السبب لا يقتضي غير الوجوب.
والثاني: أن يسمع رجلان رجلا يشهد عند الحاكم لرجل بحق على آخر.. فيجوز لهما أن يشهدا على شهادته وإن لم يسترعهما ولا أضاف الحق إلى سبب؛ لأن الشهادة عند الحاكم لا تكون إلا بحق واجب.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك يجوز لهذا الحاكم أن يشهد على شهادته(13/373)
عند حاكم آخر إذا عزل. قال: وكذلك: إذا سمع رجلان رجلا يشهد بحق لرجل عند محكم لهما، سواء قلنا: ينفذ حكمه أو لا ينفذ.
الثالث: إذا استرعاهما على الشهادة؛ بأن يقول رجل لرجلين: أنا أشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهدا على شهادتي؛ لأن الاسترعاء وثيقة، والوثائق لا تكون إلا على واجب.
وحكى ابن الصباغ: أن من أصحابنا من قال: لا بد أن يقول في الاسترعاء: اشهدا على شهادتي وعن شهادتي؛ ليكون إذنا في التحمل والأداء.
وهذا كاختلاف أصحابنا في المزكي: هل يحتاج إلى أن يقول: عدل علي ولي، أو يكفيه أن يقول: عدل.
وقد حكى المسعودي [في " الإبانة "] عن بعض العلماء ما يوافق هذا، فقال: لا بد أن يقول في الاسترعاء: اشهد على شهادتي إذا استشهدت أنت فاشهد.
والأول أصح؛ لأن الغرض زوال الشبهة، وإذا أذن له في التحمل.. فقد زالت الشبهة؛ لأن التحمل للأداء.
والرابع - حكاه ابن القاص والمسعودي [في " الإبانة "]-: أن يسمع رجل رجلا يسترعي غيره على شهادة، فيجوز للسامع أن يشهد بها وإن لم يسترعه عليها؛ لأنه لما استرعى غيره.. دل على أنه ما استرعاه إلا على واجب، فجاز له الشهادة عليها، كما لو سمع رجل رجلين يتبايعان.. فله أن يشهد عليهما وإن لم يشهداه.
فأما إذا سمع رجلان رجلا يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا غير مضاف إلى سبب ولم يسترعهما، وكان بغير حضور الحاكم.. فلا يجوز لهما أن يشهدا على شهادته بذلك.
وعلله الشافعي: (بأنه يحتمل أنه أراد أن ذلك واجب عليه، ويحتمل أنه غير واجب عليه، بل من وعد وعده به، فلم يصح تحمل الشهادة عليه بذلك) .
وعلله أصحابنا: أن قوله: (أشهد) يحتمل أنه أراد الشهادة عليه بالحق، ويحتمل أن قوله: (أشهد) أني أعلم ذلك بالسماع، فلم يجز أن يتحمل الشهادة عليه بذلك.(13/374)
هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز أن يتحمل الشهادة على الشهادة إلا أن يسترعيه على الشهادة، وأما بغير ذلك.. فلا يصح) .
ودليلنا عليهم: ما مضى.
[فرع طلب شاهد من اثنين أن يتحملا عنه ما يشهد به]
إذا قال شاهد الأصل لرجلين: اشهدا أني أشهد أن لفلان على فلان كذا.. فلا نص فيه للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إلا أن أبا حنيفة قال: (لا يشهدان على شهادته إلا أن يقول: اشهدا على شهادتي أني أشهد أن لفلان على فلان كذا؛ لأنه إذا قال لهما: اشهدا أن لفلان على فلان كذا.. فقد أمرهما بالشهادة ولم يسترعهما) .
وقال أبو يوسف: يجوز لهما أن يشهدا على شهادته؛ لأن معنى قوله ذلك: اشهدا على شهادتي. قال ابن الصباغ: وهذا أشبه.
[فرع طلب الرجل من الآخر أن يشهد بما يخبره به]
] : قال في " الأم ": (إذا قال رجل لآخر: اشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهد عليه بذلك.. لم يصح من الثاني تحمل الشهادة عليه؛ لأنه لم يسترعه على الشهادة) .
[مسألة كيفية أداء شهادة شاهد الفرع]
] : وأما كيفية أداء شاهد الفرع: فإنه يؤدي الشهادة ويضيفها إلى الوجه الذي تحملها منه، فإن سمع شاهد الأصل يشهد بحق مضاف إلى سبب.. فإنه يقول: أشهد على شهادة فلان أن لفلان على فلان كذا من ثمن مبيع أو أجرة أو غير ذلك مما سمعه يضيفه إليه. فإن سمعه يشهد عند الحاكم أو المحكم.. ذكر ذلك.
وكذلك: إذا استرعاه أو استرعى غيره.. ذكر ذلك في الأداء ليؤدي الشهادة كما تحملها.(13/375)
وإذا أشهده شاهد الأصل عل عين رجل، وشاهد الفرع يعرف عينه ولا يعرف نسبه واسمه.. فإنه لا يشهد إلا على عينه فحسب، وإن كان يعرف اسمه ونسبه.. كان له أن يشهد على اسمه ونسبه.
وإن أشهداه على الاسم والنسب، وكان شاهد الفرع لا يعرف عين المشهود له والمشهود عليه.. فإنه يشهد على الاسم والنسب.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكل من جاءه فادعى أنه فلان بن فلان.. فعليه أن يؤدي الشهادة له، ثم ينظر القاضي: فإن أقر الخصم أنه هو.. فلا كلام، وإن تناكرا.. فعلى المدعي إقامة البينة على اسمه ونسبه، فإذا أقام البينة على ذلك.. حكم به.
[مسألة حضور شاهد الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع]
وماذا لو رجع شاهد الأصل عن شهادته وغير ذلك؟] :
وإن شهد شاهدان على شهادة رجل عند غيبته أو مرضه، فقبل أن يحكم الحاكم بشهادة شاهدي الفرع حضر شاهد الأصل.. لم يجز الحكم بشهادة شاهدي الفرع حتى يسأل شاهد الأصل؛ لأنه إنما جاز الحكم بشهادة شاهدي الفرع لتعذر سماع الشهادة من شاهدي الأصل وقد قدر عليها، كما لا يجوز التيمم مع وجود الماء.
فإن شهد رجلان على شهادة رجل، فقبل أن يحكم الحاكم بشهادتهما رجع شاهد الأصل أو فسق.. فلا يجوز الحكم بشهادتهما؛ لأن شاهد الأصل لو رجع وفسق قبل الحكم بشهادته.. لم يجز الحكم بها، وكذلك شاهد الفرع.
وإن خرس شاهد الأصل أو عمي قبل الحكم بشهادة شهود الفرع عليه.. جاز الحكم بشهادة شهود الفرع عليه؛ لأن ذلك لا يؤثر في شهادته. والله أعلم(13/376)
باب اختلاف الشهود في الشهادة وإذا ادعى رجل على رجل ألفين، وأضاف كل ألف إلى سبب فأنكر، وأقام شاهدين، فشهد أحدهما له بألف مضاف إلى سبب كما ادعى، وشهد الثاني له بالألف الآخر.. لم تتم الشهادة على أحد الألفين، ولكن يحلف مع كل واحد من الشاهدين ويستحق الألفين؛ لأن كل واحد منهما يشهد بغير الذي شهد به الآخر.
وكذلك: إذا ادعى عليه ألفين من سكتين، فشهد بكل ألف شاهد.. فإنه يحلف مع كل واحد من الشاهدين يمينا ويستحق الألفين؛ لما ذكرناه.
فأما إذا ادعى عليه ألفين بسبب واحد أو أطلق، فشهد له شاهد بألف وشهد له شاهد بألفين، وأضافا إلى السبب الذي أضاف الدعوى إليه أو أطلقا، أو أضاف أحدهما إلى ذلك السبب وأطلق الآخر.. فإن البينة قد تمت على ألف ويحلف مع الشاهد الثاني - الذي شهد بالألفين - ويستحق الألف الثاني. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (لا تتم له البينة على الألف كما لو أضافا إلى سببين مختلفين) .
دليلنا: أنهما مالان من نوع واحد غير مضافين إلى سببين مختلفين، فإذا شهد به اثنان.. ثبت الأقل منهما، كما لو شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة.. فإنه وافقنا على ذلك.
وإن ادعى على رجل ألفا فأنكره، فأقام شاهدين، فشهد أحدهما له بألف وشهد له الآخر بألفين.. ففيه وجهان:
أحدهما: تصح شهادة من شهد له بالألف؛ لأنه شهد له بما ادعاه، وتبطل شهادة من شهد له بألفين؛ لأنه مكذب له.(13/377)
فعلى هذا: يحلف مع من شهد له بالألف.
والثاني: تثبت له الألف التي ادعاها بشهادتهما؛ لأنهما اتفقا عليها، وله أن يحلف مع الذي شهد بالألف الثانية؛ لأنه غير مكذب له؛ لأن من له حق يجوز أن يدعي بعضه ويترك بعضه؛ لعلمه أن من عليه الحق مقر له به، أو يجوز أنه لم يعلم أن هناك من يشهد له به.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن ادعى على رجل ألفا فأنكره، وأقام شاهدين فشهد أحدهما: أنه أقر له بألف، وشهد آخر: أنه أقر له بألف ولكن قضى منها خمسمائة.. ففيه وجهان:
أحدهما: تثبت خمسمائة؛ لأن شهادتهما اتفقت عليها.
والثاني: لا تثبت؛ لأنهما لم يتفقا على ما يدعيه المدعي.
[مسألة شهدوا على رجل بالزنى في بيت واختلفوا في تحديد الزاوية]
] : إذا شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة في بيت فشهد كل واحد منهم أنه زنى بها في زاوية غير الزاوية لتي شهد الآخر أنه زنى بها، أو شهد اثنان: أنه زنى بها في زاوية، وشهد الآخران: أنه زنى بها في زاوية أخرى.. فإنه لا يجب الحد على المشهود عليه، وهل يجب حد القذف على الشهود؟ على قولين، وقال أبو حنيفة: (القياس: أنه لا يجب الحد على المشهود عليه، ولكن يجب عليه الحد استحسانا) .
دليلنا: أن الشهادة لم تتم على فعل واحد، فلم يجب الحد على المشهود عليه، كما لو شهد اثنان: أنه زنى بها في الغداة، وشهد آخران: أنه زنى بها في العشي.
[فرع شهد اثنان أنه زنى بالبصرة وشهد آخران أنه زنى بالكوفة]
] : وإن شهد اثنان: أنه زنى بها في البصرة، وشهد آخران: أنه زنى بها في الكوفة.. لم يجب الحد على المشهود عليه، وهل يجب الحد على الشهود؟ على القولين.(13/378)
وقال أبو حنيفة: (لا يجب الحد على الشهود) . ومذهبه: أن الشهود إذا نقص عددهم.. وجب عليهم الحد. قال: (لأن عددهم هاهنا قد كمل فلم يحدوا) .
وهذا غلط؛ لأن عددهم لم يكمل على فعل واحد وإنما كمل على فعلين، فهو كما لو نقص عددهم.
[فرع اختلفا بأنها كانت مطاوعة أو مكرهة]
] : وإن شهد اثنان على رجل: أنه زنى بامرأة وهي مطاوعة له، وشهد آخران: أنه زنى بها وهي مكرهة.. فلا خلاف أنه لا يجب الحد على المرأة؛ لأن البينة لم تكمل في حقها. وأما الرجل: فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يجب عليه الحد) . وبه قال أبو يوسف. وقال أبو العباس: يجب عليه الحد - وبه قال أبو حنيفة - لأن حكمه إذا طاوعته أو أكرهها لا يختلف.
ووجه المذهب: أن البينة لم تكمل على فعل واحد؛ لأن زناه بها وهي مطاوعة غير زناه بها وهي مكرهة، فهو كما لو شهد اثنان: أنه زنى بها في بيت، وشهد آخران: أنه زنى بها في بيت آخر.
وأما الشهود: فالذي يقتضي المذهب: أن في وجوب الحد عليهم للمرأة القولين، وأما وجوب الحد عليهم للرجل:
فإن قلنا: إنه لا يجب عليه الحد.. كان في وجوب الحد عليهم له القولان.
وإن قلنا: يجب عليه الحد.. لم يجب له عليهم حد قولا واحدا.
[مسألة ادعى قذفه فأنكر فأقام بينة مختلفة]
] : وإن ادعى رجل على رجل أنه قذفه فأنكر، فأقام المدعي شاهدين، فشهد أحدهما: أنه قذفه بالعربية وشهد الآخر: أنه قذفه بالعجمية، أو شهد أحدهما: أنه قذفه يوم الخميس، وشهد الآخر: أنه قذفه يوم الجمعة.. لم يجب الحد؛ لأن البينة لم تكمل على قذف واحد.(13/379)
وإن شهد أحدهما: أنه أقر بقذفه بالعربية، وشهد الآخر: أنه أقر بالعجمية بقذفه، أو شهد أحدهما: أنه أقر يوم الخميس أنه قذفه، وشهد الآخر: أنه أقر يوم الجمعة أنه قذفه.. وجب الحد؛ لأن المقر به واحد وإن اختلفت العبارة عنه، أو اختلف وقت الإقرار به.
[مسألة شهادة واحد أو اثنين على سرقة كبش واختلفوا]
في الوقت أو اللون أو العدد] :
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو شهد: أنه سرق من هذا البيت كبشا لفلان بكرة، وقال الآخر: عشية، أو قال أحدهما: الكبش الأبيض، وقال الآخر: الأسود.. لم يقطع) .
وجملة ذلك: أنه إذا شهد رجل: أن فلانا سرق من فلان كبشا غدوة، وشهد الآخر: أنه سرق منه ذلك الكبس عشية، أو شهد أحدهما: أنه سرق منه كبشا أبيض وقت الزوال، وشهد آخر: أنه سرق منه كبشا أسود ذلك الوقت.. فهما شهادتان بسرقتين مختلفتين؛ لأنه لا يمكن أن يسرق كبشا واحدا بالغداة والعشي، ولا يمكن أن يكون أبيض أسود، فلا يجب القطع على المشهود عليه؛ لأن البينة لم تتم على سرقة كبش، ولكن يحلف المشهود له مع أي الشاهدين شاء، ويحكم له بالكبش.
وإن شهد رجلان: أنه سرق منه كبشا من صفته كذا وكذا بالغداة، وشهد رجلان آخران: أنه سرق منه ذلك الكبش بعينه بالعشي.. فهما بينتان متعارضتان، فلا يحكم للمشهود له بشيء.
والفرق بينها وبين الأولى: أن الشاهدين حجة يثبت بها الحق وقد عارضها مثلها فسقطتا، وفي الأولى: الشاهد الواحد ليس بحجة، فلم يقع فيها تعارض.
وإن شهد رجل: أنه سرق منه كبشا بالغداة ولم يصف الكبش، وشهد شاهد آخر: أنه سرق منه كبشا بالعشي ولم يصف الكبش، أو قال أحدهما: إنه سرق منه بالغداة كبشا أبيض، وشهد الآخر: أنه سرق منه بالعشي كبشا أسود.. فهما شهادتان بكبشين، فلا يجب على المشهود عليه القطع؛ لأن البينة لم تتم على كل كبش وللمشهود له أن يحلف مع كل واحد من الشاهدين ويستحق الكبشين.(13/380)
وإن شهد رجلان: أنه سرق منه كبشا بالغداة ولم يصفا الكبش، وشهد شاهدان: أنه سرق منه كبشا بالعشي ولم يصفا الكبش، أو شهد رجلان: أنه سرق منه كبشا أبيض بالغداة، وشهد آخران: أنه سرق منه كبشا أسود بالعشي.. فقد تمت البينتان على سرقتين، فيجب على السارق القطع، ويجب عليه غرم الكبشين.
قال الشيخ أبو حامد: وإن شهد شاهد: أنه سرق منه كبشا، وشهد آخر: أنه سرق منه كبشين.. فيجب القطع على السارق إذا كان قيمة كل واحد من الكبشين نصابا؛ لأنه قد شهد بسرقة النصاب شاهدان، وللمشهود له أن يحلف مع الشاهد الثاني، ويجب له ضمان الكبش الثاني.
وإن شهد رجلان: أنه سرق منه كبشا، وشهد آخران: أنه سرق منه كبشا.. حكم له بالكبشين؛ لأنه شهد بكل واحد منهما شاهدان، ويجب القطع على المشهود عليه.
ومن أصحابنا من صحف وقال: أراد الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بذلك: كيسا.
وهذا خطأ، بل أراد كبشا بالشين المعجمة؛ لأنه قال في " الأم ": (كبشا أقرن) ، والحكم لا يختلف بالكبش والكيس إلا أن الغالب من قيمة الكيس: أنه لا يبلغ نصابا فيجب به القطع.
[فرع شهد واحد أو اثنان على رجل سرقة ثوب واختلفوا في لونه أو قيمته]
] : وإن شهد رجل: أنه سرق من رجل ثوبا من صفته كذا وكذا وقيمته ربع دينار، وشهد آخر: أنه سرق منه ذلك الثوب بعينه وقيمته ثمن دينار.. فإن القطع لا يجب على المشهود عليه؛ لأن البينة لم تتم على سرقة ما قيمته نصاب، ويجب على المشهود عليه ثمن دينار؛ لأن الشاهدين قد اتفقا عليه، وللمشهود له أن يحلف مع الشاهد الذي شهد أن قيمته ربع دينار، ويجب له ثمن آخر.
وإن شهد رجلان على رجل: أنه سرق من رجل ثوبا من صفته كذا وكذا وقيمته ثمن دينار، وشهد آخران: أنه سرق ذلك الثوب بعينه وقيمته ربع دينار.. فإن القطع(13/381)
لا يجب على المشهود عليه؛ لأن البينة لم تكمل عليه بسرقة ما قيمته نصاب، ولا يجب على المشهود عليه إلا ثمن دينار، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (يجب عليه ربع دينار) .
وكذلك الخلاف إذا أتلف عليه ثوبا فشهد رجلان: أن قيمته ثمن دينار، وشهد رجلان: أن قيمته ربع دينار.. فإنه لا يجب على المشهود عليه إلا ثمن دينار عندنا، وعند أبي حنيفة يجب عليه ربع دينار.
دليلنا: أن الشاهدين اللذين شهدا أن قيمته ثمن دينار نفيا أن تكون قيمته ربع دينار، والشاهدين اللذين شهدا أن قيمته ربع دينار أثبتا الربع، فقد تعارضت البينتان في الثمن الثاني، فسقط وثبت ما اتفقا عليه.
وأما إذا شهد رجل: أنه سرق منه ثوبا أبيض قيمته ثمن دينار، وشهد آخر: أنه سرق منه ثوبا أسود قيمته ربع دينار.. فهما شهادتان مختلفتان، فلا يجب القطع على المشهود عليه؛ لأن البينة لم تتم على سرقة ما قيمته نصاب، وللمشهود له أن يحلف مع الشاهدين ويحكم له بثمن دينار وربع دينار.
وإن شهد رجلان: أنه سرق منه ثوبا أبيض قيمته ثمن دينار، وشهد آخران: أنه سرق منه ثوبا أسود قيمته ربع دينار.. فهما بينتان تامتان على سرقتين مختلفتين، فيجب له ثمن الدينار وربع الدينار، ويجب القطع على المشهود عليه.
فأما إذا شهد شاهد واحد: أنه سرق منه ثوبا قيمته ثمن دينار، وشهد شاهد آخر: أنه سرق منه ثوبا قيمته ربع دينار.. قال الشيخ أبو حامد: والذي يجيء على المذهب: أن الحكم في هذه كالحكم فيه إذا عينا الثوب واختلفا في قيمته، فيثبت له الثمن بشهادتهما، ويحلف مع الشاهد الآخر على ثمن دينار، ولا يجب القطع على المشهود عليه.
وإن شهد رجلان: أنه سرق منه ثوبا قيمته ثمن دينار، وشهد شاهدان: أنه سرق(13/382)
منه ثوبا قيمته ربع دينار، لزمه ثمن دينار لا غير، ولا يجب عليه القطع؛ لأنه يحتمل: أنهما شهدا بثوبين مختلفين، ويحتمل: أنهما شهدا بثوب واحد وإنما اختلفا في قيمته، فلم يحكم له إلا بالمتقين وهو ثمن دينار.
[مسألة تقديم الشهادة على الدعوى]
مسألة: [صور يصح فيها تقديم الشهادة على الدعوى] : وإن شهد رجلان على رجلين أنهما قتلا رجلا، وشهد المشهود عليهما على الشاهدين أنهما قتلاه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سألت الولي، فإن صدق الأولين وكذب الآخرين.. وجب عليهما القتل ولا يسمع قولهما؛ لأن الولي يكذبهما، ولأنهما يدفعان عن أنفسهما ضررا بشهادتهما. وإن صدق الآخرين وكذب الأولين.. لم يثبت القتل؛ لأنه كذب الأولين فبطلت شهادتهما، والآخران يدفعان ضررا عن أنفسهما بشهادتهما فلم تقبلا. وكذلك: إذا صدق الأولين والآخرين.. بطلت شهادة الجميع؛ لأنه كذب كل واحدة منهما بتصديق الآخرين) .
فإن قيل: هذا لا يتصور؛ لأن الشهادة لا تسمع إلا بعد الدعوى، فكيف يسأل الولي بعد شهادتهم؟ واختلف أصحابنا في الجواب:
فقال أبو إسحاق: إنما يفتقر إلى الدعوى أن تكون قبل الشهادة إذا كانت الدعوى ممن يعبر عن نفسه، فأما إذا كانت الدعوى لميت أو صغير أو مجنون.. فيصح أن تكون الشهادة سابقة للدعوى، والحق هاهنا للميت؛ لأنه يقضى دينه من ديته وتنفذ منها وصاياه.
ومن أصحابنا من قال: يحتمل أن يكون الولي لم يعلم من قتل وليه ولا يعرف من يشهد له بذلك، فيصح أن تتقدم الشهادة على الدعوى.
ومنهم من قال: يحتمل أن يكون الولي ادعى على الآخرين القتل، فشهد له الأولان، ثم شهد له الآخران على الأولين، فأورث ذلك شبهة، والشبهة تؤثر في الدم، فاحتاط الحاكم بسؤال الولي لينظر ما يقول.(13/383)
ومن أصحابنا من قال: إنما يتصور ذلك في وكيلين للولي، ادعى أحدهما القتل على هذين، وادعى الآخر على هذين.
[مسألة شهد شاهد على آخر بقتل عمد وشهد آخر أنه خطأ أو شهدا على إقراره]
] : وإن شهد رجل على رجل: أنه أقر بقتل رجل عمدا، وشهد آخر: أنه أقر بقتله خطأ.. فقد تمت البينة على القتل ولم تتم على صفة القتل، فيسأل المشهود عليه، فإن أنكر القتل.. لم يلتفت إلى إنكاره. وإن أقر بقتل العمد.. حكم عليه بموجب قتل العمد بإقراره. وإن أقر بقتل الخطأ وصدقه الولي على ذلك.. وجبت الدية في ماله، وإن كذبه الولي.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العمد، فإن حلف.. ثبت قتل الخطأ، وإن نكل.. حلف المدعي ويثبت قتل العمد.
وإن أقر المشهود عليه بقتل العمد وكذبه الولي وقال: بل كان خطأ.. لم يجب القود؛ لأن الولي لا يدعيه، وتجب فيه دية الخطأ.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون في مال الجاني؛ لأنها لم تثبت بالبينة.
وإن شهد أحدهما: أنه قتله عمدا، وشهد الآخر: أنه قتله خطأ.. ثبت القتل بشهادتهما ولم تتناف الشهادتان؛ لأن الفعل الواحد قد يعتقده أحدهما عمدا والآخر خطأ، ويسأل الجاني، فإن أقر بقتل العمد.. حكم عليه بموجبه. وإن أقر بالخطأ وصدقه الولي.. وجبت الدية، وإن كذبه الولي.. فللولي أن يحلف؛ لأنه أقام بما يدعيه شاهدا، وذلك لوث، ويخالف الأولى؛ فإن الشهادة هناك على الإقرار ولا لوث في الإقرار.
فإن لم يحلف الولي.. حلف الجاني ووجبت الدية في ماله مؤجلة؛ لأنها تثبت بإقراره. فإن لم يحلف الجاني.. فهل ترد اليمين على الولي؟ فيه قولان مضى ذكرهما.
فإن قلنا: ترد عليه فحلف.. ثبت موجب قتل العمد.
وإن قلنا: لا ترد عليه، أو قلنا ترد وامتنع عن اليمين.. تثبت دية الخطأ مؤجلة في مال الجاني؛ لأنها متيقنة.(13/384)
[مسألة قتل عمدا وله وارثان شهد أحدهما أن أخاه عفا عن القصاص والدية]
وإن قتل رجل وله وارثان ابنان أو أخوان، فشهد أحدهما: أن أخاه عفا عن القود والدية.. سقط القصاص، سواء كان الشاهد عدلا أو فاسقا؛ لأن شهادته بعفو أخيه تضمنت سقوط حقه من القصاص، ويكون نصيب الشاهد من الدية ثابتا، وأما نصيب المشهود عليه من الدية: فإن كان الشاهد غير مقبول الشهادة.. فالقول قول المشهود عليه مع يمينه. وإن كان الشاهد عدلا.. حلف معه الجاني.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويحلف: لقد عفا عن القصاص والمال) واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال بظاهره: ويجب أن يحلف: أنه عفا عن القصاص والدية؛ لأن العفو عن الدية لا يصح إلا بعد العفو عن القصاص، وهو إذا قلنا: إن قتل العمد لا يوجب غير القود.
ومنهم من قال: يكفيه أن يحلف: لقد عفا عن الدية؛ لأن القصاص قد حكم بسقوطه بكل حال، فلا معنى ليمينه عليه.
قال في ((الأم)) : (إذا ادعى رجل عبدا في يد آخر فأنكره، فأقام شاهدين، فشهد أحدهما: أنه ملكه، وشهد الآخر: أنه أقر بغصبه.. لم يحكم بالشهادة؛ لأنها شهادة بسببين مختلفين، ويحلف المشهود له مع أيهما شاء ويقضى له به. وهكذا إن شهد أحدهما: أنه غصبه، وشهد الآخر: أنه أقر بغصبه.. لم يحكم له بالشهادة؛ لأنها شهادة على فعلين مختلفين، ويحلف المشهود له مع أيهما شاء ويحكم له بالعبد) .
[مسألة شهدا أنه أوصى بعتق غانم وشهد الوارثان لسالم]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو شهد أجنبيان لعبد: أن فلانا المتوفى أعتقه وهو الثلث في وصيته، وشهد وارثان لعبد غيره: أنه أعتقه وهو الثلث في وصيته.. فسواء، ويعتق من كل واحد منهما نصفه) . قال المزني: قياس قوله: أن يقرع(13/385)
بينهما. واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة وحكمها:
فقال أبو العباس وأبو إسحاق وأكثر أصحابنا: صورتها: أن يشهد أجنبيان أن فلانا المتوفى أوصى بعتق عبده غانم وهو ثلث ماله، وشهد وارثان: أنه أوصى بعتق سالم وهو ثلث ماله، فعبر الشافعي عن الوصية بالعتق؛ لأن الوصية وقعت بالعتق، فإذا كان هذا صورتها.. فإنه يقرع بينهما كما قال المزني. وقول الشافعي: (فسواء، ويعتق من كل واحد منهما نصفه) لم يرد به تبعيض العتق فيهما، وإنما أراد: أن شهادة الأجنبيين كشهادة الوارثين لا مزية لأحدهما على الآخر، وأن العبدين سواء يجب أن يقسم الثلث بينهما كما يقسم في الوصايا غير العتق في القياس، إلا إن السنة منعت من قسم الثلث في العتق ووردت في الإقراع.
ومن أصحابنا من قال: صورتها: كما قال أبو العباس وأبو إسحاق، ولكن الحكم ما ذكره الشافعي، وهو: أن يعتق من كل واحد منهما نصفه، ولكن لا يعتق من كل واحد منهما نصفه، إلا إذا كان في كلام الموصي ما يدل على أنه قصد تبعيض الحرية في العبدين؛ بأن يشهد الأجنبيان أنه قال: أعتقوا هذا العبد وإن لم يحتمل الثلث إلا نصفه فأعتقوا نصفه، وشهد الوارثان بمثل ذلك لعبد آخر؛ لأنه قد علم من الموصي أنه أراد تبعيض الحرية فيهما، كما لو أوصى أن يعتق من كل واحد منهما نصفه، فأما إذا لم يكن في كلام الموصي ما يدل على أنه قصد تبعيض الحرية فيهما.. فإنه يقرع بينهما.
ومن أصحابنا من خالف أبا إسحاق وأبا العباس في صورتها وحكمها وقال: صورتها: أن الشهادتين وقعتا بالعتق المنجز لا بالوصية، والحكم في ذلك: أنه إن عرف المعتق منهما أولا.. عتق ورق الثاني، وإن لم يعرف السابق منهما.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه يقرع بينهما، فأيهما خرج له سهم العتق.. عتق ورق الآخر؛ لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون هو الذي أعتقه أولا فيعتق ويرق الآخر، وليس لأحدهما مزية على الآخر فأقرع بينهما، كما لو أعتقهما معا.
والثاني: يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأنا نعلم أن أحدهما حر والآخر رقيق، فإذا أقرعنا بينهما.. لم نأمن أن تخرج الحرية لمن هو رقيق، والرق على من هو حر، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فأعتق من كل واحد منهما نصفه لتساويهما. ويخالف(13/386)
إذا أعتقهما؛ لأن الحرية لم تقع لأحدهما.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا الطريق أشبه بالمذهب وعليه التفريع.
هذا إذا كانت البينتان عادلتين، فإن كانت إحداهما غير عادلة.. نظرت: فإن كان الأجنبيان فاسقين، والوارثان عدلين.. فلا تعارض شهادة العدلين بشهادة الفاسقين، فيرق العبد الذي شهد الأجنبيان بعتقه، ويعتق العبد الذي شهد الوارثان بعتقه.
وإن كان الأجنبيان عدلين، والوارثان فاسقين.. فلا تعارض شهادة العدلين بشهادة الفاسقين، فإن كان الوارثان لم ينفيا ما شهد به الأجنبيان.. عتق العبد الذي شهد بعتقه الأجنبيان، وأما العبد الذي شهد بعتقه الوارثان.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يعتق نصفه عليهما؛ لأنهما يقولان: لو قبلت شهادتنا وشهادة الأجنبيين.. لعتق النصف من كل واحد من العبدين لا غير - على القول الذي يقول: يقسم العتق بينهما - والنصف الثاني من العبد الذي شهد الأجنبيان بعتقه مغصوب علينا وهو رقيق لنا، وإنما نصف هذا الذي شهدنا له حر، فيلزمهما عتق نصف العبد الذي شهدا له بإقرارهما.
قال ابن الصباغ: وهذا سهو، وينبغي أنه إذا كان قد غصب منهما نصف العبد الذي شهد به الأجنبيان أن لا يعتق عليهما إلا خمسة أسداس عبد؛ لأن سدس التركة مغصوب عليهما، ويدخل النقص على ما يستحقه الأول بالوصية فيحصل هاهنا دور، ويقال: عتق من الأول - وهو ثلث التركة - نصف شيء والباقي منه مغصوب، وعتق من الثاني نصف شيء تمام الوصية، وبقي في يد الورثة ثلث التركة إلا نصف شيء يعدل شيئين، فإذا جبرت.. عدل ثلث التركة شيئين ونصف شيء، الشيء الكامل أربعة أخماس عبد وهو ثلث التركة، فيكون قد عتق من العبد الذي أقر له الوارثان خمساه ورق ثلاثة أخماسه، وعتق من العبد الذي شهد له الأجنبيان بالوصية خمساه والباقي منه مغصوب من حق الورثة، ويبقى في يد الورثة عبد وثلاثة أخماس(13/387)
عبد، وذلك مثلا ما عتق منهم بالوصية.
وأما إذا نفى الوارثان ما شهد به الأجنبيان؛ بأن قال الأجنبيان: إنه أعتق عبده غانما وقيمته ثلث التركة، وقال الوارثان: لم يعتق غانما وإنما أعتق سالما وقيمته ثلث التركة، وكان الأجنبيان عدلين والوارثان فاسقين.. فشهادة الوارثين: أنه لم يعتق غانما لا تقبل لفسقهما، ولأنها شهادة على نفي، فيعتق غانم بشهادة الأجنبيين، والوارثان يقران: أن المعتق هو سالم، وغانما مغصوب عليهما.
قال الشيخ أبو حامد: فيعتق عليهما سالم بإقرارهما.
قال ابن الصباغ: وهذا سهو أيضا، ويجب أن يقال: يعتق ثلثاه؛ لأن غانما كالمغصوب، فلا يحتسب عليهما في التركة.
وإن اختلفت قيمة العبدين، فشهد أجنبيان: أنه أعتق غانما في مرض موته وقيمته ثلث ماله، وشهد الوارثان: أنه أعتق سالما وقيمته سدس ماله، والبينتان عادلتان:
فإن قلنا: لا يقرع بينهما.. عتق من كل واحد مهما ثلثاه، وهو ثلث التركة.
وإن قلنا: يقرع بينهما.. أقرع بينهما، فإن خرج سهم الحرية للعبد الذي شهد له الأجنبيان.. عتق ورق الآخر، وإن خرج سهم الحرية للعبد الذي شهد له الوارثان.. عتق جميعه ونصف الآخر تمام الثلث.(13/388)
[فرع شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق غانم وشهد الوارثان لغيره]
وبرجوعه وكلاهما ثلث التركة] :
وإن شهد أجنبيان: أن فلانا أوصى بعتق عبده غانم وقيمته ثلث ماله، وشهد وارثان: أنه رجع عن وصيته بعتق غانم وأوصى بعتق سالم وقيمته ثلث ماله، والبينتان عادلتان.. فإن شهادة الوارثين تقبل بإبطال عتق غانم وبإثبات العتق لسالم؛ لأنهما لا يجران إلى نفسهما بذلك نفعا ولا يدفعا عنهما ضررا؛ لأن قيمة العبدين متساوية.
وإن كان الأجنبيان عدلين والوارثان فاسقين.. لم تقبل شهادة الوارثين بالرجوع عن عتق غانم، ولكنهما يقولان: غانم لا يستحق العتق، وإنما الذي يستحق العتق سالم، فيكون غانم كالمغصوب عليهما.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فيعتق عليهما ثلثا سالم وهو ثلث التركة مما بقي من المال في أيديهما) . وهذا يؤيد قول ابن الصباغ في الأولى.
وإن كان الأجنبيان فاسقين والوارثان عدلين.. فلا تعارض شهادة الأجنبيين الفاسقين شهادة العدلين، فيعتق العبد الذي شهد له الوارثان بالوصية.
[فرع شهد بوصية عتق وشهد الوارثان برجوعه لغيره]
فرع: [شهد بوصية عتق بسدس التركة وشهد الوارثان برجوعه لغيره وبغير السدس] :
وإن شهد أجنبيان: أنه أوصى بعتق غانم وقيمته سدس التركة، وشهد الوارثان: أنه رجع عن عتق غانم وأوصى بعتق سالم وقيمته ثلث التركة، وهم عدول.. عتق سالم ورق غانم.
وإن كان الوارثان فاسقين.. عتق غانم؛ لأن الوارثين لا تقبل شهادتهما في الرجوع عن وصيته وهما يقران: أن غانما ملكهما وهو مغصوب عليهما، ويقران: أن الوصية إنما هي لسالم، فيعتق من ثلث التركة التي حصلت في أيديهما وهي خمسة أسداس سالم.
وإن كانت قيمة غانم ثلث التركة، وقيمة سالم سدس التركة، والوارثان عدلان..(13/389)
فإن شهادتهما لا تقبل في نصف غانم؛ لأنهما يجران بها إلى أنفسهما نفعا بالرجوع عن الوصية بالسدس، وهل تقبل شهادتهما في نصفه الآخر؟ فيه قولان؛ لأنها شهادة اشتملت على شيئين فردت في أحدهما للتهمة.
فإن قلنا: ترد شهادتهما في الجميع.. حكم بعتق العبد الذي شهد له الأجنبيان، إلا أن الوارثين يقولان: هو مغصوب علينا، وإنما الموصى بعتقه هو سالم فيعتق عليهما أيضا بإقرارهما؛ لأنه ثلث ما بقي في أيديهما من التركة.
وإن قلنا: إنها ترد في نصفه وتقبل في نصفه.. عتق نصف غانم ورق نصفه، وعتق جميع سالم؛ لأن الثلث يحتمله.
وإن كان الوارثان فاسقين.. عتق غانم بشهادة الأجنبيين، وعتق سالم بإقرار الوارثين.
[فرع شهد أنه أوصى بعتق عبد وشهد الوارثان لغيره]
من دون رجوع أو رجع وشهدت بينة ثالثة] :
وإن شهد أجنبيان: أنه أوصى بعتق غانم وقيمته ثلث التركة، وشهد الوارثان: أنه أوصى بعتق سالم وقيمته ثلث التركة ولم يشهدا برجوعه عن عتق غانم وهم عدول.. أقرع بين العبدين، فمن خرج له سهم الحرية.. عتق ورق الآخر.
وإن كانت قيمة غانم ثلث التركة، وقيمة سالم سدس التركة.. أقرع بينهما، فإن خرج سهم الحرية على غانم.. عتق ورق سالم، وإن خرج سهم العتق على سالم.. عتق جميعه وعتق من غانم نصفه، وهو تمام الثلث.
وإن شهد أجنبيان: أنه أوصى لزيد بثلث ماله، وشهد الوارثان: أنه أوصى لعمرو بثلث ماله ولم يشهدا على رجوعه عن وصية لزيد.. قسم الثلث بين زيد وعمرو نصفين.
وإن شهد أجنبيان: أنه أوصى بثلث ماله لزيد، وشهد الوارثان: أنه رجع عن وصيته لزيد وأوصى بثلث ماله لعمرو وهم عدول.. بطلت وصيته لزيد وثبتت وصيته لعمرو.
فإن كانت بحالها وشهد آخران: أنه رجع عن وصية عمرو وزيد وأوصى بثلثه(13/390)
لخالد.. بطلت وصية زيد وعمرو وثبتت وصية خالد.
وإن شهد أجنبيان: أنه أوصى بثلثه لزيد، وشهد الوارثان: أنه رجع عن وصيته لزيد وأوصى بثلثه لعمرو، وشهد آخران: أنه رجع عن إحدى الوصيتين ولم يعيناها.. بطلت شهادة من شهد بالرجوع من غير تعيين وثبتت الوصية لعمرو.
[فرع شهدا بوصية لزيد بثلث وشهد واحد لغيره]
وإن شهد رجلان: أنه أوصى لزيد بثلث ماله، وشهد واحد: أنه أوصى لعمرو بثلث ماله.. فهل يحلف عمرو ويساوي زيدا في قسمة الثلث بينهما؟ فيه قولان، مضى بيانهما.
فأما إذا شهد رجلان: أنه أوصى بثلث ماله لزيد، وشهد آخر: أنه رجع عن وصيته لزيد ووصى بثلث ماله لعمرو.. فلعمرو أن يحلف مع شاهده، ويحكم ببطلان وصية زيد، وثبوت وصية عمرو قولا واحدا؛ لأن البينتين هاهنا لم يتعارضا، وإنما الشاهدان شهدا بالوصية، والشاهد شهد بالرجوع وهو يشهد بغير ما شهدا له به، والمقصود بالرجوع المال فثبت بالشاهد واليمين.
[فرع ادعى عليهما أنهما رهنا عبدا بدين]
وإن ادعى رجل على رجلين: أنهما رهنا عبدا لهما عنده بدين له عليهما، فصدقه كل واحد منهما على حق شريكه وكذبه في حق نفسه.. فيه وجهان:
أحدهما: لا تقبل شهادتهما، لأنه يدعي أن كل واحد منهما، كاذب.
والثاني: تقبل شهادتهما ويحلف مع كل واحد منهما ويصير العبد رهنا عنده؛ لأن كذب كل واحد مهما غير معلوم؛ لجواز أن يكون نسي رهنه لنصيبه.
والله أعلم.(13/391)
[باب الرجوع عن الشهادة]
إذا شهد الشهود عند الحاكم، ثم رجعوا عن الشهادة.. لم يخل رجوعهم من ثلاثة أحوال:
إما أن يكون قبل الحكم بشهادتهم، أو بعد الحكم وقبل استيفاء ما شهدوا به، أو بعد الحكم وبعد استيفاء ما شهدوا به.
فإن كان قبل الحكم.. لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهم.
قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع، إلا ما حكي عن أبي ثور أنه قال: (يحكم بشهادتهما؛ لأن الشهادة قد حصلت فلم تبطل بالرجوع، كما لو رجعوا بعد الحكم) .
وهذا خطأ؛ لأن الحاكم إنما يحكم بشهادتهم، فإن رجعوا.. لم تبق هناك شهادة يحكم بها، ولأن الحاكم إنما يجوز له أن يحكم بشهادة يغلب على ظنه صدق شهودها، فإذ رجعوا عن الشهادة.. احتمل أن يكونوا صادقين في الشهادة كاذبين في الرجوع، واحتمل أن يكونوا كاذبين في الشهادة وصادقين في الرجوع، وذلك يوقع شكا في شهادتهم فلم يجز الحكم بشهادتهم، كما لو فسقوا بعد الشهادة وقبل الحكم بها.
وإن شهدوا بحق، فقالوا للحاكم قبل الحكم: توقف في الحكم حتى نتثبت في شهادتنا، ثم عادوا وقالوا: قد أثبتنا شهادتنا.. فهل يجوز للحاكم أن يحكم بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز أن يحكم بها؛ لأنهم لم يرجعوا عن الشهادة.
والثاني: لا يجوز أن يحكم بها؛ لأن قولهم هذا يورث ريبة في شهادتهم.
فإن رجعوا بعد الحاكم بشهادتهم وقبل استيفاء ما شهدوا به، فإن كان(13/392)
ما شهدوا به مما يسقط بالشبهة؛ كالحدود والقصاص.. لم يجز استيفاؤه؛ لأن هذه الحقوق تسقط بالشبهة، ورجوع الشهود أقوى شبهة فلم يجز استيفاؤها.
وحكى المسعودي [في ((الإبانة)) ] وجها آخر في القصاص: أنه يستوفى؛ لأنه حق للآدمي. والمشهور هو الأول.
وإن كان المشهود به حقا لآدمي لا يسقط بالشبهة؛ كالمال والنكاح وما أشبهه.. فالمنصوص: (أنه يجوز للمشهود له استيفاؤه) .
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز له استيفاؤه؛ لأن الحكم غير مستقر قبل استيفاء المشهود به، فرجوع الشهود في هذه الحالة كرجوعهم قبل الحكم.
وليس بشيء؛ لأن الحكم قد نفذ والشبهة لا تؤثر فيه، فجاز استيفاؤه.
وإن رجعوا بعد الحكم وبعد استيفاء المشهود به.. لم ينقض الحكم، ولم يجب على المشهود له رد ما أخذه.
وهو قول كافة العلماء، إلا ابن المسيب والأوزاعي؛ فإنهما قالا: ينقض الحكم ويجب على المشهود له أن يرد ما أخذه. وهكذا قالا: إذا رجع الشهود بعد الحكم وقبل الاستيفاء.. فإنه ينقض الحكم ولا يستوفى الحق المشهود به.
دليلنا: أن الشهود يجوز أن يكونوا صادقين في الشهادة كاذبين في الرجوع، ويجوز أن يكونوا كاذبين في الشهادة صادقين في الرجوع، فليس أحدهما بأولى من الآخر، فلا يجوز نقض الحكم لأمر محتمل.
[مسألة ما يترتب على الشهود فيما لو رجعوا عن شهادتهم وبعد استيفاء الحكم]
وإذا شهد الشهود بحق ثم رجعوا بعد الحكم وبعد الاستيفاء.. فقد ذكرنا: أنه لا ينقض الحكم ولا يجب على المشهود له رد ما حكم له به ولا ضمانه، والكلام هاهنا(13/393)
فيما يجب على الشهود؛ فلا يخلو المشهود به: إما أن يكون إتلافا أو في معنى الإتلاف، أو يكون مالا.
فإن كان إتلافا؛ كالشهادة فيما يوجب القتل والقطع والرجم.. وجب على الشهود الضمان؛ لأن المشهود عليه قتل أو قطع بسبب ملجئ من قبل الشهود.. فوجب عليهم ضمانه، كما لو أتلفوه بأيديهم. إذا ثبت هذا: ففيه ثمان مسائل:
إحداهن: أن يشهد رجلان أو جماعة على رجل بما يوجب القتل فقتل، أو بما يوجب القطع فقطع، ثم رجعوا عن الشهادة، فإن قالوا: تعمدنا الشهادة عليه ليقتل أو ليقطع.. وجب عليهم القتل أو القطع، وبه قال ابن سيرين وأحمد وإسحاق.
وقال ربيعة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجب عليهم القتل ولا القطع، وإنما يجب عليهم الأرش) .
دليلنا: ما روي: أن رجلين شهدا عند أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل بالسرقة فقطع يده، ثم رجعا عن الشهادة وقالا: أخطأنا، فقال: (لو أعلم أنكما تعمدتما.. لقطعتكما) .
وروي: (أن رجلين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل بالسرقة فقطع يده، ثم أتياه بآخر فقالا: هذا هو السارق وأخطأنا بالأول، فرد شهادتهما على الثاني، وغرمهما دية يده، وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما.. لقطعتكما) .
ولا مخالف لهما في الصحابة، ولأنه نوع إتلاف يضمن بالفعل فضمن بالقول كالعتق، ولأنهما ألجآ الحاكم إلى إتلافه فصارا كالمكرهين له على إتلافه شرعا، والقود يجب عندنا وعنده على المكره الآمر، وكذلك هذا مثله.
المسألة الثانية: أن يقول الشهود: تعمدنا الشهادة عليه بالقتل والقطع والزنى، وما ظننا أنه يقتل أو يقطع بشهادتنا، وإنما ظننا أنه يجلد أو يحبس، وهم ممن يجوز أن يجهلوا ذلك.. فلا يجب عليهم القود؛ لأنهم لم يعترفوا بما يوجب القود، وتجب عليهم دية مغلظة من أموالهم؛ لأنها عمد خطأ، ولا تحملها العاقلة؛ لأنها وجبت باعترافهم، وهل تجب الدية حالة أو مؤجلة؟(13/394)
قال المسعودي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في ((الإبانة)) ] : نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنها تجب حالة) وبه قال القفال؛ لأنهم متعمدون من كل وجه، وقولهم: (ولم نعلم أنه يقتل) كقول من يقول: رميته قصدا ولم أعلم أن السهم يبلغه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: أنها تجب مؤجلة؛ لما فيها من الخطأ. وبه قال صاحب ((التقريب)) وحمل النص عليه إذا مضى من وقت القتل إلى وقت المطالبة ثلاث سنين.
المسألة الثالثة: أن يقول الشهود: أخطأنا في الشهادة عليه وظننا أنه القاتل أو الزاني، وإنما القاتل والزاني غيره.. فلا يجب عليهم القود وتجب عليهم الدية في أموالهم مؤجلة.
المسألة الرابعة: إذا اتفقوا أن بعضهم تعمد الشهادة عليه ليقتل، وأن بعضهم أخطأ في الشهادة عليه.. فلا يجب على العامد قود لمشاركته المخطئ، ويجب عليه قسطه من الدية المغلظة في ماله، ويجب على المخطئ قسطه من الدية المخففة في ماله؛ لأنها وجبت باعترافه.
المسألة الخامسة: إذا اختلفوا فقال بعضهم: تعمدنا كلنا الشهادة عليه ليقتل، وقال بعضهم: أخطأنا كلنا بالشهادة عليه أو أخطأنا دونهم؛ فمن أقر بعمد الجميع.. وجب عليه القود؛ لأنه أقر أنه عامد هو وشريكه، ولا يجب القود على من أقر بالخطأ؛ لأنه لا يقبل عليه إقرار غيره، ويلزمه قسطه من الدية المخففة.
المسألة السادسة: إذا شهد أربعة على رجل بما يوجب القتل فقتل، ثم رجعوا عن الشهادة، فقال اثنان منهم: تعمدنا كلنا الشهادة عليه ليقتل، وقال الآخران: تعمدنا نحن الشهادة عليه ليقتل وأخطأ الأولان.. فإن الأولين اللذين أقرا بعمد الجميع يجب عليهما القود؛ لأنهما أقرا على أنفسهما بذلك، وهل يجب القود على الآخرين؟
حكى الشيخ أبو إسحاق فيها قولين، وحكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ والمسعودي [في ((الإبانة)) ] وجهين:(13/395)
أحدهما: يجب عليهما القود؛ لأنهما اعترفا على أنفسهما بالعمد وأضافا الخطأ إلى من اعترف على نفسه بالعمد، فصار كما لو اعترفوا جميعا بالعمد.
والثاني: لا يجب عليهما القود، وهو الأصح؛ لأنهما أقرا بعمد شاركهما فيه مخطئ، ومقتضى هذا: لا يجب عليهما القود، فلا يجب عليهما القود بقول غيرهما.
فعلى هذا: يجب عليهما نصف الدية مغلظة في أموالهما.
المسألة السابعة: إذا قال اثنان منهم: تعمدنا الشهادة عليه ليقتل وأخطأ هذان، وقال الآخران: بل تعمدنا نحن الشهادة عليه ليقتل وأخطأ هذان.. فهل يجب على جميعهم القود، أو لا يجب عليهم القود بل الدية مغلظة؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو إسحاق، ووجههما ما ذكرناه في التي قبلها.
المسألة الثامنة: أن يقول بعضهم: تعمدت الشهادة عليه ليقتل ولا أدري: هل تعمد أصحابي أو أخطؤوا؟ فإنه يرجع إليهم، فإن أقروا جميعا بالعمد.. وجب القود على جميعهم. وإن أقروا بالخطأ، أو أقر واحد منهم بالخطأ والباقون بالعمد.. لم يجب على واحد منهم القود؛ لأن العامد شريك للمخطئ، ويجب على من أقر العمد قسطه من الدية المغلظة في ماله، وعلى من أقر بالخطأ قسطه من الدية المخففة مؤجلة في ماله.
[فرع اعتبار عدد الراجعين عن شهادة على إتلاف بعد الاستيفاء]
وإن رجع بعض من شهد بإتلاف بعد استيفاء المشهود به.. نظرت: فإن: فإن لم يزد عدد الشهود على عدد البينة؛ بأن شهد اثنان على رجل: أنه قتل رجلا عمدا فقتل به، ثم رجع أحد الشاهدين وقال: تعمدنا الشهادة عليه ليقتل.. وجب عليه القود، ولا يجب على الآخر شيء. وإن قال الراجع: أخطأنا بالشهادة عليه، أو أخطأت وتعمد صاحبي.. لم يجب على الراجع قود، ووجب عليه نصف دية مخففة.
وكذلك: إذا شهد أربعة على رجل بالزنى وهو محصن فرجم، ثم رجع واحد منهم، فإن قال: تعمدنا كلنا الشهادة عليه ليقتل.. وجب عليه القود، ولم يجب على(13/396)
الثلاثة شيء. وإن قال الراجع: أخطأنا كلنا، أو أخطأ بعضنا.. وجب عليه ربع دية مخففة. وإن رجع اثنان.. وجب عليهما نصف الدية.
وإن زاد عدد الشهود على عدد البينة.. نظر في ذلك: فإن كان الشهود في غير الزنى؛ بأن شهد ثلاثة رجال على رجل: أنه قتل رجلا عمدا، فقتله ولي الدم، ثم رجع أحد الثلاثة وقال: شهدت بالزور وعمدت إلى ذلك ليقتل وتعمد شريكاي.. قال ابن الحداد: وجب على الراجع القود، فإن اختار الولي أن يعفو عنه على مال.. وجب عليه ثلث الدية.
وإن كان ذلك في الشهادة على الزنا؛ بأن شهد خمسة رجال على رجل: أنه زنى وهو محصن، فرجم بشهادتهم، ثم رجع واحد منهم وقال: شهدت بالزور وعمدت إلى ذلك ليقتل، وعمد أصحابي إلى الشهادة عليه بالزور ليقتل.. فإنه لا يجب على الراجع قود.
والفرق بينها وبين الأولى: أن قيام البينة عليه يوجب القتل في غير الزنا، ولا يسقط ضمانه عن الأجنبي؛ لأنه لا يكون مباح الدم؛ بدليل: أنه لو قتله غير ولي الدم.. وجب عليه القود، فلم يكن مسقطا لضمان نفسه. وإذا قامت البينة عليه بالزنى وهو محصن.. كان وجوب رجمه يوجب سقوط ضمانه ويصير مباح الدم؛ بدليل: أنه لو قتله قاتل.. لم يجب عليه القود.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجب حد القذف على الراجع؛ لأن حصانه المقذوف ساقطة ببقاء قيام الأربعة عليه بالزنى.
وهل يجب على الراجع شيء من الدية؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في ((الإبانة)) ] ، وحكاهما أصحابنا العراقيون وجهين:
أحدهما - حكاه المزني في ((المنثور)) واختاره أبو إسحاق المروزي -: أنه يجب عليه خمس الدية؛ لأنه مقر أنه أتلف جزءا منه وهو مضمون، فلزمه من ضمانه بقدر ما أقر من إتلافه.(13/397)
والثاني - وهو قول ابن الحداد والقاضي أبي حامد -: أنه لا يجب عليه شيء، وهو الصحيح؛ لأن البينة قائمة على إباحة نفسه وسقوط ضمانه بالشهود الأربعة، فهو كما لو قتل رجل رجلا فقامت بينة على زنى المقتول وهو محصن.. فإنه لا يجب على قاتله شيء وكذلك هذا مثله.
فإن رجع اثنان من الخمسة وقالا: شهدنا بالزور عليه وتعمدنا بالشهادة عليه ليقتل، وتعمد أصحابنا الشهادة بالزور ليقتل.. وجب عليهما القود. وإن قالا: أخطأنا.. فعلى قول أبي إسحاق: تجب عليهما خمسا الدية، وعلى قول ابن الحداد: يجب عليهما ربع الدية بينهما نصفين؛ لأن البينة لم ينخرم إلا ربعها.
وإن شهد عليه ثمانية بالزنا وهو محصن فرجم، فرجع واحد منهم، أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وقالوا: قد تعمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل.. فلا خلاف: أنه لا يجب عليهم القود؛ لما مضى، وأما الدية: فتجب على قول أبي إسحاق: على كل واحد منهم ثمن الدية، وعلى قول ابن الحداد: لا يجب على الأربعة شيء.
وإن رجع خمسة منهم وقالوا: تعمدنا بالشهادة عليه بالزور ليقتل، وتعمد أصحابنا.. وجب عليهم القود. وإن قالوا: أخطأنا.. وجب عليهم ربع الدية بينهم أخماسا.
وإن رجع ستة.. وجب عليهم نصف الدية، وإن رجع سبعة.. وجب عليهم ثلاثة أرباع الدية، وإن رجعوا كلهم.. وجبت الدية عليهم على كل واحد منهم ثمنها.
[مسألة شهد أربعة على شخص بالزنى وشهد اثنان بإحصانه فرجم ثم رجع الشهود]
وإن شهد أربعة على رجل بالزنى، وشهد اثنان من غيرهم: أنه محصن، فرجم، ثم رجعوا كلهم، فقال شهود الزنا: أخطأنا وما كان زنى، وقال شاهدا الإحصان: أخطأنا ما كان وطئ في نكاح صحيح.. فهل يجب الضمان على شاهدي الإحصان؟ فيه ثلاثة أوجه:(13/398)
أحدها: لا يجب عليهما الضمان - وبه قال أبو حنيفة - لأن شهود الزنى شهدوا بفعله، وشاهدي الإحصان إنما يشهدان بصفته، وإنما قتل بفعله لا بصفته.
والثاني: يجب عليهما الضمان؛ لأنه إنما قتل بالزنى والإحصان؛ بدليل: أنه لو انفرد أحدهما عن الآخر.. لم يقتل.
والثالث: ينظر في شاهدي الإحصان: فإن شهدا بإحصانه قبل قيام البينة عليه بالزنى.. لم يجب عليهما الضمان؛ لأنهما إنما أثبتا صفته. وإن شهدا بعد قيام البينة عليه بالزنى.. وجب عليهما الضمان؛ لأنهما إنما شهدا عليه ليقتل.
فإذا قلنا: يجب الضمان على شاهدي الإحصان. فكم يجب عليهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليهما نصف الدية، على كل واحد منهما ربع الدية، ويجب على شهود الزنى نصفها على كل واحد منهم ثمنها؛ لأنه قتل بنوعين من البينة.
والثاني: يجب على شاهدي الإحصان ثلث الدية، وعلى شهود الزنى ثلثاها؛ لأنه قتل بشهادة ستة، فكان على كل واحد منهم سدس الدية.
وقال أبو ثور: (لا يجب على شهود الزنى هاهنا شيء من الدية، ويجب جميع الدية على شاهدي الإحصان) .
وهذا خطأ؛ لأنه قتل بشهادة الجميع.. فكان ضمانه على الجميع.
وإن شهد أربعة رجال على رجل بالزنى، وشهد اثنان منهم أنه محصن.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما لا يجران بذلك إلى أنفسهما نفعا. فإن رجم ثم رجعوا كلهم عن الشهادة.
فإن قلنا: لا يجب الضمان على شاهدي الإحصان في التي قبلها.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا: يجب الضمان على شاهدي الإحصان في التي قبلها.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: لا يجب عليهما الضمان؛ لأن الشاهدين اللذين شهدا بالزنا لا غير، وجد من كل واحد منهما جناية، وهو شهادته بالزنى، وود من اللذين شهدا بالإحصان والزنى جنايتان، فإذا تلف المشهود عليه بجنايتهم.. قسم الضمان عليهم على عدد رؤوسهم لا على عدد جناياتهم، كما لو جرح رجل رجلا جراحة وجرحه آخر جراحتين ومات.(13/399)
والثاني: يجب عليهما الضمان؛ لأنه تلف بسببين؛ بالشهادة بالزنى والشهادة بالإحصان، فقسمت الدية عليهما.
فإذا قلنا بهذا، وقلنا في التي قبلها: إنه يجب على شاهدي الإحصان نصف الدية.. وجب هاهنا على الشاهدين اللذين شهدا بالزنا والإحصان ثلاثة أرباع الدية وعلى الشاهدين اللذين شهدا بالزنا لا غير.. ربع الدية.
وإن قلنا في التي قبلها: يجب على شاهدي الإحصان ثلث الدية.. وجب هاهنا على الشاهدين اللذين شهدا بالزنا والإحصان ثلثا الدية، وعلى الشاهدين اللذين شهدا بالزنا لا غير ثلث الدية.
[فرع شهدوا على زنى رجل فزكاهما اثنان فرجم ثم بان عدم أهلية الشهود]
وإن شهد أربعة على رجل بالزنى، فجهل الحاكم عدالتهم، فزكاهم رجلان، فقبل الحاكم تزكيتهما ورجم المشهود عليه، ثم بان أن الشهود كانوا عبيدا أو كفارا.. فإنه يجب ضمان نفس المشهود عليه؛ لأنه رجم بغير حق، ووليه بالخيار: إن شاء طالب الحاكم؛ لأنه أمكن من قتله، وإن شاء طالب المزكيين؛ لأنهما ألجآ الحاكم إلى قتله. فإن طالب الحاكم.. رجع على المزكيين؛ لأنهما غراه، وإن طالب المزكيين.. لم يرجعا على غيرهما؛ لأنهما لم يلجئهما إلى التزكية أحد.
[مسألة رجوع الشهود عن شهادتهم بما فيه معنى الإتلاف وبعد الاستيفاء]
وإن كان المحكوم به ليس بإتلاف وإنما هو بمعنى الإتلاف؛ وهو: إتلاف الحكم، كالشهادة بالطلاق والعتاق وما أشبههما.. وجب على الشهود الضمان إذا رجعوا كما قلنا في شهود القتل.
فإذا شهد شاهدان على رجل: أنه أعتق عبدا له، فقبل الحاكم شهادتهما وحكم(13/400)
بعتقه، ثم رجعا عن الشهادة.. وجب عليهما قيمة العبد؛ لأنهما أتلفا عليه رقبة العبد، فوجب عليهما قيمته، كما لو قتلاه. وسواء قالا: تعمدنا الشهادة أو أخطأنا؛ لأن المال يضمن بالعمد والخطأ.
وإن شهد عليه: أنه كاتب عبده، فحكم الحاكم بالكتابة، ثم رجعا عن الشهادة.. ففيه وجهان - حكاهما الصباغ -:
أحدهما: يرجع عليهما بما بين قيمته وعوض الكتابة؛ لأن مال الكتابة قد رجع إليه.
والثاني: يرجع عليهما بجميع قيمته؛ لأن مال الكتابة الذي أداه إنما هو كسبه والسيد يملكه.
قال ابن الصباغ: وهذا ينبغي أن يكون إذا أدى وعتق، فأما قبل ذلك.. فلا يضمن.
وإن شهدا لأمة باستيلاد سيدها لها، ثم رجعا، فإذا مات السيد.. عتقت ورجع ورثة سيدها عليهما بقيمتها.
قال ابن الحداد: وإن شهد شاهدان على رجل: أنه أعتق عبده على ضمان مائة درهم، وقيمة العبد مائتا درهم، فضمن العبد المائة، وحكم الحاكم بعتق العبد، ثم رجعا عن شهادتهما.. فإن الحاكم لا ينقض حكمه، ويرجع السيد عليهما بتمام القيمة وهي مائة درهم؛ لأن الشاهدين قد أقرا برجوعهما أنهما أتلفا عليه نصف العبد وهو ما يقابل المائة الثانية من قيمته، فلزمهما ضمان ذلك.
وإن شهد ثلاثة على رجل: أنه أعتق عبده، فحكم الحاكم بعتقه، ثم رجع واحد منهم.. لم يرجع عليه بشيء على قول ابن الحداد والقاضي أبي حامد، وعلى ما حكاه المزني في ((المنثور)) وقول أبي إسحاق المروزي.. يرجع عليه بثلث القيمة. وإن رجعوا كلهم.. رجع عليهم بقيمة العبد، على كل واحد ثلث قيمته بلا خلاف على المذهب.(13/401)
[فرع شهدا على رجل أنه طلق بائنا فطلقت زوجته ثم رجعا]
وإن شهد رجلان على رجل: أنه طلق امرأته طلاقا بائنا، وحكم الحاكم عليه بالطلاق، ثم رجعا عن الشهادة.. نظرت: فإن كان بعد الدخول.. رجع الزوج عليهما بمهر مثلها، على كل واحد منهما بنصف مهر مثلها. وبه قال ربيعة وعبيد الله بن الحسن العنبري. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يرجع عليهما بشيء) .
دليلنا: أنهما أتلفا عليه بضعها، فوجب عليهما مهر مثلها، كما لو كان قبل الدخول.
فإن كان ذلك قبل الدخول.. وجب عليهما الضمان؛ لأنهما أتلفا عليه بضعها، وبكم يرجع عليهما؟
روى المزني: (أنه يرجع عليهما بجميع مهرها) ، وروى الربيع: (أنه يرجع عليهما بنصف مهر مثلها) . واختلف أصحابنا فيها على طريقين:
فـ[الأول] : منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يرجع عليهما بنصف مهر مثلها - وهو اختيار القاضي أبي الطيب - لأن الفرقة إذا وقعت قبل الدخول.. فالزوج مالك لنصف البضع؛ بدليل: أنه لا يلزمه إلا نصف المهر، فكأنهما لم يتلفا عليه إلا بنصف البضع، فلم يلزمهما أكثر من قيمة نصف مهر مثلها.
والثاني: يلزمهما جميع مهر مثلها - وهو اختيار الشيخ أبي حامد - لأن ملك الزوج على البضع قبل الدخول كملكه عليه بعد الدخول؛ بدليل: أنه يملك المعاوضة عليه قبل الدخول كما يملك ذلك بعد الدخول، فلما ثبت أنهما إذا شهدا عليه بعد الدخول وجب عليهما مهر مثلها.. فكذلك قبل الدخول.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:(13/402)
فحيث قال: (يرجع عليهما بجميع مهر مثلها) أراد: إذا كان قد سلم إليها جميع مهرها، ثم شهدا عليه بالطلاق.
وحيث قال: (يرجع عليهما بنصف مهر مثلها) أراد: إذا لم يسلم إليها شيئا من المهر، ثم شهدا عليه بالطلاق قبل الدخول.
والفرق بينهما: أنه إذا سلم إليها صداقها، ثم شهدا عليه بالطلاق.. فهو يقول: هي زوجتي وقد سلمت إليها ما تستحقه، ولا أستحق الرجوع عليها بشيء مما سلمته إليها؛ فلذلك استحق الرجوع على الشاهدين بجميع مهر مثلها، وإذا لم يسلم إليها صداقها؛ فالزوجة تقول: قد وقعت الفرقة بيننا قبل الدخول، فلا أستحق عليه إلا نصف المهر المسمى، فلا يغرم الزوج غير ذلك، فلا يرجع على الشاهدين إلا بقدر ذلك من مهر المثل.
والصحيح هو الطريق الأول؛ لأن الاعتبار بما أتلف الشاهدان على الزوج من البضع لا بما سلمه الزوج؛ بدليل: أنه إنما يرجع عليهما بمهر المثل أو بنصفه، ولا اعتبار بالمسمى.
[فرع ادعت نكاحه ودخوله وطلاقه فأنكر ذلك وشهد لها شهود فغرم ثم رجعوا]
وإن ادعت امرأة على رجل: أنه نكحها ودخل بها فطلقها ومهر مثلها ألفان، فأنكر الزوج النكاح والإصابة والطلاق، فشهد عليه شاهدان بالنكاح، وآخران بإقراره بالإصابة، وآخران بالطلاق، فحكم عليه الحاكم بذلك كله، ثم رجع جميع الشهود.. قال ابن الحداد: يرجع الزوج على شاهدي الطلاق؛ لأنهما حالا بشهادتهما بينه وبين بضعها وأتلفاه عليه.
فمن أصحابنا من خطأه في ذلك وقال: لا يرجع عليهما بشيء؛ لأنه منكر للنكاح والإصابة، فصار مقرا بأنه لم يملك بضعها، وإذا لم يملك بضعها.. فلم يتلف عليه شاهدا الطلاق شيئا؛ فلم يرجع عليهما بشيء.(13/403)
[فرع شهدا عليه بطلاق زوجته قبل الدخول ففرق بينهما ثم رجعا عن الشهادة]
وإن شهد عليه رجلان: أنه طلق امرأته قبل الدخول، وكان قد فرض لها صداقا، ففرق الحاكم بينهما وألزمه نصف المسمى، ثم رجع شاهدا الطلاق عن شهادتهما، ثم قامت بينة أنها ابنته أو أخته من الرضاع.. قال ابن الحداد: فإنه لا يجب على شاهدي الطلاق له شيء؛ لأنا تبينا أنه لم يكن بينهما نكاح، ويجب عليها أن ترد على الزوج ما أخذت منه؛ لأنا تبينا أن ذلك غير واجب عليه.
وإن شهدا عليه بالطلاق قبل الدخول ولم يكن الزوج فرض لها مهرا، فحكم الحاكم بالفرقة وألزم الزوج المتعة، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما.. فإن الزوج لا يرجع بما دفع من المتعة عليهما؛ لأنه لا يرجع بما غرم، وإنما يرجع عليهما بقيمة البضع، وفي قدر ذلك طريقان، مضى ذكرهما.
فإذا طلقها قبل الدخول وكان قد فرض لها مهرا.. قال ابن الحداد: وإن شهدا عليه أنه طلق امرأته على ضمان ألف ومهر مثلها ألفان، ثم رجعا عن الشهادة.. فإنه يرجع عليهما بألف وهو تمام مهر المثل.
[فرع شهدا على طلاق رجعي فحكم بشهادتهما ثم رجعا]
وإن شهد رجلان على رجل بطلاق رجعي، فحكم بشهادتهما، ثم رجعا عن شهادتهما.. فحكى ابن الصباغ فيها وجهين:
أحدهما: يرجع عليهما بما يرجع عليهما بالطلاق البائن؛ لأن الطلاق يزيل ملكه عنها بانقضاء العدة.
والثاني: لا يرجع عليهما بشيء؛ لأنه يمكنه تلافي ذلك بالرجعة، وإنما تبين باختياره.
[فرع شهدا على امرأة بنكاح فحكم به ثم رجعا]
وإن شهد رجلان على امرأة بنكاح لرجل، فحكم الحاكم عليها بالنكاح، ثم رجع(13/404)
الشاهدان.. فقد قال بعض أصحابنا: إن كان قبل الدخول.. لم ترجع عليهما بشيء، وإن كان بعد الدخول.. غرما ما نقص من المسمى عن مهر مثلها.
فال ابن الصباغ: وينبغي أن يقال: إن كان قبل الدخول.. رجعت على الشهود - إن كان المهر المسمى دون مهر المثل - ببقيته.
[فرع شهد رجل وعشر نسوة على رضاع بين زوجين ثم حصل رجوع]
وإن شهد رجل وعشر نسوة على رجل: أن بينه وبين زوجته رضاعا يحرم فحكم الحاكم بالفرقة بينهما، ثم رجع الرجل وسبع نسوة.. قال ابن الحداد: فإن الزوج يرجع على الراجعين بربع مهر مثلها؛ لأنه انخرم ربع البينة وبقي ثلاثة أرباعها. وعلى قول المزني في ((المنثور)) وأبي إسحاق المروزي: يجب على الراجعين ثلاثة أرباع مهر مثلها، على الرجل سهمان، وعلى كل امرأة سهم.
وإن رجع الرجل وست نسوة.. فعلى قول ابن الحداد: لا شيء على الراجعين. وعلى قول المزني وأبي إسحاق: يرجع عليهم بثلثي مهر المثل.
وإن رجع الرجل: قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول ابن الحداد.. لا يجب على الراجع شيء؛ لأن البينة قائمة. وعلى قول المزني وأبي إسحاق.. يرجع عليه بسدس مهر مثلها.
[مسألة رجوع الشهود عن مال الرجل]
وإن كان المشهود به مالا؛ بأن شهدا عليه بمال لرجل وحكم الحاكم بالشهادة، ثم رجع الشهود عن الشهادة.. فقد ذكرنا: أن الحكم لا ينقض، ولا يجب على المشهود(13/405)
له رد ما أخذ، وهل يجب على الشهود الضمان؟ نقل المزني: (أنه لا ضمان عليهم) .
وقال فيمن أقر بدار في يده لزيد، ثم أقر بها لعمرو: إنها تسلم إلى زيد، وهل يغرم لعمرو شيئا؟ فيه قولان. واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: لا يجب على الشهود في المال إذا رجعوا الضمان قولا واحدا؛ لأن أيديهم لم تثبت على المال، فلم يلزمهم غرم بخلاف المقر؛ فإن يده ثبتت على الدار. وقال أكثرهم: فيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليهم الضمان؛ لما ذكرناه.
والثاني: يلزمهم الضمان - وبه قال مالك وأبو حنيفة - وهو الأصح؛ لأنهم حالوا بين المشهود عليه وبين ماله بغير حق فلزمهم الضمان، كما لو غصبوه منه.
وما قاله الأول.. غير صحيح؛ لأن المال قد يضمن بغير اليد والإتلاف، وهو: إذا حفر بئرا في طريق الناس، فوقع فيها بهيمة أو عبد لرجل.. فإنه يجب على الحافر ضمانه.
فإذا قلنا بهذا: فإن شهد رجلان عليه بمال، فحكم الحاكم بشهادتهما عليه، ثم رجعا عن الشهادة.. وجب الضمان عليهما نصفين.
وإن رجع أحدهما دون الآخر.. وجب على الراجع نصف المشهود به عليه.
وإن شهد عليه ثلاثة رجال بمال، وحكم الحاكم بشهادتهم، ثم رجع واحد منهم وبقي اثنان.. لم يجب عليه الضمان على قول ابن الحداد، وعلى ما حكاه المزني في ((المنثور)) وقول أبي إسحاق: يجب عليه ضمان ثلث المشهود به.
فإن رجع اثنان منهم وبقي الثالث.. رجع عليهما على قول ابن الحداد بضمان نصف المشهود به، وعلى ما حكاه المزني في ((المنثور)) وقول أبي إسحاق: يرجع عليهما بضمان ثلثيه.
وإن رجع الثلاثة كلهم.. رجع عليهم بالمشهود به بينهم أثلاثا.(13/406)
[فرع شهد أربعة على رجل بمال فحكم بها ثم رجعوا واحدا بعد واحد]
وإن شهد أربعة رجال على رجل بأربعمائة درهم وحكم الحاكم بشهادتهم، ثم رجع واحد منهم عن مائة، ورجع الثاني عن مائتين، ورجع الثالث عن ثلاثمائة، ورجع الرابع عن أربعمائة.. فعلى ما حكاه المزني وقول أبي إسحاق: يلزم كل واحد منهم بحصته مما رجع عنه؛ فيلزم الراجع عن مائة خمسة وعشرون درهما، ويلزم الراجع عن مائتين خمسون، ويلزم الراجع عن ثلاثمائة خمسة وسبعون، ويلزم الراجع عن أربعمائة مائة.
وعلى قول ابن الحداد: لا يرجع عليهما بمائتين؛ لأن البينة قائمة فيهما، فإذا رجع الأول والثاني.. لا يرجع عليهما بشيء بنفس رجوعهما، فإذا رجع على الثالث والرابع.. فإن البينة قائمة في مائتين، وقد رجع الأربعة عن مائة، فيجب على الأربعة على كل واحد منهم ربعها، وقد رجع الثاني والثالث والرابع من المائة الثانية وبقي فيها الأول شاهدا، وكم يجب على الثاني والثالث والرابع من المائة التي رجعوا بها، فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يرجع عليهم بثلاثة أرباعها؛ لأنها لزمته بشهادة أربعة، وقد بقي منهم واحد ثابتا على الشهادة.
والثاني: يجب عليهم نصفها؛ لأنه لم ينخرم إلا نصف البينة التي يلزم بها الحق.
[فرع شهد رجل وامرأتان أو أكثر على رجل بمال فحكم بها ثم رجعوا]
وإن شهد رجل وامرأتان على رجل بمال، فحكم الحاكم بشهادتهم، ثم رجعوا عن الشهادة.. وجب على الرجل ضمان النصف وعلى المرأتين ضمان النصف؛ لأن شهادة الرجل كشهادة المرأتين.
وإن شهد رجل وعشر نسوة بمال، فحكم بشهادتهم، ثم رجعوا عن الشهادة.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس وأبي يوسف -: أنه يجب على الرجل ضمان(13/407)
النصف وعلى النساء ضمان النصف؛ لأن النساء لا يحكم بشهادتهن بانفرادهن في المال، وإنما يحكم بشهادتهن في ذلك مع الرجل، فدل على أنهن حزب والرجل حزب، فوجب عليهن ضمان النصف وعلى الرجل ضمان النصف.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا، وبه قال أبو حنيفة -: أنه يجب على الرجل ضمان السدس وعلى النسوة ضمان خمسة أسداس.
وهو الأصح؛ لأن شهادة كل امرأتين بشهادة رجل، فهو كما لو شهد بالمال ستة رجال، ثم رجعوا.
فإن رجع ثمان نسوة.. لم يجب عليهن شيء على قول ابن الحداد، وعلى قول المزني وأبي إسحاق: يجب عليهن ثلثا المال.
وإن رجع منهن تسع.. وجب على التسع على قول ابن الحداد ربع المال، وعلى قول أبي إسحاق: يجب ثلاثة أرباع المال.
[فرع حكم بشهادة الفرع ثم رجع شاهدا الأصل]
وإن شهد شاهدان على شهادة رجلين بحق، فشهد شاهد الفرع بالحق، وحكم الحاكم بشهادتهما، فاعترف شاهدا الأصل: أنهما ادعياهما وأنهما رجعا عن الشهادة، وإنما ادعياهما لزور.. فإن الضمان يجب على شاهدي الأصل عندنا، وبه قال أبو حنيفة. وقال محمد: يجب الضمان على شاهدي الفرع.
دليلنا: أن الحق إنما يثبت بشهادة شاهدي الأصل، وشاهدا الفرع إنما يثبتان شهادتهما، فإذا رجعا.. لزمهما الضمان، كما لو شهدا بها عند الحاكم فحكم بها، ثم رجعا.
[فرع رجوع الشهود وتعزيرهم وماذا عن قبول شهادتهم]
وإذا شهد الشهود بحق ثم رجعوا.. فهل يعزرون؟ ينظر فيهم:
فإن وجب عليهم عند رجوعهم قصاص في نفس أو طرف.. لم يعزروا؛ لأن التعزير للردع، والذي يفعل بهم أبلغ من التعزير بالردع.(13/408)
وإن لم يلزمهم قصاص، وإنما لزمهم مال.. نظرت: فإن ذكروا أنهم أخطؤوا في الشهادة.. لم يعزروا؛ لأنهم معذورون في الخطأ، وإن قالوا: تعمدنا.. عزروا؛ لأنهم أقروا بارتكاب كبيرة مع العلم بها فاستحقوا التعزير.
وهل تقبل شهادتهم بعد رجوعهم؟
أما في الذي رجعوا عنه: فلا تقبل شهادتهم فيه بحال؛ لأنهم قد رجعوا عن الشهادة فيه.
وأما في غيره: فينظر فيه: فإن قالوا: تعمدنا الشهادة بالزور عليه.. لم تقبل شهادتهم إلا بعد التوبة والإصلاح، كما قلنا في شهادة الزور. وإن قالوا: أخطأنا.. قبلت شهادتهم في غيره؛ لأنهم معذورون في الخطأ، فلا تسقط به عدالتهم.
[مسألة موت الشهود أو طرو جنون أو إغماء]
أو فسق عليهم] :
وإذا شهد الشهود بحق، ثم ماتوا قبل أن يعرف الحاكم عدالتهم، ثم قامت البينة بعدالتهم بعد موتهم، أو ماتوا بعد ثبوت عدالتهم وقبل الحكم بشهادتهم، أو جنوا قبل ثبوت عدالتهم ثم ثبتت عدالتهم بعد جنونهم، أو جنوا بعد ثبوت عدالتهم وقبل الحكم بشهادتهم.. فللحاكم أن يحكم بشهادتهم في جميع ذلك؛ لأن الموت أو الجنون ليس بفسق، فلم يورث ذلك شكا في شهادتهم، فجاز الحكم بها، كما لو كانوا أحياء عقلاء.
وكذلك: إذا أغمي عليهم أو ارتدوا أو خرسوا أو عموا.. فإنه يجوز الحكم بشهادتهم.
وقال أبو حنيفة: (إذا عموا قبل الحكم بشهادتهم.. لم يجز الحكم بشهادتهم) .
وقد مضى ذلك والدليل عليه.
وأما إذا شهد الشهود بحق، ثم فسقوا قبل الحكم بشهادتهم.. لم يجز الحكم بشهادتهم؛ لأن الفسق إذا ظهر قبل الحكم.. أوقع شكا في العدالة حال الشهادة؛ لأن العادة في الناس أنهم يستترون في المعاصي ويظهرون الطاعات، فإذا ظهر الفسق.. دل على تقدم أمثاله، فلم يجز الحكم بشهادتهم.(13/409)
وإن شهد الشهود بحق، فحكم الحاكم بشهادتهم واستوفى ذلك الحق، ثم فسق الشهود. لم يؤثر الفسق، سواء كان ذلك الحق لله تعالى أو للآدمي؛ لأن الحق قد استوفى والفسق ظهر بعد استيفاء الحق، فيجوز أن يكونوا فساقا حال الشهادة، ويجوز أن يكونوا عدولا، وقد استوفى الحق ونفذ فلا ينقض بأمر محتمل.
وإن فسق الشهود بعد الحكم وقبل استيفاء الحق، فإن كان الحق له تعالى كحد الزنى والسرقة والشرب.. لم يستوف؛ لأنها تسقط بالشبهة، والفسق يوقع شكا في حال الشهادة.
وإن كان الحق لآدمي.. نظرت: فإن كان حقا لا يسقط بالشبهة؛ كالمال والنكاح.. فله استيفاؤه؛ لأن الحكم قد نفذ فلا ينقض بأمر محتمل. وإن كان مما يسقط بالشبهة، كالحد والقصاص.. ففيه وجهان - حكاهما ابن الصباغ -:
أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه لا يجوز استيفاؤه؛ لأن ذلك ما يسقط بالشبهة، والفسق شبهة، فلم يجز استيفاؤه بعد فسق الشهود، كحد الزنى.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: أن له استيفاؤه؛ لأنه حق لآدمي فلم يمنع فسق الشهود بعد الحكم به من استيفائه كالديون.
[مسألة قضية نقض الحكم بسبب بيان أن الشهود ممن لا تصح شهادتهم]
وإذا حكم الحاكم بشهادة رجلين، ثم بان أنهما عبدان أو كافران.. فإنه ينقض حكم نفسه وينقضه غيره؛ لأنه إنما حكم بشهادة من يعتقدهما حرين مسلمين، فأما إذا بانا عبدين أو كافرين.. فقد تحقق أنه حكم بشهادة من لا يجوز الحكم بشهادته فنقضه، كما لو حكم بحكم ثم وجد النص بخلافه.
فإن قيل: كيف ينقض حكم من حكم بشهادة عبدين وقد ذهب إلى جواز شهادة العبيد بعض السلف؟ قلنا: عنه جوابان:(13/410)
أحدهما: أن الإجماع قد حصل بعد الاختلاف على رد شهادة العبيد، فيرتفع الاختلاف ويصير إجماعا.
والثاني: أن من قال بقبول شهادة العبيد يخالف القياس الجلي؛ لأنه لا يجوز أن يكون الرق مانعا عن الميراث والولاية والرجم ولا يكون مانعا من قبول الشهادة، وكل حكم خالف القياس الجلي.. فإنه ينقض.
فأما إذا حكم الحاكم بشهادة رجلين ظاهرهما العدالة ثم شهد شاهدان أنهما فاسقان:
فإن شهدا بفسق مطلق غير مضاف إلى حال الشهادة، أو شهدا بفسق حادث بعد الحكم والاستيفاء.. لم ينقض الحكم بشهادتهما.
وإن شهدا بفسقهما حال شهادتهما بالحق الذي شهد به.. فقد قال الشافعي في موضع: (ينقض الحكم بشهادتهما) . وقال في موضع: (إن الحاكم ينظر المشهود عليه بجرح الشهود ثلاثا فإن أتى بالجرح بعده.. لم يقبله) وهذا يدل على أنه إذا أقام البينة بفسقهم بعد الحكم.. لا يقبله، واختلف أصحابنا فيها على طريقين:
فـ[الطريق الأول] : قال أبو العباس: فيها قولان:
أحدهما: لا ينقض الحكم بشهادتهما - وبه قال أبو حنيفة - لأن عدالتهما عرفت من طريق الاجتهاد، وعدالة الشاهدين اللذين شهدا بفسقهما علمت من طريق الاجتهاد، فلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد.
والثاني: ينقض الحكم بشهادتهما، وهو الأصح؛ لأنه لو بان رقهما.. لنقض الحكم بشهادتهما، ولا نص في رد شهادة العبد ولا إجماع، فلأن ينقض الحكم بشهادتهما إذا بانا فاسقين وقد ثبت النص برد شهادة الفاسق والإجماع أولى.
فأما النص: فقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [الطلاق: 2] .(13/411)
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] [الحجرات: 6] . فأمر بالتبين في نبأ الفاسق وهو خبره، والشهادة خبر فوجب ردها.
وأما الإجماع: فإن أحدا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم لم يجز شهادة الفاسق.
و [الطريق الثاني] : قال أبو إسحاق: ينقض الحكم بشهادتهما قولا واحدا؛ لما ذكرناه. وحيث قال: (إذا أتى المشهود عليه بالجرح.. لم يقبل) أراد: إذا كان الفسق حادثا، أو كانت الشهادة بفسقهما مطلقة غير مضافة إلى حال الشهادة.
إذا ثبت هذا، وقلنا: ينقض الحكم بشهادة الفاسق، أو بانا عبدين أو كافرين.. فلا يخلو المحكوم به: إما أن يكون إتلافا أو مالا.
فإن كان إتلافا، مثل الشهادة بما يوجب القتل فقتل، أو بما يوجب القطع فقطع.. فلا يجب الضمان على الشاهدين؛ لأنهما مقيمان على أنهما صادقان في الشهادة، وإنما الشرع منع من قبول شهادتهما. ويخالف إذا رجعا عن الشهادة؛ لأنهما اعترفا بالكذب، ولا يجب على المشهود له ضمان؛ لأنه يقول: استوفيت حقي، ويجب الضمان على الحاكم؛ لأنه حكم بذلك بشهادة من لا يجوز الحكم بشهادته.
وقال أبو سعيد الإصطخري: هذا إذا كان الحاكم تولى الاستيفاء بنفسه، أو أمر من تولى ذلك، فأما إذا كان الولي استوفاه بأمر الحاكم.. فالضمان على الولي.
والمذهب الأول؛ لأن الحاكم سلطة على ذلك وأجازه له.
وقال أبو حنيفة: (يجب الضمان على المزكيين) .
دليلنا: أن المزكيين يقولان: ما ثبت بشهادتنا شيء وإنما شهدنا بصفة، والحكم إنما وقع بشهادة الشاهدين، فلا يلزمنا الضمان، وإنما وجب على الحاكم الضمان؛ لأنه مفرط حيث حكم بشهادة من لا يعرف عدالته ظاهرا وباطنا.(13/412)
إذا ثبت هذا: فإن القصاص لا يجب على الحاكم؛ لأنه مخطئ، وتجب عليه الدية، وهل تجب على عاقلته أو في بيت المال؟ على قولين، مضى ذكرهما.
وإن كان المحكوم به مالا، فإن كان المحكوم به باقيا في يد المحكوم له.. وجب عليه رده.
وإن كان تالفا، فإن كان المحكوم له موسرا.. غرمه، وإن كان معسرا.. وجب ضمانه على الحاكم، وهل يجب في ماله أو في بيت المال؟ على قولين. ولا يمكن إيجابه على العاقلة؛ لأن العاقلة لا تحمل المال.
فإذا غرم الحاكم المال.. كان المال ثابتا في ذمة المشهود له، فإذا أيسر.. غرم الحاكم أقل الأمرين: مما دفع أو الحق المشهود به.
والفرق بين المال وإتلاف النفس والعضو: أن المال يضمن بالإتلاف واليد، وقد حصل المال في يد المشهود له فلزمه ضمانه، وضمان النفس والعضو إنما يجب إذا أتلف بغير حق، وتمكين الحاكم المشهود له من إتلاف ذلك.. أخرج إتلافه عن أن يكون إتلافا بغير حق، فلم يلزمه الضمان.
[مسألة حكم الحاكم لا يحيل الأمور]
حكم الحاكم لا يحيل الأمور عما هي عليها، فإذا ادعى رجل على رجل حقا، فأنكر المدعى عليه، وأقام المدعي شاهدين وحكم الحاكم بشهادتهما، فإن كانا قد شهدا بحق.. صح الحكم ظاهرا وباطنا وحل للمشهود له ذلك.
وإن شهدا بغير حق، أو حكم له الحاكم بشيء بيمين فاجرة.. فإن الحكم ينفذ في الظاهر، ولا ينفذ في الباطن، ولا يحل للمحكوم له ما حكم له به. وبه قال شريح ومالك وأبو يوسف ومحمد وأكثر أهل العلم.(13/413)
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (حكم الحاكم يحيل الشيء عما هو عليه في الباطن، فإذا ادعى رجل على امرأة أجنبية أنها زوجته فأنكرت، فشهد بذلك شاهدان أنها زوجته وهما شاهدا زور، فحكم له الحاكم بشهادتهما.. فإن الحكم ينفذ ظاهرا وباطنا، وتحل له المرأة.
وهكذا: إذا ادعت امرأة على زوجها أنه طلقها فأنكر، فأقامت على طلاقها شاهدي زور، وحكم الحاكم بشهادتهما.. بانت منه، وحل لكل واحد من الشاهدين أن يتزوجها ولو كان عالما أنه لم يطلقها. وكذلك ما أشبه ذلك) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأنا أقضي بما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء.. فلا يأخذ به؛ فإنما أقطع له قطعة من النار» .
فموضع الدليل منه: قوله: «فمن قضيت له من حق أخيه بشيء.. فلا يأخذه» ، وحق أخيه قد يكون مالا وقد يكون طلاقا ونكاحا، فلو كان حكمه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يغير الشيء عما هو عليه في الباطن.. لم يمنع المحكوم له من أخذه.
وروي: «أن سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة ادعيا على وليدة زمعة، فقال سعد: يا رسول الله، إن أخي عتبة عهد إلي أنه ألم بها في الجاهلية، وأن ولدها ابنه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" ثم رأى به شبها بعتبة، فقال لسودة بنت زمعة: "احتجبي عنه يا سودة» وقد كان حكم بأنه أخوها، فلما رأى به شبها بالزاني.. أمرها أن تحتجب عنه، فلو كان حكم الحاكم يغير الشيء عما هو عليه في الباطن.. لما أمرها بالاحتجاب عنه، ولأنه حكم بسبب غير صحيح في الباطن، فوجب أن لا ينفذ الحكم به في الباطن، كالأموال.
والله أعلم وبالله التوفيق(13/414)
[كتاب الإقرار](13/415)
كتاب الإقرار الحكم يتعلق بالإقرار، والأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله {أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] [آل عمران: 81] وقَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] [التوبة: 102] وقَوْله تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] [الأعراف: 172] .
وأما السنة: فروي: أن ماعزا والغامدية أقرا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا، فأمر برجمهما وقال: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمهما» .
وأما الإجماع: فلا خلاف بين الأمة في تعلق الحكم بالإقرار.
وأما القياس: فلأن الإقرار آكد من الشهادة؛ لأنه لا يتهم فيما يقر به على نفسه، فإذا تعلق الحكم بالشهادة.. فلأن يتعلق بالإقرار أولى.(13/417)
إذا ثبت هذا: فهل يجب الإقرار؟ ينظر في الحق المقر به:
فإن كان لآدمي، أو حقا لله تعالى لا يسقط بالشبهة - كالزكاة والكفارة - ودعت الحاجة إلى الإقرار به.. لزمه الإقرار به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] [النساء: 135] ، ولا يكون شهيدا على نفسه إلا بالإقرار.
وإن كان حقا لله تعالى يسقط بالشبهة - كحد الزنا والسرقة والشرب - ولم يظهر عليه.. لم يجب عليه أن يقر به، بل يستحب له أن يكتمه، وقد مضى بيان ذلك.
[مسألة يجوز الإقرار إلا من مكلف]
مسألة: [لا يجوز الإقرار إلا من مكلف] :
قال الشافعي: (ولا يجوز الإقرار إلا من بالغ رشيد) .
وجملة ذلك: أن الناس على ضربين: مكلف وغير مكلف.
فأما (غير المكلف) : فهو الصبي والمجنون، فلا يصح إقرارهما بحق من الحقوق.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الصبي مميزا.. صح إقراره إذا أذن الولي له بالبيع والشراء، فيصح إقراره به) .
دليلنا: أنه لا يصح منه ذلك، وقد مضى.
فإن أقر مراهق وادعى أنه غير بالغ، وادعى المقر له أنه بالغ.. لم نحكم بصحة إقراره حتى يقيم المقر له البينة على بلوغه؛ لأن الأصل عدم بلوغه. فإن سأله المقر له أن يحلف له.. لم يتوجه عليه اليمين؛ لأنا حكمنا أنه غير بالغ. فإذا ثبت بلوغه بعد ذلك وادعى المقر له أنه كان بالغا وقت إقراره له وسأله أن يحلف له بعد بلوغه.. توجهت عليه اليمين؛ لأنه قد صار بالغا.
ولا يصح إقرار المكره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولأن المكره غير داخل في التكليف. ولا يصح إقرار المغمى عليه؛ لأنه غير مكلف.
وأما (المكلف) : فعلى ضربين: محجور عليه وغير محجور عليه.
فأما (غير المحجور عليه) فإقراره صحيح.(13/418)
قال ابن الصباغ: سواء كان عدلا أو فاسقا؛ لأنه غير متهم في حق نفسه.
فإن أقر السكران في حال سكره.. فهل يصح منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه زائل العقل، فلم يصح إقراره كالمغمى عليه.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي قال: (ولو شرب خمرا أو نبيذا فسكر، فأقر في حال سكره.. لزمه ما أقر به) .
وإن أكره رجل على شرب خمر فشربها حتى زال عقله ثم أقر.. لم يلزمه إقراره وجها واحدا؛ لأنه معذور في ذهاب عقله.
وأما (المحجور عليه) : فعلى أربعة أضرب: ضرب محجور عليه للفلس، ومحجور عليه للسفه، ومحجور عليه للرق، ومحجور عليه للمرض.
فأما (المحجور عليه للفلس) : فإن أقر بحق يتعلق ببدنه أو بذمته.. صح؛ لأنه لا ضرر على الغريم بذلك، وهل يشارك المقر الغرماء بالدين؟ على قولين مضى بيانهما في (التفليس) .
وإن أقر بعين في يده.. فهل يقبل إقراره على الغرماء؟ على القولين.
وأما (المحجور عليه للسفه) : فيقبل إقراره فيما يتعلق ببدنه، ولا يقبل إقراره بالمال، وقد مضى ذلك في (الحجر) .
وأما (المحجور عليه للرق) فإقراره مقبول فيما يتعلق ببدنه، ولا يقبل إقراره بالمال في حق سيده، لكن إذا عتق.. طولب به، وقد مضى بيان ذلك في (الحدود) .
[فرع اعترف بأنه باع عبده من نفسه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أقر أنه باع عبده من نفسه بألف، فصدقه(13/419)
العبد.. عتق والألف عليه، وإن أنكر. فهو حر والسيد مدع والعبد منكر)
وجملة ذلك: أن السيد قال لعبده: بعتك نفسك بألف، فقال العبد: قبلت.. فنقل المزني: (أنه يصح ويعتق، فيجب عليه الألف) ، قال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه لا يصح) واختلف أصحابنا فيه: فذهب أكثرهم أنها على قولين.
أحدهما: لا يصح البيع؛ لأن البيع لا بد أن يكون الثمن فيه عينا أو دينا، والعبد لا يملك العين، والدين لا يثبت في ذمته لسيده، فيكون كالكتابة الفاسدة.
الثاني: يصح البيع، وهو الصحيح؛ لأنه لو قال له: إن ضمنت لي ألفا فأنت حر، فقال العبد على الفور: ضمنت.. صح ذلك وعتق، ووجب عليه المال. وكذلك: إذا قال له: أنت حر على ألف، فقبل العبد على الفور.. عتق ووجب المال في ذمته، وشراؤه لنفسه إنما هو من ضمانه المال في مقابلة الحرية؛ لأن الإنسان لا يملك نفسه وإنما ذلك عبارة عن إسقاط حق الرق عنه، فجرى مجرى عتقه على مال.
وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة: يصح البيع قولا واحدا؛ لما ذكرناه.
إذا ثبت هذا: فادعى السيد أنه باعه نفسه بألف، وقلنا: يصح البيع، فإن صدقه العبد.. عتق وثبت الألف في ذمته. وإن أنكره العبد ولا بينة للسيد.. حلف العبد: أنه ما اشترى نفسه ولم يجب عليه شيء، وعتق بإقرار سيده. وهكذا الحكم إذا قال رجل لحر: بعتك ولدك أو والدك، فأنكر المدعى عليه.. فإنه يحلف ويسقط عنه الثمن ويعتق العبد بإقرار سيده.
[فرع إقرار المحجور عليه لمرض بحق]
وأما (المحجور عليه لمرض) فإن أقر بحق يتعلق ببدنه؛ كالحدود والقصاص.. قبل: لأنه لا ضرر على الورثة بذلك. وإن أقر بدين أو عين لغير الورثة.. قبل: لأنه غير متهم. وإن أقر بدين في صحته وبدين في مرضه واتسع ماله للجميع.. قسم بينهم، وإن ضاق ماله.. فإنه يقسم بينهم على قدر ديونهم. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (يقدم الدين المقر به في الصحة) .
وحكى أبو زيد المروزي عن بعض أصحابنا: أنه قول للشافعي. وليس بمشهور؛(13/420)
لأنهما دينان ثبتا في ذمته ولم يختص أحدهما برهن، فاستويا في حق من وجب عليه، كما لو أقر بالجميع في الصحة أو في المرض.
وإن أقر في مرض موته لوارثه.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فمن أجاز الإقرار لوارثه.. أجازه، ومن أبى.. رده) واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يصح - وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد - لأنه محجور عليه في حق غيره، ومن كان محجورا عليه في حق إنسان.. لم يصح إقراره له، كالصبي في حق جميع الناس.
والثاني: يصح إقراره له. وبه قال الحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو عبيد، وأبو ثور.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: وهو الأصح؛ لأنه يصح إقراره بوارث، فصح إقراره للوارث، كالصحيح. ولأنه يصح إقراره لغير الوارث، فصح إقراره للوارث، كالأجنبي.
وقال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني: يصح إقراره له قولا واحدا - كما ذكرناه - والقول الآخر حكاه عن غيره.
فإذا قلنا: يصح إقراره للوارث.. فلا تفريع عليه.
وإن قلنا: لا يصح إقراره للوارث.. فالاعتبار بالوارث كونه وارثا حال موت المقر دون حال الإقرار. فإن أقر لأخيه في مرض موته، ثم حدث له ابن قبل موته.. قبل إقراره لأخيه. وإن أقر لأخيه وله ابن، فمات ابنه قبله وصار الأخ وارثا له.. لم يصح إقراره له. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: هل الاعتبار في الإقرار بكونه وارثا حال موت المقر، أو حال إقراره؟ فيه قولان. المشهور: أن الاعتبار بكونه وارثا عند الموت؛ لأن ما يرد لأجل الورثة إنما هو حال الموت كالوصية.(13/421)
قال الشيخ أبو إسحاق: وإن ملك رجل أخاه، ثم أقر في مرض موته: أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته.. نفذ عتقه، وهل يرث؟
فإن قلنا: الإقرار للوارث لا يصح.. لم يرثه؛ لأن توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته، وإذا بطلت الحرية.. سقط الإرث، فتثبت الحرية وسقط الإرث.
وإن قلنا: الإقرار للوارث يصح.. نفذ العتق بإقراره، وثبت الإرث بنسبه.
فإن أقر المريض: أنه أعتق عبدا في صحته، وكان عليه دين يستغرق تركته.. صح إقراره وحكم بعتقه؛ لأن الإقرار ليس بإيقاع للعتق، وإنما هو إخبار بما تقدم وقوعه.
[مسألة إقرار من ثبت له الحق الذي أقر به إذا لم يكذبه المقر له]
مسألة: [صحة إقرار من ثبت له الحق الذي أقر به إذا لم يكذبه المقر له] :
يصح الإقرار لكل من ثبت له الحق المقر به، فإذا أقر رجل لحر بحق في ذمته أو في يده أو في بدنه.. صح إقراره، ولا نعتبر فيه قبول المقر له، وإنما يعتبر فيه تصديقه له أو سكوته، فإن كذبه المقر له.. بطل إقراره.
فإن كان المقر به دينا في ذمته أو حقا في يديه، وكذبه المقر له.. لم يلزم المقر شيء. وإن كان المقر به عينا.. ففيه وجهان.
أحدهما: يأخذها الحاكم من المقر إلى أن يأتي من يدعيها ويقيم عليها البينة؛ لأن المقر والمقر له لا يدعيانها، فكان على الحاكم حفظها كالمال الضائع.
والثاني: يقر في يد المقر؛ لأنه محكوم له بملكها باليد، فإذا أقر بها لغيره وكذبه المقر له.. بقيت على ملكه بحكم اليد.
فإن أقرت المرأة لعبد بالنكاح، أو أقر له رجل بالقصاص أو تعزير القذف.. ثبت له ذلك بتصديقه، ولا يعتبر فيه تصديق السيد؛ لأن الحق للعبد في ذلك دون السيد.
وإن أقر له بمال.. فذكر الشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: إنه يملك المال.. صح الإقرار له، وإن قلنا: لا يملك.. كان الإقرار لمولاه، يلزم بتصديقه ويبطل برده.(13/422)
وذكر ابن الصباغ: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال في الإقرار بالحكم الظاهر: (إذا قال: لعبد فلان عندي ألف درهم.. كان ذلك إقرارا صحيحا لسيده، سواء كان مأذونا له في التجارة أو غير مأذون له؛ لأن غير المأذون له يثبت له المال بالوصية) .
وإن قال: لهذه الدار أو لهذه البهيمة ألف.. لم يصح إقراره.
وإن قال: لمالك هذه الدابة بسببها ألف درهم.. كان إقراره بذلك صحيحا، ويحمل على أنه جنى عليها. وإن قال: له ألف بسبب حملها.. لم يصح؛ لأن الحمل لا يجب بسببه شيء ما دام حملا، فإذا قال: بسبب ولدها.. لزمه.
[مسألة الإقرار لحمل امرأة]
وإن أقر لحمل امرأة بمال.. فلا يخلو من ثلاثة أحوال:
إما أن يضيف ذلك إلى جهة صحيحة، أو يطلق، أو يضيف إلى جهة باطلة.
فإن أضاف ذلك إلى جهة صحيحة؛ بأن قال: عندي له كذا من ميراث أو وصية له.. صح الإقرار؛ لأن الحمل يملك بالإرث والوصية.
وإن أطلق؛ بأن قال: له عندي كذا.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح الإقرار - وبه قال أبو يوسف - لأن الحمل لا يملك المال إلا من جهة الإرث والوصية، فإذا لم يضف الإقرار إلى ذلك.. جاز أن يريد من غيرهما، فلم يصح.
والثاني: يصح الإقرار - وبه قال محمد بن الحسن - وهو الأصح؛ لأن من صح له الإقرار مضافا إلى جهة.. صح الإقرار له مطلقا، كالطفل.
وإن أضاف ذلك إلى جهة باطلة؛ بأن قال: له علي كذا من معاملة بيني وبينه، أو من جناية عليه، فإن قلنا: إنه لو أطلق الإقرار له لا يصح.. فها هنا أولى أن لا يصح. وإن قلنا: إن الإقرار المطلق له يصح.. فهل يصح الإقرار له هاهنا؟ فيه(13/423)
قولان، كالقولين فيمن وصل إقراره فيما يسقطه، ويأتي توجيههما.
وكل موضع قلنا: يصح الإقرار للحمل.. نظرت: فإن وضعته ميتا.. لم يصح الإقرار؛ لأن الميت لا يملك من جهة الإرث والوصية.
وإن وضعته حيا، فإن تيقن أنه كان موجودا حال الوصية.. لزم الإقرار له، وإن لم يتيقن وجوده حال الإقرار.. لم يلزم الإقرار، وقد مضى تيقن وجوده في مواضع قبل هذا. فإن وضعت ولدا واحدا.. فجميع المقر به له، سواء كان ذكرا أو أنثى.
وإن وضعت ولدين، فإن كانا ذكرين أو أنثيين.. فهو بينهما نصفان. وإن كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى. فإن أضاف المقر ذلك إلى الوصية.. فهو بينهما بالسوية.
وإن أضاف ذلك إلى الميراث: فإن كانا أخوين لأم.. فهو بينهما بالسوية، وإن كان إلى غيره من الميراث.. فللذكر مثل حظ الأنثيين.
وإن أطلق الإقرار لهما، وقلنا: يصح.. فاختلف أصحابنا فيه.
فقال الشيخ أبو حامد: يكون بينهما بالسوية. وقال ابن الصباغ: يرجع إلى بيان المقر.
فإن وضعت ولدين حيا وميتا.. فالإقرار للحي؛ لأن الميت كالمعدوم، ويسلم إلى ولي الحي.
[فرع إقراره بمال لمسجد]
وإن أقر لمسجد بمال، فإن قال: من غلة وقف عليه أو وصية له، أو من معاملة بيني وبين وليه في ماله.. صح الإقرار. وإن أطلق الإقرار.. ففيه وجهان، بناء على القولين في الإقرار المطلق للحمل.
[مسألة إقراره بحق لله تعالى أو لآدمي ثم رجع عن إقراره]
وإن أقر بحق لآدمي، أو بحق لله لا يسقط بالشبهة؛ كالزكاة والكفارة، ثم رجع.. لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق ثبت لغيره، فلم يملك إسقاطه بغير رضاه.
وإن أقر بحق لله تعالى يسقط بالشبهة، ثم رجع.. فقد مضى بيانه في (الحدود) .(13/424)
[مسألة إجابة المقر بلفظ صريح أو محتمل]
إذا ادعى رجل على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: نعم، أو أجل، أو صدقت، أو لعمري.. كان ذلك إقرارا؛ لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق.
وإن قال المدعى عليه: لا أنكر ما تدعيه، أو أنا مقر بما تدعيه، أو لا أنكر أن تكون محقا في دعواك.. كان ذلك إقرارا؛ لأنه لا يحتمل غير التصديق.
وإن قال المدعى عليه: بلى.. كان إقرارا.
قال في " الفروع ": وقيل: إن هذا ليس بجواب؛ لأنه يصلح للنفي.
وإن قال المدعى عليه: أنا أقر بما تدعيه، أو: أنا أقر.. لم يكن إقرارا؛ لأنه يحتمل: أنه أراد الوعد بالإقرار في المستقبل.
وإن قال المدعى عليه: لا أنكر.. لم يكن إقرارا؛ لأنه لم يسم ما لم ينكره، فيحتمل أن يكون أراد: لا أنكر فضلك، أو لا أنكر وحدانية الله.
وكذلك: إذا قال المدعى عليه: لا أقر ولا أنكر.. لم يكن إقرارا؛ لما مضى.
وإن قال المدعى عليه: أنا مقر.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يكون إقرارا؛ لأنه يحتمل: أني مقر ببطلان دعواك.
والثاني: يكون إقرارا؛ لأنه جواب عن الدعوى، فانصرف الإقرار إلى ما ادعي عليه.
وإن قال المدعى عليه: لعل، أو عسى، أو أظن، أو أحسب، أو أقدر.. لم يكن إقرارا؛ لأن هذه الألفاظ وضعت لشك.
[فرع أجوبة تحتمل الإقرار وغيره]
وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: لفلان علي أكثر مما لك علي..(13/425)
قال المسعودي [في ((الإبانة)) ] : لم يكن إقرارا لواحد منهما؛ لاحتمال أنه قاله على سبيل السخرية.
وإن قال المدعى عليه: لي مخرج من هذه الدعوى.. لم يكن إقرارا.
وقال ابن أبي ليلى: يكون إقرارا.
دليلنا: أنه لم يقر له بالحق، وإنما حكى: أن له مخرجا من هذه الدعوى، فهو كما لو قال: لا حق علي لك.
وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: إن كنت تدعي بها من ثمن متاع.. فلا يلزمني ذلك، وإن كنت تدعي بها من جهة القرض.. فحتى أجيب، وإن كنت تدعي ألفا مطلقا.. فلا يلزمني ذلك، وإن كنت تدعي ألفا برهن لي عندك.. فحتى أجيب.. صح وينفعه هذا التفصيل؛ لأنه لو أقر بألف، ثم ادعى الرهن.. أخذ منه الألف ولا يصدق في الرهن.
وكذلك: لو ادعى على المرتهن عبدا.. فمن حقه أن يقول: إن كنت تدعي عبدا مطلقا.. فلا يلزمني التسليم، وإن كنت تدعي عبدا مرهونا بألف درهم فحتى أجيب.. صح.
[فرع أجوبة أخرى يحتمل فيها الإقرار وعدمه]
وإن ادعى عليه بألف درهم، فقال المدعى عليه: خذ أو اتزن.. لم يكن إقرارا؛ لأنه يحتمل: خذ الجواب مني، أو اتزن من غيري إن كانت عليه.
وإن قال المدعى عليه: خذها أو اتزنها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يكون إقرارا؛ لأن هاء الكناية ترجع إلى ما تقدم من الدعوى.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: لا يكون إقرارا؛ لأن الصفة ترجع إلى المدعى به، ولم يقر أنه واجب.
وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: وهي صحاح.. فاختلف أصحابنا فيه:(13/426)
فقال أبو عبد الله الزبيري: يكون ذلك إقرارا منه؛ لأنه إقرار منه بصفة المدعى به عليه، والإقرار بالصفة إقرار بالموصوف.
وقال أكثر أصحابنا: لا يكون إقرارا منه؛ لأن الصفة ترجع إلى المدعى به، ولم يقر بوجوبه عليه.
وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: ما أكثر ما تتقاضاني، أو لقد أهممتني، أو ليست بحاضرة اليوم، أو والله لأقضكه.. قال الطبري: لم يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) . وبه قال بعض أصحابنا.
دليلنا: أنه لم يقر بوجوبها عليه بشيء من هذه الألفاظ، فلم تلزمه.
وإن قال: لفلان علي ألف درهم في علمي.. كان إقرارا؛ لأن ما في علمه لا يحتمل إلا الوجوب.
وإن قال رجل لرجل: اقض الألف التي لي عليك، أو أعطني عبدي هذا، أو اشتر مني عبدي هذا، فقال: نعم.. فهل يكون ذلك إقرارا منه بالألف والعبد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون إقرارا، كما لو قال له: عندك لي ألف، أو هذا العبد لي، فقال: نعم.
والثاني: لا يكون إقرارا؛ لأن الجواب يرجع إلى القضاء والعطية والشراء، وقد يقضي الإنسان ما لا يجب عليه، ويعطيه ويشتري منه ما لا يملكه. والأول أصح. وإن قال: أعطني الألف التي لي عليك، فقال: غدا.. قال الطبري: لك يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) .
دليلنا: أن قوله: (غدا) موعد جواب الدعوى، فصار كما لو قال: غدا أجيب.(13/427)
وإن قال: لفلان علي ألف درهم، أو لا؟ لم يكن إقرارا؛ لأنه يشك أن عليه الألف أو لا شيء عليه، فلا يلزمه شيء بالشك.
وإن قال لرجل: أخبر فلانا: أن له عليك ألف درهم؟ فقال المسؤول: نعم.. قال الطبري: لا يكون إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) .
دليلنا: أنه أذن له في الخبر المنقسم إلى الصدق والكذب، فلم يكن إقرارا.
وكذلك: إذا قال لرجل: لا تخبر فلانا: أن له علي ألف درهم.. لم يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) .
دليلنا: أنه منعه من أن يضيف إليه حقا، والمنع من الإخبار ليس بإقرار، كما لو قال: ليس لفلان علي شيء لا تخبره به.
وإن قال: لي عليك ألف درهم أقرضتكها، فقال المدعى عليه: والله لا اقترضت منك غيرها، أو لم تمن بها علي.. قال الصيمري: كان إقرارا.
ولو قال: ما أعجب هذا أو نتحاسب.. لم يكن إقرارا.
[فرع كتب لزيد علي ألف]
لو كتب رجل: لزيد علي ألف درهم، ثم قال للشهود: اشهدوا علي بما فيه.. لم يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) .
دليلنا: أنه ساكت عن الإقرار بالمكتوب فلم يكن إقرارا، كما لو كتب عليه غيره فقال: اشهدوا بما كتب فيه، أو كما لو كتب على الأرض.. فإن أبا حنيفة وافقنا في ذلك.
[مسألة الاستثناء والتعليق على شرط في الإقرار]
فإن قال: له علي ألف إن شاء الله.. لم يلزمه شيء؛ لأن ما علق بمشيئة الله تعالى(13/428)
لا يعلم، فهو كما لو قال: امرأته طالق، أو عبده حر إن شاء الله.
وإن قال: له علي ألف إن شاء زيد، أو إذا قدم الحاج.. لم يكن إقرارا؛ لأن الإقرار إخبار عن حق واجب فلم يصح تعليقه على الشرط.
وإن قال لرجل: لك علي ألف إن شئت.. لم يكن إقرارا؛ لأن ما لا يلزمه لا يصير واجبا عليه بوجود الشرط.
وإن قال: لك علي ألف درهم إن قبلت إقراري.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه لا يكون إقرارا.
وإن قال: هذا لك بألف إن شئت أو إن قبلت، فقال: قبلت أو شئت.. كان ذلك بيعا صحيحا.
والفرق بينهما: أن الإيجاب في البيع يقع متعلقا بالقبول، فإذا لم يقبل.. لم يصح، فجاز تعليقه عليه، والإقرار لا يتعلق بالقبول، وإنما هو إخبار عن حق سابق، فلم يصح تعليق وجوبه بشرط القبول.
[فرع علق إقراره على شاهدين]
وإن قال: لك علي ألف إن شهد لك بها شاهدان، أو قال: إن شهد لك شاهدان بألف علي فهي علي.. لم يكن إقرارا؛ لأنه إقرار معلق بشرط مستقبل.
وإن قال: إن شهد لك علي شاهدان، أو فلان وفلان بألف فهما صادقان.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يكون إقرارا؛ لأنه إقرار معلق على شرط، فلم يكن إقرارا لازما، كما لو قال: إن شهد علي فلان بألف.. صدقته، أو وزنته لك.
والثاني - وهو قول ابن القاص واختيار القاضي أبي الطيب -: أنه يكون إقرارا؛ لأنه أخبر أنهما إذا شهدا بذلك.. كانا صادقين، ولا يكونان صادقين إلا إذا كانت الألف واجبة عليه، فوجبت عليه وإن لم يشهدا. ويخالف قوله: إن شهد لك فلان بألف علي صدقته أو وزنته لك؛ لأنه قد يصدق من ليس بصادق وقد يزن ما لا يجب عليه.(13/429)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن قال: لفلان علي ألف إن شهد بها فلان وفلان.. فإنه لا يكون إقرارا؛ لأنه إقرار معلق على شرط مستقبل، فإن شهد بها فلان وفلان وهما عدلان.. لزمه الألف بالشهادة دون الإقرار) .
[فرع علق معسر إقراره على اليسار]
قال الطبري: لو قال معسر: لفلان علي ألف درهم إن رزقني الله مالا.. كان إقرارا.
وقال أبو حنيفة: (لا يكون إقرارا) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه إقرار معلق على شرط.
والأول أصح؛ لأن اليسار ميقات لأداء ما على المعسر، وبيان ميقات الأداء لا يبطله، كما لو قال: له علي ألف إلى رأس الشهر.
[فرع علق إقراره على شرط مقدم أو مؤخر أو على الموت]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قال: له علي ألف درهم إذا جاء رأس الشهر.. كان ذلك إقرارا. وإن قال: إن جاء رأس الشهر فله علي ألف درهم.. لم يكن إقرارا) .
قال أصحابنا: والفرق بينهما: أنه إذا قال: له علي ألف.. فقد أقر بالألف، فإذا قال بعد ذلك: إذا جاء رأس الشهر.. احتمل أن يكون أراد محلها.. فلم يبطل إقراره بذلك، وإذا بدأ بالشرط فقال: إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف.. لم يقر بالحق وإنما علقه بالشرط، فلم يكن إقرارا.
وقال القاضي أبو الطيب: في ذلك نظر، ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره.
وإن قال: له علي ألف إلا أن يبدو لي.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ".
وإن قال: له علي ألف إن مت.. لم يكن إقرارا.
وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) .
دليلنا: أنه إقرار معلق بالموت فلم يكن إقرارا، كما لو علقه بقدوم زيد.(13/430)
[فرع صحة الإقرار بغير لسان قومه]
يصح الإقرار بالعجمية، كما يصح بالعربية، فإن أقر أعجمي بالعربية، أو عربي بالعجمية، واعترف أنه عالم بما أقر به.. لزمه ما أقر به.
وإن قال: لم أعلم ما معناه، فإن صدقه المقر له على ذلك.. سقط الإقرار، وإن كذبه ولا بينة مع المقر له أن المقر يعلم ما أقر به.. فالقول قول المقر مع يمينه؛ لأن الظاهر من حال العجمي أنه لا يعرف العربية، ومن العربي أنه لا يعرف العجمية.
[مسألة الإقرار بالدين والوصية]
إذا مات رجل وخلف ابنا لا وارث له غيره، وخلف عبدا قيمته ألف درهم لا مال له غيره، فحضره رجلان فقال له أحدهما: لي على أبيك ألف درهم فصدقه، ثم قال الثاني: أوصى لي أبوك بثلث ماله فصدقه.. قدم إقراره لصاحب الدين، فيباع العبد ويقضى صاحب الدين دينه. فإن رجع العبد إلى الابن ببيع أو هبة أو إرث.. لم يلزمه شيء للموصى له؛ لأن الدين إذا استغرق التركة.. لم تصح الوصية.
وإن صدق الموصى له أولا، ثم صدق صاحب الدين.. قال القفال وابن الحداد: فللموصى له ثلث العبد، ولصاحب الدين ثلثا العبد يتعلق به دينه؛ لأنه أقر أولا للموصى له فلزمه إقراره بثلث العبد، فلا يقبل رجوعه عنه إلى الإقرار لصاحب الدين.
وإن صدقهما معا.. قال القفال وابن الحداد: إذا قسم العبد على أربعة أسهم: سهم للموصى له، وثلاثة تباع لصاحب الدين؛ لأنه لا مزية لأحدهما في التصديق، فصار كما لو أوصى لأحدهما بالعبد وللآخر بثلثه وأجاز لهما الابن.
وقال الشيخ أبو الحسين الطبري: عندي أنه لصاحب الدين؛ إذ حكمهما إذا صدقهما حكم ما لو أقاما البينة، ولو أقاما البينة.. لقدم صاحب الدين، فكذلك إذا صدقهما. والمشهور هو الأول.
فإذا قلنا بالمشهور، وسلم إلى الموصى له في الأولى ثلث العبد، وفي الثانية(13/431)
ربعه، ثم رجع إلى ملك الابن ببيع أو هبة أو إرث.. لزمه تسليمه ليباع فيما بقي من الدين؛ لأن الوصية لم تبطل الدين، وإنما قدمت الوصية لإقرار المدعى عليه.
وإن حضره رجلان، فقال أحدهما: أوصى لي أبوك بثلث ماله، وقال الآخر: أوصى لي أبوك بثلث ماله، فقال لهما: صدقتما.. قسم الثلث بينهما نصفين؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن صدق أحدهما قبل الآخر.. قال القاضي أبو الطيب: انفرد الأول بثلث جميع التركة بإقرار الابن من غير مزاحمة له، وإقراره للثاني إذا لم يصادقه الأول.. لم يثبت حقه، ولا ينقص ما ثبت له بإقراره؛ لأنه لا يقبل رجوعه عنه، ويكون للثاني سدس جميع المال يأخذه مما في يد الابن؛ لأنه ثبت له بإقراره له، فيبقى للابن نصف التركة.
وإن صدق الابن الأول وكذب الثاني، فأقام الثاني شاهدين.. ثبت للثاني ثلث جميع التركة بالبينة ولا يشاركه الأول فيه؛ لأن إقرار الوارث لا يعارض البينة، وثبت للأول ثلث ما بقي من التركة، وهو سهمان من تسعة أسهم من جميع التركة؛ لأنه يقر بأنه مستحق لثلث جميع التركة إلا أن الثلث الذي قبضه صاحب البينة كالمغصوب؛ لأنه يكذب البينة، فلزمه ثلث ما بقي في يده من التركة.
وإن صدق الابن الثاني، وأراد الثاني أن يقيم البينة.. سمعت بينته؛ لأنه يستفيد بذلك استحقاق ثلث جميع التركة، وإذا لم يقم البينة.. لم يستحق إلا سدسها. وأما الأول.. فلا يعارض الثاني؛ لأن الإقرار لا يعارض البينة، ويكون للأول نصف الثلث؛ لأن البينة قد ثبتت عليه في حق المدعي وفي حق الوارث، فرجع حقه إلى نصف الثلث.
[فرع إقرار الوارث بعتق اثنين من التركة وبدين على أبيه]
وإن مات رجل وخلف ابنا ولا وارث له غيره، وخلف ثلاثة أعبد قيمتهم سواء لا مال له غيرهم، فقال أحدهم: قد أعتقني أبوك في مرض موته فلم يجبه، وقال(13/432)
العبد الثاني: أعتقني أبوك في مرض موته، فقال الابن: صدقتما.. قال ابن الحداد: أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. عتق ورق الآخر.
وإن صدق الأول ثم صدق الثاني.. عتق الأول بغير قرعة؛ لأنه ثبت له العتق بإقراره من غير مزاحمة، ولا يقبل رجوعه عنه بتصديقه للثاني. وأما الثاني: فإنه أقر له بالعتق مع المزاحمة فيقرع بينه وبين الأول، فإن خرجت القرعة على الأول.. رق الثاني، وإن خرجت على الثاني.. عتق أيضا.
وإن مات رجل وخلف ابنا لا وارث له غيره، وخلف عبدا قيمته ألف لا مال له غيره، فادعى العبد على الابن أن أباه أعتقه في حال صحته، وادعى رجل: أن له على أبيه ألف درهم دينا، فقال الابن: صدقتما.. قال ابن الحداد: عتق نصف العبد وبيع نصفه في الدين؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر في التصديق.
وإن صدق العبد أولا ثم صدق صاحب الدين.. عتق العبد وبطل إقراره لصاحب الدين.
وإن صدق صاحب الدين أولا، ثم صدق العبد.. بيع العبد في الدين، ولا يصح إقراره بالعتق.
فإن كانت بحالها إلا أن العبد ادعى أن أباه أعتقه في مرض موته، فإن صدق العبد أولا.. عتق ثلث العبد وبيع ثلثاه في الدين، وإن صدقهما معا.. عتق ربع العبد وبيع ثلاثة أرباعه في الدين، وإن صدق صاحب الدين أولا.. بيع العبد في الدين وبطل العتق.
[فرع يقدم صاحب البينة في الدين على الإقرار]
وإن مات رجل وخلف ابنا لا وارث له غيره، وخلف ألف درهم لا مال له غيرها، فادعى رجل على الابن أن له على أبيه ألف درهم دينا فصدقه، ثم ادعى آخر على الابن أن له على أبيه ألف درهم دينا فكذبه، فأقام الثاني بينة بدينه.. قال ابن الحداد: قدم صاحب البينة؛ لأن البينة مقدمة على الإقرار.(13/433)
[فرع الإقرار بما يستحقه لغيره]
قال الطبري في " العدة ": إذا أقرت المرأة بصداقها الذي في ذمة زوجها لغيرها، أو أقر الزوج بالمال الذي ثبت له على الزوجة بالخلع لغيره، أو أقر المجني عليه بأرش الجناية على الجاني لغيره.. فقال صاحب " التلخيص ": لا يقبل إقراره في جميع هذه المسائل؛ لأنا قد علمنا ثبوته على من هو عليه لمالكه فلا يجوز أن يكون لغيره، والإقرار لا ينقل الملك؛ ولهذا: لو شهد رجلان أن فلانا أقر بدار لفلان وهو يملكها يوم الإقرار.. لم تصح هذه الشهادة.
قال أبو علي السنجي: وقعت هذه المسألة فأفتيت فيها هكذا، ثم رأيتها لأصحابنا بنيسابور هكذا؛ لأن الدار إذا كانت ملكا له فإقراره بها لغيره كذب، إلا أن يقولا وكانت في يده، وتصرفه فيها تصرف المالك، ولم يكن له فيها منازع.. فحينئذ يقبل.
قال أبو علي السنجي: وهذه المسائل كلها إذا قلنا: لم تصح هبة الدين، ولا بيعه من غير من هو عليه في أحد الوجهين.
قال الطبري: وقد تعود الناس اليوم الإقرار للوارث بمال في مرض الموت يقصدون به قطع الميراث عن غيره من غير عقد ولا سبب، وذلك حرام ويكون موروثا. ولو حدث مثل هذا وادعى سائر الورثة على المقر له: أن أبانا قد أقر لك بذلك وظن أنك تملكه بإقراره، فاحلف أنه أقر لك بحق لازم.. لزمه أن يحلف.
وكذلك: لو أقر البائع بقبض الثمن وأشهد على نفسه بذلك، ثم قال: قد أقررت به على ما جرت العادة أن المشتري لا يدفع الثمن ما لم يكتب البائع الصك ويشهد عليه، فحلفوه أني كنت قبضته منه.. حلف.
والله أعلم(13/434)
[باب جامع الإقرار]
إذا أقر بمجهول؛ بأن قال: له علي شيء.. صح إقراره. وتخالف الدعوى، حيث قلنا: لا تصح بالمجهول؛ لأن الإقرار حق عليه، فلذلك صح مع الجهالة به. وفي الدعاوى لا يمكن الحكم بالمجهول. ثم يطالب المقر بتفسير ما أقر به؛ لأنا لا نعلم إلا من جهته. فإن امتنع عن التفسير.. قلنا للمقر له: بين أنت ما أقر لك به، فإن قال: أقر لي بكذا.. قلنا للمقر: قد فسر المقر له إقرارك بكذا، فإن صدقه.. لزمه، وإن كذبه أو امتنع عن الجواب.. قلنا: إن فسرت ما أقررت به وحلفت عليه، وإلا.. جعلناك ناكلا وحلفنا المقر له على ما يدعيه وأوجبناه عليك، فإن فسر المقر إقراره.. فلا كلام، وإن لم يفسر.. حلفنا المقر له على ما فسره وأوجبناه عليه، وإن امتنع المقر له عن اليمين.. قيل له: انصرف فلا حكم لك عندنا.
وهذا هو المشهور: وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن من أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: هذا.
والثاني: يحبس المقر إلى أن يفسر. ولم يذكر المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 293] غير هذا.
وإن فسر المقر الشيء الذي أقر به.. نظرت: فإن فسره بما يتمول في العادة وإن قل؛ كالدرهم والفلس.. قبل تفسيره ورجع إلى المقر له، فإن صدقه على ذلك.. ثبت ذلك، وإن كذبه في القدر وادعى أكثر مما أقر به من جنس ما فسر به إقراره وأنه أراده بإقراره.. ثبت القدر المقر به وحلف المقر على نفي الزيادة، فيحلف: أنه لا يستحق عليه ما ادعاه وأنه لم يرده بإقراره، يمينا واحدة.
وإن ادعى المقر له جنسا آخر غير الجنس الذي أقر به المقر.. سقط ما أقر به(13/435)
المقر؛ لأنه كذبه، وكان القول قول المقر مع يمينه في نفي ما ادعاه عليه، فإذا حلف.. سقط حكم الإقرار، وإن نكل المقر عن اليمين.. ردت على المقر له.
قال أصحابنا العراقيون: فيحلف: أنه أراد بقوله ما ادعاه المقر له وأنه يستحقه عليه.
وقال المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 296] : يحلف أن لي عليه كذا، ولا يحلف أنه أراد بإقراره؛ لأنه لا يمكنه الإطلاع على مراده.
وإن فسره بما لا يتمول؛ بأن فسره بقشر جوزة أو قمع باذنجانة أو قشر رمانة أو قشر لوزة.. لم يقبل تفسيره؛ لأن إقراره يقتضي ثبوت حق عليه، وهذا مما لا يثبت في الذمة فيطالب بتفسير إقراره.
وإن فسر إقراره بما ليس بمال في الشرع؛ كلحم الميتة والدم وجلد الكلب أو كلب غير معلم.. لم يقبل تفسيره؛ لأن ذلك لا ينتفع به.
وإن فسره بالكلب المعلم أو الخنزير أو الخمر أو السرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ.. فهل يقبل تفسيره؟ فيه ثلاثة أوجه - حكاها الشيخ أبو إسحاق -:
أحدها: يقبل؛ لأنه يقع عليها اسم الشيء.
والثاني: لا يقبل؛ لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه؛ وهذه الأشياء لا تثبت في الذمة ولا يجب ضمانها.
والثالث: إن فسره بالخمر أو بالخنزير.. لم يقبل؛ لأنه لا يجب تسليمه. وإن فسره بالكلب أو بالسرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ.. قبل؛ لأن هذه الأشياء يجب تسليمها.
وإن فسر إقراره بحق الشفعة.. قبل؛ لأنه حق عليه يؤول إلى المال.
وإن فسره برد السلام وجواب الكتاب.. لم يقبل؛ لأن ذلك لا يثبت في ذمته؛ لأن رد السلام - وإن كان واجبا - فإنه يسقط بفواته.(13/436)
وإن فسره بحد القذف.. ففيه وجهان - حكاهما ابن الصباغ -:
أحدهما: يقبل؛ لأنه حق لآدمي.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه لا يؤول إلى المال بحال.
وإن فسره برد وديعة عنده له.. قال المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 296] : قبل؛ لأن الرد شيء واجب عليه.
هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة: (إذا قال: له علي شيء.. لم يقبل منه تفسيره بغير المكيل والموزون) .
دليلنا: أن غير المكيل والموزون مملوك يدخل تحت العقد، فجاز أن يفسر به الإقرار المجهول، كالمكيل والموزون.
وإن قال: غصبتك شيئا، ثم قال: غصبتك نفسك.. لم يقبل؛ لأن الإقرار يقتضي غصب شيء منه، ويطالب بتفسيره.
وإن شهد شاهدان على رجل لرجل بمال مجهول.. فهل تقبل شهادتهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح شهادتهما. وتعلق هذا القائل بأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو رهن عنده رهنا على مائة، ثم ادعى أن المرتهن أقر بقبض شيء من الحق، أو قال: قد أقبضته بعض الحق، وقامت البينة بذلك.. فالقول قول المرتهن في قدره، فإذا لم يحلف.. قام وارثه مقامه بها) .
والثاني: لا تصح هذه الشهادة؛ لأن البينة سميت بينة؛ لأنها تبين ما شهدت به، وهذه ما أبانت.
ومن قال بهذا.. تأول ما قاله الشافعي على أنه أراد: إذا شهدت البينة على إقرار المقر بحق مجهول.. فإن الشهادة مقبولة.(13/437)
[مسألة الإقرار بشيء عليه لفلان يوجب التفسير]
وإن ادعى على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: علي له شيء.. فهو كما لو أقر له ابتداء بشيء، فيطالب بتفسيره على ما مضى، فإن امتنع من التفسير.. جعله الحاكم ناكلا.
قال الشيخ أبو حامد: ويحلف الحاكم المدعي أنه أراد بقوله: (له علي شيء) ألف درهم وأنه يستحق ما ادعاه عليه.
وإن قال: أردت به درهما.. قيل للمقر له: ما تقول؟ فإن قال: نعم أراد هذا بإقراره ولكن لي عليه ألف درهم.. قيل له: خذ هذا الدرهم وحلفه على الباقي.
وإن قال المدعي: ما أراد بإقراره بالشيء الدرهم، وإنما أراد الألف الذي ادعيت عليه.. فقد ادعى عليه بشيئين: أحدهما: الألف، والثاني: أنه اعترف له به.
قال الشيخ أبو حامد: فله أن يحلفه على شيئين: أنه لم يرد بقوله: له علي شيء ألفا، وأنه لا يستحق عليه من الألف إلا درهما، ويكفيه يمين واحدة؛ لأنهما حقان لشخص واحد.
وإن فسر إقراره بجنس غير الدرهم؛ بأن قال: له علي ثوب أو عبد.. قيل للمدعي: ما تقول؟ فإن قال: نعم أراد به هذا ولي عليه هذا والألف الدرهم أيضا.. ثبت له ما أقر له به، وحلف المقر على الألف المدعى بها عليه. وإن قال المقر له: صدق أنه أراد بقوله له علي شيء هذا الذي فسره، ولكن ما لي عليه هذا وإنما لي عليه ألف درهم.. بطل إقراره بالثوب؛ لأنه كذبه، وحلف المقر: أنه لا يستحق عليه ألف درهم.
وإن قال المقر له: كذب في التفسير، بل أراد بقوله: له علي شيء الألف الدرهم التي ادعيت.. فقد ادعى عليه بشيئين: الألف درهم والاعتراف بها، فيحلف المقر يمينا واحدة أنه ما أراد بقوله: له علي شيء ألف درهم وأنه لا يستحق عليه ألف(13/438)
درهم، ويسأل المقر له عما فسر به المقر إقراره، فإن قال: هو لي.. أخذه، وإن قال: ليس لي.. بطل الإقرار له.
[مسألة الإقرار بمال يوجب المطالبة بالتفسير]
وإن قال: له علي مال.. طولب بتفسيره، فإذا فسره بما يقع عليه اسم المال - وإن قل - قبل منه، والكلام في الرجوع إلى المقر له على ما مضى في الإقرار بالشيء.
وإن فسره بخمر أو خنزير أو كلب معلم أو جلد ميتة قبل الدباغ أو سرجين.. لم يقبل وجها واحدا؛ لأن ذلك وإن وقع عليه اسم الشيء.. فلا يقع عليه اسم المال.
هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة: (إذا قال: له علي مال.. فلا يقبل في تفسيره إلا المال الذي تجب فيه الزكاة) . واختلف أصحاب مالك فيه: فمنهم من قال كقولنا. ومنهم من قال: لا يقبل أقل من نصاب في الزكاة من نوع أموالهم.
ومنهم من قال: لا يقبل منه إلا ما يستباح به البضع، أو ما يقطع به السارق.
دليلنا: أن اسم المال يقع على القليل والكثير مما يتمول به في العادة، فقبل تفسيره فيه كالذي سلموه.
[فرع إقراره بمال عظيم ونحوه]
وإن قال: له علي مال عظيم، أو كثير، أو جليل، أو نفيس، أو عظيم جدا، أو عظيم عظيم.. فإنه لا يتقدر بمقدار، بل إذا فسره بما يقع عليه اسم المال.. قبل منه.
واختلف أصحاب أبي حنيفة فيه:
فمنهم من قال: لا يقبل فيه أقل من عشرة دراهم. وقيل: إنه مذهب أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقبل فيه أقل من مائتي درهم.
ومنهم من قال: لا يقبل فيه أقل من قدر الدية.(13/439)
وقال الليث بن سعد: (لا يقبل فيه أقل من اثنين وسبعين درهما؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25] [التوبة: 25] وكانت غزواته وسراياه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثنتين وسبعين) .
دليلنا: أن ما من قدر من المال إلا وهو عظيم وكثير بالإضافة إلى ما هو دونه فقبل تفسيره فيه كالذي سلمه كل واحد منهم، وما احتج به الليث.. فلا حجة فيه؛ لأن ذلك ليس بحد لأقل الكثير، ولا يمتنع وقوع الكثير على أقل من ذلك.
[فرع أقر بأن عليه أكثر من مال فلان]
وإن قال: له علي أكثر من مال فلان، أو أكثر من المال الذي في يد فلان.. رجع في تفسيره إليه، فإذا فسره بأي قدر من المال.. قبل منه، سواء فسره بمثل مال فلان أو بأقل منه، وسواء علم مبلغ مال فلان أو لم يعلم؛ لأنه يحتمل أن قوله: (أكثر) أي: أكثر من مال فلان نفعا؛ لكونه حالا أو لكونه في الذمة.
وإن قال: له علي أكثر من مال فلان عددا، أو علي له مال عدده أكثر من عدد مال فلان، فإن أقر أنه يعرف قدر مال فلان.. لزمه قدر مال فلان، ورجع في الزيادة إليه، فبأي قدر فسر الزيادة من المال.. قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله.
وإن قال: لا أعلم قدر مال فلان إلا كذا.. لزمه قدر ما أقر أنه يعرف أنه مال فلان، ورجع في الزيادة عليه إليه.
وإن قال: لا أعلم قدر مال فلان، وحلف أنه لا يعلم قدر مال فلان.. قبل تفسيره وإن كان بأقل من مال فلان؛ لأنه إذا لم يعلم قدر مال فلان.. فقد أقر بمجهول فرجع في تفسيره إليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (فإن أقام المقر له بينة أن المقر يعرف قدر مال فلان وهو كذا.. لم أحكم بهذه البينة، بل لا يلزمه إلا ما أقر به؛ لأنه يجوز أن يكون قد عرف قدر مال فلان، ثم اعتقد بعد ذلك أنه قد ذهب بعضه ولا يدري كم ذلك(13/440)
البعض، وكل من أقر بشيء.. فإنه يلزمه ما تحقق إقراره فيه، ويرجع في المحتمل إليه وهذا محتمل، فكان القول فيه قوله) .
[مسألة إقراره بأن لفلان درهما]
وإن قال: لفلان علي درهم، فإن كان في بلد يتعاملون فيه بالدراهم الوازنة - وهي دراهم الإسلام التي في كل درهم منها ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم منها وزن سبعة مثاقيل - فإنه يلزمه درهم من دراهم الإسلام؛ لأن إطلاق الدراهم ينصرف إلى الدراهم الوازنة.
وإن فسره بدرهم ناقص، كالدراهم الطبرية التي وزن كل درهم أربعة دوانيق، أو دراهم خوارزم التي وزن كل درهم أربعة دوانيق ونصف، فإن كان ذلك منفصلا عن إقراره.. لم يقبل منه؛ لأن إطلاق الدراهم إنما ينصرف في البدل التي يتعامل فيها بالدراهم الوازنة إليها. وإن كان ذلك متصلا بإقراره.. قبل منه، كما لو قال: له علي درهم إلا دانقين.
وحكى ابن الصباغ عن بعض أصحابنا أنه قال: هل يقبل منه ذلك؟ فيه قولان، كما لو قال: له علي ألف درهم قضيتها.
وليس بصحيح؛ لأن الدراهم يعبر بها عن الوازنة والناقصة، وإنما حملت على الوازنة؛ لأن عرف الإسلام قائم بها، فإذا فسرها بأنقص منها متصلا بكلام.. كان كالاستثناء فقبل منه.
وأما إذا كان المقر في بلد يتعاملون فيها بالدراهم الناقصة الوزن عن دراهم الإسلام.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب (الإقرار والمواهب) : (ولو كان ببلد دراهمهم كلها نقص، ثم أقر بدرهم.. كان درهما من درهم البلد) .(13/441)
ووجهه: أنه إذا كان هذا عرفا عندهم.. انصرف الإطلاق إليه، كما ينصرف الإطلاق إليه في البيع.
فمن أصحابنا من قال: يلزمه من دراهم الإسلام؛ لأن ذلك وزن الإسلام. هكذا ذكر ابن الصباغ: أن إطلاق الإقرار بالدرهم في البلد التي يتعاملون فيها بالدراهم الناقصة.. هل ينصرف الإقرار إليها؟ على الوجهين.. المنصوص: (أنه ينصرف إليها) .
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن إطلاق الإقرار بالدرهم ينصرف إلى دراهم الإسلام في كل موضع، فإن فسره المقر بدرهم ناقص عن وزن درهم الإسلام وكان المقر في بلد يتعاملون فيها بالدراهم الناقصة.. فهل يقبل منه؟ فيه وجهان. المنصوص: (أنه يقبل منه) .
[فرع اعترف له بدرهم كبير أو صغير]
فإن قال: له علي درهم كبير.. لزمه درهم من دراهم الإسلام؛ لأنه هو الكبير في العرف، فإن كان في البلد دراهم كبار القدر.. لزمه ذلك.. وإن فسره بما هو أكبر منه من وزن دراهم الإسلام.. قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله.
وإن قال: له علي درهم صغير أو دريهم.. قال ابن الصباغ: فإن كان للناس دراهم صغار.. لزمه درهم صغير، وإن كانت دراهمهم وازنة.. لزمه درهم وازن صغير. يريد: صغير القدر.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه إذا قال: درهم صغير أو دريهم.. فإنه يلزمه درهم وازن، فإن كان في البلد دراهم صغار ففسره بها.. قبل.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الإقرار والمواهب) : (إذا قال: له علي مائة درهم عددا.. فهي وازنة) .
قال ابن الصباغ: ومعنى ذلك: أنه إذا كان في بلد يتعاملون فيها بالوزانة، فقال: عددا.. اقتضى أن يكون عددا بحكم اللفظ، ووزانة بحكم الاسم، وهما لا يتنافيان.(13/442)
[فرع أقر بدراهم ففسرها بالمزيفة]
وإن أقر له بدراهم، ففسرها بدراهم زيف.. نظرت: فإن فسرها بدراهم كلها نحاس أو رصاص لا فضة فيها.. لم يقبل منه، سواء وصل ذلك بإقراره أو فصله؛ لأن النحاس والرصاص لا يسمى دراهم.
وإن فسرها بدراهم فضة مغشوشة برصاص أو نحاس.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال القاضي أبو الطيب: يقبل منه، سواء وصل ذلك بإقراره أو فصله؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولو قال: من سكة كذا وكذا.. صدق مع يمينه، كانت أردأ الدراهم أو أوسطها) . قال القاضي: وأردأ الدراهم المغشوشة.
وقال الشيخان - أبو إسحاق الشيرازي وأبو حامد الإسفرائيني -: حكمه حكم النقص، فإن وصلها بإقراره.. قبل، وإن لم يصلها.. لم يقبل؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو قال: له علي درهم، ثم قال: نقص أو زيف.. لم يصدق) . وما احتج به القاضي.. فإنها تعود إلى أدنى الدراهم سكة. ولأن الدراهم المغشوشة خارجة عن ضرب الإسلام، كالنقص.
قال ابن الصباغ: فإن كان المقر ببلد يتعامل فيه بالدراهم المغشوشة.. فينبغي إذا أطلق أن لا يلزمه إلا منها، كما قلنا في النقص.
[فرع أقر بغصب ألف درهم أو بأنها وديعة عنده]
وإن قال: غصبته ألف درهم، أو عندي له ألف درهم وديعة، ثم قال: هي نقص أو زيف.. قال ابن الصباغ: والذي يقتضي المذهب: أنه لا يقبل منه، كما لو قال: له علي ألف درهم. وقال أبو حنيفة: (يقبل منه في الغصب والوديعة) .
دليلنا: أن الاسم يقتضي الوازنة غير الزيف، فلم يقبل ما يخالف الاسم، كما لو قال: له علي ألف درهم.(13/443)
[فرع أقر بدراهم ثم فسر نوع سكتها]
وإن قال: له علي دراهم، ثم فسرها بسكة دراهم البلد.. قبل منه، وإن فسرها بغير سكة البلد.. فالمنصوص: (أنه يقبل منه) .
وقال المزني: لا يقبل منه؛ لأن إطلاق اسم الدراهم ينصرف إلى سكة دراهم البلد، كما قلنا في البيع.
وليس بشيء؛ لأن الإقرار إخبار، فإذا كان مطلقا.. قبل تفسيره بما يحتمله، بخلاف البيع؛ فإنه إيجاب في الحال فاعتبر فيه عرف البلد.
[مسألة الإقرار بدرهم أو أكثر من مرة مطلقا أو مقيدا]
إذا أقر له يوم السبت بدرهم، وأقر له يوم الأحد بدرهم، وأطلق الإقرارين.. لم يلزمه إلا درهم واحد إلا أن يعترف أنه أراد بالثاني غير الأول. وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (يلزمه درهمان) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا فرق بين المجلس والمجلسين. ومنهم من فرق بين المجلس والمجلسين.
دليلنا: أن الإقرار إخبار، فإذا أقر، ثم أقر.. احتمل أن يكون الثاني هو الأول، واحتمل أن يكون غيره، وكان المرجع إليه فلم يلزمه ما زاد على درهم بالشك.
وإن قال: له علي درهم من ثمن عبد، ثم قال: له علي درهم من ثمن ثوب.. لزمه درهمان؛ لأن الثاني غير الأول.
وإن قال: له علي درهم من ثمن عبد، ثم قال: له علي درهم وأطلق.. لم يلزمه إلا درهم واحد؛ لأن الثاني يجوز أن يكون هو الأول، ويجوز أن يكون غيره، فلا يلزمه غير الأول بالشك، كما لو أطلق الإقرار فيهما.
[فرع أقر بدرهم ودرهم وما أشبه ذلك من حروف العطف]
وإن قال: له علي درهم ودرهم.. لزمه درهمان؛ لأن الواو لا تحتمل غير العطف، وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه.(13/444)
وإن قال: له علي درهم ودرهمان.. لزمه ثلاثة دراهم، لما ذكرناه.
وإن قال: له علي درهم، ثم درهم.. لزمه درهمان؛ لأن ثم للعطف وإن كانت تقتضي الترتيب مع العطف.
وإن قال: له علي درهم فدرهم.. رجع إليه: فإن قال: أردت العطف.. لزمه درهمان، وإن قال: لم أرد العطف.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يقبل منه) ، وقال: (إذا قال لامرأته: أنت طالق فطالق.. يلزمه طلقتان) .
فنقل أبو علي بن خيران جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وخرجهما على قولين:
أحدهما: يلزمه درهمان وطلقتان - وبه قال أبو حنيفة - لأن الفاء من حروف العطف، فهو كما لو عطف بالواو.
والثاني: لا يلزمه إلا درهم وطلقة؛ لأن قوله يحتمل الصفة والإيجاب، فلم يلزمه ما زاد على درهم وطلقة بالشك.
وقال سائر أصحابنا: يلزمه درهم وطلقتان قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن الدراهم تدخلها الصفة والتفضيل، فيجوز أن يريد: فدرهم أجود منه، والطلاق إيقاع لا تدخله الصفة والتفضيل.
قال أبو علي في " الإفصاح " فوزان الإقرار من الطلاق أن يقول: أنت طالق مطلقة، ويريد بذلك الصفة.. فيقبل منه، كما قلنا في الإقرار.
وإن قال: له علي درهم ودرهم ودرهم.. فالمنصوص: (أنه تلزمه ثلاثة دراهم) .
وقال في (الطلاق) : (إذا قال: أنت طالق وطالق وطالق.. فإنه يلزمه طلقتان، ويرجع إليه في قوله: وطالق الأخير: فإن قال: أردت به تأكيد الثانية.. لم يلزمه إلا طلقتان. وإن قال: لم أنو شيئا.. ففيه قولان: أحدهما: يلزمه ثلاث طلقات. والثاني: لا يلزمه إلا طلقتان) .
وقال أبو علي بن خيران: الإقرار هاهنا مثل الطلاق، فإن قال: أردت تأكيد الثاني(13/445)
بالثالث.. لم يلزمه إلا درهمان، وإن لم تكن له نية.. فعلى قولين كالطلاق.
وقال سائر أصحابنا: يلزمه ثلاثة دراهم بكل حال قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن الطلاق يدخله التأكيد للتخويف والإرهاب، ويؤكد بالمصدر فيقول: أنت طالق طلاقا، فقبل قوله أنه أراد تأكيده، والإقرار لا يدخله التأكيد، فلم يقبل قوله أنه أراده.
وإن قال: له علي درهم، ثم درهم، ثم درهم.. لزمه ثلاثة دراهم، فإن قال: أردت بالثالث تأكيد الثاني.. قبل قوله عند أبي علي بن خيران، ولا يقبل عند سائر أصحابنا؛ لما مضى في التي قبلها.
[فرع أقر بدرهم فوق درهم ونحوه]
فإن قال: له علي درهم فوق درهم أو تحت درهم، أو فوقه درهم أو تحته درهم، أو مع درهم أو معه درهم، أو قبل درهم أو قبله درهم، أو بعد درهم أو بعده درهم، أو على درهم أو عليه درهم.. فاختلف أصحابنا في ذلك.
فمنهم من قال: في الجميع قولان:
أحدهما: يلزمه درهمان؛ لأن هذه الألفاظ تقتضي ضم درهم إليه، فأفادت ما أفادت حروف العطف.
والثاني: لا يلزمه إلا درهم؛ لأن قوله: فوق درهم أو فوقه درهم؛ أي: في الجودة، وقوله: تحت درهم أو تحته درهم؛ أي: في الرداءة، وقوله: مع درهم أو معه درهم؛ أي مع درهم لي أو معه درهم لي، وكذلك قوله: علي درهم أو عليه درهم، وقوله: قبل درهم أو قبله درهم؛ أي: قبل درهم أملكه، وقوله: بعد درهم أو بعده درهم؛ أي: بعد درهم لي ملكته، وإذا احتمل هذا.. لم يلزمه ما زاد على درهم بالشك.
ومنهم من قال: يلزمه في قوله: قبل درهم أو قبله درهم، أو بعد درهم أو بعده درهم درهمان قولا واحدا، وفي باقيها لا يلزمه إلا درهم؛ لأن قبل وبعد لا تحتمل إلا التأريخ، فصار أحد الدرهمين مضموما إلى الآخر.(13/446)
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (إنه إذا قال: فوق درهم.. لزمه درهمان، وإذا قال: تحت درهم.. لم يلزمه إلا درهم؛ لأن قوله: فوق درهم يقتضي الزيادة، وقوله: تحت يقتضي الدون) .
ودليلنا عليهم: ما مضى.
وإن قال: له علي درهم في عشرة، فإن أراد الحساب في الضرب.. لزمه عشرة، وإن لم يرد ذلك.. لم يلزمه إلا درهم؛ لأنه يحتمل أنه أراد في عشرة لي.
[فرع أقر بدرهم ثم قال: لا بل درهم أو درهمان]
وإن قال: له علي درهم، لا بل درهم.. لم يلزمه إلا درهم واحد.
وإن قال: له علي درهم، لا بل درهمان.. لم يلزمه إلا درهمان.
وقال زفر وداود: (يلزمه في الأولى درهمان، وفي الثانية ثلاثة دراهم) .
دليلنا: أن الأول من جنس الثاني، وقد نفى الأول وأثبت الثاني، فلم يلزمه إلا ما أثبته، كما لو قال: له علي درهمان إلا درهم.
وإن قال: له علي هذا الدرهم - وأشار إلى درهم - لا بل هذان الدرهمان - وأشار إلى درهمين آخرين - لزمه الدراهم الثلاثة؛ لأن الأول غير داخل في الدرهمين الآخرين، فلزمه الجميع، بخلاف قوله: له علي درهم، لا بل درهمان ولم يشر إلى دراهم بأعيانها؛ فإن الدرهم الأول داخل في الدرهمين الآخرين.
[فرع أقر بدرهم ثم قال لا بل دينار]
ونحو ذلك] :
وإن قال: له علي درهم، لا بل دينار، أو قال: له علي درهم، لا بل قفيز حنطة.. لزمه الدرهم والدينار والقفيز؛ لأن الثاني غير الأول فصار راجعا عن الأول مقرا بالثاني، فلم يقبل رجوعه، ولزمه حكم إقراره الثاني.(13/447)
وكذلك إذا قال: له علي درهم ودينار، أو درهم وقفيز حنطة.. لزمه الدرهم والدينار والقفيز؛ لأنه عطف الثاني على الأول فلزمه الجميع.
وإن قال: له علي دينار فقفيز حنطة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم يلزمه إلا دينار) . ووجهه: أنه أراد: له علي دينار فقفيز حنطة خير منه. ويأتي فيه قول أبي علي بن خيران في قوله: له علي درهم فدرهم على ما مضى.
وإن قال: له علي درهم أو دينار.. ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه لا يلزمه إلا أحدهما ويلزمه تعيينه؛ لأنه لم يقر إلا بأحدهما.
والثاني: لا يلزمه شيء، كما لو قال: لزيد أو لعمرو علي دينار.
وإن قال: له علي درهم في دينار.. لم يلزمه إلا درهم؛ لأنه يحتمل أنه أراد: في دينار لي.
وإن قال: له علي عشرة دراهم، لا بل تسعة.. قال ابن الصباغ: لزمه عشرة؛ لأنه أقر بها، ثم أضرب عنها فلم يقبل. ويخالف إذا قال: له علي درهم، لا بل درهمان؛ لأنه أضرب عن الإقرار بالدرهم إلا أنه أدخله في الثاني، فلم يلزمه الزيادة.
وإن قال: له علي عشرة دراهم أو تسعة.. قال الطبري: لا يلزمه إلا الأقل؛ لأنه يقين.
[مسألة الإقرار بدراهم بصيغة الجمع]
إذا قال: له علي دراهم.. لزمه أن يفسر، فإن فسر ذلك بثلاثة دراهم أو بأكثر منها.. قبل منه. وإن فسرها بدون الثلاثة.. لم يقبل منه.
وحكي عن بعض الناس أنه قال: يقبل منه التفسير بالدرهمين.(13/448)
دليلنا: أن العرب وضعت للعدد صيغة، فقالوا: رجل للواحد، ورجلان للاثنين، ورجال للثلاثة فما زاد، فدل على أن أقل الجمع ثلاثة.
فإن قال: له علي دراهم عظيمة أو كثيرة.. قبل في تفسير ذلك منه الثلاثة.
وقال أبو حنيفة: (لا يقبل منه أقل من عشرة) .
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقبل منه أقل من مائتي درهم.
دليلنا: أن أقل الجمع ثلاثة، ووصفه لها بالكثرة والعظم لا يقتضي زيادة في العدد، كما لو قال: له علي حنطة عظيمة أو كثيرة.
[فرع أقر بما بين درهم وعشرة]
وإن قال: له علي ما بين الدرهم والعشرة أو إلى العشرة.. لزمه ثمانية؛ لأن الواحد والعاشر حدان فلا يدخلان في المحدود.
قال ابن الصباغ: فمن أصحابنا من قال: يلزمه تسعة - وحكي ذلك عن أبي حنيفة - لأن الأول ابتداء الغاية والعاشر هو الحد، فدخل الابتداء فيه ولم يدخل الحد.
وقال محمد بن الحسن: يلزمه العشرة.
قال ابن الصباغ: فهذا له وجه؛ لأنا قد ذكرناه في (المرافق) : أن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه.
[فرع أقر بما لا يزيد على مائة أو بألف في الكيس أو على جدار]
قال الطبري في " العدة ": إذا قال: ما لزيد علي أكثر من مائة درهم.. لم يكن مقرا بالمائة. وقال أبو حنيفة: (يكون مقرا بالمائة) .
دليلنا: أن قوله: (ما) نفي لا إثبات فيه، فلا يكون إقرارا، كما لو قال: ما له علي قليل ولا كثير.(13/449)
قال الطبري في " العدة ": إن قال: له علي ألف درهم في هذا الكيس.. فحكى أبو ثور أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فإن كان في الكيس ألف درهم أو أكثر.. لزمه ألف درهم، وإن لم يكن في الكيس ألف درهم.. لم يلزمه غير ما في الكيس) .
وحكى أبو علي السنجي: أن القفال قال: يلزمه الألف ولا يسقط عنه شيء بالإضافة إلى الكيس، ألا ترى أنه لو اقتصر على الإقرار بالألف فلم يضف إلى الكيس.. كان يلزمه الألف.
ولو قال: له علي الألف الذي في هذا الكيس.. فهاهنا يخرج على قولين:
أحدهما: يلزمه الألف إذا لم يكن فيه شيء.
والثاني: لا شيء عليه إلا أن يكون فيه شيء فيلزمه، بناء على ما لو حلف ليشربن ماء هذا الكوز ولم يكن فيه شيء.. فهل يحنث؟ على قولين.
قال الطبري: وإن قال: له علي ألف أو على هذا الجدار.. لم يلزمه الألف.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه) .
دليلنا: أن إيصال الشك ممن عليه غير ملزم للإقرار، فهو كما لو قال: علي له أو على أخي أو شريكي ألف.
[مسألة أقر بكذا ولم يفسره]
وإن قال: له علي كذا ولم يفسره.. كان كما لو قال: له علي شيء، فيرجع في تفسيره إليه، فإن قال: له علي كذا درهم - برفع الدرهم - لزمه درهم، وتقديره: له علي شيء هو درهم. وإن قال: له علي كذا درهما - بنصب الدرهم - لزمه درهم، ويكون الدرهم منصوبا على التفسير. وإن قال: له علي كذا درهم - بخفض الدرهم - ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يلزمه بعض درهم، ويرجع في بيان البعض إليه؛ لأن كذا تكون كناية عن جزء من الدرهم مضاف إليه.(13/450)
و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: يلزمه درهم.
وإن قال: له علي كذا درهم، ووقف ولم يعرب الدرهم.. قال ابن الصباغ:
فعندي أنها على الوجهين في خفض الدرهم؛ لأن المجرور يوقف عليه ساكنا، كما يوقف على المرفوع، وإذا احتمل ذلك.. لم يلزمه إلا اليقين.
وإن قال: له علي كذا كذا، ولم يفسره.. رجع في تفسيره إليه، كما لو قال: له علي شيء شيء، ولا يفيد تكراره.
وإن قال: له علي كذا كذا درهم أو درهما.. لزمه درهم.
وإن قال: له علي كذا كذا درهم، بخفض الدرهم أو بوقفه.. فعلى الوجهين في التي قبلها في خفض الدرهم ووقفه.
وإن قال: له علي كذا وكذا ولم يفسره بشيء.. رجع في تفسيره إليه. فإذا فسر ذلك بأي شيء كان.. قبل منه، كما لو قال: له علي شيء وشيء.
فإن قال: له علي كذا وكذا درهما.. فقد نقل المزني فيه قولين:
أحدهما: (يلزمه درهمان) .
والثاني: (لا يلزمه إلا درهم) .
واختلف أصحابنا فيه على أربعة طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يلزمه درهمان؛ لأنه ذكر جملتين، فإذا فسر ذلك بدرهم.. عاد التفسير إلى كل واحدة من الجملتين، كما لو قال: له علي عشرون درهما.. فإن التفسير يعود إلى العشرين.
والثاني: لا يلزمه إلا درهم؛ لأن (كذا) يجوز تفسيره بأقل من درهم، فإذا فسر(13/451)
كذا وكذا بدرهم.. جاز أن يريد لكل واحد منهما نصف درهم فلم يلزمه أكثر من درهم بالشك.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين.
فحيث قال: (يلزمه درهمان) أراد: إذا قال: كذا وكذا درهما بنصب الدرهم؛ لأنه جعل الدرهم مفسرا لكل واحدة من الجملتين، فرجع إلى كل واحدة منهما.
وحيث قال: (لا يلزمه إلا درهم) أراد: إذا قال: كذا وكذا درهم برفع الدرهم؛ لأنه خبر عن المبهمين، فيكون معنى ذلك: هما درهم.
وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا الطريق في (الإقرار والمواهب) .
و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: هي على اختلاف حالين آخرين:
فحيث قال: (يلزمه درهمان) أراد: إذا فسره بالدرهم ولم ينو شيئا.
وحيث قال: (يلزمه إلا درهم) أراد: إذا فسره بالدرهم وقال: نويت الدرهم.
و [الطريق الرابع] : منهم من قال: هي على اختلاف حالين آخرين:
فحيث قال: (لا يلزمه إلا درهم) أراد: إذا قال: له علي كذا وكذا أو كذا درهم، كما لو قال: له علي درهمان أو درهم.
وقال محمد بن الحسن: إذا قال: له علي كذا كذا درهما.. لزمه أحد عشر درهما. وإن قال: له علي كذا وكذا درهما.. لزمه أحد وعشرون درهما.
ووجهه: أن أقل عددين لم يدخل فيهما حرف عطف يفسران بالواحد أحد عشر، وأقل عددين يعطف أحدهما على الآخر يفسران بالواحد أحد وعشرون.
قال أبو إسحاق المروزي: يحتمل إذا كان المقر من أهل العربية أن يحمل إقراره على ما قاله محمد بن الحسن، والطريق الثالث والرابع يبعدان عن كلام الشافعي(13/452)
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وما قاله محمد بن الحسن.. خطأ؛ لأنه لو كان كما قال.. لوجب عليه إذا قال: له علي درهم - بخفض الدرهم - مائة درهم؛ لأن أقل عدد يخفض مما فسر به مائة.
[مسألة الإقرار بألف من دون تفسير]
وإن قال: له علي ألف، ولم يبين من أي شيء.. رجع في تفسيره إليه؛ لأنه قد أقر بمبهم، فبأي جنس من المال فسره.. قبل منه.
قال ابن الصباغ: حتى لو فسره بحبات الحنطة.. قبل منه.
وإن فسره بألف كلب.. فهل يقبل منه؟ على وجهين، مضى بيانهما.
قال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني: وإن فسره بأجناس.. قبل منه.
وإن قال: له علي ألف ودرهم، أو ثوب وعبد.. لزمه الدرهم والثوب والعبد، ورجع في تفسير الألف إليه، وبه قال مالك.
وقال أبو ثور: (يكون المعطوف تفسيرا للمعطوف عليه، وهو الألف) .
وقال أبو حنيفة: (إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا.. كان تفسيرا له، وإن كان مذروعا أو معدودا، كالثوب والعبد.. لم يكن تفسيرا له) .
دليلنا على أبي ثور: أن المعطوف لا يقتضي أن يكون من جنس المعطوف عليه؛ لأنه قد يعطف الشيء على غير جنسه، فلم يكن تفسيرا له.
وعلى أبي حنيفة: أنه مفسر معطوف على مبهم فلم يكن تفسيرا للمبهم، كما لو قال: له علي مائة وثوب.
[فرع أقر بألف وثلاثة دراهم أو بخمسة عشر درهما]
وإن قال: له علي ألف وثلاثة دراهم، أو له علي مائة وخمسون درهما، أو علي له خمسة وعشرون درهما، أو خمسون وألف درهم، أو مائة وألف درهم.. ففيه وجهان:(13/453)
[أحدهما] : قال أبو علي بن خيران وأبو سعيد الإصطخري: يكون تفسيرا لما يليه من الجملتين، وما قبل ذلك يرجع في تفسيره إليه، كما لو قال: له علي ألف ودرهم.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: يكون ذلك تفسيرا للجملتين؛ لأنه ذكر الدرهم للتفسير؛ ولهذا لا تجب به زيادة عدد، فكان راجعا إلى ما تقدمه من الجملتين، بخلاف قوله: ألف ودرهم؛ فإنه عطفه على الألف؛ ولهذا يجب الدرهم مع الألف.
فإن باعه شيئا بمائة أو خمسين درهما وبخمسة وعشرين درهما أو ما أشبه ذلك.. لم يصح البيع على قول أبي علي بن خيران وأبي سعيد الإصطخري، ويصح البيع على قول سائر أصحابنا.
وإن قال: له علي خمسة عشر درهما.. لزمه خمسة عشر درهما بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأن هذين العددين ركبا عددا واحدا ليس أحدهما معطوفا على الآخر.
[فرع أقر بألف وكر حنطة]
وإن قال: له علي ألف وكر حنطة.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الحنطة تكون تفسيرا للكر، ويرجع في تفسير الألف إليه.
فإن قال: له علي ألف وثلاثة دراهم.. كانت الدراهم تفسيرا والثلاثة؛ لأن الدراهم تصلح لكل واحد منهما؛ ولهذا لو قال: له علي ألف درهم.. صح، والحنطة لا تصلح للألف؛ ولهذا لو قال: له علي ألف حنطة.. لم يصح.
[مسألة الاستثناء في الإقرار]
يصح الاستثناء في الإقرار؛ لأن القرآن ورد بالاستثناء، وهو لغة العرب فالاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات.(13/454)
فإذا قال: له علي عشرة دراهم إلا درهما.. لزمه تسعة دراهم. وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا تسعة.. لزمه درهم.
وحكي عن ابن درستويه النحوي أنه قال: لا يصح استثناء الأكثر. وإليه ذهب أحمد بن حنبل.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] [الحجر: 42] وقال تعالى في موضع آخر: قَالَ {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] [ص: 82 - 83] فاستثنى الغاوين من العباد، واستثنى العباد من الغاوين، ولا بد أن يكون أحدهما أكثر من الآخر.
وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا عشرة دراهم.. لزمه عشرة دراهم؛ لأن الاستثناء إذا رفع جميع المستثنى منه.. لم يكن له حكم.
وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهمين.. كان المقر به تسعة؛ لأنه لما استثنى ثلاثة من العشرة المثبتة.. كان نافيا للثلاثة، فإذا استثنى الدرهمين من الثلاثة.. كان مثبتا لهما مع السبعة الباقية، فصار عليه تسعة.
وإن قال: له علي ثلاثة دراهم إلا درهمين.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يلزمه ثلاثة دراهم؛ لأن الاستثناء الأول يرفع جميع المستثنى منه فبطل، والثاني معلق به فبطل ببطلانه.
والثاني: يلزمه درهم؛ لأن الاستثناء الأول باطل فسقط وبقي الاستثناء الثاني فصح.
والثالث: يلزمه درهمان. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عما بقي، وذلك عبارة عن استثناء درهمين من ثلاثة.(13/455)
وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا خمسة وخمسة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل الاستثناءان.
والثاني: يصح الأول دون الثاني.
قال الطبري: وإن قال: له علي ألف درهم - أستغفر الله - إلا مائة درهم.. صح الاستثناء.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح الاستثناء) .
دليلنا: أن الفصل اليسير بين الاستثناء والمستثنى منه إذا لم يكن حرف إبطال الاستثناء.. لا يبطله، كما لو قال: له علي ألف - يا فلان - إلا مائة.
[مسألة كون المستثنى من غير جنس المستثنى منه]
يجوز أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه؛ بأن يقول: له علي مائة درهم إلا دينار. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إن استثنى مكيلا أو موزونا.. جاز، وإن استثنى عبدا أو ثوبا من مكيل أو موزون.. لم يجز) .
وقال زفر ومحمد: لا يجوز بحال. وبه قال أحمد.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] [الكهف: 50] وقال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] {إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26] [الواقعة: 25-26] ، وقال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
فاستثنى اليعافير - وهي: ذكور الظباء - والعيس - وهي: الجمال البيض - من الأنيس.(13/456)
إذا ثبت هذا: فقال: له علي ألف إلا درهما.. قيل له: قد أقررت بألف مبهم وفسرت المستثنى منه ففسر الألف المقر بها، فإن فسره بجنس قيمته أكثر من درهم.. سقط منه قدر الدرهم، وبقي الباقي عليه. وإن فسره بجنس قيمته درهم أو أقل.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل التفسير؛ لأن الاستثناء قد صح، فإذا فسر الإقرار المبهم بما يرفع الاستثناء.. لم يصح التفسير، ويطالب بالتفسير على ما مضى.
والثاني: يصح التفسير، ويبطل الاستثناء؛ لأنه فسره بما يقبل منه، فإذا كان الاستثناء يرفعه.. حكم ببطلان الاستثناء.
وإن قال: له علي ألف درهم إلا ثوبا.. قلنا له: بين قيمة الثوب، فإن بين قيمته بقدر يبقى بعده من الألف شيء.. قبل منه. قال ابن الصباغ: وعندي أنه ينبغي أن يكون ذلك قدر ما يجوز أن يكون قيمة الثوب.
وإن فسره بما قيمته أغلى من الثوب وكانت قدر ألف.. ففيه الوجهان الأولان:
أحدهما: يلزمه الألف، ويبطل الاستثناء.
والثاني: يبطل التفسير، ويطالب بتفسير قيمة الثوب بقدر يكون أقل من ألف درهم.
وإن قال: له علي ألف إلا ثوبا.. فقد أقر بمبهم واستثنى منه مبهما، فيطالب بتفسيرهما، والكلام فيه إذا فسر على ما مضى.
[فرع استثنى من جنسين كل على حدى]
إذا قال: له علي ألف درهم إلا مائة درهم، وعشرة دنانير إلا قيراطا.. فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه تسعمائة درهم وعشرة دنانير إلا قيراطا؛ لأن الظاهر أنه أقر(13/457)
بمالين، وهما ألف درهم وعشرة دنانير وعقب كل واحد منهما استثناء.
والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: أنه يلزمه تسعمائة درهم وقيراط إلا قيمة عشرة دنانير؛ لأنه أقر له بألف درهم واستثنى منه مائة درهم، وعطف على المائة عشرة دنانير فكانت قيمتها مستثناة مع المائة، ثم استثنى من الدنانير قيراطا فكان باقيا عليه؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات.
[فرع استثنى من جنسين معا]
وإن قال: له علي ألف درهم ومائة دينار إلا مائة درهم وعشرة دنانير.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه ألف درهم، ويكون الاستثناء يرجعان إلى المائة الدينار؛ لأنهما يعقبانها فرجعا إليها.
والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: أن المائة الدرهم تكون مستثناة من ألف درهم، والعشرة الدنانير مستثناة من المائة الدينار؛ لأن الظاهر أنه استثنى كل جنس من جنسه.
[فرع استثنى عبدا من عبيد أو كان بيده عبد وجارية وأقر بأحدهما]
وإن كان في يده عشرة عبيد، فقال: هؤلاء العبيد لزيد إلا واحدا.. صح الإقرار، ويطالب بتعيين العبيد الذين للمقر له، فإن قال: له هؤلاء التسعة.. صح، وإن قال: ليس له إلا هذا.. كان الباقي منهم للمقر له. وإن كذبه المقر له في التعيين.. كان القول قول المقر مع يمينه؛ لأنه أعرف بما أقر.
فإن مات من العبيد تسعة وبقي واحد، فقال المقر: هذا الذي بقي ليس له، فإن كان العبيد غير مضمونين على المقر.. فهل يقبل منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل منه؛ لأن هذا تفسير برفع جميع المقر به فلم يقبل، كما لو قال: له علي درهم إلا درهما.
والثاني: يقبل قوله، وهو الأصح؛ لأن التفسير يرفع إلى وقت الإقرار وقد كان التفسير لو لم يمت التسعة صحيحا وكذلك إذا ماتوا، فصار كما لو قال: هؤلاء العبيد له إلا غانما ثم(13/458)
ماتوا إلا غانما. ويخالف إذا استثنى الجميع؛ فإن ذلك مضاد للإقرار فسقط.
وإن كانوا مضمونين على المقر؛ بأن أقر أنه غصبهم.. قبل وجها واحدا؛ لأنه يجب عليه قيمة التالفين. وكذلك إذا قتلهم أو قتلهم غيره.. فإنه يقبل قوله وجها واحدا؛ لما ذكرناه.
وإن كان في يده عبد وجارية، فقال: أحد هذين لزيد.. صح إقراره وطولب بالبيان، فإن قال: العبد له وصادقه المقر له.. سلم إليه العبد.
وإن قال المقر له: بل الجارية لي دون العبد.. فالقول قول المقر مع يمينه في الجارية. وأما العبد: فقد أقر به لمن كذبه، فالحكم فيه على ثلاثة أوجه:
أحدها: يبقى على ملك المقر؛ لأنه على ملكه، فإذا أقر به لمن لا يدعيه.. بقي على ملكه.
والثاني: ينتزعه الحاكم ويحفظه إلى أن يجيء من يدعيه.
والثالث: يحكم بعتقه.
[فرع أقر بدار لفلان إلا بيتا وعينه أو أقر بإعارتها له]
إذا قال: هذه الدار لزيد إلا هذا البيت، أو هذه الدار لزيد وهذا البيت لي.. فإن البيت يكون للمقر؛ لأنه بمنزلة الاستثناء أو أصرح منه، فقبل.
فإن قال: هذه الدار لفلان هبة عارية أو هبة سكنى.. لم يكن إقرارا بالدار، بل يكون إقرارا بإعارة الدار، فإن رجع المعير في العارية.. صح رجوعه في المستقبل، ولا يصح رجوعه فيما استوفى المستعير من المنفعة.
فإن قيل: قوله: هذه الدار لفلان إقرار بالدار، فإذا قال: هبة عارية أو هبة سكنى.. كان ذلك منه رجوعا عن الإقرار بالدار، فلم يقبل.
قلنا: إنما يكون إقرارا لو اقتصر في الإقرار على قوله: هذه الدار لفلان، فأما إذا(13/459)
وصله بقوله: هبة عارية أو هبة سكنى.. لا يكون إقرارا بالدار، وإنما هو إقرار بهبة منافعها. ولأنه مقر بالعين والمنفعة، فإذا استثنى العين وبقاء المنفعة.. صح، كما لو قال: هذه الدار له إلا هذا البيت.
[مسألة أقر بثوب في منديل ونحوه أو أقر بغصبه]
وإن قال: عندي لفلان ثوب في منديل، أو تمر في جراب.. كان إقرارا بالثوب دون المنديل، وبالتمر دون الجراب؛ لأنه يحتمل في منديل لي، وفي جراب لي.
وكذلك: إذا قال: غصبت منه ثوبا في منديل، أو زيتا في زق.. كان مقرا بغصب الثوب دون المنديل، والزيت دون الزق.
وكذلك: إذا قال: غصبت زقا فيه زيت، وجرة فيها خل.. كان مقرا بغصب الزق دون الزيت، والجرة دون الخل. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إذا قال: غصبت منه ثوبا في منديل، أو زيتا في زق.. كان مقرا بغصبهما) .
دليلنا: أنه يحتمل أن يكون المنديل له، فقوله: (غصبت ثوبا في منديل) يحتمل في منديل لي، ولو قال ذلك.. لم يكن غاصبا لهما، فإذا أطلقه.. كان قوله محتملا له، فلم يكن مقرا بغصبهما، كما لو قال: عندي له ثوب في منديل، وكما لو قال: غصبت دابة في إصطبلها.
وإن قال: عندي له خاتم.. لزمه الخاتم بفصها؛ لأن اسم الخاتم يجمعهما.
وإن قال: له عندي ثوب مطرز.. لزمه الثوب بطرازه، سواء كان الطراز منسوجا مع الثوب أو مركبا عليه.(13/460)
ومن أصحابنا من قال: إن كان الطراز مركبا على الثوب بعد النسج.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الثوب مع طرازه؛ لأنه من أجزاء الثوب.
والثاني: لا يلزمه الطراز؛ لأنه متميز عن الثوب.
[فرع أقر بدار مفروشة أو بدابة عليها سرج أو بعبد عليه عمامة أو ثوب]
وإن قال: عندي له دار مفروشة.. كان مقرا بالدار دون الفراش؛ لأنه يجوز أن تكون مفروشة بفراش للمقر.
قال الطبري: فإن قال: عندي له دابة بسرجها، أو سفينة بطعامها.. كان مقرا بالدابة والسرج والسفينة والطعام؛ لأنه لا يحتمل إلا الإقرار بالأمرين جميعا.
قال ابن القاص في " التلخيص ": فإن قال: له عندي دابة عليها سرج.. كان مقرا بالدابة دون السرج. وإن قال: له عندي عبد عليه عمامة أو ثوب.. كان مقرا بالعبد والعمامة والثوب.
فوافق على ذلك أكثر أصحابنا، وفرقوا بينهما؛ بأن قالوا: الدابة لا يد لها على السرج، وللعبد يد على العمامة والثوب فكان مقرا للعبد وبما في يده.
قال أبو علي السنجي: لا يكون مقرا بالسرج ولا بالعمامة والثوب؛ لأن ابن القاص قد ذكر الفرس والعبد في " المفتاح " ولم يفرق بينهما. ولأنه يحتمل أن قوله: عليه عمامة أو ثوب لي، ومتى احتمل قوله دخوله وعدم دخوله.. لم يدخل بالشك. ولأن يده ثابتة على الجميع فلم يدخل في الإقرار إلا ما تيقن.
[مسألة الإقرار وملابسات الوديعة]
وإن قال: له علي ألف درهم وديعة.. قبل قوله؛ لأن الوديعة عليه ردها. فإن قال: له علي ألف درهم - بعد ذلك - كنت أظنها باقية وقد كانت تلفت قبل إقراري..(13/461)
لم يقبل قوله؛ لأنه قد أقر بوجوب ردها، فلا يقبل رجوعه. وإن قال: أتلفت بعد إقراري.. قبل قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
وإن قال: علي لزيد ألف درهم، ثم جاء بألف ثم قال: هذه الألف التي أقررت بها وكانت وديعة له عندي، فإن صدقه زيد.. فلا كلام، وإن كذبه وقال: هذه وديعة لي عندك والتي أقررت بها لي غيرها.. ففيه قولان - حكاهما الشيخ أبو إسحاق -:
أحدهما: لا يقبل قوله - وحكى ابن الصباغ: أنه قول أبي حنيفة - لأن معنى قوله: (علي) للإيجاب وذلك يقتضي كونها في ذمته. ألا ترى أنه إذا قال: ما على فلان علي.. كان ضامنا؟ والوديعة ليست بواجبة عليه، فلم يقبل تفسيره بها.
والثاني: يقبل قول المقر مع يمينه - ولم يذكر ابن الصباغ ولا المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 296] غيره - لأن الوديعة عليه حفظها وردها، فإذا فسر إقراره بقوله: (علي) بالوديعة.. قبل، كما لو قال: عندي له ألف درهم، ثم قال هي وديعة.. فإنه يقبل، و (علي) : بمعنى عندي؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14] [الشعراء: 14] أي: عندي ذنب.
وإن قال: له علي ألف درهم في ذمتي، فجاء بألف وقال: الألف التي كنت أقررت لك بها كانت وديعة وتلفت عندي، وهذه بدلها.. قبل قوله؛ لأنه يجوز أن تكون تلفت بتعديه، أو بتفريطه فتكون بدلها في ذمته.
وأما إذا جاء بألف وقال: التي أقررت بها هي هذه وهي وديعة عندي، فقال المقر له: هذه وديعة لي عندك وتلك دين لي في ذمتك.. فهل يقبل قول المقر؟
إن قلنا في التي قبلها: لا يقبل قوله.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا: تقبل هناك.. فهاهنا وجهان.
أحدهما: لا يقبل؛ لأن الوديعة لا تثبت بالذمة، بخلاف ما لو قال: علي ألف درهم ثم فسرها بالوديعة؛ لأنه لم يصرح بكونها في ذمته.(13/462)
والثاني: يقبل قوله مع يمينه؛ لجواز أن تكون وديعة تعدى بها فكان ضمانها في ذمته.
[فرع أقر بألف وديعة أو مضاربة]
إذا قال: له علي ألف درهم وديعة أو مضاربة دينا.. قبل قوله؛ لأنه قد يتعدى بالوديعة، وأما مال المضاربة: فيكون مضمونا عليه.
وإن قال: له علي ألف أخذتها منه.. فقد اختلف أصحابنا الخراسانيون فيه:
فمنهم من قال: هو كما لو قال: دفعها إلى وديعة، فلو ادعى بعد ذلك أنها تلفت.. قبل قوله فيها مع يمينه؛ لأنه قد تضاف الوديعة إلى آخذها كما تضاف إلى دافعها.
وقال القفال: لا يقبل قوله: إنها وديعة عنده، بل تكون مضمونة عليه - وهو قول أبي حنيفة - لأن الأخذ يقتضي الغصب، فإذا فسره بالوديعة.. لم يقبل.
[فرع أقر بألف عارية]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو قال: له عندي ألف درهم عارية.. كانت مضمونة) .
قال أصحابنا: هل تصح عارية الدراهم والدنانير؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها.
والثاني: لا يصح؛ لأنه لا ينتفع بها مع بقاء عينها انتفاعا مقصودا.
فإذا استعارها.. كانت مضمونة عليه على الوجهين، فإذا أقر بذلك.. كانت مضمونة عليه، سواء قلنا: تصح إعارتها أو لا تصح؛ لأن ما ضمن بالعقد الصحيح.. ضمن بالعقد الفاسد كالبيع.
[مسألة الإقرار بحصة في العبد أو السلعة]
وإن قال: له في هذا العبد ألف، أو من هذا العبد ألف.. قلنا له: بين ما أردت بهذا؟(13/463)
فإن قال: أردت: أنه وزن عني ألفا في ثمنه قرضا.. كان مقرا بألف في ذمته.
وإن قال: نقد في ثمنه عن نفسه ألف درهم.. قيل له: بين كم كان ثمن العبد، وكيف وقع الشراء؟ فإن قال: اشتريته أنا وهو صفقة واحدة.. قلنا: فكم نقدت أنت من الثمن؟ فإن قال: نقدت ألفا.. كان مقرا له بنصف العبد. وإن قال: نفدت ألفين.. كان مقرا بثلث العبد، وسواء كان ذلك قيمة العبد أو أقل أو أكثر. فإن قال: اشترى ربعه أو ثلثه بألف بعقد، واشتريت الباقي أو اتهبته أو ورثته.. قبل قوله. فإن كذبه المقر له في شيء من ذلك.. كان القول قول المقر مع يمينه؛ لأن ما قاله محتمل.
وإن قال: جنى عليه العبد جناية أرشها ألف درهم.. قبل قوله في ذلك.
وإن قال: وصى له بألف درهم من ثمنه.. استحق الألف من ثمنه.
وإن قال: هو مرهون عنده بألف.. فهل يقبل قوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأن الدين في الرهن يتعلق بالذمة، والرهن وثيقة فيكون تفسيره مخالفا لظاهر إقراره.
والثاني: يقبل؛ لأن الدين يتعلق بالرهن والذمة.
إذا ثبت هذا: فقال صاحب " التلخيص " إذا قال: لفلان علي ألف درهم في هذه السلعة.. سئل، فإن قال: نقد في ثمنها ألف درهم.. قيل له: وأنت كم نقدت؟ فإن قال: ألفين.. كانت بينهما أثلاثا.
قال أصحابنا: هذا غلط، وإنما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هذا: إذا قال: له علي في هذا العبد ألف.. (سئل عن قوله) فأما إذا قال: له علي ألف في هذه السلعة.. فالألف لازمه له بكل حال؛ لأن قوله: (له علي ألف) إقرار، فإضافة إلى السلعة لا تغيره.(13/464)
[فرع أقر بأن له في هذا العبد شرك]
وإن قال: له في هذا العبد شرك.. صح إقراره ورجع إليه في تفسير ذلك الشرك منه، فبأي قدر فسره.. قبل منه. وبه قال محمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: يكون له النصف.
دليلنا: أن الشرك يقع على القليل والكثير فقبل قوله فيه، كما لو قال: له فيه شيء.
[مسألة أقر بأن له حصة من ميراث أبيه أو من ميراثه من أبيه]
وإذا قال: له في ميراث أبي، أو من ميراث أبي ألف.. كان مقرا له على أبيه بدين. وإن قال: له في ميراثي من أبي، أو من ميراثي من أبي ألف.. رجع في تفسيره إليه: فإن قال: أردت الإقرار.. قبل منه. وإن قال: أردت الهبة مني.. قبل قوله، ويكون بالخيار: بين أن يسلم له ما وهب له، وبين أن لا يسلم له.
والفرق بينهما: أنه إذا أطلق ولم يصف الميراث إلى نفسه.. اقتضى وجوبها في التركة لحق كان على أبيه، فإذا أضاف الميراث إلى نفسه ثم جعل له منها جزءا, احتمل أن يكون ذلك هبة منه له، والهبة لا تلزم عليه إلا بالتسليم.
وكذلك إذا قال: له في هذه الدار نصفها، أو له نصف هذه الدار.. كان إقرارا بنصفها. وإن قال: له في داري نصفها.. لم يكن إقرارا؛ لما ذكرناه.
وإن قال: له في ميراثي أو من ميراثي من أبي ألف بحق، أو في داري أو من داري نصفها بحق.. لزمه ذلك إقرارا؛ لأنه قد اعترف أن المقر له يستحق ذلك فلزمه.
وإن قال: له في هذا المال ألف.. كان ذلك إقرارا.
وإن قال: له في مالي، أو من مالي ألف.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع:
(أنه لا يكون إقرارا، بل يرجع إليه في تفسيره) كما قال في قوله: له في ميراثي من أبي، أو من ميراثي من أبي ألف. وقال في (الإقرار والمواهب) : (لو قال: له في(13/465)
مالي ألف.. كان إقرارا) واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في قوله: (له في مالي ألف) قولان:
أحدهما: يكون إقرارا؛ لأن الألف التي في ماله وفاؤها عليه وماله ظرف لها؛ كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] [المعارج: 24] وأراد به حق الله تعالى، وهو واجب عليهم.
والثاني: لا يكون إقرارا، وهو الصحيح؛ لأنه أضاف المال إلى نفسه ثم جعل لغيره منه ألفا فلا يحمل على غير الهبة، والهبة لا تلزم عليه إلا بالقبض.
ومنهم من قال: لا يكون إقرارا قولا واحدا؛ لأنه لا فرق بين قوله: له في مالي ألف، وبين قوله: له من مالي ألف، وكذلك: له في داري أو من داري، وفي ميراثي أو من ميراثي. وما قاله في (الإقرار والمواهب) يحتمل: أن يكون سهوا من الكاتب أو متأولا على أنه قال: علي له في مالي ألف؛ لأنه إذا قال: علي له.. فقد صرح بوجوبه عليه، فكان إقرارا.
[مسألة تخلل الإقرار بسكوت]
إذا قال: له عندي ألف وسكت، ثم قال بعد ذلك: من ثمن مبيع لم أقبضه.. لم يقبل قوله، ويكون القول قول المقر له، فإذا حلف: أنه ليس له عنده مبيع بالألف المقر بها.. استحق الألف؛ لأنه فسر إقراره بما يسقط وجوب تسليمه منفصلا عنه فلم يقبل.
وإن قال: له عندي ألف درهم من ثمن مبيع وسكت، ثم قال بعد ذلك: لم أقبضه.. قبل قوله، فإن خالفه المقر له.. كان القول قول المقر مع يمينه؛ لأن إقراره تعلق بالمبيع، والأصل عدم القبض فقبل قوله فيه.
وإن قال: له عندي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه.. قبل قوله، فإن أنكر المقر له وقال: بل هي عنده دين من غير ثمن مبيع.. فالقول قول المقر مع يمينه، ولا فرق(13/466)
بين أن يعين المبيع أو لا يعينه. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (إن عين المبيع.. قبل قوله، وسواء وصل بإقراره أو لم يصل فإن أطلق.. لم يقبل منه) .
دليلنا: أنه أقر بحق عليه في مقابلة حق له لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا لم يثبت ما له.. لم يثبت ما عليه، كما لو عين المبيع.
[فرع أقر له بخمسة دراهم في ثوب لسنة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في (الإقرار والمواهب) : (إذا قال: عندي له خمسة دراهم في ثوب اشتريته منه إلى سنة) .
ومعناه: أني أسلمت إليه في ثوب خمسة دراهم إلى سنة، وصدقه المقر له.. نظرت: فإن قال ذلك بعد التفرق من مجلس السلم.. فقد بطل السلم. وإن كان قبل التفرق.. فلكل واحد منهما الخيار في فسخه.
وإن كذبه المقر له وقال: بل عنده لي خمسة دراهم دين لا عن سلم.. فالقول قول المقر له مع يمينه؛ لأن المقر وصل بإقراره ما يرفعه، فلم يقبل.
وإن قال: له عندي ثوب في خمسة دراهم، ومعنى ذلك: دفع إلي ثوبا بخمسة دراهم.. كان مقرا بخمسة دراهم.
وإن قال: له عندي ثوب فيه خمسة دراهم.. كان مقرا له بالثوب دون الدراهم، كما قلنا في قوله: له عندي جراب فيه تمر.
[مسألة أقر بحق ثم وصله بما يسقطه]
إذا أقر له بحق ثم وصله بما يسقطه لا من الوجه الذي أثبته؛ مثل أن يقول: تكفلت ببدن فلان على أني بالخيار، أو له عندي ألف من ثمن خمر أو كلب، أو من ثمن مبيع(13/467)
هلك قبل القبض، أو له علي ألف قضيته إياها.. فهل يقبل قوله في ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يقبل قوله - وبه قال أبو حنيفة - لأنه يحتمل ما قاله، كما لو قال: من ثمن مبيع لم أقبضه.
والثاني: لا يقبل قوله؛ لأنه وصل إقراره بما يسقطه فلم يقبل منه، كما لو قال: له علي ألف درهم إلا ألف درهم.
فأما إذا وصله بما يرفعه من الوجه الذي أثبته؛ بأن قال: له علي ألف درهم إلا درهما.. فإنه لا يقبل.
وإن قال: له علي ألف درهم إلى سنة.. فاختلف أصحابنا فيه.
فمنهم من قال: هي على قولين، كما لو قال: له علي ألف درهم قضيته إياها.
ومنهم من قال: يقبل منه قولا واحدا؛ لأن ذلك لا يسقط الإقرار وإنما يؤخره.
وقال أبو حنيفة: (يكون مدعيا للأجل، والقول فيه قول المقر له مع يمينه) .
دليلنا: أن الأجل أحد نوعي الدين، فوجبت أن يثبت بالإقرار كالحلول.
[فرع ادعى عليه مائة فقال قضيتك منها خمسين]
وإن ادعى على رجل مائة درهم، فقال المدعى عليه: قد قضيتك منها خمسين.. فقد صار مقرا له بهذه الخمسين ومدعيا لقضائها، وهل يقبل قوله في القضاء؟ على القولين. وأما الخمسون الأخرى: فالقول قول المدعى عليه مع يمينه فيها؛ لأن الأصل براءة ذمته منها.
[فرع الإقرار بملكه أو قبضه عبدا من فلان]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في (الإقرار والمواهب) : (إذا قال: ملكت هذا(13/468)
العبد من فلان أو قبضته منه.. كان إقرارا له بالملك واليد، فإن كذبه فلان في انتقاله إليه.. كان القول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. رد إليه. وإن قال: ملكته على يد فلان أو أخذته أو قبضته أو وصل على يديه.. لم يكن إقرارا له بالملك ولا باليد؛ لأن قوله: (على يده) يقتضي معاونته.
وإن قال أودعني ألفا فلم أقبضها، أو أقرضني أو أعطاني أو أنقدني ألفا فلم أقبضها.. قبل قوله إذا كان متصلا، ولا يقبل إذا كان منفصلا) .
وقال أبو يوسف: لا يقبل قوله في أنقدني ألفا.
دليلنا: أنه لم يقر بالقبض فلم يلزمه، كما لو قال: أقرضني فلم أقبضه.
[مسألة أقر لزيد ثم قال: لا بل لعمرو]
وغير ذلك] :
إذا قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو، أو غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، أو قال: غصبتها من زيد وغصبها زيد من عمرو.. فالحكم في ذلك كله واحد، ويلزمه تسليم الدار إلى زيد؛ لأنه أقر له بها. وهل يلزمه أن يغرم لعمرو قيمة الدار؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه أقر للثاني بما عليه، وإنما منع الشرع من قبوله، وذلك لا يوجب الضمان.
والثاني: يجب عليه أن يغرم لعمرو قيمة الدار، وهو الأصح؛ لأنه حال بينه وبين الدار بإقراره الأول، فلزمه أن يغرم له، كما لو شهد رجلان عل رجل بعتق عبده، فحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجعا عن الشهادة.
وحكى المسعودي [في ((الإبانة)) ق\297] : أن من أصحابنا من قال: إذا قال: هذه الدار لزيد، بل لعمرو ولم يقل: غصبتها.. أنه لا يغرم لعمرو شيئا قولا واحدا؛ لأنه لم يقر بالجناية على نفسه. والصحيح هو الأول.(13/469)
ولا فرق بين أن يوالي الإقرار لهما، أو أن يفصل بينهما بفصل طويل أو قصير.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا سلمها الحاكم إلى زيد، أو حكم عليه الحاكم بالتسليم وأجبره على تسليمها. فأما إذا سلمها المقر بنفسه إلى زيد.. فإنه يغرم لعمرو قيمتها قولا واحدا؛ لأنه ضمنها بالتسليم.
ومنهم من قال: القولان في الحالين، وهو الصحيح؛ لأن الحاكم إنما يسلمها أو يخبره بإقراره.
وإن باع من رجل عينا وأخذ ثمنها، ثم أقر بها لغيره.. لم يقبل إقراره بها للثاني لحق المشتري. وهل يلزمه أن يغرم قيمتها للثاني؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان كالأولى. ومنهم من قال: يلزمه أن يغرم له قيمتها قولا واحدا؛ لأنه قد أخذ عوضها.
وإن أقر رجل أن الدار التي في تركة أبيه لزيد، لا بل لعمرو، وسلمت إلى زيد.. فهل يغرم لعمرو قيمتها؟
قال ابن الصباغ: من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو قال: غصبتها من زيد، لا بل من عمرو. ومنهم من قال: لا يغرم لعمرو شيئا قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن هاهنا أقر بما يغلب على ظنه، ولا يوجد ذلك منه بالعلم والإحاطة، وإذا أقر بمال نفسه.. حمل أمره على العلم والإحاطة، فلم يعذر في الرجوع.
فإن كان في يده دار، فقال: غصبتها من زيد وملكها لعمرو.. وجب عليه تسليمها إلى زيد؛ لأن قوله: (غصبتها من زيد) يقتضي: أنها كانت في يده بحق، وقوله: (وملكها لعمرو) لا ينافي ذلك؛ لأنها قد تكون في يد زيد بإجارة أو موصى له بمنفعتها وملكها لعمرو. ولا تقبل شهادته لعمرو؛ لأنه قد أقر أنه غاصب، وشهادة الغاصب غير مقبولة، ولا يلزمه أن يغرم لعمرو قيمتها قولا واحدا؛ لأنه لم يكن منه تفريط إلا أن يعلم المقر أنها في يد زيد بغير حق.. فلا يجوز له تسليمها إليه فيما بينه وبين الله تعالى، فإن سلمها إليه ضمنها.(13/470)
فأما إذا قال: هذه الدار ملكها لعمرو وغصبتها من زيد.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: الحكم فيها كالحكم في التي قبلها؛ لأنه لا فرق بين أن يقدم ذكر الغصب أو الملك؛ لأنهما لا يتنافيان على ما مضى.
ومنهم من قال: يلزمه هاهنا أن يسلمها إلى زيد، وهل يلزمه أن يغرم لعمرو؟ فيه قولان، كما قلنا فيه إذا قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو.
وحكى ابن الصباغ: أن من أصحابنا من قال: يلزمه أن يسلمها إلى عمرو، وهل يضمنها لزيد؟ على قولين؛ لأنه أقر بالملك لعمرو، فلم يقبل إقراره باليد لزيد.
[فرع أقر بغصب عبد من أحد رجلين]
إذا قال: غصبت هذا العبد من أحد هذين الرجلين.. فإنه يطالب بتعيين المغصوب منه منهما.
فإن قال: لا أعرف عينه.. نظرت: فإن صدقاه على ذلك.. انتزع العبد من يده وكانا خصمين فيه. وإن كذباه وادعى كل واحد منهما أنه يعلم أنه غصبه منه.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بفعله، فإذا حلف.. انتزع منه العبد وكانا خصمين فيه، وإن نكل.. حلف المدعي وكان كما لو أقر له.
وإن قال المقر له: هو لهذا.. فإنه يكون له لا ويغرم للآخر شيئا قولا واحدا؛ لأنه لم يقر له بشيء. فإن قال الآخر: أحلفوه أنه لا يعلم أنه لي.. فهل يلزمه أن يحلف؟ يبنى على القولين فيه إذا أقر له به بعد الأول:
فإن قلنا: يلزمه أن يغرم له قيمته.. لزمه أن يحلف له؛ لجواز أن يخاف اليمين فيقر.
وإن قلنا: لا يلزمه أن يغرم له قيمته.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأنه لا فائدة في عرض اليمين عليه.(13/471)
[مسألة ادعى عبده أن سيده أعتقه فأنكر السيد فأقام العبد شاهدين ثم اشتراه أحدهما]
وإن كان في يده عبد، فادعى عليه أنه أعتقه فأنكر، فأقام عليه شاهدين بأنه أعتقه، فإن قبلت شهادتهما.. عتق، وإن ردت شهادتهما.. فالقول قول السيد مع يمينه، فإذا حلف.. استقر ملكه عليه.
فإن اشتراه الشاهدان أو أحدهما.. حكم بصحة البيع من جهة البائع؛ لأنه محكوم له بملكه، ويكون الشراء من جهة المشتري ابتداء، كما إذا وجد المسلم مع المشرك أسيرا مسلما فاشتراه.. فإنه يكون استنقاذا. فإذا أنفذ البيع.. حكم بعتقه على المشتري؛ لتقدم إقراره بعتقه، ويثبت عليه الولاء؛ لأن العتق لا ينفك عن الولاء، ويكون موقوفا؛ لأن المشتري لا يدعيه والبائع لا يدعيه.
فإن مات هذا العبد وخلف مالا، فإن كان له وارث مناسب أو من له فرض.. ورث ميراثه. وإن لم يكن له وارث.. نظرت: فإن أقر البائع أنه قد كان أعتقه.. قبل قوله ولزمه رد الثمن على المشتري، وكان مال المعتق أو ما بقي عن أهل الفرض له؛ كما إذا لاعن امرأته ونفى نسب ولدها، ثم مات الولد وخلف مالا.. فأكذب الرجل نفسه.
وإن لم يقر البائع أنه قد كان أعتقه، لكن اعترف المشتري أنه كان قد كذب في الشهادة في العتق.. لم يقبل قوله في إبطال العتق، ولكن يكون له أخذ مال المعتق بالولاء؛ لأنه حكم بعتقه عليه.
وإن أقر البائع أنه كان أعتقه، وأقر المشتري أنه كان شهد بالزور.. فالذي يقتضي المذهب: أن ماله يوقف بينهما إلى أن يصطلحا عليه؛ لأنه لا مزية لقول أحدهما على الآخر.
وإن لم يقر البائع بعتقه، ولا رجع المشتري عن شهادته بالعتق.. فنقل المزني أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (أوقفت المال حتى يجيء من يدعي الولاء) .(13/472)
قال المزني: ينبغي أن يكون للمشتري أن يأخذ من مال المعتق أقل الأمرين: من ثمنه أو المال؛ لأنه إن كان صادقا.. فالثمن له دين على البائع، وما ترك المعتق.. فهو للبائع، فكان للمشتري أخذ ما دفع من الثمن من مال البائع، كمن له على رجل حق وامتنع من دفعه ووجد من له الحق مالا له. وإن كان المشتري كاذبا في الشهادة.. فقد عتق عليه، فكان له أخذ ماله.
فمن أصحابنا من غلط المزني وقال: ليس للمشتري ذلك؛ لأنه يقول: إن كنت صادقا في شهادتي.. فقد خلصته من الرق وتطوعت بدفع الثمن فلا أرجع به. وإن كنت كاذبا في الشهادة.. فلا حق لي على البائع.
ومن أصحابنا من قال: بل ما قاله المزني هو الصحيح، وقد نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الإقرار) بالحكم الظاهر كما ذكره المزني، ودفعه للثمن على وجه القربة لا يسقط رجوعه عنه. ألا ترى أن مسلما لو افتدى مسلما من أيدي المشركين بمال، ثم غلب المسلمون المشركين ووجد ماله.. فإن له أخذه ويختص به من بين سائر المسلمين؟
فإن كانت بحالها فمات البائع وخلف ابنا، ثم مات المعتق.. فالذي يقتضي المذهب: أن ابن البائع إذا أقر أن أباه كان قد أعتق العبد في حياته.. أن له أن يأخذ مال المعتق ويرد إلى المشتري ما دفع من الثمن إن وجده بعينه أو بدله إن ترك أبوه معه تركة، وإن لم يترك أبوه معه تركة.. لم يلزمه أن يغرم.
وإن لم يقر ابن البائع بأن أباه أعتقه في حياته، لكن أقر المشتري أنه كذب في الشهادة بالعتق.. فإن له أخذ مال المعتق بالولاء.
وإن لم يقر ابن البائع بالعتق، ولا رجع المشتري عن الشهادة.. فليس للمشتري أن يأخذ من مال المعتق شيئا؛ لأنه يقر أنه مال لابن البائع، ولا يستحق عليه شيئا، وإنما يدعي بالثمن على أبيه.
وإن مات المشتري وخلف ابنا.. فالذي يقتضي المذهب: أنه إذا أقر أن أباه كذب(13/473)
في شهادته.. كان له مال المعتق؛ لأنه قد يتوصل إلى ذلك بإخبار أبيه له في حياته، فكان كما لو أقر الأب بذلك.
[مسألة مات وخلف تركة وابنين فادعى رجل دينا فصدقه أحدهما]
وإن مات رجل وخلف ابنين وتركه، فادعى رجل أن له على أبيهما دينا، فأنكره أحدهما وصدقه الآخر، فإن كان عدلا.. قبلت شهادته له وحلف معه.. استحق دينه. وإن كان غير عدل.. فالمنصوص: (أنه لا يلزم المقر إلا حصته من الدين) .
قال أبو عبيد ابن حربويه وأبو جعفر الاستراباذي: وفيها قول آخر: أنه يلزمه جميع الدين. فجعلاها على قولين - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -:
أحدهما: يلزمه جميع الدين - وبه قال أبو حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] فرتب الميراث على الوصية والدين، فاقتضى الظاهر: أنه لا يحصل للمقر شيء من التركة إلا من بعد قضاء جميع الدين. ولأن المقر يقول: أخي ظالم بجحوده الدين وغاصب لما أخذه من التركة، ولو غصب بعض التركة غاصب.. لتعلق جميع الدين بالباقي، فكذلك هذا مثله.
والثاني: لا يزم المقر إلا حصته من الدين، وهو الأصح؛ لأن إقرار المقر تضمن تعلق جميع الدين بجميع التركة، كما لو قامت به بينة. فإذا لم يقبل إقراره في حق أخيه.. لم يلزمه أكثر مما يتعلق بنصيبه، كما لو قال: له علي وعلى أخي كذا وكذا.. فإنه لا يلزمه إلا حصته. ولأنه لا خلاف أنه إذا أقر أحد الابنين أن أباه أوصى لرجل بثلث ماله وكذبه أخوه.. فإنه لا يلزم المقر إلا ثلث ما بيده من التركة، فكذلك هذا مثله. ولأنه لا خلاف أن شهادته مقبولة، فلو كان جميع الدين يتعلق بنصيبه.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يدفع بها عن نفسه ضررا.
وقال أكثر أصحابنا: لا يلزم المقر إلا حصته من الدين قولا واحدا؛ لما ذكرناه.
قال الشيخ أبو حامد: وأظن أن أبا عبيد وأبا جعفر أخذا هذا القول من قول(13/474)
الشافعي: (إذا قتل رجل وعليه دين، وخلف ابنين وهناك لوث، فحلف أحد الابنين خمسين يمينا.. فإنه يقضى له بنصف الدية ويقضى جميع الدين من ذلك النصف) .
والفرق بينهما: أن الميت هناك لم يثبت له تركة إلا نصف الدية، فكان جميع دينه فيها، وهاهنا للمنكر نصف التركة، فلم يتعلق جميع الدين بنصف التركة. ولأن في القسامة قد أقر الابنان بالدين، وهاهنا أحد الابنين منكر عين الدين.
[مسألة الإقرار بالنسب وشروطه]
الإقرار بالنسب جائز ويثبت النسب به. وذهب بعض الناس إلى: أن النسب لا يثبت بالإقرار.
دليلنا: ما روي: «أن سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة اختصما في ابن أمة زمعة، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الولد للفراش، وللعاهر الحجر» فقضى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد بالإقرار.
إذا ثبت هذا: فر يخلو المقر: إما أن يقر بالنسب على نفسه، أو على غيره.
فإن أقر على نفسه؛ بأن ادعى بنوة غيره، فإن كان المقر به صغيرا أو مجنونا.. لم يثبت نسبه إلا بثلاث شرائط:
إحداهن: أن يكون المقر به مجهول النسب، فأما إذا كان معروف النسب من رجل.. لم يحكم بصحة إقرار المقر؛ لأن في ذلك إبطال نسبه الثابت.
الشريطة الثانية: إذا كان لا ينازع المقر فيه أحد، فأما إذا كان هناك غيره يدعي بنوته حال الدعوى.. لم يحكم بثبوت نسبه من أحدهما إلا بالإقرار؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.(13/475)
الشريطة الثالثة: إذا كان المقر به يمكن أن يكون ابنا للمقر؛ بأن يقر من هو ابن خمس عشرة سنة ببنوة من هو ابن خمس سنين أو أقل، فأما إذا أقر ببنوة من هو ابن سبع سنين أو أكثر.. لم يحكم بصحة إقراره؛ لأنا نقطع بكذبه.
إذا ثبت هذا: وأقر رجل ببنوة صغير أو مجنون مجهول النسب مما يجوز أن يكون ابنا للمقر، ثم بلغ الصغير أو عقل المجنون، فأنكر نسبه من المقر ولم يصادقه المقر على إنكاره.. لم يسمع إنكاره؛ لأن نسبه قد ثبت من المقر فلا يبطل بإنكاره، كما لو ادعى ملك صغير في يده مجهول الحرية، ثم بلغ الصغير وأنكر الرق.. فإنه لا يقبل إنكاره. فإن صادقه المقر أنه ليس بابنه.. فهل يسقط نسبه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط نسبه، كما لو أقر بمال فكذبه المقر له وصدقه المقر.
والثاني: لا يسقط، وهو الأصح؛ لأن النسب إذا ثبت.. لم يسقط، كالنسب الثابت بالفراش.
وإن كان المقر به بالغا عاقلا.. لم يثبت نسبه إلا بالشرائط المتقدمة، ويشترط مع ذلك شريطة رابعة؛ وهو: أن يصادقه المقر به؛ لأنه يمكن تصديقه فاعتبر ذلك، بخلاف الصغير والمجنون.
[فرع أقر بأن مملوكه وهو أكبر منه أنه ابنه]
إذا أقر رجل لمن هو أكبر منه أنه ابنه، وكان المقر به مملوكا للمقر.. فقد قلنا: إنه لا يثبت نسبه منه، ولا يعتق عليه عندنا. وقال أبو حنيفة: (يعتق عليه) .
دليلنا: أنه أقر بما يقطع بكذبه فيه، فلم يتعلق به حكم، كما لو قال لامرأته: إنها ابنته وهي أكبر منه.. فإن النكاح لا ينفسخ بينهما.(13/476)
[فرع إقراره ببنوة صغير وعلاقته بإثبات زوجية أمه]
وإن أقر ببنوة صغير.. لم يكن إقرار بزوجية أمه.
وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا بزوجية أمه إذا كانت مشهورة الحرية) .
دليلنا: أنه أقر بولد فلم يكن إقرارا بزوجية أمه، كما لو تكن مشهورة الحرية.
[فرع أقر ببنوته لميت مجهول النسب]
وإن أقر ببنوة ميت مجهول النسب يجوز أن يكون ابنا له، فإن كان المقر به صغيرا أو مجنونا.. ثبت نسبه من المقر وورثه.
وقال أبو حنيفة: (لا يثبت نسبه؛ لأنه متهم أنه قصد أخذ ماله) .
دليلنا: أنه سبب يثبت به نسبه كما لو كان حيا، فيثبت به نسبه إذا كان ميتا كالبينة.
وأما ثبوت التهمة.. فلا يمنع من صحة الإقرار، ألا ترى أنه يقبل إقراره بنسبه في حياته وإن كان متهما ليتصرف في ماله، وتجب نفقته فيه إذا كان معسرا؟
فإما إذا كان الميت المقر به بالغا عاقلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت نسبه؛ لأنه يعتبر في ثبوت نسبه تصديقه، وذلك غير ممكن بعد موته.
والثاني: يثبت، وهو الأصح؛ لأن تصديقه متعذر منه بعد موته، فسقط اعتباره، كالصغير والمجنون.
[فرع الإقرار بالنسب على غيره]
وإن كان المقر بالنسب يحتمل نسب المقر به على غيره.. لم يثبت بذلك النسب بينه وبينه. فإن كان من بينه وبينه حيا.. لم يصح إقرار المقر؛ لأنه فرع لغيره، فلا يثبت النسب إلا بعد ثبوته من الأصل. وإن كان من بينه وبينه ميتا؛ بأن يقر برجل أنه(13/477)
أخوه لأبيه أو لأمه أو لأب وأم ميتين، فإن كان المقر لا يرث أباه أو أمه؛ بأن كان عبدا أو كافرا أو قاتلا.. لم يثبت إقراره بأخيه؛ لأنه إذا لم يقبل إقراره على أبيه أو أمه بدين.. فلأن لا يقبل إقراره عليهما بابن لهما أولى.
وإن كان يجوز ميراثهما.. نظرت في المقر به: فإن كان بحيث لو أقر به الأب أو الأم لم يثبت نسبه منه؛ بأن كان المقر به أكبر أو ثابت النسب من غيرهما.. لم يصح الإقرار. وإن كان بحيث لو أقر به الأب أو الأم قبل إقراره.. نظرت: فإن كان الأب أو الأم قد نفى نسبه عن نفسه.. فذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه لا يقبل إقرار الأخ به؛ لأنه يريد أن يحمل على غيره نسبا قد نفاه عن نفسه.
وذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أنه إذا نفى نسب ولده باللعان، ثم مات الأب وأقر به وارثه.. ثبت نسبه؛ لأن تركته قد صارت له، فقبل إقراره.
وإن لم ينف الأب أو الأم نسب المقر به.. ثبت نسبه بإقرار الوارث لهما.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يثبت) .
دليلنا: ما روي: «أن سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة تنازعا في ابن أمة زمعة، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقضى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد بن زمعة» .
[فرع مات وخلف ابنين فأقر أحدهما بأخ له من أبيه]
إذا مات رجل وخلف ابنين، فأقر أحدهما بأخ له من أبيه، وأنكر الثاني ذلك.. لم يثبت نسب المقر به؛ لأن النسب لا يتبعض فلا يمكن إثباته في حق المقر دون المنكر، وهو إجماع. وهل يشارك المقر به المقر فيما في يده من التركة؟
قال أصحابنا الخراسانيون: فيه قولان:
أحدهما: لا يشاركه. وهو المشهور.(13/478)
والثاني: يشاركه. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد.
وقال سائر أصحابنا العراقيين: لا يشاركه في الحكم قولا واحدا؛ لأنه أقر بنسب لم يثبت فلم يشارك في الميراث، كما لو أقر بنسب مشهور النسب. وهل يلزم هذا المقر إذا كان صادقا في إقراره فيما بينه وبين الله تعالى أن يدفع إليه ما يستحق مما في يده؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه إنما يستحق ذلك بالنسب، ولم يثبت نسبه.
والثاني: يلزمه، وهو الأصح؛ لأن نسبه ثابت فيما بينه وبين الله تعالى.
فإذا قلنا بهذا: فكم يلزمه أن يدفع إليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: نصف ما في يده - وهو قول أبي حنيفة - لأنهما اتفقا على أن المنكر أخذ الذي أخذه وهو لا يستحقه فصار كالغاصب.
والثاني: لا يلزمه أن يدفع إليه إلا ثلث ما في يده - وهو قول مالك - لأن التركة بينهم أثلاث فلا يستحق مما في يده إلا الثلث، كما لو قامت بينة على نسبه.
وأصل هذين الوجهين: القولان في أحد الابنين إذا أقر بدين على أبيه فكذبه أخوه.
وحكى ابن اللبان وجها ثالثا: أنه يدفع إليه ثلث ما في يده ويضمن له سدس ما بيد أخيه؛ لأن يده قد ثبتت على نصف جميع التركة وسلم إلى أخيه ذلك. ولو كان الحاكم حكم عليه بالقسمة وأقرع بينه وبين أخيه.. لم يلزمه ضمان ذلك.
فعلى هذا: لو لم يعلم بالأخ المجهول حين قاسمه أخوه.. فهل يضمن له؟ فيه وجهان:
أحدهما: يضمن؛ لأنه قاسمه وسلمه.
والثاني: لا يضمن؛ لأن القسمة وجبت في الظاهر.(13/479)
[فرع مات وخلف ورثة وأنكر بعضهم النسب من الميت]
وإن مات رجل وخلف جماعة ورثة، فإن أقر اثنان منهم بنسب الميت وأنكر الباقون.. لم يثبت نسب المقر به، سواء كان المقران عدلين أو فاسقين.
وقال أبو حنيفة: (يثبت؛ لأن قولهما بينة) .
دليلنا: أنه إقرار من بعض الورثة، فلم يثبت به النسب، كما لو كانا فاسقين. ولأنه لو كانت بينة.. لاعتبر فيها لفظ الشهادة.
[فرع ادعى مجهول أنه أخ لجماعة من أبيهم]
وإن مات رجل وخلف أولادا معروفي النسب منه، فادعى رجل مجهول النسب أنه أخوهم لأبيهم فأنكروه، فإن أقام بينة.. قضي له. وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قولهم مع أيمانهم؛ لأن الأصل عدم ثبوت نسبه. فإن حلفوا له.. فلا كلام، وإن ردوا عليه فحلف.. ثبت نسبه ويشاركهم في الميراث. وإن حلف له البعض، ونكل البعض عن اليمين.. فهل يحلف المدعي على الذي رد عليه اليمين؟
إن قلنا: إنه يشاركه في الميراث لو أقر له.. حلف.
وإن قلنا: لا يشاركه.. فهل يحلف له؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحلف؛ لأن يمينه لا تفيد لأجل من حلف.
والثاني: يحلف؛ لأن الحالفين قد يقرون فتثبت يمينه على الناكلين، ولا يؤمن إذا لم يحلف أن لا ينكلوا بعد ذلك.
[فرع إقرار أحد الابنين بزوجة لأبيهما]
وإن مات رجل وخلف ابنين، فأقر أحدهما بزوجة لأبيه وارثة وأنكر أخوه:(13/480)
فإن قلنا: لو أقر بأخ ثالث وأنكره الآخر شاركه فيما في يده.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا: لا يشاركه الأخ.. فهل تشاركه الزوجة فيما في يده؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تشاركه، كما لو أقر بأخ.
والثاني: تشاركه؛ لأن المقر به حصتها من الميراث.
أما الزوجية: فقد زالت بالموت، فإذا قلنا: تشاركه.. فبكم تشاركه؟ على الأوجه الثلاثة في الأخ.
[فرع مات وخلف بنتا فأقرت بأخ لها من أبيها ولا وارث غيرها]
وإن مات رجل وخلف بنتا لا غير، فأقرت بأخ لها من أبيها ولم يكن هناك عصبة، فإن كانت تحوز جميع الميراث؛ بأن كانت مولاة.. ثبت نسب الابن المقر به وورث معها. وإن كانت لا تحوز جميع الميراث.. فإن باقي الميراث للمسلمين.
فإن لم يقر معها الإمام.. لم يثبت النسب، فإن قلنا: لا يشاركها فيما بيدها.. فلا كلام.
وإن قلنا: يشاركها، فإن قلنا: إن الأخ الذي أقر به الأخ مع إنكار أخيه يأخذ منه ثلث ما بيده.. قال القاضي أبو الفتوح: أخذ الأخ هاهنا خمسي ما بيدها.
والذي يقتضي المذهب: أنه يأخذ ثلث ما بيدها لا غير على هذا.
وإن قلنا: إن الأخ يأخذ من أخيه نصف ما بيده.. أخذ الأخ هاهنا ثلثي ما بيدها.
وإن أقر معها الإمام.. فهل يثبت نسب المقر به؟ فيه وجهان - حكاهما الشيخ أبو إسحاق -:
أحدهما: لا يثبت نسب المقر به؛ لأن الإمام لا يرث المال، وإنما هو نائب عن المسلمين في القبض فلم يثبت إقراره، كالوكيل إذا أقر على موكله بغير إذنه.
والثاني: يثبت نسبه - ولم يذكر ابن الصباغ غيره - لأنه نافذ الإقرار في بيت المال.(13/481)
[فرع أقرت امرأة أو خنثى بولد]
فإن أقرت المرأة بولد يمكن أن يكون منها.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يقبل.
والثاني: لا يقبل.
والثالث: إن كانت غير فراش لرجل.. قبل، وإن كانت فراشا.. لم يقبل، وقد مضت هذه الأوجه بعللها في (اللقيط) .
قال ابن اللبان: فمن قبل إقرار المرأة بالولد.. قبل إقرار ورثتها بولدها، ومن لم يقبل إقرارها.. لم يقبل إقرار ورثتها إلا أن يصدقهم زوجها. قال: وكذلك من قبل إقرار المرأة.. قبل الإقرار بالأم، ومن لم يقبل إقرار المرأة.. لم يقبل الإقرار بالأم لإمكان إقامة البينة. وإن أقر الخنثى بولد، فإن بان رجلا.. فهو كالرجل، وإن بان امرأة.. فقد مضى بيان حكم إقرار المرأة. وإن كان باقيا على الإشكال: فإن قلنا: للمرأة دعوى في النسب.. ثبت نسبه؛ لأنه إن كان رجلا.. ثبت، وإن كان امرأة.. صح.
فعلى هذا: إذا مات الولد المقر به قبل أن يتبين حال الخنثى.. ورث منه ميراث أم ووقف الباقي على البيان. وإن قلنا: لا دعوى للمرأة.. قال القاضي: احتمل أن لا يقبل إقرار الخنثى لاحتمال كونه امرأة، ويحتمل أن يقبل، وهو الصحيح. ويثبت النسب بقوله؛ لأن النسب يحتاط لإثباته ولا يحتاط لإسقاطه.
فإن مات الخنثى المقر، ثم مات الولد المقر به وللخنثى إخوة.. فهل يرثون الولد إذا كان خلف مالا؟ قال القاضي: الذي يقتضيه المذهب: أنهم لا يرثون؛ لأنهم يحتملون أن يكونوا أعماما فيرثوا، ويحتمل أن يكونوا أخوالا فلا يرثوا، فلم يرثوا مع الشك. ولو مات هذا الخنثى وخلف أبويه، ثم مات الولد المقر به.. فإن الأب لا يرث من ولد الخنثى، وترث أم الخنثى منه.
ولو قتل هذا الولد.. لم يكن لإخوة الخنثى ولا لأبيه القصاص. ولو أبرأ أبو الخنثى القاتل.. احتمل أن يقال: سقط القصاص عن هذا القاتل؛ لأن القصاص(13/482)
يسقط بالشبهة، ويحتمل أن يكون جدا أبا أب، ولسنا نقطع بكونه غير وارث أصلا.
قال: ويحتمل أن لا يسقط القصاص وهو الظاهر.
[فرع مات عن زوجة وأخ لأب وأقرت الزوجة بابن]
وإن مات رجل وخلف زوجة وأخا لأب، فأقرت الزوجة بابن للميت وأنكر الأخ.. لم يثبت نسب الابن. فإن كان المال في يد الأخ.. لم تأخذ الزوجة منه إلا الثمن؛ لأنه لا تدعي سواه. وإن كان في يدها.. لم يأخذ الأخ إلا ثلاثة أرباعه. هكذا ذكر أكثر أصحابنا. قال ابن الصباغ: لها أن تأخذ الربع من الأخ؛ لأن ذلك لا يلزمها في الحكم. فإذا أخذت الربع.. وجب عليها فيما بينها وبين الله تعالى أن تدفع نصفه إلى الابن الذي أقرت به.
[فرع مات عن ابنين أحدهما مجنون فأقر العاقل بثالث]
وإن مات رجل وخلف ابنين، أحدهما بالغ عاقل والآخر مجنون أو صغير، فأقر البالغ العاقل بأخ ثالث.. لم يثبت نسبه؛ لأنه لا يحوز جميع الميراث.
فإن أفاق المجنون أو بلغ الصبي وأقر معه بالأخ الذي أقر به.. ثبت نسبه.
وإن مات الصغير أو المجنون: فإن كان لهما وارث غير الأخ البالغ المقر.. قام مقامهما في الإقرار. وإن لم يكن لهما وارث غير الأخ البالغ العاقل.. ثبت نسب المقر به بإقراره الأول؛ لأنه قد صار جميع الورثة.
وإن مات رجل وخلف ابنين عاقلين بالغين، فأقر أحدهما بأخ ثالث وأنكره أخوه، ثم مات المنكر ولا وارث له غير المقر.. فهل يثبت نسب المقر به؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت؛ لأن النسب لا يثبت مع إنكار الورثة، وقد كان الأخ منكرا لنسبه.
والثاني: يثبت نسبه، وهو المذهب؛ لأن المنكر سقط إنكاره بموته، وقد صار المقر جميع الورثة.
فعلى هذا: إن خلف المنكر ولدا.. اعتبر إقراره مع عمه؛ لأنه يقوم مقام أبيه.(13/483)
[فرع أقر بالغ عاقل بأخ مثله ثم أقر بثالث]
وإن مات رجل وخلف ابنا بالغا عاقلا فأقر بأخ بالغ عاقل فصدقه.. ثبت نسبه. فإن أقرا معا بنسب أخ ثالث بالغ عاقل.. ثبت نسب الثالث. فإن أنكر الثالث نسب الثاني.. ففيه وجهان - حكاهما الشيخ أبو إسحاق -:
أحدهما: لا يقبل إنكاره؛ لأنه فرع له، فلا يسقط بقوله.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه يسقط نسب الثاني؛ لأن الثالث ابن وارث، فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني، وهاهنا يقول الثالث: أدخلني أخرجك.
[فرع مات مسلم أو كافر وخلف ابنين مسلما وكافرا فأقر أحدهما بثالث]
وإن مات مسلم وخلف ابنين وكافرا، فأقر الابن المسلم بأخ ثالث.. ثبت نسبه؛ لأنه هو الوارث. فإن كان المقر به مسلما.. ورث معه، وإن كان كافرا.. لم يرث. وإن مات كافر وخلف ابنين مسلما وكافرا، فأقر الكافر بأخ ثالث.. ثبت نسبه. فإن كان المقر به كافرا.. ورث، وإن كان مسلما.. لم يرث.
[فرع مات وخلف ابنا فأقر بأخوين أو بتوأمين]
وإن مات رجل وخلف ابنا، فأقر بأخوين في وقت واحد، فصدق كل واحد منهما صاحبه.. ثبت نسبهما. وإن كذب كل واحد منهما صاحبه.. لم يثبت نسبهما. وإن صدق أحدهما صاحبه وكذبه الآخر.. ثبت نسب المصدق دون المكذب.
وإن أقر الابن بنسب أحد التوأمين.. ثبت نسبهما، فإن أقر بهما وكذب أحدهما الآخر.. لم يؤثر التكذيب في نسبهما؛ لأنهما لا يفترقان في النسب.
[فرع الإقرار بعم]
فرع: [في الإقرار بعم] :
وإن كان بين المقر والمقر به اثنان؛ مثل أن يقر بعم. فقد قال بعض أصحابنا: يعتبر تصديق الأب والجد.(13/484)
والذي يقتضي المذهب: أنه لا يعتبر تصديق الأب هاهنا، بل يكفي تصديق الجد؛ لأنه هو الأصل الذي يثبت النسب منه، ولو كذبه ابنه لم يؤثر تكذيبه، فلا معنى لاعتبار تصديقه الابن.
[مسألة خلف أخا لأب فأقر بابن]
وإن مات رجل وخلف أخا لأب، فأقر بابن للميت.. ثبت نسب الابن، وهل يرث؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس: يرث - واختاره ابن الصباغ - لأنه إذا ثبت نسبه.. فالميراث مستحق بالنسب، فلا يجوز أن يثبت النسب ولا يثبت الميراث.
وقال سائر أصحابنا: لا يرث، وهو الأصح؛ لأنا لو ورثنا الابن.. لخرج الأخ عن أن يكون وارثا، وإذا لم يكن وارثا.. لم يقبل إقراره بالنسب؛ وإذا لم يقبل إقراره بالنسب.. لم يثبت نسب الابن ولا ميراثه؛ فإثبات الميراث له يؤدي إلى نفي نسبه وميراثه، فأثبتنا النسب وأسقطنا الميراث، ولنا مثل هذه المسألة ثمان مسائل:
إحداهن: إذا تزوجت الحرة بعبد بألف في ذمته، وضمن السيد عن المهر، ثم باعه منها بالألف التي ضمنها قبل الدخول.. فلا يصح البيع، وقد مضى بيانها في (الصداق) .
الثانية: إذا أعتق في مرض موته جارية وتزوجها، ثم مات.. فإنها لا ترثه، وقد مضى ذكرها.
الثالثة: إذا أعتق في مرض موته جارية قيمتها مائة وتزوجها على مائة، ومات وخلف مائتين لا غير.. فلا ميراث لها ولا صداق، وقد مضت أيضا.
الرابعة: إذا كانت له جارية قيمتها مائة، وزوجها من عبد على مائة وأعتقها قبل الدخول، وخلف مائة لا غير.. فلا يثبت لها الفسخ، وقد مضت أيضا.
الخامسة: إذا أعتق عبدين، ثم ادعى رجل أن المعتق كان غصبهما منه، وقد صارا عدلين فشهدا للمدعي بذلك.. فلا تقبل شهادتهما؛ لأنا لو قبلنا شهادتهما.. بطل عتقهما، وإذا بطل عتقهما.. بطلت شهادتهما.(13/485)
السادسة: إذا أعتق عبدين في مرض موته وخرجا من ثلثه، فادعى رجل أن له على الميت دينا ينقص الثلث عن قيمتها وشهد له بذلك العبدان.. لم تقبل شهادتهما؛ لما مضى في التي قبلها.
السابعة: إذا اشترى أباه أو ابنه في مرض موته.. فإنه لا يرثه، وقد مضى بيانها.
الثامنة: إذا أوصى له بأبيه أو بابنه فقبل الوصية في مرض موته.. فإنه لا يرثه، وقد مضت.
[فرع خلف أخا لأب فجاء مجهول وادعى أنه ابن الميت]
وإن مات رجل وخلف أخا لأب، فجاء رجل مجهول النسب فادعى أنه ابن الميت، وأنكر الأخ، فإن كان مع الابن بينة.. قضي له، وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول الأخ مع يمينه.. فإن حلف الأخ.. انصرف المدعي، وإن نكل الأخ عن اليمن فحلف الابن.. ثبت نسبه، وهل يرث؟ إن قلنا: إن يمينه بمنزلة بينة يقيمها.. ورث. وإن قلنا: إنها كإقرار الأخ.. لم يرث على قول أكثر أصحابنا، ويرث على قول أبي العباس وابن الصباغ.
[مسألة إقرار مسلم بولد جاء مع امرأة رومية إلى دار الإسلام]
وإن خرجت امرأة من أرض الروم إلى دار الإسلام ومعها ولد صغير، فأقر رجل في دار الإسلام أنه ولده منها.. لحقه نسبه وإن لم يعرف الرجل أنه خرج إلى دار الروم، ولا عرفت المرأة أنها خرجت إلى دار الإسلام؛ لإمكان أن يكون الرجل خرج إلى دار الروم ولم يعلم به فأصابها بنكاح أو شبهة، أو خرجت إلى دار الإسلام ولم(13/486)
يعلم بها فأصابها بنكاح أو شبهة، ويجوز أن يكون تزوجها وهي في دار الروم وبعث إليها بمائة فاستدخلته. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال القفال: إنما يلحق به الولد إذا كان إمكان الوطء بنكاح أو بشبهة نكاح حاصلا؛ بأن لا يعرف حاله، فأما إذا عرف حاله؛ بأن لم يغب عن أعيننا، أو غاب مدة لا يتصور بلوغه إلى تلك الأرض، وعلم أيضا أن المرأة لم تغب طوال عمرها إلى دار الإسلام إلى الآن، فلا يثبت النسب. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (لا يلحقه نسبه) .
وقال في موضع: (يلحقه نسبه) . وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين:
وحيث قلنا: يثبت النسب.. فلا اعتبار بتصديق المرأة وتكذيبها؛ لأن النسب حقه وحق الولد وقد أقر به.
قال المسعودي [في ((الإبانة)) ق\299] : إذ صارت المرأة فراشا لرجل ومعها ولد، فأقرت أنه ولد لغيره.. لم يقبل قولها، بل القول قول صاحب الفراش.
[مسألة ادعاء نسب لأجل إرث]
إذا مات رجل ولا وارث له معروف، فجاء رجل وادعى أنه وارثه.. لم تسمع دعواه حتى يبين سبب الميراث؛ لأنه قد يعتقد أنه وارث بسبب لا يورث به كالمحالفة، أو يكون من ذوي الأرحام. فإن بين سببا يورث به.. لم يحكم له بالميراث حتى يقيم البينة وشاهدين ذكرين عدلين ويذكرا نسبا أو سببا يورث به، فإن ذكرا وقالا: لا نعلم له وارثا سواه وهما من أهل الخبرة الباطنة بحاله.. حكم للمدعي بالميراث. وحكي عن ابن أبي هريرة أنه قال: لا يثبت الإرث حتى يقولا: لا وارث له غيره على وجه القطع؛ لأنهما إذا قالا: لا نعلم له وارثا سواه.. فلم ينفيا غيره ويجوز أن يكون هناك وارث غيره موجود لا يعلمانه. وهذا خطأ؛ لأنهما لا يمكنهما(13/487)
ذلك؛ لجواز أن يكون تزوج امرأة سرا، أو وطئ امرأة بشبهة وأتت منه بولد. فإن قالا: نشهد أنه لا وارث له غيره.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سألتهما عن ذلك، فإن قالا: أردنا أنا لا نعلم له وارثا غيره.. كان كما لو صرحا به. وإن قالا: نريد به قطعا ويقينا.. قيل لهما: قد أخطأتما؛ لأنه قد يجوز أن يكون له وارث لا تعلمانه، ولا ترد شهادتهما بذلك) . وقال أبو حنيفة: (القياس أن ترد شهادتهما؛ لأنهما كذبا، ولكن لا ترد استحسانا) .
دليلنا: أنهما إذا صحباه الزمن الطويل وعرفا حاله.. جرى ذلك مجرى القطع، فلم ينسبا إلى الكذب. وإن لم يكونا من أهل الخبرة الباطنة بالميت، أو كانا من أهل الخبرة الباطنة به إلا أنهما لم يقولا: لا نعلم له وارثا سواه.. فإنه يثبت بذلك نسب المدعي، ولا يثبت بذلك نفي نسب غيره. فإن كان له فرض لا يحجب عنه، كالأبوين والزوجين.. أعطي أقل فرض يستحقه بحال، فيعطى كل واحد من الأبوين سدسا عائلا، ويدفع إلى الزوج ربع عائل. قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: ويدفع إلى الزوجة ثمن عائل. وقال أبو علي في " الإفصاح ": يدفع إليها ربع ثمن عائلا، وقد مضى مثل ذلك في (الدعاوى) .
وإن كان المدعي ممن له تعصيب.. بعث الحاكم إلى البلاد التي كان يسافر إليها الميت ويقيم بها فيسأل بها: هل له وارث؟ فإن لم يوجد له وارث ومضت مدة لو كان له وارث لظهر.. نظر في المدعي، فإن كان ممن لا يحجب، كالأب والابن.. دفعت التركة إليه.. وإن كان ممن يحجب، كالأخ وابن الأخ.. ففيه وجهان:(13/488)
أحدهما: لا يدفع إليه شيء؛ لجواز أن يكون هناك وارث يحجبه.
والثاني: يدفع إليه؛ لأن الظاهر مع البحث أنه لا وارث له؛ إذ لو كان له وارث.. لظهر. ويؤخذ منه كفيل بما أخذه. وهل يجب أخذ الكفيل منه أو يستحب؟ فيه وجهان، مضى بيانهما في (الدعاوى) .
[مسألة له أمتان ولكل ولد فألحق أحدهما لا بعينه بنسبه]
إذا كان لرجل أمتان، لكل واحدة منهما ولد، فقال السيد: أحدهما ابني.. لحقه نسب أحدهما لا بعينه وطولب بتعيينه. وإنما يتصور هذا بشرطين:
أحدهما: إذا لم يكن لإحداهما زوج.
والثاني: إذا لم يقر السيد بوطء إحداهما.
فأما إذا كان لكل واحدة منهما زوج، أو لإحداهما زوج وأمكن أن يكون الولد منه.. فإن الولد يلحق به دون السيد. فإن أقر السيد بوطئهما أو بوطء إحداهما.. فإن التي أقر بوطئها تكون فراشا له، فإذا أتت بولد لأقل مدة الحمل.. لحقه من غير إقرار. فإذا عدم الشرطان.. فإنه يطالب ببيان ولده منهما، فإن قال: هذا ولدي.. حكم بحريته ويسئل عن سبب استيلاده: فإن قال: استولدتها في ملكي.. ثبت لأمه حرمة الاستيلاد، ولا ولاء على الولد. وإن قال: استولدتها في نكاح.. كانت أمه قنا، وثبت له على ولده الولاء؛ لأنه ملكه، ثم عتق عليه. فإن قالت الأمة الأخرى: بل أنا التي أقررت بحرية ولدي، فإن صدقها.. كان الحكم فيها وفي ولدها كالذي أقر به أولا، ولا يبطل بذلك إقراره للأمة الأولى ولولدها. وإن كذب الثانية.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. سقطت دعوى الثانية ورقت ورق ولدها.
فإن مات.. ورثه الابن المقر به، فإن كان أقر أنه استولد أمه في ملكه.. عتقت بموته. وإن أقر أنه استولدها في نكاح.. لم تعتق عليه بموته، وإن لم يكن له وارث غير ابنها.. عتقت على ابنها، وإن كان مع الابن وارث.. عتق على الابن(13/489)
نصيبه ولا يقوم عليه الباقي. وإن مات السيد قبل أن يبين.. قام وارثه مقامه في البيان، فإن بين الولد منهما وكيفية الاستيلاد.. كان الحكم فيه كما لو بين السيد. وإن بين الوارث الولد منهما وقال: لا أدري كيف كان الاستيلاد.. ففيه وجهان:
أحدهما: تكون الأم رقيقة؛ لأن الأصل فيها الرق.
والثاني: تكون أم ولد؛ لأن الظاهر ممن أقر بولد أمته أنه استولدها في ملكه.
وإن امتنع الورثة من التعيين، فإن لم يدع الولدان عليهم بالعلم.. فلا كلام. وإن ادعيا عليهم بالعلم.. حلفوا أنهم لا يعلمون، ويعرض الولدان على القافة، فإن ألحقت القافة به أحدهما.. لحقه وكان حرا. فإن كان السيد قد أقر أن أحدهما ابنه استولد أمه في ملكه.. لم يكن على الولد الذي ألحقته القافة به ولاء وعتقت أمه بموت السيد. وإن كان قد أقر أنه ابنه من نكاح.. كان على الولد الولاء ولم تعتق أمه بموت السيد. وإن لم يتقدم منه إقرار بكيفية الاستيلاد.. فهل تكون أمه أم ولد؟ على الوجهين إذا عين الوارث الولد ولم يبين كيفية الاستيلاد، ويحتمل أن يكون في ثبوت الولاء على الولد الذي ألحقته القافة به هذان الوجهان. وإن لم يكن هناك قافة، أو كانت هناك قافة وأشكل عليها الولد منهما.. أقرع بين الولدين للحرية؛ لأن للقرعة مدخلا في تمييز الحر من الرقيق. فإذا خرجت القرعة لأحدهما.. عتق، ويحتمل أن يكون في ثبوت الولاء عليه الوجهان، ولا يثبت نسبه من المقر؛ لأن النسب لا يثبت بالقرعة، ولا يحكم لأحدهما بالميراث؛ لأنه لم يثبت نسب أحدهما. وهل يوقف من ماله ميراث ابن؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال المزني: يوقف؛ لأنا نتيقن أن أحدهما ابن وارث.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يوقف؛ لأن الشيء إنما يوقف إذا رجي انكشافه، وهذا لا يرجى انكشافه، ويحتمل أن يكون الحكم في أم ذلك الولد حكم أم من ألحقت به القافة منهما.
هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة: (يعتق من كل واحد منهما نصفه، ويستسعى في قيمة باقيه، ولا يرثان) . وقد مضى الدليل عليه في (العتق) .(13/490)
[مسألة أقر بإلحاق أحد أولاد أمته الثلاثة من دون تعيين]
وإن كان لرجل أمه لها ثلاثة أولاد، فقال سيدها: أحد هؤلاء ولدي.. فهو إقرار صحيح، ويرجع إليه في بيان الولد منهم، وإنما يتصور هذا بشرطين:
أحدهما: أن لا يكون للأمة زوج، فإن كان لها زوج وأتت بولد يمكن أن يكون منه.. لحق به، ولا يقبل إقرار السيد به.
والثاني: إذا لم يقر السيد بوطئها في وقت، فأما إذا أقر بوطئها في وقت.. فما أتت به من ولد لأقل مدة الحمل من ذلك الوقت لحق به من غير إقرار. فإذا ثبت أنه يرجع إليه في بيان الولد منهم.. نظرت: فإن أقر أن الأصغر منهم ولده.. حكم بحريته ويثبت نسبه منه، ويطالب بكيفية الاستيلاد. فإن قال: استولدتها في ملكي.. لم يثبت على الولد الولاء، وكانت الجارية أم ولد له والولدان الآخران مملوكين.
وإن قال: استولدتها في نكاح.. فالولد حر، وعليه له الولاء، والأمة مملوكة.
وإن قال: استولدتها بشبهة.. فالولد حر، وعليه له الولاء، وهل يثبت للأمة حرمة الاستيلاد؟ على قولين. وإن لم يعين جهة الاستيلاد.. فهل يثبت للأمة حرمة الاستيلاد؟
على وجهين، مضى ذكرهما في التي قبلها، ويحتمل أن يكون في ثبوت الولاء على الولد هذان الوجهان. وأما إذا قال: الولد الأوسط ولدي.. حكم بحريته وثبوت نسبه منه فإن قال: استولدتها في ملكي.. فلا ولاء على الولد، وتثبت للأم حرمة الاستيلاد فيه، وهل يثبت للولد الأصغر ما يثبت للأمة من حرمة الاستيلاد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت له ذلك؛ لأنه ولد أم ولد.
والثاني: لا يثبت له؛ لأنه يجوز أن يكون استولدها وهي مرهونة، فلم يثبت لها حرمة الاستيلاد في الحال، ثم بيعت في الرهن، ثم أتت بالولد الأصغر في غير ملكه، ثم ملكها بعد ذلك، فثبت لها حرمة الاستيلاد دون الولد الأصغر.(13/491)
وإن قال: استولدتها في نكاح.. ثبت على الأوسط الولاء، ولا يثبت للأم حرمة الاستيلاد، والأصغر مملوك. وإن قال: استولدتها بشبهة.. فعلى الوسط الولاء، وهل تثبت للأم حرمة الاستيلاد؟ على القولين. فإن قلنا: لا تثبت لها.. فالأصغر مملوك. وإن قلنا: تثبت لها.. فهل تثبت للأصغر حرمة الاستيلاد؟ على وجهين. وأما الولد الأكبر: فمملوك بكل حال. وإن قال: الولد الأكبر ابني.. حكم بحريته وثبوت نسبه منه، والحكم في الأوسط والأصغر حكم الأصغر إذا عين الأوسط على ما مضى. فإن مات السيد قبل أن يبين.. قام وارثه مقامه في البيان، فإن بين الوارث الولد وكيفية الاستيلاد.. فهو كما لو بينة السيد، وإن بين الولد ولم يبين جهة الاستيلاد.. حكم بحرية الولد الذي بينه الوارث وثبوت نسبه من السيد، وهل يثبت للأمة حكم الاستيلاد؟ على الوجهين في التي قبلها. فإن بين الولد الأصغر.. فالولد الأكبر والأوسط مملوكان. وإن بين الأكبر.. فهل يثبت للأوسط والأصغر حرمة الاستيلاد؟ إن قلنا: لا يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. لم يثبت لهما. وإن قلنا: يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. فهل يثبت لهما حرمة الاستيلاد؟ على الوجهين اللذين مضى بيانهما. وإن لم يبين الوارث الولد منهم، أو لا وارث له.. عرض الأولاد الثلاثة على القافة، فإذا ألحقت به أحدهم.. لحقه نسبه وحكم بحريته. فإن كان قد تقدم من السيد إقرار أنه استولدها في ملك أو نكاح أو شبهة.. كان الحكم فيه كما لو عين السيد الولد منهم وبين جهة الاستيلاد على ما مضى. وإن لم يتقدم من السيد إقرار بجهة الاستيلاد.. فهل يثبت للأمة حرمة الاستيلاد؟ على وجهين، قد مضى بيانهما. فإن ألحقت القافة به الأصغر.. فالولد الأكبر والأوسط مملوكان، وإن ألحقت به الأكبر: فإن قلنا: لا يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. فالولد الأوسط والأصغر مملوكان. وإن قلنا: يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. فهل تثبت حرمة الاستيلاد للأوسط والأصغر؟ على وجهين. وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها الولد منهم.. أقرع بين الأولاد الثلاثة؛ لأن للقرعة مدخلا في تمييز الحر من الرقيق، فإذا خرجت القرعة لأحدهما.. حكم بحريته، ولا يثبت نسبه من السيد؛ لأنه لا مدخل للقرعة في إثبات النسب، وهل يوقف من ماله ميراث ابن؟ على وجهين، مضى بيانهما في التي قبلها.(13/492)
[مسألة اختلفا في كون الجارية بيعت أم زوجت]
] : إذا كان في يد رجل جارية فانتقلت منه إلى رجل فوطئها ولم يحبلها، فاختلفا في جهة انتقالها إليه، فقال من انتقلت منه: بعتكها بألف لم أقبضها منك، وقال من هي في يده: بل زوجتنيها بألف.. فإن كل واحد منهما يحلف على نفي ما ادعى عليه؛ لأن الأصل عدمه. فيحلف الذي انتقلت منه أني ما زوجتكها، ويحلف من هي بيده أني ما اشتريتها.
فإن حلفا معا.. حكمنا بزوال العقدين، ولا يستحق من انتقلت منه على من هي بيده مهرا؛ لأن من هي بيده مقر به لمن لا يدعيه، وترد الأمة إلى الذي انتقلت منه. واختلف أصحابنا لأي معنى رجعت إليه: فمنهم من قال: رجعت إليه بمعنى: من اشترى جارية بثمن، فأفلس المشتري ورجع البائع إلى جاريته فعلى هذا: يفسخ البيع وتعود إليه الجارية ويملك وطأها. ومنهم من قال: رجعت إليه بمعنى: من كان له على غيره حق ولم يقدر عليه، ووجد له شيئا من ماله من غير جنس حقه.
فعلى هذا: تباع الجارية ويستوفي البائع من ثمنها الثمن الذي حلف عليه، وهل يملك بيعها بنفسه، أو لا يصح منه بيعها إلا من الحاكم؟ فيه وجهان، مضى بيانهما.
فإن فضل فضلة من ثمنها على ما يدعيه البائع من الثمن.. ردت إلى من انتقلت إليه، وإن نقص ثمنها عما يدعيه البائع من الثمن.. كان له أن يأخذ من مال المبتاع.
فأما إن حلف من انتقلت منه الجارية: أنه ما زوجها، ونكل من انتقلت إليه عن اليمين: أنه ما اشتراها.. ردت اليمين على البائع، فيحلف: أنه لقد باعها منه بألف، ولزم المبتاع الألف. وإن حلف من هي بيده: أنه ما اشتراها، ولم يحلف من انتقلت منه: أنه ما زوجها.. حلف من هي بيده: لقد تزوجها وهذا زوجها، وحكم(13/493)
له بزوجيتها، وأقرت في يده، وعاد حكم الرق عليها للبائع. فإذا زال النكاح بطلاق أو وفاة.. رجعت إلى من انتقلت منه. فإذا كان من انتقلت منه صادقا: أنه باعها وهي ملك للمشتري.. لا يحل للبائع وطؤها وقد عادت إليه، وكيف يكون الحكم بعودتها إليه؟ على الوجهين اللذين مضيا. وإن كان من انتقلت منه كاذبا في دعواه: أنه باعها.. عادت إلى ملكه وتصرفه بالوطء وغيره. وأما إن كان الذي انتقلت إليه قد استولدها.. فإن من انتقلت منه يقر بحقين عليه ويدعي حقا له.
فأما الحقان اللذان يقر بهما على نفسه: فإنه يقر أنها صارت أم ولد لمن انتقلت إليه، وأن ولدها حر، وهذان يضران به فيقبل إقراره بهما على نفسه.
وأما الحق الذي يدعيه: فإنه يدعي أنه باعها بألف في ذمة من هي بيده، وهذا ينفعه فلم يقبل قوله فيه. فيحلف من هي في يده: أنه ما اشترى الجارية؛ ليسقط عنه الثمن الذي يدعي به عليه من انتقلت منه، فإذا حلف.. حكمنا بزوال البيع وسقوط الثمن عنه، وكانت الجارية أم ولد له وولدها حرا، ومن بيده الجارية يقر بالمهر لمن انتقلت منه وهو لا يدعيه ولكن يدعي عليه الثمن، وهل يرجع عليه من انتقلت منه بالأقل: من المهر الذي أقر به من انتقلت إليه الجارية، أو الثمن الذي يدعيه من انتقلت منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع عليه بأقلهما؛ لأنهما متفقان على استحقاقه.
والثاني: لا يرجع عليه بشيء؛ لأن من بيده الجارية لما خلف.. زال عنه حكم الثمن، وقول من انتقلت منه: ما زوجتكها.. يسقط استحقاقه المهر، فلم يرجع عليه بشيء. على الوجهين معا لا ترد الجارية إلى من انتقلت منه، بل تقر في يد من انتقلت إليه؛ لأن من انتقلت منه أقر بزوال ملكه عنها، وأنها قد تلفت في يد من انتقلت إليه(13/494)
بالإحبال فلم ترد إليه، كما لو قال: بعت عبدي من ويد، وأعتقه.
إذا تقرر هذا: فإنه يقال لمن انتقلت إليه: إن علمت بأنها زوجتك.. حل لك وطؤها فيما بينك وبين الله تعالى، وهل يحل له وطؤها في ظاهر الحكم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحل له؛ لأنهما اتفقا على إباحة وطئها له وإن اختلفا في سببه.
والثاني: لا يحل له وطؤها؛ لأن من هي في يده قد حلف: أنه لا يملكها، فبطل أن تحل له بالملك ويدعي أنها زوجته، ومن انتقلت منه غير مسلم أنها تحل له بالزوجية، فما اتفقا عل إباحتها له.. فمنع من وطئها.
وإن نكل من انتقلت إليه عن اليمن.. حلف من انتقلت منه: أنه باعها، ووجب على من انتقلت إليه الثمن لمن انتقلت منه.. وهذا الكلام في جنبة من انتقلت منه، وأما من انتقلت إليه.. فإنه يدعي على من انتقلت منه أنه زوجة إياها، ويجب بهذا أنها مملوكة لمن انتقلت منه، وولدها مملوك لمن انتقلت منه، وعلى من انتقلت إليه المهر، فيسقط قوله: إن الجارية والولد مملوكان لمن انتقلت منه؛ لأنه يقر أن الجارية أم ولد لمن هي بيده وأن ولدها حر، ويكون القول قول من انتقلت منه: إنه ما زوجها، وهل يحلف على ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحلف؛ لأنه لو رجع وأقر أنه قد زوجها.. لم يقبل، فلا معنى لاستحلافه.
والثاني: يحلف؛ لأنه ربما ينكل، فيحلف من هي بيده: أنه زوجها منه ويحكم له بالزوجية.
فإن حلف كل واحد منهما لصاحبه.. حكمنا بزوال العقدين، وأنها غير مبيعة ولا مزوجة، والكلام على النفقة والميراث، فأما نفقة الولد.. فعلى الواطئ؛ لأنه ابنه وقد حكمنا بحريته، وأما نفقة الجارية.. ففيها قولان حكاهما أبو إسحاق في " الشرح ":
أحدهما: أنها على البائع؛ لأنه أقر بأمرين، أحدهما عليه وهو كونها أم ولد(13/495)
للغير، والآخر حق له وهو سقوط نفقتها عنه، فقبل قوله فيما عليه ولا يقبل فيما له.
والثاني - وهو الأصح - أن نفقتها في كسبها؛ لأنه لا يمكن إيجابها على البائع؛ لأنا قد حكمنا أنها أم ولد للغير، ولا على المشتري؛ لأنه لا يدعي أنها أم ولد له، فلم يبق إلا إيجابها في كسبها، فإن بقي من كسبها شيء.. كان موقوفا.
وأما الميراث: فإن ماتت الجارية قبل الوطء.. فللبائع أن يأخذ من مالها قدر الثمن الذي يدعي أنه باعها به؛ لأن من انتقلت إليه يقر له بجميع مالها، وهو يقر به لمن انتقلت إليه ويدعي عليه الثمن، وما بقي من مالها حتى يصطلحا عليه.
فإن ماتت بعد موت من هي بيده.. كان إرثها لولدها، فإن كان ولدها قد مات قبلها.. كان مالها لمناسبها، فإن لم يكن لها مناسب.. فميراثها موقوف؛ لأن ولاءها موقوف لا يدعيه أحدهما، وليس للبائع أن يأخذ منه شيئا؛ لأنه يدعي الثمن على الواطئ وقد مات قبلها. وإن رجع أحدهما عن إقراره، فإن رجع البائع.. لم يقبل قوله في إسقاط حقها ولا حق ولدها من الحرية، ويقبل قوله في سقوط الثمن عن المشتري ورجوع الولاء إليه فيأخذ مالها. وإن رجع الواطئ.. وجب عليه الثمن، وكانت الجارية على ما ثبت لها من حرمة الاستيلاد، والولد على ما ثبت له من الحرية.
والله أعلم، وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم الولي ونعم النصير، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد النبي الأمي وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحاب أجمعين.
[الخاتمة]
تم الكتاب بحمد الله تعالى منه، وكرمه ولطفه وعونه، وتيسيره وهدايته وفضله، وصلواته على رسوله سيدنا محمد النبي وآله وصحبه، وسلامه عليهم أجمعين وبه تم كتاب " البيان ".
وقع الفراغ من تمام هذا الجزء الآخر ليلة الخميس ثلاث عشرة من شهر رجب الفرد من شهور سنة اثنتين وثلاثمائة وألف من الهجرة المطهرة على صاحبها الصلاة والسلام.(13/496)
بخط أسير الذنوب المستغفر من ربه، الراجي ثوابه: محمد بن عبد الله بن عبد العزيز المفتي الحبيشي الإصابي الساكن في نفس مدينة جبلى المحمية بالله تعالى، والله أسأل، وبنبيه أتوسل أن يسعدنا في الدارين بحق محمد وآله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.(13/497)