منها؛ لأنها هي التي وجبت له في ملكه، وإن كانت الدية أقل.. لم يجب للسيد أكثر منها؛ لأن نصف القيمة نقصت بفعل السيد، وهو إعتاقه للعبد. وهكذا ذكر أصحابنا. وذكر القاضي أبو الطيب فيه قولين:
أحدهما: هذا.
والثاني: له أقل الأمرين من جميع قيمته أو جميع ديته. وقال: إن أوضحه رجل، ثم أعتق أو مات.. وجب فيه دية حر، وكم للمولى منها؟ فيه قولان:
أحدهما: الأقل من نصف عشر قيمته، أو جميع ديته.
والثاني: الأقل من جميع قيمته أو جميع ديته. والطريق الأول هو المشهور.
[فرع قطع حر لعبد عضوين فيهما الدية]
] : وإن قطع رجل يدي عبد أو رجليه، أو فقأ عينيه، وقيمته مثل قيمة ديتين.. نظرت: فإن مات من الجناية قبل الاندمال والعتق.. وجبت قيمته.
وإن اندملت الجناية أو عتق، ثم مات.. وجبت قيمته لسيده، سواء اندملت الجناية قبل العتق أو أعتق قبل الاندمال. وهكذا: إن اندملت الجناية ولم يعتق؛ لأن الجناية استقرت بالاندمال. وإن أعتق ومات من الجناية.. لم تجب فيه إلا دية حر.
وقال المزني: تجب قيمته؛ لأنها وجبت بالجناية. وهذا خطأ؛ لأن الاعتبار بالأرش حال الاستقرار، وحال الاستقرار بالجناية هو حر، كما لو كانت قيمته دون الدية، فقطعت يده وأعتق، ثم مات.. فإن الواجب فيه دية حر، وتجب الدية هاهنا للسيد؛ لأنها وجبت في ملكه، وإنما نقصت بإعتاقه.
وإن قطع رجل يد عبد، ثم جاء آخر فقطع يده الأخرى، ومات من الجنايتين.. فإنه يجب على الأول نصف قيمته سليما؛ لأنه قطعه وهو سليم، ويجب على الثاني نصف قيمته مجروحا؛ لأنه جرحه وهو مجروح، فيكون على الأول أكثر.
[فرع قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع الأخرى رجل فمات]
] : وإن قطع حر يد عبد، فأعتق، ثم قطع آخر يده الأخرى، ومات من الجنايتين..(11/572)
لم يجب على الأول قصاص في الطرف ولا في النفس؛ لأنه غير مكافئ له في حال الجناية، وعليه نصف الدية؛ لأن المجني عليه حر وقت استقرار الدية، وأما الثاني: فيجب عليه القصاص في الطرف؛ لأنه مكافئ له وقت الجناية، وهل يجب عليه القصاص في النفس؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو الطيب بن سلمة: لا يجب عليه القصاص في النفس؛ لأن الروح خرجت من سراية جنايتين: إحداهما توجب القصاص، والأخرى لا توجبه، فلم يجب القصاص، كحرين قتلا من نصفه حر ونصفه عبد.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجب عليه القصاص في النفس؛ لأنه مكافئ له حال الجناية، وإنما سقط القصاص عن شريكه لمعنى يختص به، فلم يسقط القصاص عنه، كما لو قتل عبد وحر عبدًا. فإن عفا عنه عن القصاص إلى المال، أو كانت الجنايتان أو إحداهما خطأ.. وجب على الجانيين دية حر، على كل واحد منهما نصفها؛ لأن الاعتبار بالأرش حال الاستقرار، ويكون للسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية؛ لأن نصف القيمة إن كانت أقل.. فهو الذي وجب في ملكه، والزيادة حصلت بالحرية، لا حق له فيها، ويكون الباقي من الدية لورثة المقتول، وإن كان نصف الدية أقل.. لم يجب له أكثر منه؛ لأن نصف القيمة نقصت بإعتاقه، ويكون النصف الثاني لورثة المقتول.
فإن قطع حر يد عبد، فأعتق العبد، ثم قطع آخر يده الأخرى، ثم قطع آخر رجله، ومات من الجنايات.. لم يجب على الأول قصاص في الطرف ولا في النفس، وأما الآخران: فيجب عليهما القصاص في الطرفين، وهل يجب عليهما القصاص في النفس؟ على الوجهين.
فإن عفا عنهما عن القصاص على مال، أو كانت الجنايات أو بعضها خطأ.. وجب فيه دية حر، وكم يستحق المولى؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يستحق أقل الأمرين من أرش الجناية، وهو: نصف القيمة هاهنا، أو ما يجب على الجاني في ملكه، وهو: ثلث الدية؛ لأن الذي وجب في ملكه هو أرش جناية الأول، فقوبل بين الذي وجب عليه حال الجناية، وحال استقرارها،(11/573)
ووجب للسيد أقلهما، كما لو لم يجن عليه غيره، وأما الآخران: فإنهما جنيا عليه وهو في غير ملكه، فكانت جنايتهما هدرًا في حقه.
فعلى هذا: إن كان جناية الأول قطع إصبع.. قوبل بين عشر قيمة العبد، وبين ثلث الدية، ووجب له أقلهما.
والقول الثاني: أنه يجب له أقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية؛ لأن الذي جنى عليه في ملكه هو الأول، وجناية الآخرين في غير ملكه، فكانت هدرًا في حقه.
ولو مات عبد وهدرت جناية الآخرين في حق السيد.. لم يجب على الأول إلا ثلث القيمة، مثل: أن يجني عليه الأول وهو مسلم، ثم يرتد العبد ويجني عليه الآخران بعد الردة، ثم يموت، فإن جناية الآخرين هدر في حق السيد، فكذلك: لما أعتق، ثم جنى الآخران عليه.. أهدرنا جنايتهما في حقه، وقابلنا بين ثلث القيمة وثلث الدية، ووجب للسيد أقلهما.
وقد ينسرق أحد القولين في الآخر، وهو: إذا جنى عليه الأول في الرق جائفة أو مأمومة، ثم جنى عليه اثنان بعد الحرية، ومات من الجنايات.. فإنه يجب للسيد أقل الأمرين من أرش الجائفة، وهو: ثلث القيمة، أو ثلث الدية هاهنا، قولًا واحدًا.
وإن جنى عليه في حال الرق واحد، وفي حال الحرية ثلاثة، فمات من الجنايات.. فعلى القول الأول: يجب للسيد على الأول الأقل من أرش الجناية أو ربع الدية.
وعلى القول الثاني: يجب له أقل الأمرين من ربع القيمة أو ربع الدية.
وإن جنى عليه واحد في الرق، وتسعة بعد الحرية، ومات من الجنايات.. فعليهم الدية بينهم، ويستحق السيد على القول الأول أقل الأمرين من أرش الجناية أو عشر الدية، وعلى الثاني أقل الأمرين من عشر القيمة أو عشر الدية.
وإن كان بالعكس من هذا، بأن جنى عليه اثنان في حال الرق، وواحد بعد(11/574)
الحرية، ومات من الجنايات.. فعليهم الدية بينهم أثلاثًا، ويستحق السيد على القول الأول أقل الأمرين من أرش الجناية أو ثلثي الدية، وعلى الثاني أقل الأمرين من ثلثي القيمة أو ثلثي الدية.
وإن جنى عليه تسعة في حال الرق، وواحد في حال الحرية، ومات من الجنايات.. استحق السيد على الأولين على القول الأول أقل الأمرين من أرش الجنايات التسع الأول والتسعة أعشار الدية، وعلى الثاني يستحق أقل الأمرين من تسعة أعشار القيمة أو تسعة أعشار الدية.
[فرع قطع يد عبد فأعتق ثم اشترك وآخر وقطعا الثانية فمات]
] : وإن قطع حر يد عبد، فأعتق، ثم عاد الجاني الأول هو وآخر وقطعا يده الأخرى، ومات من الجنايتين.. وجبت عليهما دية حر، وكم يستحق السيد؟ على القولين:
أحدهما: أنه يستحق أقل الأمرين من نصف قيمته أو ربع دية حر.
والثاني: له أقل الأمرين من ربع قيمته أو ربع الدية.
[فرع قطع يد عبد فلما أعتق قطع رجله فمات]
] : وإن قطع حر يد عبد لغيره، فأعتق العبد، ثم عاد الجاني فقطع رجله، ومات من الجنايتين.. لم يجب على الجاني القصاص في النفس؛ لأنه مات من سراية جنايته، وإحداهما توجب القصاص والأخرى لا توجب، ولا تتميز إحداهما عن الأخرى، فهو كما لو جنى عليه جناية خطأ وجناية عمد، ومات منهما، ويجب عليه القصاص في الرجل.
فإن عفا عن القصاص عنه، أو كانت الجنايتان أو إحداهما خطأ.. وجب على الجاني دية حر؛ اعتبارًا بحال المجني عليه عند استقرار الجناية، ويجب للمولى هاهنا أقل الأمرين من نصف قيمته أو نصف الدية؛ لأن الجناية الثانية في حال الحرية، فصارت هدرًا في حق السيد.
وإن اندملت الجراحتان.. وجب للسيد نصف القيمة، وللمجني عليه القصاص في الرجل أو نصف الدية إن عفا.(11/575)
[فرع قطع يد عبد فأعتق ثم قطع آخر رجله ثم ذبحه الأول]
] : وإن قطع حر يد عبد، ثم أعتق، ثم جاء آخر فقطع رجله، ثم عاد الأول فذبحه.. فإن ذبحه بعد اندمال يده التي قطعها.. فإن على الذابح للسيد نصف القيمة، وعليه للورثة القصاص في النفس، وإن عفوا عنه.. كان عليه جميع الدية، وعلى قاطع الرجل القصاص للورثة، وإن عفوا عنه.. كان عليه لهم نصف الدية.
وإن ذبحه قبل اندمال جراحة يده.. فقد قال أبو سعيد الإصطخري، وأبو العباس: لا يدخل أرش الطرف في بدل النفس، فتكون عليه نصف القيمة للسيد، وعليه القصاص للورثة في النفس، وإن عفوا عنه.. كان عليه جميع الدية لهم.
والمذهب: أن أرش الطرف يدخل في دية النفس؛ لأنه مات بفعله قبل الاندمال، فهو كما لو سرت جنايته إلى النفس. فعلى هذا: يجب عليه القصاص في النفس للورثة، فإن اقتصوا منه في النفس.. سقط حق السيد؛ لأن الذي وجب للسيد أرش الطرف، وقد دخل في ضمان النفس. وإن عفا الورثة عن القصاص على الدية.. كان على الذابح دية حر، وللسيد منها أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية. وأما الثاني: فإنه يجب عليه القصاص للورثة في الرجل، فإن عفوا.. فقد استحقوا عليه نصف الدية، ولا حق للسيد فيها؛ لأنها وجبت في غير ملكه.
وإن كان الثاني هو الذي ذبحه.. فإن بذبحه استقرت جناية الأول، فيجب على الأول للسيد نصف القيمة. وأما الثاني: فإن ذبحه بعد اندمال جنايته على رجله.. لم يدخل بدل الرجل في النفس، فيكون لورثة المقتول أن يقتصوا منه في الرجل، فإن عفوا عنها.. استحقوا عليه نصف الدية للرجل، ولهم أن يقتصوا منه في النفس، وإن عفوا عنه.. استحقوا عليه جميع دية النفس.
وإن ذبحه قبل اندمال الرجل، فعلى قول أبي سعيد، وأبي العباس: لا تدخل دية الرجل في دية النفس، فيكون كما لو اندملت. وعلى المذهب: تدخل دية الرجل في دية النفس، فيجب عليه القصاص، وإن عفوا عنه.. استحقوا عليه الدية.
وإن كان الذابح له أجنبيًا.. فإن بذبحه قد استقرت جناية الأول والثاني، فيجب(11/576)
على الأول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص في الرجل، أو نصف الدية إن عفا عنه الورثة، وعلى الذابح القصاص في النفس، أو جميع الدية إن عفا عنه الورثة.
[مسألة جنى عبد جناية أرشها أكثر من ثمنه فبيع فيها]
] : وإن جنى العبد جناية أرشها أكثر من قيمته، فبيع في الجناية، وسلم الثمن إلى المجني عليه، وبقي من أرشه بقية، أو اختار السيد أن يفديه، وقلنا: لا يلزمه إلا قدر قيمته، فدفع قدر قيمته، وبقي من الأرش بقية، ثم أعتق العبد.. فهل يطالب ببقية الأرش؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: لا يطالب به؛ لأنه لم يجب إلا قدر قيمته.
والثاني: يطالب بباقي الأرش، قال القاضي أبو الطيب: وهو الأصح؛ لأن الذي وجب بالجناية هو جميع الأرش، وإنما لم يجب على السيد أكثر من قيمة العبد، والباقي في ذمة العبد، إلا أنه كان قبل العتق كالمعسر، فإذا أعتق وملك المال.. طولب به، كالحر إذا أيسر. ولأن العبد لو أقر بجناية خطأ أو سرقة مال ولم يصادقه المولى ولا قامت به بينة.. فإنه لا يقبل قوله على السيد، ولو أعتق.. لزمه ما أقر به، فدل على: أن الجناية تعلقت بذمته.
[فرع جناية عبد على يد حر ثم عتق فعاد وآخر فقطعا يده الأخرى]
] : إذا قطع عبد يد حر، فأعتق العبد، ثم عاد العبد المعتق هو وآخر وقطعا يد ذلك الحر، ومات قبل الاندمال.. فقد قال ابن الحداد: تجب على شريك العبد المعتق نصف الدية، ويجب على العبد المعتق وعلى سيده نصف الدية، إلا أن على السيد الأقل من ربع الدية أو قيمة عبده الجاني، وهذا على القول الأصح: أنه إذا اختار السيد أن يفدي عبده.. فداه بأقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمة عبده الجاني. فأما على القول الذي يقول: يلزمه جميع الأرش.. فإنه يلزمه هاهنا ربع الدية.(11/577)
فإذا قلنا بهذا: فقد استوفى وارث المقتول حقه؛ لأنه يأخذ من الشريك نصف الدية، ومن السيد ربعها، ومن العبد المعتق ربعها.
وإذا قلنا بالأول: وكانت القيمة أقل من ربع الدية.. فهل يكون ما بقي من الدية في ذمة العبد؟ على الوجهين الأولين.
وإن أوضح عبد رأس حر، فأعتق العبد، ثم عاد بعد إعتاقه وجرح هو وآخر المجني عليه، ومات من الجنايات.. قال ابن الحداد: وجب على شريك العبد المعتق نصف الدية، وعلى العبد المعتق وسيده نصف الدية، على السيد منها الأقل من أرش الموضحة أو قيمة العبد الجاني. وهذا على الصحيح من القولين، وإنما اعتبر أرش الجناية هاهنا مع تلف النفس لحق السيد؛ لأن الأرش هو الذي وجب في ملكه، وما زاد على ذلك.. في ذمة العبد المعتق.
وإن جرح عبد عبدًا، فأعتق الجاني، ثم عاد الجاني بعد العتق فجرح العبد الأول، ومات من الجنايتين.. لم يجب عليه القصاص في النفس، وعليه القصاص في الجناية الأولى إن كانت مما يجب بها القصاص، فإن عفا عنه على مال.. كان عليه جميع الدية، وعلى السيد منها أقل الأمرين من أرش الجناية في ملكه أو قيمة الجاني.
[فرع قطع عبد يد حر ثم حر يد العبد ثم قطع العبد الجاني يد حر آخر فماتوا]
وإن قطع عبد يد حر، ثم قطع حر يد هذا العبد الجاني، ثم قطع العبد الجاني يد حر آخر، وماتوا جميعًا قبل الاندمال، وقيمة العبد الجاني اثنا عشر ألف درهم، ونقص بالقطع ستة آلاف درهم.. فإن الذي قطع يد العبد الجاني يجب عليه جميع قيمته، وهو: اثنا عشر ألف درهم، فيدفع ما نقص بالقطع - وهو: ستة آلاف درهم - إلى وارث المقطوع أولًا؛ لأن المقطوع الثاني لم يتعلق به حقه، ويتضارب وارثًا الحرين المقتولين في الباقي على الثلث والثلثين؛ لأنه بقي للأول نصف الدية، وللثاني جميع الدية، فيحصل مع الأول ثمانية آلاف، ومع الثاني أربعة آلاف.(11/578)
فإن كانت بحالها، ونقص العبد بقطع اليد ثلث قيمته، وهو: أربعة آلاف.. فإن الأول ينفرد به، ويتضارب الأول والثاني في الثمانية الآلاف الباقية على ثلثي دية الأول، وجميع دية الثاني، وذلك خمسة أسهم، فيكون للأول خمسا الثمانية آلاف، وهو: ثلاثة آلاف ومائتان، وللثاني ثلاثة أخماسها، وهو: أربعة آلاف وثمانمائة.
[مسألة ضرب بطن أمة فأسقطت جنينًا ميتًا]
] : وإن ضرب ضارب بطن أمة حامل بمملوك، وألقت جنينًا ميتًا.. وجب فيه عشر قيمة أمة، سواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال الثوري، وأبو حنيفة، ومحمد: (إن كان الجنين ذكرًا.. وجب فيه نصف عشر قيمته - يعني: الجنين - وإن كان أنثى.. وجب فيه عشر قيمتها) .
دليلنا: أنه جنين، فاستوى في ضمانه الذكر والأنثى، كجنين الحر.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قيمة الأم:
فقال المزني، وأبو سعيد الإصطخري: تعتبر قيمتها يوم الإسقاط؛ لأنه حال استقرار الجناية، والاعتبار بالجناية حال الاستقرار، بدليل: أنه لو جرح عبدًا، ثم مات من الجراحة.. وجبت فيه دية حر.
وقال أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا: تعتبر قيمتها يوم الجناية. وهو المنصوص؛ لأن المجني عليه هو الجنين، ولم تتغير صفته تغيرًا يختلف به بدل نفسه، فكان الاعتبار بحاله يوم الجناية، وإنما تغير غيره، فاعتبر بنفسه، كما لو جرح عبدًا قيمته مائة، ثم رخص العبيد لكثرة الجلب حتى صارت قيمة مثله خمسين، ثم مات.. فإن قيمته تعتبر يوم الجناية.
[فرع ضرب أمة فأعتقت ثم أسقطت ميتًا]
وإن ضرب بطن أمة حامل بمملوك، فأعتقت، ثم ألقت جنينًا ميتًا.. وجب فيه دية جنين حر.(11/579)
وكذلك: لو ضرب بطن نصرانية حامل بنصراني، فأسلمت، ثم ألقت جنينًا ميتًا.. وجب فيه دية جنين مسلم؛ لأن الاعتبار بالجناية حال استقرار الجناية.
وإن ضرب بطن أمة حامل بمملوك، فألقت جنينًا ميتًا، ثم أعتقت، وألقت جنينًا آخر من ذلك الضرب.. وجب في الجنين الأول عشر قيمة الأم، وفي الثاني دية جنين حر؛ لأن الأول مملوك، والثاني حر.
وإن ضرب بطن أمة حامل بمملوك، فأعتقها سيدها، ثم أسقطت جنينًا ميتًا.. فإنه تجب فيه الغرة.
قال ابن الحداد: ويكون للسيد من ذلك أقل الأمرين من عشر قيمة الأم أو الغرة؛ لأن الغرة إن كانت أكثر.. لم يستحق الزيادة؛ لأنها زادت بالحرية وزوال ملكه، وإن كانت الغرة أقل.. كانت له؛ لأن النقصان إنما حصل بإعتاقه، فلا يضمن له. وهذا: كما لو قطع يد عبد، فأعتقه سيده، ثم مات.. فإنه يجب فيه دية حر، للسيد منها أقل الأمرين من نصف قيمته أو ديته.
قال القاضي أبو الطيب: هذا عندي غير صحيح، بل لا يكون للسيد شيء؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قد قال: (لو ضرب بطن أمة، فألقت جنينًا ميتًا، ثم أعتقت وألقت جنينًا آخر.. فعليه عشر قيمة أمه لسيدها في الأول، ويجب في الآخر ما يجب في جنين حر يرثه ورثته) . ولم يجعل للسيد منها شيئًا.
ووجهه: أن الإسقاط حصل في حال الحرية. ويخالف إذا قطع يد عبد ثم أعتق؛ لأن الجناية كانت في حال الرق وقد وجب بها الأرش، وهاهنا الضرب لا يتعلق به أرش، وإنما يتعلق ذلك بالإسقاط.
[فرع وطء أمة بشبهة يكون ولدها حرًا]
] : وإن وطئ حر أمة غيره بشبهة، فأحبلها.. كان الولد حرًا، وعلى الواطئ قيمة الولد يوم الولادة.(11/580)
فإن ضرب ضارب بطنها، فألقت جنينًا ميتًا.. وجبت فيه غرة مقدرة بنصف عشر دية أبيه، وعلى الواطئ عشر قيمة الأمة لسيدها، سواء كان عشر قيمة الأمة أقل من قيمة الغرة، أو مثلها، أو أكثر؛ لأن ضمان أحدهما ضمان حر، وضمان الثاني ضمان مملوك، ولا يمتنع ذلك فيهما، كما يقول في قيمة العبد ودية الحر المقتولين.
[فرع ضربت أم الولد بطنها فألقت جنينًا لا ضمان]
] : وإن ضربت أم ولد لرجل بطنها، فألقت جنينًا ميتًا.. فقد قال ابن الحداد: لا ضمان، إلا أن تكون أمها حرة باقية.. فيكون على السيد الأقل من قيمة أم ولده أو سدس الغرة؛ لأن جناية أم الولد على سيدها، وهو وارث الجنين، فلا يجب عليه لنفسه ضمان، وإنما يجب ضمان نصيب الحرة.
[مسألة أمة مشتركة حملت من زوج فضربت وأسقطت]
] : إذا كانت أمة بين رجلين نصفين، فحملت من زوج أو زنا، فضربها رجل، فأسقطت جنينًا ميتًا.. وجب عليه عشر قيمة الأم لسيدها.
وإن ضربها أحد الشريكين، فأسقطت جنينًا ميتًا.. وجب عليه لشريكه نصف عشر قيمة الأم، وهدر نصيبه.
فإن ضربها أحد الشريكين، ثم أعتقها الضارب، ثم ألقت جنينًا ميتًا، فإن كان المعتق معسرًا حال الإعتاق.. فقد عتق نصفها ونصف جنينها لا غير، فيجب عليه نصف عشر قيمة الأم لشريكه بنصف الجنين الرقيق، وهل يجب عليه ضمان نصفه الحر؟ فيه وجهان:
[الأول] : قال ابن الحداد: لا يلزمه ضمانه؛ لأنه حين الجناية لم يكن مضمونًا عليه، والاعتبار في الضمان بحال الجناية، وحال الجناية حال الضرب؛ ولهذا اعتبرنا قيمة الأم حال الضرب.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: يلزمه ضمانه بنصف غرة، وهو المنصوص في " الأم "؛ لأن الجناية على الجنين حال الإسقاط، وإنما الضرب سبب الجناية؛ لأنه(11/581)
يحصل بالأم، ولمن يكون نصف هذه الغرة؟ يبنى على القولين فيمن نصفه حر ونصفه مملوك، إذا مات.. فهل يورث؟ وفيه قولان:
أحدهما: يورث عنه، فيكون لورثته، ولا ترث أمه منها شيئًا؛ لأنه لم تكمل فيها الحرية، ولا يرث السيد منها؛ لأنه قاتل. والثاني: لا يورث عنه.
فعلى هذا: يكون لمالك نصفه على المنصوص. وقال أبو سعيد الإصطخري: يكون لبيت المال.
وإن كان المعتق موسرًا، فإن قلنا: يعتق نصيب شريكه بنفس اللفظ.. ضمن الضارب الجنين بغرة عبد أو أمة، وتكون موروثة عنه. وإن قلنا: إنه لا يعتق نصيب شريكه إلا بدفع القيمة، فإن دفع القيمة قبل الإسقاط.. كان الحكم فيه حكم ما لو قلنا: يعتق باللفظ، وإن لم يدفع القيمة إلا بعد الإسقاط.. كان حكمه حكم المعسر. وإن قلنا: إنه مراعى.. نظرت:
فإن دفع القيمة.. كان حكمه حكم ما لو قلنا: يعتق باللفظ.
وإن لم يدفع القيمة.. كان حكمه حكم المعسر.
وإن أعتقها، ثم ضربها المعتق.. سقط قول ابن الحداد هاهنا، ولم يبق إلا الوجه المنصوص؛ لأنه جنى عليها، فلم يملك شيئًا منها.
فأما إذا أعتقها أحدهما، وضربها الشريك الآخر، وأسقطت من ضربه جنينًا ميتًا، فإن كان المعتق معسرًا.. فقد عتق نصيب المعتق من الجارية وحملها، وأما نصيب الشريك منهما: فلا يعتق، ولا يجب على الضارب في نصيبه شيء؛ لأن الإنسان لا يضمن نصيبه بالإتلاف.
وأما النصف الحر من الجنين: فإن قلنا: لا يورث عنه، بل يكون لمالك نصفه.. لم يجب على الضارب فيه شيء؛ لأنه لو وجب فيه شيء.. لكان له، ولسنا نجعله له من طريق الإرث فنحرمه إياه بالقتل، وإنما يستحقه بسبب ملكه. وإن قلنا: يرثه عنه(11/582)
ورثته.. وجب فيه نصف غرة، ولا تستحق الأم منها شيئًا؛ لأن الحرية لم تكمل فيها. وإن قلنا بقول أبي سعيد الإصطخري: يكون لبيت المال.. كان نصف الغرة لبيت المال.
وإن كان المعتق موسرًا، فإن قلنا: يعتق باللفظ.. فقد أتلف جنينًا حرًا، فيجب عليه فيه غرة، وتكون موروثة عنه، وتستحق أمه ميراثها منها؛ لأن جميعها حر. وإن قلنا: إنه يعتق بأداء القيمة، فإن أداها قبل الإسقاط.. كان كما لو قلنا: يعتق باللفظ، وإن أداها بعد الإسقاط.. كان الحكم كما لو كان معسرًا. وإن قلنا: إنه مراعى.. نظرت:
فإن أدى القيمة.. كان الحكم فيه كما لو كان موسرًا.
وإن لم يؤد القيمة.. كان كما لو كان معسرًا.
فإن كانت بحالها، فضربها السيدان ضربة واحدة، ثم أعتقاها بكلمة واحدة، أو وكلا وكيلًا فأعتقها.. فقد قال ابن الحداد: على كل واحد منهما ربع الغرة؛ لأن بدل النفس يتغير بالحرية، وبدل الجنين إذا كان مملوكًا.. فهو عشر قيمة أمه، وإذا كان حرًا.. فهو غرة عبد أو أمة قيمتها عشر دية أمه، فإذا جنى عليه سيداه.. صار كل واحد منهما متلفًا نصف ملكه - وهو: الربع - وصاحبه متلفًا للنصف الآخر، وما أتلفه في ملكه.. فهو غير مضمون وسرايته غير مضمونة، وإذا كان كذلك.. سقط ضمان نصف النصف الذي لكل واحد منهما، وبقي النصف مضمونًا، وقد صار بدله بالعتق من الغرة، فوجب على كل واحد منهما ربع الغرة، ويكون للمولى منه أقل الأمرين من ربع عشر قيمة الأم أو ربع الغرة.
قال القاضي أبو الطيب: وكثير من حفاظ أصحابنا ردوا ذلك، وقالوا: هذا خطأ على مذهب الشافعي، والذي يجيء على المذهب: أن يكون على كل واحد منهما نصف الغرة؛ لأن الجناية على الجنين حال الإسقاط، ولا يكون لها فيها حق؛ لأن(11/583)
الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو ضرب أمة، فألقت جنينًا ميتًا، ثم أعتقها مولاها، ثم ألقت جنينًا ميتًا آخر من ذلك الضرب.. وجب على الضارب في الجنين الأول عشر قيمة أمه لسيده، وفي الثاني غرة عبد أو أمة موروثة لورثته) .
[فرع ضرب أمته الحامل على بطنها ثم أعتقها ثم ألقت جنينًا ميتًا]
] : وإن ضرب رجل بطن أمته الحامل، ثم أعتقها، فألقت جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد في التي قبلها: لا ضمان عليه. وعلى قول أكثر أصحابنا: عليه الضمان.
وإن ضرب بطن حربية حامل، ثم أسلمت وألقت جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد: لا ضمان عليه. وعلى قول أكثر أصحابنا: عليه الضمان.
وإن ارتدت امرأة وهي حامل، فضربها رجل، ثم رجعت إلى الإسلام، وألقت جنينًا ميتًا.. وجب على الضارب ضمانه، سواء أسقطته قبل الرجوع إلى الإسلام أو بعده؛ لأن جنينها محكوم بإسلامه، ولا يصير مرتدًا بارتدادها.
قال ابن الصباغ: وإن ضرب ذمي بطن زوجته الذمية وهي حامل فأسلم، ثم أسقطت من ضربه جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد: يجب على عاقلته من أهل الذمة بقدر ما يجب في الجنين الكافر، وما زاد بالإسلام.. يكون في مال الجاني. وعلى قول سائر أصحابنا: تكون الغرة على عاقلته المسلمين؛ اعتبارًا بحال إسقاط الجنين.
قال ابن الصباغ: فلو كان هناك حر، أمه معتقة، وأبوه مملوك ضرب بطن امرأة حامل، ثم أعتق أبوه فجر ولاءه من مولى الأم، ثم أسقطت المرأة جنينًا ميتًا.. فعلى قول ابن الحداد: يتحمل بدل الجنين مولى الأم؛ لأنه كان مولاه حال الجناية، فهي على عاقلته. وعلى قول سائر أصحابنا: تكون على مولى الأب؛ لأن الاعتبار بحال الإسقاط.(11/584)
[فرع ضرب عبد زوجة سيده المتوفى فأسقطت جنينًا ميتًا]
] : وإن مات رجل، وخلف عبدًا، وزوجة حاملًا، وأخا من أب وأم، فضرب العبد الزوجة، فأسقطت جنينًا ميتًا.. وجب فيه غرة عبد أو أمة، ويتعلق برقبة العبد، إلا ما صادف من جنايته حق مواليه.. فإنه يكون هدرًا، وجناية هذا العبد صادفت حقها في ربع الثلث؛ لأن لها ثلث بدل الجنين؛ لأنها أمه، فورثت الثلث منه، وحقها من العبد ربعه بإرثها من زوجها، فسقط ضمانه، وصادفت جنايته في الثلثين، للعم ثلاثة أرباعها؛ لأن له ثلثي الغرة، وله ثلاثة أرباع العبد، فسقط ذلك، وكان ثلاثة أرباع ثلثها مضمونًا على العم في هذا العبد، وربع ثلثيه مضمونًا على الأم في هذا العبد، فتصح من اثني عشر: ثلثها أربعة، هدر منها ربعها: سهم، ووجب على العم ثلاثة أسهم، وثلثاها ثمانية، هدر منها ثلاثة أرباعها: ستة، ووجب على الأم ربعها: سهمان، فيقاص سهمين بسهمين، وبقي لها عليه سهم، وهو: نصف سدس، فيجب عليه أقل الأمرين من نصف سدس قيمة العبد أو نصف سدس الغرة، والعبد ملكهما على ثلاثة أرباع، وربع كما كان.
وبالله التوفيق(11/585)
[باب العاقلة وما تحمله من الديات]
العقل: اسم للدية. قال الشاعر:
وما أبقت الأيام للمال عندنا ... سوى حذم أذواد محذفة النسل
ثلاثة أثلاث فأثمان خيلنا ... وأقواتنا أو ما نسوق إلى العقل
وإنما سميت الدية: العقل؛ لأنها تعقل بباب ولي المقتول. والعصبة الذين يتحملون الدية يسمون: العاقلة، وإنما سموا بذلك؛ لأنهم يأتون بالدية، فيعقلونها عند باب الولي. وقيل: لأنهم يمنعون من القاتل. و (العقل) : المنع، ولهذا سمي العقل عقلًا؛ لأن يمنع صاحبه من فعل القبيح.
إذا ثبت هذا: فقتل الحر حرًا خطأ محضًا أو عمد خطأ.. كانت دية المقتول على عاقلة القاتل.. وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال الأصم، وابن علية، والخوارج: يجب الجميع في مال القاتل.
وقال علقمة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وعثمان البتي، وأبو ثور: (دية الخطأ المحض على العاقلة، وأما دية عمد الخطأ: ففي مال القاتل) .
دليلنا: ما روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل، فاقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح - وقيل: رمتها بحجر - فقتلتها(11/586)
وأسقطت جنينها، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعقلها على عاقلة القاتلة، وفي جنينها غرة عبد أو أمة» .
فإذا حملت العاقلة دية عمد الخطأ.. فلأن تحمل دية الخطأ المحض أولى.
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه ذكرت عنده امرأة معينة بسوء، فأرسل إليها رسولًا، فأجهضت ذا بطنها في الطريق من فزعها منه، فاستشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم في ذلك، فقال عثمان وعبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: إنما أنت مؤدب، ولا شيء عليك. فقال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: ما تقول؟ فقال: إن اجتهدا.. فقد أخطآ، وإن علما.. فقد غشاك، عليك الدية. فقال عمر: عزمت عليك لتقسمنها على قومك) - يعني: على عاقلتي - ولم ينكر عليهما عثمان ولا عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم.
وروي: (أن مولاة لصفية جنت جناية، فقضى عمر بأرش جنايتها على عاقلة صفية) . ولا مخالف لهم في الصحابة، فدل على: أنه إجماع.
[مسألة ما تحمله العاقلة من دية أو غيرها]
] : وهل تحمل العاقلة ما دون دية النفس؟ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجديد: (تحمل العاقلة ما قل أو كثر من الأرش) . وبه قال عثمان البتي. وقال في القديم: (تحمل العاقلة دية النفس، ولا تحمل ما دون دية النفس، بل تجب في مال الجاني) .
وحكى بعض أصحابنا: أن قوله في القديم: (إن العاقلة تحمل ثلث الدية فأكثر، ولا تحمل ما دون ثلث الدية) . وبه قال مالك، وابن المسيب، وعطاء، وأحمد، وإسحاق. وقال الزهري: تحمل العاقلة ما فوق ثلث الدية، فأما ثلث الدية فما دونه.. ففي مال الجاني. وقال أبو حنيفة: (تحمل أرش الموضحة مما زاد، وما دون أرش الموضحة.. ففي مال الجاني) .(11/587)
فإذا قلنا بقوله القديم.. فوجهه: أن ما دون دية النفس يجري ضمانه مجرى ضمان الأموال، بدليل: أنه لا تثبت فيه القسامة، ولا تجب فيه الكفارة، فلم تحملها العاقلة، كما لو أتلف عليه مالًا.
وإذا قلنا بقوله الجديد.. فوجهه: أن من حمل دية النفس حمل ما دون الدية، كالجاني، ولأن العاقلة إنما حملت الدية عن القاتل في الخطأ وعمد الخطأ؛ لئلا يجحف ذلك بماله، وهذا يوجد فيما دون دية النفس.
قال الشيخ أبو حامد: وهل تحمل العاقلة دية الجنين؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في الجديد: (تحمل ديته بكل حال) ؛ لما ذكرناه من حديث المغيرة بن شعبة.
و [الثاني] : قال في القديم: (لا تحملها، بل تكون في مال الجاني) . وبه قال مالك؛ لأن العاقلة لا تحمل ما دون ثلث الدية.
فإن وجب له القصاص في الطرف، فاقتص بحديدة مسمومة، فمات.. وجب على المقتص نصف الدية، فهل تحمل عنه العاقلة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تحمله عنه؛ لأنه ليس بعمد محض.
والثاني: لا تحمله العاقلة؛ لأنه قصد قتله بغير حق.
[فرع قتل أو جنى على عبد غيره فهل تحمله العاقلة]
؟] : وإن قتل الحر عبدًا لغيره خطأ أو عمد خطأ، أو جنى على طرفه خطأ أو عمد خطأ.. فهل تحمل عاقلته بدله؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تحمله العاقلة، بل تكون في ماله، وبه قال مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحمل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا» . ولأنه يضمن(11/588)
بالقيمة، فلم تحمله العاقلة، كالبهيمة.
والثاني: تحمله العاقلة، وبه قال الزهري، والحكم، وحماد، وهو الأصح؛ لأنه يجب بقتله القصاص والكفارة، فحملت العاقلة بدله، كالحر لحر.
وأما الخبر: فقيل: إنه موقوف على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والقياس مقدم عليه، وإن صح.. كان تأويله: لا تحمل العاقلة عن عبد إذا جنى. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (تحمل العاقلة بدل نفس العبد، ولا تحمل ما دون بدل النفس) .(11/589)
دليلنا: أن من حملت العاقلة بدل نفسه.. حملت ما دون بدل نفسه، كالحر، وعكسه البهيمة.
[مسألة جنى الرجل على نفسه أو طرفه]
] : وإن قتل الرجل نفسه أو جنى على طرفه عمدًا.. كان ذلك هدرًا، وهو إجماع؛ لأن أرش العمد في مال الجاني، والإنسان لا يثبت له مال على نفسه.
وإن قتل نفسه خطأ أو جنى على طرفه خطأ.. كان ذلك هدرًا، وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: (تكون على عاقلته، فإن كانت الجناية على نفسه.. كانت ديته لورثته، وإن كانت على طرفه.. أخذها لنفسه) . وروي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: ما روي: «أن عوف بن مالك ضرب مشركًا بالسيف، فرجع عليه السيف فقتله، فامتنع أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه، وقالوا: قد أبطل جهاده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بل مات مجاهدًا شهيدًا» . ولم يقل: إن ديته على عاقلته، ولو(11/590)
وجبت عليهم.. لبينها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه وقت الحاجة، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وقيل: إن الذي رجع عليه سيفه فقتله هو أبو عوف، وهو مالك.
[فرع أرش خطأ الإمام على عاقلته أو في بيت المال]
] : وما يجب من الأرش بخطأ الإمام.. ففيه قولان:
أحدهما: أن عاقلته تحمل ذلك عنه؛ لما ذكرناه من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
والثاني: يجب ذلك في بيت المال؛ لأن الخطأ يكثر منه في اجتهاده وأحكامه، فلو أوجبنا ذلك على عاقلته.. لأجحف بهم.
فإذا قلنا: تحمله عاقلته.. وجبت كفارة قتله في الخطأ وعمد الخطأ في ماله.
وإذا قلنا: تجب دية ذلك في بيت المال.. ففي الكفارة وجهان:
أحدهما: تجب في بيت المال؛ لما ذكرناه في الدية.
والثاني: تجب في ماله؛ لأن الكفارة لا تحمل العاقلة بحال.
[مسألة دية المقتول عمدًا في مال الجاني]
] : وإن قتل غيره عمدًا، أو جنى على طرفه عمدًا.. وجبت الدية في مال الجاني، سواء كانت الجناية مما يجب فيها القصاص أو مما لا يجب فيها القصاص.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كانت لا قصاص فيها، مثل: الهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والجائفة.. فإن العاقلة تحمله وإن كانت الجناية عمدًا) .(11/591)
دليلنا: أن الخبر إنما ورد في حمل العاقلة دية الخطأ تخفيفًا على القاتل؛ لأنه لم يقصد القتل، والعامد قصد القتل، فلم يلحق به في التخفيف، ولأنه أرش جناية عمد محض، فلم تحمله العاقلة، كما لو قتل الأب ابنه.
إذا ثبت هذا: فإن أرش العمد يجب حالًا.
وقال أبو حنيفة: (يجب مؤجلًا في ثلاث سنين) .
دليلنا: أن ما وجب بالعمد المحض كان حالًا، كالقصاص، وأرش أطراف العبيد.
وأما الأرش الذي يجب بعمد الخطأ أو بالخطأ المحض؛ فإن كان دية كاملة.. فإنه يجب مؤجلًا في ثلاث سنين.
وقال بعض الناس: يجب حالًا. وقال ربيعة: يجب مؤجلًا في خمس سنين.
دليلنا: ما روي عن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنهما قالا: (دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين) . ولا مخالف لهما في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم. ولأن العاقلة تحمل الدية على سبيل الرفق والمواساة، وما وجب على سبيل الرفق والمواساة.. لم يكن وجوبه حالًا، كالزكاة.
إذا ثبت هذا: فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولم أعلم خلافًا فيما علمته «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين» . وأنكر أصحاب الحديث(11/592)
ذلك، وقالوا: لم يرو في تأجيل الدية على العاقلة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبر صحيح ولا سقيم، فأجاب أصحابنا عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قد روى ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والثاني: أن لكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تأويلًا، ومعنى قوله: (ولم أعلم خلافًا في الدية التي قضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على العاقلة) أنها في ثلاث سنين، لا أنه قضى بها في ثلاث سنين، وقد بينه في " الأم " [6/103] هكذا، وإنما المزني اختصر.
[فرع ابتداء الأجل لأداء الدية]
] : أما أول ابتداء الأجل: فإن كانت الجناية على النفس.. كان ابتداء الأجل من حين الموت؛ لأنه حال استقرار الجناية. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال أصحابنا الخراسانيون: من حين الترافع إلى القاضي.
وإن كانت الجناية على الطرف، فإن لم يسر إلى طرف آخر.. كان ابتداء الأجل من حين الجناية؛ لأنه حين وجوبه، وإن سرت إلى طرف آخر، مثل: أن قطع إصبعه، فسرت الجناية إلى كفه.. كان ابتداء الأجل من حين الاندمال؛ لأنه وقت استقرار الجناية.(11/593)
وحكى أصحابنا الخراسانيون وجهًا آخر: أن دية الإصبع من حين الجناية، ودية ما زاد عليها من وقت الاندمال. والأول أصح. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (أول مدة الأجل من حين يحكم القاضي على العاقلة بالدية) .
دليلنا: أنه مال يحل بحلول الأجل، فكان أول الأجل من حين وجوب الأجل، كالثمن في البيع.
[فرع وقت أداء ما دون الدية]
] : وإن كان الواجب أقل من الدية.. نظرت:
فإن كان ثلث الدية فما دون.. وجب في آخر السنة الأولى؛ لأن العاقلة لا تحمل حالًا.
وإن كان أكثر من الثلث، ولم يزد على الثلثين.. وجب في آخر السنة الأولى ثلث الدية، وفي آخر السنة الثانية الباقي.
وإن كان أكثر من الثلثين، ولم يزد على الدية. وجب في آخر السنة الأولى ثلث الدية، وفي آخر السنة الثانية الثلث، وفي آخر الثالثة الباقي.
وإن كان الواجب أكثر من الدية، بأن وجب بجنايته ديتان، فإن كانت لاثنتين.. حملت العاقلة لكل واحد من المجني عليهما ثلث الدية في كل سنة. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: هذا، وهو الأصح.
والثاني: أن العاقلة لا تحمل في كل سنة إلا ثلث الدية للمجني عليهما.
وإن كانتا لواحد، مثل: أن قطع يديه ورجليه.. لم تحملهما العاقلة إلا في ست سنين، في كل سنة ثلث الدية. وهذا نقل أصحابنا العراقيين.(11/594)
وقال الخراسانيون: فيه وجهان: أحدهما: هذا.
والثاني: أن العاقلة تحملها في ثلاث سنين.
[فرع كيفية دفع الدية الناقصة]
] : وإن وجب بالخطأ أو بعمد الخطأ دية ناقصة عن دية الحر المسلم، كدية المرأة، ودية الجنين، والكافر.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنها تقسم في ثلاث سنين؛ لأنها بدل نفس، فكانت في ثلاث سنين، كدية الحر المسلم.
والثاني: أنه يجب في آخر كل سنة ثلث دية حر مسلم؛ لأنه ينقص عن الدية الكاملة، فكان كأرش الطرف.
وإن قتل العبد خطأ أو عمد خطأ، وقلنا: تحمل العاقلة قيمته.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنها تقسم على العاقلة في ثلاث سنين وإن زادت حصة كل سنة على ثلث الدية أو نقصت؛ لأنه بدل نفس.
والثاني: أنه كأرش الطرف، فتحمل في كل سنة ثلث دية الحر المسلم؛ اعتبارًا بما تحمله من دية الحر المسلم.
[مسألة من هم العاقلة]
؟] : و (العاقلة) : هم العصبة. ولا يدخل فيهم أبو الجاني ولا جده وإن علا، ولا ابنه ولا ابن ابنه وإن سفل. وقال مالك، وأبو حنيفة: (يدخلون فيهم) .
دليلنا: ما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن امرأتين من هذيل اقتتلتا، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فقتلت إحداهما الأخرى، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، فقالت عصبة المقتولة: ميراثها لنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا، [ميراثها] لزوجها ولولدها» .(11/595)
«وروى أبو رمثة قال: دخلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعي ابن لي، فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " من هذا؟ " فقلت: ابني، فقال: " أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» . ومعلوم أنه لم يرد: أنه لا يجرحك ولا تجرحه، وإنما أراد: أنك لا تؤخذ بجنايته ولا يؤخذ بجنايتك.
وروى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا يؤخذ أحد بجريرة ابنه، ولا يؤخذ ابن بجريرة أبيه» .
ولأن مال الولد والوالد كماله، بدليل: أن نفقتهما تجب في مالهما، كما تجب في ماله، فلما لم تجب في ماله.. لم يحمل عنه.
فإن كان للمرأة ابن هو ابنُ ابنِ عمها.. لم يعقل عنها؛ لعموم الخبر.(11/596)
وقال أبو علي السنجي: ويحتمل أن يقال: يحمل عنها؛ لأن فيه شيئين يحمل في أحدهما دون الآخر، فغلب الآخر، كولايته في النكاح على أمه. والأول هو المشهور.
[فرع الدية على العاقلة وليس على الجاني شيء]
] : ولا يحمل القاتل مع العاقلة من الدية شيئًا.
وقال أبو حنيفة: (يحمل ما يحمل أحدهم) .
دليلنا: ما ذكرناه من خبر جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المرأتين.
فإن لم يكن للجاني عصبة وله مولى من أعلى.. حمل عنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» . والنسب يعقل به، فكذلك الولاء، ولا يحمل المولى إلا بعد العاقلة من النسب، كما لا يرث إلا بعدهم.
فإن كان المعتق له جماعة.. لم يحملوا إلا ما يحمله الشخص الواحد من العصبة؛ لأنهم يقومون مقام الواحد من العصبة.
فإن لم يكن معتق.. حمل عصبة المعتق، كالأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، وهل يحمل ابن المعتق وأبوه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لا يحملان، كما لا يحمل ابن الجاني ولا أبوه.
والثاني: يحملان؛ لأن المعتق عصبة يحمل لو كان باقيًا، فحمل ابنه وأبوه، بخلاف ابن الجاني وأبيه، فإن الجاني لا يحمل، فكذلك لم يحملا.
فإن لم يكن للمعتق عصبة.. حمل معتقه، ثم عصبته، على ما ذكرناه في الإرث.
فإن لم يكن للجاني عصبة ولا مولى ولا عصبة مولى ولا مولى مولى، فإن كان مسلمًا.. حملت عنه الدية في بيت المال؛ لأنه لما نقل ماله إلى بيت المال إذا مات إرثًا.. حمل عنه بيت المال، كالعصبة. وإن كان كافرًا.. لم يحمل عنه في بيت المال؛ لأن مال بيت المال للمسلمين، وليس هو منهم، وإنما ينقل ماله إلى بيت المال إذا لم يكن له وارث فيئًا لا إرثًا.
وإن كان للجاني مولى من أسفل.. فهل يحمل عنه؟ فيه قولان:(11/597)
أحدهما: لا يحمل عنه، وهو الأصح؛ لأنه لا يرثه، فلم يحمل عنه، كالأجنبي.
والثاني: يحمل عنه، وبه قال أبو حنيفة، وأصحاب مالك رحمة الله عليه؛ لأنه لما حمل عنه المولى الأعلى عن الأسفل.. حمل الأسفل عن الأعلى، كالأخوين.
فعلى هذا: لا يحمل إلا بعد عدم المولى من أعلى، ويقدم على بيت المال؛ لأنه من العاقلة الخاصة له.
وأما عصبة المولى من أسفل: فلا يحملون، قولًا واحدًا؛ لأن الجاني لا يحمل عنهم، فلم يحملوا عنه.
وإن كان للمولى من أسفل مولى من أسفل.. فهل يحمل عن الجاني؟
الذي يقتضي المذهب: أنه على قولين، كمولاه من أعلى؛ لأن الجاني يحمل عنه.
فإن لم يكن للجاني عصبة من النسب، ولا من يحمل من جهة الولاء، وليس هناك بيت مال.. فهل تجب الدية في مال الجاني؟ فيه قولان، بناء على أن الدية هل تجب على العاقلة ابتداء، أو على الجاني ثم تحمل العاقلة عنه؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها تجب على العاقلة ابتداءً؛ لأنهم هم المطالبون بها. فعلى هذا: لا تجب في مال الجاني.
والثاني: أنها تجب على الجاني ابتداء، ثم تتحملها العاقلة عنه؛ لأنه هو المباشر للجناية. فعلى هذا: يجب أداء الدية من ماله.
فإذا قلنا بهذا: وكان له أب وابن.. فهل يحملان؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: يحملان، ويقدمان على الجاني؛ لأنا إنما لم نحمل عليهما؛ إبقاء على الجاني، فإذا حمل الجاني.. كانا أولى بالحمل
و [الثاني] : قال الشيخ أبو إسحاق: لا يحملان؛ لأنا إنما قلنا يحمل الجاني على هذا؛ لأن الدية وجبت عليه ابتداء، فإذا لم يوجد من يتحمل عنه.. بقي الوجوب في محله، والأب والابن لم تجب الدية عليهما في الابتداء، ولا هما من أهل التحمل، فلم يحملا بحال.(11/598)
[مسألة جماعة لا يتحملون العقل]
] : ولا يعقل (العديد) ، وهو: الرجل القريب الذي يدخل في قبيلة ويعد فيهم.
ولا يحمل (الحليف) ، وهو: أن يحالف رجل رجلًا على أن ينصر أحدهما الآخر، ويعقل أحدهما عن الآخر، ويرث أحدهما الآخر.
ووافقنا أبو حنيفة في العديد، وخالفنا في الحليف إذا لم يكن له قرابة من النسب.. فإنه يرث، ويعقل.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] [الأنفال: 75] . فجعل الله القرابات أولى من غيرهم، وهذا ليس منهم.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حلف في الإسلام» . ولم يرد بذلك: أنه لا يجوز التحالف بين المسلمين على النصرة، بل ذلك من مقتضى الدين، وإنما أراد: لا حكم للحلف في الإسلام.
[فرع لا يعقل أهل الديوان إلا العصبات]
] : ولا يعقل أهل الديوان من غير أهل العصبات.
وقال مالك، وأبو حنيفة رحمهما الله: (إذا حزب الإمام الناس، وجعلهم فرقًا(11/599)
تحت يد كل عريف فرقة، فإذا جنى واحد من أهل تلك الفرقة خطأ أو عمد خطأ.. حمل أهل ديوانه من فرقته عنه) .
دليلنا: أنهم لا يرثون، فلم يعقلوا كالأجانب.
[فرع العصبة من يعرف اتصال نسبه]
] : ولا يعقل عن الجاني إلا من يعرف اتصال نسبه إليه، فإن عرف رجل أنه من قبيلة بعينها، ولكن لا يعرف اتصال نسبه ونسبهم إلى أب.. لم يعقلوا عنه؛ لأن معرفته أنه منهم إذا لم يعرف اجتماع نسبه ونسبهم إلى أب.. لا يقتضي أن يعقلوا عنه، كما لا يعقل عنه سائر بني آدم من غير تلك القبيلة وإن علمنا أن الجميع من ولد آدم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه.
وإن كان هناك رجل مجهول النسب، فانتسب إلى قبيلة، وأمكن صدقه وصادقوه على ذلك.. ثبت نسبه منهم، وعقلوا عنه.
فإن قال جماعة من الناس: سمعنا أنه ليس منهم، وشهدوا بذلك.. لم ينتف نسبه منهم بذلك. وقال مالك: (ينتفي نسبه) . وهذا غلط؛ لأنه نفي نسب محض، فلم يزل به نسب حكم بثبوته. فإن جاء آخر من غيرهم، وقال: هو ابني وولد على فراشي، وأقام على ذلك بينة.. ثبت نسبه منه، وانتفى نسبه من الأولين؛ لأن البينة أقوى من مجرد الدعوى.
[مسألة المسلم والكافر يعقل أحدهما عن الآخر]
وعقل أهل الذمة والحرابة عن بعضهم] : ولا يعقل مسلم عن كافر، ولا كافر عن مسلم؛ لأنهما لا يتوارثان.
ويعقل أهل الذمة بعضهم عن بعض إذا ثبت اتصال نسبهم إلى أب، سواء كانوا على ملة واحدة، كاليهودية، أو على ملتين، كاليهودية والنصرانية.
وقال أبو حنيفة: (ولا يعقل ذمي عن ذمي) .
دليلنا: أنهم يتوارثون، فتعاقلوا، كالمسلمين.(11/600)
ولا يعقل ذمي عن حربي؛ ولا حربي عن ذمي وإن جمعتهما ملة واحدة وأب واحد؛ لأنهما لا يتوارثان، فلم يتعاقلا، كالأجنبيين.
فإن لم يكن للذمي عاقلة من النسب، وله مولى من أعلى.. حمل عن إذا كان يرثه، وكذلك: إن كان له عصبة: مولى أو مولى مولىً، وهل يحمل عنه المولى من أسفل؟ على القولين، فيمن لم يكن له عاقلة، أو كان له عاقلة لا تقدر على جميع الدية. فهل تجب في ماله؟ على القولين في المسلم.
فإن قلنا: تجب في ماله.. فهل يحمل عنه أبوه وابنه؟ على الوجهين في المسلم.
[فرع رمى ذمي غرضًا وأسلم ثم أصاب شخصًا]
] : وإن رمى ذمي سهمًا إلى غرض، فأسلم، ثم وقع السهم في إنسان فقتله.. وجبت الدية في ماله؛ لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين؛ لأن الرمي وجد منه وهو ذمي، ولا يمكن إيجابها على عاقلته من أهل الذمة؛ لأن الإصابة وجدت وهو مسلم، فلم يبق إلا إيجابها في ماله.
وإن رمى مسلم سهمًا إلى صيد، فارتد، ثم أصاب السهم إنسانًا فقتله.. وجبت الدية في ماله؛ لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين؛ لأن الإصابة وجدت وهو مرتد، ولا يمكن إيجابها على عاقلته من الكفار؛ لأنه لا عاقلة له منهم.
فإن قطع ذمي يد رجل خطأ، فأسلم الذمي، ثم مات المقطوع من الجناية.. قال الشيخ أبو إسحاق: عقلت عنه عصباته من أهل الذمة دون المسلمين؛ لأن الجناية وجدت وهو ذمي؛ ولهذا يجب بها القصاص، ولا يسقط عنه بالإسلام.
وقال ابن الحداد: يجب على عاقلته من أهل الذمة أرش الجراحة لا غير، ولا تحمل ما زاد؛ لأنه وجب بعد الإسلام، وتجب الزيادة في مال الجاني، ولا تحمله عاقلته من المسلمين؛ لأن سببها كان في الكفر.
قال ابن الحداد: وإن جني ذمي على رجل خطأ، ثم أسلم الجاني، ثم جنى على المجني عليه جناية أخرى خطأ، ومات من الجنايتين.. فإن على عاقلته من المسلمين(11/601)
نصف الدية، وعلى عاقلته من أهل الذمة أقل الأمرين من أرش الجناية في حال الذمة أو نصف الدية، فإن كان نصف الدية أقل.. لزمهم ذلك، وإن كان أرش الجناية أقل.. لزمهم قدر الأرش، وما زاد عليه إلى تمام نصف الدية.. يجب في مال الجاني؛ لأنه وجب بعد الإسلام.
ولا فرق بين أن يجرحه في حال الذمية جراحة وبعد الإسلام جراحات، أو يجرحه في حال الذمة جراحات وبعد الإسلام جراحة واحدة، فإن الدية مقسومة على الحالين، فيجب على عاقلته من المسلمين نصف الدية، وعلى عاقلته من أهل الذمة أقل الأمرين من نصف الدية أو أرش الجناية وأرش الجراحة أو الجراحات في حال الذمة.
وإن جرحه في حال الذمة جراحة خطأ ثم أسلم، ثم قتله خطأ.. دخل الأرش في دية النفس على المذهب، فكانت الدية على عاقلته من المسلمين.
وعلى قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي العباس: لا يدخل، فيكون أرش الجراحة على عاقتله من أهل الذمة، ودية النفس على عاقلته من المسلمين.
وإن جرح مسلم إنسانًا خطأ، ثم ارتد الجارح، وبقي في الردة زمانًا يسري في مثله الجرح، ثم أسلم، ثم مات المجروح.. وجبت الدية، وعلى من تجب؟ فيه قولان:
أحدهما: تجب على عاقلته؛ لأن الجراحة والموت وجدا في الإسلام.
والثاني: يجب على العاقلة نصف الدية، وفي مال الجاني النصف؛ لأنه وجد سراية في حال الإسلام وسراية في حال الردة، فحملت ما سرى في الإسلام ولم تحمل ما سرى في الردة.
[فرع قطع ولد عبد ومعتقة يد إنسان خطأ ثم عتق أبوه]
] : وإن تزوج عبد معتقة لآخر، فولدت منه ولدًا، فقطع الولد يد إنسان خطأ، ثم أعتق الأب، ثم سرت الجناية إلى نفس المقطوع ولا عصبة لأبي الولد.. قال ابن الحداد: وجب على مولى أم الولد دية اليد؛ لأنه وجب وهو مولاه، ووجب باقي الدية في مال الجاني؛ لأنه لا يمكن إيجابها على مولى الأم؛ لأنه وجب بعد انتقال(11/602)
ولاء الولد عنه، ولا يمكن إيجابه على مولى الأم؛ لأنه وجب بعد انتقال ولاء الولد عنه، ولا يمكن إيجابه على معتق الأب؛ لأن سببه وجد وهو غير مولى له، فكان في مال الجاني.
[مسألة جناية المعتوه وأضرابه خطأ]
] : وإن جنى الصبي أو المجنون أو المعتوه جناية خطأ، أو عمد خطأ، أو عمدًا محضًا، وقلنا: إن عمده خطأ.. فإن عاقلته تحمل عنه الدية؛ لأن تحمل العاقلة للدية جعل بدلًا عن التناصر في الجاهلية بالسيف، وهو ممن لا تنصرهم عاقلتهم.
وإن جنى أحد من عصبة الصبي والمجنون والمعتوه خطأ أو عمد خطأ.. لم يحمل الصبي والمجنون والمعتوه؛ لأنهم ليسوا من أهل النصرة.
وإن جنت المرأة أو الخنثى المشكل خطأ أو عمد خطأ.. حملت عاقلتهما عنهما الدية. وإن جنى أحد من عصباتهما.. لم يحملا عنه الدية؛ لما ذكرناه في الصبي والمجنون. فإن بان الخنثى رجلًا.. تحمل العقل.
وإن أعتقت امرأة عبدًا أو أمة، فجنى المعتق على غيره خطأ.. لم تحمل المولاة عنه؛ لأنها إذا لم تحمل بالنسب.. فلأن لا تحمل بالولاء أولى. قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولكن تحمل عصبتها الذين يحملون جنايتها إذا جنت.
[فرع لا يحمل الزمن ولا الهرم]
] : ويحمل المريض إذا لم يبلغ الزمانة، والشيخ إذا لم يبلغ الهرم؛ لأنهما من أهل النصرة، فإن بلغ الشيخ الهرم والشاب المريض الزمانة.. فهل يحملان الدية؟
قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان، بناء على القولين في جواز قتلهما إذا أسرا.
وقال ابن أبي هريرة: إن كانت الزمانة من اليدين والرجلين.. لم يحملا.
وذكر الشيخ أبو حامد: أنهما يحملان، وجهًا واحدًا.(11/603)
[مسألة لا يحمل العقل إلا الغني والمتوسط]
] : ولا يحمل العقل من العاقلة إلا الغني والمتوسط، فأما (الفقير) : وهو من لا يملك ما يكفيه على الدوام.. فإنه لا يحمل العقل. وقال أبو حنيفة: (يحمل) .
دليلنا: أن العاقلة إنما تحمل الدية عن القاتل على طريق الرفق والمواساة، والفقير ليس من أهل المواساة.
ولأن الدية إنما نقلت إلى العاقلة تخفيفًا عن القاتل؛ لئلا يجحف بماله، فلو أوجبنا ذلك على الفقير.. لدفعنا الضرر عن القاتل، وألحقناه بالفقير، والضرر لا يزال بالضرر.
ويجب على المتوسط ربع دينار مثقال؛ لأنه لا يمكن إيجاب الكثير عليه؛ لأنه يجحف به، فقدر ما يؤخذ منه بربع دينار؛ لأنه ليس في حد التافه؛ ولهذا قالت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: (ما كانت اليد تقطع على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشيء التافه) . وقد ثبت أن اليد لا تقطع بدون ربع دينار.
ويجب على الغني نصف دينار؛ لأنه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من الغني والمتوسط واحدًا، فقدر ما يؤخذ من الغني بنصف دينار؛ لأنه أول قدر يؤخذ منه في زكاة الذهب.
إذا ثبت هذا: فهل يجب هذا القدر على المتوسط والغني مقسومًا في الثلاث سنين، أو يجب هذا القدر في كل سنة من الثلاث سنين؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن هذا القدر يجب مقسومًا في ثلاث سنين لا غير.
فعلى هذا: لا يجب على المتوسط أكثر من ربع دينار، في كل سنة نصف سدس(11/604)
دينار. ويجب على الغني نصف دينار في ثلاث سنين، في كل سنة سدس دينار؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (يحمل من كثر ماله نصف دينار) . وهذا يقتضي أن هذا جميع ما يحمله. ولأن إيجاب ما زاد على ذلك عليه يجحف به.
والثاني - وهو الأصح -: أن هذا القدر يجب في كل سنة من الثلاث سنين، فيكون جميع ما يجب على المتوسط في الثلاث سنين ثلاثة أرباع دينار، وجميع ما يجب على الغني في الثلاث سنين دينار ونصف دينار؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (يحمل الغني نصف دينار، والمتوسط ربع دينار حتى يشترك النفر في بعير) . وظاهر هذا أنهم يحملون هذا القدر كل سنة من الثلاث. ولأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة، فتكرر بتكرر الأحوال، كالزكاة.
إذا ثبت هذا: فإن الجماعة من العاقلة يشتركون في شراء بعير؛ لأن الواجب عليهم الإبل لا الدنانير. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (الفقير والغني والمتوسط سواء، فأكثر ما يحمله الواحد منهم أربعة دراهم، وأقله ليس له حد) .
ودليلنا: أنه حق مخرج على وجه المواساة، فاختلف بكثرة المال وقلته، كالزكاة. ويعتبر حال كل واحد منهم بالبلوغ، والعقل، واليسار، والإعسار، والتوسط عند حلول الحول، كما يعتبر النصاب في آخر الحول، فإن كان معسرًا عند حلول الحول.. لم يجب عليه شيء، فإن أيسر بعد ذلك.. لم يجب عليه شيء من الثلث الواجب قبل يساره، فإن كان موسرًا عند حلول الحول الثاني.. وجب عليه. وإن كان موسرًا عند حلول الحول، فأعسر قبل دفع ما عليه.. كان دينًا في ذمته إلى أن يوسر؛ لأنه قد وجب عليه.
وإن مات واحد منهم بعد الحول وهو موسر.. لم يسقط عنه، بل يجب قضاؤه من تركته. وقال أبو حنيفة: (يسقط) .
دليلنا: أنه مال استقر وجوبه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت، كالدين.(11/605)
[مسألة معرفة العاقلة وأقربهم الإخوة]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ومعرفة العاقلة: أن ينظر إلى إخوته لأبيه وأمه فيحملهم) .
وجملة ذلك: أن الحاكم إذا أراد قسمة العقل.. فإنه يبدأ بالإخوة للأب والأم أو للأب؛ لأنهم أقرب العاقلة، فيؤخذ من الغني منهم نصف دينار، ومن المتوسط ربع دينار، فإن وفى ذلك بثلث الدية.. لم يحمل على من بعدهم، وإن لم يف ذلك.. حمل على بني الإخوة وإن سفلوا، فإن لم يف ذلك.. حمل على الأعمام، فإن لم يف ذلك.. حمل على بني الأعمام إلى أن يستوعب جميع القبيل الذين يتصل أبو الجاني بأبيهم، فإن لم يف ما حمل عليهم بثلث الدية.. حمل عنه المولى ومن أدلى به، فإن لم يف ما حمل عليهم بثلث الدية.. حملت تمام الثلث في بيت المال. وعلى هذا في الحول الثاني والثالث.
وقال أبو حنيفة: (يقسم على القريب والبعيد منهم، ولا يقدم القريب) .
دليلنا: أنه حكم يتعلق بالتعصيب، فاعتبر به الأقرب فالأقرب، كالميراث.
إذا ثبت هذا: فاجتمع في درجة واحدة اثنان: أحدهما يدلي بالأب والأم، والآخر بالأب لا غير، كأخوين أو ابني أخ أو عمين أو ابني عم.. ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (هما سواء؛ لأنهما متساويان في قرابة الأب، وأما الأم: فلا مدخل لها في النصرة وحمل العقل، فلم يرجح بها) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يقدم من يدلي بالأب والأم؛ لأنه حق يستحق بالتعصيب، فقدم فيه من يدلي بالأبوين على من يدلي بأحدهما، كالميراث) .
[فرع اجتماع جماعة من العاقلة بدرجة]
] : وإن اجتمع جماعة من العاقلة في درجة واحدة، فكان الأرش الواحد بحيث إذا قسم عليهم.. خص الغني منهم دون نصف دينار، والمتوسط منهم دون ربع دينار.. ففيه قولان:(11/606)
أحدهما: يقسم عليهم على عددهما؛ لأنهم استووا في الدرجة والتعصيب، فقسم المال بينهما على عددهم، كالميراث.
والثاني: يخص به الحاكم من رأى منهم؛ لأنه ربما كان العقل قليلًا، فخص كل واحد منهم فلس، وفي تقسيط ذلك مشقة.
[فرع وجود العاقلة في بلد القاتل أو غيابهم]
] : إذا كان جميع العاقلة حضورًا في بلد القاتل.. فإن الحاكم يقسم الدية عليهم على ما مضى. وإن كانوا كلهم غائبين عن بلد القاتل، وهم في بلد واحد.. فإن حاكم البلد الذي فيه القاتل إذا ثبت عنده القتل.. يكتب إلى حاكم البلد الذي فيه العاقلة ليقسم الدية عليهم.
وإن كان بعض العاقلة حضورًا في بلد القاتل وبعضهم غائبًا عنه في بلد آخر.. نظرت: فإن حضر معه الأقربون إليه، وأمكن أن يحمل ثلث الدية على الأقربين.. لم يحمل على من بعدهم، وإن لم يمكن حمل ثلث الدية على الأقربين.. حمل على من بعدهم وإن كانوا غائبين.
وإن كان جماعة من العاقلة في درجة واحدة، وبعضهم حاضر في بلد القاتل وبعضهم غائب عنه في بلد آخر، فإن لم يكن في الحضور سعة لاستغراق الدية.. فإن الدية تحمل عليهم وعلى من غاب، وإن كان في الحاضرين سعة لاستغراق الدية.. ففيه قولان:
أحدهما: أن الحاكم يقسم الدية على الحاضرين دون الغائبين، وبه قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لأن الحاضرين أحق بالنصرة من الغائبين.
والثاني: تقسم الدية على الجميع، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه حق مال يستحق بالتعصيب، فاستوى فيه الحاضر والغائب، كالميراث.
وإن حضر معه الأبعدون، وغاب الأقربون.. فاختلف أصحابنا فيه:(11/607)
فقال الشيخ أبو إسحاق، والمسعودي [في " الإبانة "] : هي على القولين في التي قبلها.
وقال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: يقدم الأقربون، قولًا واحدًا؛ لأنه مبني على التعصيب، فكل من قرب.. كان أولى، كالميراث.
[مسألة تقويم النجوم وقت الحلول]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقوم نجم إلا بعد حلوله) :
وجملة ذلك: أن الدية إذا وجبت على العاقلة، فإن كانت الإبل موجودة معهم أو في بلدهم بثمن مثلها عند الحول.. وجب عليهم أن يجمعوا ما وجب على كل واحد منهم ويشتروا به إبلًا، وإن كان معدومة أو موجودة بأكثر من ثمن مثلها.. انتقلوا إلى بدلها، وبدلها في قوله القديم: (اثنا عشر ألف درهم أو ألف مثقال) ، وفي قوله الجديد: (قيمتها) .
فإذا قلنا: تجب قيمتها.. فإنها تقوم عليهم عند حلول الحول أقل إبل، لو بذلوها.. لزم الولي قبول ذلك، فإن أخذ الولي القيمة، ثم وجدت الإبل.. لم يكن له المطالبة بالإبل؛ لأن الذمة قد برئت بالقيمة، وإن قومت الإبل، ثم وجدت الإبل قبل قبض القيمة.. كان للولي أن يطالب بالإبل؛ لأن حقه في الإبل لم يسقط بالتقويم.
وبالله التوفيق(11/608)
[باب اختلاف الجاني وولي الدم]
إذا قتل حر رجلًا، فقال القاتل: كان المقتول عبدًا، وقال ولي المقتول: بل كان حرًا، ولا بينة.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هاهنا: (القول قول الولي) ، وقال فيمن قذف رجلًا، فقال القاذف: هو عبد، وقال المقذوف: بل أنا حر: (القول قول القاذف) .
فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين:
أحدهما: القول قول الجاني والقاذف مع يمينه؛ لأن الأصل حقن دمه وحمى ظهره.
والثاني: القول قول الولي والمقذوف مع يمينه؛ لأن الظاهر منه الحرية.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما وفرق بينهما، وقال: لأنا إذا جعلنا القول قول الجاني.. أسقطنا عنه القصاص، فيكون ذلك إسقاطًا للقصاص الذي يقع به الردع، وإذا جعلنا القول قول القاذف.. سقط الحد، ولم يسقط التعزير، فيقع به الردع.
وإن قال الجاني: قتلته وأنا صبي، وقال الولي: بل قتلته وأنت بالغ، ولا بينة.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل فيه الصغر.
وإن قال القاتل: قتلته وأنا مجنون، وقال الولي: بل قتلته وأنت عاقل، فإن لم يعرف له حال جنون.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الجنون، وإن عرف له حال جنون ولم يعلم أنه قتله في حال الجنون أو في حال العقل.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه أعرف بحاله، والأصل براءة ذمته مما يدعى عليه.
وحكى ابن الصباغ وجهًا آخر: أن القول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل السلامة، والأول أصح.(11/609)
فإن أقام الولي شاهدين: أنه قتله وهو عاقل، وأقام القاتل شاهدين: أنه قتله وهو مجنون.. تعارضت البينتان وسقطتا.
وإن اتفق الجاني والولي أنه قتله وهو زائل العقل، ولكن اختلفا بما زال به عقله: فقال الجاني: زال بالجنون، وقال الولي: بل زال بالسكر، وقلنا: يجب القصاص على السكران.. فالقول قول الجاني؛ لأنه أعرف بحاله، ولأن الأصل عدم وجوب القصاص عليه.
[مسألة وجب قصاص في إصبع فقطع اثنتين]
مسألة: [وجوب قصاص في إصبع فقطع اثنتين] : وإن وجب له القصاص في إصبع، فقطع له إصبعين، وقال المقتص: أخطأت، وقال المقتص منه: بل تعمدت.. فالقول قول المقتص مع يمينه؛ لأنه أعلم بفعله.
وإن قال المقتص: حصلت الزيادة باضطراب الجاني، وقال الجاني: بل قطعتها عامدًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الجاني؛ لأن الأصل عدم الاضطراب.
والثاني: القول قول المقتص؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان.
[فرع جرح ثلاثة رجلًا فمات واختلفوا بأيها مات]
] : وإن جرح ثلاثة رجلًا ومات، فقال أحدهم: اندملت جراحتي ثم مات من جراحة الآخرين، وصدقه الولي، وكذبه الآخران، فإن كانت الجنايات موجبة للقصاص، فأراد الولي القصاص.. لم يؤثر تكذيب الآخرين؛ لأن القصاص يجب عليهما بكل حال. وإن عفا الولي عن القصاص إلى الدية، أو كانت الجنايات غير موجبة للقصاص.. قبل تصديق الولي في حق نفسه دون الآخرين؛ لأن عليهما في ذلك ضررًا؛ لأنه إذا مات من جراحة ثلاثة.. وجب على كل واحد منهم ثلث الدية، وإذا مات من جراحة اثنين.. وجب على كل واحد منهما نصف الدية.(11/610)
وإن قد رجلًا ملفوفًا، فقال الضارب: كان ميتًا، وقال الولي: بل كان حيًا.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قول الجاني؛ لأن الأصل براءة ذمته.
والثاني: القول قول الولي؛ لأن الأصل فيه الحياة.
[مسألة قطع عضو شخص ثم اختلفا بحاله]
] : وإن قطع رجل عضو رجل، ثم اختلفا: فقال الجاني: قطعته وهو أشل، وقال المجني عليه: قطعته وهو سليم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: القول قول الجاني، وهو قول أبي حنيفة؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان.
والثاني: القول قول المجني عليه، وهو قول أحمد؛ لأن الأصل سلامته من الشلل.
ومنهم من قال: إن كان اختلافهما في الأعضاء الظاهرة، كاليد، والرجل، واللسان، والبصر، وما أشبهها.. فالقول قول الجاني، وإن كان اختلافهما في الأعضاء الباطنة، كالذكر، والأنثيين.. فالقول قول المجني عليه؛ لأن الأعضاء الظاهرة يمكن للمجني عليه إقامة البينة على سلامتها، فلم يقبل قوله في سلامتها، والباطنة لا يمكنه إقامة البينة على سلامتها، فقبل قوله في سلامتها، كما قلنا فيمن علق طلاق امرأته على دخول الدار.. فإنه لا يقبل قولها، ولو علق طلاقها على حيضها.. قبل قولها.
فإذا قلنا: القول قول الجاني في الأعضاء الظاهرة، وإنما لا يكون ذلك إذا لم يقر الجاني: أن المجني عليه كان صحيحًا، فأما إذا أقر: أنه كان صحيحًا، ثم ادعى: أنه طرأ عليه الشلل وجنى عليه وهو أشل، وقال المجني عليه: بل كان صحيحا وقت الجناية.. ففيه قولان:(11/611)
أحدهما: القول قول الجاني مع يمينه؛ لأن البينة لا تتعذر على المجني عليه على سلامته، فلم يقبل قوله في سلامته.
والثاني: القول قول المجني عليه؛ لأنهما قد اتفقا على سلامته قبل الجناية، والأصل بقاء سلامته، فلم يقبل قول الجاني.
ومتى قلنا القول قول الجاني، فأراد المجني عليه إقامة البينة على سلامة العضو المجني عليه.. نظرت:
فإن شهدت: أن الجاني جنى عليه وهو سليم.. قبلت.
وإن شهدت عليه: أنه كان غير سليم قبل الجناية، فإن قلنا: إن الجاني إذا أقر بسلامته قبل الجناية فإن القول قوله.. لم تقبل هذه البينة، وإن قلنا هناك: القول قول المجني عليه.. قبلت؛ لأن المجني عليه يحتاج أن يحلف معها؛ لجواز أن يحدث عليها الشلل بعد الشهادة وقبل الجناية.
[فرع أوضحه اثنتين وأزال الحاجز بينهما]
] : وإن أوضحه موضحتين ثم زال الحاجز بينهما، فقال الجاني: تأكَّل ما بينهما بجنايتي، فلا يلزمني إلا أرش موضحة، وقال المجني عليه: لم يتأكل ما بينهما، وإنما أنا خرقت ما بينهما أو جنى عليه آخر.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء وجوب الأرشين على الجاني.
وإن أوضح رأسه، فقال الجاني: أوضحته موضحة، وقال المجني عليه: بل أوضحتني موضحتين، وأنا خرقت ما بينهما.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على أرش موضحة.
وإن قطع إصبعه، ثم زال كفه، فقال المجني عليه: سرى القطع إليه، وقال(11/612)
الجاني: لم يسر إليه القطع، وإنما زال بسب آخر.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم السراية. فأما إذا داوى المجني عليه موضع القطع، فقال الجاني: تأكَّلت بالدواء، وقال المجني عليه: تأكلت بالقطع.. سئل أهل الخبرة بذلك الدواء؟ فإن قالوا: إنه تأكل اللحم الميت والحي.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه تأكل به. وإن قالوا: إنه تأكل الميت دون الحي.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه، فإن لم يعرف ذلك.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه أيضًا؛ لأنه أعلم بصفة الدواء، ولأن الظاهر أنه لا يداوي الجرح بما يضره ويزيد فيه.
[مسألة قطع أطرافه الأربعة فمات]
] : فإن قطع رجل يدي رجل ورجليه، ومات المجني عليه، فقال الجاني: مات من الجناية، فلا يلزمني إلا دية واحدة، وقال الولي: بل اندملت الجراحتان، ثم مات بسبب آخر، فعليك ديتان.. فإن كان بين الجناية والموت زمان لا يمكن أن تندمل فيه الجراحات.. فالقول قول الجاني بلا يمين؛ لأنا قد علمنا صدقه.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال في " التعليق ": يحلف مع ذلك؛ لجواز أن يكون مات بحادث آخر، كلدغ الحية والعقرب.
قال ابن الصباغ: والأول أولى؛ لأن الولي ما ادعى ذلك، وإنما ادعى الاندمال، وقد علم كذبه، فأما إذا ادعى: أنه مات بسبب آخر.. حلفنا الجاني؛ لإمكانه.
وإن كان بينهما زمان لا تبقى إليه الجراحات غير مندملة، كالسنين الكثيرة.. فالقول قول الولي بلا يمين. وإن كان بينهما زمان يمكن أن تندمل فيه الجراحات ويمكن أن لا تندمل فيه.. فالقول قول الولي فيه مع يمينه؛ لأن الديتين قد وجبتا بالقطع، وشك في سقوط إحداهما بالاندمال، والأصل بقاؤهما.
وإن أقام الجاني بينة: أنه لم يزل ضمنًا من حين الجراحة إلى أن مات.. القول قوله مع يمينه، ولا يجب عليه إلا دية؛ لأن الظاهر أنه مات من الجنايتين.(11/613)
وإن اختلفا في مضي مدة تندمل في مثلها الجراحات.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم مضيها. وإن كان بينهما زمان لا تندمل في مثله الجراحات، وادعى الولي: أنه مات بسبب آخر، بأن قال: ذبح نفسه أو ذبحه آخر، وقال الجاني: بل مات من سراية الجناية.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق المروزي -: أن القول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الجناية وحصول الموت منها.
والثاني - وهو قول أبي علي الطبري -: أن القول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل بقاء الديتين.
وإن قطع يده، ثم مات، فقال الولي: مات من سراية الجناية، فعليك الدية، وقال الجاني: بل اندملت الجناية، ثم مات بسبب آخر، فلا يلزمني إلا نصف الدية، فإن لم يمض من الزمان ما تندمل في مثله الجراحات.. فالقول قول الولي؛ لأن الظاهر أنه مات من سراية الجناية، وهل يحلف على ذلك؟ يحتمل وجهين:
أحدهما: يحلف؛ لجواز أن يكون قتله آخر، أو شرب سمًا، فمات منه.
والثاني: لا يحلف، كما قال ابن الصباغ في التي قبلها؛ لأنا قد علمنا كذب الجاني، ولأنه لم يدع الموت في ذلك، وإنما ادعى الاندمال.
وإن كان قد مضى من الزمان ما تندمل في مثله الجراحات، فإن كان مع الولي بينة: أنه لم يزل ضمنًا من حين الجناية إلى الموت.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه مات بذلك، وإن لم يكن معه بينة على ذلك.. فالقول قول الجاني، وهل يلزمه اليمين؟ يحتمل الوجهين في التي قبلها.
وإن مضى زمان يمكن أن تندمل في مثله الجراحات ويمكن أن لا تندمل.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على نصف الدية.
وإن قطع يده، ومات في زمان لا تندمل فيه الجراحة، فقال الولي: مات من سراية الجناية، فعليك الدية، وقال الجاني: بل شرب سمًا، فمات منه، أو قتله آخر.. ففيه وجهان، كالتي قبلها.(11/614)
[مسألة جنى على عين إنسان واختلفا في وجود الرؤية بها]
] : وإن جنى على عين رجل، ثم اختلفا: فقال الجاني: جنيت عليها وهو لا يبصر بها، وقال المجني عليه: بل كنت أبصر بها.. نظرت:
فإن قال الجاني: خلقت عمياء لا يبصر بها.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه لا يتعذر على المجني عليه إقامة البينة على أنه كان يبصر بها.
وإن قال الجاني: قد كان يبصر بها، ولكن طرأ عليها العمى قبل الجناية.. ففيه قولان، كما قلنا في الجاني إذا أقر بصحة العضو، ثم ادعى: أن الشلل طرأ عليه قبل الجناية.
وإذا أراد المجني عليه أن يقيم البينة: أنه كان يبصر بها.. فيكفي الشاهدين أن يشهدا: أنه كان يبصر بها، ويسوغ لهما أن يشهدا بذلك إذا رأياه يبصر الشخص ويتبعه في النظر، كلما عطف الشخص جهة.. أتبعه ببصره، أو يتوقى البئر إذا أتاها، أو يغمض عينه إذا جاء إنسان يتحسسها؛ لأن الظاهر ممن فعل هذا أنه يبصر، ويسعهما أن يشهدا على سلامة اليد إذا رأياه يرفع بها ويضع.
وليس للحاكم أن يسألهما إذا شهدا لرجل عن الجهة التي تحملا بها الشهادة على ذلك، كما ليس له أن يسألهما إذا شهدا لرجل بملك عين عن الجهة التي علما بها ملكه.
[فرع جنى على عين فذهب نور بصرها]
] : وإن جنى على عين رجل، فذهب ضوؤها، وقال أهل الخبرة: إنه يرجى عوده إلى مدة، فمات المجني عليه، وادعى الجاني: أن ضوءها قد عاد قبل موته، وقال الولي: لم يعد.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العود، فيحلف: أنه لا يعلم أن ضوء عين مورثه قد عاد؛ لأنه يحلف على نفس فعل غيره.
وإن جنى على عين رجل جناية ذهب بها ضوء عينه وبقيت الحدقة، ثم جاء آخر، فقلع الحدقة، فادعى الجاني الأول: أن الثاني قلع الحدقة بعد أن عاد ضوؤها، وقال الجاني الثاني: قلعتها قبل عود ضوئها، فإن صدق المجني عليه الجاني الأول.. قبل تصديقه في حق الأول؛ لأن ذلك يتضمن إسقاط حقه عنه، ولا يقبل قوله على(11/615)
الثاني؛ لأن ذلك يوجب الضمان عليه، والأصل براءة ذمته من الضمان، فيحلف الثاني: أنه قلعها قبل أن عاد ضوؤها، ولا يلزمه إلا الحكومة.
[مسألة جنى على أذن فأذهب سمعها]
] : وإن جنى على أذنه جناية، وادعى المجني عليه: أنه ذهب بها سمعه، وكذبه الجاني.. فإن المجني عليه يراعى أمره في وقت غفلاته، فإن كان يضطرب عند صوت الرعد، أو إذا صيح به وهو غافل أجاب أو اضطرب أو ظهر منه شيء يدل على أنه سامع.. فالقول قول الجاني؛ لأن الظاهر أنه لم يذهب سمعه، ويحلف الجاني: أنه لم يذهب سمعه؛ لجواز أن يكون ما ظهر منه اتفاقًا لا أنه يسمع.
وإن كان لا يضطرب لصوت الرعد، ولا يجيب إذا صيح به مع غفلته ولا يضطرب لذلك.. فالقول قول المجني عليه؛ لأن الظاهر أنه لا يسمع، ويحلف: أنه قد ذهب سمعه؛ لجواز أن يكون قد تصنع لذلك.
وإن ادعى: أنه ذهب سمعه في إحدى الأذنين دون الأخرى.. سدت الصحيحة، وأطلقت العليلة، وامتحن في أوقات غفلاته على ما ذكرناه.
وإن ادعى: أنه نقص سمعه بالجناية ولم يذهب.. فالقول قوله مع يمينه في قدر نقصه؛ لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهته.
[فرع جنى على منخريه فادعى ذهاب شمه]
] : وإن جنى على أنفه جناية، فادعى المجني عليه: أنه ذهب بها شمه، وأنكر الجاني: أنه لم يذهب شمه.. قربت إليه الروائح الطيبة والمنتنة في أوقات(11/616)
غفلاته، فإن هش إلى الروائح الطيبة وعبس للروائح المنتنة.. فالقول قول الجاني مع يمينه، وإن لم يظهر منه ذلك.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لما ذكرناه في السمع. وإن ادعى ذهاب شمه من أحد المنخرين، أو ادعى نقصان شمه.. فعلى ما ذكرناه في السمع.
وإذا حلف المجني عليه: أن سمعه أو شمه قد ذهب بالجناية، وأخذ الدية، فاضطرب عند صوت رعد، فإن ادعى الجاني: أن سمعه قد عاد، أو ارتاح إلى رائحة طيبة، أو غطى أنفه عند رائحة منتنة، فادعى الجاني: أن شمه قد عاد، وادعى المجني عليه: أنه لم يعد.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأن الأصل عدم عوده، وما ظهر منه.. يحتمل أن يكون اتفاقًا، أو غطى أنفه لغبار أو لريح دخل بها.
[فرع قطع لسان امرئ وادعى بكمه]
] : وإن قطع لسان رجل، فادعى الجاني: أنه كان أبكم قبل الجناية، وادعى المجني عليه: أنه لم يكن أبكم.. نظرت:
فإن ادعى الجاني: أنه خلق أبكم.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأنه لا يتعذر على المجني عليه إقامة البينة على الكلام.
وإن أقر الجاني: أنه كان يتكلم بلسانه، وادعى: أن البكم طرأ عليه قبل الجناية.. ففيه قولان، كما قلنا فيمن أقر بصحة العضو، وادعى طريان الشلل عليه قبل الجناية.
وإن جنى على ظهره، فادعى المجني: أنه ذهب بذلك جماعه، وأنكر الجاني.. فالقول قول المجني عليه مع يمينه؛ لأنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا من جهته.
[مسألة ادعت إسقاط جنين ميت من ضربه]
إذا أسقطت امرأة جنينًا ميتًا، فادعت على إنسان: أنه ضربها وأسقطت من ضربته، فإن أنكر الضرب، ولا بينة.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم(11/617)
الضرب، وإن أقر بالضرب، وأنكر: أنها أسقطت جنينًا.. فعليها أن تقيم البينة بأنها أسقطت جنينًا؛ لأنه يمكنها إقامة البينة على ذلك، فإن لم يكن معها بينة.. فالقول قول الضارب مع يمينه؛ لأنه لا يعلم أنها أسقطت جنينًا؛ لأن الأصل عدم الإسقاط.
وإن أقامت البينة: أنها أسقطت جنينًا، أو أقر الضارب: أنها أسقطت جنينًا، إلا أنه أنكر: أنها أسقطته من ضربه.. نظرت:
فإن أسقطت عقيب الضرب، أو بعد الضرب بزمان، إلا أنها بقيت متألمة من حين الضرب إلى أن أسقطت.. فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر أنها أسقطته من ضربه.
وإن أسقطته بعد الضرب بزمان وكانت غير متألمة بعد الضرب.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان.
وإن اختلفا: فادعت: أنها بقيت متألمة بعد الضرب إلى أن أسقطت، وأنكر ذلك، ولا بينة لها على التألم.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم التألم.
[فرع أسقطت من ضربه جنينًا ثم مات]
] : فإن أسقطت من ضربه جنينًا حيًا، ثم مات، فقال ورثة الجنين: مات من الضرب، وقال الجاني: مات بسبب آخر، فإن مات عقيب الإسقاط، أو بعد الإسقاط بزمان إلا أنه بقي متألمًا إلى أن مات.. فالقول قول ورثة الجنين مع أيمانهم؛ لأن الظاهر أنه مات من الضرب، وإن مات بعد الإسقاط بزمان وكان غير متألم بعد الإسقاط.. فالقول قول الضارب مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الضمان.
وإن اختلفوا في تألمه.. فالقول قول الضارب مع يمينه؛ لأن الأصل عدم تألمه.
وإن ادعى ورثة الجنين: أنه سقط حيًا ومات من الضرب، وقال الجاني: بل سقط ميتًا.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحياة فيه، فإن أقام ورثته بينة: أنه سقط حيًا، وأقام الجاني أو عاقلته بينة: أنه سقط ميتًا.. قدمت بينة ورثة الجنين؛ لأن معها زيادة علم.(11/618)
وإن أسقطت من ضربه جنينًا حيًا، ومات من الضرب، فقال ورثة الجنين: إنه كان ذكرًا، فعليك دية ذكر، وقال الجاني: بل كان أنثى.. فالقول قول الجاني مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على دية أنثى.
وإن أسقطت من ضربه جنينين ذكرًا وأنثى، فاستهل أحدهما ومات من الضرب، وأحدهما سقط ميتًا، فإن عرف المستهل منهما.. وجبت فيه الدية الكاملة، وفي الآخر الغرة، وإن لم يعرف المستهل منهما.. لم يلزم العاقلة إلا دية أنثى وغرة عبد أو أمة؛ لأنه اليقين، وما زاد مشكوك فيه.
[مسألة ادعى قتلًا يثبت الدية فكذبته العاقلة]
] : وإن ادعى على رجل قتلًا تثبت فيه الدية على عاقلته، فإن أقر بذلك، وكذبته العاقلة.. كانت الدية في ماله؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحمل العاقلة عمدًا، ولا عبدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا» ، ولأنا لو قبلنا إقراره على العاقلة.. لم يؤمن أن يواطئ من يقر له بقتل الخطأ؛ ليدخل الضرر على عاقلته، فلم يقبل إقراره. فإن ضرب بطن امرأة، فأسقطت من ضربه جنينًا، فادعى ورثة الجنين: أنه سقط حيًا ومات من ضربته، وصدقهم الجاني، وقالت العاقلة: بل سقط ميتًا.. فالقول قولهم مع أيمانهم، فإذا حلفوا.. لم يلزمهم أكثر من قدر الغرة، ويجب تمام الدية في مال الجاني؛ لأنه وجبت باعترافه.
وهكذا: لو أسقطت جنينًا حيًا، ومات من الضرب، فقال ورثة الجنين: كان ذكرًا، وصدقهم الجاني، وقالت العاقلة: بل كان أنثى.. فالقول قول العاقلة مع أيمانهم، فإذا حلفوا.. لم يلزمهم إلا دية امرأة، ووجب في مال الجاني تمام دية الرجل؛ لأنه وجب باعترافه.
[فرع في قتل العمد يجب الحوامل من الإبل]
] : إذا وجب على قاتل العمد الخلفات، فأحضر إبلا ليدفعها، وقال: هن(11/619)
خلفات، وقال الولي: ليست بخلفات.. عرضت على أهل الخبرة بالإبل، فإن قالوا: هن حوامل.. كلف الولي أخذها، وإن قالوا: ليست بحوامل.. كلف الجاني إحضار الحوامل ودفعهن.
فإن أخذ الولي الإبل - بقول أهل الخبرة: إنهن حوامل - أو اتفق هو والقاتل: أنهن حوامل، فإن صح أنهن حوامل.. فقد استوفى حقه، وإن خرجن غير حوامل.. نظرت:
فإن كانت الإبل حاضرة ولم يغيبها.. كان للولي ردها والمطالبة بحوامل.
وإن كان الولي قد غيبها مدة يمكن أن تضع فيها، فقال القاتل: كن حوامل وقد وضعن في يدك، وقال الولي: لم يكن حوامل، فإن كان الولي قد أخذ الإبل باتفاقهما لا بقول أهل الخبرة.. فالقول قول الولي مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحمل، وإن كان قد أخذها بقول أهل الخبرة.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الولي مع يمينه؛ لأن أهل الخبرة إنما يخبرون من طريق الظن والاستدلال، ويجوز أن لا يكون صحيحًا، فكان القول قول الولي مع يمينه، كما لو أخذها الولي باتفاقهما.
والثاني: أن القول قول الجاني مع يمينه؛ لأنا قد حكمنا بكونها حوامل بقول أهل الخبرة، فإذا ادعى الولي: أنها ليست بحوامل.. كان قوله مخالفًا للظاهر، فلم يقبل قوله.
وبالله التوفيق(11/620)
[باب كفارة القتل]
الأصل في وجوب الكفارة في القتل: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الآية [النساء: 92] . فذكر الله تعالى في الآية ثلاث كفارات.
إحداهن: إذا قتل مسلم مسلمًا في دار الإسلام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] .
الثانية: إذا قتل مؤمنًا في دار الحرب، بأن كان أسيرًا في صفهم أو مقيمًا باختياره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ومعناه: في قوم عدو لكم.
والثالثة: إذا قتل ذميًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] .
إذا ثبت هذا: فظاهر الآية أنه ليس له أن يقتله عمدًا، وله قتله خطأ؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات. قال الشيخ أبو حامد: ولا خلاف بين أهل العلم أن قتل الخطأ محرم كقتل العمد، إلا أن قتل العمد يتعلق به الإثم، وقتل الخطأ لا إثم فيه.
واختلف أصحابنا في تأويل قوله: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] :
فمنهم من قال: هو استثناء مقطوع من غير الجنس، فيكون تقديره: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ، معناه: لكن إن قتله خطأ.. فتحرير رقبة؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29] [النساء: 29] . وتقديره: لكن كلوا بالتجارة؛ لأنه لو كان استثناء من الجنس.. لكان تقديره: إلا أن تكون تجارة بينكم عن تراض منكم.. فكلوها بالباطل، وهذا(11/621)
لا يجوز. ومنهم من قال: هو استثناء من مضمر محذوف، فيكون تقديره: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا، فإن قتله.. أثم، إلا أن يكون خطأ، فاستثنى الخطأ من الإثم المحذوف المضمر في الآية. ومنهم من قال: تأويل قَوْله تَعَالَى: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] بمعنى: ولا خطأ؛ كقوله تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] [البقرة: 150] . يعني: ولا الذين ظلموا منهم.
قال ابن الصباغ: وهذا التأويل بعيد؛ لأن الخطأ لا يتوجه إليه النهي. قال: وقول الشيخ أبي حامد: إن قتل الخطأ محرم لا إثم فيه.. مناقضة؛ لأن حد المحرم ما يأثم فيه، والخطأ لا يوصف بالتحريم ولا بالإباحة، كفعل المجنون والبهيمة.
[مسألة القتل بأنواعه تجب فيه كفارة]
] : وإن قتل من يحرم قتله لحق الله تعالى عمدًا، أو خطأ، أو عمد خطأ.. وجبت عليه بقتله الكفارة، وبه قال الزهري.
وقال ربيعة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: (تجب الكفارة بقتل الخطأ، ولا تجب بقتل العمد المحض، ولا بعمد الخطأ) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . فنص على وجوب الكفارة في قتل الخطأ؛ لينبه بذلك على وجوبها في العمد المحض وعمد الخطأ؛ لأن الخطأ أخف حالًا من قتل العمد؛ لأنه لا قود فيه ولا إثم، والدية فيه مخففة، فإذا وجبت فيه الكفارة.. فلأن تجب في قتل العمد المحض وعمد الخطأ أولى.
«وروى واثلة بن الأسقع، قال: أتينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتقوا عنه رقبة.. يعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار» . ولا يستوجب النار إلا في قتل العمد.(11/622)
وروي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتق بكل موءودة رقبة» و (الموءودة) : البنت المقتولة عندما تولد، كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك مخافة العار والفقر.
ولأنه حيوان يضمن بالكفارة إذا قتل خطأ، فوجب أن يضمن بالكفارة إذا قتل عمدًا، كالصيد. وعكسه المرتد، فإن قتل نساء أهل الحرب وذراريهم.. لم تجب عليه الكفارة؛ لأن قتلهم إنما حرم لحق المسلمين لا لحق الله، فلم تجب به الكفارة، كما لو ذبح بهيمة غيره بغير إذنه.(11/623)
[فرع تجب الكفارة في قتل العبد والذمي والمعاهد]
] : وإن قتل عبدًا لنفسه أو لغيره، أو قتل ذميًا أو معاهدًا.. وجبت عليه الكفارة.
وقال مالك رحمة الله عليه: (لا تجب في ذلك كله الكفارة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وهذا عام في الحر والعبد. وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وهذا يقع على الذمي والمعاهد.
ولأنه آدمي يجري القصاص بينه وبين نظيره، فوجبت بقتله الكفارة، كالحر المسلم. وإن قتل نفسه.. وجبت الكفارة عليه في ماله.
وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: لا تجب الكفارة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وهذا عام. ولأنه يحرم عليه قتل نفسه، بل لا يجوز له قتل نفسه بحال، فإذا وجبت عليه الكفارة بقتل غيره.. فلأن تجب بقتل نفسه أولى.
[فرع ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا فعليه كفارة]
] : وإن ضرب بطن امرأة، فألقت من ضربه جنينًا ميتًا.. وجبت عليه الكفارة، وبه قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، والزهري، والنخعي، والحسن، والحكم - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.(11/624)
وقال أبو حنيفة: (لا تجب فيه الكفارة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . وقد حكمنا للجنين بالإيمان تبعًا لأبويه، فيكون داخلًا في عموم الآية.
ولأنه آدمي محقون الدم بحرمته، فوجبت فيه الكفارة كغيره.
فقولنا: (آدمي) احتراز من غير الآدمي من الحيوان.
وقولنا: (محقون الدم) احتراز من المرتد، والحربي، ومن جاز له قتله.
وقولنا: (لحرمته) احتراز من نساء أهل الحرب وذراريهم، فإنه ممنوع من قتلهم لا لحرمتهم، ولكن لحق الغانمين.
[فرع الكفارة فيمن حرم قتله لِحَقِّه تبارك وتعالى]
] : وإن قتل من يحرم قتله لحقِّ الله تعالى بسبب يجب به ضمانه، بأن حفر بئرًا في غير ملكه متعديًا، فسقط فيها إنسان ومات.. وجبت عليه الكفارة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب الكفارة إلا بالمباشرة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ولم يفرق بين أن يقتله بالمباشرة أو بالسبب.
ولأنه قتل آدميًا ممنوعًا من قتله لحرمته، فوجبت عليه الكفارة، كما لو قتله بالمباشرة.
[فرع وجوب الكفارة على القاتل ولو صبيًا أو كافرًا]
] : وإن كان القاتل صبيًا أو مجنونًا أو كافرًا.. وجبت عليه الكفارة.
وقال أبو حنيفة: (لا تجب على واحد منهم الكفارة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] [النساء: 92] . ولم يفرق بين أن يكون القاتل صبيًا أو مجنونًا أو كافرًا.(11/625)
فإن قيل: الصبي والمجنون لا يدخلان في الخطاب؟
قلنا: إنما لا يدخلان في خطاب المواجهة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] [الأحزاب: 70] ، ويدخلان في خطاب الإلزام، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي كل أربعين شاةً شاةٌ» . وروي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قال: يا رسول الله، إني وأدت في الجاهلية؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعتق بكل موؤدة رقبة» . وهذا نص في إيجاب الكفارة على الكافر. ولأنه حق مال يتعلق بالقتل، فتعلق بقتل الصبي والمجنون، كالدية. ولأن الكفارة تجب على المسلم للتكفير، وعلى الكافر عقوبة، كما أن الحدود تجب على المسلم كفارات، وعلى الكافر عقوبة.
[فرع يكفر جماعة قتلوا إنسانًا]
إذا اشترك جماعة في قتل واحد.. وجب على كل واحد منهم كفارة.
قال عثمان البتي: تجب عليهم كفارة واحدة.
وحكى أبو علي الطبري: أن هذا قول آخر للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنها كفارة تتعلق بالقتل، فإذا اشترك الجماعة في سببها.. وجبت عليهم كفارة واحدة، كما لو اشتركوا في قتل صيد. والأول هو المشهور؛ لأنها كفارة وجبت لا على سبيل البدل عن النفس، فوجب أن تكون على كل واحد من الجماعة إذا اشتركوا في سببها ما كان يجب على الواحد إذا انفرد، ككفارة الطيب للمحرم. وقولنا: (لا على سبيل البدل) احتراز من جزاء الصيد.
[مسألة كفارة القتل]
] : و (كفارة القتل) : عتق رقبة مؤمنة لمن وجدها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92](11/626)
[النساء: 92] . ولا خلاف في ذلك.
فإن لم يجد الرقبة.. وجب عليه صوم شهرين متتابعين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] [النساء: 92] .
فإن لم يقدر على الصوم.. ففيه قولان:
أحدهما: يجب عليه أن يطعم ستين مسكينًا؛ لأن الله تعالى ذكر الإطعام في كفارة الظهار، ولم يذكره في كفارة القتل، فوجب أن يحمل المطلق في القتل على المقيد في الظهار، كما قيد الله الرقبة في القتل بالإيمان، وأطلقها في كفارة الظهار، فحمل مطلق الظهار على مقيد القتل.
والثاني: لا يجب عليه الإطعام، وهو الأصح؛ لأن الله تعالى أوجب الرقبة في كفارة القتل، ونقل عنها إلى صوم الشهرين، ولم ينقل إلى الإطعام، فدل على: أن هذا جميع الواجب فيها.
وما ذكره الأول.. فغير صحيح. ولأن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان(11/627)
الحكم مذكورًا في موضعين، إلا أنه قيده في موضع بصفة، وأطلقه في الموضع الآخر، كما ذكر الله تعالى الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان، وذكرها في الظهار مطلقة، فحمل مطلق الظهار على مقيد القتل، وكما ذكر الله تعالى اليدين في الطهارة وقيدهما إلى المرفقين، وذكرهما في التيمم مطلقًا، فحمل مطلق التيمم فيهما على ما قيده فيهما في الطهارة. وهاهنا الإطعام لم يذكره في الموضعين، وإنما ذكره في الظهار، فلم يجز نقل حكمه إلى كفارة القتل، كما لم يجز نقل حكم مسح الرأس وغسل الرجلين إلى التيمم، وحكم الرقبة والصوم والإطعام إذا أوجبناه، على ما قد تقدم في كفارة الظهار.
والله أعلم بالصواب(11/628)
[كتاب قتال أهل البغي]
يجب نصب الإمام. وقال بعض المتكلمين: لو تكافَّ الناس عن الظلم.. لم يجب نصب الإمام. وهذا خطأ؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم اجتمعوا على(12/7)
نصب الإمام. ولأن الظلم من طبع الخلق، وإنما تظهره القدرة ويخفيه العجز.
ولأنهم وإن تكافُّوا عن الظلم فإنه يفتقر إليه لتجهيز الجيوش في جهاد الكفار، وأخذ الجزية والصدقة ووضعها في مواضعها.
إذا ثبت هذا: فمن شرط الإمام: أن يكون ذكرا، بالغا، عاقلا، مسلما، عدلا، عالما من الفقه ما يخرجه عن أن يكون مقلدا؛ لأن هذه الشروط تعتبر في حق القاضي.. فلأن تعتبر في حق الإمام أولى.
ومن شروط الإمام: أن يكون شجاعا له تدبير وهداية إلى مصالح المسلمين؛ لأنه لا يكمل لتحمل أعباء الأمة إلا بذلك.(12/8)
ومن شرطه: أن يكون قرشيا، من أي بيوت قريش كان.
وقال أبُو المعالي الجويني: من أصحابنا من يجوز أن يكون من غير قريش. وهذا خطأ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأئمة من قريش» . ولأن الأمة أجمعت على ذلك.
قال القاضي أبُو الفتوح: ومن شرطه: أن لا يكون أعمى، ويجوز أن يكون النَّبي أعمى؛ لأن شعيبا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أعمى.(12/9)
فإذا اجتمعت في الرجل شروط الإمامة.. فإن الإمامة لا تنعقد إلا بأن يستخلفه الإمام الذي كان قبله، أو بأن لم يكن هناك إمام فيقهر الناس بالغلبة، أو بأن يعقد له الإمامة أهل الحل والعقد، ولا يلتفت إلى إجماع العامة على عقده؛ لأنهم أتباع لأهل الاجتهاد.
قال الشيخُ أبُو إسحاق في " التنبيه ": ولا ينعقد إلا بعقد جماعة من أهل الحل والعقد. ومقتضى كلامه: أن أقلهم ثلاثة؛ لأن ذلك أقل الجمع عندنا.
وقال القاضي أبُو الفتوح: ينعقد بعقد واحد من أهل الحل والعقد.
ومن شرط العاقد: أن يكون ذكرا، بالغا، عاقلا، مسلما، عدلا، مجتهدا.
وهل من شرط العقد أن يكون بحضرة شاهدين؟ فيه وجهان.
ومن شرط العاقد والشاهد إذا اعتبرناه: أن يكون عدلا ظاهرا وباطنا؛ لأنه لا يشق مراعاة ذلك فيهما.
ولا يجوز نصب إمامين.
وقال الجويني: يجوز عقد الإمامة لإمامين في صقعين متباعدين. وهذا خطأ؛ لإجماع الأمة: أن ذلك لا يجوز.
فإن عقدت الإمامة لرجلين: فإن علم السابق منهما.. صح العقد الأول، وبطل العقد الثاني، ثم ينظر في الثاني: فإن عقد له مع الجهل بالأول، أو مع العلم به لكن بتأويل سائغ.. لم يعزر المعقود له ولا العاقد، وإن عقد للثاني مع العلم بالأول من غير تأويل(12/10)
سائغ.. عزر العاقد والمعقود له؛ لما رُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا بويع لخليفتين.. فاقتلوا الآخر منهما» .
وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره.. فاقتلوه) . قال الخطابي: ولم يرد القتل، وإنما أراد: اجعلوه كمن مات أو قتل، فلا تقبلوا له قولا.
وقيل: أراد: اخلعوا الثاني وأَلغوا بيعته؛ حتى يكون في عداد من قتل.
وإن وقع العقدان معا.. بطلا، ويستأنف العقد لأحدهما.
والمستحب: أن يعقد لأفضلهما وأصلحهما، فإن عقدت الإمامة للمفضول.. صح، كما يصح في إمامة الصلاة أن يؤم من يصلح للإمامة وإن كان هناك من هو أولى منه بها.(12/11)
وإن تيقن سبق أحدهما ولم يعرف.. بطلا، واستؤنف العقد؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن عرف السابق منهما ولكن نسي، فإن رجي معرفة السابق في مدة يوم أو يومين أو ثلاثة.. انتظر؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أوصى بالخلافة إلى أهل الشورى، وانتظروا في العقد أياما، ولم يُنكر عليهم. وإن لم يُرج انكشاف ذلك إلا بأكثر من ذلك.. استؤنف العقد؛ لأن في ترك العقد إضرارا.
وإذا انعقدت الإمامة لرجل.. كان العقد لازما، فإن أراد أن يخلع نفسه.. لم يكن له.
فإن قيل: فكيف خلع الحَسَن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما نفسه؟(12/12)
قلنا: لعله علم من نفسه ضعفا عن تحملها، أو علم أنه لا ناصر له ولا معين.. فخلع نفسه تقية.
وإن أراد أهل الحل والعقد خلع الإمام.. لم يكن لهم ذلك إلا أن يتغير.
وإن فسق الإمام.. فهل ينخلع؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها الجويني:
أحدها: ينخلع بنفس الفسق، وهو الأصح، كما لو مات.
والثاني: لا ينخلع حتى يحكم بخلعه، كما إذا فك عنه الحجر، ثم صار مبذرا.. فإنه لا يصير محجورا عليه إلا بالحكم.
والثالث: إن أمكن استتابته وتقويم أوده.. لم يخلع، وإن لم يمكن ذلك.. خلع.(12/13)
فإن كان هناك إمام، فقهره رجل - يصلح للإمامة - بالسيف وغلبه.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن كانت إمامة الأول ثبتت باستخلاف إمام قبله، أو بعقد أهل الحل والعقد.. لم ينعزل الأول، وإن ثبتت إمامة الأول بغلبة السيف.. انعزل الأول؛ وثبتت إمامة الثاني؛ لأن إمامة الأول ثبتت بالغلبة، وقد زالت غلبته.
وإذا تقرر هذا: فلا يجوز خلع الإمام بغير معنى موجب لخلعه، ولا الخروج عن طاعته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] [النساء: 59] .
ورُوِي عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله» .
ورَوَى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نزع يده من طاعة إمامه.. فإنه يأتي يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية»
ورَوَى ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من فارق الجماعة شبرا فكأنما خلع من عنقه ربقة الإسلام» .(12/14)
ورَوَى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا» .
[مسألة: بغي طائفة على الإمام]
] : إذا بغت على الإمام طائفة من المسلمين، وأرادت خلعه، أو منعت حقا عليها.. تعلقت بهم أحكام يختصون بها دون قطاع الطريق والخوارج.
ولا تثبت هذه الأحكام في حقهم إلا بشروط توجد فيهم:(12/15)
أحدها: أن يكونوا طائفة فيهم منعة يحتاج الإمام في كفهم إلى عسكر، فإن لم يكن فيهم منعة، وإنما هم عدد قليل.. لم يتعلق بهم أحكام البُغاة، فإنما هم قطاع الطريق، لما رُوِي: أن عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله قتل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان متأولا في قتله، فأقيد به، ولم ينتفع بتأويله؛ لأنه لم يكن في طائفة ممتنعة، وإنما كانوا ثلاثة رجال تبايعوا على أن يقتلوا عليا ومعاوية وعمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في يوم واحد، فأما صاحب عمرو بن العاص: فذهب إلى مصر، فلم يخرج عمرو ذلك اليوم، وأمَّا صاحب معاوية: فذهب إليه إلى الشام، فلم يتمكن من قتله، وإنما جرحه في أليته، فأراه الطبيب، فقال له: إن كويته.. برئ، ولكن ينقطع النسل، فقال: (في يزيد كفاية) ، وكواه وبرئ، وأمَّا عبد الرحمن بن ملجم: فجرح عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فمات - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
الشرط الثاني: أن يخرجوا من قبضة الإمام، فإن لم يخرجوا من قبضته.. لم يكونوا بُغاة، لما رُوِي: أن رجلا قال على باب المسجد - وعلي يخطب على المنبر -: لا حكم إلا لله ورسوله، تعريضا له في التحكيم في صفين، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: (كلمة حق أريد بها باطل) ثم قال: (لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال) . فأخبر: أنهم ما لم يخرجوا من قبضته.. لا يبدؤهم بقتال.(12/16)
ولأن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة، فلأن لا يتعرض لأهل البغي وهم مسلمون أولى.
الشرط الثالث: أن يكون لهم تأويل سائغ، مثل: أن تقع لهم شبهة يعتقدون عنها الخروج على الإمام، أو منع حق عليهم، وإن أخطئوا في ذلك، كما تأوَّل بَنُو حَنِيفَة منع الزكاة بقوله تَعالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] [التوبة: 103] . قالوا: فأمر الله بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا،(12/17)
وهو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأما ابن أبي قحافة: فليست صلاته سكنا لنا، ولهذا: لما انهزموا.. قالوا: والله ما كفرنا بعد إيماننا، وإنما شححنا على أموالنا.
فأما إذا لم يكن لهم تأويل سائغ، فحكمهم حكم قطاع الطريق.
وهل من شرطهم أن ينصبوا إماما؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك من شرطهم؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وإن ينصبوا إماما) .
فعلى هذا: إذا لم ينصبوا إماما.. كانوا لصوصا وقطاعا للطريق.
والثاني - وهو المذهب -: أن ليس من شرطهم أن ينصبوا إماما؛ لأن أحكام أهل البصرة وأهل النهروان مع عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - أحكام البُغاة، ولم ينصبوا إماما، وأمَّا ما ذكره الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنما ذكره؛ لأن الغالب من أمرهم أنهم ينصبون إماما.
قال القفال: وسواء كان الإمام عادلا أو جائرا.. فإن الخارج عليه باغ، إذ الإمام لا ينعزل بالجور، وسواء كان الخارج عليه عادلا أو جائرا.. فإن خروجه على الإمام جور.
وإذا اجتمعت هذه الشروط في الخارجين على الإمام.. قاتلهم الإمام، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . وفى الآية خمسة أدلة:
أحدها: أن البغي لا يخرج عن الإيمان؛ لأن الله سماهم مؤمنين في حال بغيهم.
والثاني: وجوب قتالهم، حيث قال تَعالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] .
والثالث: أنهم إذا رجعوا إلى الطاعة.. لم يقاتلوا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] .(12/18)
الرابع: أنه لا يجب عليهم ضمان ما أتلفوا في القتال.
الخامس: وجوب قتال كل من عليه حق فمنعه.
ويدل على جواز قتال البُغاة: ما رُوِي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه قاتل مانعي الزكاة وكانوا بُغاة؛ لأنهم كانوا مُتأوِّلين) . و: (قاتل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه أهل الجمل وأهل صفين والخوارج بالنهروان) .
ولا يبدؤهم الإمام بالقتال حتى يراسلهم ويسألهم: ما ينقمون؟ فإن ذكروا مظلمة ردها، وإن ذكروا شبهة.. كشفها، وبين لهم وجه الصواب.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يبدؤهم بالقتال) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] .
فبدأ بالصلح قبل القتال وفي هذا إصلاح.
ورُوِي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما كاتب معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحكَّم.. خرج من معسكره ثمانية آلاف، ونزلوا بحروراء، وأرادوا قتاله، فأرسل إليهم ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال لهم: ما تنقمون منه؟ قالوا: ثلاث، فقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إن رفعتها رجعتم؟ قالوا: نعم، قال: وما هي؟ قالوا: حكَّم في دين الله، ولا حكم إلا لله، وقتل ولم يسب، فإن حل لنا قتلهم.. حل لنا(12/19)
سبيهم. ومحا اسمه من الخلافة، فقد عزل نفسه من الخلافة، يعنون اليوم الذي كتب فيه الكتاب بينه وبين أهل الشام، فكتب فيه: أمير المؤمنين، فقالوا: لو أقررنا بأنك أمير المؤمنين.. ما قاتلناك، فمحاه من الكتاب.
فقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أما قولكم: إنه حكَّم في دين الله.. فقد حكَّم اللهُ في الدين، فقال الله تَعالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] [النساء: 35] . فحكَّم الله بين الزوجين. وقال الله تَعالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] [المائدة 95] . فحكَّم الله في أرنب قيمتها درهم، فلأن يجوز أن يحكِّم في هذا الأمر العظيم بين المسلمين أولى.
وأمَّا قولكم: إنه قتل ولم يسب.. فأيكم كان يأخذ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في سهمه وقد قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] [الأحزاب: 6] ، وإذا ثبت أن سبي عائشة لا يجوز.. كان غيرها من النساء مثلها.
وأمَّا قولكم: إنه محا اسمه من الخلافة، فقد عزل نفسه.. فغلطٌ؛ لـ: (أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محا اسمه من النبوة) . وذلك: أنه «لما قاضَى سهيل بن عمرو يوم الحديبية.. كتب الكتاب: " هذا ما قاضَى به محمد رسول الله، سهيل بن عمرو "، فقال: لو اعترفنا بأنك رسول الله.. لما احتجت إلى كتاب، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للكاتب - وكان علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: " امحُ رسول الله "، فلم يفعل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أين رسول الله؟ "، فأراه إياه، فمحاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإصبعه» .
فرجع منهم أربعة آلاف، وقاتل الباقين.(12/20)
[فرع: طلب إنظار البُغاة]
] : وإذا أراد الإمام أن يقاتلهم، فسألوه أن ينظرهم.. نظرت:
فإن سألوه أن ينظرهم أبدا.. لم يجز له ذلك؛ لأنه لا يجوز لبعض المسلمين ترك طاعة الإمام.
وإن سألوه أن ينظرهم مدة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخُ أبُو إسحاق: إن سألوه أن ينظرهم يوما أو يومين أو ثلاثا.. أنظرهم؛ لأن ذلك مدة قريبة، ولعلهم يرجعون إلى الطاعة، وإن طلبوا أكثر من ذلك.. بحث عنه الإمام، فإن كان قصدهم الاجتماع على الطاعة.. أنظرهم.. وإن كان قصدهم الاجتماع على القتال.. لم ينظرهم؛ لما في ذلك من الإضرار.
وقال ابن الصبَّاغ: إذا سألوه أن ينظرهم مدة مديدة.. كشف الإمام عن حالهم، فإن كانوا إنما سألوا ذلك ليجتمعوا أو يأتيهم مدد.. عاجلهم بالقتال ولم ينظرهم، وإن سألوا ليتفكروا ويعودوا إلى الطاعة.. أنظرهم؛ لأنه يجوز أن يلحقهم مدد في اليوم واليومين والثلاث، كما يلحقهم فيما زاد على ذلك.
وكل موضع قلنا: لا يجوز إنظارهم، فبذلوا على الإنظار مالا.. لم يجز إنظارهم؛ لأنه يأخذ المال على إقرارهم فيما لا يجوز إقرارهم عليه، ولأن فيه إجراء صغار على المسلمين، فلم يجز.
وإن بذلوا على الإنظار رهائن منهم أو من أولادهم، لم يجز قبول ذلك منهم؛ لأنهم ربما قويت شوكتهم على أهل العدل، فهزموهم وأخذوا الرهائن.
وإن كان في أيديهم أُسارى من أهل العدل، فسألوا الكف عنهم على أن يطلقوا الأسارى من أهل العدل، وأعطوا بذلك رهائن من أولادهم.. قبل الإمام ذلك منهم،(12/21)
واستظهر لأهل العدل، فإن أطلق أهل البغي الأسارى الذين عندهم.. أطلق الإمام رهائنهم، وإن قتلوا من عندهم من الأسارى.. لم يقتل رهائنهم؛ لأنهم لا يقتلون بقتل غيرهم، فإذا انقضت الحرب.. خلى رهائنهم.
وإن كان في أهل العدل ضعف عن قتالهم.. أخر الإمام قتالهم إلى أن يكون بهم قوة؛ لأنه إذا قاتلهم مع الضعف.. لم يؤمن الهلاك على أهل العدل.
[مسألة: رجوع البُغاة إلى طاعتنا يمنع قتالهم]
] : وإن قال أهل البغي: رجعنا إلى طاعة الإمام ... لم يجز قتالهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] [الحجرات: 9] . و (الفيئة) : الرجوع.
وهكذا: إذا ألقوا سلاحهم.. لم يجز قتالهم؛ لأن الظاهر من حالهم ترك القتال والرجوع إلى الطاعة، فإن انهزموا.. نظرت:
فإن انهزموا لغير فيئة.. لم يجز اتباعهم، ولا يجاز على جريحهم، لما رَوَى ابن عمر، عن ابن مَسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا ابن أم عبد.. ما حكم من يفيء من أمتي؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم. فقال: " لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيؤهم» .
ورَوَى علي بن الحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: دخلت على مروان بن الحكم، فقال: ما رأيت أكرم علينا من أبيك، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل حتى نادى مناديه:(12/22)
(لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح) . (يذفف) : يروى بالدال والذال، ومعناه: لا يجاز عليه.
ورُوِي عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (شهدت صفين، فكانوا لا يجهزون على جريح، ولا يطلبون موليا، ولا يسلبون قتيلا) .
ولأن قتالهم للدفع والكف عن القتال، وقد حصل ذلك.
وإن انهزموا إلى فيئة ومدد ليستغيثوا بهم.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي حَنِيفَة، واختيار أبي إسحاق المَروَزِي -: (أنهم يتبعون ويقتلون) ؛ لأنهم إذا لم يتبعوا.. لم يؤمن أن يعودوا على أهل العدل، فيقاتلوهم ويظفروا بهم.
والثاني - وهو ظاهر النص -: أنه لا يجوز أن يتبعوا ويقاتلوا؛ لعموم الخبر، ولأن دفعهم وكفهم قد حصل، وما يخاف من رجوعهم لا يوجب قتالهم، كما لو تفرقوا.
وإن حضر معهم من لا يقاتل - ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز قتله؛ لأن قتالهم للكف، وقد كف نفسه.
والثاني: يجوز قصد قتله؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - نهاهم عن قصد قتل(12/23)
محمد بن طلحة السجاد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، فقتله رجل، ولم ينكر عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قتله، ولأنه صار ردءا لهم.
[فرع: يقتل مع البُغاة نساؤهم وصبيانهم المقاتلين]
] : وإن قاتل مع أهل البغي نساؤهم وعبيدهم وصبيانهم.. جاز قتلهم مقبلين؛ لأن هذا القتال لدفعهم عن النفس، كما يجوز له قتل من قصد نفسه في غير البغي.
وإن كان لرجل من أهل العدل قريب في أهل البغي يقاتل.. فيستحب له أن ينحرف عن قتله ما دام يمكنه ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] . فأمره بمصاحبتهما بالمعروف في أسوأ أقوالهما، وهو: إذا دعواه إلى الشرك، وليس من المصاحبة بالمعروف أن يقتله.(12/24)
وقال الله تَعالَى: لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] [طه: 44] . يعني به: فرعون، وقيل: إنما أمرهما الله بذلك؛ لأن فرعون كان قد تبنى موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فإن كان ذلك في حق من تبناه ... فلأن يكون في حق أبيه أولى.
ورُوِي: «أن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - أراد أن يقتل أباه يوم أحد، فكفه النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: " دعه يتولى ذلك غيرك» . و: «أراد أبُو حذيفة بن عتبة أن يقتل أباه، فكفه النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك» .
فإن لم يمكنه قتال أهل البغي إلا بقتل أبيه، فقتله.. فلا شيء عليه؛ لما رُوِي: (أن أبا عبيدة قتل أباه، وقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سمعته يسبك) .
وإذا ثبت هذا في حق المشرك.. كان في حق أهل البغي مثله.(12/25)
[مسألة: يحبس شباب أهل البغي ما دامت الحرب قائمة]
وإن أسر أهل العدل من أهل البغي حرا بالغا، فإن كان شابا جلدا.. فإن للإمام أن يحبسه ما دامت الحرب قائمة إن لم يرجع إلى الطاعة، فإن بذل الرجوع إلى الطاعة.. أخذت منه البيعة وخلي، وإن انقضت الحرب أو انهزموا إلى غير فيئة.. فإنه يخلى، وإن انهزموا إلى فيئة.. خلي، على المذهب، ولم يخلَّ على قول أبي إسحاق، ولا يجوز قتله.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز قتله) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يقتل أسيرهم» .
فإن قتله رجل من أهل العدل عامدا.. فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القصاص؛ لأنه صار بالأسر محقون الدم، فصار كما لو رجع إلى الطاعة، وللولي أن يعفو عن القود إلى الدية.
والثاني: لا يجب عليه القصاص؛ لأن قول أبي حَنِيفَة شبهة تسقط عنه القصاص. فعلى هذا: تجب فيه الدية.
وإن كان الأسير شيخا لا قتال فيه أو مجنونا أو امرأة أو صبيا أو عبدا.. لم يحبسوا؛ لأنهم ليسوا من أهل البيعة على القتال.
ومن أصحابنا من قال: يحبسون؛ لأن في ذلك كسرا لقلوبهم، وإقلالا لجمعهم، والمنصوص هو الأول.
[مسألة: لا يرمى أهل البغي بالنار]
] : ولا يجوز رمي أهل البغي بالنار ولا بالمنجنيق من غير ضرورة؛ لأن القصد بقتالهم كفهم وردهم إلى الطاعة، وهذا يهلكهم، ولأن هذا يقتل من يقاتل ومن لا يقاتل، وإنما يجوز قتل من يقاتل من البُغاة.
فإن أحاط أهل البغي بأهل العدل من كل جهة، ولم يمكنهم التخلص منهم إلا(12/26)
بالرمي بالنار أو بالمنجنيق، جاز لهم ذلك؛ لأن هذا موضع ضرورة.
وقال ابن الصبَّاغ: وكذلك إن رماهم أهل البغي بالنار أو بالمنجنيق، جاز لأهل العدل رميهم بمثل ذلك.
[فرع: لا يستعان بمن يرى قتل أهل البغي مدبرين]
] : ولا يجوز للإمام أن يستعين على قتال أهل البغي بمن يرى جواز قتلهم مدبرين من المسلمين؛ لأنه يعرف أنهم يظلمون، فإن كان لا يقدر على قتال أهل البغي إلا بالاستعانة بهم.. جاز إذا كان مع الإمام من يمنعهم من قتلهم مدبرين.
ولا يجوز للإمام أن يستعين على قتالهم بالكفار؛ لأنهم يرون قتل المسلمين مدبرين تشفيا لما في قلوبهم.
[مسألة: افتراق أهل البغي واقتتالهم]
] : وإن افترق أهل البغي فرقتين واقتتلوا، فإن قدر الإمام على قهرهما.. لم يعاون إحداهما على الآخر؛ لأنهما على الخطأ، والمعونة على الخطأ خطأ، وإن كان لا يقدر على قهرهما.. ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق، وقاتل معها الطائفة الأخرى، ولا يقصد بقتاله معاونة الطائفة التي ضمها إلى نفسه، وإنما يقصد رد الذين يقاتلون إلى طاعته.
فإذا انهزمت الطائفة الذين قاتلهم أو رجعت إلى طاعته.. لم يقاتل الطائفة التي ضم إلى نفسه حتى يدعوهم إلى طاعته؛ لأن بضمهم إليه صار ذلك أمانا لهم منه، فإذا امتنعت من الدخول في طاعته.. قاتلهم.
فإن استوت الطائفتان.. اجتهد في أقربها إلى الحق، وضم نفسه إليها.(12/27)
[فرع: لا تستحل أموال أهل البغي]
] : ولا يجوز لأهل العدل أخذ أموال أهل البغي، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولا يقسم فيؤهم» .
ورُوِي: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - استؤذن يوم الجمل في النهب، فقال: (إنهم يحرمون بحرمة الإسلام، ولا يحل مالهم) .
فإن انقضت الحرب، ورجعوا إلى الطاعة، وكان في يد أهل العدل مال لأهل البغي، أو في يد أهل البغي مال لأهل العدل.. وجب رد كل مال إلى مالكه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .
ورَوَى ابن قيس: (أن منادي عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - نادى: ألا من عرف من ماله شيئا.. فليأخذه. فمر بنا رجل، فعرف قدرا له يطبخ به، فأراد أخذها، فسألناه أن يصبر حتى نفرغ منها، فلم يفعل، فرمى برجلها وأخذها) .(12/28)
ولا يجوز الانتفاع بسلاحهم وكراعهم بغير إذنهم من غير ضرورة.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز ذلك ما دامت الحرب قائمة) .
دليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» .
ولأنه مسلم، فلم يجز الانتفاع بماله من غير إذن، كغير الكراع والسلاح، وكأهل العدل.
فإن دعته على ذلك ضرورة، بأن ذهب سلاحه، أو خاف على نفسه.. جاز أن يدفع عن نفسه بسلاحهم. وكذلك: إن خاف على نفسه، وأمكنه أن ينجو على دابة لهم.. جاز له ذلك؛ لأنه لو اضطر إلى ذلك من مال أهل العدل.. لجاز له الانتفاع به، فكذلك إذا اضطر إلى ذلك من أموال أهل البغي.
[مسألة: ضمان الفريقين المال والنفس]
وإن أتلف أحد الفريقين على الآخر نفسا أو مالا قبل قيام الحرب أو بعدها.. وجب عليه الضمان؛ لأنه أتلف عليه مالا محرما بغير القتال، فلزمه ضمانه، كما لو أتلفوه قبل البغي.
وإن أتلفوه في حال القتال.. نظرت:
فإن أتلف ذلك أهل العدل.. لم يلزمهم ضمانه بلا خلاف؛ لأنهم مأمورون بقتالهم، والقتال يقتضي إتلاف ذلك.
وإن أتلف ذلك أهل البغي على أهل العدل ... ففيه قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (يجب عليهم ضمان ذلك) . وبه قال مالك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] . والباغي ظالم، فوجب(12/29)
أن يكون عليه السلطان، وهو القصاص، ولأن الضمان يجب علي آحاد أهل البغي، فوجب أن يكون على جماعتهم، وعكسه أهل الحرب.
و [الثاني] : قال في الجديد: (لا يجب عليهم الضمان) ، وبه قال أبُو حَنِيفَة، وهو الأصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] الآية [الحجرات: 9] .
فأمر بقتالهم، ولم يوجب ضمان ما أتلفوه عليهم.
وروي: أن هشام بن عبد الملك أرسل إلى الزهري يسأله عن امرأة من أهل العدل ذهبت إلى أهل البغي، وكفرت زوجها، وتزوجت من أهل البغي، ثم تابت ورجعت، هل يقام عليها الحد؟
فقال الزهري: كانت الفتنة العظمى بين أصحاب النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيهم البدريون، فأجمعوا على: أنه لا حد على من ارتكب فرجا محظورا بتأويل القرآن، وأن لا ضمان على من سفك دما محرما بتأويل القرآن، وأن لا غرم على من أتلف مالا بتأويل القرآن.
وروي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قاتل أهل الجمل، وقتل منهم خلقا عظيما، وأتلف مالا عظيما، ثم ملكهم) . ولم ينقل: أنه ضمن أحدا منهم ما أتلف من نفس أو مال، فدلَّ على: أنه إجماع.
ومن أصحابنا من قال: القولان في الأموال والديات، فأما القصاص: فلا يجب، قولا واحدا؛ لأنه يسقط بالشبهة.
[مسألة: عقد أهل البغي مع أهل الحرب لا يصح]
] : إذا عقد أهل البغي لأهل الحرب الذمة والأمان بشرط: أن يعاونوهم على قتال أهل العدل.. لم يصح هذا العقد في حق أهل العدل، فيجوز لهم قتلهم مقبلين ومدبرين،(12/30)
ويجاز على جريحهم، ويجوز سبي ذراريهم، ويتخير الإمام فيمن أسر منهم بين القتل والمن والاسترقاق والفداء؛ لأن شرط صحة العقد لهم: أن لا يقاتلوا المسلمين، فإذا وقع العقد على شرط قتال المسلمين.. لم يصح؛ لأن أمانهم لو كان صحيحا، فقاتلوا المسلمين.. انتقض أمانهم، فإذا وقع أمانهم على شرط قتال المسلمين.. لم يصح.
وإن أتلفوا على أهل العدل نفسا أو مالا.. لم يجب عليهم ضمانه، قولا واحدا، كما لو قاتلوا المسلمين منفردين، وهل يكونون في أمان من أهل البغي؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبُو إسحاق، وابن الصبَّاغ غيره -: أنهم في أمان منهم؛ لأنهم قد بذلوا لهم الأمان، فلزمهم الوقاية.
والثاني: أنهم لا يكونون في أمان منهم؛ لأن من لم يصح أمانه في حق بعض المسلمين.. لم يصح في حق بعضهم، كمن أمنه صبي أو مجنون.
وأمَّا إذا استعان أهل البغي بأهل الذمة على قتال أهل العدل، فأعانوهم.. فهل تنتقض ذمتهم في حق أهل العدل؟ ينظر فيهم:
فإن قالوا: لم نعلم أنهم يستعينون بنا على المسلمين، وإنما ظننا أنهم يستعينون بنا على أهل الحرب، أو قالوا: اعتقدنا أن قوما من المسلمين، إذا استعانوا بنا على قتال قوم منهم.. جاز لنا أن نعينهم على ذلك، أو قالوا: علمنا أن يجوز لنا إعانتهم عليكم إلا أنهم أكرهونا على ذلك.. لم تنتقض ذمتهم؛ لأن عقد الذمة قد صح، فلا ينتقض بأمر محتمل.
وإن لم يدعوا شيئا من ذلك.. فهل تنتقض ذمتهم؟ فيه قولان:
أحدهما: تنتقض، كما لو انفردوا بقتال المسلمين.
والثاني: لا تنتقض؛ لأن أهل الذمة لا يعلمون المحق من المبطل، وذلك شبهة لهم.
وقال أبُو إسحاق المَروَزِي: القولان إذا لم يكن الإمام قد شرط عليهم في عقد(12/31)
الذمة الكف عن القتال لفظا، فإن شرط عليهم الكف عن ذلك، انتقضت ذمتهم، قولا واحدا.
والطريق الأول هو المنصوص.
فإذا قلنا: تنتقض ذمتهم.. لم يجب عليهم ضمان ما أتلفوا على أهل العدل من نفس ومال، قولا واحدا، كأهل الحرب.
قال الشيخُان: ويجوز قتلهم على هذا مقبلين ومدبرين، ويتخير الإمام في الأسير منهم، كما قلنا في أهل الحرب.
وقال ابن الصبَّاغ: هل يجوز قتلهم على هذا مقبلين ومدبرين؟ فيه قولان، بناء على القولين فيهم إذا نقضوا الذمة.. فهل يقتلون في الحال، أو يجب ردهم إلى مأمنهم؟ وهل تنتقض ذمتهم في حق أهل البغي؟ ينبغي أن يكون على الوجهين اللذين مَضَيا في صحة أمان أهل البغي لأهل الحرب.
وإذا قلنا: لا تنتقض ذمتهم.. فحكمهم حكم أهل البغي، فيجوز قتلهم مقبلين، ولا يجوز قتلهم مدبرين، ولا يجاز على جريحهم، ولا يجوز سبي أموالهم، ومن أسر منهم.. كان كمن أسر من أهل البغي، إلا أنهم إذا أتلفوا على أهل العدل نفسا أو مالا.. لزمهم ضمانه، قولا واحدا.
والفرق بينهم وبين أهل البغي: أن لأهل البغي شبهة، فلذلك سقط عنهم الضمان في أحد القولين، وليس لأهل الذمة شبهة، فوجب عليهم الضمان، ولأن في إيجاب الضمان على أهل البغي تنفيرا عن رجوعهم إلى الطاعة، وقد أمرنا بإصلاحهم، وأهل الذمة لا نخاف من نفورهم، ولم نؤمر بالإصلاح بيننا وبينهم.
وإن استعان أهل البغي بمن بيننا وبينهم هدنة، فأعانوهم.. انتقض أمانهم، إلا(12/32)
إن ادعوا: أنهم أكرهوا على ذلك، وأقاموا على ذلك بينة.
والفرق بينهم وبين أهل الذمة: أن أهل الذمة أقوى حكما، ولهذا لا تنتقض الذمة لخوف جنايتهم، والهدنة تنتقض بخوف جنايتهم، فلأن تنتقض بنفس الإعانة أولى. وإذا انتقض أمانهم.. كان حكمهم حكم أهل الحرب.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن جاء أحدهم تائبا.. لم يقتص منه؛ لأنه مسلم محقون الدم) .
فمن أصحابنا من قال: أراد بذلك: الحربي، والمستأمن، وأهل الذمة إذا قلنا: تنتقض ذمتهم.. فإن الواحد من هؤلاء إذا قتل أحدا من أهل العدل، ثم رجع إليهم تائبا.. لم يقتص منه؛ لأنه قتله قبل إسلامه، فأما أهل البغي: فلا يسقط عنهم الضمان بالتوبة؛ لأنهم مسلمون.
ومنهم من قال: ما أراد الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذلك إلا أهل البغي، وقد نص عليه في " الأم "، ويجوز أن نعلل: بأنه مسلم محقون الدم؛ لأن قتله كان بتأويل، فلم يزل خفر ذمته، وإنما سقط عنه القصاص في أحد القولين.
[مسألة: لا يصح نصب قاضٍ من أهل البغي يستحل دماء أهل العدل]
] : وإذا نصب أهل البغي قاضيا، فإن كان يستحل دماء أهل العدل وأموالهم.. لم يصح قضاؤه؛ لأنه ليس بعدل، وإن كان لا يستحل دماء أهل العدل وأموالهم.. نفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام قاضي أهل العدل، ورد من أحكامه ما يرد من حكم قاضَي أهل العدل، سواء كان القاضي من أهل العدل أو من أهل البغي.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن كان من أهل العدل.. نفذ حكمه، وإن كان من أهل البغي.. لم ينفذ حكمه) بناء على أصله: أن أهل البغي يفسقون بالبغي. وعندنا: لا يفسقون بالبغي.(12/33)
ودليلنا: أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما غلب أهل البغي، وقد كانوا حكموا مدة طويلة بأحكام، وما رُوِي: أنه رد شيئا منها.
ولأن لهم تأويلا، فلم يفسقوا به، ولم يرد قضاء قاضيهم، كقاضي أهل العدل.
إذا ثبت هذا: فإن حكم قاضي أهل البغي بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوا على أهل العدل من نفس ومال، فإن كان قال: قد حكمت بأن كل ما يتلفونه لا شيء عليكم فيه.. فليس هذا بحكم، ولا يلتفت إليه.
وإن جاء العدل المتلف عليه بالذي أتلف عليه إلى قاضيهم لينظر بينهما، فقضى: بأن لا ضمان على الباغي فيما أتلفه، فإن كان فيما أتلفه قبل قيام الحرب أو بعدها.. لم ينفذ حكمه؛ لأنه لا يسوغ فيه الاجتهاد، وإن كان فيما أتلفه في حال قيام الحرب.. نفذ حكمه؛ لأنه يسوغ في الاجتهاد.
فإن كتب قاضي أهل البغي إلى قاضي أهل العدل بحكم.. فالمستحب له: أن لا يقبل كتابه، استهانة بهم، وكسرا لقلوبهم، فإن قبله.. جاز.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجوز) .
دليلنا: أنا قد دللنا: أنه ينفذ حكمه، ومن نفذ حكمه.. جاز قبول كتابه، كقاضي أهل العدل. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: إن كان قد نفذ القضاء قبل كتابه، وإن لم ينفذ القضاء.. فهل يقبل كتابه؟ فيه قولان.
[فرع: قبول شهادة العدل من أهل البغي]
] : وإن شهد عدل من أهل البغي.. قبلت شهادته، ووافقنا أبُو حَنِيفَة على ذلك؛ لأنهم وإن كانوا فسقة عنده.. ففسقهم عنده من جهة التدين، وذلك لا يوجب رد(12/34)
الشهادة عنده، وإنما قبلت شهادتهم عندنا؛ لأنهم ليسوا بفسقة، فهم كأهل العدل المختلفين في الأحكام.
[مسألة: صحة تصرف أهل البغي إذا استولوا]
] : وإن استولى أهل البغي على بلد، وأقاموا فيه الحدود، وأخذوا الزكوات والجزية والخراج.. وقع ذلك موقعه.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه لا يعتد بما أخذوه من الجزية، وليس بشيء؛ لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما ظهر على أهل البغي.. لم يطالب بشيء مما قد كانوا جبوه من ذلك.
إذا ثبت هذا: فظهر الإمام على البلد التي كانوا غلبوا عليها، فادَّعى من عليه الزكاة: أنه قد كان دفع إليهم الزكاة، فإن علم الإمام بذلك، أو قامت به عنده بينة.. لم يطالبه بشيء، وإن لم يعلم الإمام بذلك، ولا قامت به بينة.. فإن دعوى من عليه الزكاة مخالفة للظاهر، فيحلفه، وهل تكون يمينه واجبة، أو مستحبة؟ فيه وجهان مَضَى ذكرهما في الزكاة.
وإن ادَّعى من عليه الجزية: أنه دفعها إليهم، فإن علم الإمام بذلك، أو قامت به بينة.. لم يطالبه بشيء، وإن لم يعلم الإمام بذلك، ولا قامت به بينة.. لم يقبل قول من عليه الجزية؛ لأنه يجب عليه الدفع إلى الإمام؛ لأنهم كفار ليسوا بمأمونين، ولأن(12/35)
الجزية عوض عن المساكنة، فلا يقبل قولهم في دفعها من غير نية، كثمن المبيع والأجرة.
فإن ادَّعى من عليه الخراج: أنه دفعه إليهم، فإن علم الإمام بذلك، أو قامت به بينة.. لم يطالب بشيء، وإن لم يعلم بذلك، ولا قامت به بينة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقبل قوله مع يمينه؛ لأنه مسلم، فقبل قوله مع يمينه فيما دفعه، كما قلنا فيمن عليه الزكاة.
والثاني: لا يقبل قوله؛ لأن الخراج ثمن أو أجرة، فلا يقبل قوله في دفعه من غير بينة، كالثمن والأجرة في غير ذلك.
[مسألة: لا يقاتل الخوارج على رأيهم]
] : وإن أظهر قوم رأي الخوارج، فتجنبوا الجماعات، وسبوا السلف وكفروهم، وقالوا: من أتى بكبيرة.. خرج من الملة، واستحق الخلود في النار، ولكنهم لم يخرجوا من قبضة الإمام.. فإنه لا يقاتلهم في ذلك، كما رَوَيْنَاهُ في الرجل الذي قال لعلي على باب المسجد وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - يخطب: لا حكم إلا لله، وكان خارجيا؛ لأن هذا من كلامهم.
ورُوِي: أنه حُمِلَ ابن ملجم إلى عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - وقيل له: إنه يريد أن يقتلك، فلم يقتله، وكان ابن ملجم خارجيا.
ورُوِي: أن عاملا لعمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إليه: أن قوما يرون رأي الخوارج، يسبُّونك؟! فقال: إذا سَبُّوني.. سُبُّوهم، وإذا حملوا السلاح، فاحملوا عليهم السلاح، وإذا ضربوا.. فاضربوهم.(12/36)
وإن سَبُّوا الإمام أو غيره.. عزروا. وإن عرَّضوا بسبِّ الإمام.. ففيه وجهان.
أحدهما: لا يعزرون؛ لـ: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - صَلَّى الفجر، فسمع رجلا خلفه من الخوارج يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] [الزمر: 65] ورفع بها صوته تعريضا له بذلك، فأجابه عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - وكان في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] [الروم: 60] . ولم يعزره) . ولأن التعريض يحتمل السبَّ وغيره.
والثاني: يعزرون؛ لأنه إذا لم يعزرهم بالتعريض بالسب.. ارتقوا إلى التصريح بالسب، وإلى أعظم منه.
فإن بعث إليهم الإمام واليا، فقتلوه.. وجب عليهم القصاص، لما رُوِي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - بعث عبد الله بن خباب إلى أهل النهروان واليا، فسلموا وأطاعوا، ثم قتلوه، فبعث إليهم أن ابعثوا بقاتله، فأبوا وقالوا: كلنا قتله، فسار إليهم وقاتلهم) .
وهل يتحتم القصاص على القاتل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتحتم؛ لأنه قتل بتشهير السلاح، فصار بمنزلة قاطع الطريق.
والثاني: لا يتحتم؛ لأنه لم يقصد بذلك إخافة الطريق، وأخذ الأموال، فأشبه من قتل رجلا منفردا.
[فرع: انفراد أهل البغي بدار وارتكابهم ما يوجب الحدود]
] : إذا انفرد أهل البغي بدار، وباينوا الإمام، وارتكبوا ما يوجب الحدود، وحصل(12/37)
معهم فيها أسير من أهل العدل، أو تأخر وارتكب فيها ما يوجب الحد، ثم ظهر عليهم الإمام.. أقام عليهم حدود ما ارتكبوا.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليهم) . بناه على أصله في المسلمين: إذا ارتكبوا ما يوجب الحد في دار الحرب.. فإنهم لا يحدون.
دليلنا: أن كل موضع تجب فيه العبادات في أوقاتها.. وجب فيه الحدود عند وجود أسبابها، كدار أهل العدل.
وبالله التوفيق(12/38)
[باب حكم المرتد]
الردة محرمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] . الآية [البقرة: 217] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الآية [آل عمران: 85] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] الآية [المائدة: 5] . وقَوْله تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] الآية [الزمر: 65] .
إذا ثبت هذا: فإن الردة إنما تصح من كل بالغ، عاقل، مختار، فأما الصبي، والمجنون، فلا تصح ردتهما.
وقال أبُو حَنِيفَة: (تصح ردة الصبي، ولكن لا تقبل حتى يبلغ) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» .
وهل تصح ردة السكران؟ ذكر الشيخ أبُو إسحاق فيه طريقين:
أحدهما: أنها على قولين.
والثانية: لا تصح ردته، قولا واحدا. ولم يذكر الشيخ أبُو حامد، وابن الصبَّاغ، وأكثر أصحابنا غير هذه الطريقة.(12/39)
ومن أكره على كلمة الكفر.. فالأفضل أن لا يأتي بها.
ومن أصحابنا من قال: إن كان مِمَّن يرجو النكاية في أمر العدو أو القيام في أمر الشَّرع.. فالأفضل أن يدفع القتل عن نفسه، ويتلفظ بها، وإن كان لا يرجو ذلك من نفسه.. اختار القتل.
والمذهب الأول؛ لما رَوَى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث من كن فيه.. وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ وإن يحب المرء لا يحبه إلا لله؛ وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها» .
فإن أكره على التلفظ بكلمة الكفر، فقالها، وقصد بها الدفع عن نفسه ولم يعتقد الكفر بقلبه.. لم يحكم بردته؛ وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة.
وقال أبُو يوسف: يحكم بردته.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] [النحل: 106] . وفيها تقديم وتأخير، وتقديرها: من كفر بالله من بعد إيمانه، وشرح بالكفر(12/40)
صدرا.. فعليهم غضب من الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
ورُوِي: «أن رجلا أسلم على عهد النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أكره على الكفر، فقالها، فأتى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخبره بالذي عُوقبَ به، فلم يقل له شيئا» .(12/41)
وإذا أكره الأسير على كلمة الكفر، فقالها.. لم يحكم بكفره؛ لما ذكرناه.
فإن مات ورثه ورثته المسلمون؛ لأنه محكوم ببقائه على الإسلام، فإن عاد إلى دار الإسلام.. عرض عليه الإسلام، وأمر بالإتيان به، لاحتمال أن يكون قال ذلك اعتقادا، فإن أتى بكلمة الإسلام.. عَلِمنا أنه أتى بكلمة الكفر مكرها، وإن لم يأت بالإسلام.. علمنا أنه أتى بكلمة الكفر معتقدا له.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن قامت بينة على رجل: أنه تلفظ بكلمة الكفر وهو محبوس أو مقيد، ولم تقل البينة: إنه أكره على التلفظ بذلك.. لم يحكم بكفره؛ لأن القيد والحبس إكراه في الظاهر) . وهكذا قال في الإقرار: (إذا أقر بالبيع أو غيره من العقود، وهو محبوس أو مقيد، ثم قال بعد ذلك: كنت مكرها على الإقرار.. قُبِل قوله في ذلك؛ لأن القيد والحبس إكراه في الظاهر) .
وإن قامت بينة: أنه كان يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير في دار الكفر.. لم يحكم بكفره؛ لأنها معاص، وقد يفعلها المسلم وهو يعتقد تحريمها، فلم يحكم بكفره، وإن مات ورثه ورثته المسلمون؛ لأنه محكوم ببقائه على الإسلام.
[مسألة: المرتد يقتل]
] . وإذا ارتد الرجل.. وجب قتله، سواء كان حرّا أو عبدا، لما رَوَى عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنَى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس» .(12/42)
ورُوِي: أن معاذا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قدم على أبي موسى باليمن، ووجد عنده رجلا موثقا، كان يهوديا فأسلم، ثم تهود منذ شهرين، فقال: (والله لا أقعدن حتى تضرب عنقه، قضى الله ورسوله: أن من رجع عن دينه.. فاقتلوه)
ورُوِي: أن قوما ارتدوا، فقبض عليهم عبد الله بن مَسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكتب إلى عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فيهم، فكتب عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إليه: (أن اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن أتوا به.. فخلهم، وإن أبوا.. فاقتلهم) فعرض عليهم، فمنهم من رجع فتركه، ومنهم من لم يرجع فقتله.
ورُوِي: أن قوما قالوا لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أنت الإله، فأحرقهم بالنار،(12/43)
فبلغ ذلك ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال: لو كنت أنا لقتلتهم، سمعت النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من بدَّل دينه.. فاقتلوه، ولا تعذبوا بعذاب الله تَعالَى» ؛ فدلَّ على: أنه إجماع.
وإن ارتدت امرأة حرة أو أمة.. وجب قتلها، وبه قال أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - والحسن، والزهري، والأَوزَاعِي، والليث، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: (إذا ارتدت المرأة.. استرقت) . وبه قال(12/44)
قتادة، وهي إحدَى الروايتين عن الحَسَن.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا تقتل، وإنما تحبس وتطالب بالرجوع إلى الإسلام، وإن لحقت بدار الحرب.. سبيت واسترقت، وإن كانت أمة.. أجبرها سيدها على الإسلام) . ويروَى ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
دليلنا: ما رَوَى ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدَّل.. دينه فاقتلوه»
وقال معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «قضى الله ورسوله: أن من رجع عن دينه.. فاقتلوه» ، وهذا عام في الرجال والنساء.
ورَوَى جابر: «أن امرأة يقال لها: أم رومان، ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر أن تستتاب، فإن تابت، وإلا.. قتلت» .
[فرع: طلب المرتد المناظرة]
] : وإذا قال المرتد ناظروني أو اكشفوا لي الحجة.. فهل يناظر؟ قال المسعودي [في " الإبانة "] : فيه وجهان:
أحدهما: يناظر؛ لأنه هو الإنصاف.
والثاني: لا يناظر؛ لأن الإسلام قد وضح، فلا معنى لحجته عليه.(12/45)
[فرع: استتابة المرتد]
قبل القتل] : ويستتاب المرتد قبل أن يقتل.
وقال الحَسَن البَصرِي: لا يستتاب، وإنما يقتل في الحال.
وقال عطاء: إن كان مولودا على الإسلام، ثم ارتد.. فإنه لا يستتاب، وإن كان كافرا، فأسلم، ثم ارتد.. فإنه يستتاب.
دليلنا: أنه لما ورد على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فتح تستر.. قال لهم: (هل من مغربة خبر؟) قالوا: نعم، رجل ارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين، فلحقناه وقتلناه. قال: (فهلا أدخلتموه بيتا، وأغلقتم عليه بابا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه ثلاثا؟ فإن تاب، وإلا.. قتلتموه؛ اللهم إنِّي لم أشهد، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني) . قوله: (مغربة خبر) ، يروى بفتح الغين وتشديد الراء وكسر الراء وفتحها، ومعناه: هل من خبر غريب عنا.
ورُوِي: أن ابن مَسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - في قوم ارتدوا، فكتب إليه عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: (اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوا.. فخلهم، وإن أبوا.. فاقتلهم)
إذا ثبت هذا: فهل الاستتابة مستحبة، أو واجبة؟ فيه قولان، قال الشيخُ أبُو حامد: وقيل هما وجهان:
أحدهما: أنها مستحبة، وبه قال أبُو حَنِيفَة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدَّل دينه فاقتلوه» ؛ فأوجب قتله، ولم يوجب استتابته، ولأنه لو قتله قاتل قبل الاستتابة.. لم(12/46)
يجب عليه ضمانه، ولهذا: لم يوجب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - الضمان على الذين قتلوا المرتد قبل استتابته، فلو كانت الاستتابة واجبة.. لوجب ضمانه.
فعلى هذا: لا يأثم إذا قتله قبل الاستتابة.
والثاني: أن الاستتابة واجبة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] . فأمر الله تَعالَى بمخاطبة الكفار بالانتهاء، ولم يفرق بين الأصلي والمرتد. ولما رَوَيْنَاهُ عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - ولأن من لم تبلغه الدعوة.. يجب أن يُدعَى إلى الإسلام قبل القتل، فكذلك المرتد.
وأمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من بدَّل دينه.. فاقتلوه» فمعناه: بعد الاستتابة، بدليل: ما ذكرناه.
وأمَّا قوله: (لو وجبت الاستتابة.. لوجب على قاتله قبل الاستتابة ضمانه) ؛ فيبطل بقتل نساء أهل الحرب وذراريهم، فإنه يحرم قتلهم، ولو قتلهم.. لم يجب ضمانهم.
فعلى هذا: إذا قتله قبل الاستتابة.. أَثم لا غير، وفي قدر مدة الاستتابة قولان، سواء قلنا: إنها مستحبة أو واجبة:
أحدهما: يستتاب ثلاثة أيام، وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة، وأحمد - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تَعالَى - ووجهه: ما رَوَيْنَاهُ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - ولأن الاستتابة تراد لزوال الشبهة، فقدر ذلك بثلاث؛ لأنها آخر حد القلة وأول حد الكثرة.
والثاني: يستتاب في الحال، فإن تاب.. وإلا.. قتل. وهو الذي نصره الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لحديث أم رومان، ولأنه استتابة، فلم يتقدَّر بالثلاث، كاستتابة الحربي، هذا مذهبنا. وقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: (يستتاب شهرا) .(12/47)
وقال الزهري: يستتاب ثلاث مرات في حالة واحدة.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يستتاب ثلاث مرات في ثلاث جمع، كل جمعة مرة) .
وقال الثوري: يستتاب أبدا، ويحبس إلى أن يتوب أو يموت.
ودليلنا عليه: ما مَضَى.
[فرع: يستتاب المرتد السكر بعد إفاقته]
] : وأمَّا السكران: فإنه لا يستتاب في حال سكره، وإنما يؤخر إلى أن يفيق، ثم يستتاب؛ لأن استتابته في حال إفاقته أرجى لإسلامه، فإن استتيب في حال سكره، فلم يتب وقتل.. جاز؛ ولكن الأحوط أن يترك حتى يفيق. وإن أسلم في حال سكره.. صح إسلامه.
وقال أبُو علي بن أبي هُرَيرَة: لا يصح إسلامه، وبه قال أبُو حَنِيفَة، والمنصوص هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] [النساء: 43] . فخاطبهم في حال السكر، فدلَّ على: أنه مخاطب مكلف، فكل من كان مخاطبا مكلفا.. صح إسلامه، كالصاحي.
وإذا أسلم في حال السكر.. فالمستحب: أن لا يخلى، بل يحبس إلى أن يفيق، فإن أفاق وثبت على إسلامه.. خلِّي، وإن عاد إلى الكفر.. قتل.
فإن ارتد الرجل، ثم جن أو تبرسم.. لم يقتل حتى يفيق من جنونه، ويبرأ من(12/48)
برسامه؛ لأن المرتد لا يقتل إلا بالردة والمقام عليها باختياره، والمجنون والمبرسم لا يعلم إقامته على الردة باختياره، فلم يقتل.
[مسألة: قبول إسلام المرتد ولا يهدر دمه]
] : إذا أسلم المرتد صح.. إسلامه ولم يقتل، سواء كانت ردته إلى كفر يتظاهر به أهله كاليهودية والنصرانية وعبادة الأصنام، أو إلى كفر يستتر به أهله، كالزندقة و (الزنديق) : هو الذي يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، فمتى قامت بينة: أنه تكلم بما يكفر به.. فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا.. قتل، فإن استتيب، فتاب.. قبلت توبته.
وقال بعض الناس: إذا أسلم المرتد.. لم يحقن دمه بحال، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدَّل دينه.. فاقتلوه» ، وهذا قد بدَّل.
وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: (لا تقبل توبة الزنديق، ولا يحقن دمه بذلك) ، وهي إحدَى الروايتين عن أبي حَنِيفَة، والرواية الأخرى عنه كمذهبنا. ودليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة: 74] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة: 74] الآية [التوبة: 74] . فأثبت الله لهم التوبة بعد الكفر وبعد الإسلام.
ورُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها» وهذا قد قالها.
ورَوَى عبيد الله بن عدي بن الخيار: «أن رجلا سارَّ النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم نَدرِ ما سارَّه به، حتى جهر النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصوته، فإذا هو قد استأذنه في قتل منافق، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أليس هو يشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: بلى، ولا شهادة له، قال: " أليس يشهد أنِّي رسول الله؟ " قال: بلى، ولا شهادة له] فقال: " أليس يصَلَّي؟ "(12/49)
قال: بلى.. ولا صلاة له؛ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُولئِكَ الَّذِينَ نَهانِي الله عن قتلهم» .
«ورَوَى المقداد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله - صَلَّى الله عليك وسَلَّم - أرأيت لو أن مشركا لقيني وقطع يدي، ثم لاذ عني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله؟ فقال: " لا "، قال: فقد قالها بعدما قطع يدي؟! فقال: " إنما هو مثلك قبل أن تقتله» .
ولأن المنافقين في زمان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يظهرون الإسلام ويُسِرُّون الكفر، و (كان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرفهم بأعيانهم، والآيات تنزل عليه بأسمائهم وكناهم ولا يتعرض لهم) .
[فرع: كيفية إسلام الكافر والمرتد ونحوهما]
] : إسلام الكافر الأصلي والمرتد سواء، وينظر فيه:
فإن كان لا تأويل له في كفره، مثل: عَبَدَة الأوثان.. فيكفيه في الإسلام: أن يأتي بالشهادتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
وإن كان متأولا في كفره، بأن يقول: إن محمدا رسول الله، ولكنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب، أو يقول: هو نبي، إلا أنه لم يبعث بعد.. فلا يحكم بإسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويبرأ معهما من كل دين مخالف دين الإسلام؛ لأنه إذا اقتصر على الشهادتين.. احتمل أن يريد ما يعتقده.
وإن ارتد بجحود فرض مُجمَعٍ عليه، كالصلاة، والزكاة؛ أو باستباحة محرم مُجمَعِ(12/50)
عليه كالخمر، والخنزير، والزنا.. لم يحكم بإسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويقر بوجوب ما جحد وجوبه، وتحريم ما استباحه من ذلك؛ لأنه كذب الله ورسوله بما أخبرا به، فلم يحكم بإسلامه حتى يقر بتصديقهما بذلك.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن صَلَّى الكافرُ الأصلي في دار الحرب.. حكم بإسلامه، وإن صَلَّى في دار الإسلام.. لم يحكم بإسلامه؛ لأن الإنسان في دار الإسلام مطالب بإقامة الصلاة، محمول على فعلها، فإذا فعلها الكافر هناك.. فالظاهر أنه فعلها تقية لا اعتقادا، فلم يحكم بإسلامه، وفي دار الكفر هو غير مطالب بإقامة الصلاة، فإذا فعلها فيه.. فالظاهر أنه فعلها اعتقادا لا تقية.. فحكم بإسلامه) .
وهكذا: إن ارتد في دار الحرب، ثم شهد شاهدان: أنه يصلي هناك.. فإنه يحكم بإسلامه؛ لما ذكرناه في الحربي، وإن ارتد في دار الإسلام، ثم شهد شاهدان: أنه يصلي.. فإنه لا يحكم بإسلامه؛ لما ذكرناه في الحربي، ولأن المرتد في دار الحرب لا يمكن معرفة إسلامه إلا بالصلاة؛ لأنه لا يمكنه إظهار الشهادتين، والمرتد في دار الإسلام يمكن معرفة إسلامه بإظهار الشهادتين.
وإن أكره الذمي على الإسلام.. لم يصح إسلامه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] [البقرة: 256] .
وإن أكره الحربي أو المرتد على دين الإسلام.. صح إسلامه؛ لأنه أكره بحق.
[فرع: مكررالردة ثم الإسلام يعزر]
فرع: [مكرر الردة ثم الإسلام يعزر] : إذا ارتد ثم أسلم ثم ارتد ثم أسلم، وتكرر ذلك منه.. فإنه يحكم بصحة إسلامه، إلا أنه لا يعزر في الردة الأولى؛ لجواز أن يكون عرضت له شبهة، ويعزر فيما بعدها؛ لأنه لا شبهة له، ووافقنا أبُو حَنِيفَة على صحة إسلامه، إلا أنه قال: (يحبس في الثانية) ؛ والحبس نوع من التَّعزِير.(12/51)
وقال أبُو إسحاق المَروَزِي: إذا تكرر منه الردة.. لم يصح إسلامه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137] [النساء: 137] ، فأخبر: أنه لا يغفر لهم في الثالثة.
ودليلنا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] [الأنفال: 38] .
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، ولم يفرق.
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يَجُبُّ ما قبله» . ولم يفرق.
وأمَّا الآية: فلها تأويلان:
أحدهما: أن معناها: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم آمنوا بعيسى ثم كفروا به، ثم آمنوا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم كفروا به.. لم يكن الله ليغفر لهم.
والثاني: أن معناها: إن الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، وأصروا على الكفر ولم يسلموا، الآية، قال: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] [النساء: 137] .
[مسألة: الإمام يقتل الحر وفي قتل السيد لمولاه المرتد]
مسألة: [الإمام يقتل الحر المرتد، وفي قتل السيد لمولاه المرتد] : إذا ارتد الحر وأقام على الردة.. فإن قتْلَه إلى الإمام؛ لأن قتْلَه حق للمسلمين، وفيهم من يحسن القتل وفيهم من لا يحسن، والإمام نائب عنهم.
فإن قتَله بعضهم بغير إذن الإمام.. فلا قَوْد عليه ولا دية ولا كفارة؛ لأنه مستحق للقتل، فإن رأَى الإمام تعزيره.. فعل؛ لأنه افتأت عليه ذلك.
وإن ارتد العبد.. فهل لسيده أن يقتله؟ فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك، كما له أن يقيم عليه حد الزِّنَا.(12/52)
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لا يتصل بصلاح ملكه، بخلاف حد الزِّنَا.
[مسألة: حكم مال المرتد]
] : وإن ارتد وله مال.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (يوقف ماله) . وقال في الزكاة: (فيه قولان:
أحدهما: أنه موقوف على إسلامه أو قتله.
والثاني: أن ملكه ثابت، فتؤخذ زكاة ماله حولا فحولا) .
وقال في التدبير: (إذا دبر المرتد عبدا.. ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن تدبيره صحيح.
والثاني: تدبيره موقوف.
والثالث: أن تدبيره باطل؛ لأن ماله خارج منه) .
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في بقاء ملك المرتد على ماله، وفي جواز تصرفه قبل الحجر ثلاثة أقوال.
أحدها: أن ماله باق على ملكه، وتصرفه فيه قبل الحجر عليه صحيح؛ لأن الردة معنى يوجب القتل، فلم يزل بها الملك، ولم يبطل بها تصرفه، كزنى المحصن.
والثاني: وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أن ملكه يزول عن ماله بالردة.
فعلى هذا: لا يصح تصرفه فيه، لما رُوِي: أن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قال لوفد بزاخة من أسد وغطفان: (نغنم ما أصبنا منكم، وتردون إلينا ما أصبتم منا) ، ولأنه عصم دمه وماله بالإسلام، فلما ملك المسلمون دمه بردته.. وجب أن يملكوا ماله بردته.(12/53)
والثالث: أن ملكه وتصرفه موقوفان، فإن أسلم.. تبين أن ملكه لم يزل، وتصرفه صحيح، وإن مات على الردة أو قتل عليها.. تبينا أن ملكه زال بالردة، وإن تصرفه باطل؛ لأنه نوع ملك للمرتد، فكان موقوفا، كملكه لبضع زوجته.
ومن أصحابنا من قال: في ملكه قولان لا غير:
أحدهما: أنه موقوف.
والثاني: أنه باق.
ومعنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لأن ماله خارج منه) أي: في التصرف.
وأمَّا تصرفه قبل الحجر: فعلى الأقوال الثلاثة، على ما مَضَى.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن ملكه زال عن ماله بالردة.. لم يحتج إلى الحجر عليه، وإن قلنا: إن ملكه باق على ماله، أو قلنا: إنه موقوف.. فإن القاضي يحجر عليه في ماله؛ لأنه تعلق بماله حق المسلمين، وهو متهم في إضاعته، فحجر عليه، كالمفلس. هذا نقل البغداديين.
وقال الخراسانيون: إن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. صار محجورا عليه بنفس(12/54)
الردة، وإن قلنا: إن ملكه باق.. حجر عليه القاضي، وإن قلنا: إنه موقوف.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه صار محجورا عليه بنفس الردة؛ لأنا لا نحكم له بالإسلام، فينفذ تصرفه:
والثاني: يحجر عليه الحاكم؛ لأنا لم نقطع ملكه بالرِّدة بعد.
وإن تصرف المرتد في ماله بعد الحجر، فإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. لم يصح تصرفه. وإن قلنا: إن ملكه باق أو موقوف.. ففي تصرفه القولان في تصرف المفلس بعد الحجر؛ لأن تعلق حق المسلمين بماله كتعلق حق الغرماء بمال المفلس بعد الحجر.
وإن زوج المرتد أمته، فإن قلنا: يصح تصرفه.. صح النكاح، وإن قلنا: لا يصح تصرفه.. لم يصح النكاح، وإن قلنا: إن تصرفه موقوف.. لم يصح النكاح أيضا؛ لأن النكاح لا يقع موقوفا عندنا.
[فرع: ما لزم على المرتد يؤخذ من ماله]
] : وما لزم على المرتد من دين أو أرش جناية، أو نفقة زوجة أو قريب.. فإنه يجب أداؤه من ماله على الأقوال كلها؛ لأنا إن قلنا: إن ملكه باق أو موقوف.. فلا محالة يقضي منه أو من ماله، وإن قلنا أن ملكه زال بالردة.. إلَّا أنه لم يَزُل زوالا مستقرا؛ لأنه يَعود إليه بإسلامه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخرسانيون: إن قلنا: إن ملكه باق.. أخذت هذه الحقوق من ماله، وإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الإصطخري، وهو الأصح عندهم -: أنها لا تؤخذ من ماله؛ لأنه لا ملك له.(12/55)
والثاني: أنها تؤخذ منه؛ لأنا إنما نحكم بزوال ملكه فيما لم يكن تعلق به حق الغير، كما لو استدان، ثم ارتد.. فإن الدين يقضى من ماله.
فإن مات أو قتل على الردة، فإن بقي من ماله بعد قضاء ديونه وأرش جناياته ونفقة زوجاته شيء.. صرف ذلك إلى بيت المال فيئا للمسلمين.
وقال أبُو يوسف، ومحمد: يرث عنه ورثته المسلمون جميع أمواله.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يرث عنه ورثته المسلمون ما اكتسبه في حال الإسلام، وأمَّا ما اكتسبه بعد الردة.. فلا يورث عنه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يرث المسلم الكافر» ولم يفرق.
وإن قتل المرتد رجلا، فإن كان عمدا.. كان الولي بالخيار: بين أن يقتص منه، وبين أن يعفو عنه، فإن اقتص منه.. سقط القتل بالردة، وإن عفا عنه على مال.. تعلقت الدية بماله على طريقة أصحابنا البغداديين. وعلى طريقة الخراسانيين: على ما مَضَى.
وإن كان القتل خطأ.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإن الدية تجب في ماله في ثلاث سنين، ولا تتحملها العاقلة؛ لأنه لا عاقلة له، فإن مات أو قتل قبل الثلاث.. أخذ ولي المقتول الدية في الحال؛ لأن الدين المؤجل يحل بموت من عليه.
[فرع: إقرار المرتد بدين ونحوه]
فرع: [لا يصح إقرار المرتد بدين ونحوه] : قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن أقر المرتد لرجل بدَيْن أو عين، فإن قلنا: إن ملكه زال بالردة.. لم يصح إقراره، وإن قلنا: إن ملكه باق.. ففي صحة إقراره القولان في إقرار المفلس، وسواء أقرَّ قبل الحجر أو بعد الحجر.
[فرع: اختلاف الورثة أمات كافرا أو مسلما]
] : فإن عرف إسلام رجل، فمات وخلف ورثة، فأقر بعضهم: أنه مات كافرا، وأقر بعضهم: أنه مات مسلما.. دفع إلى من أقر: أنه مات مسلما نصيبه؛ لأنه لا محالة(12/56)
محكوم بإسلامه، ولا يدفع نصيب من أقر: أنه مات كافرا إليه؛ لأنه أقر: أنه لا يستحقه، وماذا يصنع به؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبُو حامد:
أحدهما: يوقف إلى أن يتبين الحال فيه؛ لأنه لا يمكن دفعه إليه؛ لأنه أقر: أنه لا يستحقه، ولا يمكن صرفه إلى بيت المال؛ لأنه إنما ينقل إليه مال كافر، وهذا محكوم بإسلامه؛ ولهذا ورثنا بعض ورثته منه.
والثاني: أنه ينقل إلى بيت المال؛ لأنه حق للوارث المقر في الظاهر، وقد أقر به لبيت المال، فقُبِل إقراره فيه.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أقر مسلم: أن أباه مات كافرا.. سئل عن ذلك، فإن قال: تكلم بكلمة الكفر عند موته.. قبل ولم يرثه، وإن لم يقر بذلك بل أطلق.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يرثه؛ لأنه أقر: أنه لا يرثه.
والثاني: لا يقبل إقراره؛ لأنه قد يعتقد تكفير أهل البدع.
[فرع: ارتد ولحق بدار حرب وأمواله في دار الإسلام]
] : إذا ارتد رجل ولحق بدار الحرب، وترك أموالا في دار الإسلام.. فإن الإمام يحفظها؛ لأنه متردد: بين أن يسلم ويرجع إليه ماله، وبين أن يموت على الردة أو يقتل، فيكون فيئا، فإن كان ماله من العروض أو الدراهم أو الدنانير.. حفظها الإمام، وإن كان حيوانا.. فعل الإمام ما رأى فيه الحظ من بيعه وحفظ ثمنه، أو إكرائه وإنفاق كرائه عليه.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا لحق بدار الحرب.. كان كما لو مات، فتعتق أم ولده ومدبره، ويحل دينه المؤجل، ويقسم ماله بين ورثته عنده، فإن رجع إلى الإسلام.. لم ينتقض من هذه الأحكام شيء، إلا أن يكون عين ماله قائمة في يد ورثته، فيأخذه منهم) .(12/57)
دليلنا: أن كل حالة لو أسلم فيها.. رد ماله إليه لم يقسم ماله فيها، كما لو كان بدار الإسلام.
[مسألة: استرقاق المرتد]
مسألة: [لا يجوز استرقاق المرتد] : ولا يجوز استرقاق المرتد، رجلا كان أو امرأة.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن كان المرتد امرأة ولحقت بدار الحرب.. جاز استرقاقها؛ لأن أم محمد ابن الحنفية كانت من بني حَنِيفَة، وكانوا مرتدين، فملكها عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - واسترقها) .
دليلنا: أن الكفر بعد الإيمان يمنع الاسترقاق كالرجل، وأمَّا الخبر: فقد رُوِي: أنها كانت أمة، فسبيت.
وإذا قتل مالكها على الردة كانت فيئا.
وأمَّا ولد المرتد: فإن ولد قبل ردة أبويه أو أحدهما، أو ارتد أبواه وهو حمل.. فإنه محكوم بإسلامه؛ لأنه قد حكم بإسلامه تبعا لأبويه، فلم يزل إسلامه بردة أبويه، بدليل: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يُعلَى» .(12/58)
فإن بلغ هذا الولد، ووصف الإسلام.. فلا كلام، وإن امتنع من أن يصف الإسلام، أو وصف الكفر بعد بلوغه.. حكم بردته، ويقتل.
وقال أبُو العباس: وفيه قول آخر: أنه إذا لم يصف الإسلام بعد بلوغه.. أنه لا يقتل ويترك على كفره؛ لأن الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو قتله قاتل بعد بلوغه وقبل أن يصف الإسلام.. لم يكن على قاتله القود) فلو حكم له بالإسلام بعد بلوغه.. لأوجب على قاتله القود، وهذا خطأ؛ لأنه محكوم له بالإسلام؛ ولهذا لو قتله قاتل قبل أن يبلغ.. وجب عليه القود، وإنما لم يوجب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - القود على من قتله بعد بلوغه وقبل أن يصف الإسلام، لأجل شبهة عرضت، وهو: أنه لم يصف الإسلام، لا لأنه لم يحكم له بالإسلام.
وأمَّا إذا ارتد الأبوان، ثم حملت به الأم في حال ردتهما، ووضعته قبل أن يسلما أو أحدهما، أو تزوج مسلم ذمية وارتد، ثم حملت بولد في حال ردته، ووضعته قبل أن يسلما أو أحدهما.. فإن الولد محكوم بكفره؛ لأنه ولد بين كافرين، وهل يجوز استرقاقه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز سبيه؛ لأن حكم الولد الصغير في الدين حكم أبويه، وإذا لم يجز سبي أبويه.. لم يجز سبيه، كولد المسلمين.
فعلى هذا: يترك حتى يبلغ، فإن لم يصف الإسلام.. قتل.
والثاني: يجوز سبيه؛ لأنه ولد بين كافرين، ولا يجوز إقرارهما على الكفر، فجاز سبيه، كولد الكافرين الحربيين.
فعلى هذا: إذا سبي.. كان الإمام فيه بالخيار: بين القتل، والاسترقاق،(12/59)
والمن، والفداء، غير أنه إذا استرقه.. لم يجز إقراره على الكفر؛ لأنه انتقل إلى الكفر بعد نزول القرآن. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: فيه قولان، واختلفوا فيهما:
منهم من قال:
أحدهما: أنه كالكافر الأصلي.
والثاني: أنه كأبويه.
ومنهم من قال:
أحدهما: أنه كالأصلي.
والثاني: أنه مسلم؛ لأنه متولد من شخص حرمة الإسلام فيه باقية، وهو مطالب بجميع أحكام الإسلام، إلا أنه ممتنع من أدائها بالردة، والولد لم يوجد منه امتناع بالكفر. هذا مذهبنا. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن ولد في دار الحرب.. سبي واسترق، وإن ولد في دار الإسلام.. لم يسب ولم يسترق) .
دليلنا: أن الدار لا تأثير لها في إثبات الاسترقاق ومنعه، كما لو ولد بين الحربيين ولد في دار الإسلام، أو ولد بين المسلمين في دار الحرب ولد.
[مسألة: قتال المرتدين قبل قتال أهل الحرب]
] : وإذا ارتدت طائفة أو امتنعت.. قاتلهم الإمام؛ لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قاتل المرتدين، ويبدأ بقتالهم قبل قتال أهل الحرب؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيش أسامة، ثم مات قبل إنفاذه، فلما ولي أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -.. أراد إنفاذه، فقالت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم -: يا خليفة رسول الله! إن العرب قد ارتدت حول المدينة، فلو أخرت هذا الجيش؟ فقال: والله لو انثالت(12/60)
المدينة سباعا.. ما أخرت جيشا جهزه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -.
فموضع الدليل منه: أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رأت أن قتال المرتدين أولى من(12/61)
قتال أهل الحرب، ولم ينكر عليهم أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - ذلك، وإنما اعتذر إليهم، بأن ذلك الجيش جهزه النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يؤخر، بدليل: أن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - بدأ بقتال المرتدين بغير جيش أسامة، ثم رجع إلى قتال غيرهم.
ويتبع في الحرب مدبرهم، ويجاز على جريحهم؛ لأنه إذا وجب ذلك في قتال أهل الحرب.. فلأن يجب في قتال المرتدين ـ وكفرهم أغلظ ـ أولى.
فإن أسر منهم أسير.. استتيب، فإن تاب.. وإلا قتل؛ لأنه لا يجوز إقراره على الكفر.
[مسألة: لزوم الضمان على المرتد فيما أتلفه على المسلمين]
] : وإن أتلف المرتد على المسلمين نفسا أو مالا، فإن كان في غير منعة، أو كان في منعة إلا أنه أتلفه قبل قيام الحرب أو بعدها.. لزمه الضمان؛ لأنه التزم ذلك بالإسلام، فلم يسقط عنه بالردة.
وإن كان في منعة، وأتلفه في حال قيام الحرب.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه قولان، كأهل البغي:
قال الشيخُ أبُو حامد: إلا أن الصحيح في أهل البغي: أنه لا يجب عليهم الضمان، والصحيح في أهل الردة: أنه يجب عليهم الضمان.
وقال الشيخ أبو حامد: إلا أن الصحيح في أهل الردة: أنه لا يجب عليهم الضمان؛ لأن أبا بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لما قاتل المرتدة وهزمهم، وسألوه الصلح، قال: (تدون قتلانا، وقتلاكم في النار) فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: لا يدون قتلانا، إن أصحابنا عملوا لله، وأجورهم على الله، وإنما الدنيا دار بلاغ) .(12/62)
فرجع أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - إلى قوله، وأجمعت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على ذلك.
وقال القاضي أبُو حامد: يجب الضمان على المرتدين، قولا واحدا؛ لأنه لا ينفذ قضاء قاضيهم، وليس لهم تأويل سائغ.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إن قلنا: لا يجب الضمان على أهل البغي.. لم يجب على المرتدين، وإن قلنا: يجب الضمان على أهل البغي.. ففي المرتدين قولان.
والفرق بينهما: أن المرتد كافر، فهو كالحربي، والباغي مسلم.
[مسألة: السحر حق وقد يقتل صاحبه]
] : للسحر حقيقة وهو: أن الساحر يوصل إلى بدن المسحور ألما قد يموت منه، أو يغير عقله، ويفرق بين المرء وزوجه. وقد يكون السحر قولا، كالرقية، وقد يكون فعلا، كالتدخين. وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال أبُو جعفر الإستراباذي من أصحابنا: لا حقيقة للسحر، وإنما هو خيال يخيل إلى المسحور، وهو قول المقدسي من أصحاب داود؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] [طه: 66] ، ولأنه لو كان حقيقة.. لكان في ذلك نقض العادات، فيؤدي إلى إبطال معجزات الأنبياء، - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.(12/63)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] [الفلق: 4] . وهن السواحر. فلو لم يكن السحر حقيقة.. لما أمرنا بالاستعاذة منه.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] الآية [البقرة 102] .
وقيل: إن سليمان صلوات الله على نبينا وعليه وسلامه، كان جمع كتب السحرة ودفنها تحت مقعدته، حتى لا يعلمها الشياطين الناس.
فقيل: إن الشيطان دفن ذلك تحت سرير سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فلما مات سليمان، على نبينا وعليه الصلاة والسلام. جاء إبليس ـ لعنه الله ـ فقال: إن سليمان كان يسحر. وأمرهم أن يحفروا ذلك الموضع.. فحفروه، فأخرجوا تلك الكتب فقال بعض الناس: كان بهذا يفعل، وأنكر بعضهم ذلك، فكذب الله من صدق إبليس - لعنه الله - بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] الآية.
ويدل على أن له حقيقة: ما روت عائشة أم المؤمنين، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث أياما يخيل إليه أنه يأتي النساء، ولا يأتي. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فدخل علي رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبَّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: فيم؟ قال: في جف طلعة تحت راعوفة بئر كذا وكذا، قال: فأتيت تلك البئر، فإذا هو الذي رأيته، وإذا ماؤها كنقاعة الحناء، فأخرج فحل، فشفاني الله» وفي رواية: «فلما حُلَّ.. كأني أُنْشطت من عقال» .(12/64)
ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - أمر بقتل كل ساحر وساحرة) .
ورُوِي: (أن حفصة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قتلت جارية لها سحرتها) .
و: (باعت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جارية لها سحرتها) .
ورَوَى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما -: «أنه قال: ساقى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل خيبر، فكان على ذلك زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر الصدِّيق وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما - فبعث بي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - لأقسم الثمرة بينهم، فسحروني، فتكوعت يدي، فأجلاهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه» فأخبر: أن يده تكوعت(12/65)
بسحرهم، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدلَّ على: أنه إجماع.
وأمَّا ما ذكره من سحرة فرعون: فلا حجة فيه؛ لأنه لم ينقل: أن الساحر يقدر على نفخ الروح في الجمادات، وسحرة فرعون أرادوا أن يقابلوا عصا موسى التي يطرحها فتصير حية، فأخذوا حبالا وعصيا، وطلوا عليها الزئبق وتركوها، فلما طلعت عليه الشمس.. تحرك الزئبق، فخيل إلى موسى أنها تسعى، ليقولوا: قد فعلنا مثل فعله، وليس بصحيح؛ لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله.
وأمَّا قولهم: إن ذلك يؤدي إلى إبطال المعجزات.. فغير صحيح؛ لأن المعجزة هي ما أظهره الله للأنبياء مما يخالف العادة حين ادعاء النبوة وتحدي الناس، وليس كذلك السحرة؛ فإنهم لا يدعون النبوة، وقد منعهم الله من ادعائهم، ولو ادعوها.. لأبطل الله سحرهم الذي يأتون به.
إذا ثبت هذا: فإن تعليم السحر، وتعلمه، وفعله حرام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] الآية [البقرة: 102] . ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من سحر أو سحر له، أو تكهن، أو تكهن له، أو تطير أو تطير له» .(12/66)
فإذا اعترف رجل: أنه ساحر.. قلنا له: صف سحرك، فإن وصفه وقال: ولا يمكن تعلمه إلا بالكفر، بأن يَترك الصلاة أربعين يوما، أو يعتقد أن الكواكب السبعة هي المدبرة، فيتقرب إليها لتفعل له ما يلتمس منها.. فقد اعترف بالكفر.. فيستتاب، فإن تاب، وإلا.. قتل؛ لأنه مرتد.
وإن قال: يمكن تعلمه من غير كفر، إلا أنه قال: تعلمه مباح.. فهو كافر؛ لأنه استحل محرما مجمعا عليه.
وإن قال: تعلمه محرم، إلا أنِّي قد تعلمته، ولكني لا أستعمله.. فهو فاسق، وليس بكافر، ولا يقتل.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يقتل؛ لأنه زنديق) .(12/67)
وقال أصحاب أبي حَنِيفَة: إن اعتقد أن الشيطان يفعل له ما شاء.. فهو كافر، وإن اعتقد أنه تلبيس وتمويه.. لم يكفر.
دليلنا: أن الكفر بالاعتقاد، وهذا اعتقاده صحيح. ولأن بكونه يحسن السحر لا يجب عليه شيء، كما لو قال: أنا أحسن السرقة ولا أسرق.. فلا شيء عليه، كذلك هذا مثله.
وبالله التوفيق(12/68)
[باب صول الفحل]
إذا قصد رجل رجلا يطلب دمه أو ماله أو حريمه، فإن كان في موضع يلحقه الغوث إذا صاح بالناس.. لم يكن له أن يقاتله ولا يضربه، بل يستغيث بالناس ليخلصوه منه؛ لأنه يمكنه التخلص منه بذلك.
وهكذا: إذا كان بينه وبينه حائل يعلم أنه لا يقدر على الوصول إليه، من نهر، أو حائط، أو حصن.. لم يجز قتاله وضربه؛ لأنه لا يخاف منه.
وإن كان في موضع لا يلحقه الغوث، مثل: أن يكون في برية، أو بلد، فخاف منه إلى أن يلحقه الغوث، أو كان بينهما حصن أو نهر أو حائط، إلا أنه يبلغه رميه أو رمحه.. فله أن يدفعه عن نفسه بأسهل ما يمكنه، فإن اندفع باليد.. لم يضربه بالعصا، وإن لم يندفع إلا بالعصا.. فله أن يضربه بالعصا.
فإن لم يندفع عنه إلا بالضرب بالسيف أو بالرمي بالسهم أو بالحجر.. فله أن يدفعه بذلك وإن أتى على نفسه؛ لما رُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قاتل دون أهله وماله،(12/69)
فقتل.. فهو شهيد» والشهادة بالقتل لا تكون إلا بقتال جائز.
ورُوِي: أن امرأة خرجت لتحتطب، فتبعها رجل، فراودها عن نفسها، فرمته بفهر فقتلته، فرفع ذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فقال: (هذا قتيل الحق، والله لا يُودَى أبدا) . ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدلَّ على: أنه إجماع.
وهل يجب عليه الدفع؟ ينظر فيه:
فإن طلب أخذ ماله.. لم يجب عليه الدفع؛ لأن المال يجوز إباحته.
وإن طلب يزني بحريمه.. وجب عليه دفعه؛ لأنه لا يجوز إباحته بالإباحة.
وإن طلب دما ... ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه دفعه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] . ولأنه لو اضطر إلى الأكل، وعسر به الطعام.. لوجب عليه أكله لإحياء نفسه، فوجب عليه الدفع عن نفسه لإحيائها.(12/70)
والثاني: لا يجب عليه الدفع؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل» ورُوِي: أن عُثمانَ بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - حصر في الدار، ومعه أربعمائة عبد، فجردوا السيوف ليقاتلوا عنه، فقال: (من أغمد سيفه.. فهو حُرّ، فأغمدوا سيوفهم، ودخل عليه الحَسَن والحسين، ابنا علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وأرضاهم - ليدفعا عنه فمنعهما من القتال، وترك القتال حتى قتل) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدلَّ على: أنه إجماع، ولأن له غرضا في ترك القتال لتحصل له الشهادة، فجاز له التعرض لها. وفي هذا المعنى ما رُوِي: «أن رجلا قال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرأيت لو انغمست في المشركين، فقتلت صابرا محتسبا، أإلى الجنة؟ قال: " نعم "، فانغمس فيهم، فقاتل حتى قتل» .(12/71)
ويخالف الامتناع من أكل الطعام؛ لأنه ليس له غرض في الامتناع من أكله إلا قتل نفسه بغير الشهادة، فلم يكن له ذلك.
فإن أمكن المقصود أن يهرب ممن قصده.. فقد قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (عليه أن يهرب) وقال في موضع آخر: (له أن يهرب، وله أن يقف) .
واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان:
[أحدهما] : لا يجب عليه أن يهرب؛ لأن إقامته في هذا الموضع مباح، فلا يلزمه الانصراف عنه.
الثاني: يجب عليه أن يهرب، وليس له أن يقاتله؛ لأنه ليس له أن يدفعه إلا بأسهل ما يمكنه، ويمكنه التخلص منه هاهنا بالهرب.
و [الطريق الثاني] : منهم من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين.
فحيث قال: (يلزمه أن يهرب) ، إذا كان يتحقق أنه ينجو منه بذلك.
وحيث قال: (لا يلزمه) ، إذا كان لا يتحقق أنه ينجو منه بذلك.
و [الطريق الثالث] : منهم من قال: يُبنى ذلك على وجوب دفعه عن نفسه، فإن قلنا: يجب عليه الدفع.. لزمه أن يهرب، وإن قلنا: لا يجب عليه الدفع.. لم يلزمه أن يهرب.
فعلى هذا الطريق: يلزمه أن يهرب بحريمه إذا علم أن القاصد يطلب ذلك؛ لأنه يجب عليه أن يدفع عن حريمه.
وإن قصد رجل رجلا، فقاتله، فولَّى القاصد عنه.. لم يكن له اتباعه ورميه، فإن فعل.. لزمه ضمان ما جنى عليه؛ لأنه قد اندفع عنه.
وهكذا: إن دخل اللصوص داره وخرجوا منه.. لم يأخذوا شيئا من ماله، أو قصده قطاع الطريق، ثم انصرفوا عنه.. لم يكن له اتباعهم ولا رميهم؛ لما ذكره.(12/72)
[مسألة: صائل يمكن دفعه بالعصا فضربه بالسيف]
] : وإذا قصده رجل وأمكنه دفعه بالعصا، فضربه بالسيف، أو أمكنه دفعه بقطع عضو منه، فقتله.. وجب عليه الضمان؛ لأنه جنى عليه بغير حق، فهو كما لو جنى عليه قبل أن يقصده.
فإن أخذ رجل ماله.. فله أن يقاتله حتى يخلي ماله وإن أتى على نفسه، فلو طرح ماله وهرب.. فليس له أن يتبعه، فيضربه.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن اتبعه وقطع يده، وعلم أن قطع السرقة كان قد وجب عليه.. لم يضمن؛ لأن تلك اليد بعينها مستحقة في الإتلاف، بخلاف ما لو وجب عليه جلد الزِّنَا، فجلده غير الإمام.. فإنه يضمن؛ لأن الجلد مجتهد في كيفية إقامته، والمواضع التي تجلد من البدن، وشدة الضرب.
[فرع: قطع رجل يد صائل ونحوها]
] : فإن قصده رجل، فقطع المقصود يد القاصد، أو رجله، أو أثخنه بالجراح، فصار بحيث لا يمكنه قتله وقتاله.. لم يجز للمقصود أن يجيز عليه ولا يتبعه؛ لأنه قد صار لا يخاف منه، فإن قصده، فقطع يده، فولى القاصد، ثم اتبعه المقصود، فقطع يده الأخرى، فإن اندمل الجرحان.. لم يجب على المقصود ضمان اليد الأولى، ويجب عليه ضمان الثانية بالقصاص أو الدية؛ لأن الأولى مقطوعة بحق، والثانية بغير حق؛ وإن مات من الجراحتين.. لم يجب على المقصود قصاص في النفس؛ لأنه مات من جراحتين: إحداهما مباحة، والأخرى محظورة، فهو كما لو مات من قطع السرقة وجناية أخرى، وللولي أن يقتص من اليد الثانية، وإن عفا عنها.. كان له نصف الدية.
فإن قصده، فقطع يده فولَّى عنه، ثم قطع رجله، ثم قصده القاصد ثانيا، فقطع(12/73)
يده الأخرى، فإن اندملت الجراحات.. وجب عليه ضمان الرجل بالقصاص أو الدية، ولا يجب عليه ضمان قطع اليدين؛ وإن مات من الجراحات.. لم يجب عليه قصاص في النفس؛ لأنه مات من ثلاث جراحات بعضها لا يوجب القصاص، وللولي أن يقتص من رجل المقصود، فإن عفا عن القصاص فيها.. لم يجب له إلا ثلث الدية؛ لأنه مات من ثلاث جراحات: فالأولى مباحة، والثانية محظورة، والثالثة مباحة، فقسمت الدية عليها.
فإن قصده، فقطع يده، فلم يندفع عنه، فقطع يده الثانية، فولى القاصد، ثم تبعه المقصود، فقطع رجله، ومات من الجراحات.. لم يجب عليه القصاص في النفس، لما مَضَى، وللولي أن يقتص من الرجل، وإن عفا عنها.. وجب له نصف الدية.
والفرق بينها وبين التي قبلها: أن الجراحتين المباحتين متواليتان، فكانتا كالجناية الواحدة، وفي الأولى: لما ولى بعد الجراحة الأولى.. استقر حكمها، فلما جرحه بعد أن ولى عنه جراحة ثانية وقعت محظورة.. فاستقر حكمها، فلما جرحه الثالثة في حال قصده.. استقر حكمها، فقسطت الدية عليها.
وإن قصده، فقطع يده، فولى عنه، ثم تبعه فقتله.. كان لوليه القصاص في النفس؛ لأنه لما ولى عنه.. لم يكن له قتله.
قال الطبري في " العُدة ": ولورثة المقصود أن يرجعوا في تركة القاصدة بنصف الدية؛ لأن القصاص سقط عنه بهلاكه.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أنهم لا يرجعون بشيء، كما لو اقتص منه بقطع يده، ثم قتله. ولأن النفس لا تنقص بنقصان اليد؛ ولهذا: لو قتل رجل له يدان رجلا ليس له إلا يد.. قتل به، ولا شيء لورثة القاتل.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وسواء كان القاصد صغيرا أو كبيرا، عاقلا أو مجنونا، ذكرا أو أنثى.. فله أن يدفعه عن نفسه؛ لأنه إنما جوز له ذلك؛ لأنه يخافه على نفسه، وهذا المعنى موجود في جميع هؤلاء) .(12/74)
[فرع: عض يد رجل فندرت سنه]
] : وإن عض رجل يد رجل، وانتزع المعضوض يده، فندرت ثنية العاض أو انكسرت.. فلا شيء على المعضوض، وبه قال أكثر أهل العلم، إلا ابن أبي ليلى، فإنه قال: يجب عليه الضمان.
دليلنا: ما «رَوَى يعلى بن أمية، أنه خرج مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، وكان له أجير، فخاصم رجلا، فعض أحدهما يد صاحبه، فانتزع يده من فم العاض، فذهبت ثنيته، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخبره بذلك، فأهدر ثنيته، وقال: " أيدع يده في فيك تعضها كأنها فِي فيْ فحل» .
ورُوِي: (أن رجلا خاصم رجلا، فعض يده، فانتزع يده من فيه، فانكسرت ثنيته، فرفع إلى أبي بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأهدرها) .
ولأن حرمة النفس آكد من حرمة السن. ثم ثبت أنه لو قصد قتله فلم يمكنه دفعه عن(12/75)
نفسه إلا بقتله، فقتله.. لم يلزمه ضمانه، فلأن لا يلزمه ضمان السن أولى.
فإن لم يمكنه أن ينتزع يده إلا بأن يفك لحييه.. فله أن يفك لحييه، فإن لم يمكنه ذلك إلا بان يبعج جوفه.. كان له ذلك.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن عض رجل قفا رجل.. فإنه ينزع ذلك من فيه، فإن لم يمكنه.. فله أن يضربه برأسه مصعدا أو منحدرا، فإن لم يتخلص منه.. فله أن يضرب فكه بيديه، فإن لم يتخلص منه.. فله أن يبعج بطنه، فإن قتله.. فلا شيء عليه) . هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لو وجأه بسكين فقتله.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه يضمن) ، فأخطأ بعض أصحابنا وأجرى ذلك على ظاهره، وقال: يضمن الطاعن وإن لم يمكنه الدفع إلا به؛ لأن القاصد قصده بغير سلاح، فليس له دفعه بالسلاح. والمذهب الأول: أنه لا ضمان عليه؛ لأنه لا يمكنه تخليص نفسه منه إلا بذلك، والنص محمول عليه إذا أمكنه دفعه بغير القتل، فقتله.
[فرع: تجارحا فالقول قول كل واحد مع يمينه ويضمناه]
وإن تجارح رجلان، وادعى كل واحد منهما، أن الآخر قصده وجرحه دفعا عن نفسه، وأنكر الآخر.. فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه: أنه ما قصد صاحبه؛ لأن الأصل عدم القصد، ويجب على كل واحد منهما ضمان جراحته.(12/76)
[مسألة: تعين القتل على من رأى شخصا يزني بحريمه]
] : وإن وجد رجلا يزني بامرأته، أو بأمته ولم يمكنه دفعه إلا بقتله.. فله أن يقتله، بكرا كان الزاني أو محصنا؛ لأنه إذا جاز له قتله إذا لم يندفع عن ماله إلا بقتله.. فلأن يجوز له في حريمه أولى.
وإن اندفع عنها بغير القتل، فقتله.. نظرت:
فإن كان الزاني بكرا.. وجب على القاتل القصاص.
وإن كان الزاني محصنا.. لم يجب عليه القصاص فيما بينه وبين الله تَعالَى؛ لأنه مستحق للقتل، فهو كالمرتد، وأمَّا في الظاهر: فإنه يجب عليه القصاص إلا أن يصادقه الولي أنه زنَى وهو محصن، أو أقام البينة على زناه وإحصانه؛ لما رَوَى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن سعدا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا، أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نعم» . وفي رواية: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " كفى بالسيف شاهدا ". وقال: " لولا أن يتتابع فيه الغيران والسكران ". ثم قال: " أمهله حتى تأتي بأربعة شهداء» فأراد(12/77)
أن يقول: شاهدا، فأمسك، وأمره أن لا يقتله حتى يأتي بأربعة شهداء، فدلَّ على: أنه لا يجوز قتله قبل ذلك.
ورَوي: (أن رجلا قتل رجلا بالشام، وادعى: أنه وجده مع امرأته، فرفع إلى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأشكل عليه الحكم في ذلك، فكتب إلى أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ليسأل عنه عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه - فسأله عنه، فقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: ما هذا شيء كان بأرضنا، عزمت عليك لتخبرني به، فقال: كتب إلي معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسألني أن أسألك عنه، فقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه -: أنا أبُو حسن، إن جاء بأربعة شهداء، وإلا.. فليعط برمته) . ولا مخالف له، فدلَّ على: أنه إجماع.
[مسألة: صيال البهائم]
] : إذا صال على الرجل فحل من البهائم، فخافه على نفسه، ولم يمكنه دفعه عن نفسه إلا بقتله، فقتله.. فلا يجب عليه ضمانه، وبه قال ربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، رحمة الله عليهم.(12/78)
وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز له قتله، ولكن يجب عليه ضمانه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91] [التوبة: 91] ، وهذا محسن بقتله البهيمة.
ولأنه لو قصده آدمي، ولم يمكنه دفعه إلا بقتله، فقتله.. لم يجب عليه ضمانه، فلأن لا يجب عليه ضمان البهيمة أولى.
[مسألة: الاطلاع إلى عورة يسقط الضمان]
] : وإن اطلع رجل أجنبي على بيت رجل من شق أو جحر، فنظر إلى حريمه.. فله أن يرمي عينه بما يفقؤها من حصاة أو شيء خفيف، فإذا فقأها.. فلا ضمان عليه.
وقال أبُو حَنِيفَة: (ليس له أن يرميه بذلك، فإن فعل وفقأ عينه.. لزمه الضمان) .
دليلنا: ما رَوَى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن امرأ اطلع عليك، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه.. فلا جناح عليك» .
ورَوَى سهل بن سعد الساعدي: «أن رجلا اطلع من جحر في حجرة النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان في يد النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدرى يحك به رأسه، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لو علمت أنك تنظر.. لطعنت بها عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» .(12/79)
وهل له أن يرميه قبل أن ينهاه عن النظر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له، كما لا يجوز له قتل من يقصده إذا اندفع بغير القتل.
والثاني: يجوز له؛ للخبر.
[فرع: النظر لمن يحل له النظر]
] : قال المسعودي [" في الإبانة "] : ولو كان للناظر زوجة في الدار ينظر إليها أو محرم.. فليس لصاحب الدار فقؤ عينه، فإن فعل.. ضمن؛ لأن للناظر شبهة في النظر. قال: وإن كان لصاحب الدار حرم في الدار مستترات.. فهل له فقؤ عيني الناظر إليهن؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك، فإن فعل.. ضمن؛ لأنه لا أذى على صاحب الدار بنظر إلى الحرام المستترات.
والثاني: له فقؤ عين الناظر إليهن؛ لأن الإنسان يتأذى بنظر غيره إلى حرمه وإن كن مستترات.
وإن كان الناظر امرأة.. قال المسعودي [في " الإبانة "] : فلصاحب الدار فقؤ عينها؛ لأن الإنسان قد يستر حريمه عن نظر الرجال والنساء.
وإن كان المطلع أعمى.. لم يكن له رميه؛ لأنه لا ينظر.
وإن كان المطلع على داره ذا رحم محرم لحريمه، فإن كان حريمه مستترات.. لم(12/80)
يكن له رميه؛ لأنه غير ممنوع من نظرهن، وإن كن متجردات.. فله رميه؛ لأنه ممنوع من نظرهن متجردات.
وسواء وقف الناظر في ملك نفسه، أو في ملك صاحب الدار، أو في قارعة الطريق، وجعل ينظر.. فله رميه؛ لأن الأذى يحصل بنظره، وذلك يحصل منه، ولا اعتبار بالموضع الذي هو واقف فيه.
فإن أخطأ الناظر النظر إلى حريم رجل.. لم يكن له رميه مع العلم بحاله؛ لأن الرمي عقوبة على قصد الاطلاع والنظر، ولم يوجد منه ذلك، فإن رماه حين اطلع، فأصاب عينه، ثم قال المطلع: لم أقصد الاطلاع والنظر، وقال الرامي: بل قصدت ذلك.. فالقول قول الرامي مع يمينه؛ لأن الظاهر ممن اطلع في دار غيره أنه قصد النظر.
فإن نظر إلى حريمه من باب مفتوح أو كوة واسعة، فإن نظر وهو على اجتيازه.. لم يكن لصاحب الدار رميه؛ لأن المفرط هو صاحب الدار بفتح الباب وتوسيع الكوة، وإن وقف وجعل ينظر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له رميه؛ لأنه مفرط في الاطلاع والنظر، فهو كما لو قصد إلى النظر من حجر.
والثاني: لا يجوز له رميه؛ لأن صاحب الدار فرط في فتح الباب وتوسعة الكوة.
ولو لم يكن في الدار المنظور فيها حريم لصاحب الدار، ففقأ عين من ينظر فيها.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] .
أحدهما ـ وهو قول البغداديين من أصحابنا ـ: أنه يضمن؛ لأن الإنسان إنما يستضر بنظر غيره إلى حريمه، وإلى حريم غيره.
الثاني: لا يضمن؛ لأن الرجل قد يستتر أيضا عن أبصار الناس، كما يستر(12/81)
فإن كان حريم رجل في الطريق، فنظر غيره إليهن.. لم يكن لصاحب الحريم رميه؛ لأن الموضع الذي فيه الحريم مباح يملك كل واحد النظر إليه، فلم يستحق إتلاف عضو الناظر إليه.
[فرع: يرمى المطلع على حريم بشيء خفيف]
] : وإذا اطلع رجل على داره، ونظر حريمه.. فليس له رمي عينه إلا بشيء خفيف يفقأ عينه، فإن رمى عينه بشيء خفيف، ففقأها وسرى إلى نفسه.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنه مات من جناية مباحة، إن رماه بشيء ثقيل، فهشم وجهة وسرى إلى نفسه.. لزمه الضمان؛ لأنه ليس له رميه بما يودي إلى إتلاف نفسه.
إن رمى غير عينه، فأصابه.. وجب عليه الضمان؛ لأن المتعدي هي العين، فلم يجز له إتلاف غيرها.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إلا أن يكون الناظر بعيدا، فرمى عينه وقصدها، فأصابت موضعا آخر، فحينئذ لا يضمن.
فإن اطلع رجل على حريم غيره في داره، فقبل أن يرميه صاحب الدار، انصرف المطلع.. لم يكن لصاحب الدار أن يتبعه ويرميه؛ لأنه إنما يجوز ليصرفه، فإذا انصرف.. لم يكن له رميه بعد ذلك.
فإن رمى المطلع على داره، فلم ينصرف.. استغاث عليه بالناس، فإن انصرف عنه بالغوث.. فلا كلام، وإن لم ينصرف بذلك.. كان له أن يصرفه بما يصرف به من قصد نفسه أو ماله، حتى لو لم ينصرف إلا بقتله، فقتله.. فلا شيء عليه؛ لأنه تلف بدفع جائز.(12/82)
[مسألة: دخل دارا فأمره صاحبها بالخروج]
] : فإن دخل رجل دار غيره بغير إذنه.. أمره صاحب الدار بالخروج، فإن لم يخرج.. خوفه بالله تَعالَى، فإن لم يخرج.. استغاث عليه بالناس، فإن لم يخرج بالغوث.. فله أن يدفعه باليد، فإن لم يخرج.. فله ضربه، فإن لم يخرج إلا بضرب يودي إلى قتله، فقتله.. فلا شيء عليه، كما قلنا فيمن قصد نفسه أو ماله، وبأي عضو يبدأ بضربه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يبدأ بضرب رجله؛ لأنها هي الجانية، فبدأ بإتلافها، كما يبدأ بإتلاف عين الناظر؛ لأنها هي الجانية.
والثاني: له أن يبدأ بأي عضو أمكنه من بدنه؛ لأنه دخل بجميع بدنه، فجميع بدنه في تحريم الدخول سواء.
فإن دخل رجل داره، فقتله، فادعى القاتل: أنه قتله للدفاع عن داره، وأنكر ولي المقتول ذلك.. لم يقبل قول القاتل من غير بينة؛ لأن القتل متحقق، وما يدعيه خلاف الظاهر، وإن أقام بينة: أنه دخل داره مقبلا عليه بسلاح شاهر.. لم يضمن؛ لأن الظاهر أنه قصد قتله، وإن أقام بينة: أنه دخل داره بسلاح غير شاهر.. ضمنه بالقود أو الدية؛ لأن القتل متحقق، وليس هاهنا ما يدفعه.
[فرع: إزالة المنكر تبيح اقتحام البيوت وقتالهم]
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو أعلم بخمر في بيت رجل أو طنبور، أو علم بشربه أو ضربه.. فله أن يهجم على صاحب البيت بيته، ويريق الخمر، ويفصل(12/83)
الطنبور، ويمنعه من شرب الخمر والضرب، فإن لم ينته أهل الدار.. فله قتالهم، وإن أتى القتال عليهم.. فهو مثاب على ذلك.
[مسألة: ضمان ما تتلف البهائم]
وإن أفسدت ماشيته زرعا لغيره.. نظرت:
فإن لم يكن عليها يد لمالكها ولا لغيره.. فقد اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن أتلفت ذلك نهارا.. لم يجب على مالكها الضمان، وإن أتلفته ليلا.. وجب على مالكها الضمان، لما «رَوَى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (كانت لي ناقة ضارية، فدخلت حائطا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن على أهل الحوائط حفظها نهارا، وعلى أهل المواشي حفظها ليلا، وإن عليهم ضمان ما تتلفه مواشيهم ليلا» .
ومن أصحابنا من قال: إن كان في بلد لها مرعى في موات حول البلد.. لم يجب على مالك الماشية حفظها بالنهار، بل على أهل الزرع حفظ الزرع نهارا، وإن كان في بلد يكون الرعي في حريم السواقي وحوالي الزرع، ويعلم صاحب الماشية أنه متى(12/84)
أطلق ماشيته دخلت زرع غيره وأفسدته.. فعليه حفظ ماشيته نهارا.
وأمَّا بالليل: فإن كان في بلد ليس لبساتينها ومزارعها حيطان.. فإنه يجب على مالك الماشية حفظ ماشيته ليلا. وإن كان في بلد لبساتينها ومزارعها حيطان.. فعلى صاحب البستان والزرع إغلاق باب بستانه ومزرعته، فإن لم يغلقه.. فلا ضمان على رب الماشية فيما أتلفته من ذلك ليلا، إلا أن يكون صاحب البستان قد أغلق الباب، ولكن الماشية اقتحمت فدخلت، فيجب على مالكها الضمان. وتأول هذا القائل الخبر على: أنه كان للمدينة مراع حولها ولا حيطان على بساتينها.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يعتبر عرف البلد؛ فلو جرت عادة أهل البلد: أن لا يرسلوا النعم نهارا إلا مع راع يحفظها، وأن لا يحفظ أصحاب الزرع زرعهم نهارا، فأفسدت نعم رجل زرعا نهارا.. ضمن مالكها.
والأول هو المشهور؛ لأن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفرق، ولأن العادة جرت: أن أرباب الزرع يحفظون زروعهم نهارا، فإذا أتلفت الماشية نهارا.. نسب التفريط إلى صاحب الزرع. وجرت العادة: أن أرباب الماشية يحفظونها ليلا، فإذا أتلفت زرعا بالليل.. كان التفريط من أصحاب الماشية، فكان عليهم الضمان.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب على رب الماشية ضمان ما تتلفه ماشيته، نهارا كان أو ليلا، إذا لم يكن معها) .
ودليلنا عليه: ما مَضَى.
وإن أغلق الباب على ماشيته بالليل، فانهدم الحائط، وخرجت الماشية من غير علم صاحبها، وأتلفت على غيره زرعا أو مالا.. لم يجب على مالكها ضمانه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العجماء جبار» و (العجماء) : الدابة. و (جبار) : هَدَر. ولأنه(12/85)
غير مفرط بذلك، فلم يلزمه الضمان. فأما إذا كانت يد صاحب الماشية عليها، أو يد غيره عليها. إما أجيرا عليها، أو مستأجرا لها، أو مستعيرا لها، أو مودعة عنده، أو مغصوبة عنده، فأتلفت شيئا بيدها أو رجلها أو نابها.. فضمان ذلك على من كانت يده عليها، سواء كان ذلك ليلا أو نهارا، وسواء كان راكبا لها أو سائقا أو قائدا، أو كان راكبا لدابة وسائقا لغيرها، أو كان معه قطار يقوده أو يسوقه.. فعليه ضمان ما يتلفه الجميع؛ لأن يده على الجميع.
ووافقنا أبُو حَنِيفَة إذا كان سائقا لها، فأما إذا كان راكبها أو قائدها.. فقال: (عليه ضمان ما تتلفه، بيدها أو بفيها، فأما ما تتلفه برجلها أو بذنبها.. فلا يلزمه ضمانه) .
دليلنا: أن يده ثابتة عليها، فكانت جنايتها كجنايته، فوجب عليه ضمانه كما يجب ضمان ما أتلف بنفسه، أو ما أتلفت بيدها أو بفيها عند أبي حَنِيفَة.
[فرع: ضمان ما تتلفه الدابة]
على سائقها وقائدها] : وإن كان مع الدابة قائد وسائق.. كان ضمان ما أتلفت عليهما بالسوية؛ لأن يدهما عليها، وإن كان عليها راكب وسائق.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصبَّاغ:
أحدهما: أن الضمان عليهما؛ لأن كل واحد منهما لو انفرد.. ضمن ما أتلفت، فإذا اجتمعا.. استويا في الضمان، كالسائق والقائد.
والثاني: أن الضمان على الراكب وحده؛ لأن يده أقوى عليها، وهو أقوى تصرفا بها. قال: والأول أقيس.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو كان في يده دابة، فهربت غالبة له، فأتلفت(12/86)
شيئا.. لم يضمن؛ لأنه ليس بمفرط، وإن كان راكبا لها، فعضت على اللجام وركبت رأسها غالبة له، فأتلفت شيئا.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يضمنه كما لو لم يكن راكبا لها، فانفلتت منه، وأتلفت شيئا.
والثاني: يضمنه؛ لأن الراكب يكون معه سوط يصرف بذلك مركوبه، فإذا لم يكن معه هذه الآلة.. فهو مفرط، وإن غلبته مع ذلك.. فهو مفرط أيضا، حيث لم يروضها للركوب.
وذكر صاحب " التلخيص " في الدابة إذا غلبت صاحبها قولين، سواء كان راكبا لها أو غير راكب لها، كما قلنا في السفينتين إذا تصادمتا من غير تفريط من القيمين.
قال الطبري: وعلى هذا خرج أصحابنا إذا سد باب بيته بالليل، ففتحت الدابة الباب، فانفلتت، فأفسدت زرع إنسان.. هل على صاحبها الضمان؟ على وجهين من هذين القولين.
وإن أركب رجل صبيا دابة، فأتلفت شيئا والصبي راكب عليها، فإن أركبه أجنبي.. كان الضمان على الذي أركبه؛ لأنه تعدى بالإركاب، وإن أركبه وليه أو الوصي عليه لمصلحة الصبي، بأن يضعف الصبي عن المشي.. كان ضمان ما تتلفه البهيمة على الصبي دون الولي والوصي، وإن لم يكن للصبي في الإركاب مصلحة.. كان الضمان على الولي أو الوصي.
[فرع: ربط دابة في طريق ونحوه فأتلفت شيئا]
] : وإن ربط دابة أو أوقفها في غير ملكه أو في طريق المسلمين، فأتلفت شيئا.. وجب عليه ضمانه، سواء كان معها أو غائبا عنها، وسواء كان الطريق واسعا أو ضيقا؛ لأنه إنما يملك الارتفاق بطريق المسلمين بشرط السلامة، فأما إذا أفضى إلى التلف.. وجب عليه الضمان، كما لو أخرج إلى أهل الطريق روشنا أو جناحا، فوقع على إنسان، فأتلفه. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [" في الإبانة "] : إن كان الطريق ضيقا، بحيث لا يوقف بمثله..(12/87)
ضمن ما أتلفته؛ لأن مثل هذا الطريق لا توقف فيه الدواب، وإن كان واسعا.. لم يضمن؛ لأنه لا يضر وقوفها، وهو غير متعد بوقوفها فيه.
وأمَّا إذا ربط الدابة أو أوقفها في ملكه أو في موات.. لم يجب عليه ضمان ما أتلفته؛ لأن له التصرف في ملكه وفي الموات على الإطلاق، كما لو وقف في ملكه، فعثر به إنسان، فمات.
وإذا كان مع الدابة ولدها.. فحكمه حكم أمه في ذلك.
[فرع: نخس دابة مركوبة فقتلت أو كسرت فعليه الضمان]
] : قال في " الإفصاح ": إذا كان الرجل راكبا لدابة، فجاء آخر فنخسها، فرفست إنسانا فقتلته.. كان الضمان على الذي نخسها دون الراكب؛ لأنه هو الذي حملها على ذلك.
[فرع: ابتلاع الدابة جوهرة لرجل]
] : وإن مرت بهيمة بجوهرة لرجل؛ فابتلعتها، فإن كان على الدابة يد مالكها أو غيره ... وجب ضمان الجوهرة على صاحب اليد.
وقال أبُو علي بن أبي هُرَيرَة: إن كانت شاة.. لم يضمن، وإن كان بعيرا.. ضمن؛ لأن العادة جرت في البعير أن يضبط وفي الشاة أن ترسل. وهذا خطأ؛ لأن فعلها منسوب إليه، ولأنه لا فرق في الزرع بين الجميع، فكذلك في غير الزرع.
وإن لم يكن عليها يد لأحد.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي علي بن أبي هُرَيرَة ـ: إن كان ذلك نهارا.. لم يضمن صاحبها، وإن كان ليلا.. ضمن، كما قلنا في الزرع.
والثاني ـ وهو قول القاضي أبي حسن الماوردي: أنه يضمن، ليلا كان أو نهارا؛ لأن رعي الزرع مألوف، فلزم صاحبه حفظه منها، وابتلاع الجوهرة غير مألوف، فلم يلزم صاحبها حفظها.(12/88)
فعلى هذا: إن كانت البهيمة غير مأكولة، وطلب صاحب الجوهرة ذبحها بإخراج الجوهرة.. لم تذبح، بل يغرم مالكها قيمة الجوهرة، فإن دفع القيمة، ثم ماتت البهيمة، وأخرجت الجوهرة من جوفها.. وجب ردها إلى مالكها، واسترجعت القيمة منه، فإن نقصت قيمتها.. ضمن صاحب البهيمة ما نقصت من قيمتها.
وإن كانت البهيمة مأكولة.. فهل يجب ذبحها؟ فيه وجهان، بناء على القولين فيمن غصب خيطا، وخاط به جرح حيوان مأكول.
[فرع: ضمان ما يؤذيه الكلب أو يأكله السنور من الطير]
] : وإن كان له كلب عقور أو سنور يأكل حمام الناس.. لزمه ربطهما وحفظهما، فإن أطلقهما.. وجب ضمان ما أتلفا من ذلك، ليلا كان أو نهارا؛ لأنه مفرط في ترك حفظهما.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه لا يلزمه ذلك ليلا أو نهارا؛ لأن العادة لم تجر بتقييد الكلاب والسنانير في البيوت. والمشهور هو الأول. وإن كانا غير معروفين بذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنهما كغيرهما من البهائم، على ما مَضَى.
والثاني: لا يجب عليه ضمان ما أتلفا؛ لأن العادة لم تجر بتقييدهما وحفظهما.
وإن ربط في داره كلبا، فدخل رجل داره بغير إذنه، فأكله الكلب، فإن لم يشل الكلب عليه.. فلا ضمان عليه؛ لأن المفرط هو الداخل، وإن أشلى عليه الكلب.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو حامد:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق ـ: أنه يلزمه الضمان؛ لأن يده على الكلب، فهو(12/89)
كآلة له، فإذا أشلاه عليه، فجنى عليه.. كان كما لو جنى عليه بيده.
والثاني: لا يلزمه الضمان؛ لأن الكلب له قصد واختيار، فكانت جنايته عليه باختياره.
وإن دخل الدار بإذن صاحب الدار، فإن أعلمه صاحب الدار أن الكلب عقور، أو ربط دابة عضوضا، فأذن له بالدخول وأعلمه بإعضاضها، فأكله الكلب أو عضته الدابة.. لم يجب على صاحب الدار الضمان؛ لأنه لم يفرط حيث أعلمه.
وإن أذن له ولم يعلمه بعقر الكلب وإعضاض الدابة، فعقره الكلب أو عضته الدابة.. فهل يجب على صاحب الدار الضمان؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يضمن؛ لأنه غير مفرط في ربطها بملكه.
والثاني: يضمن؛ لأنه لما أذن له في الدخول.. فقد صارت الدار للداخل في حكم ملكه أو في حكم الموات.
[فرع: التقاط الطائر حب جاره أو غيره]
] : قال ابن الصبَّاغ: إذا كان له طير، فأرسله، فلقط حبا لغيره.. لم يضمنه؛ لأن تخلية الطير بالنهار معتادة.
والله أعلم بالصواب.(12/90)
[كتاب السير](12/91)
كتاب السير قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لما مضت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مدة من هجرته.. أنعم الله فيها على جماعات باتباعه، حدثت لهم ـ مع عون الله ـ قوة بالعدد لم يكن قبلها فرض الله عليهم الجهاد) .
وجملة ذلك: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قبل أن يبعث متمسكا بدين إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ولم يعبد صنما ولا وثنا؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما كفر بالله نبي قط» .
فـ: «أول ما ابتدأه الله بالوحي: بالمنامات الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وكان قد حببت إليه الخلوة، وكان يصعد إلى حراء ـ جبل(12/93)
بمكة ـ وكان كل شجر وحجر مر به يقول له: السلام عليك يا رسول الله، فلا يرى أحدا ففزع من ذلك.. فبينما هو ذات يوم إذ أتاه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال: يا محمد، اقرأ. فقال: " وما أقرأ؟ قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] [العلق: 1 - 2] ، ففزع من ذلك وراح إلى بيت خديجة، فقال: (زملوني دثروني) ، وأخبر خديجة قصته، وقال: (أتاني شخص، أترين بي جنة؟) قالت له: ما كان الله ليفعل بك هذا، ثم قالت له: إذا جاءك فعرفني. فلما جاء جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.. قال لها: " قد جاءني " فجاءت وأقعدته على فخذها الأيمن، وقالت له: أين هو؟ قال: " واقف "، فدارته إلى فخذها الأيسر، وقالت: أين هو؟ قال: " واقف "، فكشفت عن رأسها وقالت: أين هو؟ قال: " قد غاب " قالت له: أبشر، فإنه ملك؛ حيث(12/94)
غاب عندما كشفت العورة، ولو كان شيطانا.. لم يغب لذلك» .
ثم أمره الله تَعالَى بالإنذار وأن يدعو الناس إلى الله، فقال تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] [المدثر: 1 - 4] وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] [الكافرون: 1] إلى آخرها، وقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] [الشعراء: 214] .
«وكان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتخوف أن يدعو قريشا إلى الله فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] [المائدة: 67] ، فضمن له العصمة من الناس، فقام النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجمع قومه ودعاهم إلى الله تَعالَى، فقال أبُو لهب: ألهذا دعوتنا، تبا لهذا الحديث، فأنزل الله تَعالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] [المسد: 1] إلى آخرها» . فأمره الله تَعالَى بالإعراض عنهم، فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] [الأنعام: 68] وقال تَعالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} [الأنعام: 108] الآية [الأنعام: 108] ، فكان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض عنهم، فكثر تأذي النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فأذن الله تَعالَى لهم في الهجرة، ولم يوجبها عليهم، فقال تَعالَى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100] الآية [النساء: 100] فهاجر بعض أصحاب النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الحبشة، وبعضهم(12/95)
إلى الشام، وتفرقوا. وكان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج في المواسم ومعه أبُو بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيعرض نفسه على قبائل العرب، فلم يقبله أحد حتى قدم مكة الأوس والخزرج ـ قوم من المدينة ـ فعرض النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفسه عليهم، فقالوا: وراءنا رهط من قومنا، وإنا نرجع إليهم ونعرفهم ذلك، فإن قبلوك.. انتقلت إلينا ونصرناك. فلما رجعوا إلى المدينة.. أخبروا قومهم به وعرفوهم حالة فقبلوه. فلما كان وقت الموسم.. قدموا مكة، وقالوا: قد أخبرنا قومنا بخبرك فقبلوك، فسر معنا. فوجه معهم مصعب بن عمير؛ ليعلمهم الإسلام، فعلمهم الإسلام، وكان يصَلَّى بهم.
ثم هاجر النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم، فلما استقر بالمدينة، وأسلم خلق كثير، أذن لهم الله تَعالَى بالقتال، ولم يفرضه عليهم بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] الآية [الحج: 39] ، فلما كثر المسلمون واشتدت شوكتهم بعد مدة.. فرض الله عليهم القتال، فقال عز وجل: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41] [التوبة: 41] وقال عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] وقال تَعالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، وفي ذلك آي كثير.
فهذا معنى قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لما مضت برسول الله مدة من هجرته) إلى آخر كلامه.
ثم أوجب الله على من بقي من المسلمين مع الكفار الهجرة، وقيل - إن سبب وجوبها -: أن قريشا لما خرجوا إلى بدر لقتال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. أكرهوا من معهم من المسلمين على الخروج معهم والقتال، فقيل: إنه قتل من المسلمين الذين معهم ناس، فقال الله تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] [النساء: 97] الآية، فتواعدهم على ترك الهجرة، والتواعد لا يكون إلا على واجب. وقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(12/96)
«أنا بريء من كل مسلم مع مشرك» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسلم والكافر: «لا تراءى ناراهما» .
إذا ثبت هذا: فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:
أحدهما: أن يكون ممن أسلم وله عشيرة تمنع منه، ولكنه يقدر على الهجرة، ويقدر على إظهار دينه، ولا يخاف الفتنة في دينه.. فهذا يستحب له أن يهاجر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] [المائدة: 51] ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تراءى ناراهما» . ولا تجب عليه الهجرة.
والضرب الثاني: أن يكون ممن أسلم ولا عشيرة له تمنع منه، ولا يقدر على الهجرة لعجزه عن المشي، ولا له مال يمكنه أن يكتري منه ما يحمله.. فهذا لا تجب عليه الهجرة، بل يجوز له المقام مع الكفار.(12/97)
والضرب الثالث: أن يكون ممن أسلم ولا عشيرة له تمنع منه، ولكنه يقدر على الهجرة بالمشي، وله مال يمكنه أن يكتري منه ما يحمله.. فهذا تجب عليه الهجرة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] [النساء: 97] الآية. فأخبر الله: أن من كان مستضعفا بين المشركين وهو يقدر على الخروج من بينهم فلم يفعل.. فإن مأواه النار. فدليل خطابه: أن من لم يكن مستضعفا بينهم، بل يتمكن من إظهار دينه.. أنه لا شيء عليه، فثبت وجوب الهجرة على المستضعف الذي يقدر على الخروج بنص الآية، وسقوط الهجرة عمن ليس بمستضعف بدليل خطابها، ثم استثنى فقال: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] [النساء: 98] الآية، فأخبر: أن المستضعف الذي لا يقدر على الخروج خارج من الوعيد.
فإن وجبت الهجرة على رجل من بلد، ففتح ذلك البلد وصار دار إسلام.. لم تجب عليه الهجرة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح» وأراد به: لا هجرة من مكة(12/98)
بعد أن فتحت، ولم يرد: أن الهجرة تنقطع من جميع البلاد بفتح مكة؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» .
[مسألة: الجهاد فرض على الكفاية وماذا لو كان في الأشهر الحرم؟]
؟] : الجهاد فرض من فروض الكفاية منذ فرضه الله تَعالَى إلى وقتنا هذا. فإذا قام به بعض المسلمين.. سقط الفرض عن الباقين.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه كان فرضا على الأعيان في أول الإسلام لقلتهم. والأول هو المشهور.
وقال ابن المسيب: هو فرض على الأعيان في كل زمان.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى:(12/99)
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] [النساء: 95] الآية، فمنها دليلان:
أحدهما: أنه فاضل بين المجاهدين والقاعدين، والمفاضلة لا تكون إلا بين جائزين.
والثاني: قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] [النساء: 95] ، فلو كان القاعد تاركا لفرض.. لما وعد بالحسنى. ولـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عام بدر وأحد، وبقي ناس لم يخرجوا معه، فلم ينكر عليهم» . وقد: «كان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج بنفسه تارة، وتارة يبعث بالسرايا» . فدلَّ على أنه ليس بفرض على الأعيان. وبعث النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني لحيان، وقال: «ليخرج من كل رجلين رجل، ويخلف الآخر الغازي في أهله وماله» . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير.. كان له مثل نصف أجر الخارج» . ورُوِي: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جهز غازيا.. فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله وماله بخير.. فقد غزا» . ولأنا لو قلنا: إنه فرض على الأعيان.. لانقطع الناس به عن معاشهم، فدخل الضرر عليهم.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن دخل المشركون بلدا من بلاد الإسلام.. وجب الجهاد على أعيان من يقرب عن ذلك البلد.(12/100)
أراد: وإن لم يجد زادا وراحلة. قال: ويجب الجهاد على أعيان من كان بعيدا من ذلك البلد إذا وجد الزاد والراحلة، وهل يجب على أعيان من كان بعيدا من ذلك البلد وإن لم يجدوا زادا ولا راحلة؟ فيه وجهان.
أحدهما: يجب على أعيانهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] [التوبة: 41] ، فيجب عليهم أن يتحركوا للقتال.
والثاني: لا يجب عليهم؛ لأن عليهم مشقة عظيمة في ذلك، فلم يجب عليهم، كما لا يجب عليهم الحج.
إذا ثبت هذا: فإن الجهاد في سبيل الله كان محرما في الأشهر الحرم في أول الإسلام، وفي البلد الحرام إلا إن ابتدئوا بالقتال.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 217] [البقرة: 217] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] [البقرة: 191] .
ثم نسخ ذلك كله، فقال تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] ، ولم يفرق. ولـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الطائف في ذي القعدة فقاتلهم، وسار إلى مكة ليفتحها من غير أن يبدؤوه بقتال» .
[فرع: يستحب للإمام أن يكثر من الجهاد إذا توفرت أمور]
] : ومتى علم الإمام في المسلمين قوة، وعددا، وقوة نية في القتال.. فالمستحب له: أن يكثر من الجهاد؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال:(12/101)
" الإيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيل الله» . وروى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والذي نفسي بيده، لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا» ، فكان أبُو هُرَيرَة، يقول ثلاثا: أشهد.
ورَوَى أبُو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيا.. وجبت له الجنة "، فقال: أعدها يا رسول الله، ففعل، ثم قال: " وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا سبعا وعشرين غزوة، وبعث خمسا وثلاثين سرية» .(12/102)
وأقل ما يجزئ الإمام أن يغزو بنفسه أو بسراياه في السنة مرة؛ لأن الجهاد يسقط ببذل الجزية، والجزية تجب في كل سنة مرة، فكذلك الجهاد، فإن دعت الحاجة إلى القتال في السنة أكثر من مرة.. وجب ذلك.
وإن علم الإمام في المسلمين قلة عدد، أو ضعفا في نياتهم، أو فيما يحتاجون إليه.. جاز له أن يؤخر الجهاد أكثر من سنة إلى أن يكثر عددهم، وتقوى نياتهم أو يوجد ما يحتاج إليه في القتال؛ لأن القصد بالقتال النكاية في العدو، فإذا قاتلهم مع وجود هذه الأشياء.. لم يؤمن أن تكون النكاية في المسلمين.
[مسألة: لا يجاهد عن غيره بعوض ولا بغير عوض]
] : ولا يجوز أن يجاهد أحد عن غيره بعوض ولا بغير عوض. فإن فعل.. وقع الجهاد عن المجاهد، ووجب عليه رد العوض؛ لأن الجهاد فرض على الكفاية، فإذا حضر المجاهد الصف.. تعين عليه الجهاد بنفسه ولم يقع عن غيره، كما لو استأجر شخصا يحج عنه من لم يحج عن نفسه.
[مسألة: الجهاد على الرجال الأحرار دون غيرهم]
] : ولا يجب على المرأة الجهاد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] [الأنفال: 65] ، وهذا خطاب للذكور. ورُوِي: «أن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سألت رسول الله: هل على النساء جهاد؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " جهادكن الحج " أو قال: " حسبكن الحج» .(12/103)
ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى امرأة مقتولة، فقال: " ما بالها تقتل وإنها لا تقاتل؟!» .
ولا يجب الجهاد على الخنثى المشكل؛ لجواز أن يكون امرأة.
ولا يجب الجهاد على العبد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] [التوبة: 41] ، والعبد لا مال له، ولقوله تَعالَى:(12/104)
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] [التوبة: 91] ، والعبد لا يجد ما ينفق. ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جاءه من يسلم ولم يعرفه قال له: " أحر أنت أو عبد؟» ، فإن قال: حر.. بايعه على الإسلام والجهاد. وإن قال: عبد.. بايعه على الإسلام فقط. «وروى عبد الله بن عامر قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزاة، فمررنا بقوم من مزينة، فتبعنا مملوك امرأة منهم، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أستأذنت مولاتك؟ "، فقال: لا. قال: " إن مت.. لم أصل عليك، ارجع واستأذنها وأقرئها سلامي» ، فرجع العبد إليها وأقرأها السلام من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأذنت له في الخروج، ولأن الجهاد قربة يتعلق بقطع مسافة بعيدة، فلم يجب على العبد، كالحج. وفيه احتراز من الهجرة؛ قال الشيخُ أبُو حامد: فإنها تجب على العبد؛ لأن الهجرة عبادة هي قطع المسافة؛ لأن قطع المسافة هو أداء العبادة.
ولا يجب الجهاد على من بعضه حر وبعضه عبد؛ لأنه ناقص بالرق، فهو كالقن.
[فرع: لا يجب الجهاد على صغير ولا مجنون]
] : ولا يجب الجهاد على صبي ولا مجنون؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد أنسا وابنَ عُمر، وعشرين من أصحابه؛(12/105)
استصغرهم» . ولأن الجهاد عبادة بدنية، فلم تجب على الصبي والمجنون، كالصلاة والصوم.
[مسألة: لا جهاد على الأعمى وماذا لو كان في بصره أو جسده علة؟]
؟] : ولا يجب الجهاد على الأعمى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] [النور: 61] ، ولم يختلف أهل التفسير أنها في الفتح [وهي في سورة الفتح: 17] : نزلت في الجهاد. ولقوله تَعالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] [التوبة: 91] . قال ابن عبَّاس: (أنا ضعيف وأمي ضعيفة ـ يعني: أنا أعمى وأمي امرأة ـ فلا حرج علينا بترك الجهاد) . ورُوِي: أنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] [النساء: 95] . قال ابن أم(12/106)
مكتوم: فضل الله المجاهدين علينا، فنزل قَوْله تَعَالَى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " اكتبوها بين الكلمتين؛ بين قَوْله تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] ، وبين قوله: {وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] . ولأن المقصود من الجهاد القتال، والأعمى ممن لا يقاتل.
ويجب الجهاد على الأعور؛ لأنه يدرك بالعين الواحدة ما يدركه البصير في القتال.
ويجب الجهاد على الأعشى ـ وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار ـ لأنه يدرك ما يدرك البصير في القتال.
وإن كان في بصره سوء، فإن كان يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح.. وجب عليه الجهاد؛ لأنه يقدر على القتال. وإن كان لا يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح.. لم يجب عليه الجهاد؛ لأنه لا يقدر على الجهاد.
ولا يجب الجهاد على الأعرج. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والأعرج هو: المقعد) وقيل: هو الذي يعرج من إحدَى رجليه. وهذا ينظر فيه: فإن كان مقعدا ولا يمكنه الركوب والنزول، أو لم يكن مقعدا ولكن عرج في إحدَى رجليه بحيث(12/107)
لا يمكنه الركوب ولا النزول مسرعا ولا المشي مسرعا.. لم يجب عليه الجهاد؛ للآية. وإن كان عرجه يسيرا، كالذي يخمع، ويمكنه الركوب والنزول والمشي مسرعا.. وجب عليه الجهاد؛ لأنه يتمكن من القتال.
ولا يجب الجهاد على مقطوع اليد أو أشل اليد، ولا على من قطعت أكثر أصابع يده؛ لأنه لا يتمكن من القتال.
وأمَّا المريض: فإن كان مرضه ثقيلا.. لا يجب عليه الجهاد للآية، ولأنه لا يقدر على القتال. وإن كان مرضا يسيرا، كالصداع اليسير والحمى اليسيرة.. وجب عليه الجهاد؛ لأنه يقدر على القتال.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن حضر الكفار.. وجب على المرأة والعبد والأعمى والأعرج أن يتحركوا على أنفسهم ويدفعوا عن أنفسهم وعمن يحضرهم. ولا يتصور الوجوب على الصبيان والمجانين بحال.
[مسألة: وجود الزاد والراحلة وماذا لو كان معسرا وبذل له ذلك؟]
؟] : وأمَّا وجود الزاد والراحلة: فهل يعتبران في المجاهد؟
قال الشيخُ أبُو إسحاق: إن كان القتال على باب البلد وحواليه.. لم يعتبرا في حقه؛ لأنه لا يحتاج إليهما.
وقال الشيخُ أبُو حامد: إن كان العدو منه على مسافة لا تقصر إليها الصلاة.. فلا يجب عليه الجهاد حتى يجد نفقة الطريق، ولا يعتبر فيه وجود الراحلة. وإن كان بينه وبين العدو مسافة تقصر إليها.. فلا يجب عليه الجهاد حتى يجد نفقة الطريق والراحلة فاضلا عن قوت عياله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] [التوبة: 91] .(12/108)
وقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] [التوبة: 92] .
فإن كان معسرا، فبذل له الإمام ما يحتاج إليه من ذلك.. وجب عليه قبوله ووجب عليه الجهاد؛ لأن ما بذله له.. حق له. وإن بذل له ذلك غير الإمام.. لم يجب عليه قبوله؛ لأن عليه منة في ذلك.
[مسألة: جهاد المدين]
حالا أو مؤجلا وماذا لو كان من المرتزقة؟] : وإن كان على الرجل دين.. نظرت: فإن كان الدين حالا.. لم يكن له أن يجاهد من غير إذن من له الدين؛ لما روى أبُو قتادة: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا ألي الجنة؟ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نعم إلا الدين؛ بذلك أخبرني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» ، فأخبر: أن الدين يمنع الجنة، فعلم أنه يمنع الاستشهاد؛ فإذا منع الاستشهاد.. علم أن جهاده ممنوع منه. فإن استناب من يقضيه من مال له حاضر.. جاز له أن يجاهد من غير إذن الغريم؛ لأنه يصل إلى حقه. وإن كان من مال غائب.. لم يجز له أن يجاهد من غير إذن غريمه؛ لأنه قد يتلف المال فلا يصل الغريم إلى دينه.
وإن كان الدين مؤجلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يجاهد من غير إذن الغريم، كما يجوز له أن يسافر للتجارة والزيارة من غير إذنه.
والثاني: ليس له أن يجاهد من غير إذنه، وهو المذهب؛ لأن القصد من الجهاد(12/109)
طلب الشهادة، والدين يمنع الاستشهاد، فلم يجز من غير إذن من له الدين.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إن كان الدين مؤجلا، فإن كان لم يخلف وفاء.. فليس له أن يجاهد بغير إذن الغريم وجها واحدا. وإن خلف وفاء.. فهل له أن يغزو بغير إذن الغريم؟ فيه وجهان.
قالوا: وإن كان على أحد من المرتزقة دين مؤجل.. فهل له الخروج بغير إذن الغريم إن لم يخلف وفاء للدين؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له، كغير المرتزقة.
والثاني: له ذلك؛ لأنه قد استحق عليه هذا الخروج بكتب اسمه في الديوان، ولعله لا يمكنه أداء الدين إلا بما يأخذه من الرزق أو بما يصيب من المغنم.
[مسألة: الجهاد بإذن الأبوين]
وإن كان لرجل أبوان مسلمان أو أحدهما.. لم يجز له أن يجاهد من غير إذن المسلم منهما؛ لما روى أبُو سعيد الخدري: «أن رجلا هاجر إلى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من اليمن، فقال له النَّبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " هجرت الشرك وبقي هجرة الجهاد "، ثم قال له: " ألك أحد باليمن؟ " فقال أبواي، فقال: " أذنا لك؟ " فقال لا، فقال: " مر إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك.. فجاهد. وإن لم يأذنا لك.. فبرهما» .
ورُوِي: «أن رجلا أتى النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبايعه على الجهاد فقال له النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ألك أبوان؟ " قال: نعم، قال: " ارجع، ففيهما فجاهد» ورُوِي: «أن رجلا أتى(12/110)
النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبايعه على الجهاد، فقال: تركت أبوي يبكيان، فقال له النَّبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما» . «ورَوَى ابن مَسعُودٍ، قال: سألت النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ فقال: " الصلاة لميقاتها " قلت: ثم ماذا؟ قال: " بر الوالدين " قلت: ثم ماذا؟ قال: " الجهاد في سبيل الله» فدلَّ على: أن بر الوالدين مقدم على الجهاد.
فإن خرج بغير إذنهما.. فله أن يرجع قبل أن يلتقي الزحفان، وإن التقيا.. ففيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يجب عليه أن يرجع؛ لأن ابتداء السفر كان معصية، فالرجوع عنه أبدا واجب.
والثاني: ليس له أن يرجع؛ لأنه التزم الجهاد بحضوره التقاء الزحفين.
وإن لم يكن له أبوان، وله جد وجدة مسلمان.. لزمه استئذانهما؛ لأنهما يقومان مقام الأبوين في البر والشفقة.
وإن كان له أب وجد وأم وجدة.. فهل يلزمه استئذان الجد مع الأب، واستئذان الجدة مع الأم؟ فيه وجهان.(12/111)
أحدهما: لا يلزمه؛ لأن الأب والأم يحجبان الجد والجدة عن الولاية والحضانة.
والثاني: ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه يلزمه استئذانهما؛ لأن وجود الأبوين لا يسقط بر الجد والجدة ولا ينقص شفقتهما عليه.
وإن كان الأبوان كافرين.. جاز له أن يجاهد من غير إذنهما؛ لأن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول كان يجاهد مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبوه منافق يخذل الناس عن الخروج مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعلوم أنه كان لا يأذن له. ولأن الكافر متهم في الدين فلم يعتبر إذنه.
وإن كان الأبوان مملوكين.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يجاهد من غير إذنهما؛ لأن المملوك لا إذن له في نفسه، فلا يعتبر إذنه في حق غيره.
والثاني: ـ وهو قول الشيخ أبي إسحاق ـ: أنه لا يجوز له أن يجاهد من غير إذنهما؛ لأن الرق لا يمنع بره لهما، ولا شفقتهما عليه.
[فرع: سفر الولد للتجارة والعلم بغير إذن الوالدين]
فرع: [جواز سفر الولد للتجارة والعلم الذي يحتاج إليه كالصلاة ونحوها بغير إذن] : قال الشيخُ أبُو إسحاق: وإن أراد الولد أن يسافر في تجارة أو طلب علم.. جاز من غير إذن الأبوين؛ لأن الغالب من سفره السلامة.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أراد الولد الخروج لطلب العلم.. نظر فيه:(12/112)
فإن كان يطلب ما يحتاج إليه لنفسه من العلم، كالطهارة والصلاة والزكاة، وله مال ولم يجد ببلده من يعلمه ذلك.. فقد تعين عليه الخروج لتعلمه، وليس للأبوين منعه منه.
وأمَّا ما لا يحتاج إليه لنفسه، كالعلم بأحكام النكاح ولا زوجة له، وبالزكاة ولا مال له ونحو ذلك، فإن لم يكن ببلده من يعلمه ذلك.. فهذا النوع من العلم فرض على الكفاية، وله أن يخرج لتعلم هذا العلم بغير رضا الأبوين. فإن كان ببلده من يعلم هذا النوع.. فهل له أن يخرج لطلبه من غير إذن الأبوين؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لأن هذا ليس بفرض عليه، فصار كالجهاد.
والثاني: يجوز له أن يخرج بغير إذنهما؛ لأنه طاعة ونصرة للدين، ولا خوف عليه في المسافرة لأجله، بخلاف الجهاد.
[مسألة: رجوع الغريم والأبوين عن الإذن في الجهاد]
وماذا لو أحاط بهم العدو أو مرض؟] : وإن أذن له الغريم في الجهاد ثم رجع الغريم، أو أذن له أبواه ثم رجعا، أو كانا كافرين ثم أسلما، فإن كان ذلك قبل التقاء الزحفين.. وجب عليه أن يرجع؛ لأنه في هذه الحالة كما لو كان في وطنه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إلا أن يخاف إن رجع تلفا.. فلا يرجع) .
قال: (وأحب أن يتوقى موضع الاستشهاد؛ لأنه يجاهد بغير إذن أبويه، فلا ينبغي له أن يطلب الاستشهاد) .
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك إن خاف أن تنكسر قلوب المسلمين لرجوعه.. فليس له أن يرجع بحال.
وإن كان ذلك بعد التقاء الزحفين.. ففيه قولان:
أحدهما: ليس له أن يرجع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16](12/113)
[الأنفال: 16] الآية. وهذا ليس بمتحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة، ولأن رجوعه في هذه الحالة ربما كان سببا لهزيمة المسلمين، فلم يكن له ذلك.
والثاني: يجب عليه الرجوع؛ لأن طاعة الوالدين واجب والجهاد فرض، إلا أن طاعة الوالدين أسبق، فكانت بالتقديم أحق.
فإن أحاط بهم العدو.. جاز له الجهاد من غير إذن الوالدين، ومن غير إذن الغريم؛ لأن ترك الجهاد في هذه الحال يؤدي إلى الهلاك.
وإن مرض المجاهد مرضا يمنع وجود الجهاد عليه، أو عمي أو عرج، فإن كان قبل التقاء الزحفين.. جاز له أن يرجع. وإن كان بعد التقاء الزحفين.. جاز له أن يرجع أيضا على المشهور من المذهب. وخرج بعض أصحابنا الخراسانيين وجها آخر: أنه ليس له أن يرجع، كما قلنا في أحد القولين في رجوع الغريم والأبوين بعد التقاء الزحفين. والأول أصح؛ لأنه لا يمكنه الجهاد مع المرض والعمى والعرج، بخلاف رجوع الغريم والأبوين.
[فرع: الجهاد والغزو بإذن الإمام]
] : ويكره الغزو بغير إذن الإمام أو الأمير من قبله؛ لأن الغزو على حسب الحاجة؛ وهما أعلم بالحاجة إليه. ولا يحرم؛ لأن التغرير بالنفس يجوز في الجهاد.
[مسألة: توزيع الجيش وقواده]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (وأحب للإمام أن يبعث إلى كل طرف من أطراف بلاد الإسلام جيشا، ويجعلهم بإزاء من يليهم من المشركين، ويولي عليهم(12/114)
رجلا عاقلا دينا قد جرب الأمور؛ لأنه إذا لم يفعل ذلك.. فربما خرج عسكر المشركين وأضروا بمن يليهم إلى أن يجتمع عسكر من المسلمين) هكذا حكى الشيخ أبُو حامد.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه يجب على الإمام أن يشحن ما يلي الكفار بجيوش يكفون من يليهم.
وإن احتيج إلى حفر خندق أو بناء حصن وأمكن الإمام ذلك.. استحب له أن يفعله؛ لـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفر الخندق حول المدينة» ، ولأن المشركين ربما أغاروا على المسلمين على غفلة أو بيتوهم ليلا، فإن لم يكن هناك خندق ولا حصن.. نكوا فيهم.
ويبتدئ الإمام بقتال من يليه من الكفار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] [التوبة: 123] ، ولأن ذلك أخف مؤنة، إلا أن يكون أبعد منهم قوم من المشركين فيهم قوة وإن غفل عن قتالهم.. اشتدت شوكتهم وخيف منهم، فحينئذ يبتدئ بقتالهم؛ لأنه موضع ضرورة.
وقال في " الأم ": (وإذا غزا الإمام في هذا العام جهة.. غزا في العام القابل جهة أخرى؛ ليعمهم بالنكاية، إلا أن يكون في جهة من الجهات عدو شديد.. فيجوز له أن يقصده في كل عام؛ ليكسر قلوبهم) .
فإذا أراد الإمام أن يغزو المشركين.. فإنه يغزو بكل قوم إلى من يليهم من الكفار، ولا ينقل أهل الجهة إلى جهة أخرى؛ لأنهم بقتال من يليهم أخبر، ولأنه أخف مؤنة، إلا أن يكون العدو في جهة من الجهات كبيرا شديد الشوكة، وليس بإزائهم من المسلمين من يقوم بقتالهم، فحينئذ له أن ينقل إليهم قوما من جهة أخرى؛ لأنه موضع ضرورة.(12/115)
[مسألة: عرض الجيش على الإمام قبل الخروج]
وماذا لو كان فيه تخذيل ونحوه؟] : وإذا أراد الإمام الخروج.. عرض الجيش، ولا يجوز له أن يأذن بالخروج لمن ظهر منه تخذيل للمسلمين، أو إرجاف بهم، أو من يعاون الكفار.
فـ (المخذل) : هو أن يقول: بالمشركين كثرة، وخيولهم جياد، وسلاحهم جيد، ولا طاقة لنا بهم؛ لأنه يجبن الناس إذا سمعوا ذلك.
و (الإرجاف) : هو أن يقول: وراء المشركين مدد ونصرة، ووراءهم كمين وما شاكله.
و (العون) : هو أن ينقل أخبار المسلمين إلى المشركين، ويوقفهم على عوراتهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} [التوبة: 47] [التوبة: 46 - 47] يعني: ضررا وفسادا. و: {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة: 47] [التوبة: 47] قيل: لأوقعوا بينكم الخلاف. وقيل: لأسرعوا في تفريق جمعكم.
فإن قيل: فقد كان النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج معه عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين وكان مخذلا؟
فالجواب: أنه كان مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عدد كثير من الصحابة الأبرار الأتقياء لا يلتفتون إلى تخذيله، بخلاف غير النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولأن الله تَعالَى كان يطلع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على كيد المنافقين وتخذيلهم فلا يستضر به، بخلاف غيره.
[فرع: لا يستعين إمام المسلمين بالكفار]
] : ولا يجوز للإمام أن يستعين بالكفار على قتال الكفار من غير ضرورة؛ لما «رُوِي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خرجت مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض غزواته، فلما بلغ في(12/116)
موضع كذا.. لقينا رجل من المشركين موصوفا بالشدة، فقال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقاتل معك؟ فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أنا لا أستعين برجل من المشركين "، قالت: فأسلم وانطلق معنا» .
وإن دعت إلى ذلك حاجة؛ بأن يكون في المسلمين قلة، ومن يستعين به من الكفار يعلم منه حسن نية في المسلمين.. جاز له أن يستعين به؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بصفوان بن أمية وهو مشرك على قتال هوازن، واستعار منه أدرعه» ؛ لأنه كان له فيه حسن نية في المسلمين؛ بدليل: ما رُوِي: أنه لما ولى المسلمون في قتال هوازن.. سمع رجلا يقول: غلبت هوازن وقتل محمد، فقال صفوان: بفيك الحجر، لرب من قريش أحب إلينا من رب من هوازن. وأراد بالرب هاهنا: المالك. ورُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بقوم من يهود بني قينقاع، فرضخ لهم ولم يسهم» .(12/117)
[فرع: استئجار الكفار للقتال والإذن بخروج النساء ومن اشتد من الصبيان]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويستأجر الكافر من مال لا مالك له بعينه، وهو سهم النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما كان كذلك؛ لأن الجهاد لا يقع له. وفي القدر الذي يستأجر به وجهان:
أحدهما: لا يجوز أن تبلغ الأجرة سهم الراجل؛ لأنه ليس من أهل فرض الجهاد فلا يبلغ سهم راجل، كالصبي والمرأة.
والثاني - وهو المذهب -: أنه يجوز أن تبلغ به سهم الراجل؛ لأنه عرض في الإجارة، فجاز أن يبلغ به سهم الراجل، كالإجارة في سائر الإجارات.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يفتقر في الإجارة هاهنا إلى بيان المدة ولا العمل؛ لأن القتال لا ينحصر، فعفي عن ذلك لموضع الحاجة.
فإن لم يكن قتال. لم يستحق الكافر شيئا. وإن كان هناك قتال، فإن قاتل الكافر.. استحق، وإن لم يقاتل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق شيئا؛ لأنه لم يفعل ما استؤجر عليه.(12/118)
والثاني: يستحق؛ لأن الاستحقاق هاهنا بالحضور، وقد حضر.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن أكره الإمام الكفار على أن يقاتلوا معه، فقاتلوا معه.. استحقوا أجرة المثل، كما لو أكرهوا على سائر الأعمال) . ويجوز للإمام أن يأذن للنساء بالخروج معه ولمن اشتد من الصبيان؛ لأن فيهم معونة. ولا يأذن للمجانين؛ لأنه لا معونة لهم؛ لأنه يعرضهم للهلاك. ويتعاهد الخيل، ولا يأذن بإخراج الفرس الكبير ولا الصغير ولا الكسير ولا المهزول؛ لأنه لا فائدة بحضورهم.
[فرع: أخذ الميثاق على المقاتلين وبعث العيون وعقد الرايات ونحوه]
] : ويأخذ الإمام البيعة على الجيش أن لا يفروا؛ لما روى جابر، قال: «كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة رجل، فبايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على: أن لا يفروا، ولم نبايعه على الموت» .
ويوجه الطلائع، ومن يتجسس أخبار الكفار؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الخندق: " من يأتيا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن لكل نبي حواريا، وإن حواري الزبير» . والحواري: الناصر، وإنما سمي بذلك؛(12/119)
لأن حواري عيسى ابن مريم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا الحواريين؛ وهم الذين يبيضون الثياب.
ويستحب أن يخرج يوم الخميس؛ لـ: «أن أكثر أسفار النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج فيها يوم الخميس» ، ويعقد الرايات ويجعل تحت كل راية عريفا؛ لـ: (أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك يوم الفتح) ، ويدخل دار الحرب على هيئة الحرب؛ لـ: (أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك) . ولأنه أبلغ في الإرهاب.
[مسألة: الدية في قتل الكفار باعتبار بلوغ الدعوة وعدمه]
] : وإذا غزا الإمام قوما من الكفار.. نظرت: فإن كانوا لم تبلغهم الدعوة؛ بأن لم يعلموا أن الله بعث محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسولا إلى خلقه، وأظهر المعجزات الدالة على صدقه، وأنه يدعو إلى الإيمان بالله.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا أعلم أن أحدا لم(12/120)
يبلغه هذا الأمر إلا أن يكون قوم وراء الترك لم يعلموا، فإن وجد قوم كذلك.. لم يجز قتالهم حتى يدعوهم إلى الإسلام؛ لأنهم لا يلزمهم الإسلام قبل العلم ببعث الرسول، فإن قتل منهم إنسان قبل ذلك.. ضمن بالدية والكفارة.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا دية فيه ولا كفارة) ؛ لأن الخلق عنده محجوجون بعقولهم قبل بعث الرسل وعندنا ليسوا بمحجوجين قبل بعث الرسل.
والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] [الإسراء: 15] ، ولأنه ذكر بالغ محقون الدم، فكان مضمونا، كالمسلم.
إذا ثبت هذا: فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إن كان يهوديا أو نصرانيا.. ففيه ثلث دية المسلم، وإن كان مجوسيا.. ففيه ثلثا عشر دية المسلم. وإن لم يعرف دينه، أو كان من عَبَدَة الأوثان.. ففيه دية المجوسي) .
قال أبُو إسحاق: إنما أوجب الشافعي في اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم إذا كان من أولاد من غير التوراة والإنجيل وبدلها، فأما إذا كان من أولاد من لم يغيرها ولم يبدلها.. ففيه دية المسلم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] [الأعراف: 159] وأراد به: من لم يغير ولم يبدل. والأول أصح، وقد مَضَى ذلك في (الجنايات) .
وإن كان الكفار ممن بلغتهم الدعوة.. فالمستحب للإمام: أن لا يقاتلهم حتى يدعوهم إلى الإسلام؛ لما روي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم خيبر: " إذا نزلت بساحتهم.. فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم؛ فوالله: لأن يهدي الله بهداك رجلا واحدا.. خير لك من حمر النعم» . فإن قاتلهم قبل أن(12/121)
يدعوهم إلى الإسلام.. جاز؛ لـ: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غافلون» ولأن الدعوة قد بلغتهم وإنما عاندوا.
وإذا قاتل الإمام الكفار، فإن كانوا ممن لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب، كمن يعبد الأوثان والشمس والقمر والنجوم.. فإن يقاتلهم إلى أن يسلموا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
وإن كانوا ممن لهم كتاب، كاليهود والنصارى، أو ممن لهم شبهة كتاب كالمجوس.. قاتلهم إلى أن يسلموا أو يبذلوا الجزية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] .
[فرع: الاستنصار بالضعفة والتحريض على القتال والدعاء والتكبير عند لقاء العدو]
] : قال الشيخُ أبُو إسحاق: ويستحب الاستنصار بالضعفاء؛ لما رُوِي: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ائتوني بضعفائكم؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم» .(12/122)
وقال: ويستحب أن يدعو عند التقاء الصفين؛ لما روى أنس: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا قال: " اللهم أنت عضدي وناصري، وبك أقاتل» . وروى أبُو موسى: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خاف قال: " اللهم إنِّي أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم» .
ويستحب أن يحرض الجيش على القتال؛ لما روى أبُو هُرَيرَة: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا معشر الأنصار، هذه أوباش قريش، إذا لقيتموهم غدا.. فاحصدوهم» «ورَوَى سعد، قال: نثل لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد كنانته وقال: " ارم فداك أبي وأمي» ، وقيل: إن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقل ذلك إلا لسعد.
ويستحب أن يكبر عند لقاء العدو؛ لما روى أنس: «أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غزا خيبر فلما رأى القرية.. قال: " الله أكبر، خربت خيبر» .(12/123)
ولا يرفع الصوت بالتكبير؛ لما روى أبُو موسى، قال: كان الناس في غزاة، فأشرفوا على واد، فجعلوا يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم بذلك، فقال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيها الناس، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا إنه معكم» وفي رواية أخرى: " أقرب إليكم من حبل الوريد ".
[مسألة: حالات وجوب مصابرة المسلمين]
] : وإذا التقى المسلمون والمشركون وقاتلوهم.. نظرت: فإن كان عدد المشركين مثلي عدد المسلمين أو أقل منهم ولم يخف المسلمون بقتالهم.. وجب عليهم مصابرتهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] [الأنفال: 15] . فأوجب على المسلمين مصابرة المشركين في هذه الآية على العموم، ثم خص هذا العموم في آية أخرى، فقال تَعالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] [الأنفال: 65] . فأوجب على كل مسلم مصابرة عشرة من الكفار، وكان ذلك في أول الإسلام؛ حيث كان المسلمون قليلا، فشق ذلك على المسلمين، فنسخ ذلك بآية أخرى، فقال تَعالَى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] [الأنفال: 66] ، فأوجب على المسلم مصابرة الاثنين، واستقر الشَّرع على ذلك؛ بدليل: ما رُوِي عن ابن عبَّاس أنه قال: (من فر من ثلاثة.. فلم يفر، ومن فر من اثنين.. فقد فر) وأراد: من فر من ثلاثة.. فلم يفر الفرار المذموم في القرآن. ومن فر من(12/124)
اثنين.. فقد فر الفرار المذموم في القرآن.
فإن قيل: فصيغة الآية صيغة الخبر، فكيف جعلتموها أمرا؟
فالجواب: أن الخبر من الله عما يقع بالشرط لا يجوز أن يقع بخلاف ما أخبر به، وقد يوجد الواحد من الكفار يغلب الاثنين والثلاثة والعشرة من المسلمين، فدلَّ على: أنها أمر بلفظ الخبر. ولأن الله تَعالَى قال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] [الأنفال: 66] والتخفيف يقع في الأمر لا في الخبر.
ومن تعين عليه فرض الجهاد.. فلا يجوز له أن يولي إلا في حالتين:
أحدهما: أن يولي متحرفا للقتال؛ وهو: أن يرى المصلحة في الانتقال من موضع ضيق إلى موضع متسع، أو من موضع متسع إلى موضع ضيق وما أشبهه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ، أنه قال: «لما ولى المسلمون يوم حنين.. بقي مع النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانون نفسا، فنكصنا على أعقابنا قدر أربعين خطوة، ثم قال النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أعطني كفا من تراب " فأعطيته، فرماه في وجوه المشركين، فقال لي: " اهتف بالمسلمين " فهتفت بهم، فأقبلوا شاهرين سيوفهم» . وإنما ولوا متحرفين للقتال من مكان إلى مكان.
والثاني: أن يولي متحيزا إلى فئة ليعود معهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] وسواء كانت الفئة قريبة منه أو بعيدة مسيرة يومين أو أكثر؛ لعموم الآية، ولما رُوِي عن ابن عمر: أنه قال: «كنت في سرية من سرايا النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحاص الناس حيصة عظيمة، وكنت فيمن حاص، فلما فررنا.. قلت: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بغضب ربنا؟ فجلسنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل صلاة الفجر، فلما خرج.. قمنا إليه، فقلنا: نحن الفرارون، فقال: " لا، بل أنتم العكارون ". فدنونا فقبلنا يده، فقال: " أنا فئة المسلمين» يروى هذا: (فجاض القوم) بالجيم والضاد(12/125)
المعجمة، ويروى: بالحاء والصاد غير المعجمة.
ويروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: «أنا فئة كل مسلم» وهو بالمدينة وجيوشه بالآفاق.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن كان هربه على غير هذا المعنى.. خفت عليه إلا أن يعفو الله تَعالَى ـ أن يكون باء بغضب من الله) وهذا صحيح؛ إذا تعين عليه فرض الجهاد وولى غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة.. فقد أثم وارتكب كبيرة؛ لما روى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الكبائر سبع: أولهن الشرك بالله، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، وفرار يوم الزحف، ورمي المحصنات، والانتقال إلى الأعراب» . وهذا تصريح من الشافعي، بأن مذهبه(12/126)
كمذهب أصحاب الحديث؛ أن من ارتكب كبيرة.. فقد أثم، ولكن الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه. وقالت المعتزلة: من ارتكب كبيرة. استوجب النار، ويكون مخلدا، ولا يجوز أن يعفوا الله عنه. وهذا موضعه في أصول الدين.
ومن تعين عليه الجهاد، وغلب على ظنه: أنه إن لم يفر هلك.. فلا خلاف: أنه لا يلزمه الفرار؛ لأن التغرير بالنفس جائز في الجهاد، ولكن: هل يجوز له أن يولي غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] [الأنفال: 16] الآية: ولم يفرق.
والثاني: يجوز له ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] ، وفي بقائه على القتال تهلكة لنفسه.
وإن زاد عدد المشركين على مثلي عدد المسلمين.. لم يجب على المسلمين مصابرتهم؛ لأن الله تَعالَى لما أوجب على الواحد مصابرة الاثنين.. دل على: أنه لا يجب عليه مصابرة ما زاد عليهما. ولما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس. فإن علم المسلمون أنهم إذا ثبتوا لقتالهم غلبوا الكفار أو ساووهم، ولم يخشوا منهم القتل ولا الجراح ... فالمستحب لهم: أن يثبتوا لقتالهم؛ لأنهم إذا انهزموا.. اشتدت شوكة الكفار. وإن غلب على ظن المسلمين أنهم إن ثبتوا لقتالهم هلكوا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمهم الهرب منهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [البقرة: 195] .(12/127)
والثاني: لا يلزمهم الهرب منهم؛ لما رُوِي: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت لو انغمست في المشركين فقاتلت فقتلت، ألي الجنة؟ فقال: " نعم، إن قاتلت وأنت مقبل غير مدبر» . فانغمس الرجل في صف المشركين، فقاتل حتى قتل، ومعلوم أن الواحد من المسلمين إذا انغمس في صف المشركين أنه يهلك، فدلَّ على أنه يجوز.
فعلى هذا: يجوز لهم الفرار.
[فرع: جواز الفرار من اثنين إذا طلباه للقتال]
] : وإن لقي رجل من المسلمين رجلين من المشركين، فإن طلباه للقتال.. جاز له أن يفر منهما؛ لأنه غير متأهب للقتال.. وإن طلبهما للقتال.. فهل له أن يفر منهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز له أن يفر منهما؛ لأن فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد.
والثاني: لا يجوز له أن يفر منهما؛ لأنه مجاهد لهما حيث ابتدأهما بالقتال.
[مسألة: استحباب توقي قتل الأب والرحم المحرم المشرك]
إذا كان للمسلم أب مشرك.. فيستحب له أن يتوقى قتله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] [لقمان: 15] فأمره بمصاحبتهما بالمعروف عند دعائهما له إلى الشرك، وقتلهما ليس من المصاحبة بالمعروف. ولأن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بكر حين أراد قتل ابنه: «دعه يتولى(12/128)
قتله غيرك» وكذلك قال لأبي حذيفة حين أراد قتل أبيه".
فإن سمعه يسب الله ورسوله.. لم يكره له قتله؛ لما روي: «أن أبا عبيدة بن الجراح سمع أباه يسب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقتله، ولم ينكر عليه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
[مسألة: لا تقتل نساء الكفار إذا لم يقاتلن ولا الذراري]
] : ولا يجوز قتل نساء الكفار ولا صبيانهم إذا لم يقاتلوا؛ لما رَوَى ابن عمر: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء والولدان» ووجد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، امرأة مقتولة في بعض غزواته، فقال: «ما بال هذه تقتل وإنها لا تقاتل؟» .(12/129)
ولا يجوز قتل الخنثى المشكل إذا لم يقاتل؛ لجواز أن يكون امرأة.
فإن قتلهم قاتل.. لم يجب عليه الضمان؛ لأنهم مشركون لا أمان لهم ولا ذمة.
فإن قاتلوا.. جاز قتلهم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه؟ " فقال رجل: أنا يا رسول الله، غنمتها فأردفتها خلفي، فلما رأت الهزيمة فينا.. أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها، فلم ينكر عليه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ولأنه إذا جاز قتلهن إذا قاتلن وهن مسلمات.. فلأن يجوز قتلهن إذا قاتلن وهن مشركات أولى.
وإن أسر منهم مراهق وشك فيه، هل هو بالغ أم لا.. كشف عن مؤتزره، فإن كان قد نبت على عانته الشعر الخشن.. فحكمه حكم البالغ على ما يأتي ذكره. وإن كان لم ينبت.. فحكمه حكم الصبي؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم سعدًا في بني قريظة، فقال سعد: فكشفنا عن مؤتزرهم، فمن أنبت. قتلناه، ومن لم ينبت.. جعلناه في الذرية، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» والأرقعة: السماوات، واحدها رقيع.
وفي بعض الروايات: «من فوق سبع سماوات» .(12/130)
[مسألة: لا يقتل شيوخهم إلا عند القتال أو التدبير له وجرت السنة بعدم قتل الرسل]
] : وأمَّا شيوخ الكفار: فإن كان منهم قتال.. فهم كالشبان، وإن كان لا قتال منهم ولكن فيهم رأي وتدبير في الحرب.. فهم كالشباب ويجوز قتلهم؛ لما روي: «أن دريد بن الصمة قتل يوم حنين، وكان يومئذ ابن مائة وخمس وخمسين سنة، وكان له رأي في الحرب، وإنما أحضرته هوازن ليدبر لهم الحرب، وكان أمير هوازن مالك بن عوف، وقد أحضر النساء والذراري والأموال خلف العسكر، فقال له دريد: أخر هذه الذراري، والأموال أصعدها إلى الجبل، فإن كانت لنا.. أنزلناها، وإن كانت علينا.. لم تؤخذ. فقال له مالك بن عوف: لا، إن العرب تقاتل على الأهل والمال أشد. فقال دريد: تبًا لك مع هذا التدبير. وتركه وانصرف وصعد الجبل، فلما ولت هوازن وأخذ نساؤهم وأموالهم وذراريهم.. قال دريد في ذلك.
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فكان الناس يمرون به ويقول لمن معه: من هذا؟ فيخبره، فمر به رجل فقال: من هذا؟ فقال: فلان بن فلان، فقال: إنه قاتلي، فجاءه الرجل ليقتله، فقال: من أنت؟ فقال: أنا فلان بن فلان، فقال له: إذا رجعت إلى أمك فقل لها: قتلت دريد بن الصمة وإنه قد أعتق أربعة من أحمائك، ولم ينكر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قتله» .
وإن لم يكن فيهم رأي ولا قتال في الحرب.. ففيهم وفي أصحاب الصوامع والرهبان قولان:(12/131)
أحدهما: لا يجوز قتلهم ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لما رَوَى ابن عبَّاس: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا «تقتلوا المرأة ولا أصحاب الصوامع» وروي ذلك عن أبي بكر؛ لأنهم ممن لا يقاتل فلم يجز قتلهم، كالنساء.
والثاني: يجوز قتلهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، ولم يفرق.
ورَوَى سمرة: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم» .
وأراد بـ (شرخهم) : أحداثهم الذين لم يبلغوا. ولأنه كافر ذكر مكلف حر حربي، فجاز قتله، كما لو كان له رأي.
ولا يقتل رسولهم؛ لما رَوَى ابن مَسعُودٍ: «أن رجلين أتيا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رسولين(12/132)
لمسيلمة الكذاب لعنه الله، فقال لهما: "أتشهدان أني رسول الله؟ " فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كنت قاتلًا رسولًا.. لضربت أعناقكما» فجرت السنة أن لا يقتل الرسل.
[مسألة: تترس الكفار بمن لا يقتل]
إذا تترس المشركون بأطفالهم ونسائهم، فإن كان بالمسلمين حاجة إلى رميهم، بأن كان ذلك في حال التحام القتال، وخاف المسلمون إن لم يرموهم غلبوهم.. جاز للمسلمين رميهم، ولكن يقصد بالرمي المتترس دون المتترس به.
وإن كان يعلم أنه لا يصل إلى المتترس إلا بأن يقتل المتترس به.. جاز قتله؛ لأنا لو منعناه من ذلك.. لأدى إلى تعطيل الجهاد، وظفر المشركون بالمسلمين.
وإن لم يكن بالمسلمين حاجة إلى رميهم وقتالهم.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبُو إسحاق: يكره لهم الرمي؛ لأن فيه قتل النساء والصبيان بغير ضرورة، ولا يحرم ذلك؛ لأنهم لا يقصدون قتلهم.
ومن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز قتلهم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء والولدان» . ولأنهم لا حاجة بهم إلى ذلك.(12/133)
والثاني: يجوز رميهم؛ لأنا لو منعنا من ذلك.. منعنا من الجهاد، فأدى إلى الظفر بالمسلمين. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا لم يكن ضرورة إلى رميهم.. فهل يكره رميهم؟ فيه قولان.
فأما إذا تترس المشركون بمن معهم من أسارى المسلمين: فهل يجوز رميهم للمسلمين؟ نظرت: فإن لم يكن بالمسلمين حاجة إلى رميهم؛ بأن كان ذلك في غير التحام القتال.. لم يجز لهم رميهم؛ لأنه لا حاجة بهم إلى ذلك. فإن رمى مسلم إليهم وقتل مسلمًا.. وجب عليه القود والكفارة؛ لأنه قتل مسلمًا لغير ضرورة.
وإن دعت الحاجة إلى قتالهم؛ مثل أن يكون في حال التحام القتال، أو خاف المسلمون إن لم يقاتلوهم غلبوهم.. جاز رميهم، ويتوقون المسلمين ما أمكنهم، ويقصدون رمي المشركين دون المسلمين؛ لأن حفظ من معنا من المسلمين أولى من حفظ من معهم.
وكل موضع قلنا: (يجوز رميهم) فرماهم مسلم وقتل المسلم الذي تترسوا به.. فلا يجب على الرامي القصاص؛ لأنا قد جوزنا له الرمي.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (وعليه الكفارة) . وقال في موضع: (عليه الدية والكفارة) واختلف أصحابنا فيه.
فقال المزني: هي على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال فيه: (عليه الكفارة) إذا لم يعلم أنه مسلم، فرماه فقتله فبان مسلمًا.
والموضع الذي قال: (عليه الكفارة والدية) إذا رماه وعرف أنه مسلم.
وقال أبُو إسحاق: هي على اختلاف حالين آخرين غير هذين:
فحيث قال: (عليه الكفارة والدية) إذا قصده بالرمي.(12/134)
وحيث قال: (عليه الكفارة) إذا لم يقصده بالرمي.
ومن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه الكفارة والدية؛ لأنه غير مفرط في المقام بين المشركين.
والثاني: عليه الكفارة، ولا دية عليه لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك قيل: لم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما» ولأن الرامي مضطر إلى الرمي. هذا ترتيب أصحابنا البغداديين.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إن أمكن المسلمين قصد المتترس واتقاء المتترس به.. جاز قتالهم، ويتوقون المتترس به حسب جهدهم. وإن لم يمكنهم قصد المتترس إلا بقصد المتترس به.. لم يجز قصد الترس بحال سواء كانت ضرورة أو لم تكن. فلو قصده وقتله.. فهل يجب عليه القود؟ بنيناه على من أكرهه السلطان على القتل ظلمًا فإن قلنا يجب هناك القود.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يجب القود.. فهاهنا قولان. والفرق: أنه هناك ملجأ إلى القتل وهاهنا غير ملجأ؛ لأنه قد كان يمكنه الهرب.
وإذا تترسوا بأهل الذمة، أو بمن بيننا وبينه أمان.. فحكمهم حكم المسلمين إذا تترسوا بهم في جواز الرمي وفي الدية والكفارة.
[مسألة: محاصرة المشركين في بلادهم]
] : يجوز للإمام أن يحاصر المشركين في بلد أو حصن؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ولـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر أهل الطائف» .
وأمَّا رميهم بالمنجنيق والحيات والعقارب، وتغريقهم بالماء، وتحريقهم بالنار(12/135)
وغير ذلك مما يعمهم بالقتل، والهجم عليهم ليلًا، فإن لم يكن معهم أُسارى من المسلمين.. جاز له ذلك وإن كان فيهم نساء وأطفال؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصب المنجنيق على أهل الطائف» وإن كانوا لا يخلون من نساء وأطفال. ورَوَى ابن عبَّاس: «أن الصعب بن جثامة سأل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن المشركين يبيتون وفيهم النساء والصبيان، فقال: "إنهم منهم» .
وإن كان فيهم أسارى من المسلمين.. فهل يجوز رميهم بهذه الأشياء؟ ينظر من ذلك.
فإن كان الإمام مضطرًا إلى ذلك؛ مثل أن يخشى إن لم يرمهم غلبوا المسلمين.. جاز رميهم؛ لأن استبقاء من معنا من المسلمين أولى من استبقاء من معهم.
وإن لم يكن مضطرًا إلى ذلك، فإن كان المسلمون الذين معهم قليلًا، كالواحد والثلاثة والجماعة الذين يقل عددهم فيما بينهم.. جاز رميهم؛ لأنه ليس الغالب أن الحجر يصيب المسلمين دونهم. وإن كان عدد المسلمين مثل عدد المشركين أو أكثر منهم. لم يجز رميهم؛ لأن الغالب أنه يصيب المسلمين. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إن لم يكن فيهم أسارى من المسلمين، فإن دعت إلى ذلك ضرورة، أو كان الفتح لا يحصل إلا بذلك.. جاز رميهم من غير كراهية، وإلا.. كره ولم يحرم.(12/136)
وإن كان فيهم أُسارى من المسلمين، فإن دعت إلى ذلك ضرورة، أو كان الفتح لا يحصل إلا بذلك.. جاز رميهم بالمنجنيق والنار. وإن لم يكن هناك ضرورة ويحصل الظفر بغير ذلك.. فهل يجوز رميهم؟ فيه قولان.
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يخشى قتل المسلمين ولا ضرورة إلى ذلك.
والثاني: يجوز؛ لأن إصابة المسلمين متوهمة.
[مسألة: قتل دواب الكفار وتخريب بيوتهم وغيره]
ويجوز قتل ما يقاتل عليه الكفار من الدواب؛ لما روي: «أن حنظلة بن الراهب عقر دابة أبي سفيان بن حرب، فسقط عنها، فقعد حنظلة بن الراهب على صدره ليذبحه، فرآه ابن شعوب، فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان، ولم ينكر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، على حنظلة عقر دابة أبي سفيان» وروي: «أن رجلًا اختبأ لرومي خلف صخرة، فلما مر عليه.. خرج فعقر دابته، فسقط عنها، فقتله وأخذ سلبه. ولم ينكر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذلك عليه» .
وأمَّا قطع أشجار المشركين وتحريقها بالنار وتخريب منازلهم.. فينظر فيه: فإن(12/137)
دخل الإمام بلاد المشركين وقهرهم عليها وأخرجهم منها.. لم يجز قطع أشجارهم وتخريب منازلهم؛ لأنها صارت غنيمة للمسلمين. وهكذا: إن دخلها صلحا على أن تكون الدار لهم أو لنا.. لم يجز قطع أشجارهم وتخريب منازلهم.
وأمَّا إن دخلها غارة، ولا يريد أن يقر فيها.. فاختلف الشيخان فيها.
فقال الشيخ أبُو حامد: يجوز قطع أشجارهم وتحريقها وتخريب منازلهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] [الحشر: 5] قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (واللينة: النخلة) ، وقال ابن عبَّاس: (اللينة: النخلة) ، وقيل: الجعرور، وقال بعض الناس: (اللينة) : الدقل ولقوله تَعالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] [الحشر: 2] .
وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرق نخيل بني النضير» و: «حرق الشجر بخيبر وبالطائف» وهي آخر غزاة غزاها.(12/138)
وقال الشيخ أبُو إسحاق: إن احتيج إلى ذلك ليظفروا بهم.. جاز ذلك. وإن لم يحتج إليه، فإن لم يغلب على الظن أنها تملك.. جاز فعله وتركه. وإن غلب على الظن أنها تملك.. ففيه وجهان.
أحدهما: لا يجوز؛ لأنها تصير غنيمة.
والثاني: أن الأولى أن لا يفعل فإن فعل.. جاز؛ لما مَضَى.
[فرع: إتلاف ما غنم من الكفار]
فإن غنم المسلمون شيئًا من أموال الكفار.. نظرت: فإن لم يخش عودها إلى الكفار لم يجز للإمام إتلافها؛ لأنها صارت غنيمة للمسلمين، وإن خشي عودها إليهم؛ مثل أن يخاف من كرتهم على المسلمين وغلبتهم لهم، فإن كان غير الحيوان.. جاز للإمام إتلافها؛ لأنه لا يؤمن أن يأخذها الكفار ويتقووا به على المسلمين، وإن كان حيوانًا.. لم يجز قتله أو عقره. وبه قال الأَوزَاعِي.
وقال أبو حَنِيفَة: (يجوز) .
دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل الحيوان صبرًا» وهذا قتل الحيوان صبرًا.(12/139)
ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل عصفورًا بغير حقه..حوسب عليه" قيل: يا رسول الله، ما حقه؟ قال: "يذبحه ليأكله، ولا يرمي برأسه» . ولأن كل حيوان لا يجوز قتله إذا لم يخش عليه كرة المشركين.. لم يجز قتله وإن خشي عليه كرة المشركين، كالنساء والصبيان.
وإن كان الذي أصابه المسلمون خيلًا.. فهل يجوز للمسلمين إتلافها إذا خافوا كرة المشركين عليهم؟ اختلف الشيخان فيه.
فقال الشيخ أبُو حامد: لا يجوز إتلافها؛ لما ذكرناه.
وقال الشيخ أبُو إسحاق: إذا لم يكن للكفار خيل وخيف أن يأخذوا ما غنم منهم من الخيل ويقاتلوا عليها.. جاز قتلها؛ لأنها إذا لم تقتل.. أخذها الكفار وقاتلوا عليها المسلمين.
[مسألة: عقد الأمان للكفار]
يجوز عقد الأمان للمشركين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] [التوبة: 6] قال الشافعي: (يعني: بعد مَضَي مدة الأمان يبلغ إلى مأمنه) .
وإذا عقد الأمان لمشرك..حقن بذلك دمه وماله، كما يحقن ذلك بالإسلام.
إذا ثبت هذا: فإن كان الذي يعقد الأمان هو الإمام.. جاز أن يعقد الأمان لآحاد المشركين ولجماعتهم ولأهل إقليم أو صقع، كالترك والروم، ويأتي بيان ذلك. ويجوز للأمير من قبل الإمام أن يعقد الأمان لآحاد المشركين ولأهل صقع يلي ولايته ولا يجوز أن يعقد لأهل صقع لا يلي ولايته.
وإن كان الذي يعقد الأمان واحد من الرعية.. لم يجز أن يعقد الأمان لجماعات(12/140)
المشركين ولا لأهل صقع، لأنا لو جوزنا ذلك لغير الإمام والأمير الذي من قبله.. لأدى ذلك على تعطيل الجهاد، ويجوز أن يعقد الأمان لآحاد المشركين الذين لا يتعطل الجهاد بعقد الأمان لهم، كالواحد والعشرة والمائة وأهل قلعة؛ لما رَوَى عبد الله بن مسلمة: «أن رجلًا أجار رجلًا من المشركين، فقال عمرو بن العاص وخالد بن الوليد: لا نجير ذلك، فقال أبُو عبيدة بن الجراح: ليس لكما ذلك؛ سمعت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يقول: "يجير على المسلمين بعضهم» فأجاروه. ورُوِي «عن عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: ما عندي شيء إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا.. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» .
ويصح عقد الأمان من المرأة لما رُوِيَ: «أن أم هانئ بنت أبي طالب أجارت حموين لها من المشركين يوم الفتح، فأراد عليّ قتلهما، وقال لها: أتجيرين على المشركين، والله لأقتلنهما، فقالت: يا رسول الله، يزعم ابن أمي أنه قاتل من أجرت. فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس لك ذلك، من أجرت.. أجرناه؛ ومن أمنت.. أمناه» ورُوِيَ: (أن أبا العاص بن الربيع لما وقع في الأسر.. قالت زينب بنت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهي زوجته: قد أجرته، فخلِّيَ لها) ، ومعنى قولها (قد(12/141)
أجرته) : أني قد كنت أجرته قبل الأسر. ورَوَى الساجي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذمة المسلمين واحدة، فإذا أجارت جارية.. فلا تخفروها؛ فإن لكل غادر لواء من نار يوم القيامة» .
ويصح أمان الخنثى؛ لأنه لا يخلو: إما أن يكون رجلًا أو امرأة، وأمانهما يصح.
[فرع: من يصح أمانه من المسلمين وماذا لو عقده كافر يقاتل مع المسلمين؟]
ويصح عقد الأمان من العبد، سواء كان مأذونًا له في القتال أو غير مأذون له فيه، وبه قال الأَوزَاعِي ومالك.
وقال أبو حَنِيفَة: (إن كان مأذونًا له في القتال.. صح أمانه. وإن كان غير مأذون له في القتال.. لم يصح أمانه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجير على المسلمين بعضهم» ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذمة المسلمين واحدة» وهذا مسلم. ورَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن(12/142)
النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلمون «تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم» وأدنى المسلمين عبيدهم. وروي ذلك عن عمر ولا مخالف له في ذلك. ولأنه مسلم مكلف، فصح أمانه كما لو كان مأذونًا له في القتال.
ولا يصح عقد الأمان من الصبي والمجنون؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ؛ وعن النائم حتى يستيقظ؛ وعن المجنون حتى يفيق» فإذا كان القلم مرفوعًا عنه.. لم يصح أمانه. هذا نقل البغداديين.
وقال الخراسانيون: هل يصح عقد الأمان من المراهق؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لما ذكرناه.
والثاني: يصح ـ وبه قال محمد بن الحَسَن ـ لأنه عقد شرعي، فصح من المراهق كالصلاة.
وإن كان المسلم أسيرًا في أيدي الكفار، فأكره على عقد الأمان فعقده.. لم يصح، كما لو أكره على سائر العقود. وإن عقد الأمان غير مكره. فهل يصح أمانه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] .
أحدهما: يصح أمانه؛ لأنه مسلم مكلف، فهو كغير الأسير.
والثاني: لا يصح؛ لأنه محبوس لا يشاهد الأحوال ولا يرى المصالح.
وقال القفال: لا يتصور الأمان من الأسير؛ لأن الأمان يقتضي أن يكون المؤمن(12/143)
آمنًا وهذا الأسير غير آمن في أيديهم، فصار عقده للأمان يقترن به ما يضاده، فلم يصح.
فإن دخل مشرك دار الإسلام على أمان صبي أو مجنون أو مكره، فإن عرف أن أمانهم لا يصح.. كان حكمه حكم ما لو دخل بغير أمان. وإن لم يعرف أن أمانهم لا يصح.. لم يحل دمه إلى أن يرجع إلى مأمنه؛ لأنه دخل على أمان فاسد، وذلك شبهة.
ولا يصح عقد الأمان من الكافر وإن كان يقاتل مع المسلمين؛ لأنه متهم في ذلك وليس هو من أهل النظر للمسلمين.
[فرع: عقد الأمان للكافر وإقرار المسلم به]
ويصح عقد الأمان للكافر، سواء كان في دار الحرب، أو في حال القتال، أو في حال الهزيمة؛ لأنه لا يد عليه للمسلمين. وإن أقر مسلم أنه أمن هذا المشرك.. قبل إقراره؛ لأنه يملك عقد الأمان فملك الإقرار به.
[فرع: أمان الكافر في الأسر]
وإن وقع كافر في الأسر، فأمنه رجل من الرعية.. لم يصح أمانه.
وقال الأَوزَاعِي: (يصح) .
دليلنا: أن صحة الأمان فيه تبطل ما ثبت للإمام فيه من القتل والاسترقاق والمن والفداء.
وإن وقع في الأسر فقال رجل من الرعية: قد كنت أمنته قبل ذلك.. لم يقبل إقراره؛ لأنه لا يصح أمانه له في هذه الحالة، فلم يقبل إقراره فيه. وإن شهد له بذلك شاهدان.. قبلت شهادتهما.(12/144)
قال الشيخ أبُو حامد: وإن قال جماعة: نشهد أنا قد كنا أمناه قبل الأسر.. يقبل قولهم؛ لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم.
[فرع: ألفاظ الأمان وصحة الأمان من الإمام للأسير]
وإذا قال رجل من المسلمين لرجل من المشركين: قد أجرتك، أو أمنتك، أو أنت مجار، أو أنت آمن.. صح؛ لما ذكرناه في حديث أم هانئ؛ ولأن هذا صريح في الأمان.
وإن قال لا تخف، أو لا تفزع، أو لا بأس عليك، أو قال: بالعجمية مترس.. فهو أمان؛ لما رُوِيَ: (أن الهرمزان لما حمله أبُو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: تكلم. فقال الهرمزان: كلام حي أو ميت؟ فقال له عمر: لا تفزع، لا بأس عليك، مترس. فتكلم به الهرمزان، ثم أراد عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قتله، فقال له أنس بن مالك: ليس لك قتله. فقال: كيف أتركه وقد قتل البراء بن مالك؟ فقال: قد أمنته. فتركه) .(12/145)
فإن قيل: فهو أسير، فكيف يصح عقد الأمان له؟ فالجواب: أن عمر الإمام يومئذ، والإمام يصح منه الأمان للأسير. ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه قال: (إن الله تَعالَى يعلم كل لسان، فمن أتى منكم أعجميًا فقال له مترس.. فقد أمنه) .
وإن قال: من أكفأ سلاحه. فهو آمن، أو من دخل داره.. فهو آمن، ففعل رجل ذلك.. صار آمنًا؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الفتح: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن» .
ويصح الأمان بالإشارة التي يفهم منها الأمان، لما روي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: والذي نفس عمر بيده: لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى مشرك، ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله.. لقتلته) فإن أشار مسلم إلى مشرك بشيء، فنزل المشرك إليه ظنًا(12/146)
منه أنه أشار إليه بالأمان؛ فإن اعترف المسلم أنه أراد بالإشارة الأمان له.. كان آمنا وإن قال لم أرد الأمان.. قبل قوله؛ لأنه أعلم بما أراد، ويعرف المشرك أنه لا أمان له، فلا يحل قتله حتى يرجع إلى مأمنهم؛ لأنه دخل على شبهة أمان.
وإن أمن مشركًا، فرد الأمان.. لم يصح الأمان؛ لأنه إيجاب حق لغيره، فلم يصح مع الرد، كالإيجاب في البيع والهبة.
[مسألة: ما يصنع الإمام بالأسرى من فداء ونحوه]
وإن أسر صبي أو امرأة.. رقًا بالأسر؛ لـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهم) و: (قسم سبي بني المصطلق) ، و: (اصطفى صفية من سبي خيبر) .
وإن أسر حر بالغ من أهل القتال.. فاختلف الناس فيه على أربعة مذاهب:
فـ[الأول] : مذهبنا أن الإمام بالخيار: بين القتل، والمن، والفداء بالمال أو بمن أسر من المسلمين، والاسترقاق. ولسنا نريد أنه بالخيار على أنه يفعل ما شاء وإنما نريد أنه يفعل ما فيه المصلحة للمسلمين في ذلك؛ مثل أن يكون الأسير فيه بطش وقوة ويخاف من شره إن خلاه، أو من مكره إن استرقه.. فالمصلحة في قتله. وإن كان(12/147)
ضعيفًا نحيفًا ذا مال.. فالمصلحة أن يفادي.. وإن كان ذا صنعة أو حسن الوجه فالمصلحة أن يسترق، وإن كان ضعيفًا ذا قوم.. فالمصلحة أن يمن عليه ليسلم قومه، وبه قال الأَوزَاعِي والثوريُّ وأحمد.
و [الثاني] : قال أبو حَنِيفَة: (هو بالخيار: بين القتل والاسترقاق، ولا يجوز المن والفداء) .
و [الثالث] : قال مالك: (هو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين القتل، والاسترقاق، والفداء بالنفس. فأما الفداء بالمال أو المن.. فلا يجوز) .
و [الرابع] : قال أبُو يوسف ومحمد: هو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين القتل، والاسترقاق، والفداء بالنفس والمال. وأمَّا المن.. فلا يجوز.
والدليل: على أن له القتل: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] [البقرة: 191] وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وابن الخطل، وهو متعلق بأستار الكعبة» ورُوِي: «أن أبا عزة الجمحي وقع في الأسر يوم(12/148)
بدر، فقال: يا محمد إني ذو عيلة، فمن عليّ، فمن عليه رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلاه على أن لا يعود إلى قتاله، فلما عاد إلى مكة. قال: سخرت بمحمد، وعاد إلى القتال يوم أحد، فوقع في الأسر، فقال: يا محمد إني ذو عيلة فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يلسع المؤمن من جحر مرتين، أخليك حتى تقول في نادي قريش: سخرت من محمد؟ !. فقتله بيده، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
والدليل: على جواز المن: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] [محمد: 4] ، فأمر بقتل الكفار وأسرهم وبين حكم الأسير وإن له عليه المن والفداء، وجعل الغاية: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] [محمد: 4] .
قال أهل التفسير: حتى لا يبقى على وجه الأرض ملة غير ملة الإسلام، وهو إذا نزل عيسى ابن مريم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. ولـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من على أبي عزة الجمحي) . ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم بدر: «لو كان مطعم بن عدي حيًا فكلمني في أمر هؤلاء ـ يعني: أسارى بدر ـ لأطلقتهم» فدلَّ على جواز ذلك. ورُوِى أبُو هُرَيرَة: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وجه سرية قبل نجد، فأسروا رجلًا من بني حَنِيفَة يقال له: ثمامة بن أثال، وكان سيد بني حَنِيفَة، فشده إلى سارية في المسجد، فمر به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا محمد، إن تقتل.. تقتل ذا دم، وإن تنعم.. تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال.. فسل تعط، فلم يجبه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقالها ثانيًا وثالثًا، فأطلقه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فخرج فتطهر وأسلم» .(12/149)
وأمَّا الدليل على جواز الافتداء بالمال: فروى ابن عبَّاس: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استشار الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، في أسارى بدر، فقال أبُو بكر: هم قومك وعشيرتك تأخذ منهم المال، فتقوي به المسلمين على المشركين فلعل الله أن يهديهم، وقال عمر: سلمهم إلينا لنقتلهم، فاختلف الناس فيما قال أبُو بكر وعمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، حتى ارتفعت ضجتهم فقال قوم: قصدوا قتل رسول الله، ويشير أبُو بكر بتخليتهم؟! وقال قوم: لو كان لعمر فيهم أب أو أخ.. ما أشار بقتلهم، فمال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلى رأي أبي بكر، وأخذ منهم المال» . قال ابن عبَّاس: (فدى كل واحد منهم بأربعة آلاف) .
وروت عائشة أم المؤمنين، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن أهل مكة لما وجهوا فداء أسراهم.. وجهت زينب بنت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، فكان فيما وجهت قلادة أدخلتها بها خديجة على أبي العاص، فلما رآها رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عرفها فرق لها، وقال للمسلمين: "إن رأيتم: أن تخلوا لها أسيرها وتردوا عليها(12/150)
مالها" ففعلوا ذلك. فأنزل الله تَعالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] [الأنفال: 68] . قال النَّبيّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، "لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر بن الخطاب» .
وأمَّا الدليل على جواز الفداء لمن أسر من المسلمين: ما رَوَى عمران بن الحصين: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسرى سرية، فأسر رجل من بني عقيل، فاستوثق منه وشد وترك في الحرة فقال: يا محمد، بم أخذت وأخذت سابقة الحاج؟ ـ يعني: ناقته ـ فقال: "بجريرة حلفائك من ثقيف " فقال: يا محمد، إني جائع فأطعمني، وإني عطشان فاسقني، وإني قد أسلمت. فأطعمه وسقاه وقال له: "لو قلت هذه الكلمة قبل هذا. أفلحت كل الفلاح» يعني: جمعت الإسلام والحرية. ثم فادى به برجلين من المسلمين أسرتهم ثقيف.
وأمَّا الاسترقاق: فإن كان الأسير من غير العرب.. نظرت: فإن كان ممن له كتاب أو شبهة كتاب.. جاز استرقاقه.
والدليل عليه: ما رُوِيَ عن ابن عبَّاس: أنه قال في قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] الآية [الأنفال: 67] : (إن ذلك كان يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم.. أنزل الله تَعالَى في الأسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] [محمد: 4] قال ابن عبَّاس: فجعل الله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار: إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم) . وأيضًا فهو إجماع.(12/151)
وإن كان الأسير من غير العرب من عَبَدَة الأوثان.. فهل يجوز استرقاقه؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي سعيد الإصطخري ـ: أنه لا يجوز. بل يكون الإمام فيه بالخيار: بين القتل والمن والفداء؛ لأن كل من لم يجز حقن دمه ببذل الجزية.. لم يجز حقن دمه بالاسترقاق، كالمرتد.
والثاني: يجوز استرقاقه، وهو المنصوص؛ لما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس؛ فإنه لم يفرق. ولأن كل من جاز للإمام المفاداة به والمن عليه.. جاز استرقاقه، كأهل الكتاب، وما قاله الأول: ينتقض بالصبيان.
فإن كان الأسير من العرب.. فهل يجوز استرقاقه؟ فيه قولان:
[أحدهما] : قال في الجديد: (يجوز استرقاقه) ؛ لما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس، ولأن من جاز المن عليه والمفاداة به.. جاز استرقاقه كغير العرب.
والثاني: قال في القديم: (لا يجوز استرقاقه، بل يكون الإمام فيه بالخيار: بين القتل والمن والفداء) ؛ لما رَوَى معاذ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: "لو كان الاسترقاق ثابتًا على العرب.. لكان اليوم، وإنما هو إسار وفداء» .
فإن تزوج مسلم عربي بأمة مسلمة لرجل، فأتت منه بولد.. فعلى القول الجديد: الولد مملوك لسيدها. وعلى القول القديم: الولد حر ولا ولاء عليه لأحد، وعلى الزوج قيمة الولد لسيده يوم الولادة.(12/152)
[فرع: طلب الأسير بذل الجزية وأن تعقد له الذمة]
] : وإن بذل الأسير الجزية، وطلب أن تعقد له الذمة، وهو ممن يجوز أن تعقد له الذمة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب قبولها؛ كما إذا بذلها في غير الأسر.
والثاني: لا يجب قبولها؛ لأن ذلك يسقط ما ثبت للإمام فيه من اختيار القتل والمن والفداء والاسترقاق.
والذي يقتضي المذهب: أنه لا خلاف أنه يجوز قبول ذلك منه، وإنما الوجهان في الوجوب؛ لأنه إذا جاز أن يمن عليه من غير مال أو بمال يؤخذ منه مرة واحدة.. فلأن يجوز بمال يؤخذ منه في كل سنة أولى.
[فرع: قتل الأسير أو إسلامه قبل أن يبت في أمره وماذا لو كان شيخًا كبيرًا]
] : وإن أسر رجل من المشركين، فقبل أن يختار فيه الإمام أحد الأشياء الأربعة قتله رجل.. عزر القاتل؛ لأنه افتأت على الإمام، ولا ضمان عليه.
وقال الأَوزَاعِي: (عليه الضمان) .
دليلنا: أنه بنفس الأسر لا يصير غنيمة، وإنما هو كافر لا أمان له، فلم يجب على قاتله الضمان، كالمرتد.
وإن أسلم الأسير قبل أن يختار الإمام فيه أحد الأشياء الأربعة.. لم يجز قتله لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . وهل يجوز المن عليه والمفاداة به؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز المن عليه والمفاداة به، بل يصير رقيقًا بنفس إسلامه؛ لأنه أسير لا يجوز قتله فصار رقيقًا، كالصبي والمرأة.
والثاني: يكون الإمام فيه بالخيار: بين الاسترقاق والمن والفداء؛ لـ: (أن(12/153)
النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فادى بالأسير العقيلي بعد أن أسلم) . ولأن من خير فيه بين أشياء، إذا سقط بعضها.. لم يسقط الباقي، كالمكفر عن اليمين إذا عجز عن الرقبة.. لم يسقط تخييره في الإطعام.
فعلى هذا: لا يجوز أن يفادى به إلا أن يكون له عشيرة يأمن على نفسه بينهم على إظهار دينه.
وإذا أسر شيخ من الكفار ممن لا قتال منه ولا رأي، فإن قلنا: يجوز قتله.. خير الإمام فيه بين الأربعة الأشياء، كالشباب. وإن قلنا: لا يجوز قتله.. فاختلف الشيخان فيه:
فقال الشيخ أبُو إسحاق: هو كغيره من الأسارى إذا أسلم. وأراد: أنه يكون على القولين.
وقال الشيخ أبُو حامد: يبنى على القولين في الأسير إذا أسلم. فإن قلنا: يرق بنفس الأسر.. فهذا أولى أن يرق، ولا خيار للإمام فيه. وإن قلنا: لا يرق الأسير بنفس الأسر، بل يخير الإمام فيه بين الثلاثة الأشياء.. ففي هذا وجهان:
أحدهما: يكون الإمام فيه مخيرًا بين الأشياء الثلاثة؛ لم ذكرناه في الأسير إذا أسلم.
والثاني: لا يخير فيه، بل يرق. والفرق بينهما: أن الأسير كان قد ثبت للإمام فيه الخيار بين الأشياء الأربعة، فإذا سقط القتل بالإسلام.. لم تسقط الأشياء الثلاثة، وهذا لم يثبت فيه للإمام الخيار في القتل في الأصل، فهو كالصبي وبالمرأة أشبه.
[فرع: كيفية قتل الأسير وحكم التمثيل بالمشركين]
فرع: [قتل الأسير يكون بضرب عنقه ولا يمثل بالمشركين وماذا لو فاداه أو من عليه أو كان عبدًا؟] :
وإن اختار الإمام قتل الأسير.. ضرب عنقه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] [محمد: 4] الآية. ولا يمثل به، بقطع يد ولا رجل ولا غير ذلك(12/154)
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم.. فأحسنوا القتلة» ورُوِي: أنه كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية.. قال: «اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تغلوا» .
قال الشيخ أبُو حامد: وأمَّا نقل رؤوس من قتل من الكفار إلى بلاد الإسلام فليست منصوصة لنا، ولكن أجمع أهل العلم على: أنه مكروه؛ لما رُوِيَ عن الزهريّ: أنه قال: لم يحمل إلى رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يوم بدر ولا غيره رأس مشرك، ولقد حمل إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رؤوس مشركين كثيرة، فأنكر ذلك وقال: (لم تحمل جيفهم إلى مدينة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .(12/155)
ورُوِي: (أن عقبة بن عامر أتى أبا بكر بفتح دمشق، ومعه جماعة رؤوس من المشركين، فقال له أبُو بكر: ما أصنع بهذه؟! كان يكفيك كتاب أو خبر) .
وحمل إلى عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رؤوس المشركين، ففزع من ذلك وقال: (ما كان يصنع هذا في عهد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في عهد أبي بكر، ولا في عهد عمر) .
وإن اختار الإمام أن يفادي الأسير بمال.. كان ذلك المال للغانمين؛ لأنه لو استرقه.. لكان للغانمين، والمال بدل عن رقبته. وإن أراد أن يسقط المال.. لم يجز إلا برضا الغانمين؛ لما رُوِيَ: أن وفد هوازن جاءوا مسلمين، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب بذلك.. فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا.. فليفعل" فقال الناس: قد طيبنا لك يا رسول الله» . ورُوِي:(12/156)
(أنه، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رد عليهم ستة آلاف من الرجال والنساء والصبيان) .
وإن أسر عبد فهو غنيمة؛ لأنه مال. ولا يجوز للإمام أن يمن عليه إلا برضا الغانمين.
قال الشيخ أبُو إسحاق: وإن رأى الإمام قتله لشره وقوته.. قتله وضمن قيمته للغانمين؛ لأنه مال لهم.
[مسألة: المبارزة وأحكامها وماذا لو صال مسلم على آخر؟]
؟] : قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا بأس بالمبارزة) .
وجملة ذلك: أن المبارزة على ضربين: مستحبة، ومباحة غير مستحبة.
فأما (المستحبة) : فهو أن يخرج رجل من المشركين ويطلب المبارزة.. فيستحب أن يبرز إليه رجل من المسلمين؛ لما رُوِيَ: أنه تقدم يوم بدر عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وقال عتبة: من يبارز؟ فخرج إليه شاب من الأنصار، فقال: ممن أنت؟ فقال: من الأنصار، فقال: لا حاجة لي فيك، وإنما أريد بني عمي. ويروى أنه قال: لا أعرف الأنصار، أين أكفاؤنا من قريش؟ فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لحمزة وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب: "اخرجوا إليهم"، فخرج حمزة إلى عتبة، وعلي إلى شيبة وعبيدة إلى الوليد فقتل حمزة عتبة، وقتل عليّ شيبة، واختلفت الضربتان بين الوليد وعبيدة، فأثخن كل واحد منهما صاحبه. قال علي: فملنا على الوليد فقتلناه، وأخذنا عبيدة. وروي: (أن عليّ بن أبي طالب بارز عمرو بن عبد ود العامري،(12/157)
فقال له عمرو: من أنت؟ فقال: عليّ بن أبي طالب، فقال: ما أحب أن أقتلك يا ابن أخي، فقال علي: أنا أحب أن أقتلك، فغضب عمرو وبارزه، فقتله عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) .
وأمَّا (المبارزة المباحة التي ليست بمستحبة ولا مكروهة) : فهو أن يدعو المسلم أولًا إلى المبارزة إذا عرف من نفسه شدة في القتال؛ لأن فيه تقوية لقلوب المسلمين. وإنما قلنا: إنها ليست بمستحبة؛ لأنه ربما قتل فانكسرت قلوب المسلمين.
وحكي عن أبي عليّ بن أبي هُرَيرَة أنه قال: إنها مكروهة. وليس بصحيح؛ لأن «النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن المبارزة بين الصفين، فقال: "لا بأس» .
فإن بارز ضعيف في الحرب.. جاز وكره.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأن القصد بالمبارزة إظهار القوة، وذلك لا يحصل بمبارزة الضعيف.
والصحيح هو الأول؛ لأن التّغرِير بالنفس في الجهاد يجوز. وهل يجوز أن يبارز من غير إذن الأمير؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ربما طرأ عليه ما ينكسر به الجيش.
والثاني: يجوز؛ لأن التَّغرِير بالنفس في الجهاد يجوز، إلا أنه يستحب أن لا يبارز(12/158)
إلا بإذنه؛ لأنه ربما احتاج منه إلى معاونة في حال القتال.
وإن بارز المشرك، وشرط أن لا يقاتله أحد غير من يبرز إليه.. لم يجز لأحد أن يرميه غير من يبرز إليه ليوفى له بالشرط. فإن ولى أحدهما عن الآخر مثخنًا أو مختارًا.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه شرط أن لا يقاتله أحد غير من برز إليه في القتال، إلا أن يشرط أن لا يقاتله أحد حتى يرجع إلى موضعه، فيوفى له بشرطه.
وإن ولى المسلم عنه فتبعه المشرك.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه نقض الشرط فسقط أمانه.
وإن استعان المشرك بأصحابه في القتال فأعانوه، أو أعانوه من غير أن يسألهم فلم يمنعهم.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه لم يف بالشرط، فلم يوف له.
وإن أعانه أصحابه فمنعهم، فلم يمتنعوا.. لم يجز لغير من برز إليه أن يرميه؛ لأنه لم ينقض الشرط.
وإن لم يشرط شيئا ً، ولم تجر العادة في المبارزة أن لا يقاتله غير من برز إليه.. جاز لكل واحد رميه؛ لأنه حربي لا أمان له. وإن لم يشرط شيئًا ولكن جرت العادة أن لا يقاتله غير من برز إليه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجوز لكل واحد رميه؛ لأنه حربي لا أمان له.
و [الثاني] : قال الشيخ أبُو إسحاق: لا يجوز لغير من برز إليه أن يرميه، لأن العادة كالشرط.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فلو قصد كافر مسلمًا ليقتله.. لم يجز للمسلم(12/159)
الاستسلام ليقتله الكافر، بل يجب عليه قتاله. ولو قصده مسلم ليقتله.. فهو بالخيار: بين أن يقاتله دفاعًا عن نفسه، وبين أن يستسلم له ليقتله.
ولأصحابنا البغداديين في هذا وجه آخر: أنه يجب عليه أن يمنعه عن نفسه، وقد مَضَى.
[مسألة: للقاتل السلب]
والسلب للقاتل، سواء شرطه الإمام له أو لم يشرطه.
قال مالك وأبو حَنِيفَة: (إن شرط الإمام في أول القتال أن السلب للقاتل.. كان له. وإن لم يشرطه.. لم يكن له) .
دليلنا: ما رَوَى أنس: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «من قتل قتيلًا.. فله سلبه» ، فقتل أبُو طلحة يومئذ عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم، فقضى رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بأن السلب للقاتل، ولم يفرق. ورَوَى أبُو قتادة قال: «خرجنا مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في غزاة(12/160)
حنين، فلما التقينا بالمشركين.. كان للمسلمين جولة ـ يعني: اضطرابًا ـ فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين، فاستدرت إليه من ورائه وضربت على حبل عاتقه بالسيف، فأرسله، ورجع إلي فضمني ضمة شممت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلقيت عمر بن الخطاب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلت: ما بال الناس؟! قال: أمر الله، ثم رجعنا، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قتل قتيلًا له به بينة.. فله سلبه"، فقمت وقعدت، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما لك يا أبا قتادة؟ "، فقلت: قتلت قتيلًا، فقال رجل من القوم: صدق، وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه منه، فقال أبُو بكر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لاها الله، إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سلبه! اردده، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صدق، فأعطه إياه" فأعطانيه، فبعث الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة، وإنه أول مال تأثلته في الإسلام» .
فموضع الدليل: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن شرط يوم حنين في أول القتال أن السلب للقاتل؛ لأنه لو شرطه.. لأخذه أبُو قتادة.
إذا ثبت هذا: فإن السلب لا يكون للقاتل إلا بشروط.
أحدها: أن يكون القاتل ممن يستحق السهم في الغنيمة. فأما إذا كان لا يسهم له لتهمة فيه، كالمخذل والمرجف، والكافر إذا حضر عونًا للمسلمين.. فإنه لا يستحق السلب؛ لأنه إذا لم يستحق السهم الراتب.. فلأن لا يستحق السلب أولى.(12/161)
وإن كان لا يسهم له لنقص فيه، كالصبي والعبد والمرأة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق السلب؛ لأنه لا يستحق السهم الراتب، فلم يستحق السلب، كالمخذل والمرجف.
والثاني: يستحق السلب؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلًا وله به بينة.. فله سلبه» . ولم يفرق.
الشرط الثاني: أن يقتله والحرب قائمة، سواء قتله مقبلًا أو مدبرًا. فأما إذا انهزموا ثم قتله.. فلا يستحق سلبه.
والشرط الثالث: أن يغرر القاتل بنفسه في قتله؛ بأن يبارزه فيقتله، أو يحمل على صف المشركين ويطرح بنفسه عليه فيقتله.. فأما إذا رمي إلى الصف فقتل رجلًا.. لم يستحق سلبه.
الشرط الرابع: أن يكون المقتول ممتنعًا. فأما إذا قتل أسيرًا.. فلا يستحق سلبه.
الشرط الخامس: أن يكفي المسلمين شره؛ بأن يكون المقتول حين قتله صحيحًا غير زمن. فأما إذا قتل مقعدًا أو زمنًا لا يقاتل.. فلا يستحق سلبه.
فإن قطع يديه ورجليه.. استحق سلبه؛ لأنه قد كفي المسلمين شره؛ لأنه لا يقدر بعد ذلك على القتال. فإن قطع إحدَى يديه، أو إحدَى رجليه.. لم يستحق سلبه؛ لأنه لم يكف المسلمين شره؛ لأنه يقدر على القتال. وإن قطع يديه أو رجليه.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق.
أحدهما: يستحق سلبه؛ لأنه قد كفى المسلمين شره.
والثاني: لا يستحق سلبه؛ لأنه لم يكف المسلمين شره، لأنه بعد قطع يديه قد يعدو على رجليه ويصيح، وللصياح أثر في الحرب، وبعد قطع رجليه يرمي بيديه ويصيح.
وإن أثخن رجل مشركًا، ولم يكف المسلمين شره لو بقي، فقتله آخر.. لم(12/162)
يستحق أحدهما سلبه؛ لـ: (أن ابن مَسعُودٍ، قتل أبا جهل، وقد كان أثخنه غلامان من الأنصار، فلم يدفع النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سلبه إلى ابن مَسعُودٍ، ولا إليهما) .
وإن اشترك اثنان في قتله.. اشتركا في سلبه؛ لأنهما قاتلان. فإن قطع أحدهما يديه أو رجليه، ثم قتله الآخر.. ففيه قولان حكاهما الشيخ أبُو حامد:
أحدهما: أن السلب للأول؛ لأنه هو الذي كفى المسلمين شره.
والثاني: أن السلب للثاني؛ لأن شره لم ينقطع عن المسلمين إلا بفعل الثاني.
وإن غرر بنفسه من له سهم، فأسر رجلًا مقبلًا على الحرب.. ففيه قولان:
أحدهما: يستحق سلبه؛ لأن ذلك أبلغ من قتله.
والثاني: لا يستحق سلبه؛ لأنه لم يكف المسلمين شره.
فإن استرقه الإمام أو فاداه. كان في رقبته أو المال المفادى به القولان في سلبه.
[فرع: المقصود بالسلب]
] : و (السلب) : هو ما كان معه من جنة القتال أو آلة الحرب، كالثياب التي عليه، والدرع، والبيضة، والمغفر، والسيف، والسكين، والقوس، والرمح، وما أشبه ذلك؛ لأن ذلك كله جنة وزينة وآلة للقتال.
فأما ما لم يكن جنة ولا زينة، كالمتاع والخيمة، أو آلة قتال ليست بمشاهدة تحت يده، كالسلاح والقوس الذي في خيمته.. فليس من السلب.
وأمَّا ما كان مشاهدًا في يده مما ليس بجنة ولا آلة للقتال ولكنه زينة، كالمنطقة، والخاتم، والسوار، والتاج، والجنيب الذي معه، والنفقة التي في وسطه.. فهل(12/163)
ذلك من السلب؟ قال الشيخ أبُو حامد فيه وجهان، وحكاهما الشيخ أبُو إسحاق قولين:
أحدهما: أنه ليس من السلب؛ لأنه ليس بجنة للقتال ولا آلة للحرب، فهو كالمتاع والخيمة.
والثاني: أنه من السلب؛ لما روي: (أن عمر لما قسم خزائن كسرى بن هرمز.. دعا بسراقة بن مالك بن جعشم، وأعطاه سواري كسرى، وقال له: البسهما، فلبسهما، وقال له: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما أعرابيًا من بني مدلج) فسمى السوارين سلبًا، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة. ولأن يده عليه، فهو كجنة الحرب.
[فرع: لا يخمس السلب عندنا ويعطى من أصل الغنيمة]
] : ولا يخمس السلب.
وقال ابن عبَّاس: (يخمس) .
وقال عليّ بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إن كان كثيرًا.. خمس، وإن كان قليلًا.. لم يخمس) .(12/164)
دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسلب للقاتل» وهو عام.
ويستحق القاتل السلب من أصل الغنيمة.
وقال مالك: (يستحقه من خمس الخمس) .
دليلنا: ما رَوَى سلمة بن الأكوع قال: «خرجنا مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في غزاة، فأتانا رجل على جمل أحمر، فنزل وأطلق الناقة وأكل مع القوم، ثم قام وركب وانطلق، فقالوا: طليعة القوم، فانطلقت وراءه، فأخذت بزمام ناقته وقلت: إخ، فبركت، فاخترطت السيف، فقتلته، وأخذت سلبه، فاستقبلني الناس، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قتله؟ " فقالوا: سلمة بن الأكوع، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "له سلبه أجمع» .
[مسألة: المعاقدة بعد الحصار للحكم في أمرهم]
قال أبُو العباس: وإن حاصر الإمام أهل بلد أو حصن أو قرية، فعقد بينه وبينهم عقدًا على أن ينزلوا على حكم حاكم.. جاز؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر بني قريظة، فعقد لهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ» .
إذا ثبت هذا: فيفتقر الحاكم في ذلك إلى سبع شرائط، وهي: أن يكون رجلًا، حرًا، مسلمًا، بالغًا، عاقلًا، عدلًا، فقيهًا؛ كما يشترط في حق القاضي إلا أنه يجوز أن يكون أعمى؛ لأن عدم بصره هاهنا لا يضر بالمسلمين؛ لأن الذي يقتضي الحكم هو المشهور من أمرهم، وذلك يدركه بالرأي مع فقد البصر.
وإن حكموا رجلًا يعلم أن قلبه يميل إليهم.. كره ذلك وصح حكمه؛ لأن شروط الحكم موجودة فيه.
وإن نزلوا على حكم رجلين أو أكثر.. جاز، كما يجوز التحكيم في اختيار الإمام إلى اثنين. ولا يكون الحكم إلا على ما اتفقا عليه.(12/165)
وإن نزلوا على حكم حاكم غير معين يختاره الإمام.. جاز؛ لأنه لا يختار إلا من يصلح للحكم.
وإن نزلوا على حكم حاكم يختارونه.. لم يجز؛ لأنهم ربما اختاروا من لا يصلح للحكم. فإن نزلوا على حكم حاكم يصح حكمه فمات الحاكم قبل الحكم، أو نزلوا على حكم حاكم لا يصلح للحكم؛ فإن اتفقوا هم والإمام بعد نزولهم على حكم حاكم يصلح للحكم.. جاز ذلك. وإن لم يتفقوا على ذلك.. وجب ردهم إلى الموضع الذي نزلوا منه، ورجع الإمام إلى حصارهم. وكذلك: إذا تركوا على حكم رجلين فمات أحدهما، فإن اتفقوا على من يقوم مقامه. جاز وإن لم يتفقوا عليه وجب ردهم إلى حيث كانوا.
وأمَّا صفة حكم الحاكم فيهم: فإن حكم فيهم بقتل مقاتلهم وسبي نسائهم وأطفالهم.. صح حكمه؛ لأن سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بذلك، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» .
وإن حكم بقتل مقاتلتهم، وترك نسائهم وأطفالهم، أو بترك الجميع.. صح حكمه، كما يجوز المن على الأسارى وكذلك: إن حكم فيهم بإطلاق مقاتلتهم بمال يدفعونه. صح حكمه، كما يجوز مفاداة الأسير بمال.
وإن حكم على مقاتلتهم وترك نسائهم وأطفالهم، أو بترك الجميع.. صح حكمه، كما يجوز المن على الأساري. وكذلك: إن حكم فيهم بإطلاق مقاتلتهم بمال يدفعونه.. صح حكمه، كما يجوز مفاداة الأسير بمال.
وإن حكم على مقاتلتهم بعقد الذمة وإعطاء الجزية.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ذلك عقد، فلم يصح إلا برضا منهم.
والثاني: يصح ويلزمهم ذلك؛ لأنهم قد رضوا بحكمه.
وإن حكم باسترقاقهم.. صح حكمه؛ لأنه إذا صح حكمه بقتل مقاتلتهم.. فلأن يصح باسترقاهم أولى.
فإن حكم عليهم بالقتل وأخذ أموالهم، فعفا الإمام عن واحد منهم وماله.. صح(12/166)
عفوه؛ لـ: (أن سعد بن معاذ حكم بقتل رجال بني قريظة وسبي نسائهم وأموالهم فسأل ثابت بن قيس بن الشماس رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن يعفو عن واحد من بني قريظة فأجابه إلى ذلك) .
وإن حكم الحاكم باسترقاقهم، ثم أراد المن عليهم.. لم يجز إلا برضا الغانمين لأنهم قد صاروا مالًا لهم.
وإن حكم بقتل مقاتلتهم، ثم أرادوا استرقاقهم.. قال الشيخ أبُو إسحاق: لم يجز؛ لأنهم لم ينزلوا على ذلك.
[مسألة: إسلام الكفار قبل الأسر]
إذا أسلم الكافر قبل الأسر.. عصم دمه وأمواله وأولاده الصغار، سواء خرج إلى دار الإسلام أو لم يخرج.
وقال مالك: (إذا أسلم في دار الحرب.. حقن دمه وماله الذي في دار الإسلام، وأمَّا ماله الذي في دار الحرب.. فيغنم) .
وقال أبو حَنِيفَة: (يحقن بالإسلام دمه وماله الذي يده المشاهدة ثابتة عليه. وما كان وديعة له عند ذمي ويد الذمي عليه.. فيغنم. فأما ما لم تكن يده المشاهدة ثابتة عليه، مثل الدواب والعقار والضياع.. فيغنم) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد(12/167)
رسول الله، فإذا قالوها.. عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ، ولم يفرق.
ولأن «الأسير العقيلي قال للنبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا محمد، إني جائع فأطعمني، وإني عطشان فاسقني، وإني أسلمت، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو تكلمت بهذه الكلمة قبل هذا أفلحت كل الفلاح ـ يعني: حقنت دمك ومالك ـ وأمَّا الآن: فلا تحقن إلا دمك» .
وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر بني قريظة، فأسلم ابنا سعية، فحقنا دماءهما وأموالهما وأولادهما الصغار» ولأن كل من لم يجز أن يغنم ماله، إذا كانت يده ثابتة عليه.. لم يجز أن يغنم وإن لم تكن يده ثابتة عليه، كالمسلم.
وإن كان للكافر منفعة تملك بالإجارة فأسلم.. لم تملك عليه؛ لأنها كالمال.
[فرع: سبي واسترقاق الحربية التي زوجها مسلم أو حربي فأسلم]
وإن تزوج المسلم حربية، أو تزوج الحربي حربية فأسلم.. فالمنصوص: (أنه يجوز سبيها واسترقاقها) ؛ لأنه لما جاز أن يطرأ على هذا النكاح الفسخ بالعيوب.. جاز أن يكون هذا السبي والاسترقاق سببًا لفسخه.
ومن أصحابنا من قال لا يجوز سبيها؛ لأن فيها حقًا للمسلم وهو الاستمتاع. وليس بشيء؛ لأن الاستمتاع ليس بمال ولا يجري مجرى المال؛ ولهذا لا يضمن بالغصب.
[فرع: أسلم وله حمل وماذا لو تزوج المسلم ذمية أو حربية؟]
؟] : وإن أسلم وله حمل.. لم يجز استرقاقه.
وقال أبو حَنِيفَة: (يجوز) .
دليلنا: أنه مسلم بإسلام أبيه، فلم يجز استرقاقه، كما لو كان منفصلًا.(12/168)
وإن كانت الحامل به حربية وقلنا بالمنصوص: (أنه يجوز استرقاقها إذا كانت حائلًا) .. فهل يجوز استرقاقها هاهنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لأنها حربية لا أمان لها.
والثاني: لا يجوز استرقاقها؛ لأنه لما لم يجز استرقاق حملها.. لم يجز استرقاقها. ألا ترى أن الأمة إذا كانت حاملًا بحر.. فإنه لا يجوز بيعها، كما لا يجوز بيع حملها؟
فإن تزوج حربي بحربية، فحملت منه وسبيت المرأة.. استرقت وولدها، فإن أسلم أبوه.. حكم بإسلام الحمل ولا يبطل رقه؛ لأن الإسلام طرأ على الرق فلم يبطله.
فإن تزوج المسلم ذمية أو حربية، فحملت منه.. فالولد مسلم، فإن سبيت الأم رقت ولا يرق الحمل؛ لأنه مسلم، فيجوز بيعها بعد ولادتها وإن كان الولد صغيرًا لأنهما غير مجتمعين في الملك، فجاز التفريق بينهما.
ويحتمل وجهًا آخر: أنه لا يجوز استرقاقها، كما قلنا في التي قبلها.
[فرع: إسلام المحاصرين وماذا لو أسلم رجل وله ابن صغير؟]
فإن حصر الإمام قومًا من المشركين في بلد أو حصن، فأسلموا.. فهو كما لو أسلموا قبل الحصار؛ لـ: (أن ابني سعية أسلما في الحصر فحقن إسلامهما دمهما وأموالهما وأولادهما الصغار) .
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فإن أسلم رجل وله ولد ابن صغير.. فهل يحرره؟
فيه وجهان:
أحدهما: أنه يحرره، كالأب.
والثاني: لا يحرره؛ لأن الجد لما خالف الأب في الميراث.. خالفه هاهنا.
واختلف قول القفال في هذين الوجهين؛ فقال في مرة: الوجهان هاهنا إذا كان الأب حيًا، فأما إذا كان الأب ميتًا.. فيحرره الجد وجهًا واحدا. وقال في مرة:(12/169)
الوجهان إذا كان الأب ميتًا، فأما إذا كان الأب حيًا.. فلا يحرره الجد وجهًا واحدًا.
[مسألة: يحكم بإسلام الصغير لو أسلم أحد أبويه ولكن ماذا لو سبي؟]
وإن أسلم أحد الأبوين ولهما ولد صغير.. تبع الولد المسلم منهما، وقد تقدم ذكرها في (اللقيط) .
وإن سبي صغير، فإن سبي معه أبواه أو أحدهما.. تبعهما في الدين، ولا يتبع السابي. وبه قال أبو حَنِيفَة.
وقال الأَوزَاعِي: (يتبع السابي في الإسلام) .
وقال مالك: (إن سبي معه الأب.. تبعه في الدين دون السابي. وإن سبيت معه الأم.. تبع الولد السابي دون الأم) .
دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ، فأخبر أن الأبوين يهودانه وينصرانه ويمجسانه، فمن قال: إنهما لا يهودانه ولا ينصرانه ولا يمجسانه إذا سبي معهما، أو أن الأم لا تهوده ولا تنصره ولا تمجسه.. فقد خالف ظاهر الخبر. ولأن الولد مخلوق من ماء الأب والأم، فإذا تبع الأب في الدين.. وجب أن يتبعها أيضًا.
إذا ثبت هذا: فسبي الصغير وأحد أبويه وبلغا دار الإسلام، ثم مات الوالد وبقي(12/170)
الولد.. كان باقيًا على الكفر؛ لأنه قد حكم بكفره في دار الإسلام تبعًا لوالده، فلم يحكم بإسلامه بموت والده.
فأما إذا سبي الصغير وحده.. فقد اختلف الشيخان فيه:
فقال الشيخ أبُو حامد: يحكم بإسلامه تبعًا للسابي ـ قال ـ: وهذا إجماع؛ لأنه لا يستقل بنفسه، بكونه لا حكم لكلامه.
وقال الشيخ أبُو إسحاق: فيه وجهان:
أحدهما: هذا.
والثاني أنه باق على كفره ـ قال ـ: وهو ظاهر المذهب؛ لأن يد السابي يد ملك، فلا توجب إسلامه، كيد المشتري.
[فرع: لا يحكم بإسلام الصبي والمجنون]
وإن وصف الكافر المجنون، أو صبي غير مميز من أولاد الكفار الإسلام.. لم يحكم بإسلامه؛ لأنه لا حكم لقوله.
وإن وصف الإسلام صبي مميز من أولاد الكفار.. فهل يحكم بإسلامه؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبُو حامد.
أحدها: يصح إسلامه؛ لما روي: (أن عليًا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أسلم قبل أن يبلغ) . ولأنه تصح صلاته وصومه، فصح إسلامه، كالبالغ.
والثاني: لا يصح إسلامه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ولأنه غير مكلف، فلم يصح إسلامه، كالمجنون والصبي الذي لا تمييز له.
والثالث: أن إسلامه موقوف. فإن بلغ ثم وصف الإسلام.. حكمنا بصحة إسلامه(12/171)
من حين أسلم قبل بلوغه. وإن وصف الكفر بعد بلوغه، أو لم يصف الإسلام.. لم يحكم بصحة إسلامه؛ لأنه لا يتبين ما كان منه في الصغر إلا بما انضاف إليه بعد البلوغ.
والصحيح: أنه لا يصح إسلامه، وما رُوِيَ عن عليّ.. فقد روي: (أنه كان يوم أسلم ابن إحدَى عشرة سنة) فيحتمل أنه أقر بالبلوغ ثم أسلم.
فعلى هذا: يحال بينه وبين أبويه؛ لئلا يزهداه في الإسلام. فإن بلغ ووصف الإسلام.. حكم بإسلامه من حين وصفه بعد البلوغ. وإن وصف الكفر.. قرع فإن أقام على ذلك.. رد إلى أهله.
[مسألة: لا يفرق في السبي بين أم وولدها]
وإن سبيت امرأة وولدها الصغير.. لم يجز أن يفرق بينهما؛ لما رَوَى أبُو أيوب الأنصاري: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من فرق بين والدة وولدها.. فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» ورَوَى عمران بن الحصين: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ملعون، ملعون من فرق بين والدة وولدها» ورَوَى أبُو سعيد الخدري: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع امرأة تبكي، فقال: "ما لها؟ قيل له: فرق بينها وبين ولدها، فقال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا توله والدة بولدها» . قال الشيخ أبُو حامد: وهذا الإجماع لا خلاف فيه.(12/172)
وإلى أي سن لا يجوز التفرقة بينهما؟ فيه قولان:
أحدهما: إلى أن يبلغ الولد سبع سنين.
والثاني: إلى أن يبلغ.
وقد مَضَى توجيههما في البيوع.
وقال مالك: (تحرم التفرقة بينهما إلى أن يسقط سنه وينبت) .
وقال الليث: إلى أن يأكل بنفسه ويلبس بنفسه.
وقولهما قريب من قولنا في بلوغه سبع سنين.
وقال أحمد: (تحرم التفرقة بينهما أبدًا) . وهذا خطأ؛ لأنه إذا بلغ.. استغنى بنفسه، فلم تحرم التفرقة بينهما.
[فرع: التفرقة بين الرجل وولده أو بينه وبين جده أو جدته]
] : وإن سبي الرجل وولده الصغير.. فهل تحرم التفرقة بينهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تحرم؛ لأنا إنما منعنا التفرقة بينه وبين الأم؛ لئلا يفقد لبنها وحضانتها، وهذا لا يوجد في حق الأب.
والثاني: تحرم، وهو اختيار الشيخ أبي حامد؛ لما رُوِيَ عن عُثمانَ بن عفان، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: (لا يفرق بين الوالد وولده) . ولأن الأب وإن لم يكن له لبن.. فله حضانة؛ لأنه يكتري له الحاضنة ويشرف عليه. فإذا فرق بينهما.. استضر بذلك.
وتحرم التفرقة بين الولد الصغير وبين جدته أم أمه وإن علت. وتحرم التفرقة بينه وبين جدته أم أبيه وأم أبي أبيه؛ لأن لها لبنًا وحضانة، فهي بمنزلة أم أمه. وأمَّا التفرقة بينه وبين جده.. فعلى الوجهين في التفرقة بينه وبين الأب.(12/173)
[فرع: التفرقة بين الأخوين ونحوهما]
ولا تحرم التفرقة بين الولد الصغير وبين أخيه، وعمه، وخاله، وعمته، وخالته.
وقال أبو حَنِيفَة: (تحرم) . وروي ذلك عن عمر.
دليلنا: أنهما شخصان تقبل شهادة أحدهما للآخر، فلم تحرم التفرقة بينهما، كابني العم.
[مسألة: السبي وفسخ النكاح]
] : إذا سبي الزوج وحده.. لم ينفسخ نكاحه حتى يسترقه الإمام. وإن سبيت الزوجة وحدها.. انفسخ نكاحها.. ووافقنا أبو حنيفة في الحكم في هذا وخالفنا في العلة؛ فالعلة عندنا: حدوث الرق، والعلة عنده: اختلاف الدارين.
وإن سبي الزوجان معًا.. انفسخ نكاحهما. وبه قال الليث والثوريُّ وأبو ثور.
وقال أبو حَنِيفَة: (لا ينفسخ النكاح؛ لأن اختلاف الدارين لم يوجد) .
دليلنا: ما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث سرية إلى أوطاس، فأصابوا نساء ذات أزواج، فتأثم ناس من وطئهن لأجل أزواجهن، فنزل قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] » .
والمراد بالمحصنات هاهنا: الزوجات، فاستحلوا وطأهن، ولم يفرق بين أن يسبى زوجها أو تسبى وحدها. ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم سبي أوطاس وبني المصطلق، وقال: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض» ولم يفرق بين ذات زوج(12/174)
وغير ذات زوج. ولأنها ملكت بالقهر والغلبة، فبانت من زوجها، كما لو سبي أحدهما دون الآخر.
وإن سبي الزوجان أو أحدهما وهما مملوكان.. فهل ينفسخ نكاحهما؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: ينفسخ نكاحهما؛ لأنه حدث سبب يوجب الاسترقاق، كما أن الزِّنَى يوجب الحد وإن صادف حدًا.
و [الثاني] : قال الشيخ أبُو إسحاق: لا ينفسخ نكاحهما؛ لأنه لم يحدث بالسبي رق، وإنما حدث انتقال ملك، فلم ينفسخ النكاح، كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع.
[فرع: سبيت زوجة مشرك وعنده أسرى من المسلمين]
إذا سبيت زوجة مشرك فجاء زوجها يطلبها وقال: عندي فلان وفلان من المسلمين مأسورين، فإن أطلقتموها أطلقتهما.. قال الشيخ أبُو حامد: فإن الإمام يقول له: أحضرهما، فإذا أحضرهما.. أطلقهما الإمام ولم يطلق له زوجته؛ لأنهما حران، فلا يجوز أن يكونا ثمن مملوكة له، بل يقال له: إن اخترت أن تشتريها.. فاشترها.
[مسألة: اغتنام ما يؤكل]
إذا دخل المسلمون دار الحرب، وغنموا منها ما يؤكل، كالحب والخبز واللحم والعسل وما أشبهه، واحتاجوا إلى أكله.. جاز لهم أكله ولا قيمة عليهم فيه؛ لما روي: عن عبد الله بن أبي أوفى، أنه قال: «أصبنا مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بخيبر طعامًا، فكان كل واحد منا يأخذ قدر كفايته منه» ، ورُوِي عن ابن عمر: «أن جيشًا على(12/175)
عهد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، غنموا طعامًا وعسلًا، فلم يؤخذ منهم الخمس» يعني: مما أكلوا ولأن الحاجة إلى إباحة ذلك للغانمين؛ لأنه يشق عليهم حمل ما يقتاتون إلى دار الحرب ويشق عليهم أن يشتروا من المشركين. ولأنه ربما فسد إذا حمل إلى دار الإسلام، وربما كانت المؤنة بنقله أكثر من قيمته، فكانت إباحته للغانمين من غير عوض أولى.
وهل لهم أن يأكلوا منه من غير حاجة لهم إلى الأكل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز لهم أكله، كما لا يجوز للإنسان أكل مال غيره بغير إذنه من غير حاجة به إليه.
والثاني ـ وهو ظاهر المذهب ـ: أنه يجوز لهم أكله؛ لما رُوِيَ عن عبد الله بن مغفل، أنه قال: «ولي جراب فيه شحم يوم خيبر، فأتيته فالتزمته، ثم قلت: لا أعطي أحدًا منه شيئًا، فالتفت فإذا برسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خلفي يبتسم» ، فلو لم يجز أكل ما زاد على الحاجة.. لنهاه عن ذلك.
[فرع: قرض طعام الغنيمة]
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإذا أقرض غيره شيئًا من ذلك الطعام.. جاز) .
قال أصحابنا: لم يرد بذلك أنه قرض في الحقيقة؛ لأنه لا يملكه، وإنما أبيح له أخذه، فإذا أخذه. كان أحق به من غيره. فأما إذا أقرضه غيره من الغانمين ودفعه إليه. صار الثاني أحق به من الأول؛ لأن يد الأول زالت عنه وثبتت يد الثاني عليه. فإذا رده إلى الأول.. صار أحق به أيضًا. وإن دفعه لغير الغانمين.. وجب عليه رده إلى الغنيمة.(12/176)
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن باع شيئًا من ذلك الطعام من بعض الغانمين بطعام آخر.. جاز) .
وقال أصحابنا: لم يرد به لأنه ليس ببيع في الحقيقة؛ لما ذكرناه فيما لو أقرضه، وإنما أراد: أن الثاني يصير أحق به من الأول؛ لثبوت يده عليه، ولا يلزمه بدله.
وإن باع منه صاع طعام بصاعين أو أكثر.. جاز للثاني أكله؛ لأنه ليس ببيع فلا يكون ربًا.
وإن باعه من غير الغانمين.. لم يجز؛ لأن الأول لا يملكه والثاني لا يستحقه. فإذا أخذه بعض الغانمين من المشتري أو دفعه إليه.. صار أحق به.
[فرع: علف المركوب وغيره وماذا لو رجع ومعه بقية طعام؟]
ويجوز للمجاهد أن يعلف مركوبه وما يحمل عليه رحله من البهائم من العلف الذي يؤخذ من المشركين في دار الحرب، ولا ضمان عليه فيه؛ لأن الحاجة إلى ذلك كحاجته إلى الطعام.
وإن كان مع المجاهد بزاة، أو صقور، أو كلاب صيد.. فليس له أن يطعمها من الغنيمة؛ لأنه لا حاجة به إلى حملها إلى دار الحرب.
وإن خرج المجاهد إلى دار الإسلام ومعه بقية من الطعام.. فقد قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، في موضع: (يرده إلى المغنم؛ لأن حاجته إليه قد زالت) ، وقال في موضع آخر: (يكون له) .
فمن أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: يلزمه رده إلى المغنم؛ لأن حاجته إليه قد زالت.(12/177)
والثاني: يكون أحق به؛ لأنه لما جاز له أكله في دار الحرب.. جاز له أكله في دار الإسلام.
ومنهم من قال: إن كان كثيرًا.. وجب عليه رده إلى المغنم قولًا واحدًا، وإن كان قليلًا.. فعلى القولين. والطريق الأول أصح.
وقال الأَوزَاعِي وأبو حَنِيفَة: (إن كان قبل القسمة.. رده إلى المغنم. وإن كان بعد القسمة.. باعه وتصدق بثمنه) .
دليلنا: أنه إن كان له.. فلا يجب عليه أن يتصدق به. وإن كان للغانمين.. لم يجز له أن يتصدق به.
[فرع: غنيمة الأدوية وتوقيح الدابة ولبس ثياب وركوب دابة الغنيمة]
] : وإن غنموا أدوية.. لم يجز لأحد منهم أن يتناول منها شيئًا؛ لأنها ليست بقوت والحاجة إليها نادرة. فإن احتاج بعض الغانمين إلى تناول شيء منها لعلة فيه.. جاز له ذلك، وكان عليه ضمانه.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وليس له أن يوقح دابته بدهن من الغنيمة) . و (التوقيح) : أن يدهن حافر الدابة؛ لأن هذا دواء وليس بقوت، وكذلك ليس له أن يدهن من دهن الغنيمة؛ لما ذكرناه.
وإن كان في الغنيمة ثياب وفي الغزاة عار.. فليس له أن يلبس شيئًا منها من غير أن يضمنه، ولا لأحد أن يركب شيئًا من دواب الغنيمة من غير ضرورة؛ لما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فلا يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها.. ردها فيه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فلا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين حتى إذا خلق.. رده فيه» .(12/178)
[فرع: غنموا حيوانًا مأكولًا أو ركاء وسطائح]
] : فإن غنموا شيئًا من الحيوان المأكول واحتاجوا إلى ذبحه لأكله.. ففيه وجهان:
أحدهما: لهم ذلك، ولا ضمان عليهم فيه، كما لو وجدوا طعامًا أو لحمًا.
والثاني: ليس لهم ذلك؛ لأن الحاجة إليه نادرة، والأول أصح.
فأما جلد هذا الحيوان: فلا يجوز لهم الانتفاع به؛ لأنه ليس بقوت.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن اتخذوا منه سيورًا أو ركاء، أو سطائح.. كان عليهم ردها، وأجرة مثلها للمدة التي أقامت في أيديهم، وأرش ما نقصت) .
وقال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يجوز أن يذبحوا دابة من دواب الغنيمة لأجل الركاء والسطائح) ؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة» .
وإن غنموا ركاء وسطائح.. لم يكن لهم استعمالها؛ لأنها ليست بقوت.
[فرع: غنيمة الكتب]
وإن غنم المسلمون من المشركين كتبًا، فإن كان فيها طب أو نحو أو شعر مباح.. فهي غنيمة؛ لأنها مال. وإن كان فيها كفر، أو التوراة، أو الإنجيل.. لم يجز تركها؛ لئلا تقع في يد مسلم فتغويه.(12/179)
فعلى هذا: ينظر فيها: فإن أمكن محو كتابتها، والانتفاع بما كتب عليه.. فعل ذلك. وإن لم يمكن ذلك.. مزقت، ولا تحرق بالنار؛ لأنه ربما انتفع بالمكتوب عليه بعد التمزيق، ولا يمكن ذلك بعد التحريق. ولأنها لا تخلو من أن يكون فيه اسم الله تَعالَى.
[فرع: أصابوا خمرًا أو خنزيرًا أو كلابًا أو ما يباح تملكه كالصقر ونحوه]
وإن أصاب المسلمون في دار الحرب خمرًا في دنان.. فإن الخمر يراق، كما لو وجدت في يد مسلم.
وأمَّا الدنان: فإن كان المسلمون قد غلبوا على الدار.. فإن الدنان غنيمة. وإن لم يغلبوا على الدار، فإن أمكنهم أخذ الدنان.. أخذوها، وإن لم يمكنهم ذلك كسرت؛ لئلا يعصوا الله بها ويتقووا بها على المعاصي.
وإن أصابوا خنازير.. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (تقتل، ولا أترك عاديًا عليّ مسلم وأقدر على قتله) .
فمن أصحابنا من قال: إن كان فيها عدو.. قتلت؛ لما فيها من الضرر. وإن لم يكون فيها عدو.. لم تقتل؛ لأنه لا ضرر فيها.
ومنهم من قال: تقتل بكل حال؛ لأنه يحرم الانتفاع بها، فوجب إتلافها، كالخمر.
وإن أصابوا كلابًا، فإن كان عقارة.. قتلت؛ لما فيها من الضرر. وإن كانت ينتفع بها للصيد والماشية والزرع.. قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (قسمت بين الغانمين) يعني: تقر أيديهم عليها، لا أنهم يتملكونها؛ لأن الكلاب لا تملك عندنا. فإن كان في الغانمين وأهل الخمس أهل صيد أو ماشية أو زرع.. دفعت إليهم. وإن لم يكن فيهم من ينتفع بها.. قال الشيخ أبُو حامد: قتلت أو تركت؛ لأن اقتناء الكلب لا يجوز لغير حاجة.
وإن وجد في دار الحرب سنانير، أو بزاة، أو صقور.. كانت غنيمة؛ لأنها مملوكة مباحة.(12/180)
[فرع: ما وجد مباحًا أو لقطة في دار الحرب فهو كالمباح في دار الإسلام]
وكل ما كان مباحًا في دار الإسلام، كالصيد الذي لا علامة عليه في البرية، والأشجار في الموات، والأحجار في الجبال؛ فإن وجد شيء من ذلك في دار الحرب.. فهو لمن أخذه، كما قلنا فيمن وجد ذلك في دار الإسلام.
وإن كان على ذلك أثر يد؛ مثل الصيد المقرط أو الموسوم، أو الشجر في الموات المحوط عليه، والتراب المحوط، والأحجار في البناء.. فهو غنيمة؛ لأن الظاهر من هذه العلامات ثبوت اليد عليها، فكانت غنيمة.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن وجد في دار الحرب ما يمكن أن يكون ملكًا للمشركين، ويمكن أن يكون سقط من المسلمين.. أحببت لمن وجده أن يعرفه اليوم واليومين، فإن لم يظهر مالكه.. فهو غنيمة) . هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه يعرفه سنة.
[فرع: موات دار الحرب وفتحت مكة عندنا صلحًا لا عنوة]
وإن فتحت أرض عنوة وأصيب فيها موات، فإن لم يمنع الكفار منها.. فهي لمن أحياها، وإن منعوا منها.. ففيها وجهان مَضَى ذكرهما في إحياء الموات.
وإن فتحت صلحًا على أن تكون الأرض لهم.. لم يجز للمسلمين أن يملكوا فيها مواتًا بالإحياء؛ لأن الدار للكفار، فلا يملك المسلمون إحياءها.
إذا ثبت هذا: فإن مكة دخلها رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يوم الفتح صلحًا عندنا لا عنوة، ولسنا نريد بذلك أنه عقد الصلح مع جميع أهل مكة، وإنما عقد الصلح مع أبي سفيان وحده، وعقد لهم الأمان بشرط، ثم وجد الشرط فلزمه الأمان، ولم يكن للنَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سبي أموالهم وذراريهم، ولا قتل من وجد فيه منهم شرط الأمان إلا من استثناه. وبه قال مجاهد.(12/181)
وقال مالك والأَوزَاعِي وأبو حَنِيفَة: (دخلها رسول، الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عنوة، وكان له أن يقتل ويسبي ويغنم، ولكنه عفا عنهم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد: 31] [الرعد: 31] الآية. فأخبر أن مشركي قريش لا يزال تصيبهم القوارع من سرايا رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلى أن يحل رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قريبًا بقرب ديارهم وتنقطع عنهم القوارع، وهذا لا يكون إلا على قولنا. ولقوله تَعالَى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] إلى قوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21] [الفتح: 20-21] والتي عجل لهم: هي غنائم حنين والتي لم يقدروا عليها: قال بعض أهل التفسير: هي غنائم مكة؛ لأنها فتحت صلحًا لا عنوة.
ولما رُوِيَ: أن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سار إلى مكة.. نزل بمر الظهران. قال العباس: فقلت في نفسي: إن دخل رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مكة قبل أن يخرجوا إليه فيستأمنوه.. إنه لهلاك قريش، فركبت بغلة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لعلي أجد ذا حاجة أخبره بذلك، فيخبر أهل مكة ليخرجوا إليه فيستأمنوه، فبينا أنا سائر إذا أنا بأبي سفيان بن حرب وبديل بن ورقاء، فقلت: أبا حنظلة، فقال أبا الفضل؟ ! قلت نعم. قال: بأبي أنت وأمي، ما لك؟ فقلت: رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والناس، فقال: ما ترى؟ قلت: اركب خلفي، فركب خلفي، ورجع بديل بن ورقاء، فأتيت به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمنه، وقال لي: خذه إلى الغد، فلما أن كان من الغد.. جئت به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلقيني عمر، فقال: الحمد لله الذي أمكن من هذا المنافق بغير إيمان ولا أمان، فقلت له: إن رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد أمنه، ثم دخلت على رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من دخل دار أبي سفيان.. فهو آمن" قال: "وما تغني داري؟ فقال: "ومن دخل المسجد فهو آمن"، فقال: وما يغني المسجد؟ فقال: "ومن أغلق عليه بابه.. فهو آمن، ومن ألقى(12/182)
السلاح.. فهو آمن". قال العباس: فقلت له: النجاء إلى قومك فحذرهم، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أوقفه في المضيق؛ ليرى جند الله"، فأوقفته في المضيق، فمرت به القبائل على راياتها، فمرت بنا مزينة وغطفان، فقال: من هؤلاء؟ فقلت: مزينة وغطفان، فقال: ما لي ومزينة، فأقبل رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في الكتيبة الخضراء من المهاجرين والأنصار لا تبين منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء؟! فقلت: رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في المهاجرين والأنصار، فقال لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكًا عظيمًا فقلت: ما هذا بملك، إنما هو نبوة، فقال: نعم. ثم سار أبُو سفيان إلى مكة، وقال: إن محمدًا قد أتاكم بعسكر لا قبل لكم به. قالوا: فمه؟ قال: من دخل داري.. فهو آمن قالوا: وما تغني دارك؟ قال: ومن دخل المسجد الحرام.. فهو آمن. قالوا: وما يغنى المسجد؟ قال: ومن أغلق عليه بابه.. فهو آمن، ومن ألقى السلاح.. فهو آمن ـ قال ابن عبَّاس ـ: فتفرق الناس إلى دورهم والمسجد.
وفي رواية أخرى: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نزل بمر الظهران.. قال لهم: "إن أبا سفيان بالقرب منكم"، فتفرق الناس يطلبونه، فوجده العباس، فأتى به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له: "أسلم"، فقال: قومي قومي؟ فقال: "من ألقى سلاحه.. فهو آمن ". قال: فما لي؟ قال: "من دخل دارك.. فهو آمن".
ورُوِي: أن العباس لما أوقفه في المضيق فمرت به القبائل.. استشعر أبُو سفيان فقال: أغدرا يا بني عبد مناف؟ ! قال العباس: لا. وهذا يدل على تقدم عقد الأمان.(12/183)
ورَوَى مصعب بن سعد عن أبيه: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمن يوم الفتح الناس كلهم إلا ستة أنفس: مقيس بن صبابة، وعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وابن خطل، والقينتين جاريتين كانتا لعبد الله بن سعد تغنيان بهجو رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ولـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة ولم يقتل غير من استثناه، ولم يسب، ولم يغنم الأموال والديار، بل عفا عن بعض من أمر بقتلهم) ، وهذه علامات الصلح لا علامات العنوة.
[مسألة: غلول بعض الغانمين لا قطع فيه وماذا لو كان من غيرهم؟]
؟] : إذا سرق بعض الغانمين نصابًا من الغنيمة قبل إخراج الخمس.. لم يقطع؛ لأن له حقًا في الخمس وفي الأربعة الأخماس.
وإن سرق نصابًا بعد إخراج الخمس، فإن سرقه من الخمس.. لم يقطع؛ لأن له فيه حقًا.
وإن سرقه من أربعة أخماسها، فإن سرق قدر حقه أو دونه.. لم يقطع؛ لأن له فيما سرقه شبهة. وإن سرق أكثر من حقه، والزائد على حقه نصاب.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع؛ لأنه لا شبهة له في سرقة النِّصَاب.
والثاني: لا يقطع؛ لأن حقه شائع في الجميع.
وإن سرق غير الغانمين نصابًا من الغنيمة، فإن سرق منها قبل إخراج الخمس أو من الخمس بعد إخراجه.. لم يقطع؛ لأن له شبهة في الخمس.
وإن سرق من أربعة أخماسها، فإن لم يكن في الغانمين من له شبهة في ماله، كالولد والوالد والسيد.. قطع؛ لأنه لا شبهة له فيه. وإن كان في الغانمين من له شبهة في ماله.. قال الشيخ أبُو إسحاق: لم يقطع؛ لأن له شبهة فيما سرق.(12/184)
والذي يقتضي المذهب: أنه ينظر: فإن سرق قدر نصيبه أو دونه.. لم يقطع. وإن سرق أكثر من نصيبه.. ففيه وجهان، كما لو كان السارق من الغانمين.
[مسألة: وطء أحد الغانمين جارية من السبي]
إذا غنم المسلمون أموال الكفار وحازوها، فإن كان فيها جارية، فوطئها رجل من الغانمين.. نظرت: فإن كان عددهم غير محصور.. لم يجب عليه الحد. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة وأكثر الفقهاء.
وقال الأَوزَاعِي وأبو ثور: (عليه الحد) .
دليلنا: أنه ملك أن يملك سهمًا منها، وإن كان ذلك السهم غير معلوم.. فصار ذلك شبهة، فسقط به الحد عنه.
وأمَّا التَّعزِير: فإن كان قد نشأ في بلاد الإسلام، وعلم تحريم ذلك.. عزر. وإن نشأ في بادية بعيدة، ولم يعلم تحريم ذلك.. لم يعزر. ويجب عليه جميع المهر؛ لأنه وطء في غير ملك يسقط فيه الحد عن الموطوءة، فوجب عليه المهر، كما لو وطئ في نكاح فاسد. فإن ملكها بعد ذلك.. لم يسقط عنه شيء من المهر، كما لو وطئ جارية غيره بشبهة ثم ملكها.
فإن كانت بحالها، وأخرج الإمام الخمس لأهل الخمس، وقسم أربعة أخماسها بين الغانمين، فدفع جارية من المغنم إلى عشرة من الغانمين بحصتهم من الغنيمة؛ لأن له أن يفعل، فوطئها أحدهم.. نظرت: فإن وطئها بعد أن اختاروا تملكها.. فهي كالجارية بين الشركاء يطؤها أحدهم، فلا يجب عليه الحد، ويجب عليه تسعة أعشار المهر، ويسقط العشر؛ لأن ذلك حصة ملكه.
وإن وطئها قبل أن يختاروا تملكها.. فلا حد عليه، وعليه جميع المهر.
فإن لم يختر الواطئ تملك نصيبه منها بعد وطئه.. أخذ منه جميع المهر.(12/185)
وإن اختار تملك نصيبه منها بعد وطئه.. سقط عنه عشر مهرها؛ لأنه لا معنى في أن يؤخذ منه جميع المهر، ثم يرد إليه العشر منه.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن أحضر المغنم، فعلم كم قدر حقه منها.. سقط عنه من المهر بقدر حصته) .
قال أبُو إسحاق: يحتمل أنه أراد هاتين المسألتين: الأولى والثانية.
وقال الشيخ أبُو حامد: الظاهر أنه أراد به الثانية وحدها؛ لأن المهر في الثانية قد وجب كله، ثم سقط منه حصته، وفي الأولى لم تجب حصته من المهر أصلًا.
وأمَّا إذا كان عدد الغانمين محصورًا، فوطئ رجل منهم الجارية قبل القسمة، واختار التملك.. لم يجب عليه الحد للشبهة، ويجب عليه جميع المهر، ثم ينظر فيه.
فإن لم يختر نصيبه منها بعد ذلك.. استوفي منه جميع المهر للغانمين.
وإن اختار تملك نصيبه منها.. أخرج من المهر الخمس لأهل الخمس، ويسقط من أربعة أخماسه ما يخص نصيبه من الجارية، وأخذ الباقي منه للغانمين.
والفرق بين هذه وبين الأولى: أن عدد الغانمين إذا كان غير محصور.. لا يعلم قدر حصته من الغنيمة، فلم يسقط عنه قدر نصيبه من المهر. وإذا كان عددهم محصورًا.. علم قدر حصته منها.. فلذلك سقط عنه ما يخص نصيبه من المهر.
هذا الكلام إذا لم يحبلها، فأما إذا أحبلها الواطئ.. نظرت: فإن كان عدد الغانمين غير محصور.. فإن الولد حر، ويلحق الواطئ نسبه.
وقال أبو حَنِيفَة: (لا يلحقه نسبه، ويكون مملوكًا للغانمين) .
دليلنا: أنه وطء يسقط فيه الحد عن الواطئ للشبهة، فلحقه نسبه، كما لو وطئ امرأة بنكاح فاسد. ولا تصير الجارية أم ولد له في الحال؛ لأنها علقت منه بحر في غير(12/186)
ملكه. فإن ملكها بعد ذلك.. فهل تصير أم ولد؟ فيه قولان. وهل تقوم الجارية على الواطئ، أو تقسم بين الغانمين؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: إن قلنا: إنها تصير أم ولد له إذا ملكها فيما بعد.. قومت عليه، لأن الذي يمنع من كونها أم ولد له هو أنها ليست بمملوكة له، وقد يمكن أن تصير مملوكة بالقيمة حتى تصير أم ولد له. وإن قلنا: لا تصير أم ولد له فيما بعد.. لم تقوم عليه.
وقال أبُو إسحاق: تقوم عليه قولًا واحدًا لأنه لا يجوز قسمتها بين الغانمين ولا بيعها؛ لأنها حامل بحر، ولا يجوز أن تؤخر قسمتها إلى أن تضع؛ لأن فيه ضررًا على الغانمين، فلم يبق إلا التقويم.
فإذا قلنا: لا تقوم عليه.. فلا كلام. وإن قلنا: تقوم عليه، فإن كانت قيمتها قدر حقه.. أخذها. وإن كانت قيمتها أقل من حقه من الغنيمة.. أخذها وأخذ تمام حقه من الغنيمة. وإن كانت قيمتها أكثر من حصته من الغنيمة. وجب عليه دفع الفضل إلى الغانمين، فإن لم يكن معه الفضل.. قال الشيخ أبُو حامد: بقي منها قدر الزيادة رقيقًا للغانمين، وصار الباقي أم ولد له. وهل تلزمه قيمة الولد؟
إن قلنا: تقوم الجارية عليه، فقومت عليه، ثم وضعت الولد.. لم يجب عليه قيمته؛ لأنها وضعته في ملكه.
وإن قلنا: لا تقوم عليه الأم، أو قلنا: تقوم ولكن لم تقوم حتى وضعت.. فعليه قيمة الولد؛ لأنها وضعته في غير ملكه.
فأما إذا أفرد الجماعة منهم جارية، فاختاروا تملكها، ثم وطئها أحدهم وأحبلها.. فالحكم فيها كالحكم في الجارية المشتركة إذا أحبلها أحدهم، وقد مَضَى بيانها في (العتق) .(12/187)
[فرع: وجد في المغنم من يعتق على بعضهم]
وإن كان في الغنيمة من يعتق على بعض الغانمين إذا ملكه.. نظرت: فإن كان عدد الغانمين غير محصور.. فإن الغانم لا يملك شيئًا من الغنيمة إلا بالقسمة واختيار التملك. فإن قسمت الغنيمة، فخرج في سهمه من يعتق عليه واختار تملكه.. عتق عليه.. وإن خرج بعضه في سهمه واختار تملكه.. عتق عليه منه سهمه، وقوم عليه الباقي وعتق إن كان موسرًا به، ولا يقوم عليه ولا يعتق إذا كان معسرًا.
وإن كان عدد الغانمين محصورًا.. فإن الغانم لا يملك شيئًا قبل اختيار التملك. فإن اختار التملك.. عتق عليه نصيبه منه، وقوم عليه الباقي إن كان موسرًا، ولا يقوم عليه إن كان معسرًا.
[فرع: أسر من يعتق عليه]
قال ابن الحداد: إذا أسر أباه منفردًا به.. لم يعتق عليه؛ لأن الأسير لا يصير رقيقًا إلا باسترقاق الإمام واختياره. فإن اختار الإمام استرقاقه واختار الولد تملكه.. عتق عليه أربعة أخماسه، وقوم عليه الخمس إن كان موسرًا، ولا يقوم عليه إن كان معسرًا.
وأمَّا إذا أسر الرجل أمه أو ولده الصغير.. فإنهما يصيران رقيقين بنفس الأسر، فإن اختار تملكهما.. عتق عليه أربعة أخماسهما، وقوم عليه الباقي إن كان موسرًا، ولا يقوم عليه إن كان معسرًا. وإن لم يختر تملكهما.. كان أربعة أخماسهما لأهل المصالح، والخمس لأهل الخمس.
[فرع: بيع الحربي وزوجته أو أصوله أو فروعه]
قال ابن الحداد: ولو أن حربيًا باع من المسلمين امرأته وقد قهرها.. جاز. ولو باع أباه أو ابنه وقد قهرهما.. لم يجز؛ لأنه إذا قهر زوجته.. ملكها، فإذا باعها.. صح بيعه، وإذا قهر أباه أو ابنه.. عتق عليه، فإذا باعه.. لم يصح بيعه.(12/188)
[مسألة: موجب الحد في دار الحرب]
] : من فعل في دار الحرب معصية يجب عليه فيها الحد إذا فعلها في دار الإسلام، كالزنا والقذف والسرقة.. وجب عليه الحد فإن كان الإمام في دار الحرب، أو الأمير من قبله على الإقليم وهو غير مشغول بالقتال.. أقام عليه الحد، وإن كان مشغولًا بالقتال.. أخر إقامته إلى أن يفرغ من القتال، أو إلى الخروج إلى دار الإسلام.
وإن لم يكن في دار الحرب إلا الأمير على الجيش، فإن جعل الإمام إليه إقامة الحد.. أقام عليه الحد. وإن لم يجعل إليه إقامة الحد.. لم يقمه عليه، فيقيمه الإمام إذا خرج إلى دار الإسلام.
وقال أبو حَنِيفَة: (إن كان معهم الإمام في دار الحرب أو الأمير على الإقليم.. أقام عليه الحد. وإن لم يكن معهم إلا الأمير على الجيش.. لم يقم عليه الحد، ولا يقيمه عليه إلا الإمام بعد خروجه إلى دار الإسلام) .
دليلنا: الظواهر في وجوب هذه الحدود، ولم تفرق. ولأن كل دار لو كان فيها إمام أقيم فيها الحد.. وجب إذا لم يكن فيها إمام أن يقام فيها الحد، كدار الإسلام.
[فرع: قتل مسلم مسلما في دار الحرب]
] : وإن قتل مسلم مسلما في دار الحرب.. وجب عليه بقتله ما يجب عليه بقتله في دار الإسلام.
وقال أبو حنيفة: (إن كان المقتول حربيًا أسلم ولم يخرج إلى دار الإسلام، أو كان أسيرًا.. فلا قَوْد على قاتله ولا دية عليه، بل عليه الكفارة. وإن كان حرًا.. ففيه الدية والكفارة) .
دليلنا: الظواهر في وجوب القود والدية، ولم تفرق. ولأنه حكم يتعلق بالقتل في دار الإسلام، فجاز أن يتعلق بالقتل في دار الحرب كالكفارة.(12/189)
[فرع: نقل أخبار المسلمين إلى الكفار]
] : إذا تجسس المسلم للكفار، وأوقفهم على أخبار المسلمين، ودلهم على عوراتهم.. فلا يجب قتله بذلك؛ لما رُوِيَ: «أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إليهم عام الفتح وأرسله مع امرأة، فأمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من تبعها، فأخرجت الكتاب من عقاصها ـ وهي: ضفيرة رأسها ـ وأتى به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما حملك على هذا يا حاطب؟ ! "فقال: "والله يا رسول الله، ما تغيرت منذ أسلمت، ولكن لكل أحد من المهاجرين عشيرة، ولي فيها مال، وليس لي فيها أهل ولا عشيرة، فأردت أن أصطنع إليهم وأتخذ عندهم يدًا أحفظ بها مالي. فقام عمر فقال: دعني يا رسول الله، أضرب عنق هذا المنافق، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك: لعل الله قد اطلع على أهل بدر؟ فقال: "اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم» .
[مسألة: غنيمة المشركين من المسلمين]
إذا قهر المشركون المسلمين، وأخذوا شيئًا من أموالهم.. لم يملكه المشركون بذلك، ومتى ظهر المسلمون عليهم وأخذوا ذلك المال.. فمالكه أحق به، فإنه كان وجده قبل القسمة.. أخذه، وإن لم يجده إلا بعد القسمة.. أخذه ممن وقع في سهمه، وأعطى الإمام من وقع في سهمه عوضه من سهم المصالح. هذا مذهبنا، وبه قال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعبادة بن الصامت، وإحدى الروايتين عن عمر(12/190)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول ربيعة والزهريُّ.
وقال عمرو بن دينار: إذا حازه المشركون إلى دار الحرب.. ملكوه، فإذا ظهر المسلمون عليهم وغنموه.. فهو للغانمين، سواء كان قبل القسمة أو بعد القسمة.
وقال الأَوزَاعِي ومالك وأبو حَنِيفَة وأصحابه: (إذا حازه المشركون إلى دار الحرب.. ملكوه، فإذا ظهر المسلمون عليهم وغنموه، فإن وجده صاحبه قبل القسمة.. فهو أحق به، فيأخذه بلا شيء. وإن وجده بعد القسمة.. فهو أحق به بالقيمة، فيرد قيمته على من وقع في سهمه) ، إلا أن أبا حَنِيفَة قال: (إذا أسلم هذا الكافر الذي حصل في يده.. فإنه أحق به من صاحبه. وإن دخل مسلم دار الشرك متلقصا وسرق ذلك المال.. فصاحبه أحق به بالقيمة.. وإن ملكه مسلم من المشرك ببيع.. فصاحبه أحق به. ويرد الثمن على المشتري. وإن ملكه مسلم منه بهبة.. فصاحبه أحق به بقيمته.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27] [الأحزاب: 27] . فامتن علينا بأن ملكنا أرض المشركين وأموالهم بالقهر والغلبة، فلو كان المشركون يملكون ذلك علينا بالقهر والغلبة.. لساوونا في ذلك وبطل موضع الامتنان. ورَوَى عمران بن الحصين: «أن المشركين أغاروا على سرح رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذهبوا به وذهبوا بالعضباء ـ ناقة النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأسروا امرأة من المسلمين وأوثقوها، فانفلتت من وثاقها ذات ليلة، فأتت الإبل، فكلما مست بعيرًا.. رغى، حتى أتت العضباء فمستها فلم ترغ، فركبتها(12/191)
وصاحت بها، فانطلقت، فطلبت فلم يروها، فركبوا خلفها، فنذرت إن نجاها الله عليها.. لتنحرنها، فلما قدمت المدينة.. عرفت الناقة: أنها ناقة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت نذرها، فأخبر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بذلك فقال: "سبحان الله! بئس ما جزتها، لا وفاة لنذر ينذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم» . فلو كانوا قد ملكوها.. لما جاز للنبي أخذها من المرأة.
[مسألة: المسلم يأسره الكفار ويقدر على الهروب]
إذا أسر المشركون مسلما ً، وحملوه إلى دار الحرب، ثم أطلقوه، وأمنوه بلا ثمن.. نظرت:
فإن أطلقوه وأمنوه على أن يكون في ديارهم.. فلا يجوز له المقام في دار الشرك لأن مقامه فيها معصية، فيجب عليه أن يهرب، ولكن لا يجوز له أن يسبي أحدا منهم ولا يقتله ولا يأخذ شيئًا من أموالهم؛ لأنهم إذا أمنوه.. اقتضى أن يكونوا منه في أمان.
وحكى الشيخ أبُو إسحاق عن أبي عليّ بن أبي هُرَيرَة أنه قال لا أمان لهم منه لأنهم لم يستأمنوه. والأول هو المشهور.
وإن أطلقوه على أن يقيم في أرضهم ولم يؤمنوه.. وجب عليه الهرب منهم وجاز له قتلهم وسبيهم وأخذ أموالهم؛ لأنه لا أمان بينه وبينهم.
وإن أطلقوه على أن يقيم في أرضهم وحلفوه على أن لا يخرج، فإن أكرهوه على اليمين.. لم يلزمه حكم اليمين، وعليه أن يخرج.
قال الشيخ أبُو حامد: ولا يجوز له أن يقتل منهم ولا يسبي ولا يأخذ شيئًا من أموالهم؛ لأن إحلافهم له أمان منهم.(12/192)
وإن لم يكرهوه على اليمين، بل حلف من عند نفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنها يمين إكراه. فإن خرج.. لم تلزمه الكفارة؛ لأنه لا يقدر على الخروج إلا باليمين، فهو كما لو أكرهوه عليها.
والثاني: أنها ليست بيمين إكراه، وهو المشهور؛ لأنه حلفها باختياره، إلا أنها يمين على فعل ما لا يجوز له فعله، فيلزمه الخروج، وإذا خرج.. لزمته كفارة.
[فرع: وعد الأسير المسلم أن يدفع للمشركين مالًا]
وإن أطلقوه على أن ينفذ إليهم من دار الإسلام مالًا اتفقوا عليه، فإن لم ينفذه إليهم.. عاد إليهم، وهل يلزمه إنفاذ المال إليهم إذا وجده؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبُو إسحاق: لا يلزمه؛ لأنه ضمان مال بغير حق، إلا أن المستحب، أن ينفذه إليهم؛ ليكون ذلك طريقًا إلى إطلاق الأسارى.
وقال الشيخ أبُو حامد، وأكثر أصحابنا: يلزمه إنفاذ المال إليهم؛ لأن فيه مصلحة؛ لأنه إذا لم ينفذه إليهم.. لم يثقوا بقول الأسارى في ذلك، فلا يطلقوهم.
والذي يقتضي المذهب: أنه متى أنفذ إليهم المال، إما مستحبًا على قول الشيخ أبي إسحاق، أو واجبًا على قول غيره.. فإنهم لا يملكونه، بل يكون كالذي أخذوه منه قهرًا على ما مَضَى؛ لأنهم أخذوه بغير حق.
وإن لم يقدر على المال الذي شرطوه عليه.. لم يلزمه العود إليهم.
وقال الأَوزَاعِي: (يلزمه العود إليهم) .
دليلنا: أن مقامه في دار الشرك معصية، فلا يلزمه العود إليها.
[فرع: أخذ الأسير مالا من أحد المشركين على أن يرده وماذا لو وكله المشرك]
] : وإن أخذ الأسير مالا من بعض المشركين على أن ينفذ إليهم عوضه من دار(12/193)
الإسلام.. لزمه أن ينفذ إليهم عوضه؛ لأنه أخذه منهم بعقد، وعقد المسلم مع الكافر صحيح؛ بدليل: أنه لا يصح أن يبتاع منه درهمين بدرهم.
وإن أعطاه المشرك شيئا ليبيعه له في دار الإسلام ويرده عليه.. كان وكيلا ًله، كما لو وكله مسلم على بيع ماله.
[مسألة: في إظهار الله تَعالَى للإسلام]
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: قال الله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] [التوبة: 33] . فاعترض على هذا، وقيل: كيف أخبر الله تَعالَى: أنه يظهر دين الإسلام على الأديان كلها وقد وجدنا الأديان كلها باقية؛ مثل دين اليهود والنصارى والمجوس؟
فأجاب أصحابنا عن ذلك بأربعة أجوبة:
أحدها: أنه أراد إظهار الإسلام بالحجج والبراهين؛ لأنه ما من أحد يتفكر في معجزات النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي أتى بها في حياته.. إلا ويعلم أن دين الإسلام حق، وإن غيره باطل.
والثاني: أنه أراد بالآية إظهار الإسلام في الحجاز دون غيره من البلاد؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث فيه وكانت فيه أديان مختلفة، فأسلم بعضهم، وقتل بعضهم، ودخل تحت الجزية والصغار بعضهم.
والثالث: أن الإسلام قد ظهر على كل دين؛ لأنه ما من دين إلا وقد أثر الإسلام فيه، وإن كان قد بقي منه بقية.
والرابع: أنه أراد بالآية: أنه إذا نزل عيسى ابن مريم؛ لأنه لا يبقى على وجه الدنيا دين غير دين الإسلام؛ بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يوشك أن ينزل عيسى ابن مريم،(12/194)
فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب» . وهذا موافق لما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» . وإنما يكون ذلك إذا نزل عيسى ابن مريم، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقوله: «زويت لي الأرض» أي: جمعت.
وبالله التوفيق(12/195)
[باب الأنفال]
واحد الأنفال: نفل، يقال: بتحريك الفاء وسكونها. وإنما سمي بذلك؛ لأنه زائد على السهم الراتب، كما سميت صلاة التطوع نافلة؛ لأنها زائدة على الصلاة الواجبة.
والنفل: أن يعلق الإمام أو الأمير على الجيش استحقاق مال من الغنيمة بفعل يفضي إلى الظفر بالعدو؛ بأن يقول: من دلنا على القلعة الفلانية، أو من فتحها، أو من تقدم في السرية الفلانية.. فله كذا. فإذا فعل رجل ذلك.. استحق ما شرطه له(12/196)
الإمام؛ لما رَوَى ابن عمر قال: «بعث رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سرية قبل نجد فيها عبد الله بن عمر، فأصابوا إبلًا كثيرة، فبلغت سهامهم اثني عشر بعيرًا، ونفلهم رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعيرا بعيرًا» .
ورَوَى عبادة بن الصامت: (أن «النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث» . وروي: «في الرجعة الثلث» . و (القفول) : الرجوع. واختلف تأويل البدأة والرجعة.
فقيل: (البدأة) : هي السرية التي ينفذها الإمام أول ما يدخل بلاد العدو، و (الرجعة) : هي السرية التي ينفذها بعد رجوع الأولى؛ لأن عمل الثانية أشق من عمل الأولى؛ لأن الأولى تدخل والعدو وعلى غفلة، والثانية تدخل والعدو على حذر.
وقيل: (البدأة) : هي السرية التي ينفذها الإمام وقت دخوله بلاد العدو. و (الرجعة) : التي ينفذها بعد رجوعه من بلاد العدو. ولأن حال الأولى أسهل؛ لأن الإمام من ورائهم يعضدهم، والثانية ليس وراءها من يعضدها.
إذا ثبت هذا: فالنفل عندنا غير مقدر، بل هو إلى رأي أمير الجيش، ويختلف باختلاف قلة العمل وكثرته؛ لـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث» وإنما خالف بينهما؛ لأن العمل فيهما يختلف على ما مَضَى.(12/197)
[مسألة: مصدر النفل من خمس الخمس من الغنيمة]
النفل مستحق من خمس الخمس؛ لما رُوِيَ عن سعيد بن المسيب أنه قال: كانوا يعطون النفل من الخمس، ومعناه: من خمس الخمس. ولأنه مال يدفع لمصلحة المسلمين، فأشبه ما يصرف في المساجد والقناطر.
وما رُوِيَ في الخبر: (أنه نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث) .. فله تأويلان:
أحدهما: أنه شرط لكل واحد منهم قدر ربع سهمه الذي يصيبه في البدأة، وقدر ثلث سهمه الذي يصيبه في القفول.
والثاني ـ وعليه أكثر أهل العلم ـ: أنه جعل لهم في البدأة قدر ربع ما يغنمون بعد الخمس، وقدر ثلث ذلك في القفول، ويخرجه في الحالين من الخمس؛ لما رُوِيَ عن رجل من فهر: أنه قال: «شهدت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس» .
فإن قيل: قد رُوِيَ عن ابن عمر: أنه قال: «كنت في سرية فنفلهم رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بعيرًا بعيرًا، وبلغت سهامهم اثني عشر بعيرًا» ، وهذا أكثر من خمس الخمس؟.
قلنا: فيه تأويلان:
أحدهما: أنه كان في الغنيمة غير الإبل، فخرجت الإبل التي صرفها في النفل من خمس خمس تلك الغنيمة.
والثاني: أن الإبل التي صرفها في النفل.. لم تكن تخرج من خمس تلك الغنيمة، وإنما تممها رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من سهم المصالح في بيت المال، وللإمام أن يفعل ذلك. وأمَّا دفع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في هذا النفل بعيرًا بعيرًا.. فله تأويلان أيضًا:(12/198)
أحدهما: أنه كان قد شرط لهم بعيرًا بعيرًا.
والثاني: أنه كان قد شرط لهم نصف سدس سهامهم، فبلغ سهم كل واحد منهم اثني عشر بعيرًا، وكان نصف سدس سهمه بعيرًا.
[مسألة: جعل الإمام جارية لمن دله على قلعة فدله واحد]
إذا قال: الإمام أو الأمير على الجيش: من دلنا على القلعة الفلانية فله منها الجارية الفلانية وسماها، أو قال له منها جارية ولم يسمها.. فإن ذلك جعالة صحيحة؛ لما رَوَى عدي بن حاتم: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "كأني بالحيرة قد فتحت" فقال رجل: يا رسول الله، هب لي جارية منها، فقال: "قد فعلت"، فلما فتحت الحيرة بعد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أعطي ذلك الرجل جارية منها، فقال له أبوها: بعنيها بألف درهم، فقال: نعم، فقيل له: لو طلبت بها ثلاثين ألفًا لأعطاك، فقال: وهل عدد أكثر من ألف؟!!» فلما وهب له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها جارية مجهولة لا يملكها؛ لأنها من المشركين.. جاز عقد الجعالة عليها.
وروي: (أن أبا موسى الأشعري عاقد دهقانًا على أن يفتح له قلعة على أن يختار أربعين نفسًا منها، فلما فتحها لهم.. كان يختار، وأبو موسى يقول: اللهم أنسه نفسه، فلما اختار الأربعين ولم يختر نفسه.. أخذه أبُو موسى فقتله) . ولا مخالف له في الصحابة.(12/199)
فإن قيل: كيف صحت هذه الجعالة بمال لا يملكه الباذل وهو مجهول أيضًا؟
فالجواب: أن الجعالة إنما تفتقر إلى عوض معلوم يملكه الباذل، إذا عقد ذلك في أموال المسلمين، فأما إذا عقد في أموال المشركين.. فيصح أن يكون العوض مجهولًا لا يملكه الباذل، كما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث» ، وإنما يأخذونه من خمس الخمس وإن كان غير مملوك وقت العقد ولا معلوم.
قال أصحابنا البغداديون: ولا فرق بين أن يكون الدليل مسلمًا أو كافرًا.
وقال الخراسانيون: إن كان الدليل مسلمًا.. فهل يصح هذا العقد معه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن الشافعي، إنما نص فيها على دلالة العلج، و (العلج) : لا يكون إلا كافرًا. ولأنه عقد فيه نوع غرر فلم يجز مع المسلمين، كسائر العقود.
والثاني: يصح، وهو المشهور؛ لأنه عقد جعالة يصح مع الكافر فصح مع المسلم، كالجعالة على رد الآبق. وإنما نص الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على دلالة العلج؛ لأنه هو الذي يعرف طرقهم في الغالب.
إذا ثبت هذا، فدلهم رجل على هذه القلعة.. فينظر فيه: فإن لم تفتح القلعة.. لم يستحق الدليل شيئًا.
ومن أصحابنا من قال: يرضخ له لدلالته. وليس بشيء؛ لأنه لما قال: من دلنا على القلعة الفلانية فله جارية منها.. فالظاهر أنه جعل له الجارية بشرطين: الدلالة والفتح، فإذا لم يوجد أحدهما.. لم يستحق شيئًا.
وإن فتحت القلعة.. نظرت: فإن فتحت عنوة وكان الشرط على جارية معلومة وهي فيها، أو كان الشرط على جارية مجهولة وليس في القلعة غير جارية واحدة، فإن(12/200)
كانت الجارية كافرة.. سلمت إلى الدليل، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، ولا يستحق أهل الخمس ولا الغانمون منها شيئًا؛ لأن الدليل استحقها بسبب سابق، وسواء كانت حرة أو أمة للمشركين. وإن أسلمت الجارية الحرة قبل أسرها.. لم تسلم إلى الدليل سواء كان مسلمًا أو كافرًا؛ لأن إسلامها قبل أسرها يمنع من استرقاقها.
قال أبُو العباس: وفيها قول آخر: أنها تسلم إلى الدليل؛ لأنه قد استحقها قبل إسلامها. وليس بشيء.
فإذا قلنا: لا تسلم إليه. فهل يستحق الدليل شيئًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يستحق شيئًا؛ لأنها صارت كالمعدومة.
والثاني ـ وهو قول أصحابنا البغداديين، وهو الأصح ـ: أنه يستحق قيمتها؛ لأن الشَّرع لما منع استرقاقها لإسلامها.. أوجب دفع قيمتها، كما: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل مكة على أن يرد إليهم من جاءه من المسلمات ومنعه الله تَعالَى من ردهن.. أمره برد مهورهن إليهم) .
وإن أسلمت بعد ما أسرت، فإن كان الدليل مسلما ً.. سلمت إليه. وإن كان كافرًا.
فإن قلنا: يصح شراء الكافر للجارية المسلمة.. سلمت إليه، وأجبر على إزالة ملكه عنها.
وإن قلنا: لا يصح شراؤه لها.. لم تسلم إليه، وسَلَّم إليه قيمتها، وقسمت بين الغانمين.
فإن فتحت عنوة، وكانت الجارية قد ماتت.. ففيه قولان:
أحدهما: أن للدليل قيمتها؛ لأن تسليمها قد تعذر بموتها، فوجبت له قيمتها كما لو أسلمت.(12/201)
والثاني: لا يجب له قيمتها؛ لأنه إنما استحقها بعينها، فإذا ماتت.. لم يستحق شيئًا، كما لو قال من رد عبدي الآبق فله هذا العبد.. فمات العبد المبذول.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن ماتت قبل الظفر بها.. لم يستحق الدليل شيئًا. وإن ماتت بعد الظفر بها، وأرادوا قبل تسليمها إليه.. فهل يستحق قيمتها؟ فيه قولان.
وإن لم يكن في القلعة من المال غير الجارية.. ففيه وجهان، حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] :
أحدهما: تسلم إلى الدليل للشرط السابق.
والثاني: لا تسلم إليه؛ لأن هذا تنفيل، ولا يجوز للإمام أن ينفل جميع الغنيمة، وهذه الجارية جميع الغنيمة.
وإن فتحت القلعة صلحًا.. نظرت: فإن شرط على أن يكون جميع ما فيها لنا، أو كان الصلح على أن ما في القلعة لأهلها إلا الجارية.. فهو كما لو فتحت القلعة عنوة.
وإن كان على أن لصاحب القلعة أهله وعشيرته أو من يختاره منها، وكانت الجارية من أهله وعشيرته أو ممن اختاره.. قال الشيخ أبُو حامد: فإن أبا إسحاق قال الصلح صحيح والجعالة صحيحة، ثم يقال للدليل: هذه الجارية التي جعلناها لك قد صالحنا عليها، أفترضى بقيمتها؟ فإن رضي بقيمتها.. دفعت إليه القيمة وأمضينا الصلح. وإن لم يرض إلا بالجارية.. قيل لصاحب القلعة: صالحناك على ما جعلناه لغيرك، أفتسلم الجارية ونعطيك قيمتها؟ فإن سلمها.. سلمت إلى الدليل، ودفع إلى صاحب القلعة قيمتها، وأمضينا الصلح. وإن لم يسلمها صاحب القلعة.. قيل له: صالحناك على شيء ولا يمكن الوفاء به، فترد عليك ونتركك حتى تمتنع كما كنت، وتصير حربًا لنا.(12/202)
وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق: فحكى فيها وجهين:
أحدهما ـ وهو قول أبي إسحاق المَروَزِيُّ ـ: أن الجارية للدليل، وشرطها في الصلح لا يصح.
والثاني: شرطها في الصلح صحيح؛ لأن الدليل لو عفا عنها.. أمضي الصلح ولو كان العقد فاسدا ً.. لافتقر إلى عقد آخر.
[فرع: جعل الأمير جارية لمن دل على موقع فدله جماعة]
إذا قال الأمير: من دلنا على القلعة.. فله منها جارية، فدله عليها اثنان أو ثلاثة أو أكثر.. استحقوا الجارية، كما قلنا في رد العبد الآبق.
[فرع: شرط الإمام بأن من أخذ شيئًا فهو له]
قال في " الأم ": (إذا قال الإمام قبل التقاء الفريقين: من أخذ شيئًا.. فهو له بعد الخمس.. فذهب بعض الناس إلى جوازه؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم بدر: «من أخذ شيئًا فهو له» قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وهذا الحديث لا يثبت،(12/203)
والصحيح في السنة: أنه يقسم الخمس لأهل الخمس وأربعة أخماسها للغانمين، ولو قال قائل بذلك.. كان مذهبًا) ، فأومأ فيه إلى قولين:
أحدهما: يكون على ما شرطه الإمام ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لما ذكرناه من الخبر يوم بدر.
والثاني: لا يصح شرط الإمام في ذلك؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» ، وهذا يقتضي: اشتراكهم فيها من غير تخصيص، وهو قول النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في يوم بدر؛ لأن الغنائم كلها كانت له يومئذ برمتها.
وبالله التوفيق(12/204)
[باب قسم الغنيمة]
الغنيمة: ما أخذه المسلمون من أهل الحرب بالقهر. وكانت الغنيمة محظورة في شرع من قبلنا، تنزل نار من السماء فتحرقها. وكانت في شرعنا في أول الإسلام للنبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] [الأنفال: 1] الآية. ثم نسخت هذه الآية بقوله تَعالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية.(12/205)
فإذا قهر الجيش الذي مع الإمام، أو الجيش الذي خرج بإذنه أهل الحرب على شيء.. نظر فيه: فإن كان مما ينقل، كالدراهم والدنانير وما أشبههما، فإن كان فيه مال للمسلم.. دفعه إليه. وإن كان فيه سلب لقاتل.. دفعه إليه ـ على ما مَضَى ـ ثم يدفع من الباقي أجرة النقال والحافظ؛ لأنه مصلحة للغانمين. ثم يدفع الرضخ من الباقي إذا قلنا: يرضخ من رأس الغنيمة. وما بقي.. قسم على خمسة أسهم: سهم لأهل الخمس، والباقي للغانمين على ما يأتي بيانه إن شاء الله عز وجل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية. فأضاف الغنيمة إلى الغانمين، ثم قطع الخمس لأهله، فكان الظاهر أن ما بقي بعد الخمس على مقتضى الإضافة.
وإن كانت الغنيمة مما لا ينقل، كالأرض والدور.. فمذهبنا: أن الحكم فيها كالحكم فيما ينقل. وبه قال الزبير وبلال.
وقال عمر، ومعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وسفيان الثوريُّ، وابن المبارك: (الإمام فيها بالخيار: إن شاء قسمها كما قلنا، وإن شاء وقفها على المسلمين) .
وقال أبو حَنِيفَة وأصحابه: (الإمام فيها بالخيار: إن شاء قسمها بين الغانمين، وإن شاء وقفها على المسلمين، وإن شاء أقرها في أيدي أهلها وضرب عليهم الخراج على وجه الجزية، وإذا أسلموا.. لم يسقط عنهم ذلك، ويجوز أن يخرج عنها أهلها ويسكنها قومًا آخرين ويضرب عليهم الخراج) .
وقال مالك: (تصير وقفًا على المسلمين بنفس الفتح) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية، ولم يفرق بين ما ينقل وما لا ينقل.(12/206)
[مسألة: ما يغنم بغير إذن الإمام]
وإن غزت سرية من المسلمين دار الحرب بغير إذن الإمام فغنمت مالًا.. فإنه يخمس.
وحكى الشيخ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال لا يخمس. وليس بشيء.
وقال أبو حَنِيفَة: (إن كانت لهم منعة.. خمس. وإن لم تكن لهم منعة.. لم يخمس) .
وقال أبُو يوسف: إن كانوا تسعة أو أكثر.. خمس. فإن كانوا أقل.. لم يخمس. وقال الحَسَن البَصرِيّ: يؤخذ منهم جميع ما غنموه عقوبة لهم؛ حيث غزوا بغير إذن الإمام.
وقال الأَوزَاعِي: (الإمام بالخيار: بين أن يخمسه وبين أن لا يخمسه) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية، ولم يفرق بين أن يغزوا بإذن الإمام أو بغير إذنه. ولأنه مال مأخوذ من حربي بالقهر فكان غنيمة، كما لو غزوا بإذن الإمام.
[فرع: شروط تملك الغنيمة]
ومكان تقسيمها على الغانمين] : وإذا غنم المسلمون من المشركين مالًا وحازوه وانقضى القتال.. فإنهم لا يملكونه بذلك، وإنما ملكوا أن يملكوه، ولا يملك أحد منهم سهمه إلا بأن يختار التملك، أو بأن يقسم له الإمام سهمه ويسلمه إليه ويقبله.(12/207)
فإن كان الإمام والجيش في دار الحرب بعد انقضاء القتال وحيازة الغنيمة.. نظرت:
فإن كان هناك عذر يدعو إلى تأخير قسمة الغنيمة إلى أن يخرجوا إلى دار الإسلام؛ بأن كانوا يخافون كرة المشركين عليهم عند اشتغالهم بالقسمة، أو كانوا في موضع قليل العلف أو الماء مع حاجتهم إليه.. لم يكره تأخير القسمة إلى أن يزول العذر، أو إلى الخروج إلى دار الإسلام.
وإن لم يكن هناك عذر يدعو إلى تأخير القسمة.. قسم الإمام الغنيمة، ويكره له تأخيرها إلى الخروج إلى دار الإسلام.
وقال أبو حَنِيفَة: (يكره له قسمة الغنيمة في دار الحرب مع التمكن من القسمة فيها، فإن قسمها هناك.. صحت القسمة، إلا أن يحتاج الغانمون إلى شيء من الغنيمة مثل الثياب وغيرها.. فلا تكره قسمتها في دار الحرب) .
دليلنا: ما روي: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم غنائم بدر في شعب من شعاب الصفراء قريب من بدر) ، وبدر كانت دار شرك؛ لأنه قريب من مكة.
وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم غنائم بني المصطلق على مياههم» و: «غنائم(12/208)
هوازن في ديارهم، وغنائم حنين في أوطاس» ، وهو واد من حنين ولم يزل الخلفاء بعده يقسمون الغنائم حيث يأخذونها.
[مسألة: تقسيم الأربعة الأخماس]
وإذا أخرج الإمام خمس الغنيمة لأهل الخمس.. فإنه يقسم الأربعة الأخماس الباقية بين الغانمين، وينظر فيهم: فإن كانوا فرسانًا كلهم أو رجالة كلهم.. قسمها بينهم بالسوية؛ لأن الله تَعالَى أضاف أربعة أخماس الغنيمة إلى الغانمين، والإضافة تقتضي التسوية.
وإن كان بعضهم فرسانًا وبعضهم رجالة.. فإنه يقسم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمًا له وسهمين لفرسه، وللراجل سهمًا. وبه قال من الصحابة: عمر وعلي، ومن التابعين: الحَسَن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ومن الفقهاء: مالك وأهل المدينة، والأَوزَاعِي، وأهل الشام، والليث، وأبو يوسف، ومحمد، وأكثر أهل العلم.(12/209)
وقال أبو حَنِيفَة وحده: (يقسم للفارس سهمين؛ سهمًا له وسهمًا لفرسه، وللراجل سهمًا، وقال: لا أفضل بهيمة على مسلم) .
دليلنا: ما رَوَى ابن عمر وابن عبَّاس: (أن «النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهمًا له، وسهمين لفرسه» وهذا نص. ورُوِي: (أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم: سهم له وسهمين لفرسه، وسهم لأمه صفية؛ لأنها من ذوي القربى) . ولأن السهم إنما يستحق بما يلزم من المؤنة والتأثير في القتال، ومؤنة الفرس أكثر من مؤنة الفارس، وتأثيره في القتال أكثر، فيجب أن يزيد سهمه على سهمه.
وأمَّا قوله: (لا أفضل بهيمة على مسلم) فيقال له: فلا تساو بينهما! فلما جازت المساواة بينهما.. جازت المفاضلة بينهما.
[فرع: مصرف الأربعة الأخماس]
ولا يجوز أن يصرف الإمام شيئًا من أربعة أخماس الغنيمة إلى غير الغانمين، ولا يفضل فارسًا على فارس، ولا راجلًا على راجل، ولا يفضل من قاتل على من لم يقاتل.(12/210)
وقال أبو حَنِيفَة: (يجوز أن يصرف منها شيئًا إلى غير الغانمين) .
وقال مالك: (يجوز أن يصرف شيئًا منها إلى غير الغانمين، ويجوز تفضيل بعضهم على بعض) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية. فأضاف الغنيمة إلى الغانمين بلام التمليك، ثم قطع الخمس منها لأهل الخمس، فدلَّ على: أن الباقي لهم. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» فدلَّ على: أنه لا شيء لغيرهم فيها إلا ما خصه الدليل، ولم يفرق بين من قاتل ومن لم يقاتل. ولأن من لم يقاتل.. فقد أرصد نفسه للقتال ويحصل به الإرهاب، فهو كالمقاتل.
[فرع: الإسهام للخيل]
ولا يسهم لمركوب غير الخيل، وهو إجماع؛ ولأن غير الخيل لا يغني غناء الخيل ولا يسد مسدها في القتال، فلم يلحق بها في السهم.
ويسهم للفرس العربي: وهو الذي أبواه من الخيل العراب، ويسمى: العتيق. ويسهم للبرذون: وهو الفرس الذي أبواه نبطيان، وللهجين: وهو الذي أبوه عربي وأمه نبطية، وللمقرف: وهو الذي أبوه نبطي وأمه عربية. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة.
وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة " ق \ 454] قولًا آخر: أنه لا يسهم للبرذون والهجين الذي لا يصلح للكر والفر، كالبغل. والأول هو المشهور.
وقال الأَوزَاعِي: (لا يسهم للبرذون، ويسهم للهجين سهمًا واحدًا) .
وقال أحمد: (يسهم للعربي سهمين، ولغيره سهمًا واحدًا) وهي إحدَى الروايتين عن أبي يوسف والأخرى كقولنا.(12/211)
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وأراد به الغنيمة، ولم يفرق. ولأنه حيوان يسهم له، فلم يختلف باختلاف أنواعه، كالرجل.
فإن نفل الإمام رجلا حضر الحرب بفرس حطم: وهو الذي قد تكسر وضعف، أو بفرس قحم: وهو الهرم، أو بفرس ضرع: وهو الصغير الذي لم يبلغ مبلغ القتال عليه، أو بفرس أعجف: وهو المتناهي في الهزال.. فقد قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " الأم ": (قد قيل: لا يسهم له، وقيل: يسهم) .
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يسهم له؛ لأنه حيوان يسهم له، فلم يسقط سهمه لضعفه وكبره، كالرجل.(12/212)
والثاني: لا يسهم له؛ لأن القصد من الفرس القتال عليه، فإذا لم يمكن القتال عليه كان كالبغل.
وقال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فحيث قال: (يسهم له) إذا كان يمكن القتال عليه مع ضعفه. وحيث قال: (لا يسهم له) إذا كان لا يمكن القتال عليه بحال.
[فرع: لا يسهم إلا لفرس واحد]
عندنا] : وإذا حضر الرجل بفرسين أو أكثر.. فإنه لا يسهم له إلا لفرس واحد، وهو قول كافة العلماء، إلا الأَوزَاعِي وأحمد، فإنهما قالا: (يسهم له لفرسين، ولا يسهم له لأكثر) .
دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضر في بعض غزواته بثلاثة أفراس، فلم يأخذ السهم إلا لفرس واحد» وروي: «أن الزبير حضر يوم حنين بأفراس، فلم يسهم له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا لفرس واحد» ، ولأنه لا يقاتل إلا على واحد، وما زاد عليه يحمل للزينة، فلم يستحق السهم إلا لواحد.(12/213)
وقال في " الأم ": (وإن كان القتال في الماء أو على حصن، فحضر رجل بفرس.. أسهم له وإن لم يحتج إلى الفرس للقتال عليه؛ لأنه ربما ينزل الناس من الحصن أو يخرجون من الماء، فيحتاج إلى القتال على الفرس) .
[فرع: اغتصب أو استعار أو اكترى فرسًا للقتال]
] : وإن غصب فرسًا وحضر به القتال.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: يسهم للفرس وجهًا واحدًا، ولكن من يستحقه؟ فيه وجهان:
أحدهما: الغاصب.
والثاني: المغصوب منه.
بناء على القولين فيمن غصب من رجل دراهم، فابتاع به شيئًا في ذمته، ثم نقد الدراهم في الثمن، ثم باع ما اشتراه وربح.. فمن يستحق الربح؟ فيه قولان.
وقال القاضي أبُو الطيب: هل يسهم للفرس هاهنا؟ فيه وجهان:
وإن استعار فرسًا أو اكتراه وحضر به القتال.. أسهم له واستحقه المستعير والمكتري؛ لأنه ملك القتال عليه فملك السهم عليه، كما لو حضر بفرس يملكه.
[فرع: دخول المقاتل دار الحرب بفرس ثم نفق أو غار أو بدون فرس]
وإن دخل رجل دار الحرب بفرس فنفق الفرس ـ أي مات ـ أو وهبه لغيره أو باعه، فإن كان قبل انقضاء الحرب.. لم يسهم له لفرسه.
وحكى القفال عن الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أنه يسهم له إذا نفق) . والمشهور هو الأول.
فإن دخل دار الحرب ولا فرس معه، ثم اشترى فرسًا، أو اتَّهَبَهُ، أو استأجره، أو استعاره وحضر به القتال فانقضت الحرب وهو معه.. أسهم له ولفرسه.
وقال أبو حَنِيفَة: (الاعتبار بدخوله دار الحرب، فمتى دخل دار الحرب، وهو فارس ثم نفق فرسه أو باعه أو وهبه وما أشبهه.. أسهم له ولفرسه، وإن دخل دار(12/214)
الحرب ولا فرس معه، ثم حصل له فرس.. لم يسهم له للفرس) .
دليلنا: على الفعل الأول: أن فرسه نفق قبل انقضاء الحرب، فلم يسهم له لفرسه، كما لو كان القتال في دار الإسلام وعلى الفعل الثاني: أن فرسه وجد عند انقضاء الحرب، فاستحق السهم له، كما لو دخل دار الحرب فارسًا.
وإن حضر القتال بفرس، ثم غار فرسه ولم يجده إلا بعد تقضي الحرب.. لم يسهم له.
ومن أصحابنا من قال: يسهم له؛ لأنه خرج عن يده بغير اختياره.
والمذهب الأول؛ لأن خروج الفرس من يده قبل انقضاء القتال يسقط سهمه وإن كان بغير اختياره، كما لو نفق.
[فرع: حضر الوقعة فمرض أو مات أو فر من القتال]
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا حضر القتال ثم مرض.. أسهم له) . واختلف أصحابنا البغداديون فيه: فقال أكثرهم: إن كان مرضًا قليلا ً، كالحمى الخفيفة والصداع اليسير وما أشبههما مما لا يمنعه القتال.. أسهم له؛ لأن ذلك لا يمنعه عن القتال، وإن كان مرضًا كثيرًا، كالزمانة وقطع اليدين والرجلين.. لم يسهم له؛ لأنه ليس من أهل القتال.
وقال الخراسانيون: إن كان مرضًا يرجى زواله.. استحق السهم وإن لم يقاتل وإن كان مرضًا لا يرجى زواله.. ففيه قولان:(12/215)
أحدهما: لا يسهم له لأنه خرج عن أن يكون من أهل القتال.
والثاني: يسهم له؛ لأنه في الجملة من أهل القتال، إلا أنه عرض له عارض، فهو كالمرض الذي يرجى زواله.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة " ق \ 453] : فإن مات رجل من المجاهدين، أو قتل في حال القتال، أو قبل انقضاء القتال.. لم يرث ورثته سهمه، وبطل حقه. وإن مات بعد انقضاء القتال.. ورث ورثته سهمه. وإن فر غير متحرف للقتال ولا متحيز إلى فئة.. لم يستحق السهم، فإن عاد قبل انقضاء القتال.. استحق السهم. وإن فر متحرفًا للقتال أو متحيزًا إلى فئة.. لم يسقط سهمه وإن لم يقاتل؛ لأنه مشغول بأمر القتال.
ولو قيل له: فررت لغير التحرف والتحيز، وقال: بل فررت متحيزًا أو متحرفًا.. فالقول قوله؛ لأنه أعلم بحال نفسه.
[فرع: إسقاط حق الغانم أو هبته أو بيعه]
قال ابن الصبَّاغ: لو قال بعض الغانمين قبل القسمة: أسقطت حقي من الغنيمة: سقط حقه؛ لأن حقه لم يستقر.
وإن قال: وهبت نصيبي من الغانمين.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبُو إسحاق: يصح، ويكون ذلك إسقاطًا لحقه؛ لأن الإسقاط يصح بلفظ الهبة.
وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة: إن أراد به الإسقاط.. سقط به حقه. وإن أراد به التمليك والهبة.. لم يصح؛ لأن حقه مجهول ولم يستقر ملكه عليه.(12/216)
والأول أصح؛ لأن الملك لم يحصل له، وإنما له حق التملك، فانصرفت الهبة إلى إسقاطه.
وإن باع حقه من الغنيمة قبل القسمة، فإن كان قد اختار التملك، وكان معلومًا صح البيع. وإن لم يختر التملك.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبُو إسحاق: يصح البيع إذا كان معلومًا؛ لأنه ملك حقه بالحيازة.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال لا يصح؛ لأن ملكه لم يستقر عليه.
[مسألة: لا يقسم لمخذل أو ناقل الأخبار]
ويقسم لمن حضر بغير إذن والديه أو غريمه وماذا لو كان كافرًا؟] : وإن حضر القتال مخذل، أو مرجف، أو من يعاون المشركين بالمكاتبة وحمل الأخبار.. لم يسهم له ولم يرضخ له؛ لأن السهم والرضخ للمقاتلة أو لمن يعينهم، وهؤلاء ليسوا من المقاتلة ولا ممن يعينهم، بل الضرر في حضورهم.
وإن حضر رجل القتال بغير إذن والديه، أو من عليه دين فحضر بغير إذن الغريم.. استحق السهم.
والفرق بينه وبين المخذل والمرجف: أن المعصية في حضور المخذل والمرجف تؤثر في الجهاد فهي كالمعصية بالصلاة في الثوب النجس، والمعصية بحضور الولد ومن عليه دين بغير إذن غريمه لا يؤثر في الجهاد، فهو كالمعصية في الصلاة في الدار المغصوبة.(12/217)
وإن حضر مشرك مع المسلمين في القتال بغير إذن الإمام.. لم يسهم له، ولم يرضخ له؛ لأن ضرره أعظم من ضرر المخذل والمرجف بالمسلمين. وإن حضر بإذن الإمام.. رضخ له ولم يسهم له، وهو قول كافة العلماء، إلا الأَوزَاعِي؛ فإنه قال: (يسهم له) .
دليلنا: ما رَوَى ابن عبَّاس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بيهودي من بني قينقاع في بعض غزواته.. فرضخ له ولم يسهم له» .
وإن دخل أهل الكتاب دار الحرب وغنموا منه.. فقال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: ينظر فيه: فإن كان الإمام أذن لهم في الدخول إلى دار الحرب.. كان الحكم فيما غنموا على ما شرط لهم منه، وإن لم يأذن لهم في الدخول.. احتمل وجهين:
أحدهما: يرضخ لهم منه وينزع الباقي؛ لأنهم لا يستحقون السهم من الغنيمة.
والثاني: يقرون عليه ولا يخمس، ولا ينزع منهم، وهو المنصوص، كما إذا غلب المشركون على مال بعضهم وأخذوه في دار الحرب.
[فرع: حضور العبد أو النساء أو الصبيان القتال]
] : وإن حضر العبد القتال.. لم يسهم له، وإنما يرضخ له، سواء قاتل بإذن مولاه أو بغير إذنه، لما رَوَى عمير مولى آبي اللحم قال: «غزوت مع رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنا عبد مملوك، فلما فتح الله على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خيبر.. قلت: يا رسول الله، سهمي؟ فلم يضرب لي سهمًا، وأعطاني سيفًا» وقال ابن عبَّاس: (العبد يرضخ له ولا يسهم(12/218)
له) . ولا مخالف له في ذلك من الصحابة. ولأنه ليس من أهل القتال؛ ولهذا: لو حضر الصف.. لم يتعين عليه القتال.
وإن حضر صبيان المسلمين أو نساؤهم القتال.. رضخ لهم ولم يسهم لهم. وهو قول كافة العلماء إلا الأَوزَاعِي، فإنه قال: (يسهم للنساء والصبيان) .
دليلنا: أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عبَّاس: هل كان رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحمل النساء إلى الجهاد، وهل كان يسهم لهن؟ فكتب إليه ابن عبَّاس: (كان رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يحملهن معه ليسقين الماء ويداوين الجرحى، وكان لا يسهم لهن، بل كان يرضخ لهن) ولأن السهم للمقاتلة، والنساء والصبيان ليسوا من المقاتلة، بدليل أنهم لو حضروا الصف.. لم يتعين عليهم القتال، فلم يستحقوا السهم وإن حضروا، كالعبيد والكفار.
وإن خرج نساء أهل الذمة مع الإمام بإذنه.. فهل يرضخ لهن؟ فيه وجهان حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] :
أحدهما: يرضخ لهن، كنساء المسلمين.(12/219)
والثاني: لا يرضخ لهن؛ لأنهن لا قتال فيهن ولا بركة بحضورهن، بخلاف نساء المسلمين؛ فإنه يتبرك بدعائهن إذا حضرن.
وإن دخل العبيد، أو النساء، أو الصبيان إلى دار الحرب منفردين وغنموا.. ففيه ستة أوجه:
أحدها: أنه يخمس، ويقسم الإمام الباقي بينهم على ما يراه من المفاضلة، كما يقسم الرضخ بينهم.
والثاني: يخمس، ويقسم الباقي بينهم بالسوية، كما لو غنمت الرجالة من الرجال.
والثالث: يرضخ لهم منه، ويرد الباقي إلى بيت المال؛ لأنه لا حق لهم إلا الرضخ.
والرابع: يخمس هذا المال، ويرضخ لهم من الباقي، ثم يرد الباقي إلى بيت المال؛ لما ذكرناه في الذي قبله.
والخامس: يخمس، ويقسم الباقي بينهم: للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم، كما لو كانوا رجالًا بالغين أحرارًا.
والسادس: أنه لا يحكم لهذا المال بحكم الغنيمة، بل حكمه حكم المسروق، فيكون كله لهم وقتالهم كلا قتال.
[مسألة: مصدر الرضخ ومقداره]
ومن أين يخرج الرضخ؟
من أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أوجه، ومنهم من قال: هي أقوال للشافعي:
أحدها أنه يخرج من أصل الغنيمة؛ لأن في أهل الرضخ مصلحة للغانمين، فكان ما يستحقونه من أصل الغنيمة، كأجرة الحافظ والنقال.
والثاني: أنه يخرج من أربعة أخماس الغنيمة؛ لأنه يستحقه بالحضور، فهو كسهم الفارس والراجل.(12/220)
والثالث: أنه يخرج من خمس الخمس؛ لأن أربعة أخماس الغنيمة لأهلها، وإنما يرضخ لأهل الرضخ للمصلحة، فكان من سهم المصالح.
ومن أصحابنا من قال: هذا القول يختص بأهل الذمة؛ لأنهم ليسوا من أهل الجهاد.
إذا ثبت هذا: فإن الرضخ غير مقدر، بل هو موكول إلى اجتهاد الإمام، ويختلف باختلاف قلة العمل وكثرته.
قال الشيخ أبُو إسحاق: ولا يبلغ به سهم راجل؛ لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه، كالحكومة لا يبلغ بها أرش العضو.
[مسألة: خروج الأجير مع المقاتلين]
وإن خرج مع المقاتلين أجير.. نظرت: فإن كانت إجارته على عمل في الذمة وحضر القتال.. فإنه يسهم له؛ لأن العمل في ذمته، فلا يمنع استحقاق السهم إذا حضر القتال، كما لو كان عليه دين في ذمته. وإن كانت الإجارة على مدة بعينها، فحضر الأجير للقتال في تلك المدة.. ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يستحق الأجرة، ويسهم له؛ لأن الأجرة مستحقة بالتمكين من العمل، والسهم مستحق بالحضور، وقد وجد الجميع.
والثاني: لا يسهم له، بل يرضخ له، ويستحق الأجرة مع الرضخ؛ لأن منفعته مستحقة لغيره وقت القتال، فلم يستحق السهم، كالعبد.
والثالث: يخير الأجير: بين السهم والأجرة. فإن اختار السهم.. استحقه وسقطت الأجرة. وإن اختار الأجرة.. استحقها ولم يسهم له، بل يرضخ له؛ لأن منفعته في ذلك الوقت واحدة فلا يستحق بها حقين، هذا قول أكثر أصحابنا.
وقال أبُو عليّ الطبري: القول في تخيير الأجير إنما يأتي في الإمام إذا استأجر من سهم الغزاة من الصدقات أجيرًا للغزاة لحفظ دوابهم وما أشبهه.. فإن الإمام يخيره؛ ليوفر سهمه أو أجرته على الغزاة، فأما إذا كان الأجير لواحد(12/221)
بعينه.. فلا معنى لتخييره؛ لأنه لا معنى لتوفير الأجرة عليه ودفع السهم من نصيب الغانمين وإنما يكون فيه القولان الأولان.
ومن أصحابنا من قال لم يرد الشافعي بما ذكره من التخيير للأجير في الحقيقة، وإنما أراد المجاهدين الذين يغزون إذا نشطوا؛ فإنهم إذا حضروا.. يقول لهم الإمام: أنتم بالخيار: بين أن تأخذوا كفايتكم من الصدقات، وبين أن تأخذوا السهم من الغنيمة.
والأصح هو الطريق الأول:
فإذا قلنا: يخير.. فإن أصحابنا البغداديين قالوا: يخير قبل القتال وبعده. فأما قبل القتال: فيقال له: إن أردت الجهاد.. فاقصده واطرح الأجرة. وإن أردت الأجرة.. فاطرح الجهاد. ويقال له بعد القتال: إن كنت قصدت الجهاد.. أسهم لك وتركت الأجرة، وإن كنت قصدت الخدمة.. أعطيت الأجرة دون السهم. وإنما تسقط الأجرة إذا اختار السهم في الحالة التي حضر فيها القتال وترك خدمة المستأجر، فأما قبل ذلك.. فإنه يستحق الأجرة؛ لأنه قد وجد منه التمكين من العمل فيها.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا اختار السهم واطرح الأجرة.. فمن أي وقت تطرح؟ فيه وجهان:
أحدهما: من حين دخوله دار الحرب؛ لأنه يصير مجاهدًا بنفس دخوله دار الحرب.
والثاني: من حين حضوره الوقعة؛ لأن ذلك حقيقة القتال.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وهذا إذا حضر وقاتل، فأما إذا لم يقاتل.. فإنه لا يسهم له قولا ًواحدًا.(12/222)
[فرع: حضور التجار في المعركة]
] : وإن كان مع المجاهدين تجار، فانقضى القتال وهم معهم.. فهل يسهم لهم؟ فيه قولان:
أحدهما: يسهم لهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغنيمة لمن شهد الوقعة» ، وقد شهدوها.
والثاني: لا يسهم لهم؛ لأن السهم إنما يستحقه المجاهدون، وهؤلاء لم يقصدوا الجهاد، وإنما قصدوا التجارة.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا حضروا ولم يقاتلوا، فأما إذا حضروا وقاتلوا.. فإنه يسهم لهم قولًا واحدًا؛ لأن الجهاد هو القتال، وقد وجد منهم.
ومنهم من قال: القولان إذا حضروا وقاتلوا، فأما إذا لم يقاتلوا.. فإنه لا يسهم لهم قولًا واحدًا؛ لأنهم وإن قاتلوا.. فلم يقصدوا الجهاد عند دخول دار الحرب.
ومن أصحابنا من قال: القولان في الحالين، سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا.
[مسألة: انفلات الأسير من المشركين ولحوقه بجيش المسلمين]
أو حصول مدد لهم] :
إذا انفلت أسير من المشركين فلحق بجيش المسلمين، أو لحق بجيش المسلمين مدد.. فهل يشاركونهم في الغنيمة؟ ينظر فيه: فإن لحقهم قبل انقضاء الحرب.. فإنه يشاركهم في الغنيمة قولًا واحدًا؛ لأنه أدرك وقت استحقاق الغنيمة. وإن لحقهم بعد انقضاء القتال وبعد حيازة الغنيمة.. فإنه لا يشاركهم قولًا واحدًا؛ لأن الغانمين قد ملكوا أن يملكوا الغنيمة، وتعلقت بها حقوقهم فلم يشاركهم(12/223)
غيرهم فيها. وإن لحق بهم بعد انقضاء القتال وقبل حيازة الغنيمة.. فهل يشاركهم فيها غيرهم؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يشاركهم فيها؛ لأنه لم يشهد الوقعة.
والثاني: يشاركهم؛ لأنه قد حضر قبل أن يملكوا الغنيمة.
وهذان القولان مبنيان على القولين، متى يملكون أن يملكوا الغنيمة؟
أحدهما: أنهم لا يملكون أن يملكوا إلا بعد انقضاء القتال وحيازة الغنيمة.
فعلى هذا: يشاركهم من لحقهم.
والثاني: أنهم يملكون أن يملكوا الغنيمة بعد انقضاء القتال وقبل حيازة الغنيمة.
فعلى هذا: لا يشاركهم من لحقهم.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إذا لحقهم مدد بعد انقضاء القتال.. لم يشاركهم به المدد. وإن لحقهم في حال القتال.. فما أحرزوه من المال بعد لحوق المدد.. شاركهم به المدد، وما كانوا قد أحرزوه من المال قبل لحوق المدد بهم.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يشاركهم فيه؛ لأنهم انفردوا بإحرازه، فهو كما لو لحقهم بعد انقضاء القتال.
والثاني: يشاركهم فيه؛ لأن ذلك المال كالمتداول بين المسلمين والمشركين، ولأن القتال قائم، فلعلهم يستردونه فما لم ينقض القتال.. لم يكمل الإحراز.
وأمَّا الأسير إذا انفلت وانضاف إلى المقاتلين، فإن كان من هذا الجيش.. فإنه يشاركهم، سواء قاتل أو لم يقاتل. وإن كان من جيش آخر وقاتل.. شاركهم، وإن لم يقاتل.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يسهم له؛ لأنه لحقهم هاربًا وقصد الخلاص من الكفار قبل القتال، فإذا لم يوجد منه نفس القتال ولا قصده.. لم يستحق السهم.
والثاني: يسهم له، كسائر من شهد الوقعة ولم يقاتل.(12/224)
قال: وخرج فيه قول آخر: أنه لا يسهم له وإن قاتل، تخريجًا من الأجير.
هذا مذهبنا، وقال أبو حَنِيفَة: (إذا لحقهم مدد بعد انقضاء القتال وقبل القسمة وهم في دار الحرب.. فإنه يشاركهم، إلا الأسارى.. فإنهم لا يشاركونهم) .
دليلنا: أنه مدد لحقهم بعد انقضاء القتال فلم يشاركهم، كما لو لحقهم بعد القسمة، ولأن كل حالة لو لحق الأسير فيها لم يشارك، فإذا لحق غيره فيها.. لم يشارك، كما لو لحق المدد بعد إخراج الغنيمة إلى دار الإسلام.
[مسألة: شتراك السرايا بالغنيمة]
مسألة: [اشتراك السرايا بالغنيمة] :
إذا خرج الأمير بالجيش من البلد، ثم أنفذ سرية إلى الجهة التي يقصدها أو إلى غيرها، أو أنفذ سرية من البلد، ثم سار بالجيش بعدها، فغنمت السرية بعد خروج الجيش من البلد، أو غنم الجيش.. فإن الجيش والسرية يتشاركان فيما غنما، وهو قول كافة العلماء، إلا الحَسَن البَصرِيّ، فإنه قال لا يتشاركان.
دليلنا: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح هوازن بحنين بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت، فقسم رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، غنائمهم بينهم وبين الجيش» ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المسلمون يد واحدة على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وترد سراياهم على قاعدهم» . ولأن الجميع جيش واحد.
وهكذا: إذا أنفذ الأمير سريتين من الجيش إلى جهة واحدة من طريق أو من طريقين.. فإن الجيش والسريتين يتشاركون فيما غنموا أو غنم بعضهم؛ لأنهم جيش واحد(12/225)
وإن أنفذ الأمير سريتين إلى جهتين.. فإن الجيش يشاركهما فيما يغنمان، ويشاركانه فيما يغنم، وهل تشارك كل واحدة منهما الأخرى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يتشاركان؛ لأن إحداهما ليست بأصل للأخرى.
والثاني: يتشاركان، وهو المذهب؛ لأنهما من جيش واحد.
وإن أنفذ الأمير سرية وهو مقيم في البلد، فغنمت السرية.. لم يشاركها الجيش الذي مع الإمام؛ لـ: (أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث السرايا من المدينة ويقيم هو بها، فلا يشارك بينهم) .
وإن بعث سريتين من البلد إلى جهتين مختلفتين، وأقام هو مع الجيش في البلد.. فإن كل واحدة من السريتين لا تشارك الأخرى فيما تغنمه إلا أن يلتقيا في طريق فيجتمعا على جهة واحدة.. فإنهما يصيران جيشًا واحدًا.
وإن بعث الأمير سرية من الجيش من البلد، وعزم على المسير وراءها مع الجيش، فغنمت السرية قبل خروج الإمام من البلد.. فلا يشاركها الجيش؛ لأن الغنيمة إنما يستحقها المجاهد، والجيش قبل خروجه من البلد غير مجاهد.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إذا بعث الإمام سرية أو سرايا إلى قلاع، فغنم بعضهم.. شاركهم سائر السرايا والإمام في الغنيمة إن كانوا متقاربين، بحيث يصلح بعضهم أن يكون عونًا لبعض. وإن كانوا متباعدين، بحيث لا يوجد منهم التناصر إن احتيج إلى ذلك.. لم تشارك السرية التي لم تغنم السرية التي غنمت.
وقال القفال: يشاركهم الإمام ومن لم يغنم إذا كانوا كلهم في دار الحرب، فأما إذا كان الإمام في دار الإسلام وبعث سرية إلى دار الحرب فغنمت.. فالإمام لا يشاركهم.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وليس بشيء، بل الاعتبار بالتقارب والتباعد.(12/226)
[فرع: إرسال الإمام جاسوسًا إلى المشركين]
إذا بعث الإمام جاسوسًا إلى المشركين لينظر عدتهم وينقل أخبارهم، فغنم الجيش قبل رجوعه إليهم ثم رجع إليهم.. ففيه وجهان حكاهما ابن الصبَّاغ:
أحدهما: لا يشاركهم؛ لأنه لم يحضر الاغتنام.
والثاني: يشاركهم؛ لأنه كان في مصلحتهم وخاطر بما هو أعظم من الثبات في الصف.
والله أعلم(12/227)
[باب قسم الخمس]
قد ذكرنا أن الغنيمة تقسم على خمسة أسهم، وقد مَضَى الكلام في قسمة أربعة أخماسها بين الغانمين، وأمَّا خمسها: فإنه يقسم عندنا على خمسة أسهم: سهم لرسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
وقال أبُو العالية الرياحي: يقسم الخمس على ستة أسهم: سهم لله يصرف في رتاج الكعبة وزينتها، وخمسة أسهم على ما ذكرناه.
وقال مالك: (خمس الغنيمة موكول إلى اجتهاد الإمام) .
وقال أبو حَنِيفَة: (خمس الغنيمة يقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، ويسقط سهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بموته. وأمَّا سهم ذوي القربى: فقد كان لذوي القربى الذين كانوا في عهد رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد سقط بموتهم) . فقال بعض أصحابه: كان يفرقه عليهم بمعنى الفقر والمسكنة، لا على جهة استحقاقهم له بالقرابة، ويسقط بموتهم.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] [الأنفال: 41] الآية.
فموضع الدليل منها على أبي العالية: أن الله تَعالَى قسم الخمس على خمسة أسهم، وأبو العالية يقسمه على ستة.
وموضع الدليل منها على مالك: أن الله أضاف الخمس إلى جميع الأصناف المذكورين في الآية، فلا يجوز صرفه إلى غيرهم.(12/228)
وعلى أبي حَنِيفَة: أن الله جعل لنبيه، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سهمًا ولذوي القربى سهمًا في خمس الغنيمة، فاقتضى أن ذلك على التأبيد.
إذا ثبت هذا: فإن سهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصرف عندنا بعد موته في مصالح المسلمين.
ومن الناس من قال: يكون للإمام أن يصرفه في نفقته ونفقة عياله؛ إذ هو خليفة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومن الناس من قال: يصرف إلى باقي الأصناف المذكورين في الآية.
دليلنا: ما رَوَى جبير بن مطعم: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» وهذا يقتضي رده على جميع المسلمين، ولا يمكن ذلك إلا إذا صرف إلى مصالحهم.
[مسألة: سهم ذوي القربى]
فأما سهم ذوي القربى: فإنه لمن ينتسب إلى هاشم والمطلب ابني عبد مناف ولأن عبد مناف كان له خمسة أولاد: هاشم جد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمطلب جد الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعبد شمس جد عُثمانَ بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ونوفل جد جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأبو عمرو ولا عقب له. فقسم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى بين بني(12/229)
هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل. «قال جبير بن مطعم: فأتيت أنا وعثمان إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقلنا له: يا رسول الله، هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه.
إذا ثبت هذا: فإنه يشترك في هذا السهم الأغنياء والفقراء من ذوي القربى؛ لـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعطى منه العباس بن عبد المطلب وكان موسرًا، وكان يعول أكثر بني عبد المطلب» .
ويستحقه الرجال والنساء منهم، لـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لأم الزبير منه» . ولأنه مستحق بالقرابة، فاشترك فيه الرجال والنساء، كما لو وصى بماله لقرابته.
ولا يفضل رجل على رجل، ولا امرأة على امرأة، كما قلنا في الوصية للقرابة.
ويعطى الرجل مثل حظ الأنثيين.
وقال المزني وأبو ثور: (يسوى بين الرجل والمرأة؛ لأنه مال مستحق بالقرابة، فلا يفضل فيه الذكر على الأنثى كالوصية للقرابة) . وهذا خطأ؛ لأنه مال مستحق بقرابة الأب بالشَّرعِ، ففضل فيه الذكر على الأنثى، كميراث ولد الأب.
فقولنا: (بقرابة الأب) احتراز من ميراث الإخوة من الأم.(12/230)
وقولنا: (بالشَّرعِ) احتراز من الوصية للقرابة.
ويدفع ذلك إلى من ينتسب إلى هاشم والمطلب من أولادهما وأولاد أولادهما وإن سفلوا من الأعلى والأسفل، من قبل البنين دون أولاد البنات؛ لأن أولا البنات ينسبون إلى آبائهم دون أمهاتهم.
[فرع: اشتراك ذوي القربى فيما وجد من خمس الخمس وإن قل]
ومتى لاح درهم من خمس الخمس.. فهو لجميع ذَوِي القربى في جميع أقاليم الأرض.
وقال أبُو إسحاق: ينفرد من كان في إقليم من ذوي القربى بما حصل من خمس الخمس في مقر ذلك الإقليم؛ لأنه يشق نقل ما حصل في إقليم إلى جميع ذَوِي القربى في جميع الأقاليم.
والمنصوص هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية [لأنفال: 41] . فجعل خمس الخمس لجميع ذَوِي القربى، فاقتضى اشتراكهم فيه. ولأنه مال مستحق بالقرابة، فاستوى فيه القاصي والداني، كالميراث. وما ذكره أبُو إسحاق من المشقة.. فلا يلزم الإمام تفريقه على ما قرره، ولكن إذا حصل سهم لذوي القربى في مقر إقليم.. فرقه على ذَوِي القربى في ذلك الإقليم، وإذا حصل سهم لذوي القربى في إقليم غيره.. فرقه أيضًا على ذوي القربى فيه، ثم كذلك في جميع الأقاليم، ثم يقابل بين ما فرقه عليهم في كل إقليم وبين عددهم، فإن كان قد وصل إلى كل من في إقليم قدر حقه في جميع الأقاليم.. فلا كلام، وإلا.. رد الفضل على من بقي له، كالرجل إذا دفع زكاته إلى الإمام.. فليس على الإمام أن يوصل زكاة الرجل الواحد إلى جميع الأصناف، بل لو أوصلها إلى رجل واحد.. أجزأ، ولكن على الإمام أن يساوي بين الأصناف فيما يعطيهم من زكاة الرعية كلها.(12/231)
[مسألة: سهم اليتامى]
وأمَّا سهم اليتامى: فإنه يصرف إلى كل صغير لا أب له إذا كان محتاجًا؛ لأن اليتيم من بني آدم من فقد الأب، والبالغ لا يسمى يتيمًا؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد الحلم» وهل يدخل فيه الصغير الذي لا أب له إذا كان غنيًا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يدخل فيه؛ لأن اليتم في بني آدم: فقد الأب، وذلك يقع على الغني والفقير.
والثاني: لا يدخل فيه؛ لأن غناه بالمال أكثر من غناه بالأب.
إذا ثبت هذا: فإن سهم اليتامى يصرف إلى القاصي والداني من اليتامى في جميع الأقاليم على المنصوص، ولكن لا يكلف الإمام النقل من إقليم إلى إقليم، بل على ما ذكرناه في ذَوِي القربى. وعلى قول أبي إسحاق: يختص يتامى كل إقليم بما يحصل في مغزاهم.
وهل يختص يتامى المرتزقة بهذا السهم؟ وفيه وجهان:
[أحدهما] : قال القفال: يختصون به، كما يختص المرتزقة بأربعة أخماس الغنيمة.
و [الثاني] : قال عامة أصحابنا: لا يختصون به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [الأنفال: 41] [لأنفال: 41] ولم يفرق.(12/232)
[مسألة: سهم المساكين]
وأما سهم المساكين: فإنه يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأنهما متقاربان في المعنى، فمتى ذكر أحدهما.. تناولهما، وإن ذكرا معًا.. قسم بينهما.
ويصرف هذا السهم إلى الفقراء والمساكين في جميع الأقاليم، ولكن لا يكلف الإمام النقل من إقليم إلى إقليم، بل بالحساب على المنصوص. وعلى قول أبي إسحاق: يختص مساكين كل إقليم وفقراؤه بما يحصل من هذا السهم في مغزاهم.
وقال أبُو عليّ في " الإفصاح ": إن اتسع سهم اليتامى والمساكين لجميع يتامى البلدان ومساكينهم، وإلا.. فرق على حسب الإمكان.
[مسألة: سهم ابن السبيل]
وأمَّا سهم ابن السبيل: فهو لكل مسافر أو منشئ للسفر وهو محتاج، على ما مَضَى في الزكاة.
ولا يفضل سهم على سهم، كما قلنا في سهام الأصناف في الصدقات.
ويقسم سهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل على جميع الصنف على قدر حاجاتهم، على ما ذكرناه في الصدقات.
ولا يجوز دفع شيء من الخمس إلى كافر من جميع الأصناف؛ لأنه عطية من الله، فلم يكن للكافر فيها حق، كالزكاة.
والله أعلم(12/233)
[باب الفيء]
الفيء: هو المال الذي يأخذه المسلمون من الكفار بغير قتال، سمي بذلك؛ لأنه يرجع من المشركين إلى المسلمين. يقال: فاء الفيء: إذا رجع، و: فاء فلان: إذا رجع.
والفيء ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يتخلى الكفار عن أوطانهم خوفًا من المسلمين، ويتركوا فيها أموالًا فيأخذها المسلمون، أو يبذلوا أموالًا للكف عنهم.. فهذا يخمس ويصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة على ما مَضَى.
والثاني: الجزية التي تؤخذ من أهل الذمة، وعشور تجارة أهل الحرب إذا دخلوا دار الإسلام، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له، ومال من مات أو قتل على الردة.. ففي هذا قولان:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يخمس؛ لأنه مال مأخوذ من غير قتال، فلم يخمس، كالمال المأخوذ منهم بالبيع) .
و [الثاني] : قال في الجديد: (يخمس) ، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] الآية [الحشر: 7] وأراد به الخمس؛ لأنها نزلت في أموال بني النضير، وإنما كانت لرسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(12/234)
وأمَّا أربعة أخماس الفيء: فقد كان للنَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في حياته، ينفق منها على أهله سنة، وما بقي يصرفه في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.
والدليل عليه: ما رَوَى [مالك بن أوس بن الحدثان] قال: (اختصم عليّ والعباس في أموال بني النضير إلى عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال عمر: إن أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله خاصة مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ينفق منها على أهله وعياله سنة، وما بقي يصرفه في الكراع والسلاح، فتوفي رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوليها أبُو بكر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بمثل ذلك) . وكان هذا القول بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، فدلَّ على: أنه إجماع.
إذا ثبت هذا: فما كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في حياته من الفيء والغنيمة.. لا ينتقل إلى ورثته، وكذلك جميع الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - لا يورثون.
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولم أعلم أن أحدًا من أهل العلم قال: إن ذلك لورثتهم) .
وذهب قوم لا يعتد بخلافهم ـ وهم الشيعة وأتباعهم ـ إلى: أن الأنبياء، صَلَّى الله(12/235)
عليهم وسَلَّم، يورثون، وأن نبينا، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورثته ابنته فاطمة وحجبت العباس.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورُوِي: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقسم ورثتي من بعدى دينارًا. ما تركته بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي.. فهو صدقة ألا إن الأنبياء لا يورثون» .
قال الشيخ أبُو حامد: ومعنى قوله هاهنا (عاملي) أي: مؤنة تجهيزي.
وفيما يفعل بأربعة أخماس الفيء بعد موت النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموت زوجاته قولان:
أحدهما: أنه يصرف إلى المرتزقة، ويسمون أهل الديوان، وهم المرابطون للثغور، المقيمون فيها، دون الذين يغزون إذا نشطوا؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان يستحق ذلك؛ لما ألقى الله به في قلوب الكفار من الرعب والهيبة، وهذا المعنى بعد موته لا يوجد إلا في المرتزقة، فوجب أن يكون لهم.
والثاني: أنه يصرف إلى جميع مصالح المسلمين؛ لأن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كان يستحقه في حياته لفضيلته وشرفه، وهذا لا يوجد في غيره بعد موته، فوجب أن يصرف إلى المصالح، كما قلنا في سهمه من الخمس:
وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة "] قولًا ثالثًا: أن جميع الفيء يصرف إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] الآية [الحشر: 7] . وهذا ليس بشيء؛ لأن المراد بالآية في الفيء: الخمس منه؛ بدليل: ما ذكرناه من إجماع الصحابة فيه.
فإذا قلنا: إنها تكون للمرتزقة.. فإنه يصرف جميعه إليهم، ولا يصرف ما زاد على كفايتهم منه إلى غيرهم.(12/236)
وإن قلنا: إنه يصرف إلى مصالح المسلمين.. فإنه يبتدئ بالأهم فالأهم، والأهم هو أرزاق المقاتلة، فيصرف إليهم منه قدر كفايتهم، وما زاد على قدر كفايتهم.. يصرف في أرزاق القضاة وبناء القناطر والمساجد وما أشبهها.
[مسألة: وضع سجل بأسماء الغزاة ورواتبهم وعريف على كل طائفة]
ويكون العطاء مرة في السنة] :
وينبغي للإمام أن يضع ديوانًا ـ وهو دفتر فيه أسماء المقاتلة، وقدر أرزاقهم لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كان له ديوان فيه أسماء المقاتلة) . ويستحب أن يجعل على كل طائفة من المقاتلة عريفًا يستدعيهم للغزو ويقبض أرزاقهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(12/237)
{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] [الحجرات: 13] ولـ: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على كل عشرة يوم حنين عريفًا» .
ويجعل الإمام العطاء في السنة مرة أو مرتين؛ لأنه يشق العطاء في كل أسبوع أو في كل شهر.
[فرع: يبدأ بالعطاء بأقارب المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
َ -، ويقدر العطاء على حسب كفايتهم] :
إذا أراد الإمام وضع الديوان وإعطاء مال الفيء.. فإنه يبدأ بقريش قبل سائر الناس؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا ولا تتقدموها» ، ولما رَوَى أبُو هُرَيرَة، قال: (قدمت إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، من عند أبي موسى الأشعري بثمانمائة ألف درهم، فلما صَلَّى الصبح.. اجتمع إليه نفر من أصحاب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال لهم: قد جاء الناس مال لهم لم يأتهم مثله منذ كان الإسلام، أشيروا علي بمن أبدأ؟ فقالوا: بك يا أمير المؤمنين؛ إنك ولي ذلك، فقال لا، ولكن أبدأ برسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والأقرب فالأقرب. فوضع الديوان على ذلك) .
ومعنى قولهم: (بك يا أمير المؤمنين) أي بقرابتك.
ومعنى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أبدأ برسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أي بقرابته.
ويقدم بني هاشم وبني المطلب على سائر قبائل قريش؛ لأن بني هاشم بنو أجداد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبني المطلب بنو أعمامه. ولا يقدم هاشمي على مطلبي، ولا مطلبي على هاشمي إلا بالسن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد» .
ورُوِي: (أن عمر لما أراد قسمة المال قال: أبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يعطيهم وبني المطلب، فإذا كان السن في الهاشمي.. قدمه على المطلبي.. وإذا كان في المطلبي.. قدمه على الهاشمي) . فوضع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(12/238)
الديوان على ذلك، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة.
ثم يعطي بعد بني هاشم وبني المطلب بني عبد شمس ـ وهم بنو أمية ـ ويقدمهم على بني نوفل؛ لأن عبد شمس أخو هاشم والمطلب لأب وأم، ونوفلًا أخوهم لأب لا غير.
ثم يعطي بني عبد العزى وبني عبد الدار، ويقدم بني عبد العزى على بني عبد الدار؛ لأن خديجة زوج النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بني أسد بن عبد العزى. ولأن فيهم حلف المطيبين وحلف الفضول: وهم قوم اجتمعوا في الجاهلية، فتحالفوا على: أن يدفعوا الظالم وينصروا المظلوم، وقالوا: إن بيتنا هذا يقصده الناس من الآفاق فأخرجوا من طيب أموالكم وأعدوه لأضيافكم.(12/239)
وروت عائشة: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شهدت حلف الفضول، ولو دعيت إليه لأجبت» .
واختلف الناس: لم سمي حلف المطيبين؟
فقال بعضهم: إنما سموا بذلك؛ لأنهم أخرجوا من طيب أموالهم ما أعدوه للضيف.
وقال بعضهم: إنما سموا بذلك؛ لأن عاتكة بنت عبد المطلب أخرجت قدحًا فيه طيب فطيبتهم به.
واختلفوا: لما سمي حلف الفضول؟
فقال بعضهم: إنما سموا بذلك؛ لأنهم أخرجوا ما أعدوه للضيف من فضول أموالهم.
وقال بعضهم إنما سموا بذلك؛ لأنه كان فيهم جماعة اسمهم فضل.
وقال بعضهم: بل اجتمع فيهم فضل وفضيل وفضالة.
ثم يعطي الأقرب فالأقرب، حتى يستكمل سائر قبائل قريش، فإن استوى اثنان في درجة واحدة في النسب.. قدم أسنهمًا؛ لما ذكرناه في حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في بني هاشم وبني المطلب. فإن استويا في السن.. قدم أقدمهما هجرة وسابقة إلى الإسلام. فإذا انقضت قريش.. قدم الأنصار على غيرهم من العرب؛ لأن لهم الآثار الحميدة في الإسلام؛ لأنهم آووا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ونصروه وآثروه وأصحابه على أنفسهم في المنازل والأموال.
ثم يعطي سائر قبائل العرب قبل العجم، ولا يقدم أحدًا منهم على غيره إلا بالسن والسابقة إلى الإسلام. ثم يعطي العجم بعدهم، ولا يقدم أحدًا على أحد إلا بالسن والسابقة إلى الإسلام والهجرة، وهذا التقديم إنما هو في بداية العطاء.(12/240)
فأما قدر العطاء: فإن الإمام يتعرف عيال كل واحد منهم وأسعار البلاد، ويعطي كل واحد منهم قدر كفايته، فإن استوى اثنان في قدر الكفاية.. لم يفضل أحدهما على الآخر بشرف ولا سابقة إلى الإسلام ولا هجرة؛ لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما ولي الخلافة.. سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد، فقال له عمر: أتجعل من هاجر في سبيل الله كمن دخل في الإسلام كرهًا؟ فقال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما عملوا لله، وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ، فلما ولي عمر الخلاقة.. فاضل بين الناس وأعطى العبيد، ولما أفضت الخلافة بعد عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه إلى علي سوى بين الناس وأسقط العبيد) ، فاختار الشافعي، مذهب عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن العطاء إنما هو لأنهم أرصدوا أنفسهم للجهاد وهم متساوون في ذلك فوجب أن يساوي بينهم.
[فرع: لا يمنح عبد وغيره ممن لا يجب عليهم القتال]
] : ولا يعطى من الفيء عبد. وبه قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقال أبُو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: (يعطى العبيد الذين يشتغلون بالجهاد ويخدمون السادة فيما يتعلق بالقتال) .
دليلنا: أن العبد ليس من أهل القتال، بدليل: أنه لا يتعين عليه القتال وإن حضر الصف.(12/241)
ولا يعطى من الفيء صبي، ولا مجنون، ولا امرأة، ولا ضعيف لا يقدر على الجهاد؛ لأنه ليس من أهل القتال.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وهل يجب تمليك زوجات المرتزقة وأهليهم ما يخصهم؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب، كما يجب تمليك المرتزقة.
والثاني: لا يجب؛ لأنهم أتباع المرتزقة.
[فرع: المرض الذي يصيب بعض المقاتلة ولا يرجى زواله]
يسقط الحق من الفيء] : وإن مرض بعض المقاتلة، فإن كان مرضًا يرجى زواله وإن طال.. فإن حقه لا يسقط من الفيء، بل يعطى كما كان يعطى قبل المرض؛ لأن الإنسان لا يخلو في الغالب من المرض. فلو قلنا: إن حقه يسقط بالمرض.. أدى إلى الضرر.
وإن كان مرضًا لا يرجى زواله، كالفالج والزمانة.. سقط حقه؛ لأنه قد خرج عن أن يكون من المقاتلة بحال، فيصير كالذرية.
[فرع: موت فرد من المرتزقة وقد خلف ذرية]
وإن مات أحد المرتزقة وخلف زوجة وأولادًا صغارًا.. فهل يعطون بعد موته؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يعطون؛ لأنهم إنما أعطوا في حياته تبعًا له، فإذا مات المتبوع.. سقط التابع.
والثاني: أنهم يعطون. قال أصحابنا البغداديون: لأن في ذلك مصلحة للجهاد؛ لأن المجاهد: متى علم أن ذريته وزوجته يعطون بعد موته.. اشتغل بالجهاد، ومتى علم أنهم لا يعطون بعد موته.. اشتغل بالكسب لهم، فيتعطل الجهاد.(12/242)
وقال الخراسانيون: العلة فيه: أن الصغير لعله إذا بلغ.. أثبت اسمه في ديوان المرتزقة.
فعلى علة البغداديين: تعطى الذرية، ذكورًا كانوا أو إناثًا. فإن كانوا ذكورًا.. أعطوا إلى أن يبلغوا، فإذا بلغوا وكانوا يصلحون للجهاد.. قيل لهم: أنتم بالخيار: بين أن تثبتوا أنفسكم في ديوان المرتزقة وتأخذوا كفايتكم من الفيء، وبين أن لا تثبتوا أنفسكم في ديوان المرتزقة بل تكونوا من أهل الصدقات الذين إذا نشطوا.. غزو، فتكون كفايتكم في الصدقة. وإن بلغوا زمنى أو عميًا.. أعطوا الكفاية من الفيء؛ لأنهم لا يصلحون للجهاد.
وإن كانت الذرية إناثًا.. فإنهن يعطين الكفاية إلى أن يبلغن ويتزوجن، أو يكون لهن كسب يستغنين به.
وأمَّا الزوجة: فإنها تعطى إلى أن تتزوج.
وإن كانت الذرية خنثى مشكلًا.. فعلى علة أصحابنا البغداديين هو كالبنت، وعلى علة الخراسانيين: هل يعطى بعد موت أبيه؟ فيه وجهان خرجهما القاضي أبُو الفتوح:
أحدهما: لا يعطى شيئًا؛ لأنه لا يتوهم إثبات اسمه؛ لأنه ليس من أهل القتال.
والثاني: يعطى؛ لجواز أن يزول إشكاله ويثبت اسمه.
وعلة البغداديين: أصح؛ لأنها تجمع الذرية من الذكور والإناث. وعلة الخراسانيين تختص بالذرية من الرجال.
[مسألة: إعطاء الورثة من الفيء باعتبار القسمة والحول]
] : قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإذا صار مال الفيء إلى الوالي، ثم مات رجل قبل أن يأخذ عطاءه.. أعطيته ورثته. وإذا مات قبل أن يصير إليه المال ذلك العام.. لم يعطه ورثته) .(12/243)
واختلف أصحابنا فيه.
فقال الشيخ أبُو حامد، وأكثر أصحابنا: إذا مات رجل من المرتزقة بعد حؤول الحول.. وجب صرف نصيبه إلى ورثته؛ لأنه مات بعد وجوب القسمة، وسواء حصل في يد الإمام أو لم يحصل في يد الإمام، لأن أهل الفيء معينون معلومون. وإن مات قبل حلول الحول.. لم يجب صرف نصيبه إلى ورثته؛ لأنه مات قبل أن يستحق نصيبه، وقول الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا صار مال الفيء إلى الوالي) أراد: إذا استحقه في يد الوالي.
وقال القاضي أبُو الطيب: بل هي على ظاهرها. فإذا مات رجل من المرتزقة بعد أن صار مال الفيء في يد الوالي.. دفع عطاؤه إلى ورثته، وإن مات قبل أن يصير في يده.. لم يدفع. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: إن مات بعد جمع المال وبعد الحول.. وجب دفع نصيبه إلى ورثته. وإن مات قبل الحول وقبل جمع المال.. فلا حق له. وإن مات بعد جمع المال وقبل حؤول الحول.. ففيه قولان:
أحدهما: لا شيء له؛ لأن الاعتبار بحؤول الحول كالزكاة، ولم يعش إلى ذلك الوقت.
والثاني: يعطى وارثه بقدر ما مَضَى من الحول؛ لأن المال قد جمع وقد حصل من المجاهد الجهاد بما مَضَى من الحول.
وهذان القولان مأخوذان من القولين في الذمي إذا مات أو أسلم في أثناء الحول.. فهل تؤخذ منه الجزية لما مَضَى من الحول؟(12/244)
[فرع: طلب التطوع في المرتزقة]
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : لو جاء رجل وطلب إثبات اسمه في ديوان المرتزقة، فإن كان غناء في القتال، وفي المال سعة.. أثبت الإمام اسمه، وإلا.. لم يثبت اسمه.
[مسألة: مصرف ما فضل من الفيء بعد العطاء]
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن فضل من الفيء شيء بعد ما وصفت من إعطاء العطاء.. وضعه الإمام في إصلاح الحصون والازدياد في الكراع والسلاح) .
واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فمنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء للمقاتلة) .
فعلى هذا: يعطيهم الإمام من الفيء أولًا كفايتهم، وما فضل عن كفايتهم.. فإنه يشتري به السلاح والكراع ويصلح به الحصون؛ لأن ذلك من مصالحهم ولا بد لهم منه، فإذا لم يفعله الإمام.. فعلوه من أموالهم، فإن فضل من الفيء شيء بعد ذلك.. صرفه إليهم على قدر كفايتهم.
فأما على القول الذي يقول: (إنه للمصالح) .. فلا يزيدهم على قدر كفايتهم.
ومنهم من قال: إنما قال هذا على القول الذي يقول: إن أربعة أخماس الفيء للمصالح.
فعلى هذا: يبدأ بكفايتهم، فإن فضل منه فضل.. فإنه يصرف في سد الثغور، وشراء السلاح، والكراع وإصلاح الحصون. وأمَّا على القول الذي يقول: إن أربعة أخماس الفيء للمقاتلة.. فإن جميعه يصرف إليهم.(12/245)
قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإن ضاق عن مبلغ العطاء.. فرقه بينهم بالغًا ما بلغ) . وأراد بذلك: إذا حصل في يد الإمام شيء من الفيء يضيق عن قدر كفايتهم.. فإنه يدفع لكل واحد منهم ما يخصه منه على قدر كفايته، ويتم له الباقي من بيت المال.
[فرع: يعطى من الفيء أرزاق الحكام وولاة الصلاة والأحداث لأهل الفيء]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويعطى من الفيء أرزاق الحكام، وولاة الأحداث والصلاة لأهل الفيء، وكل من قام بأمر أهل الفيء ممن لا غنى لأهل الفيء عنه) .
واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فمنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء للمصالح) .. فيبدأ بكفاية أهل الفيء، ثم يصرف الباقي في الكراع، والسلاح، وسد الثغور، وأرزاق الحكام. فأما على القول الذي يقول: (إنه للمقاتلة) . فإن جميعه يصرف إليهم.
ومنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إنه للمقاتلة) ؛ لأن حكام أهل الفيء ومن يصلي بهم وولاة أحداثهم ـ وهم من يلي مصالحهم منهم- فوجب أن يرزقوا من الفيء إذا لم يوجد من يتطوع لهذه الأمور.
[فرع: كون الفيء مما لا ينقل]
وإن كان في الفيء ما لا ينقل، كالأرض والدور.. فخمسه لأهل الخمس. وأمَّا أربعة أخماسه: فقد قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (تكون وقفًا للمسلمين، تستغل وتقسم عليهم في كل عام) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فمنهم من قال: هذا على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء تكون للمصالح) ؛ لأن المصلحة فيها أن تكون وقفا ًتستغل كل سنة. فأما على القول الذي يقول: (إن أربعة أخماس الفيء للغانمين) .. فلا تكون وقفًا، بل يجب قسمتها بين الغانمين ليتصرفوا فيها بما شاءوا، كأربعة أخماس الغنيمة.(12/246)
ومنهم من قال: بل تصير وقفًا على القولين؛ لأنا إن قلنا: إنها للمصالح.. فالمصلحة فيها أن تكون وقفًا، وإن قلنا: إنها للمقاتلة.. فإنها تصير وقفًا ليصرف الإمام غلتها في مصالحهم.
والفرق بينها وبين الغنيمة: أنه لا مدخل لاجتهاد الإمام في الغنيمة، ولهذا لا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض في الغنيمة، ولاجتهاده مدخل الفيء؛ ولهذا يجوز أن يفضل بعضهم على بعض في القسمة، فتحصل من هذا: أنا إذا قلنا: إنها للمصلحة.. كانت وقفًا وجهًا واحدًا، وإن قلنا: إنها للمقاتلة.. فهل تصير وقفًا؟ فيه وجهان:
وأمَّا خمس الأرض: فإن سهم المصالح، وسهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم ابن السبيل، يكون وقفًا وجهًا واحدًا، وفي سهم ذَوِي القربى وجهان.
وكل موضع قلنا: يكون وقفًا.. فهل يفتقر إلى تلفظ الإمام بالوقف؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصبَّاغ:
أحدهما: يفتقر إلى ذلك، كسائر الوقوف.
والثاني: لا يفتقر إلى ذلك؛ لأن وقفه وجب بالشَّرعِ، فلم يحتج إلى اللفظ به، كما أنه لو وجب رق النساء والصبيان من أهل الحرب.. لم يحتج إلى لفظ الإمام باسترقاقهم، فهذا مثلها.
إذا ثبت هذا: فروى الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ما من أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه إلا ما ملكت أيمانكم) . فتأوله أصحابنا ثلاثة تأويلات:(12/247)
أحدها: أنه أراد به المحتاجين لا الأغنياء.
الثاني: أنه أراد به المحتاجين والأغنياء؛ لأن ما يأخذه المجاهدون من المال ينتفع به الأغنياء؛ لأنهم يسقطون الجهاد عنهم لقيامهم به.
والثالث: أنه أراد ما من أحد إلا وله في بيت المال حق، فللفقراء حق في الصدقات، وللأغنياء حق في الفيء يأخذونه إذا كانوا مرابطين، وإن لم يكونوا مرابطين.. أخذوه من سهم الغزاة.
وبالله التوفيق(12/248)
[باب الجزية]
الكفار على ثلاثة أضرب:
ضرب: لهم كتاب ـ وهم اليهود والنصارى ـ فيجوز إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم.
وضرب: لهم شبهة كتاب ـ وهم المجوس ـ فيجوز إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم أيضًا.
وضرب: لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب ـ وهم عَبَدَة الأوثان ـ فلا يجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية.
وقال مالك: (تؤخذ الجزية من كل مشرك إلا مشركي قريش؛ لأنهم ارتدوا بعد أن أسلموا) .(12/249)
وقال أبو حَنِيفَة: (تؤخذ الجزية من كل مشرك إلا من عَبَدَة الأوثان من العرب، فلا تؤخذ منهم الجزية) .
وقال أبُو يوسف: لا تؤخذ الجزية من العرب، سواء كانوا من أهل الكتاب، أو من عَبَدَة الأوثان.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية، ولم يفرق.
والدليل على: أن الجزية تؤخذ من المجوس ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر البحرين» ورُوِي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توقف في أخذ الجزية منهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: «شهدت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر وقال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب» .
إذا ثبت هذا: فإن كتاب اليهود التوراة، وكتاب النصارى الإنجيل، وأمَّا المجوس: فلا خلاف أنه ليس لهم كتاب اليوم، وهل كان لهم كتاب؟ فيه قولان:(12/250)
أحدهما: أنه لم يكن لهم كتاب ـ وبه قال أبو حَنِيفَة ـ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] [الأنعام: 156] ، ولما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كتب إلى قيصر، كتب إليه: (من محمد بن عبد الله إلى عظيم الروم {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ} [آل عمران: 64] الآية [آل عمران: 64] . ولما كتب إلى كسرى كتب إليه: (من محمد بن عبد الله إلى كسرى) . ولم يخاطبهم بأنهم أهل كتاب، وهم مجوس، فدلَّ على أنهم لا كتاب لهم.
والثاني: أنهم كان لهم كتاب، وهو الأصح؛ لما رُوِيَ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (أنا أعلم من على وجه الأرض بأمر المجوس، كان لهم علم يعلمونه، وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته، فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فجاءوا ليقيموا عليه الحد، فامتنع، ودعا أهل مملكته، وقال: ما أعلم دينًا خيرًا من دين آدم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وقد أنكح بناته بنيه، وأنا على دينه، فبايعه قوم، وقاتل الذين يخالفون حتى قتلهم، فأصبح وقد أسري بكتابهم ومحي العلم من صدورهم فأصبحوا أميين) .
وأمَّا الآية: فلا تدل على أنه لم ينزل الكتاب على غير اليهود والنصارى، لأن الله تَعالَى قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى: 18] [الأعلى: 18] ولقوله تَعالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] [الشعراء: 196] وأمَّا كتاب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلأن الروم كان لهم كتاب موجود؛ فلذلك خاطبهم به، والمجوس ليس لهم كتاب موجود، فلذلك لم يخاطبهم به.(12/251)
[مسألة: تؤخذ الجزية من نسل الكتابيين]
] : ويجوز أخذ الجزية من أولاد من له كتاب أو شبهة كتاب، ومن نسلهم أبدًا، سواء بدلوا أو لم يبدلوا، أو غيروا أو لم يغيروا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر الله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أن يقاتلوا أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية، ومعلوم: أن الكفار الذين أنزل عليهم الكتاب لم يدركهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما أدرك نسلهم، فثبت: أن الآية تناولت نسلهم ولم يفرق، ولأن لهم حرمة بآبائهم، فجاز إقرارهم ببذل الجزية.
هذا الكلام في أولاد إسرائيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأما من دخل في دين أهل الكتاب بعد أن لم يكن منهم، مثل عَبَدَة الأوثان من العرب.. فينظر فيه: فإن دخل معهم قبل نسخ الدين الذي دخل فيه بشريعة بعده، فإن دخل معهم قبل أن يبدلوا.. كان حكمه وحكم نسله حكمهم.
وقال أبُو يوسف: لا تؤخذ منهم الجزية.
دليلنا: ما روي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خالدًا، فأغار على دومة الجندل، وأخذ أكيدر بن حسان رجلًا من كندة أو غسان، فصالحه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بذل الجزية» .
وروي: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذًا إلى اليمن، فأخذ منهم الجزية وعامتهم عرب» ، و «صالح أهل نجران على بذل الجزية وهم عرب» .(12/252)
وإن دخل في دينهم بعد تبديله.. نظرت: فإن دخل في دين من لم يبدل.. فحكمه وحكم أولاده حكمهم. وإن دخل في دين من بدَّل منهم.. لم تؤخذ منه ولا من أولاده الجزية؛ لأنه لم تلحقه فضيلة الكتاب ولا حرمة لآبائه. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : هل تؤخذ الجزية من أولاده؟ فيه قولان، بناءً على القولين في أولاد المرتدين: هل تؤخذ منهم الجزية؟
وإن دخل في دينهم بعد أن نسخ بشريعة بعده.. لم يقر على دينه ببذل الجزية.
وقال المزني: يقر ببذل الجزية، وكذلك قال: تؤخذ ممن دخل في دين من بدَّل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] [المائدة: 51] .
ودليلنا: أنه دخل في دين باطل، فلم تؤخذ منه الجزية، كالمسلم إذا ارتد. وأمَّا الآية: فالمراد بها في الكفر والإثم.
وإن دخل داخل في دينهم بعد التبديل، ولم يعلم: هل دخل في دين من بدَّل منهم أو في دين من لم يبدل، أو لم يعلم: هل دخل في دينهم قبل نسخه أو بعد نسخه، كنصارى العرب وهم: بهراء وتنوخ وتغلب.. أقروا على دينهم بالجزية تغليبًا لحقن دمائهم، ولم تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم للمسلمين تغليبًا للحظر؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ الجزية من نصارى العرب وحرم على المسلمين مناكحتهم وذبائحهم) .(12/253)
[فرع: المتمسكون بالصحف الأولى قبل التوراة وفرقتا السامرة والصابئين]
واختلف أصحابنا في المتمسكين بصحف آدم وإبراهيم وإدريس، وزبور داود: فمنهم من قال لا يقرون ببذل الجزية، ولا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم، واختلف هؤلاء في تعليله.
فمنهم من قال لأن كتبهم ليست بكلام الله منزل، وإنما هي بعض أحكام أنزلت بالوحي، ومثل هذا موجود في شرعنا مثل ما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتاني جبريل وأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية» .
ومنهم من قال: كانت كلامًا لله، ولكن كانت مواعظ ولم تكن أحكامًا، فلم تكن لها حرمة الكتب المنزلة.
وقال أبُو إسحاق: يقرون ببذل الجزية وتحل مناكحتهم وذبائحهم؛ بقوله تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] ولم يفرق. ولأن المجوس يقرون ببذل الجزية ولهم شبهة كتاب.. فلأن يقر هؤلاء ولهم كتاب موجود أولى.
وأمَّا السامرة والصابئون: فقطع الشافعي، في موضع: (أن السامرة من اليهود، وأن الصابئين من النصارى) ، وتوقف في حكمهم في موضع آخر، وقال: (إن كانوا يوافقونهم في أصول دينهم.. فهم منهم، وإن خالفوهم في الفروع، أو خالفوهم في أصول دينهم.. فليسوا منهم) .
فقال أكثر أصحابنا: إنما توقف الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في حكمهم؛ لأنه لم يكن يعرف مذهبهم، ثم اتضح له مذهبهم، وأنهم يوافقونهم في أصول دينهم، وأنهم أهل كتاب.(12/254)
وقال أكثر المتكلمين: إنهم يخالفونهم في أصول دينهم، ويقولون: الفلك حي ناطق مدبر، والكواكب السبعة آلهة. وبه قال أبُو سعيد الإصطخري؛ فإنه أفتى القاهر بالله بقتلهم، فضمنوا له مالًا، فتركهم.
ومن كان أحد أبويه وثنيًا والآخر كتابيًا.. فقد مَضَى بيان حكمه في (النكاح) .
[فرع: لا تعقد الذمة للكبير بعد النسخ وتعقد للصغير]
وماذا لو غزا الإمام قومًا لا يعرفهم؟] : قال الشافعي، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (إذا مات كتابي وخلف ابنين؛ أحدهما كبير لا يدين بدين أهل الكتاب، والآخر صغير، ثم لما نزل القرآن دخل الكبير في دين أهل الكتاب.. لم يقر عليه ولم تؤخذ منه الجزية؛ لأنه دخل في دين أهل الكتاب بعد النسخ. فإن بلغ الصغير وأظهر دين أهل الكتاب.. أقر عليه وأخذت منه الجزية؛ لأنه تابع لأبيه في الدين) .
وإن غزا الإمام قومًا من المشركين لا يعرف دينهم، وادعوا أنهم من أهل الكتاب من بني إسرائيل، وأن آباءهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل نسخه، أو دخلوا في دين غير مبدل.. أقرهم وأخذ منهم الجزية؛ لأنه لا يعرف دينهم إلا من جهتهم.
فإن رجعوا كلهم وقالوا: لسنا من أهل الكتاب، أو دخل آباؤنا في دين منسوخ أو مبدل، أو أسلم اثنان منهم وعدلًا وشهدا بذلك.. نبذ إليهم عهدهم وصاروا حربًا لنا.
وإن رجع بعضهم دون بعض.. نبذ العهد إلى من رجع دون من لم يرجع. فإن شهد بعضهم على بعض بذلك.. لم تقبل شهادتهم؛ لأن شهادتهم غير مقبولة قبل إسلامهم.
[مسألة: أقل الجزية]
وأقل ما يقبل من الذمي دينار في كل سنة، فإن لم يبذل إلا دينارًا في كل سنة قبل منه، غنيًا كان أو فقيرًا.(12/255)
وقال أبو حَنِيفَة: (يجب على الغني في كل سنة ثمانية وأربعون درهمًا، من صرف اثني عشر بدينار فيكون عليه أربعة دنانير، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهمًا وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهمًا) .
وقال مالك: (إن كان من أهل الذهب.. فالواجب عليه في كل سنة أربعة دنانير. وإن كان من أهل الورق.. فالواجب عليه في كل سنة ثمانية وأربعون درهمًا) .
وقال الثوريُّ: الجزية ليست بمقدرة، وإنما الواجب ما رآه الإمام باجتهاده من قليل أو كثير.
دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذًا إلى اليمن، وقال: «خذ من كل حالم دينارًا، أو عدله معافريا» . ورَوَى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب من كل حالم دينارًا أو عدله معافريا» .
والمعافري: ثوب منسوب إلى المعافر. ولم يفرق بين الغني والفقير والمتوسط.
إذا ثبت هذا: فإن المستحب للإمام أن لا يخبر الذمي: أن أقل الواجب عليه دينار، بل يماكسه ليزيد عليه، ويجعل الجزية عليهم على ثلاث طبقات: على الفقير المعتمل دينار، وعلى المتوسط ديناران، وعلى الغني أربعة دنانير، لما رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه صالح أهل الشام على أن يأخذ من الغني ثمانية وأربعين درهمًا، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهمًا، وممن دونه دينارًا) . ولأنه يخرج بذلك من الخلاف لأبي حَنِيفَة.
وإن التزم رجل منهم أكثر من دينار.. لزمه، فإن امتنع بعد ذلك من التزام ما زاد(12/256)
على الدينار.. أجبر عليه إلا أن يلحق بأهل الحرب ويمتنع، ثم يبذل الدينار، فإنه يجب قبوله.
[فرع: امتناع أهل الكتاب من اسم الجزية وطلب أخذها باسم الصدقة]
وإن امتنع قوم من أهل الكتاب من أداء الجزية باسم الجزية.، وطلبوا أن تؤخذ منهم الجزية باسم الصدقة، وتؤخذ منهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين، ورأى الإمام أن يصالحهم على ذلك.. جاز؛ لما رُوِيَ: (أن ثلاث قبائل من العرب، وهم: تنوخ وبهراء وبنو تغلب دانوا بدين النصارى، وأشكل أمرهم: هل دخلوا في النصرانية قبل التبديل أو بعده؟ فأقرهم عمر على دينهم، وطلب أن يأخذ منهم الجزية، فامتنعوا وقالوا: نحن عرب لا نؤدي الجزية كما تؤدي العجم ولكن خذها منا باسم الصدقة كما تأخذ من العرب، فامتنع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ذلك وقال: الصدقة على المسلمين، ولا أقركم إلا بالجزية، فقالوا: خذ منا ضعف ما تأخذه من المسلمين، فامتنع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ففروا من ذلك ولحق بعضهم بالروم، فقال له النعمان بن زرعة ـ أو زرعة بن النعمان ـ: يا أمير المؤمنين، إن فيهم بأسا وشدة، وإنهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عدوك عليك بهم، فخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث إليهم عمر وردهم وأضعف عليهم الصدقة) .
قال المسعوديُّ: [في " الإبانة "] : ولو استصوب الإمام أن يضرب عليهم نصف الصدقة.. جاز.
فإن صالحهم على أن يأخذ منهم الجزية باسم الصدقة، وكان لصبي من أهل الذمة أو لامرأة منهم مال يبلغ النِّصَاب.. لم تؤخذ منهما.
وقال أبُو حَنِيفَة: (تؤخذ منهما) .(12/257)
دليلنا: أنها جزية في الحقيقة، ولا صدقة ولا جزية عليهما.
وإن أضعف الصدقة.. فإنه يأخذ من كل خمس من الإبل شاتين، ومن خمس وعشرين من الإبل ابنتي مخاض، ولا يأخذ منها حقة كما لو كانت خمسين.
وإن ملك رجل منهم عشرين من الغنم، أو بعيرين ونصفا.. فهل يؤخذ منه شيء؟ فيه قولان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لا يؤخذ منه شيء؛ لأن ما يؤخذ منه إنما يؤخذ باسم الصدقة، والصدقة لا تؤخذ إلا من نصاب.
والثاني: يؤخذ منه ما يؤخذ من النِّصَاب؛ لأن من ملك ما تجب فيه الشاة من الإبل.. أخذت منه، كالمسلم إذا ملك خمسا من الإبل.
وإن وجبت عليه حقتان فلم يوجدا معه.. أخذ منه ابنتا لبون، وهل يضعف عليه الجبران؟ فيه قولان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يضعف عليه، فيؤخذ منه ثماني شياه، كما تضعف الصدقة.
والثاني: لا يضعف؛ لأن هذا تضعيف التضعيف، وذلك أنا ضعفنا حتى إذا أخذنا مكان الحقة حقتين، ثم إذا انتقلنا إلى ابنتي لبون فأخذنا منه مع ابنتي لبون أربع شياه.. فهذا جبران مضاعف، ولولا التضعيف.. لأخذنا منه شاتين كما يؤخذ من المسلم.
وما يؤخذ منهم باسم الصدقة.. يصرف مصرف الفيء لا مصرف الصدقة؛ لأنه جزية في الحقيقة؛ ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فرض الله الصدقة على المسلمين، والجزية على المشركين) وقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لا آخذ من مشرك صدقة) .
فإن بلغ ما يؤخذ منهم باسم الصدقة دينارين أو أكثر، فطلبوا أن يؤخذ منهم من كل واحد منهم دينار باسم الجزية.. وجب حط ما زاد على الدينار وأخذ الدينار؛ لأن الزيادة على الدينار لتغير الاسم، وقد رضوا باسم الجزية.(12/258)
[فرع: لا يصح أخذ الجزية باسم الصدقة بأقل من دينار]
وماذا لو حصل بيع أرض؟] :
وإذا صالحهم الإمام على أن يأخذ منهم الجزية باسم الصدقة.. فلا بد أن يكون ما يؤخذ من كل واحد منهم يبلغ دينارا؛ لأن أقل الجزية دينار. فإن شرط ذلك في العقد.. صح، وإن لم يشرط ذلك، ولكن غلب على ظن الإمام أن ما يؤخذ من كل واحد منهم لا ينقص عن دينار.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن الظاهر أن الثمار والمواشي لا تختلف.
والثاني: لا يصح؛ لأنه قد ينقص عن الدينار.
واختلف أصحابنا في كيفية صلح عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لنصارى العرب على إضعاف الصدقة:
فقال أبُو إسحاق: إنما صالحهم على ذلك؛ لأنه علم أن لهم أموالا ظاهرة من المواشي والزروع يحصل من زكاتها قدر الدينار وأكثر.
ومنهم من قال: صالحهم على ذلك وشرط: إن بلغ ما يأخذه من كل واحد منهم باسم الصدقة قدر الدينار.. فلا كلام، وإلا وجب عليهم تمام الدينار.
فإن ضرب الجزية على ما يخرج من الأرض من الزروع والثمار باسم الصدقة، فباع رجل منهم أرضه من مسلم أو ذمي.. صح البيع، فإن بقي مع البائع من الأموال الزكاتية ما يبلغ ما ضرب عليها من الجزية باسم الصدقة الدينار أو أكثر.. لم يطالب بأكثر من ذلك. وإن لم يبق له مال، أو بقي له مال لا يفي ما ضرب عليه بالدينار.. انتقلت الجزية إلى رقبته. وأمَّا الذي باعه إلى مسلم.. فلا يطالب بما ضرب على الأرض من الجزية؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الجزية» .(12/259)
وإن باعها من ذمي.. نظرت: فإن كان ممن وقع عقد الذمة معه على أن تؤخذ منه الجزية باسم الصدقة.. ازدادت جزيته لما اشتراه من أرض وماشية وما أشبهه، وكذلك لو اشترى شيئا من أموال الزكاة من مسلم أيضا. وإن وقع عقد الذمة معه بشيء يؤديه باسم الجزية.. لم تزدد جزيته بما اشتراه من المال من مسلم ولا ذمي؛ لأن جزيته على رقبته.
[مسألة: وجوب الجزية في آخر الحول]
وتجب الجزية في آخر الحول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا في كل سنة» فإن مات الذمي أو أسلم بعد انقضاء الحول.. لم تسقط عنه الجزية.
وقال أبُو حَنِيفَة: (تسقط) .
دليلنا: أنه حق ثبت في الذمة، فلم يسقط بالموت والإسلام كالدين.
وإن مات أو أسلم في أثناء الحول.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجب عليه شيء ـ وبه قال أبُو حَنِيفَة ـ لأنه حق يعتبر في وجوبه الحول، فلم يتعلق حكمه ببعض الحول، كالزكاة.
والثاني: يجب عليه من الجزية بقدر ما مَضَى من الحول، وهو الأصح؛ لأنه حق يجب بالمساكنة، فوجب عليه بقدر ما سكن، كما لو استأجر دارا ليسكنها سنة، فسكنها بعض السنة وفسخت الإجارة. فإن مات وعليه ديون وجزية، وضاقت تركته عن الجميع.. فهو كما لو مات وعليه دين وزكاة.(12/260)
[مسألة: اشتراط الضيافة على أهل الذمة]
وإذا عقد الإمام الذمة لقوم.. جاز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل أيلة على ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة رجل، وعلى ضيافة من يمر بهم من المسلمين» .
ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وضع الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق ثمانية وأربعين درهما وضيافة ثلاثة أيام لكل من مر بهم من المسلمين) ، ولأن في ذلك
مصلحة
للغني والفقير من المسلمين.
أما الغني: فلأنه إذا دخل إليهم.. فلا بد له من شيء يشتريه لقوته وقوت دوابه، فإذا لم يكن عليهم ضيافة.. ربما امتنعوا من البيع إليه للإضرار به، وإذا كانت عليهم الضيافة.. بادروا إلى البيع منه مخافة أن ينزل عليهم.
وأمَّا الفقير: فإذا لم تكن عليهم ضيافة.. لا يطعمونه، فيهلك جوعا.
إذا ثبت هذا: فإنما تكون الضيافة زيادة على أقل الجزية؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل أيلة على ثلاثمائة دينار ـ وكانوا ثلاثمائة رجل ـ وضيافة من يمر بهم من المسلمين» ، ولأنا لو جعلنا الضيافة من الدينار.. لم يتحقق استيفاء الدينار منه؛ لأنه قد لا يمر به أحد من المسلمين. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: هل تحتسب الضيافة من الجزية؟ فيه وجهان:(12/261)
أحدهما: تحتسب؛ إذ لا شيء عليهم سوى الجزية، والضيافة مال ينتفع به المسلمون.
والثاني: لا تحتسب؛ لأن للجزية مصارف معلومة، وقد ينزل بهم من لا تصرف إليه الجزية.
ولا يشترط عليهم الضيافة إلا برضاهم؛ لأنها زائدة على أخذ الجزية، فلا يلزمهم ذلك إلا برضاهم.
ويشترط عليهم أن يكون عدد من يضاف من الفرسان والرجالة من المسلمين معلوما، وعدد أيام ما يضاف كل رجل من المسلمين معلوما، فيقال: يضاف المسلم يوما أو يومين أو ثلاثا. ولا تزاد ضيافة الواحد من المسلمين على ثلاثة أيام لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضيافة ثلاثة أيام وما زاد.. فهو صدقة»
ويشترط قدر الطعام والأدم لكل رجل من المسلمين. فيقال لكل رجل من المسلمين كذا وكذا رطلا من الخبز، وكذا وكذا رطلا من الأدم، ويكون ذلك من جنس طعامهم وإدامهم؛ لما رُوِيَ: أن أهل الشام من أهل الجزية أتوا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالوا: إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال لهم عمر: (أطعموهم مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك) .(12/262)
ويذكر علف الدواب، تبنا أو شعيرا أو قتا، فإن أطلق ذكر العلف.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (اقتضى التبن والحشيش؛ لأنه أقل العلف بالإطلاق) .
ويجوز شرط الضيافة على الغني منهم والمتوسط، وأمَّا الفقير: فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخُ أبُو إسحاق: لا تشترط الضيافة عليه وإن كانت عليه الجزية؛ لأن الضيافة تتكرر، فلا يمكنه القيام بها.
وقال الشيخُ أبُو حامد وبعض أصحابنا: يجوز شرطها على الفقير، كما يجوز شرطها على الغني والمتوسط، ولكن لا يساوي بينهم في عدد من يضيف كل واحد منهم من المسلمين، ولكن يجعل عدد من يضيفون على مراتب، كما قلنا في قدر جزيتهم، فإن شرط على الغني ضيافة عشرين.. كان على المتوسط ضيافة عشرة، وعلى الفقير ضيافة خمسة، ولكن يتساوون في جنس الطعام إلا إن كانوا يتساوون في قدر الجزية.. فإنهم يتساوون في عدد من يضيفونه.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : ولو حال الحول وقد بقي على واحد منهم شيء من الضيافة.. استوفي منه.
إذا ثبت هذا: فإن وفوا بما شرط عليهم من الضيافة.. فقد أدوا ما عليهم. وإن امتنع بعضهم منها.. أجبره الإمام عليها. وإن امتنعوا كلهم وقاتلوا الإمام.. فقد نقضوا العهد والذمة، فإن طلبوا بعد ذلك أن تعقد لهم الذمة بأقل الجزية من غير ضيافة.. وجب العقد لهم بذلك، ولكن يلزمهم الوفاء بالضيافة إلى حين الامتناع؛ لأنه قد لزمهم بالالتزام الأول، وإنما يسقط عنهم بالامتناع الضيافة بعد الامتناع.(12/263)
[مسألة: لا يكلف الصبي بالجزية]
ولا تؤخذ الجزية من صبي؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية، والصبي لا يقاتل. ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا» ورُوِي: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن لا يأخذوا الجزية من النساء والصبيان) .
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن بذل الذمي الجزية عن ولده الصغير.. قيل له: أتبذله من مال للصغير أو من مالك؟ فإن قال: أبذله من مال الصغير.. لم يجز أخذه؛ لأن الصغير لا جزية عليه. وإن قال: أبذله من مالي.. أخذ منه؛ لأنه بذل زيادة على جزيته) .
إذا ثبت هذا: فإن ولد الذمي تابع لأبيه في الأمان ما لم يبلغ، فإذا بلغ.. زال حكم التبع، وقيل له: لا يجوز إقرارك في بلاد الإسلام بغير جزية، فإن لم يبذل الجزية.. صار حربا لنا، وإن اختار أن يبذل الجزية.. فهل يفتقر إلى استئناف عقد الذمة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر إلى استئناف عقد الذمة؛ لأنه عقد دخل فيه قبل البلوغ، فإذا بلغ.. لزمه، كإسلام أبيه.
فعلى هذا: يلزمه جزية أبيه، فإن كان أبوه قد بذل في جزيته أكثر من دينار.. لزم الولد مثل ذلك. فإن قال الابن: لا ألتزم إلا دينارا.. لم يقبل منه إلا أن يمتنع بالقتال ثم يبذل الدينار، فيجب قبوله منه. ولا يلزم الولد جزية جده من قبل الأم؛ لأنه لا جزية على أمه، فلا يلزمه جزية أبيها.(12/264)
والوجه الثاني: أنه يفتقر إلى استئناف عقد، وهو الأصح؛ لأن عقد الأب إنما كان لنفسه وإنما تبعه الولد لصغره، فإذا بلغ.. زال التبع.
فعلى هذا: يرفق الإمام به ليلتزم أكثر من الدينار، فإن لم يرض إلا بالتزام الدينار لا غير.. وجب قبول ذلك منه وإن كان أبوه قد التزم أكثر منه.
[فرع: امتناع السفيه ووليه من دفع الجزية يخرجهما من ديار المسلمين]
فإن بلغ الذمي غير رشيد.. فإن الحجر لا يفك عنه. فإن اتفق السفيه ووليه على عقد الذمة له وبذل الجزية.. عقدت له الذمة، وإن امتنعا من ذلك.. أخرجا من دار الإسلام.
وإن اختلف السفيه ووليه. فطلب أحدهما أن تعقد الذمة للسفيه بالجزية وامتنع الآخر.. كان الاعتبار بإرادة السفيه من ذلك؛ لأنه سبب لحقن دمه.
[مسألة: لا جزية على المجنون]
] : ولا تؤخذ الجزية من المجنون المطبق.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: تؤخذ منه الجزية؛ لأن حالات جنونه كحالات نومه. وليس بشيء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] وفيها أربعة أدلة:
أحدها: قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] والمجنون لا يقاتل.
الثاني: قوله {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29] والمجنون لا يدين.
الثالث: قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ومعناه حتى يضمنوا، والمجنون لا يصح ضمانه.(12/265)
الرابع: قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ومعناه: راضون بجريان أحكام الإسلام عليهم، والمجنون لا رضا له.
وإن كان يجن يوما ويفيق يوما، أو يجن في بعض الحول دون بعض.. لفقت أيام الإفاقة، فمتى بلغت حولا.. وجبت عليه الجزية.
فإن أفاق النصف الأول من الحول وجن الثاني.. فهل يجب عليه الجزية للنصف الأول؟ فيه قولان. كما لو كان مشركا فأسلم أو مات في نصف الحول.
وإن جن النصف الأول من الحول وأفاق الثاني بعد ذلك، فإن اتصلت به الإفاقة حولا.. وجبت عليه الجزية في آخره. وإن لم تتصل.. لفقت له الإفاقة على ما مَضَى.. هذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال القفال: إذا جن يوما وأفاق يوما، أو جن في بعض الحول وأفاق في البعض.. فإن الاعتبار بآخر الحول، فإن كان مفيقا فيه.. لزمته الجزية للحول، وإن كان مجنونا فيه.. لم تلزمه الجزية للحول، كما أن الاعتبار في يسار العاقلة وإعسارهم في آخر الحول.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يعتبر أكثر الحول) .
دليلنا: أن أيام الجنون لا جزية فيها؛ بدليل: أنها لو اتصلت.. لم تجب عليه جزية، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فاعتبر كل واحد منهما بنفسه.
[مسألة: لا جزية على المرأة]
ولا تؤخذ الجزية من المرأة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] ، والمرأة لا تقاتل. ولقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا» ، والحالم اسم للرجل. ولما رَوَيْنَاهُ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن لا يأخذوا الجزية من النساء والصبيان) .(12/266)
ولا تؤخذ الجزية من الخنثى المشكل؛ لجواز أن تكون امرأة.
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فإن بذلت المرأة الجزية.. عرفها الإمام أنها لا تجب عليها، فإن بذلتها بعد ذلك.. قبلها الإمام منها، وتكون هبة منها تلزم بالقبض) .
فإن شرطت على نفسها الجزية ثم امتنعت بعد ذلك من بذلها.. لم تجبر عليها؛ لأنها لم تلزم بالبذل.
فإن دخلت المرأة دار الإسلام بأمان للتجارة.. لم يؤخذ منها شيء من تجارتها؛ لأن لها المقام في دار الإسلام بغير عوض على التأبيد.
وإن دخلت الحجاز للتجارة بأمان.. جاز أن يشترط عليها العوض؛ لأنها ممنوعة من المقام في الحجاز.
[فرع: لا تقبل الجزية من النساء والصبيان بدل الرجال]
وإن حاصر الإمام حصنا فيه رجال ونساء وصبيان، فإن امتنع الرجال من أداء الجزية وبذلوا أن يؤدوا الجزية عن النساء والصبيان.. لم يقبل ذلك؛ لأنه لا يجوز أن تؤخذ الجزية ممن لا تجب عليه وتترك ممن تجب عليه.
وإن كان في الحصن نساء لا رجال معهن، وطالبن الإمام أن يعقد لهن الذمة، وبذلن الجزية.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز أن تعقد لهن الذمة، بل يتوصل إلى فتح الحصن ويسبيهن؛ لأنهن غنيمة للمسلمين.
والثاني: يلزمه أن يعقد لهن الذمة بغير جزية على أن تجري عليهن أحكام الإسلام، كما قلنا في الحربية.
فإن أخذ الإمام منهن على ذلك مالا، فإن لم يعلمهن أن الجزية لا تجب عليهن..(12/267)
وجب رده إليهن، وإن أعلمهن أو علمن ذلك لم يجب رده إليهن؛ لأنه هبة لزمت بالقبض.
[مسألة: لا تجب الجزية على العبد]
ولا تجب الجزية على العبد ولا على سيده بسببه؛ لما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جزية على العبد» ، ورُوِي ذلك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا مخالف لهذا، والعمل عليه.
وإن كان بعضه حرا وبعضه عبدا.. لم تجب عليه الجزية.
ومن أصحابنا من قال: يجب عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية، وليس بشيء؛ لأنه لا يقتل بالكفر، فلم تجب عليه الجزية، كالصبي والمرأة.
فإن أعتق العبد، فإن كان من أولاده عَبَدَة الأوثان.. قيل له: إقرارك في دار الإسلام مشركا لا يجوز، فإما أن تسلم، وأمَّا أن نبلغك دار الحرب وتكون حربيا لنا.(12/268)
وإن كان من أولاد أهل الذمة.. قيل له: إقرارك في دار الإسلام بغير جزية لا يجوز، فإن اخترت أن ترجع إلى دار الحرب وتكون حربا لنا.. فارجع، وإن اخترت عقد الذمة ببذل الجزية.. أقررناك. فإن اختار عقد الذمة ببذل الجزية.. نظرت: فإن كان الذي أعتقه مسلما.. كانت جزيته ما يقع عليها التراضي، وإن كان الذي أعتقه ذميا.. فهل يفتقر إلى عقد الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية، أو لا يفتقر إلى عقد الذمة بل تلزمه الجزية لمولاه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق، ووجههما ما ذكرناه في الصبي إذا بلغ.
[فرع: إجراء الجزية على الشيوخ وأصحاب الصوامع والفقير غير المعتمل]
وهل تؤخذ الجزية من الشيوخ الذين لا قتال فيهم، ومن الزمنى، وأصحاب الصوامع المشتغلين بالعبادة؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين في جواز قتلهم إذا أسروا.
ومنهم من قال: لا يقرون بغير جزية قولا واحدا. والفرق بين القتل والجزية: أن القتل يجري مجرى القتال، فإذا لم يكن فيه قتال.. لم يقتل. والجزية أجرة المسكن، فلم تسقط عنهم.
وهل تجب الجزية على الفقير الذي ليس بمعتمل؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تجب عليه الجزية - وبه قال أبُو حَنِيفَة ـ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل أهل الجزية طبقات، وجعل أدناهم الفقير المعتمل، فدلَّ على أنه لا جزية على غير المعتمل، ولأنه حق يجب بالحول، فلم يجب على الفقير، كالزكاة.
فعلى هذا: إن طلب من الإمام أن يعقد له الذمة.. عقدت له الذمة على شرط جريان أحكام الإسلام عليه، فإذا أيسر.. استؤنف له الحول، فإذا تم.. طولب بالجزية.
والقول الثاني: تجب عليه الجزية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] [التوبة: 29] فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يعطوا الجزية، ومعناه: حتى(12/269)
يضمنوا، ولم يفرق، ولأنه مشرك مكلف حر، فلم يجز إقراره بدار الإسلام بغير جزية، كالمعتمل.
فإذا قلنا بهذا: ففيه وجهان:
أحدهما: تعقد له الذمة بالجزية في ذمته، وينظر بها إلى أن يوسر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] [البقرة: 280] .
والثاني: لا نقره عليه إلا بدفع الجزية. فإن قدر على تحصيلها، وإلا.. رددناه إلى دار الحرب؛ لأنه يمكنه أن يمنع وجوبها عليه بالإسلام. هذا ترتيب العراقيين من أصحابنا.
وقال الخراسانيون: في الفقير غير المعتمل قولان، واختلفوا في موضع القولين فمنهم من قال: القولان في الدفع، وأمَّا الوجوب.. فيجب قولا واحدا.
ومنهم من قال: القولان في الوجوب.
[مسألة: ضبط أسماء وصفات أهل الذمة بالديوان وتعيين العرفاء]
وأخذ الجزية برفق] :
إذا عقد الإمام الذمة لقوم.. فإنه يكتب أعدادهم في الديوان، ويكتب أسماءهم، ويصف كل واحد منهم بالصفة التي لا تختلف على طول الأيام، من الطول والقصر أو البياض والسواد وما أشبه ذلك.
ويجعل لكل عشرة أو عشرين ـ على ما يراه ـ عريفا؛ ليخبره بمن يخرج منهم من الجزية بالموت أو الإسلام، وبمن يدخل من أولادهم بالبلوغ في الجزية.
والذي يقتضي المذهب: أن العريف يكون مسلما؛ لأن أهل الذمة غير مأمونين على ذلك. وتؤخذ منهم الجزية كما يؤخذ الدين من غير أذى في قول ولا فعل، ويكتب لمن أخذ منه جزيته كتابا، ليكون له حجة إذا طلبه.(12/270)
[مسألة: نظر الإمام الجديد في شأن أهل الذمة]
إذا مات الإمام أو عزل، وقام غيره مقامه.. فإنه ينظر في أهل الذمة: فإن كان الإمام الذي قبله عقد لهم الذمة عقدا صحيحا.. أقرهم عليه؛ لأنه عقد مؤبد. وإن كان فاسدا.. غيره إلى الصحة؛ لأنه منصوب لمصالح المسلمين، وهذا من مصالحهم.
فإن ادعى قوم من أهل الذمة أن الإمام عقد لهم الذمة ولا بينة.. رجع إليهم؛ لأنه لا يمكن التوصل إلى ذلك إلا من جهتهم. فإن ادعوا أنه عقد لهم الذمة على أقل من دينار.. قيل لهم: هذا عقد فاسد، فإما أن تعقدوا عقدا صحيحا، وإلا.. رددناكم إلى دار الحرب وكنتم حربا لنا؛ لأن أقل الجزية دينار.
قيل للشيخ أبي حامد: أليس الثوري يجيز العقد بما أداه إليه اجتهاد الإمام، فيجب إذا صح عقد الإمام لهم بدون الدينار أن لا ينقض حكمه؟ فقال: إن الإجماع قد حصل بعد الثوريّ: أن الجزية لا تجوز أن تنقص عن دينار.
وإن ادعوا أن الأول عقد لهم الذمة على الدينار عن كل رجل منهم.. فالقول قولهم مع أيمانهم. واليمين هاهنا مستحبة؛ لأن دعواهم لا تخالف الظاهر. فإن أسلم منهم اثنان وعدلا وشهدا أن الإمام الأول عقد لهم الذمة على أكثر من دينار، أو شهد بذلك رجلان مسلمان من غيرهم.. أخذوا بما عقد عليهم الأول؛ لأن ذلك قد لزمهم.
فإن قال بعضهم: عقد لنا الذمة على دينارين عن كل رجل، ولكن لا نؤدي إلا دينارا.. أخذ كل واحد بدينارين إلا أن يمتنعوا بالقتال ثم يبذلوا الدينار عن كل رجل منهم، فيجب قبوله.
وإن قالوا: كنا نؤدي إلى الأول عن كل رجل دينارين دينارا جزية ودينارا تطوعا.. فالقول قولهم مع أيمانهم؛ لأنه لا يعلم إلا من جهتهم. واليمين هاهنا واجبة؛ لأن(12/271)
دعواه تخالف الظاهر، فمن حلف.. لم يلزمه إلا دينار، ومن نكل.. لزمه الديناران.
وإن غاب ذمي سنين، ثم قدم وهو مسلم، وادعى أنه أسلم من حين غاب.. ففيه قولان:
أحدهما: يؤخذ منه جزية ما مَضَى من السنين التي في غيبته؛ لأن الأصل بقاؤه على الكفر.
والثاني: يقبل قوله مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته من الجزية.
وبالله التوفيق(12/272)
[باب صفة عقد الذمة]
لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو من النائب عنه؛ لأنه من المصالح العظام.
وإذا طلب قوم من الكفار أن تعقد لهم الذمة وهم ممن يجوز عقد الذمة لهم.. قال أصحابنا البغداديون: وجب على الإمام عقدها لهم.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه إلا أن يرى المصلحة في عقدها لهم، كما قلنا في الهدنة.
والثاني: يجب عليه، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يبذلوا الجزية، فدلَّ على: أنهم إذا بذلوا الجزية.. وجب رفع القتال عنهم.
ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين وقال: إذا لقيت عدوك من المشركين.. فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك.. فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا.. فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك.. فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا.. فاستعن بالله وقاتلهم» .
[مسألة: عقد الذمة من حيث التأبيد وشرطاه وتفسير اليد والصغار]
قال أصحابنا البغداديون: ولا يصح عقد الذمة إلا مؤبدا.(12/273)
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: يصح مؤقتا؛ لأنه عقد أمان، فصح مؤقتا، كالهدنة.
والثاني: لا يصح إلا مؤبدا، وهو الأصح؛ لأن عقد الذمة إنما يصح بالتزام أحكام المسلمين، وذلك يقتضي التأبيد.
إذا ثبت هذا: فإن عقد الذمة إنما يصح بالتزام شرطين:
أحدهما: أن تجعل عليهم جزية في كل حول، على ما مَضَى.
والثاني: أن يلتزموا أحكام المسلمين في حقوق الآدميين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] .
ومعنى قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] أي: يلتزموها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] والمراد به: التزموا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وسميت الجزية جزية لأنها من جزى يجزي: إذا قضى، قال الله تَعالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] [البقرة: 48] أي: لا تقضي. وتقول العرب: جزيت ديني، أي قضيته.
ومعنى قَوْله تَعَالَى: {عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] أي: عن قوة المسلمين، وقيل: عن منة عليهم بحقن دمائهم، واليد: يعبر بها عن القدرة والمنة، وقيل: عن يد: يعطيه من يده إلى يده، ولا يبعث بها. وقيل: يعطيه نقدا لا نسيئة.
وأمَّا (الصغار) : فقال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في " المختصر ": (هو جريان أحكام الإمام عليهم؛ لأنهم إذا تحاكموا إليه.. حكم عليهم بحكمه، وهو ذل لهم وصغار؛ لأنهم يعتقدون بطلانه، ولا يقدرون على الامتناع منه) .
وقال: في " الأم ": (الصغار: هو التزامهم بجريان أحكامنا عليهم في عقد الذمة) .
فيكون الصغار على ما قاله في " الأم ": هو نفس التزامهم بجريان أحكام(12/274)
الإسلام. وعلى ما قاله في " المختصر ": (الصغار) : هو جريان أحكام الإسلام عليهم. والصحيح: ما قاله في " الأم ".
وقال غير الشافعي: (الصغار) : هو أن تؤخذ منهم الجزية وهم قيام والآخذ جالس، وقال بعضهم: (الصغار) : أن تؤخذ منهم الجزية وهم قيام باليسار.
[فرع: لا فرق في الجزية بين أهل الكتاب]
ولا فرق في الجزية بين يهود خيبر وغيرهم، وما يدعيه أهل خيبر: أن معهم كتابا من علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بإسقاط الجزية عنهم.. لا يصح؛ لأنه لم يذكره أحد من علماء المسلمين، ولأنهم ادعوا فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية، وتأريخه بعد موت سعد وقبل إسلام معاوية.
[مسألة: طلب مخالفة الذمي في الزي وغيره]
] : وإذا عقد الإمام الذمة لقوم من المشركين.. فإنه يأمرهم أن يخالفوا المسلمين في الزي والملبس، فيكون فيما يظهرون من ثيابهم لون يخالف لون ثيابهم، واللون الأصفر أولى باليهود، واللون الأدكن أولى بالنصارى، واللون الأسود أولى بالمجوس؛ لأن ذلك عادتهم. ويشدون الزنار ـ وهو: خيط غليظ فوق ثيابهم ـ وإن لبسوا القلانس.. جعلوا فيها خرقا، وإن لبسوا الخفاف.. كانت من لونين. ويجعل في رقبة كل واحد منهم خاتم من رصاص أو صفر. وإن كان لهم شعر.. أمروا بجز النواصي؛ لما رَوَى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتبه لعمر حين صالح(12/275)
نصارى أهل الشام: (فشرطنا: أن لا نتشبه بهم في لباسهم في شيء من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين، وأن نشد الزنانير في أوساطنا، وأن نجز مقاديم رؤوسنا، ولا نتشبه بهم في مراكبهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله) ، ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» . وقال النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " إذا «لقيتم المشركين في طريق.. فلا تبدؤوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق.. فاضطروهم إلى أضيقها» . وإذا خالف أهل الذمة المسلمين في الزي والملبس بما ذكرناه.. أمكن المسلم أن يأتي بالسنة المشروعة في حق المسلم والذمي، وإذا لم يخالفوهم بذلك.. ربما ابتدأ المسلم بالسلام على الذمي ظنا منه أنه مسلم، أو ترك السلام على المسلم، أو اضطره إلى أضيق الطرق ظنا منه أنه ذمي، فأمر الذمي بالغيار في اللباس، والزي،(12/276)
والزنار؛ ليتميز. وإن شرط عليهم أحدها.. أخذوا به؛ لأن التميز يحصل به.
وإنما أمروا بالخاتم في رقابهم؛ ليتميزوا عن المسلمين في الحالة التي يتجردون فيها عن الثياب، وربما اجتمع موتى المسلمين وموتى أهل الذمة ولا ثياب عليهم، فلا يتميزون للصلاة عليهم إلا بذلك.
ولا يمنع أهل الذمة من لبس العمامة والطيلسان.
وقال أبُو حَنِيفَة وأحمد: (يمنعون) .
دليلنا: أن التمييز يحصل بالغيار والزنار، فلم يمنعوا من لبسهما، كالقميص.
وهل يمنعون من لبس الديباج، والذهب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يمنعون؛ لما فيه من التجبر والتعظيم.
والثاني: لا يمنعون، كما لا يمنعون من لبس المرتفع من القطن والكتان.
[فرع: يمنع أهل الذمة من ركوب الخيل]
] : ويمنعون من ركوب الخيل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] [الأنفال: 60] وأهل الذمة: عدو الله وعدونا، فلو كانوا يركبونها.. لكانوا يرهبوننا بها، ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وأراد به: الغنيمة. فينبغي أن تكون الخيل لمن يسهم له ويستحق الغنيمة.
ويمنعون أن يتقلدوا السيوف والسكاكين؛ لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال المسعودي [في " الإبانة "] ويمنعون من ركوب البغال، كالخيل.
وقال سائر أصحابنا: لا يمنعون من ركوب البغال والحمير، ولكن يركبونها(12/277)
بالأكف دون السروج، ويكون الركابان من خشب، ويركبونها على شق؛ لما رُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى عماله يأمرهم أن يجعل أهل الكتاب المناطق في أوساطهم) وأراد به: الزنانير، و: (أن يركبوها على شق) أي: عرضا: هذا قول أكثر أصحابنا.
وقال الشيخُ أبُو حامد: يركبون مستويا، قال: لأن أصحابنا قالوا: تكون الركابان من خشب، وهذا يدل على أنهم يركبون مستويا.
[فرع: مغايرة نساء أهل الذمة في اللباس وغيره]
وتؤخذ نساء أهل الذمة بلبس الغيار والزنار والخاتم في رقابهن، وإن لبسن الخفاف.. كانت من لونين؛ لما رُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه كتب إلى أمراء الآفاق أن مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن) .
قال الشيخُ أبُو حامد: ويكون زنارها فوق ثيابها.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: أن زنارها يكون تحت إزارها؛ لأنه إذا كان فوق الإزار.. فإنه يكشف ويصف جسمها.
والذي يقتضي المذهب: أنهما أرادا بذلك الإزار الظاهر الذي تستر به رأسها وعنقها فوق الثوب الذي تشد به حقويها ليحصل التمييز به، فأما إذا كان مستورا لا يظهر.. فلا فائدة فيه.
[فرع: فيما يتأدب به أهل الذمة مع المسلمين]
ولا يبدؤون بالسلام، ويضطرون إلى أضيق الطريق؛ لما ذكرناه من الخبر.
وإن قعدوا مع المسلمين في مجلس.. لم يقعدوا في صدر المجلس؛ لأن في ذلك إعزاز لهم. وإن قعدوا في مجلس، وأراد المسلمون القعود فيه.. قاموا منه(12/278)
للمسلمين؛ لما رُوِي في كتاب أهل الشام لعمر: (وشرطنا: أن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس) .
[مسألة: لا يرتفع أهل الذمة بالبناء على المسلمين]
وإذا أراد أهل الذمة بناء منزل في محلة المسلمين.. منعوا أن يكون بناؤهم أعلى من بناء من يليهم من المسلمين؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» ، وهل يمنعون من مساواتهم في البناء؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يمنعون؛ لأنهم لا يستطيلون بذلك على المسلمين.
والثاني ـ وهو الأصح ـ: أنهم يمنعون؛ لأنه لا تتميز دار الذمي عن دار المسلم إلا بذلك.
فعلى هذا: يكون أقصر من بناء من حواليه من المسلمين.
وهل يمنعون من الاستعلاء في البناء في غير محلة المسلمين؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق:
أحدهما: لا يمنعون؛ لأنه يؤمن، مع البعد، أن يعلوا على المسلمين.
الثاني: يمنعون؛ لأنهم يتطاولون على المسلمين.
وإن ملك الذمي دارا أعلى من دور جيرانه من المسلمين ببيع أو هبة.. أقرت كما هي على ملكه؛ لأنه هكذا ملكها. فإن انهدمت أو نقضها وأراد بناءها.. لم يكن له أن يعليها على بناء جيرانه من المسلمين. وهل له أن يساوي بناءهم؟ على الوجهين:
[فرع: لا يظهرون شرب الخمر ونحوه من المحرمات]
ويمنعون من إظهار شرب الخمور، وأكل الخنازير وبيعها، وضرب الناقوس، والجهر بالتوراة والإنجيل، وإظهار عبادة الصليب، وإظهار أعيادهم، ورفع الصوت على موتاهم؛ لما رُوِيَ: (أن نصارى العرب شرطوا ذلك لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أنفسهم)(12/279)
[مسألة: تصنيف البلاد الإسلامية من حيث تنفيذ الأحكام وبناء الكنائس ونحوها]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويشرط عليهم أن لا يحدثوا كنيسة، ولا بيعة، ولا مجتمعا لصلواتهم) .
وجملة ذلك: أن البلاد التي ينفذ فيها حكم الإسلام على ثلاثة أضرب:
أحدها: بلد بناها المسلمون كبغداد والكوفة والبصرة؛ لأن الكوفة والبصرة بناهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فهذا لا يجوز لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة، ولا بيعة، ولا صومعة؛ لما رُوِيَ: (أن عمر لما صالح النصارى.. كتب بينه وبينهم: وأن لا يحدثوا في بلادهم وما حولها ديرا ولا بيعة، ولا صومعة راهب) . ورُوِي عن ابن عبَّاس: أنه قال: (أيما مصر مصرته العرب.. فليس للعجم أن يبنوا فيه كنيسة) ولا مخالف له في الصحابة.
وأمَّا الكنائس والبيع وبيوت النار الموجودة في هذه البلاد في زماننا.. فيحتمل أن تكون بناها المشركون في قرية أو برية فأقرهم الإمام عليها، فلما بناها المسلمون.. اتصل البناء بذلك.
والضرب الثاني: بلد بناه المشركون ثم ملكه المسلمون بالقهر، فإن لم يكن فيها كنائس ولا بيع، أو كانت ولكن هدمها المسلمون حين ملكوها.. فحكمها حكم البلد الذي بناه المسلمون، فإن عقد الإمام الذمة لقوم وشرط لهم أن يبنوا فيها البيع والكنائس، ويظهروا فيها الخمر والخنزير والصليب.. كان العقد فاسدا.
وإن كان فيها بيع وكنائس لم يهدمها المسلمون حين ملكوها، فإذا أراد الإمام أن يقرهم عليها.. فهل يجوز؟ فيه وجهان:(12/280)
أحدهما: يجوز؛ لأنا إنما نمنع من إحداث البيع والكنائس فيها، فأما إقرارهم على ما كان فيها.. فلا يمنع منه.
والثاني: لا يجوز، وهو الأصح؛ لأن المسلمين قد ملكوا جميع البلاد، وتلك البيع والكنائس ملك للغانمين، ولا يجوز إقرارها في أيدي الكفار.
والضرب الثالث: بلد بناه المشركون ثم فتحه الإمام صلحا، فينظر فيه: فإن صالحهم على أن تكون الدار لهم دوننا وإنما يؤدون إلينا الجزية.. فلهم أن يحدثوا فيها البيع والكنائس، ويظهروا فيها الخمر والخنزير والصليب؛ لأن هذه الدار دار شرك، فلهم أن يفعلوا فيها ما شاؤوا.
وأمَّا إن صالحهم على أن تكون الدار لنا دونهم، فإن صالحهم على أن لهم إحداث البيع والكنائس فيها.. كان لهم ذلك؛ لأنه إذا جاز أن يصالحهم على أن لهم نصف الدار ولنا النصف.. فلأن يجوز أن تكون لنا الدار ولهم البيع والكنائس أولى.
وكل موضع قلنا: يجوز إقرار البيع والكنائس في بلد وانهدمت.. فهل يجوز إعادتها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تبنى كنيسة في دار الإسلام، ولا يجدد ما خرب منها ".(12/281)
والثاني: يجوز، وبه قال أبُو حَنِيفَة؛ لأنه إذا جاز تشييد ما تشعث منها.. جاز إعادة ما انهدم منها.
[مسألة: حماية أهل الذمة ممن يؤذيهم]
وإذا عقد الإمام الذمة لقوم من المشركين.. وجب عليه منع من قصدهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة، سواء كانوا في بلد الإسلام أو بلد لهم منفردين بها، وسواء شرطوا عليه المنع في العقد أو أطلقوه؛ لأنهم إنما بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم، فلزم الإمام ذلك بمقتضى العقد. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: إن كانوا في بلد لهم منفردين.. فهل يجب على الإمام منع الكفار عنهم من غير أن يشرطوا عليه المنع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه؛ لأن ذلك من مقتضى العقد.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن الطائفتين كفار، ولا يضرون بالمسلمين ولا بدارهم.
وكل موضع قلنا: يلزمه المنع عنهم، فلم يمنع عنهم حتى مَضَى الحول.. لم تجب عليهم جزية ذلك الحول، وإن لم يمنع عنهم بعض الحول.. لم تجب عليهم جزية تلك المدة التي لم يمنع فيها؛ لأن الجزية عوض عن المنع ولم يوجد.
فإن أخذ المسلمون منهم مالا لهم بغير حق.. وجب على الإمام استرجاعه إن كان باقيا، أو استرجاع عوضه إن كان تالفا إلا الخمر؛ فإنها إذا تلفت.. فلا يجب عوضها؛ لأنه لا قيمة لها.
وإن أخذ أهل الحرب منهم مالا لهم وظفر به الإمام.. رده إليهم. فإن قتلوا منهم أو أتلفوا عليهم مالا.. لم يجب عليهم ضمان ذلك؛ لأنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام.(12/282)
وإن أغار أهل الهدنة على أهل الذمة فأخذوا منهم مالا.. رده الإمام منهم إن كان باقيا، أو رد عوضه منهم إن كان تالفا؛ لأنهم قد التزموا بالهدنة حقوق الآدميين.
وإن نقضوا الهدنة وامتنعوا عن الإمام بالقتال.. فهل يجب عليهم ضمان ما أتلفوه من نفس ومال؟ فيه قولان، كأهل البغي.
[فرع: شرط عدم المنع من أهل الذمة في العقد]
وإن شرط في عقد الذمة أن لا يمنع عنهم أهل الحرب.. نظرت: فإن كان أهل الذمة في وسط بلاد الإسلام أو في طرف منها.. كان الشرط والعقد باطلين؛ لأنه عقد على تمكين أهل الحرب من بلاد الإسلام.
وإن كانوا في دار الحرب، أو فيما بين دار الحرب ودار الإسلام.. كان الشرط والعقد صحيحين؛ لأن ذلك لا يتضمن تمكين أهل الحرب من دخول دار الإسلام.
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (ويكره هذا الشرط) وقال في موضع: (لا يكره) .
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يكره) أراد: إذا كان الإمام هو الذي طلب الشرط؛ لأن في ذلك إظهار وهن على المسلمين.
وحيث قال: (لا يكره) أراد: إذا كان أهل الذمة هم الذين طلبوا الشرط؛ لأنه لا وهن على المسلمين في ذلك.
[مسألة: الحكم بين المشركين أو بينهم وبين المسلمين]
وإن تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين، فإن كانا معاهدين.. لم يلزمه الحكم بينهما، بل هو بالخيار: بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(12/283)
{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] الآية [المائدة: 42] وهذا الآية نزلت في من وادعهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من يهود المدينة قبل فرض الجزية.
وقيل: نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، ثم جاءا إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألانه عن ذلك فرجمهما.
قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وهذا أشبه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] [المائدة: 43] يعنى: أنهم تركوا حكم الله في التوراة الذي حكم به من رجم الزاني.
فإن حكم الحاكم بين المعاهدين.. لم يلزمهما حكمه.. وإن دعا الحاكم أحدهما ليحكم بينهما.. لم يلزمه الحضور.
وإن كانا ذميين على دين واحد.. فهل يلزمه الحكم بينهما؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه الحكم بينهما، بل هو بالخيار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] ولم يفرق. ولأنهما لا يعتقدان شريعته، فلم يلزمه الحكم بينهما، كالمعاهدين.
والثاني: يلزمه الحكم بينهما؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] الآية [المائدة: 49] وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. ولقوله تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . و (الصغار) : جريان أحكامنا عليهم، فلولا أنه يلزمه الحكم بينهما.. لم تجر عليهم أحكام الإسلام. ولأنه يلزمه الدفع عنهما، فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين، بخلاف المعاهدين؛ فإنه لا يلزمه الدفع عنهما.
فعلى هذا: إذا حكم بينهما.. لزمهما حكمه. وإن استدعاه أحدهما على الآخر فأحضره.. لزمه الحضور. وإن كانا على دينين.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: هي على قولين.
و [الثاني] : منهم من قال: يلزمه الحكم بينهما قولا واحدا؛ لأن كل واحد منهما(12/284)
لا يرضى بحكم حاكم من أهل دين الآخر، بخلاف إذا كانا على دين واحد؛ فإننا إذا لم نحكم بينهما.. ترافعا إلى حاكم من أهل دينهما، فحكم بينهما.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا وقع منه التداعي في حقوق الله تَعالَى، فأما في حقوق الآدميين.. فيلزمه الحكم بينهما قولا واحدا؛ لأن حقوق الله تقبل المسامحة، بخلاف حقوق الآدميين.
ومنهم من قال: القولان في حقوق الآدميين، فأما في حقوق الله تَعالَى.. فيلزمه الحكم بينهما فيها قولا واحدا؛ لأن حق الله إذا لم يحكم به.. ضاع، وحق الآدمي يطالب به الآدمي، فلا يضيع.
ومنهم من قال: القولان في الجميع، وهو الأصح؛ لأنه يجب على الحاكم أن يحكم بين المسلمين في الجميع، فكذلك بين أهل الذمة.
وإن تحاكم إليه ذمي ومعاهد.. فهو كما لو تحاكم إليه ذميان. وإن تحاكم إليه مسلم مع ذمي أو معاهد.. لزمه الحكم بينهما قولا واحدا؛ لأنه لا يجوز أن يتحاكم المسلم مع خصمه إلى حاكم من الكفار. وإذا حكم بينهما.. لم يحكم إلا بحكم الإسلام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [المائدة: 49] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] .
[فرع: جناية الذمي بما يوجب حدا أو تعزيرا]
وإذا فعل الذمي شيئا محرما عليه في شرعنا وشرعهم، كالقتل، والزنا، والقذف، والسرقة.. وجب عليه ما يجب على المسلم من العقوبة؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل يهوديا قتل جارية على أوضاح لها» .(12/285)
و: «رجم يهوديين زنيا بعد إحصانهما»
وإن كان محرما في شرعنا، غير محرم في شرعهم، كشرب الخمر.. لم يجب عليه الحد؛ لأنه مباح عندهم، لكن: إن أظهر شربه.. عزره على ذلك؛ لأنه إظهار منكر في دار الإسلام.
[مسألة: ما يشترط عليهم كحرمة كتاب الله ورسوله]
وتصنيف ما يذكر في العقد من حيث الوجوب وعدمه] :
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويشرط عليهم: أن من ذكر كتاب الله أو محمدا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوء) إلى آخر كلامه.
وجملة ذلك: أن ما يجب على أهل الذمة على خمسة أضرب:
أحدها: ما يجب ذكره في العقد، وإن لم يذكر في العقد.. لم يصح العقد، وهو: بذل الجزية، والتزام أحكام المسلمين. فإن امتنعوا من أداء الجزية أو التزام أحكام المسلمين.. انتقضت ذمتهم؛ لأن الذمة لم تنعقد إلا بهما.
الضرب الثاني: ما لا يجب ذكره في العقد، ولكن إطلاق العقد يقتضيه، فإذا ذكر في العقد.. كان تأكيدا، وهو: تركهم قتال المسلمين، فمتى قاتلوا المسلمين منفردين أو مع أهل الحرب.. انتقضت ذمتهم، سواء شرط عليهم في العقد أو لم يشرط؛ لأن الأمان هو: أن نأمن منهم ويأمنوا منا، وهذا ينافي الأمان.
الضرب الثالث: ما لا يجب ذكره في العقد. قال ابن الصبَّاغ: ولا يقتضيه الإطلاق. وقال الشيخُ أبُو حامد: بل يقتضيه الإطلاق. ونص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - من ذلك على ستة أشياء:(12/286)
أحدها: أن لا يزني الذمي بمسلمة.
الثاني: أن لا يصيبها باسم النكاح.
الثالث: أن لا يفتن مسلما عن دينه.
الرابع: أن لا يقطع عليه الطريق.
الخامس: أن لا يؤوي عينا للمشركين.
السادس: أن لا يعين على المسلمين بدلالة.
وأضاف إليها أصحابنا: أن لا يقتل مسلما. فمتى فعل الذمي شيئا من هذه الأشياء.. نظرت: فإن لم يشترط عليه في العقد ترك هذه الأشياء.. لم تنتقض ذمته بذلك، بل يجب عليه الحد فيما يوجب الحد منها، والتَّعزِير فيما لا يوجب الحد؛ لبقاء ما يقتضيه العقد: من التزام أداء الجزية، والتزام الأحكام، والكف عن قتال المسلمين. وإن شرط عليهم ترك هذه الأشياء في العقد، ففعلوا شيئا منها.. فهل تنتقض ذمتهم؟
قال الشيخُ أبُو حامد: فيه قولان، وأكثر أصحابنا ذكرهما وجهين:
أحدهما: لا تنتقض ذمتهم بذلك؛ لأن ما لا تنتقض الذمة بفعله إذا لم يشرط تركه.. لم تنتقض بفعله وإن شرط تركه، كإظهار الخمر والخنزير، وعكسه قتال المسلمين.
والثاني: تنتقض ذمتهم، وهو الأصح؛ لما رُوِيَ: أن نصرانيا استكره مسلمة على الزِّنَى، فرفع إلى أبي عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: (ما على هذا صالحناكم، وضرب عنقه) . ولأن فيها ضررا على المسلمين. فإذا شرط عليهم تركها، فخالفوا.. كانوا ناقضين للذمة، كالامتناع من الجزية.
والضرب الرابع: اختلف أصحابنا في وجوب ذكره في العقد؛ وهو: أن لا يذكروا الله تَعالَى ولا رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا دينه بما لا يجوز.(12/287)
فقال أبُو إسحاق: لا يصح عقد الذمة حتى يشترط عليهم ذلك في العقد، فمتى ذكر في العقد، فخالفوا.. انتقضت ذمتهم، كما قلنا في التزام الجزية، والتزام أحكام الإسلام.
وقال أكثر أصحابنا: حكمه حكم الأشياء السبعة، لا يجب ذكره في العقد. فإن لم يشترط عليهم تركه في العقد.. لم تنتقض ذمتهم بفعله. وإن شرط عليهم تركه.. فهل تنتقض ذمتهم؟ على القولين أو على الوجهين؛ لأن في ذلك ضررا على المسلمين، فكان حكمه حكم الأشياء التي فيها ضرر عليهم.
وقال أبُو بكر الفارسي من أصحابنا: من سب رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وجب قتله حدا؛ لا لأنه انتقضت ذمته - ولم يذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق " غيره - ولـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يؤمن ابن خطل والقينتين» ؛ لأنهم كانوا يسبونه. ورُوِي: أن رجلا قال لابن عمر: سمعت راهبا يشتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: (لو سمعته.. لقتلته؛ إنا لم نعطه الأمان على هذا) .
والأول أصح؛ لأن ابن خطل والقينتين كانوا مشركين لا أمان لهم قبل هذا.
الضرب الخامس: أنا قد ذكرنا أنه لا يجوز إحداث كنيسة ولا بيعة في دار الإسلام، ولا يرفعون أصواتهم بالتوراة والإنجيل، ولا يضربون الناقوس، ولا يظهرون الخمر والخنزير، ولا يطيلون بناءهم فوق بناء المسلمين، ولا يتركون لبس الغيار والزنار.. فهذه الأشياء لا يجب ذكرها في العقد. فإن خالفوا وفعلوا شيئا منها.. لم تنتقض ذمتهم سواء شرطت عليهم في العقد أو لم تشرط.
واختلف أصحابنا في علته: فمنهم من قال: لأنه لا ضرر على المسلمين في ذلك.(12/288)
ومنهم من قال: لأنهم يتدينون بأكثرها.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا آووا عينا للمشركين، أو زنوا بمسلمة، أو سبوا مسلما، أو سرقوا ماله.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تنتقض ذمتهم بذلك.
والثاني: لا تنتقض.
والثالث: إن شرط عليهم أن لا يفعلوا ذلك، فخالفوا.. انتقضت ذمتهم. وإن لم يشرط عليهم.. لم تنتقض ذمتهم.
إذا ثبت هذا: فكل من فعل منهم ما يوجب نقض ذمته.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز قتله ولا استرقاقه، بل يجب رده إلى مأمنه؛ لأنه كافر حصل في دار الإسلام، فصار كالكافر إذا دخل بأمان صبي.
فعلى هذا: يستوفى ما وجب عليه من الحد، ثم يرد إلى مأمنه.
والثاني: أن الإمام فيه بالخيار: بين القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء، وهو الأصح؛ لأن أبا عبيدة بن الجراح قتل النصراني الذي استكره المرأة المسلمة على الزِّنَى قبل أن يرده إلى مأمنه، ولا مخالف له. ولأنه كافر لا أمان له، فهو كالحربي إذا دخل دار الإسلام متلصصا.
[مسألة: لا يقيم مشرك في الحجاز]
ولا يجوز لأحد من الكفار الإقامة في الحجاز، ولا يجوز للإمام أن يصالحهم على ذلك، فإن فعل.. كان الصلح فاسدا؛ لما رَوَى ابن عبَّاس: أنه قال: «أوصى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاثة أشياء؛ قال: " أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» قال ابن عبَّاس: ونسيت الثالث! ورُوِى عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(12/289)
قال: «لأخرجن اليهود من جزيرة العرب» وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» . والمراد بجزيرة العرب في هذه الأخبار: الحجاز؛ وهي: مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها. وسمي حجازا؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد. والحجاز بعض جزيرة العرب؛ فإن جزيرة العرب - في قول الأصمعي - من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام في العرض. وفي قول أبي عبيدة: ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمين في الطول، وما بين يبرين إلى السماوة في العرض.
و (حفر أبي موسى) : قريب من البصرة.(12/290)
والدليل على أن المراد بهذه الأخبار الحجاز لا غير: ما روى أبُو عبيدة بن الجراح: أن آخر ما تكلم به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قال: «أخرجوا اليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب» ؛ لـ: (أنه صالحهم على ترك الربا، فنقضوا العهد) . ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجلى أهل الذمة من الحجاز، فلحق بعضهم بالشام، وبعضهم بالكوفة) . و: (أجلى أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوما من(12/291)
اليهود من الحجاز، فلحقوا بخيبر. وأجلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوما فلحقوا بخيبر أيضا، وأقروا فيها وهي من جزيرة العرب) . وما رُوِي أن أحدا من الخلفاء الراشدين أجلى من في اليمن من أهل الذمة وإن كانت من جزيرة العرب، فدلَّ على ما ذكرناه. ورُوِي: (أن نصارى نجران أتوا عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا له: إن الكتاب بيدك والشفاعة على لسانك، وإن عمر أخرجنا من أرضنا، فردنا إليها. فقال عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن عمر كان رشيدا في فعله، وإني لا أغير شيئا فعله عمر) .
ونجران ليست من الحجاز، وإنما لنقضهم الصلح الذي صالحهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ترك الربا.
فإن دخل داخل منهم الحجاز بغير إذن الإمام.. أخرجه وعزره إن كان عالما أن دخوله لا يجوز. وإن استأذن الإمام بعضهم في الدخول.. نظر الإمام: فإن كان في دخوله مصلحة للمسلمين؛ إما لأداء رسالة، أو عقد ذمة، أو هدنة، أو حمل ميرة، أو متاع فيه منفعة للمسلمين.. جاز له أن يأذن له في الدخول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] [التوبة: 6] . فأجاز: أن يسمع المسلمون المشرك القرآن، وذلك يتضمن الدخول.
فإن كان في تجارة لا يحتاج المسلمون إليها.. لم يأذن له في الدخول إلا بشرط أن(12/292)
يأخذ من تجارته شيئا؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر أن يؤخذ من أنباط الشام من حمل القطنية من الحبوب العشر، ومن حمل الزيت والقمح نصف العشر) .
ولا يجوز لمن دخل منهم الحجاز بإذن الإمام أن يقيم في موضع أكثر من ثلاثة أيام؛ لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أجلى اليهود والنصارى من الحجاز، وأذن لمن دخل منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا) . ولأنه لا يصير مقيما بالثلاث، ويصير مقيما بما زاد.
فإن أقام في موضع ثلاثة أيام، ثم انتقل منه إلى موضع وأقام فيه ثلاثة أيام، ثم كذلك يقيم في كل موضع ثلاثا فما دون.. جاز؛ لأنه لم يصر مقيما في موضع.
فإن كان له دين في موضع ولم يمكنه أن يقبضه في ثلاث.. لم يمكن من الإقامة أكثر من ثلاث، بل يوكل من يقبضه له.
وإن دخل الحجاز بإذن الإمام ومرض.. جاز له أن يقيم في موضع حتى يبرأ وإن زادت إقامته على ثلاث؛ لأن المريض يشق عليه الانتقال. فإن مات فيه وأمكن نقله إلى غير الحجاز من غير تغير.. لم يدفن في الحجاز؛ لأنه إذا لم يجز له أن يقيم فيه وهو حي.. فلأن لا يجوز دفن جيفته فيه أولى. وإن لم يمكن نقله إلا مع التغير.. دفن؛ لأنه إذا لم يجب نقل المريض للمشقة.. فالميت أولى.
[فرع: لا يمنع أهل الذمة من ركوب البحر الأحمر]
قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا يمنع أهل الذمة من ركوب بحر الحجاز والاجتياز فيه؛ لأنه لا حرمة للبحار، ولهذا لم يبعث أحد من الأنبياء صلوات الله(12/293)
عليهم إلى البحار. ويمنعون من الإقامة في سواحل بحر الحجاز وجزائره؛ لأن لها حرمة أرض الحجاز) .
[مسألة: لا يدخل أحد من الكفار الحرم]
ولا يجوز لأحد من الكفار دخول الحرم بحال.
وحكى ابن الصباغ: أن أبا حَنِيفَة قال: (يجوز لهم دخوله، ولهم أن يقيموا فيه مقام المسافر، ويجوز لهم - عنده - دخول الكعبة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . ففيها ثلاثة أدلة:
أحدها: قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] ولم يرد أنهم أنجاس الأبدان؛ لأنهم إذا أسلموا.. فهم طاهرون، وإنما أراد نجس الأديان. فنزه الحرم عن دخولهم إليه لشرفه. ولأنه رُوِيَ: «أن الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كانوا إذا حجوا وبلغوا الحرم.. نزعوا نعالهم ودخلوا حفاة؛ إجلالا للحرم» .
والثاني: قَوْله تَعَالَى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] [التوبة: 28] وأراد به: الحرم؛ لأن كل موضع ذكر الله المسجد الحرام.. فالمراد به: الحرم.
والدليل عليه: قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] [الإسراء: 1] وأراد به: الحرم؛ لأنه أسرى به من بيت خديجة. وقال الله تَعالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27] [الفتح: 27] ، وقال تَعالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] [المائدة: 95] وأراد به: الحرم.
الثالث: أنه قال في سياق الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] [التوبة: 28] . وإنما خافوا العيلة بانقطاع المشركين عن التجارة في الحرم، لا عن المسجد نفسه.
ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحجن مشرك بعد عامي هذا» .(12/294)
ورُوِي: أنه قال: «لا يدخلن مشرك المسجد الحرام» .
إذا ثبت هذا: فإن جاء بعضهم يحمل ميرة إلى الحرم.. خرج إليه من يشتري منه. وإن جاء ليسلم رسالة.. خرج إليه من يستمع منه ذلك، فإن قال: لا أؤدي الرسالة إلا إلى الإمام.. خرج إليه الإمام، ولا يأذن له في الدخول. فإن دخل منهم داخل إلى الحرم.. أخرج، فإن كان عالما أن ذلك لا يجوز.. عزر، وإن كان جاهلا.. نهي عن العود، فإن عاد.. عزر.
فإن صالحه الإمام على الدخول إلى موضع من الحرم بعوض.. لم يجز. فإن دخل إلى ذلك الموضع.. أخذ منه الإمام العوض المشروط عليه؛ لأنه قد حصل له المعوض. وإن دخل إلى دون ذلك المكان.. استحق عليه من العوض بقدر ما دخل. فإن مرض.. أخرج، وإن مات.. لم يدفن فيه؛ لأن جيفته أعظم من دخوله. فإن دفن فيه.. نبش وأخرج إلى الحل إلا أن يكون قد تقطع.. فلا يخرج؛ لـ: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر بنقل من مات منهم ودفن فيه قبل الفتح) .
إذا ثبت هذا: فإن الحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال، ومن طريق العراق على تسعة أميال، ومن طريق نجد على عرفة على تسعة أميال، ومن طريق جدة على عشرة أميال.
[فرع: يدخل الكافر المسجد بإذن مسلم]
فأما سائر المساجد: فلا يجوز للكفار دخولها بغير إذن المسلمين؛ لأنهم ليسوا من أهلها. فإن استأذن أحد منهم مسلما في الدخول، فإن كان للأكل أو النوم.. لم(12/295)
يأذن له في الدخول؛ لأنه يرى ابتذال المسجد تدينا. وإن كان لاستماع القرآن أو علم أو ذكر.. أذن له في الدخول؛ لأنه ربما كان سببا لإسلامه.
ورُوِي: (أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اجتاز بباب أخته، فسمعها تقرأ سورة (طه) .. فأسلم) . وقال جبير بن مطعم: (سمعت القرآن، فكاد قلبي أن يتصدع.. فأسلمت) .
وكذلك: إن كان له حاجة إلى مسلم في المسجد، أو للمسلم إليه حاجة.. جاز له أن يدخل إليه.
وإن قدم على الإمام وفد من المشركين، فإن كان للمسلمين فضول منازل.. أنزلوهم فيها. وإن لم يكن لهم فضول منازل، وكان للإمام دار مرسوم للوفد.. أنزلهم فيها. وإن لم يكن لهم شيء من ذلك.. جاز له أن ينزلهم في المسجد، لما روي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد» و: «لما قدم سبي بني قريظة وبني النضير.. أنزلهم في المسجد إلى أن وجه بهم، فبيعوا» .
وهل يجوز للمسلم أن يأذن للكافر الجنب في دخول المسجد؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه إذا منع المسلم الجنب من دخوله وإقامته فيه.. فلأن يمنع الكافر الجنب من دخوله أولى.(12/296)
والثاني: يجوز له، لأن الكافر لا يعتقد تعظيمه فلم يمنع منه، والمسلم يعتقد تعظيمه فمنع منه. فإن دخل الكافر المسجد بغير إذن ولا حاجة له إلى مسلم فيه.. عزر إن كان عالما، ولا يعزر إن كان جاهلا، بل ينهى عن ذلك، فإن عاد.. عزر، لما رُوِيَ: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان على المنبر فنظر مجوسيا دخل المسجد، فنزل وضربه وأخرجه)
هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: إن شرط عليه أن لا يدخل.. عزره، وإن لم يشرط عليه.. فهل يعزره؟ فيه وجهان.
[مسألة: منع أهل الحرب دخول دار الإسلام بغير إذن الإمام]
أو رسالة وماذا لو اتجروا؟] :
ويمنع أهل الحرب من دخول دار الإسلام بغير إذن الإمام؛ لأن في دخولهم ضررا على المسلمين؛ لأنهم يتجسسون أخبارهم ويطلعون على عوراتهم، وربما اجتمعوا أو غلبوا على شيء من بلاد الإسلام. فإن دخل منهم رجل دار الإسلام.. سئل، فإن قال: دخلت بغير أمان ولا رسالة.. كان الإمام فيه بالخيار: بين القتل والاسترقاق، والمن، والفداء، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما رأى أبا سفيان بن حرب.. قال: «يا رسول الله، هذا أبُو سفيان، قد أمكن الله منه بلا أمان، ولا إيمان، فقال العباس: قد أمنته» وإن قال: دخلت برسالة.. قبل قوله؛ لأنه يتعذر إقامة البينة على الرسالة. وإن قال: دخلت بأمان مسلم.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقبل قوله؛ لأن الظاهر أنه لا يدخل من غير أمان، والأصل حقن دمه.
والثاني: لا يقبل قوله؛ لأنه يمكنه إقامة البينة على الأمان. والأول أصح.
وإن استأذن رجل منهم الإمام في الدخول، فإن كان للمسلمين مصلحة في دخوله؛ بأن يدخل لأداء رسالة، أو عقد ذمة، أو هدنة، أو حمل ميرة، أو متاع يحتاجه المسلمون.. جاز له أن يأذن له في الدخول بغير عوض يؤخذ منه. وإن كان(12/297)
لتجارة لا يحتاج إليها المسلمون.. فالمستحب للإمام أن يأذن لهم في الدخول، ويشترط عليهم عشر تجارتهم؛ لـ (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أذن لهم في الدخول واشترط عليهم عشر تجارتهم) . فإن اشترط عليهم أقل من ذلك أو أكثر.. جاز؛ لأن ذلك إلى اجتهاد الإمام. وإن رأى أن يأذن لهم في الدخول من غير شرط عوض.. جاز، وإن أذن لهم في الدخول مطلقا من غير أن يشترط دفع العوض ولا عدمه.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: لا يجوز للإمام أن يطالبهم بعوض؛ لأنه إنما يستحق العوض عليهم بالشرط ولم يشترط، فهو كما لو أذن لهم بغير عوض.
و [الثاني] : منهم من قال: يستحق عليهم العشر؛ لأن مطلق الإذن يحمل على المعهود في الشَّرع، وقد تقرر ذلك بفعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فحمل الإطلاق عليه.
هذا مذهبنا: وقال أبُو حَنِيفَة: (إن كان أهل الحرب لا يأخذون من المسلمين العشر إذا دخلوا بلادهم.. لم يأخذ الإمام منهم شيئا. وإن كانوا يأخذون من المسلمين العشر.. أخذ منهم الإمام العشر) .
دليلنا: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ منهم العشر) ، ولم ينقل أنه سأل: هل يأخذون من المسلمين العشر أو لا يأخذون؟ ولا مخالف له في الصحابة.
وأمَّا أهل الذمة: فيجوز لهم أن يتجروا في بلاد المسلمين بغير عوض يؤخذ منهم إلا أن يشترط عليهم مع الجزية: إن اتجروا في بلاد الإسلام أخذ منهم نصف العشر.. فيجب عليهم ذلك؛ لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرط على أهل الذمة مع الجزية إذا اتجروا في بلاد الإسلام نصف العشر من تجارتهم) .(12/298)
وأمَّا دخولهم أرض الحجاز للتجارة: فهم كأهل الحرب إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة، وقد مَضَى.
وإن دخل أهل الذمة إلى أرض الحجاز لتجارة لا يحتاج المسلمون إليها، ولم يشرط عليهم الإمام عوضا، ولا شرط أنهم يدخلونها بغير عوض.. فهل يجب عليهم نصف العشر لتجارتهم؟ فيه وجهان، كما قلنا في أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام من غير شرط.
وما يؤخذ من أهل الذمة بالشرط لدخولهم أرض الحجاز أو لتجارتهم في بلاد الإسلام إن اشترط عليهم.. فإنه يؤخذ منهم في السنة مرة، كما قلنا في الجزية.
وأما ما يؤخذ من أهل الحرب لدخولهم دار الإسلام.. ففيه وجهان:
أحدهما: يؤخذ منهم في السنة مرة، كما قلنا في أهل الذمة.
والثاني: يؤخذ منهم في كل مرة يدخلون؛ لأن أهل الذمة في قبضته، فلا يضيع الحق بتأخيره، وأهل الحرب ليسوا في قبضته، فلا يؤمن أن يتجروا أكثر السنة، فإذا قاربوا آخر السنة.. رجعوا إلى دار الحرب، ثم لا يعودون، فيضيع المال المشروط عليهم.
وأمَّا الذي يؤخذ منهم: ينظر في الإمام: فإن شرط عليهم أن يأخذ من تجارتهم.. أخذ من متاعهم الذي معهم، سواء باعوه أو لم يبيعوه.
وإن شرط عليهم أن يأخذ من ثمن تجارتهم، فإن باعوه.. أخذ منهم، وإن كسد ولم يبيعوه.. لم يأخذ منهم شيئا.
[فرع: كتابة ما يأخذه الإمام من تجار أهل الذمة]
وإذا أخذ الإمام من أهل الحرب العشر، أو من أهل الذمة نصف العشر.. كتب لهم كتابا بما أخذه؛ لأنه ربما مات الإمام وخلفه غيره فيطالبهم، فإذا كان معهم كتاب.. لم يطالبهم بشيء.
قال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وأحب للإمام أن يحدد في كل وقت وثائق أهل(12/299)
الذمة وأهل الحرب بما كان بينهم من ذمة، وجزية، وأمان، وفي أي وقت استوفى ذلك؛ ليكون ظاهرا يرجع إليه، ويشهد على ذلك؛ لأنه ربما مات الشهود الأولون، كما يستحب للقضاة تجديد السجلات والوقوف، والإشهاد عليها كلما مَضَى وقت يخاف فيه موت الشهود؛ لئلا تنسى شروطها) .
وبالله التوفيق(12/300)
[باب الهدنة]
الهدنة والمهادنة والمعاهدة والموادعة شيء واحد؛ وهو: العقد مع أهل الحرب على الكف عن القتال مدة، بعوض وبغير عوض.
والأصل فيه: قَوْله تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] إلى قوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] [التوبة: 1-4] .
ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح سهيل بن عمرو على ترك القتال عشر سنين» .
إذا ثبت هذا: فلا يصح عقد الهدنة لجميع المشركين، أو لصقع إلا للإمام أو للوالي من قبله على إقليم يهادن أهل إقليمه.(12/301)
فأما آحاد الرعية: فلا يجوز لهم ذلك؛ لأن ذلك من الأمور العظام التي تتعلق بمصلحة المسلمين، فلو جوزنا ذلك لآحاد الرعية.. لتعطل الجهاد.
فإذا أراد الإمام أن يعقد الهدنة مع جميع المشركين، أو مع أهل إقليم أو صقع عظيم.. نظرت: فإن كان مستظهرا عليهم، ولم ير مصلحة في عقد الهدنة.. لم يجز له عقدها، بل يقاتلهم إلى أن يسلموا، أو يبذلوا الجزية إن كانوا من أهل الكتاب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] [التوبة: 41] ولقوله تَعالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] الآية [التوبة: 29] . فأمر بالجهاد والقتال، والأمر يحمل على الوجوب. ولقوله تَعالَى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] [محمد: 25] .
وإن رأى الإمام مع استظهاره المصلحة في الهدنة؛ بأن يرجو أن يسلموا، أو يبذلوا الجزية، أو يعينوه على قتال غيرهم.. جاز له أن يعقد لهم الهدنة أربعة أشهر فما دونها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] [التوبة: 1-2] . قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وكان ذلك في أقوى ما كان رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح مكة.. هرب منه صفوان بن أمية، فقال له النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سح في الأرض أربعة أشهر» وكان مستظهرا عليه وعلى جميع الكفار، وإنما كان يرجو إسلامه، فأسلم بعد ذلك.
ولا يجوز للإمام أن يعقد الهدنة مع استظهاره سنة فما زاد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] [التوبة: 5] . وهذا عام في جميع الأوقات، إلا ما خصه الدليل. ولأن السنة مدة تجب فيها الجزية، فلم يجز إقرارهم فيها بغير جزية. وهل يجوز عقد الهدنة فيما زاد على أربعة أشهر ودون السنة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز؛ لعموم الأمر بالقتال إلا ما خصه الدليل، ولم يرد الدليل إلا في أربعة أشهر.(12/302)
والثاني: يجوز؛ لأنها مدة تقصر عن مدة الجزية، فجاز فيها عقد الهدنة، كأربعة أشهر.
وإن كان الإمام غير مستظهر على المشركين؛ أما لقلة عدد المسلمين، أو كثرة عدد المشركين، أو لضعف ثبات المسلمين في القتال، أو لقلة ما في يده من المال بالنسبة لما يحتاج إليه من المال في قتالهم.. فللإمام أن يهادنهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] [الأنفال: 61] و (السلم) : الصلح.
وله أن يهادنهم مع استظهارهم ما يرى فيه المصلحة من السنة وما زاد عليها إلى عشر سنين لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح سهيل بن عمرو في الحديبية على ترك القتال عشر سنين، وكتب في الكتاب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو: على وضع القتال عشر سنين» وإنما هادنهم هذه المدة؛ لأنه جاء إلى المدينة ليقيم لا ليقاتل، وكان بمكة مسلمون مستضعفون، فهادنهم حتى أظهر من بمكة إسلامه، فكثر المسلمون فيهم.
قال الشعبي: لم يكن في الإسلام فتح مثل صلح الحديبية.
هذا ترتيب الشيخ أبي إسحاق وابن الصبَّاغ. وذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق ": أن القرآن ورد بجواز الهدنة أربعة أشهر، و «عقد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدنة مع سهيل بن عمرو عشر سنين، ثم نقض الهدنة قبل انقضاء العشر» .
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: نقض النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدنة.. نسخ للهدنة فيما زاد على أربعة أشهر.
ومنهم من قال: ليست بنسخ. وهو الأصح؛ لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقد الهدنة سنة ست(12/303)
من الهجرة عشر سنين على أن يعود معتمرا سنة سبع ويقيم بمكة ثلاثا، فعاد في سنة سبع واعتمر، وأخلت له قريش مكة وخرجوا منها، فقال لهم: " إنِّي أريد أن أتزوج فيكم وأطعم "، فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج، فخرج فسار إلى سرف على عشرة أميال من مكة، فتزوج ميمونة وبنى بها في ذلك الموضع، وأقام على الهدنة بعد ذلك قدر سنة، ثم وقع بعد ذلك بين بني بكر وبين خزاعة شر، وكانت خزاعة حلفا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبنو بكر حلفا لقريش، فأعانت قريش حلفاءها على حلفاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانتقضت هدنتهم، فسار إليهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفتح مكة. فثبت أن الهدنة فيما زاد على(12/304)
أربعة أشهر غير منسوخة، لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام على الهدنة قدر سنتين.
فإذا قلنا: إن الهدنة منسوخة فيما زاد على أربعة أشهر.. لم يجز عقدها فيما زاد على أربعة أشهر لا لحاجة ولا لضرورة. وإن قلنا: إنه ليس بمنسوخ، فإن زاد الإمام عقد الهدنة كحاجة الضرورة؛ بأن كان المدد بعيدا عنه ويخاف سير المشركين.. فكم المدة التي يجوز عقد الهدنة إليها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز عقدها لأقل من السنة، ولا يجوز إلى سنة؛ لأن السنة مدة الجزية، فلا يجوز إقرارهم فيها من غير عوض.
والثاني: يجوز عقدها لسنة؛ لأنهم إنما لا يجوز إقرارهم في دار الإسلام سنة بغير عوض، وأمَّا الهدنة.. فهي كف عن القتال، فجاز إلى سنة من غير عوض.
وإن كان ذلك لضرورة؛ بأن كان العدو قد نزل على المسلمين وخافهم الإمام.. ففي المدة قولان:
أحدهما: لا تجوز إلا إلى سنة.
والثاني: تجوز إلى عشر سنين.
ولا يجوز عقد الهدنة إلى أكثر من عشر سنين بحال، بلا خلاف على المذهب. وقال أبُو حَنِيفَة وأحمد بن حنبل: (يجوز ذلك على ما يراه الإمام، كما يجوز الصلح على أداء الخراج من غير تقدير مدة) .
دليلنا: أن الله تَعالَى أمر بالقتال عاما في جميع الأوقات، وإنما خصصناه بما قام عليه الدليل، ولم يقم الدليل إلا في عشر سنين؛ بفعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلح الحديبية، فبقي ما زاد على مقتضى عموم الأمر. فإن عقد الهدنة إلى أكثر من عشر سنين.. لم(12/305)
يصح العقد فيما زاد على العشر. وهل يصح العقد في العشر؟ على القولين، بناء على تفريق الصفقة. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: يصح في العشر، وتبطل فيما زاد قولا واحدا؛ لأنه يجوز فيما بين المسلمين والكفار ما لا يجوز بين المسلمين وحدهم. والأول هو المشهور.
إذا ثبت هذا: فإن المسعودي قال: [في " الإبانة "] : إذا طلب المشركون عقد الهدنة.. فالظاهر: أنه لا يجب على الإمام عقدها؛ إذ لا منفعة للمسلمين في ذلك. ومن أصحابنا من قال: إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك؛ بأن يرجو إسلامهم.. وجب عليه ذلك؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] الآية [التوبة: 6] .
[مسألة: عقد الهدنة مطلقا]
وإذا عقد الإمام الهدنة مطلقا.. لم يصح العقد؛ لأن الإطلاق يقتضي التأبيد، والهدنة لا يصح عقدها على التأبيد. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: يصح العقد، فإن كان الإمام مستظهرا.. انصرف إلى أربعة أشهر في أحد القولين، وإلى سنة في الثاني. وإن كان غير مستظهر.. انصرف العقد إلى عشر سنين.
[فرع: الهدنة من غير مدة ولكنها علقت بالمشيئة]
] : وإن هادنهم الإمام إلى غير مدة على أن له أن ينقض متى شاء.. جاز؛ لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل خيبر مطلقا، ولكن قال: «أقركم ما أقركم الله تَعالَى» . وفي بعض الأخبار: " أقركم ما شئنا ". فإن قال غير النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أقركم ما أقركم الله أو إلى أن يشاء الله.. لم تصح الهدنة؛ لأن ذلك لا يعلم إلا بالوحي، وقد انقطع الوحي بموت النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(12/306)
وإن قال: هادنتكم إلى أن يشاء فلان - وهو رجل، مسلم، أمين، عاقل، له رأي - جاز، فإذا شاء فلان أن ينقض.. نقض. وإن قال: هادنتكم إلى أن تشاءوا أو إلى أن يشاء رجل منكم.. لم يصح؛ لأنه جعل الكفار محكمين على الإسلام، وقد قال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» .
[فرع: المدة التي يقر الحربي بها في دار الإسلام]
وإن دخل رجل من دار الحرب إلى دار الإسلام برسالة، أو بأمان، أو لحمل ميرة يحتاجها المسلمون، أو تاجرا.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإنه يجوز للإمام أن يقره في دار الإسلام ما دون السنة بغير عوض؛ لأنه في حكم العقود، ولا يجوز له أن يقره سنة؛ لأن الجزية تجب فيها. فإذا قارب السنة.. قال له الإمام: إقرارك في دار الإسلام سنة بلا عوض لا يجوز، فإن كان وثنيا.. أمره أن يلحق بدار الحرب. وإن كان كتابيا.. قال له: إما أن تلحق بدار الحرب، أو تعقد لك الذمة وتبذل الجزية.
وقال ابن الصبَّاغ: يجوز له أن يقره أربعة أشهر بلا عوض، ولا يجوز له أن يقره سنة بغير عوض. وهل له أن يقره ما زاد على أربعة أشهر ودون السنة بغير عوض؟ على القولين في الهدنة مع استظهار الإمام.
[فرع: عقد الهدنة إلى مدة بشرط عوض]
ويجوز عقد الهدنة إلى مدة على أن يؤخذ من الكفار مال؛ لأن في ذلك مصلحة للمسلمين.
وأمَّا عقد الهدنة على مال يؤخذ من المسلمين، فإن لم يكن هناك ضرورة، لكن كان الإمام محتاجا إلى ذلك؛ بأن بلغه سير العدو وخافهم، أو كانوا قد ساروا ولم يلتقوا، أو التقوا ولم يظهروا على المسلمين ولا خيف ظهورهم.. فلا يجوز بذل العوض لهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111] [التوبة: 111] .(12/307)
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فأخبر الله تَعالَى: أن المؤمنين إذا قتلوا أو قُتلوا.. استحقوا الجنة، فاستوى الحالتان في الثواب، فلم يجز دفع العوض لدفع الثواب، ولأن في ذلك إلحاق صغار بالمسلمين، فلم يجز من غير ضرورة) .
وإن كان هناك ضرورة بأن أسروا رجلا من المسلمين.. فيجوز للإمام ولغيره أن يبذل مالا لتخليصه؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فادى العقيلي برجلين من أصحابه بعدما أسلم العقيلي واسترق وحصل من جملة الأموال» فدلَّ على جواز بذل الأموال لاستنقاذ الأسارى من المسلمين.
وإن كان المسلمون في حصن، وأحاط المشركون بهم ولم يمكنهم الخروج منه ولا المقام فيه، أو التقى المسلمون والمشركون في مكان، وأحاط المشركون بهم من جميع الجهات، وكان المسلمون قليلا والمشركون كثيرا، وخاف الإمام هلاك المسلمين، أو التقوا وخاف الإمام هزيمة المسلمين.. فيجوز له في هذه المواضع أن يبذل للمشركين مالا ليتركوا قتالهم؛ لما رُوِيَ: «أن الحارث بن عمرو الغطفاني - رأس غطفان - قال للنبي، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن جعلت لي يا محمد شطر ثمار المدينة، وإلا.. ملأتها عليك خيلا ورجلا؟ فقال له النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " حتى أشاور السعود " - يعني: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن زرارة - فشاورهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، فقالوا: يا رسول الله، إن كان هذا بأمر من السماء.. فتسليما لأمر الله، وإن كان هذا برأيك.. فرأينا لرأيك تبع، وإن لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك.. فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية بسرة ولا تمرة إلا قراء أو شراء، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام وبك يا رسول الله؟! وفي رواية: أن الحارث أنفذ إليه رسولا بذلك، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرسوله: " أوتسمع؟ " ولم يعطه شيئا.» .(12/308)
وذكر الشيخ أبُو حامد: أن القبائل لما أحاطت بالمدينة عام الخندق.. وافق النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين على أن يجعل لهم ثلث ثمار المدينة وعلى أن ينصرفوا. ثم استشار سعد بن معاذ رئيس الأوس وسعد بن عبادة رئيس الخزرج، فأجاباه بنحو ما ذكرناه، فلم يعطهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا.
فإن قيل: فإن كان النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمسلمون مضطرين إلى ذلك وقد فعله.. فكيف جاز له نقضه؟ وإن لم يكونوا مضطرين.. فكيف فعله؟ فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظن أن الحال حال ضرورة، وأن الأنصار قد ملوا القتال، فلما بان له قوة نياتهم في القتال.. علم أن الحال ليس بحال ضرورة، فنقض ما كان فعله، كما رُوِيَ: «أنه أقطع الأبيض بن حمال ملح مأرب، فقيل له: إنه كالماء العد من ورده.. أخذه، قال: فلا إذن» ؛ لأنه كان ظن في الابتداء أنه من المعادن التي يحتاج فيها إلى الحفر، فلما تبين له الحال.. نقض ما كان فعله.
والثاني: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن عقد الهدنة، ولم يكن بذل المال لهم، وإنما كان هَايَأَ المشركين على ذلك وهم بالعقد، فلما علم قوة نية الأنصار.. لم يعقد. فلو لم يجز بذل المال عند الضرورة.. لما شاورهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.
إذا ثبت هذا: فهل يجب بذل المال عند الضرورة؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في وجوب الدفع عن نفسه بالقتال، أو بأكل الميتة إذا اضطر إليها.
قال الشيخُ أبُو إسحاق: وإن قبض الكفار منهم المال على ذلك.. لم يملكوه؛(12/309)
لأنه مال مأخوذ بغير حق، فلم يملكوه، كالمأخوذ بالقهر.
هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : لا يجوز أن يشترط الإمام للكفار مالا على المسلمين بحال، وكذلك: إذا كان في أيدي الكفار مال للمسلمين.. فلا يجوز للإمام أن يعاقدهم على أن يترك ذلك المال لهم. ولو كان في أيديهم أسير.. فلا يجوز أن يعاقدهم على أن يردوا ذلك الأسير إليهم. وإن انفلت منهم.. لم يجز معاقدتهم على أن يرد ذلك الأسير إليهم.
[مسألة: لا ترد المسلمات لأجل الهدنة]
ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات منهم إلينا؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقد الصلح في الحديبية، ثم جاءته بعد ذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة، فجاء أخواها يطلبانها، فأراد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يردها عليهما، فمنعه الله من ردها بقوله تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية [الممتحنة: 10] فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الله تَعالَى قد منع من الصلح في النساء» ولم يردها عليهم، ولأنه لا يؤمن أن تزوج بمشرك، أو تفتن عن دينها لنقصان عقلها.
واختلف أصحابنا على أي وجه عقد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الهدنة: فقال أبُو إسحاق: يحتمل معاني:
أحدها: أنه كان عقدها بشرط أن يرد عليهم من جاءه من المسلمات، وكان ذلك الشرط صحيحا حال العقد، إلا أن الله تَعالَى نسخه ومنع من ردهن بالآية.
والثاني: أنه كان شرط ردهن في العقد، ولكن كان ذلك الشرط فاسدا، وهل كان النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم فساده؟ فيه وجهان:(12/310)
أحدهما: أنه لم يكن علم فساده، بل ظنه صحيحا، ثم بين الله تعالى فساده. والنَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجوز عليه الخطأ لكن لا يقر عليه، وغير النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجوز عليه الخطأ ويقر عليه.
والوجه الثاني: أنه كان علم فساده، ولكن اضطر إلى ذلك العقد فعقده، واعتقد أنه لا يفي به ولكن اعتقد أنه يفي بموجبه وهو: رد المهر.
والاحتمال الثالث: أنه كان عقد الهدنة مطلقا من غير شرط رد المسلمات، ولكن العقد اقتضى الكف والأمان وأن نكف عن أموالهم ليكفوا عن أموالنا، والبضع يجري مجرى الأموال.
هذا ترتيب الشيخ أبي حامد. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : هل كان شرط النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد المسلمات؟ فيه قولان، وفائدة ذلك نذكرها فيما بعد إن شاء الله تَعالَى.
[فرع: عقد الهدنة لرد المسلمين المهاجرين]
] : ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمين منهم إلينا، ممن لا عشيرة له تمنع عنه. ويجوز عقدها على رد من جاء من المسلمين منهم إلينا، ممن له عشيرة تمنع عنه. ولا يجوز عقدها على رد من جاء من المسلمين منهم إلينا مطلقا؛ لأنه يدخل فيه من له عشيرة ومن لا عشيرة له؛ لأن من لا عشيرة له يخاف عليه أن يفتن عن دينه؛ ولهذا تجب عليه الهجرة. ومن له عشيرة تمنع عنه لا يخاف عليه أن يفتن عن دينه؛ ولهذا يستحب له أن يهاجر ولا يجب عليه؛ ولهذا المعنى: «فادى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العقيلي بعد أن أسلم برجلين من أصحابه» ؛ لأن العقيلي كان له عشيرة تمنع منه.
ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن ينفذ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى مكة عام الحديبية، فامتنع وقال: ليس لي بها رهط ولا عشيرة، وأراد أن ينفذ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال(12/311)
مثل ذلك، فأنفذ عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لأنه كان له بها رهط وعشيرة، وهم: بَنُو أمية، فلما دخل مكة.. أكرموه، واستمعوا رسالته، وقالوا له: إن اخترت أن تطوف بالبيت.. فطف، فقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فثاروا عليه وهموا بقتله» هذا ترتيب أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : يجوز عقدها على رد من جاء منهم مسلما من غير تفصيل.
إذا ثبت هذا: فإن عقدت الهدنة على ما لا يجوز، مثل: أن عقدت على بذل مال لهم في غير حال الضرورة، أو على أن لا يردوا ما حصل في أيديهم من أموال المسلمين، أو على أن نرد إليهم من جاءنا من المسلمين والمسلمات، وما أشبه ذلك، أو عقدت الذمة على ما لا يجوز عقدها عليه.. كان العقد فاسدا؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل عمل ليس عليه أمرنا.. فهو رد» ورُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ردوا الجهالات إلى السنة) .
وإن عقدت الهدنة عقدا صحيحا.. وجب الوفاء بها إلى انقضاء مدتها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] [المائدة: 1] ، ولقوله تَعالَى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] [التوبة: 4] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] [التوبة: 7] .
«ورَوَى سليمان بن عامر: أنه كان بين معاوية وبين الروم هدنة، فأراد أن يغير عليهم، فقال له عمرو بن عبسة: سمعت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد.. فلا يحل عقدة ولا يشدها حتى يمضي أمدها، أو ينبذ إليهم عهدهم على سواء» . فانصرف معاوية ذلك العام.(12/312)
وإذا عقد الإمام الهدنة، ثم مات أو عزل، ثم ولي إمام بعده.. وجب عليه الوفاء بما عقده الإمام قبله؛ لما رُوِيَ: أن نصارى نجران قالوا لعلي كرم الله وجهه: إن الكتاب بيديك، والشفاعة إليك، وإن عمر قد أجلانا من أرضنا، فردنا إليها، فقال علي: (إن عمر كان رشيدا في أمره، وإني لا أغير أمرا فعله عمر) . ولأن الأول فعله باجتهاده، فلم يجز لمن بعده نقضه باجتهاده.
[فرع: عقد الهدنة مع المشركين ومنعهم]
إلا من بعضهم على بعض وأهل الحرب] :
إذا عقد الإمام الهدنة لقوم من المشركين.. فعليه أن يمنع عنهم كل من قصدهم من المسلمين وأهل الذمة؛ لأن عقد الهدنة اقتضى ذلك. ويجب على المسلمين وأهل الذمة ضمان ما أتلفوه عليهم من نفس ومال، والتَّعزِير بقذفهم، ولا يجب على الإمام أن يمنع بعضهم من بعض، ولا يمنع عنهم أهل الحرب؛ لأن الهدنة لم تعقد على حفظهم، وإنما عقدت على ترك قتالهم، بخلاف أهل الذمة؛ فإنهم قد التزموا أحكام المسلمين، فلذلك وجب على الإمام منع كل من قصدهم، وهؤلاء لم يلتزموا أحكام المسلمين.
[مسألة: جاءت حرة مسلمة إلى بلد له إمام وتفسير آية الممتحنة]
إذا جاءت منهم حرة مسلمة إلى بلد فيه الإمام أو نائب عنه.. فقد ذكرنا: أنه لا يجوز ردها إليهم. فإن جاء بعض قرابتها، مثل أبيها أو أخيها يطلبها.. فإنها لا ترد إليه، ولا يجب أن يرد إليه مهرها. فإن كان لها زوج وجاء يطلبها.. فإنها لا ترد إليه، وهل يجب على الإمام أن يرد إليه مهرها؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية إلى قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] .(12/313)
والثاني: لا يجب - وهو اختيار الشافعيُّ، والمزني، وبه قال أبُو حَنِيفَة وأحمد ـ وهو الأصح، لأن البضع ليس بمال، والأمان لا يدخل فيه إلا المال، ولهذا: لو أمن مشركا.. لم تدخل امرأته في الأمان. ولأنه لو ضمن البضع بالحيلولة.. لضمنه بمهر المثل، ولا خلاف أنه لا يضمنه بمهر المثل.
وهذان القولان مأخوذان من كيفية هدنة النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية:
فإن قلنا: إنه كان شرط في العقد رد من جاءه من المسلمات، ثم نسخه الله تَعالَى ونهاه عن ردهن، وأمره برد مهرهن.. فعلى هذا: لا يجب على غير النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأئمة رد المهر؛ لأن ذلك إنما لزم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشرط. وإن قلنا: إن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عقد الهدنة مطلقا، واقتضى الإطلاق الكف عن المال، والبضع يجري مجرى المال.. وجب على غيره من الأئمة رد المهر، لأن هذا يوجد في منع غير النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ردها إليهم.
قال ابن الصبَّاغ: ورأيت بعض أصحابنا ذكر: أنه إن كان قبل الدخول.. وجب رد المهر قولا واحدا؛ لأن المرأة إذا أسلمت قبل الدخول تحت الكافر.. سقط مهرها.
قال: وهذا سهو من هذا القائل؛ لأن كلامنا في رد الإمام المهر: من سهم المصالح، فأما المرأة: فلا يجب عليها رد ما غلبت عليه الكفار.
ولو كانت أمة فجاءت مسلمة.. فإنه يحكم بحريتها.
إذا ثبت هذا: فتكلم الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في تفسير هذه الآية وهي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] فمعنى قوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] أي: اختبروهن، فإن علمتموهن مؤمنات، يعني: إن ظننتم ذلك بقولهن، والعلم يعبر به عن الظن؛ لأنه جار مجراه في وجوب العمل به. {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] لأن بالإسلام وقع التحريم بينهن وبين الكفار. فإن كان قبل الدخول. فقد انفسخ النكاح، وإن كان بعد الدخول.. وقف الفسخ على انقضاء العدة. {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وهو: رد المهر(12/314)
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] أباح الله تَعالَى للمسلمين التزوج بهن، وأراد: إذا كان قبل الدخول أو بعد الدخول وبعد انقضاء العدة وقبل إسلام زوجها الأول {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] يعني: مهورهن. {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وهن المسلمات إذا ارتددن عن الإسلام، وأراد: قبل الدخول أو بعد الدخول إذا لم ترجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وأراد بذلك: أن المسلمة إذا ارتدت وهربت إلى دار الحرب، أو الذمية إذا نقضت العهد ولحقت بدار الحرب، والزوج مقيم في دار الإسلام.. فلزوجها أن يطالبهم بمهرها. وإذا جاءت منهم امرأة مسلمة إلى دار الإسلام.. فلزوجها أن يطالبهم بمهرها.
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] . قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (يحتمل هذا تأويلين:
أحدهما: أنه أراد بذلك المسلمة إذا ارتدت وهربت إلى دار الحرب وزوجها في دار الإسلام، وجاءت امرأة منهم مسلمة، وجاء زوجها يطلبها.. فإن الإمام يكتب إلى ملك الكفار فيقول: ادفعوا مهر المرأة التي هربت من عندنا إليكم إلى زوج المرأة التي هربت من عندكم إلينا، ونحن ندفع إليكم مهر المرأة التي هربت من عندكم إلينا إلى زوج المرأة التي هربت من عندنا إليكم. فإن تساوى المهران.. فلا كلام، وإن اختلفا.. رجع صاحب الفضل بما بقي له، فالمعاقبة المقاصة.
والتأويل الثاني: أنه أراد بذلك: أن المرأة إذا هربت إلى دار الحرب مرتدة.. فلم يرد على زوجها مهرها، فإن المسلمين إذا غنموا منهم غنيمة.. وجب دفع مهرها إلى زوجها من تلك الغنيمة) .
قال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا ارتدت امرأة منا وهربت إليهم، فإن كان الإمام(12/315)
قد اشترط أن من جاءهم منا كافرا لم يردوه علينا.. لم تسترد تلك المرأة، وغرم الإمام مهرها لزوجها؛ لأنه هو الذي حال بينه وبينها بعقد الهدنة.
[فرع: جاءت مسلمة ولحقها زوجها يطلبها]
إذا جاءت منهم امرأة مسلمة، وجاء زوجها في طلبها، فإن قلنا: لا يجب رد مهرها.. فلا تفريع، وإن قلنا: يجب رد مهرها عليه.. فإنما يجب ذلك إذا كان الزوج قد سمى لها مهرا صحيحا ودفعه إليها، فأما إذا لم يسم لها مهرا صحيحا، أو سمى لها مهرا صحيحا ولم يدفعه إليها، أو سمى لها مهرا فاسدا كالخمر والخنزير سواء دفعه أو لم يدفعه.. فلا يجب رده إليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] [الممتحنة: 10] وهذا لم ينفق.
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإنما يرد الإمام عليه ما دفعه إليها مهرا، فأما ما أنفقه على العرس أو ما دفعه إليها بالنفقة والكسوة.. فلا يجب رده إليه؛ لأن ذلك ليس ببدل عن البضع، وإنما هو بدَّل عن التمكين من الاستمتاع بها؛ ولا يجب ذلك إلا إذا جاءت إلى بلد فيه الإمام أو النائب عنه ومنع منها، فيجب دفعه من سهم المصالح؛ لأنه من المصالح. فأما إذا جاءت إلى بلد ليس فيه الإمام ولا النائب عنه وإنما فيه المسلمون، ثم جاء زوجها يطلبها.. وجب عليهم منعه منها؛ لأن ذلك أمر بالمعروف، ولا يجب رد مهرها إلى زوجها؛ لأنه لا نظر لهم في سهم المصالح) . هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إن كان الإمام شرط أن من جاءني منكم مسلما رددته.. لم يجب غرامة مهرها؛ لأنها لم تجئ إليه. وإن كان قد شرط أن من جاء المسلمين منكم مسلما رددناه.. غرم مهرها.
[فرع: قبضت مهرها ثم وهبته له ثم أسلمت وهاجرت]
وإن قبضت صداقها من زوجها، ثم وهبته له، ثم أسلمت وجاءت إلى بلد فيه(12/316)
الإمام، وجاء زوجها يطلبها.. فهل يجب رده عليه؟ فيه قولان بناء على القولين في غير المدخول بها إذا وهبت لزوجها صداقها وطلقها قبل الدخول.. فهل يجب عليها أن تغرم نصفه له؟ فيه قولان.
[فرع: جاءت امرأة من الكفار وجنت]
إذا جاءت امرأة منهم وجنت.. نظر فيها: فإن أسلمت عندهم ثم جاءت عاقلة ثم جنت، أو جاءت إلى دار الإسلام عاقلة ثم أسلمت ثم جنت.. فإنه لا يجوز ردها إليهم؛ لأن إسلامها قد صح، ويجب رد مهرها؛ لأن الحيلولة حصلت بالإسلام.
وإن جاءت مجنونة ولم يعلم إسلامها قبل الجنون إلا أنها وصفت الإسلام في حال جنونها.. فإنه لا يجوز ردها إليهم؛ لجواز أن تكون قد أسلمت قبل جنونها، ولا يجب رد مهرها إليهم قبل إفاقتها؛ لجواز أنها وصفت الإسلام في حال جنونها. فإن أفاقت ووصفت الإسلام.. وجب رد مهرها، وإن وصفت الكفر.. ردت إلى زوجها، ولم يجب رد مهرها.
وإن جاءت وهي مجنونة ولم يعلم إسلامها قبل جنونها ولا وصفت الإسلام حال جنونها.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإنه لا يجوز ردها؛ لأن الظاهر منها لما جاءت إلى دار الإسلام أنها قد أسلمت. ولا يجب رد مهرها قبل الإفاقة؛ لجواز أنها غير مسلمة. فإن أفاقت ووصفت الإسلام.. وجب رد مهرها، وإن وصفت الكفر.. ردت، ولم يجب رد مهرها.
[فرع: جاءت صغيرة إلى دار الإسلام]
وإن جاءت منهم صغيرة ووصفت الإسلام.. فإنه لا يجوز ردها إليهم وإن لم يحكم بإسلامها؛ لأن الظاهر أنها تصف الإسلام بعد البلوغ، فإذا ردت إليهم فتنوها وزهدوها عن الإسلام. فإذا بلغت ووصفت الإسلام.. رد مهرها إلى زوجها، وإن(12/317)
وصفت الكفر.. قرعت وأنبت، فإن أقامت على ذلك.. ردت إلى زوجها. وإن جاء زوجها يطلبها قبل بلوغها.. فهل يجب رد مهرها؟
قال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبُو إسحاق وجهين:
أحدهما: لا يجب رده إليه، لأنا لم نتحقق إسلامها، فلم يجب رد مهرها، كالمجنونة.
والثاني: يجب رده إليه، لأن وصفها الإسلام منع ردها إليه، فوجب دفع مهرها إليه كالبالغة. فعلى هذا: إذا بلغت ووصفت الكفر.. ردت إليه واسترجع منه ما دفع إليه من المهر.
[فرع: قدمت لدار الإسلام ثم ارتدت]
وإن قدمت امرأة مسلمة منهم ثم ارتدت.. لم ترد إليهم؛ لأنه يجب قتلها. فإن جاء زوجها يطلبها، فإن جاء بعد قتلها.. لم يجب رد مهرها إليه؛ لأن الحيلولة بينهما حصلت بالقتل، وإن طلبها قبل قتلها.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق:
أحدهما: لا يجب دفعه إليه؛ لأن منعه منها لإقامة الحد عليها لا بالإسلام.
والثاني - ولم يذكر ابن الصبَّاغ غيره -: أنه يجب دفعه إليه؛ لأن الحيلولة بينهما حصلت بحكم الإسلام.
[فرع: جاءت لدار الإسلام مسلمة ولها زوج فمات أحدهما]
وإن جاءت امرأة منهم مسلمة ولها زوج، فمات أو ماتت.. نظرت: فإن مات، أو ماتت قبل وصول الزوج إلى دار الإسلام أو بعد وصوله له وقبل مطالبته بها.. لم يجب رد المهر؛ لأن الحيلولة بينهما حصلت بالموت. وإن وصل إلى البلد وطالب(12/318)
بها، ثم مات أو ماتت.. وجب رد المهر؛ لأن الحيلولة وجدت حال الحياة. فإن كانت هي الميتة.. وجب دفع المهر إليه، وإن كان الزوج هو الميت.. دفع المهر إلى ورثته.
[فرع: جاءت منهم مسلمة أو كافرة أسلمت ثم طلقت]
إذا جاءت منهم امرأة مسلمة، أو كافرة ثم أسلمت، ثم طلقها الزوج.. نظرت: فإن كان الطلاق بائنا، فإن طلقها قبل المطالبة.. لم يجب دفع المهر إليه؛ لأن الحيلولة حصلت بإبانته لها لا بالمنع. وإن طالب بها فمنع، ثم أبانها.. وجب دفع المهر إليه؛ لأنه لما طالب بها فمنع.. استحق المهر، فلم يسقط ذلك بالبينونة.
وإن طلقها طلاقا رجعيا.. قال الشيخُ أبُو حامد: فإن طلقها بعد المطالبة والمنع.. وجب دفع المهر إليه؛ لأنه استحقه بالمنع، فلم يسقط بالطلاق الرجعي. فإن طلقها قبل المطالبة.. لم يجب دفع المهر إليه؛ لأنه غير ممسك لها زوجة، فإن راجعها في عدتها ثم طالب بها.. وجب دفع المهر إليه.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إذا طلقها طلاقا رجعيا.. لم يجب المهر؛ لأنه تركها برضاه. ولعله أراد: إذا طلقها قبل المطالبة.
[فرع: جاءت مسلمة ثم أسلم زوجها]
إذا جاءت منهم امرأة مسلمة ثم أسلم زوجها، فإن كان بعد الدخول.. نظرت: فإن أسلم قبل انقضاء عدتها.. فهما على النكاح، ولا يجب له المهر. فإن كان قد طالب بمهرها قبل إسلامه وأخذه.. رده؛ لأن البضع قد عاد إليه. وإن أسلم بعد انقضاء عدتها.. فقد وقعت الفرقة بينهما، وأمَّا المهر: فإن كان قد طالب بها قبل إسلامه وأخذه.. لم يرده، وإن طالب بها قبل إسلامه فمنع منها، ثم أسلم قبل أن يأخذ مهرها.. وجب دفع المهر إليه؛ لأنه قد وجب له بمنعها منه قبل إسلامه، فلم يسقط بإسلامه.(12/319)
وحكى القاضي أبُو الطيب في " المجرد " عن أبي إسحاق وجها آخر: أنه لا مهر له؛ لأنه لم يستقر له بالقبض، فهو كما لو أسلم قبل قبض العوض في البيع الفاسد.. فإنه لا يستحق قبضه. والأول أصح. وإن أسلم قبل أن يطالب بها.. لم يجب دفع المهر إليه؛ لأنه لما أسلم.. التزم أحكام الإسلام، وليس من أحكام الإسلام المطالبة بالمهر لأجل الحيلولة بالإسلام. وهكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إذا أسلم بعد انقضاء العدة، فإن كان قد طالب بها قبل انقضاء العدة.. وجب المهر؛ لأنه قد وجب قبل البينونة. وإن لم يطالب إلا بعد انقضاء العدة.. لم يجب؛ لأن الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين. فيأتي على تعليل الشيخ أبي إسحاق هذا: أن المرأة إذا دخل بها وأسلمت وجاءت إلى بلاد الإسلام، ولم يطالب بها زوجها إلا بعد انقضاء عدتها.. أنه لا يجب دفع المهر.
وإن أسلم الزوج قبل الدخول.. فذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق ": أن حكمه حكم ما لو أسلم بعد انقضاء عدتها وكانت مدخولا بها.. فتقع الفرقة بينهما، وأمَّا المهر: فإن طالب بها ثم أسلم.. وجب له المهر، فإن أسلم ثم طالب بها.. لم يجب له المهر. وذكر ابن الصبَّاغ: أنه لا يجب له المهر؛ لأنها بانت بإسلامها. فإذا أسلم بعد ذلك.. لم يكن له المطالبة بالمهر.
[فرع: يدفع المهر إذا صادقته المرأة على الزوجية]
كل موضع قلنا: يجب فيه دفع المهر إليه.. فإنما يجب دفعه إليه إذا صادقته المرأة على الزوجية، وأنها قبضت منه المهر الذي ادعاه. وإن أنكرت عين النكاح.. لم يقبل قوله حتى يقيم شاهدين، ذكرين، مسلمين، عدلين. فإن أقام شاهدا وأراد أن يحلف معه، أو أقام شاهدا وامرأتين.. لم يثبت النكاح؛ لأن النكاح لا يثبت بذلك.
وإن صادقته على الزوجية، أو أقام البينة عليها واختلفا فيما قبضته منه من الصداق، وأقام على ذلك شاهدا وحلف معه، أو شاهدا وامرأتين.. حكم له به؛ لأنه(12/320)
مال. وإن لم يكن معه بينة.. قال ابن الصبَّاغ: فالقول قولها مع يمينها؛ لأن الأصل عدم القبض.
وذكر الشيخ أبُو حامد في " التعليق ": أنهما إذا اختلفا.. قال الشافعي: (نظر الإمام قدر مهر مثل المرأة - ويمكن معرفة ذلك من التجار المسلمين الذين يدخلون دار الحرب، أو من أسارى المسلمين الذي يتخلصون منهم- واستحلف الرجل أنه أصدقها ذلك القدر، وسَلَّمه إليها) ؛ لأنه لا يجوز أن يكون أصدقها أقل من مهر مثلها. فإن أقامت بينة بعد ذلك أنه كان أصدقها أقل من ذلك.. استرجع منه الفضل، وإن أقام بينة أنه أصدقها أكثر منه.. سلم إليه الفضل.
[فرع: جاءت أمة لهم مسلمة]
وإن جاءت أمة لهم مسلمة إلى بلد فيه الإمام.. فقد صارت حرة؛ لأنها ملكت نفسها بالقهر، فإن جاء مولاها يطلبها.. فإنها لا ترد إليه؛ لأنها قد صارت حرة، وهل يجب رد قيمتها؟ قال الشيخُ أبُو حامد: فيه قولان، كما قلنا في المهر.
وقال القاضي أبُو الطيب: لا يجب دفع القيمة إليه قولا واحدا؛ لأنها صارت حرة، وليس المانع الإسلام، كما لو أسلمت قبل الدخول ثم جاء زوجها يطلب مهرها.
قال ابن الصبَّاغ: والأول أصح؛ لأن الإسلام هو المانع من ردها إليه، ولو كانت حرة غير مسلمة.. لم يمنع منها. وقول القاضي: (أنها إذا أسلمت قبل الدخول.. لم يجب دفع المهر إليه) ليس بصحيح، بل في وجوب دفع المهر إليه بإسلامها قبل الدخول قولان، وإنما لا يجب إذا أسلم الزوج؛ لأنه التزم أحكام الإسلام.
هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ. وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق فقال: إن فارقتهم وهي مشركة ثم أسلمت.. صارت حرة؛ لأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض، ولا يجوز ردها إلى سيدها، وهل يجب رد قيمتها؟ فيه طريقان:
أحدهما: أنه على قولين.(12/321)
والثاني: لا يجب قولا واحدا، وهو الصحيح. وإن أسلمت وهي عندهم ثم هاجرت.. لم تصر حرة؛ لأنهم في أمان منا، وأموالهم محظورة علينا، فلم يزل الملك فيها بالهجرة. فإن جاء سيدها يطلبها.. لم ترد إليه؛ لأنها مسلمة، فلم يجز ردها إلى مشرك، فإن طالب بقيمتها.. وجب دفعها إليه، كما لو غصب منهم مال وتلف. قلت: والذي يقتضي المذهب في هذا: أنه لا يجب دفع قيمتها إليه من بيت المال، بل يؤمر بإزالة ملكه عنها ببيع أو غيره؛ لأنه لا يحكم لها بحرية، فتكون كأمة الكافر إذا أسلمت وهي تحت يده.
فإن كانت هذه الأمة مزوجة فجاء زوجها يطلبها.. فإنها لا ترد إليه، فإن كان قد دفع مهرها إلى سيدها، فإن كان زوجها حرا.. فهل يجب دفع المهر إليه؟ على القولين. وإن كان زوجها عبدا.. فلها أن تختار الفسخ إذا أعتقت، فإن فسخت النكاح.. لم يجب رد مهرها؛ لأنا لم نحل بينه وبينها، وإنما حال بينهما الفسخ، وإن لم تختر الفسخ.. وجب رد مهر مثلها، ولكن لا يجب رده إلا إن حضر العبد وطالب بها وحضر سيده وطالب بالمهر؛ لأن المهر له.
هذا ترتيب أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إذا جاءت منهم الأمة مسلمة، فجاء زوجها في طلبها.. لم نغرم له مهرها؛ لأنه غير مالك لبضعها على الحقيقة. ولو جاء سيدها.. لم نغرم له شيئا؛ لأنا نقول له: قد عقدت عليها عقدا جعلت غيرك أحق بها منك. وإن جاء الزوج والسيد.. غرمنا قيمتها لسيدها، ومهرها لزوجها.
[مسألة: أسلم وهاجر إلى دار الإسلام وجواز رده إن كان له عشيرة تمنعه]
وإن أسلم حر منهم وهاجر إلى دار الإسلام، فإن كانت له عشيرة تمنع عنه.. جاز له العودة إليهم. فإن لم تكن له عشيرة تمنع عنه.. لم يجز له الرجوع إليهم.(12/322)
وإن عقد الإمام الهدنة على رد من جاء من الرجال مسلما ممن له عشيرة، فأسلم رجل منهم له عشيرة وهاجر إلى الإمام وجاء من يطلبه.. فإنه يرده إليهم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد أبا بصير وأبا جندل على من جاء يطلبهما» ، ولسنا نريد بالرد أنه يكرهه على الرجوع؛ لأنه لا يجوز إجبار المسلم على الإقامة في دار الحرب، ولكن الإمام يقول لطالبه: لا نمنعك من رده إن قدرت، ولا نعينك عليه، ويقول للمسلم في الظاهر: إن اخترت الرجوع.. لم نمنعك منه. ويشار عليه في الباطن: أن يهرب من البلد إذا علم أنه قد جاء من يطلبه، فإن جاء من يطلبه وأخذه.. أشير عليه في الباطن: أن يهرب منه في الطريق. وعلى هذا يحمل ما روي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد أبا بصير وأبا جندل» . أي: خلى بينهم وبين الرجوع؛ لا أنه أكرههما. وقيل: إن أبا بصير قتل اثنين في الطريق ورجع وقال: قد وفيت لهم يا رسول الله، ونجاني الله منهم. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا جاء من يطلبه، فإن كان له أب شفيق أو قرابة يعلم أنه لا يستذل بينهم.. رد إليهم. وإن لم يكن له قرابة، وخفنا أن يستذل بينهم.. لم يرد إليهم.
وأمَّا كيفية الرد: فإن كان الإمام قد شرط لهم أن كل من أتى مسلما حمله إليهم.. وجب حمله إليهم، وإن شرط أن يخلي بينه وبينه.. لم يجب حمله، وخلي سبيله، ثم يحملونه إن شاؤوا. ولا بأس أن يشار على المطلوب بقتل طالبه أو الهرب منه تعريضا لا تصريحا؛ لأجل العهد؛ لما رُوِيَ: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي جندل حين رد إلى أبيه: (إن دم الكافر مثل دم الكلب) يعرض له بقتل طالبه الكافر.(12/323)
[فرع: جاء صبي أو مجنون وجاء من يطلبه]
وإن جاء صبي منهم ووصف الإسلام وجاء من يطلبه.. لم يجز رده إليهم؛ لأنه إن لم يكن له عشيرة.. ربما قتل، وإن كانت له عشيرة.. ربما فتن عن دينه إذا بلغ.
وهكذا: إن جاء منهم مجنون فوصف الإسلام في حال جنونه.. لم يجز رده إليهم؛ لئلا يفتنوه عن دينه. وكذلك لو لم يصف الإسلام؛ لأن الظاهر أنه مسلم.
فإذا بلغ الصبي، وأفاق المجنون، ووصفا الإسلام، فإن لم يكن لهما عشيرة تمنع عنهما.. لم يجز له ردهما. وإن كان لهما عشيرة تمنع منهما.. جاز له ردهما. وإن كانا وصفا الكفر.. رددناهما إلى مأمنهما.
[فرع: جاء عبد مسلم فطلبه مولاه]
قال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: وإن جاءنا عبد لهم مسلم، ثم جاء سيده يطلبه.. لم يجز رده إليه؛ لأنه قد صار حرا بقهره لسيده، وهل يجب رد قيمته إليه؟ فيه قولان، كما قلنا في مهر المرأة.
وعلى ما ذكره الشيخ أبُو إسحاق في الأمة: إن فارقهم مشركا ثم أسلم.. صار حرا، وهل يجب رد قيمته؟ على الطريقين، الصحيح: لا يجب قولا واحدا. وإن أسلم عندهم.. لم يصر حرا، ولم يجز رده إليهم، بل يجب رد قيمته.
[مسألة: أمور تنقض الهدنة]
إذا عقد الإمام الهدنة لقوم من المشركين فقاتلوا المسلمين، أو آووا عينا عليهم، أو كاتبوا أهل الحرب بأخبارهم، أو قتلوا مسلما أو ذميا، أو أخذوا لهم مالا..(12/324)
انتقضت هدنتهم، فيجوز للإمام غزوهم وقتالهم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7] [التوبة: 7] فدلَّ على: أنهم إذا لم يستقيموا لنا.. لم نستقم لهم. ولقوله تَعالَى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} [التوبة: 4] [التوبة: 4] فدلَّ على: أنهم إذا ظاهروا علينا.. لم نتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
ولا يفتقر نقض الهدنة هاهنا إلى حكم الإمام بنقضها؛ لأن ما تظاهروا به لا يحتمل غير نقض الهدنة.
وإن نقض الهدنة بعض المعاهدين دون بعض.. نظرت في الذين لم ينقضوا: فإن لم ينكروا على الناقضين بقول ولا فعل.. انتقضت هدنتهم جميعا؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وادع بني قريظة، فأعان منهم حيي بن أخطب وأخوه وآخر أبا سفيان بن حرب على النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق، وسكت الباقون، فجعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك نقضا للهدنة في حق جميعهم وسار إليهم، فقتل رجالهم وسبى ذراريهم» وأيضا: فـ: (إن(12/325)
النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح مشركي قريش عام الحديبية.. دخل بَنُو بكر في جملة قريش وكانوا حلفاءهم، ودخلت خزاعة في جملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحالفوه، فحارب بَنُو بكر خزاعة، وأعان نفر من قريش بني بكر على خزاعة، وأمسك سائر قريش، فجعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك نقضا لعهدهم، وسار إلى مكة وفتحها) . وقيل: لم يعن أحد من قريش بني بكر، وإنما قتل رجل من بني بكر رجلا من خزاعة، فسكتت قريش ولم تنكر على بني بكر، فجعل النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك نقضا لعهدهم. ولأنه لما كان عقد الواحد للهدنة عقدا لجميعهم؛ بدليل: أن سهيل بن عمرو لما عقد الهدنة له ولمشركي قريش، وعقد أبُو سفيان الأمان له ولقريش.. كان نقض الواحد نقضا له وللراضي بنقضه.
وإن نقض بعضهم العهد، وأنكر الباقون على الناقضين نقضهم بقول أو فعل ظاهر، أو اعتزلوهم، أو أرسلوا إلى الإمام بأنا منكرون ما فعلوه مقيمون على العهد.. انتقض العهد في حق الناقضين دون الآخرين؛ لأن المنكرين لم ينقضوا العهد ولا رضوا بنقضه. فإن كان الذين لم ينقضوا غير مختلطين بالناقضين.. غزا الإمام الناقضين دون الذين لم ينقضوا. وإن كانوا مختلطين بهم.. لم يجز أن يبيتهم ويقتلهم؛ لأنه يقتل من نقض ومن لم ينقض، بل يرسل إلى الذين لم ينقضوا بأن يتميزوا عن الناقضين أو بتسليم الناقضين إن قدروا، فإن لم يفعلوا أحد هذين الأمرين(12/326)
مع القدرة عليه.. انتقضت الهدنة في حق الجميع؛ لأنهم صاروا مظاهرين لأهل الحرب. فإن لم يقدروا على أحدهما.. كان حكمهم حكم الأسارى من المسلمين مع المشركين، وقد مَضَى بيانه.
ومن اعترف منهم أنه نقض العهد، أو قامت عليه البينة.. فلا كلام. ومن لم تقم عليه البينة أنه نقض وادعى أنه لم ينقض.. قبل قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم نقضه.
إذا ثبت هذا: وفعلوا ما يوجب النقض.. نظرت: فإن كان ذلك الفعل لا يجب به حق؛ مثل: أن آووا عينا للمشركين على المسلمين، أو كاتبوا المشركين بأخبار المسلمين.. فقد صاروا حربا لنا، ويجب ردهم إلى مأمنهم، ولا شيء عليهم فيما فعلوه.
وإن فعلوا ما يجب به حق، فإن كان الحق محضا للآدمي، كالقصاص، وضمان المال، وحد القذف.. استوفي منهم؛ لأن عقد الهدنة اقتضى الكف عن أموالنا وأعراضنا وأموالهم وأعراضهم، فإذا لم يكفوا.. لزمهم الضمان. وإن كان الحق محضا لله تَعالَى؛ بأن زنوا بمسلمة، أو شربوا الخمر.. لم يجب عليهم الحد؛ لأنهم لم يلتزموا بالهدنة حقوق الله تَعالَى. وإن كان الحق لله إلا أنه يتعلق بحق الآدمي؛ بأن سرق سارق منهم نصابا من مال مسلم أو ذمي أو معاهد من حرز مثله.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه قولان، مَضَى ذكرهما.
[فرع: ظهور أمارة نقض أو غدر]
وإن ظهر من المعاهدين أمارة تدل على نقضهم وغدرهم.. قال الشيخُ أبُو حامد: انتقضت هدنتهم. وقال الشيخُ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: جاز للإمام أن ينبذ إليهم عهدهم، وهو المنصوص؛ لأن الشافعيَّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ينبذ إليهم عهدهم) ؛(12/327)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] [الأنفال: 58] .
قال ابن الصبَّاغ: ولا يكفي أن يقع في نفس الإمام خوف منهم حتى يكون ذلك عن دلالة. قال الشيخُ أبُو إسحاق: ولا تنتقض الهدنة هاهنا إلا بحكم الإمام بنقضها؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} [الأنفال: 58] .
فإن خاف الإمام من أهل الذمة الخيانة.. لم ينبذ إليهم عهدهم؛ لأن عقد الذمة معاوضة يقتضي التأبيد، فلم ينتقض بخوف الخيانة، وعقد الهدنة مؤقت ويقتضي الكف عن القتال، فإذا خيف منهم الخيانة.. جاز نقضه.
[مسألة: دخول الحربي دار الإسلام بأمان يشمل النفس والمال والولد]
إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان.. فإن الأمان ينعقد له ولماله وأولاده الصغار؛ لأن الأمان يقتضي الكف عن ذلك. فإن عقد الأمان لنفسه وماله وأولاده الصغار.. كان ذلك تأكيدا.
فإن رجع إلى دار الحرب وترك ماله في دار الإسلام، فإن رجع إليها بإذن الإمام لشغل له ثم يعود له أو برسالة من الإمام.. فإن الأمان يكون باقيا لنفسه وماله، كالذمي إذا رجع إلى دار الحرب تاجرا. وإن رجع إلى دار الحرب ليستوطنها.. انتقض أمانه في حق نفسه، ولم ينتقض في ماله وأولاده الصغار الذين في دار الإسلام؛ لأن الأمان قد ثبت في حق الجميع، فإذا انتقض في حق نفسه.. لم ينتقض في ماله وأولاده الصغار، كأم الولد إذا بطل حقها بموتها.. لم يبطل حق ولدها.
وأمَّا ولده الصغير: فإنه ما لم يبلغ.. فهو في أمان، فإن بلغ.. قيل له: قد كنت في أمان تبعا لغيرك، والآن فقد زال تبعك لغيرك، فإما أن تسلم وإمَّا أن تعقد(12/328)
الذمة ببذل الجزية- إن كان من أهل الجزية- وإمَّا أن تلحق بدار الحرب.
وأمَّا ماله: فيحفظ له، فإن مات أو قتل في دار الحرب.. انتقل إلى ورثته الحربيين، ولا ينتقل إلى ورثته من أهل الذمة. وهل يبطل حكم الأمان في ماله؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يبطل الأمان - وبه قال أحمد، وهو اختيار المزني - لأن من ورث مالا.. ورثه بحقوقه، والأمان من حقوقه، فورث. وإن لم يكن له وارث.. كان فيئا.
والثاني: يبطل الأمان في ماله - وبه قال أبُو حَنِيفَة، وهو اختيار أبي إسحاق المَروَزِيّ - لأنه لما مات.. انتقل إلى وارثه وهو كافر لم يكن بيننا وبينه أمان، فلم يكن له أمان، كسائر أمواله. فإذا قلنا بهذا: فنقل المزني أنه يكون مغنوما.
قال أصحابنا: وليس هذا على ظاهره؛ لأن الغنيمة ما أخذ بالقهر والغلبة، وهذا أخذ بغير قهر ولا غلبة، فيكون فيئا. وقال أبُو علي ابن خيران: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين:
فحيث قال: (يغنم) أراد: إذا عقد الأمان لنفسه ولم يشترطه لوارثه بعده.
وحيث قال: (لا يغنم) أراد: إذا شرط الأمان لنفسه ولوارثه بعده. والطريق الأول أصح.
وإن مات أو قتل في دار الحرب، وله أولاد صغار في دار الإسلام.. فهل يبطل الأمان فيهم؟ على الطريقين في ماله.
وكذلك الحكم في الذمي إذا نقض الذمة ولحق بدار الحرب وترك ماله وأولاده الصغار في دار الإسلام.. فهو كالحربي على ما مَضَى.(12/329)
[فرع: أعطي أمانا فاكتسب أو خلف مالا ومات]
وإن دخل الحربي علينا بأمان ومعه مال أو اكتسب مالا في دار الإسلام، ومات في دار الإسلام وهو على أمانه.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في (السير) : (فإن ماله يرد إلى وارثه) . واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من قال: فيه قولان، كما لو رجع إلى دار الحرب للاستيطان.
ومنهم من قال: يرد إلى وارثه قولا واحدا؛ لأنه مات على أمان، فكان الأمان باقيا في المال.
فإذا رجع إلى دار الحرب للاستيطان فمات فيها.. فقد مات بعد بطلان الأمان في حق نفسه، فبطل في ماله في أحد القولين.. وإن رجع إلى دار الحرب للاستيطان، ولكن رجع بإذن الإمام لتجارة أو رسالة، فمات في دار الحرب.. ففي ماله الذي في دار الإسلام الطريقان فيه إذا مات في دار الإسلام وهو على الأمان.
[فرع: جاء بأمان وعاد للاستيطان وماله عندنا ثم أسر]
وإن دخل الحربي إلينا بأمان، فرجع إلى دار الحرب للاستيطان، وترك ماله في دار الإسلام وأسر.. فإن ملكه لا يزول بالأسر، فإن فادى به الإمام أو من عليه.. فماله باق على ملكه، وإن قتله.. فهو كما لو مات أو قتل في دار الحرب على ما مَضَى، وإن استرقه.. زال ملكه عن ماله؛ لأن الاسترقاق يزيل التملك وهل يبطل الأمان في ماله؟ يبنى على القولين فيه إذا مات في دار الحرب: فإذا قلنا: يبطل.. نقل إلى بيت المال. وإن قلنا: لا يبطل.. كان ماله موقوفا ولا ينتقل إلى وارثه؛ لأنه حي.
فإن عتق.. كان المال له. وإن مات على الرق.. قال أكثر أصحابنا: ينتقل إلى(12/330)
بيت المال فيئا؛ لأن العبد لا يورث. وحكى الشيخُ أبُو إسحاق: أن أبا علي بن أبي هُرَيرَة حكى قولا آخر: أنه لوارثه؛ لأنه ملكه في حريته.
[فرع: دخل بأمان فنقضه ورجع لدار الحرب ثم رجع إلى دارنا]
فرع: [دخل بأمان فنقضه ورجع لدار الحرب للاستيطان ثم رجع إلى دارنا] :
وإن دخل الحربي بأمان، فنقض العهد ورجع إلى دار الحرب للاستيطان وترك ماله، ثم رجع إلى دار الإسلام بغير أمان ليأخذ ماله.. فهل يجوز سبيه؟
قال ابن الحداد: لا يجوز سبيه؛ لأنا لو سبيناه.. أبطلنا ملكه وأسقطنا حكم الأمان في ماله. فمن أصحابنا من وافقه، ومنهم من خالفه، وقال: يجوز سبيه؛ لأن أمانه في نفسه قد بطل، وبثبوت الأمان في ماله لا يثبت الأمان لنفسه، كما لو أدخل ماله إلى دار الإسلام بأمان.. فإن الأمان لا يثبت لنفسه. ولهذا: لو أرسل ماله بضاعة مع رجل له أمان في نفسه ولما معه من المال.. فإن الأمان لا يثبت لصاحب المال.
[فرع: دخل دار الحرب بأمان وأعطاه حربي مالا يتجر به عندنا]
فرع: [دخل مسلم أو ذمي دار الحرب بأمان وأعطاه حربي مالا يتجر به عندنا] :
إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، فدفع إليه حربي مالا ليشتري به شيئا من دار الإسلام.. فإن مال الحربي يكون في أمان؛ لأن المسلم يصح أمانه وقد أخذه على ذلك. وإن دخل الذمي دار الحرب بأمان، فدفع إليه الحربي مالا ليشتري به شيئا من دار الإسلام، فرجع الذمي به إلى دار الإسلام.. فقد حكى الربيع فيه قولين:
أحدهما: يكون الأمان لذلك المال، كما لو كان دفعه إلى مسلم.
والثاني: لا يكون له أمان؛ لأن أمان الذمي لا يصح.
قال أصحابنا: هذا القول من كيس الربيع، بل يجب رده إلى الحربي قولا واحدا؛ لأن الذمي وإن لم يصح أمانه إلا أن الحربي قد اعتقد صحة الأمان لماله، فوجب رده إليه، كما لو دخل الحربي بأمان صبي.(12/331)
[مسألة: دخل مسلم دار حرب بأمان فاقترض أو سرق مالا]
وإن دخل المسلم دار الحرب بأمان، فاقترض من حربي مالا أو سرقه، أو كان أسيرا فخلوه وأمنوه، فسرق لهم مالا وخرج.. وجب عليه رده. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يلزمه) .
دليلنا: أنه منهم في أمان فكانوا منه في أمان فلزمه رده، كما لو اقترض أو سرق من ذمي مالا.
[فرع: اقترض حربي مالا فأسلم المستقرض أو دخل إلينا بأمان]
وإن اقترض حربي من حربي مالا، فأسلم المستقرض أو دخل إلينا بأمان، وجاء المقرض يطالبه بما أقرضه.. قال أبُو العباس: لزمه أن يرد عليه ما أقرضه، كما قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا تزوج حربي بحربية فأصدقها، ثم أسلما وجاءا إلى دار الإسلام.. لزمه المهر) ، فإذا لزمه المهر في حال الشرك.. وجب أن يلزمه رد القرض في حال الشرك.
قال أبُو العباس: ويحتمل قولا آخر: أنه لا يلزمه رد القرض؛ لأن الشافعيَّ، قال: (إذا تزوج حربي بحربية ودخل بها، ثم أسلم وخرج إلى دار الإسلام فماتت، فجاء ورثتها يطالبونه بمهرها.. لم يلزمه مهرها؛ لأنه فات في حال الشرك) .
قال أبُو العباس: وهذا ضعيف في القياس، ويشبه أن يكون تأويل هذا: أنه تزوجها بغير مهر.. فلا يلزمه شيء؛ لأنه فات في حال الشرك.
[فرع: الهدية حال الحرب غنيمة]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " حرملة ": (إذا أهدى المشرك إلى الأمير أو إلى رجل من المسلمين هدية والحرب قائمة.. كانت غنيمة؛ لأنه أهدى ذلك خوفا من الجيش. وإن أهدى إليه قبل أن يرتحلوا من دار الإسلام.. لم تكن غنيمة، وينفرد بها المهدى(12/332)
إليه) . وبه قال محمد بن الحَسَن. وقال أبُو حَنِيفَة: (تكون للمهدى إليه بكل حال) .
دليلنا: أنه مال حصل بظهور الجيش، فأشبه ما أخذوه قهرا.
[فرع: أخذ مشرك جارية مسلم فوطئها فأتت بولد ثم ظهر المسلمون عليه]
] : قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الأسارى: (لو أخذ مشرك جارية مسلم، فوطئها وأتت منه بولد، ثم ظهر المسلمون عليه.. كانت الجارية والولد للمسلم. فإن أسلم واطئها. دفع ثمن الجارية إلى مالكها. ويأخذ من واطئها عقرها وقيمة أولادها يوم سقطوا) . قال أبُو العباس: أما قوله: (إن الجارية والولد ملك للمسلم) فلأن المشرك لم يملكها بالحيازة، فهو كالغاصب، إلا أنه لم يلزمه المهر؛ لأنه ليس من أهل الضمان للمسلم؛ ولهذا: لو أتلفها.. لم يلزمه ضمانها. وأمَّا قوله: (إذا أسلم واطئها دفع ثمن الجارية إلى مالكها، ولزمه عقرها وقيمة أولادها) فتأويلها: أن يكون وطئها بعدما أسلم، فيكون عليه المهر، والولد حر للشبهة؛ وهو قوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء.. فهو له» ولزمه قيمة الولد؛ لأنه أتلفه بالشبهة.
[فرع: ابتاع حربي عبدا مسلما ورجع به لدار الحرب ثم ظهر المسلمون]
وماذا لو حصل وصية؟] :
وإن دخل حربي دار الإسلام، وابتاع عبدا مسلما ورجع به إلى دار الحرب، ثم ظهر المسلمون عليه، فإن قلنا: لا يصح ابتياع الكافر للعبد المسلم.. رد إلى من(12/333)
باعه، وإن قلنا: يصح ابتياعه له.. كان غنيمة.
وإن أوصي بعبد مسلم لكافر، فإن قلنا: يصح شراؤه له.. صحت الوصية له به، وإن قلنا، لا يصح شراؤه له.. ففي الوصية له به وجهان:
أحدهما: لا يصح، كالشراء. فعلى هذا: إن أسلم الموصى له قبل موت الموصي.. لم يكن له أن يقبل الوصية؛ لأنها قد وقعت باطلة.
والثاني: إن قلنا: إن الوصية موقوفة، فإن أسلم الموصى له قبل موت الموصي.. فله أن يقبل الوصية. وإن مات الموصي قبل إسلام الموصى له.. لم يكن له أن يقبل الوصية؛ لأن لزوم الوصية حال موت الموصي، فاعتبر حال الموصى له بتلك الحال.
وإن أوصي بعبد كافر لكافر.. صحت الوصية، فإن أسلم العبد قبل موت الموصي.. فهو كما لو أوصى له بعبد مسلم على ما مَضَى، وإن أسلم بعد موت الموصي، وقبل قبول الموصى له به.. بني على القولين: متى يملك الموصى له الوصية؟
فإن قلنا: إنه يملك بالموت، أو نتبين بالقبول أنه ملكه بالموت.. صحت الوصية.
وإن قلنا: تملك بالقبول.. كانت مبنية على القولين في الشراء.
وبالله التوفيق(12/334)
[باب خراج السواد]
سواد العراق من الموصل إلى عبادان في الطول، ومن القادسية إلى حلوان في العرض. ولا تدخل البصرة في حكم أرض السواد وإن دخلت في هذا الحد؛ لأنها كانت أرضا سبخة وأحياها عُثمانَ بن أبي العاص وعتبة بن غزوان بعد الفتح، إلا موضعا من شرقي دجلتها يسمى الفرات، ومن غربي دجلتها يسمى نهر المرأة.. فإنه داخل في حكم أرض السواد.(12/335)
وإنما سميت هذه الأرض أرض السواد؛ لأن الجيش لما خرجوا من البادية.. رأوا هذه الأرض والتفاف شجرها فسموها السواد. ولا خلاف: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فتحها عنوة وردها إلى أهلها، واختلف الناس في كيفية ردها إلى أهلها:
فمذهب الشافعي: (أنه قسمها بين الغانمين، ثم استنزل الغانمين عنها برضاهم، فنزلوا عنها وردوها إلى أهلها) . وقال الأَوزَاعِي ومالك: (لم يقسمها، وإنما صارت وقفا بنفس الغنيمة) . وقال أبُو حَنِيفَة: (لم يقسمها بين الغانمين، وإنما أقرها في أيدي أهلها وهم المجوس، وضرب عليهم الجزية) .
دليلنا: ما رُوِيَ: عن جرير بن عبد الله البجلي أنه قال: كانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية، فقسم لهم عمر ربع السواد، فاستغلوها ثلاث سنين أو أربعا، ثم قدمت على عمر، فقال عمر: (لولا أنِّي قاسم مسؤول.. لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أرى أن تردوها عليّ، قال: فعاوضني عن حقي نيفا وثمانين دينارا) . فثبت أنها لم تصر وقفا، وإنما قسمها وعاوضه عن حقه.
فإن قيل: فقد ملكوها بالقسمة، فكيف استردها منهم؟
فالجواب: أنه لم يكرههم على الرد، وإنما سألهم أن يردوها برضاهم، فمنهم من طابت نفسه برد حقه بغير عوض، ومنهم من لم يرد نصيبه إلا بعوض؛ بدليل(12/336)
ما رُوِيَ: (أن أم كرز قدمت على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالت: إن أبي قتل يوم القادسية، وإن سهمه ثابت ولا أترك حقي، فقال عمر: قد علمت ما فعل قومك، فقالت: لا أترك حقي حتى تركبني ناقة ذلولا عليها قطيفة حمراء، وتملأ كفي ذهبا. قال: ففعل عمر لها ذلك، فعدت الدنانير التي في كفها، فإذا هي ثمانون دينارا) .
وهذا «كما رُوِيَ: أن وفد هوازن لما سبيت ذراريهم.. وفدوا إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسألوه أن يرد عليهم، فخيرهم بين الأحساب والأموال، فاختاروا الأحساب، فقال: " أما نصيبي ونصيب أهلي.. فهو لكم، وأسأل سائر الناس " فسأل الناس أن يردوا عليهم عن طيب أنفسهم، فردوه عليه» . وأمَّا قول عمر: (لولا أنِّي قاسم مسؤول.. لتركتكم على ما قسم لكم) فله تأويلان:
أحدهما: أنه رأى إن تركهم على ما قسم لهم من تلك الأرض.. انشغلوا بعمارتها عن الجهاد، وتعطل الجهاد؛ لأن أكثر الصحابة قد كان غنم منها.
والثاني: أنه نظر في العاقبة وخشي أن من جاء بعد ذلك من المسلمين لا شيء لهم؛ لأن أرض السواد قد صارت لأولئك الذين غنموا، فأحب عمر أن يكون لمن يأتي من المسلمين فيها نفع؛ بدليل: ما رَوَى زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (لولا أنِّي أخشى أن يبقى الناس ببانا لا شيء لهم.. لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أحب أن يلحق آخر الناس أولهم) ، وتلا قَوْله تَعَالَى:(12/337)
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] [الحشر: 10] قال: يعني ما تركوا لنا وخلفوا علينا. و (الببان) : أن يتساوى الناس في الشيء، إما في الغنى أو في الفقر.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا فيما فعله عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أرض السواد:
فقال أبُو العباس وأبو إسحاق: باعها إلى أهلها المجوس بثمن مجهول القدر، يؤخذ منهم في كل سنة جزء معلوم؛ لأن الناس يتبايعون في أرض السواد من عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى وقتنا هذا ولا ينكره أحد من العلماء، فثبت أنه باعها منهم.
فعلى هذا: يجوز بيعها وهبتها ورهنها.
وقال أبُو سعيد الإصطخري وأكثر أصحابنا: وقفها على المسلمين، ثم أجرها من المجوس على أجرة مجهولة القدر، يؤخذ منهم كل سنة شيء معلوم. وهذا هو المنصوص في " سير الواقدي "؛ لما رُوِي عن سفيان الثوري أنه قال: (جعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرض السواد وقفا على المسلمين ما تناسلوا) . ورَوَى بكير بن عامر: (أن عتبة بن فرقد اشترى أرضا من أرض السواد، فأتى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبره، فقال: ممن اشتريتها؟ فقال: من أهلها، فقال: فهؤلاء أهلها المسلمون، أبعتموه شيئا؟ قالوا: لا، قال: فاذهب واطلب مالك) .
وأمَّا قوله: (إنها تباع من غير إنكار) فغير صحيح؛ لما رَوَيْنَاهُ من حديث عمر.
وقال شبرمة: لا أجيز بيع أرض السواد، ولا هبتها، ولا وقفها.(12/338)
فعلى هذا: لا يجوز بيعها ولا وقفها ولا هبتها.
فإن قيل: فالبيع عندكم لا يصح إلا بثمن معلوم، وكذلك الإجارة لا تصح إلا إلى مدة معلومة وأجرة معلومة، فكيف صح بيعها أو إجارتها على ما ذكرتم؟
فالجواب: أن البيع لا يصح إلا بثمن معلوم، والإجارة لا تصح إلا إلى مدة معلومة وبأجرة معلومة إذا كانت المعاملة في أموال المسلمين، فأما إذا كانت في أموال الكفار.. فلا يفتقر إلى ذكر ذلك؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث» وهذا عوض مجهول؛ لأنه معاملة في أموال الكفار.
فإذا قلنا: إنها مبيعة إليهم.. فالمنازل في أرض السواد دخلت في البيع.
وإن قلنا: إنها وقف.. فهل دخلت المنازل في الوقف؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها وقف.. كالمزارع.
والثاني: أنها لم تدخل في الوقف؛ لأنا لو قلنا: إنها دخلت في الوقف.. أدى إلى خرابها. قال الشيخُ أبُو إسحاق: وأمَّا الثمار: فهل يجوز لمن هي في يده الانتفاع بها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وعلى الإمام أن يأخذها ويبيعها، ويصرف ثمنها في مصالح المسلمين؛ لما رُوِيَ: عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: أدركت الناس بالبصرة يحمل إليهم التمر من الفرات.. فلا يقدمون على شرائه.
والثاني: يجوز لمن في يده الأرض الانتفاع بثمرتها؛ لأن الحاجة تدعو إليه، فجاز كما تجوز المساقاة والمضاربة على جزء مجهول.
وعندي: أن هذين الوجهين إنما يكونان في ثمرة الأشجار التي كانت موجودة في أرض السواد يوم ردها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أهلها.
فإذا قلنا: إن الأرض وقف، وأجرها ممن هي في يده؛ لأن الأرض إذا(12/339)
استأجرها إنسان وفيها أشجار.. لم تدخل الأشجار في الإجارة، ولم يملك المستأجر ثمرتها، فتكون على الوجه الأول غير داخلة في الإجارة، بل هي وقف على المسلمين، فتصرف في مصالح المسلمين.
وعلى الوجه الثاني: دخلت في الإجارة؛ لموضع الحاجة إلى ذلك.
فأما إذا قلنا: إن عمر باعها.. فإن الأشجار الموجودة يوم البيع وما غرس فيها بعد ذلك ملك لمن ملك الأرض، وثمرتها ملك له وجها واحدا.
[مسألة: في مساحة أرض السواد ومبلغ ما جبي منه ومصرفه]
] : وأمَّا مساحة أرض أهل السواد: فقد مسحها عُثمانَ بن حنيف وارتفعت اثنين وثلاثين ألف جريب.
وقال أبُو عبيد: ارتفعت ستة وثلاثين ألف ألف جريب.
وأمَّا قدر ما يؤخذ منها من الخراج في كل سنة: فإنه يؤخذ من جريب الشعير درهمان، ومن جريب الحنطة أربعة دراهم، ومن جريب الشجر والقضب ستة دراهم، ومن جريب النخل ثمانية دراهم، ومن جريب الكرم عشرة دراهم.
ومن أصحابنا من قال: يؤخذ من جريب الكرم ثمانية دراهم، ومن جريب النخل عشرة دراهم.
والأول هو المشهور: لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث إلى الكوفة ثلاثة: عمار بن ياسر أميرا على الجيش والصلاة، وعبد الله بن مَسعُودٍ قاضيا وحافظا لبيت المال، وعثمان بن حنيف ماسحا. وفرض لهم كل يوم شاة، نصفها مع السواقط(12/340)
لعمار بن ياسر، والنصف الآخر بين عبد الله بن مَسعُودٍ وعثمان بن حنيف، ثم قال: وإن قرية يؤخذ منها كل يوم شاة لسريع خرابها. فمسح عُثمانَ بن حنيف أرض السواد وضرب عليها الخراج، فجعل على جريب الشعير درهمين، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم، وعلى جريب الرطبة والشجر ستة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب الكرم عشرة دراهم، وأنفذه إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فرضي به وأجازه) .
ووافقنا أبُو حَنِيفَة في هذا كله إلا في الشعير والحنطة؛ فإنه قال: (يؤخذ من جريب الشعير قفيز ودرهم، ومن جريب الحنطة قفيز ودرهمان) .
وقال أحمد: (يؤخذ من كل واحد منهما قفيز ودرهم) .
دليلنا: ما ذكرناه من الخبر؛ فإنه لم يجعل عليهم قفيزا.
وما يؤخذ من الخراج يصرف في مصالح المسلمين، الأهم فالأهم؛ لأنه للمسلمين، فصرف في مصالحهم.
وأمَّا مبلغ ما جبي من أرض العراق: فقد ذكر الشيخ أبُو إسحاق: أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بلغ جباؤها معه ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف درهم.
وذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: أن عمر بن الخطاب جباها في كل سنة مائة ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ولم يزل يتناقص حتى بلغ زمن الحجاج ثمانية عشر ألف ألف درهم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز.. عاد في السنة الأولى إلى ثلاثين ألف ألف درهم، وفي السنة الثانية إلى ستين ألف ألف درهم، وقال: لئن عشت.. لأبلغن(12/341)
به إلى ما كان في أيام عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فمات في تلك السنة. هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ.
وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق: فذكر: أن عمر بن عبد العزيز جباها مائة [ألف] وأربعة وعشرين ألف ألف درهم.
والله أعلم، وبالله التوفيق(12/342)
[كتاب الحدود] [باب حد الزِّنَى](12/343)
كتاب الحدود
باب حد الزِّنَى الزِّنَى محرم، والدليل على تحريمه: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تَعالَى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] [الإسراء: 32] وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] [الفرقان: 68] .
وأمَّا السنة: فروي عن عبد الله بن مَسعُودٍ «أنه قال: سألت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت: إن ذلك لعظيم، قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك " قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك» .(12/345)
وأمَّا الإجماع: فإن الأمة أجمعت على تحريمه، ولم يحله الله في شرع نبي من الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وسلامه، وكان أهل الجاهلية يتشرفون عنه.
إذا ثبت هذا: فإن الحد يجب في الزِّنَى. وكان الحد في الزِّنَى في أول الإسلام: الحبس والإيذاء بالكلام. والدليل عليه: قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية [النساء: 15] . قال أكثر أصحابنا: المراد بالحبس: للثيب، والمراد بالأذى بالكلام: للأبكار من الرجال والنساء؛ بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] فأضافهن إلينا، وأراد بذلك: من أحصن بكم؛ إذ لا فائدة في إضافة ذلك إلى الزوجات إلا اعتبار الثيوبة. ولأن الله تَعالَى جعل حد الثيب في الانتهاء أغلظ من حد البكر، فدلَّ على: أن حد الثيب في الابتداء كان أغلظ أيضا.
وقال أبُو الطيب ابن سلمة: لم تتناول الآية الثيب قط، وإنما المراد بالحبس: للأبكار من النساء، وبالأذى بالكلام: للأبكار من الرجال.
وقد نسخ الحد بالحبس والأذى، فجعل حد البكر الجلد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] ، وجعل حد الثيب الرجم. وهو إجماع الأمة إلا قوما من الخوارج؛ فإنهم قالوا: لا يرجم الثيب وإنما يجلد.
والدليل على أن الثيب يرجم إذا زنَى: ما رُوِي «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خطب وقال: (إن الله بعث محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبيا، وأنزل عليه كتابا، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فتلوناها ووعيناها: " الشيخ والشيخة إذا زنيا.. فارجموهما البتة " وقد رجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، وإني أخشى أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: لا رجم في كتاب الله، فيضل قوم بترك فريضة أنزلها الله، الرجم حق على كل من زنى من رجل أو امرأة إذا أحصنا، ولولا أنِّي أخشى أن يقول الناس: زاد عمر في المصحف(12/346)
كتاب الله. لأثبتها في حاشية المصحف) ،» وكان هذا في ملأ من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فلم ينكر عليه أحد ذلك.
وروى عبادة بن الصامت: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ورَوَى ابن عمر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم يهوديين زنيا» .
وروى أبُو هُرَيرَة، وزيد بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلين اختصما إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أحدهما: اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر: أجل - وكان أفقههما - اقض يا رسول الله بيننا وأذن لي أن أتكلم. فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تكلم " فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا - يعني: أجيرا- فزنى بامرأته، فأخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وجارية، ثم سألت رجلا من أهل العلم، فقال: الرجم على امرأة هذا، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام؟ فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لأقضين بينكما بكتاب الله: أما غنمك وجاريتك.. فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام.(12/347)
واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت به.. فارجمها فغدا إليها، فاعترفت، فرجمها» ورُوِي: «أن ماعز بن مالك الأسلمي اعترف عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزِّنَى أربع مرات، فرجمه»
وروى بريدة: «أن امرأة من غامد أتت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: فجرت، فقال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجعي " فرجعت، فلما كان من الغد.. أتته وقالت: أتريد يا رسول الله، أن تردني كما رددت ماعزا؟ فوالله إنِّي لحبلى. فقال لها: " ارجعي حتى تضعي " فلما وضعته.. أتته، فقال لها: " ارجعي حتى تفطمي " فلما فطمته.. أتته ومعها ولدها وفي يده كسرة، فقالت: قد فطمته وهو هذا، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمها، فحفر لها إلى صدرها ورجمت. وكان فيمن رجمها خالد بن الوليد، فرماها بحجر فقطر عليه قطرة من دمها فسبها، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تسبها يا خالد! فلقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس.. لغفر الله له " ثم أمر بها فصَلَّى عليها، ثم دفنت» .
و (صاحب المكس) : هو صاحب الضريبة.
وروى عمران بن الحصين: «أن امرأة من جهينة اعترفت بالزِّنَى عند النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي حبلى، فدعا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها، وقال: " أحسن إليها حتى تضع، فإذا وضعت. فَجِئْ بها " فلما وضعت.. جاء بها، فأمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمها، وأن يصلى عليها» .(12/348)
ورُوِي: أن عمر وعليا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رجما، ولا مخالف لهما في الصحابة.
فإن قيل: فإذا كان الحد ثبت بالقرآن بالحبس والأذى، ثم ثبت الرجم بالسنة.. فكيف جاز نسخ القرآن بالسنة، والشافعيُّ لا يجيز نسخ القرآن بالسنة، وإن كان بعض أصحابنا يجيزه؟ فالجواب: أن على قول أبي الطيب ابن سلمة لا يوجد نسخ القرآن بالسنة هاهنا؛ لأن الآية في الحبس والأذى لم تتناول الثيب، وإنما تتناول البكر، وقد نسخ ذلك بالقرآن؛ وهو قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] .
وعلى قول أكثر أصحابنا: أن الآية تتناول الثيب فلم ينسخ القرآن بالسنة، وإنما نسخت بالقرآن وهي الآية التي ذكرها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنها التي نزلت: (الشيخ والشيخة) ثم نسخ رسم هذه الآية وبقي حكمها. وقيل: إن الحبس المذكور في القرآن ليس بحد، وإنما هو أمر بالحبس لكي يذكر الحد فيما بعد؛ لأنه قال تَعالَى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] [النساء: 15] ، ثم وردت السنة ببيان السبيل المذكور، ولهذا قال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .
ولا يجلد المحصن مع الرجم، وهو قول أكثر أهل العلم.
وقال أحمد وإسحاق وداود: (يجلد ثم يرجم) . واختاره ابن المنذر، لحديث عبادة بن الصامت. ورُوِي: أن عليا كرم الله وجهه جلد شراحة يوم الخميس،(12/349)
ورجمها يوم الجمعة، وقال: (جلدت بكتاب الله، ورجمت بسنة رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) .
دليلنا: ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا ولم يجلده» فدلَّ على: أن الجلد مع الرجم منسوخ. «ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل الذي سأله: " على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها " فغدا عليها فاعترفت، فرجمها.» ولم يذكر الجلد. و: «رجم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اليهوديين اللذين زنيا، ولم يجلدهما» وحديث عبادة منسوخ؛ لأنه كان أول ما نقل عن الحبس؛ بدليل «قوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد جعل الله لهن سبيلا» وأمَّا حديث علي: فمحمول على أنها زنت وهي بكر، فلم يجلدها حتى صارت ثيبا، ثم زنت. ويحتمل أنه ظن أنها بكر فجلدها، ثم بان أنها ثيب فرجمها. وقد رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بامرأة زنت فجلدها، فقيل له بعد جلدها: إنها ثيب، فرجمها» .
[مسألة: لا يحد الصغير والمجنون ولا يرجم المملوك عندنا]
ولا يجب حد الزِّنَى على صغير ولا على مجنون؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» ، ولأنهما إذا سقط عنهما التكليف في العبادات والإثم في المعاصي.. فلأن لا يجب عليهما حد الزِّنَى - ومبناه على الإسقاط - أولى.
فأما المملوك: فلا يجب عليه الرجم، سواء كان بكرا أو ثيبا.(12/350)
وقال أبُو ثور: (يجب عليه الرجم إذا زنَى بعد أن صار ثيبا؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ولم يفرق بين الحر والمملوك) . ولأنه حد لا يتبعض فاستوى فيه الحر والمملوك، كالقطع في السرقة. وهذا خطأ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] فجعل على الأمة مع إحصانها نصف ما على المحصنات من العذاب، والرجم لا يتنصف.
ومعنى قَوْله تَعَالَى: {أحصن} بفتح الهمزة أي: أسلمن. وعلى قراءة من قرأها بضم الهمزة، أي: تزوجن.
وروى أبُو هُرَيرَة، وزيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» «إذا زنت أمة أحدكم.. فليجلدها، فإذا زنت.. فليجلدها، فإذا زنت.. فليبعها ولو بضفير ". قال ابن شهاب: لا أدري " فليبعها» «قاله في الثالثة أو في الرابعة؟» و (الضفير) : هو الحبل الخلق من الشعر. ولأن الحد بني على التفضيل، فإذا لم يتبعض.. سقط فيه المملوك، كالشهادة والميراث.
ومعنى قولنا: (بني على التفضيل) أي: أن حد المملوك في الجلد على النصف من حد الحر؛ لأن الحر أفضل، وحد الثيب أغلظ من حد البكر؛ لأن الثيب أفضل، ونساء النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضاعف عليهن العذاب لو أتين بفاحشة؛ لأنهن أفضل. وفيه احتراز من القطع في السرقة؛ لأنه لم يبن على المفاضلة، بل يستوي فيه الجميع.(12/351)
وقولنا: (إذا لم يتبعض) احتراز من الجلد، ومن عدد الزوجات، والطلاق في حق المملوك؛ فإن ذلك يتبعض.
[مسألة: شروط الإحصان والرجم]
] : قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإذا أصاب الحر، أو أصيبت الحرة بعد البلوغ بنكاح صحيح.. فقد أحصنا، فمن زنَى منهما.. فحده الرجم) .
وجملة ذلك: أن البكر عبارة عمن ليس بمحصن، والثيب عبارة عن المحصن.
و (الإحصان) في اللغة: يقع على المنع؛ قال الله تَعالَى: {فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14] [الحشر: 14] أي: مانعة. وقال تَعالَى: {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء: 80] [الأنبياء: 80] أي: لتمنعكم. والإحصان في القرآن يقع على أربعة أشياء:
أحدها: الحرية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] [المائدة: 5] يعني: الحرائر من الذين أوتوا الكتاب.
والثاني: الزوجية؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] [النساء: 23-24] وأراد بالمحصنات هاهنا: المزوجات. فمنع من وطء المزوجات من النساء، وأباح ما ملكت أيماننا إذا كن مزوجات، يعني: المسبيات.
والثالث: الإسلام؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] [النساء: 25] يعني: فإذا أسلمن.
الرابع: العفة عن الزِّنَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] [النساء: 24] يعني: أعفاء عن الزِّنَا.
وأمَّا المحصن الذي يجب عليه الرجم إذا زنَى فهو: البالغ العاقل الحر إذا وطئ في نكاح صحيح. واختلف أصحابنا في شرائط الإحصان والرجم:
فمنهم من قال: إن للإحصان أربع شرائط: البلوغ، والعقل، والحرية،(12/352)
والإصابة بنكاح صحيح. وللرجم شرطان: الإحصان والزنى.
فعلى هذا: إذا وطئ في نكاح صحيح وهو بالغ عاقل حر.. صار محصنا، فإذا زنَى بعد ذلك.. وجب عليه الرجم. وإن وطئ في نكاح صحيح وهو صغير أو مجنون أو مملوك.. لم يصر محصنا، فإذا زنَى بعد ذلك.. لم يجب عليه الرجم.
ومنهم من قال: ليس للإحصان إلا شرط واحد؛ وهو الوطء في نكاح صحيح، فأما البلوغ والعقل والحرية.. فإنها من شرائط وجوب الرجم.
فعلى هذا: للرجم خمس شرائط: الإحصان- وهو الوطء في نكاح صحيح- والبلوغ، والعقل، والحرية، والزنى. فإذا وطئ في نكاح صحيح وهو صغير أو مجنون أو مملوك.. صار محصنا، فإذا بلغ أو أفاق أو أعتق، ثم زنَى.. وجب عليه الرجم؛ لأنه وطئ في نكاح صحيح. ولأنه لو وطئ امرأة في نكاح صحيح وهو صغير أو مجنون أو مملوك يحصل به الإحلال للزوج الأول، فوجب أن يحصل به الإحصان، كما لو وطئ وهو بالغ عاقل حر. ولأن عقد النكاح لا يعتبر فيه الكمال، فكذلك الوطء.
وحكى الشيخُ أبُو حامد أن من أصحابنا من قال: الرق مانع من الإحصان، والصغر ليس بمانع من الإحصان. فعلى هذا: إذا وطئ الصغير في نكاح صحيح. صار محصنا، وإذا وطئ المملوك في نكاح صحيح.. لم يصر محصنا.
والفرق بينهما: أن الصغر ليس بنقص في النكاح؛ ولهذا يجوز أن يتزوج الحر الصغير بأربع. والرق نقص في النكاح؛ ولهذا لا يجوز أن يتزوج العبد بأكثر من اثنتين. ومنهم من قال: الصغر مانع من الإحصان، والرق ليس بمانع من الإحصان؛ لأن الصغير غير مكلف، والمملوك مكلف.
والصحيح هو الأول، وقد نص عليه الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة، وعامة الفقهاء - لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» فأوجب الرجم(12/353)
على الثيب، وقد قلنا: إن المراد بالثيب: المحصن، فلو كان الإحصان يحصل بالوطء في حال الصغر والجنون والرق.. لأدى إلى إيجاب الرجم على الصغير والمجنون والمملوك. ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنَى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس» فأثبت القتل بالزِّنَى بعد الإحصان. وقد ثبت: أن الصغير والمملوك والمجنون لا يقتلون بالزِّنَى، فدلَّ على: أن عدم الصغر والجنون والرق شرط في الإحصان. هذا إذا كان الزوجان ناقصين، سواء اتفق نقصهما أو اختلف.
فأما إذا كان أحدهما كاملا والآخر ناقصا؛ بأن كان أحدهما بالغا عاقلا حرا والآخر صغيرا أو مجنونا أو مملوكا.. فهل يصير الكامل منهما محصنا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصير محصنا- وبه قال أبُو حَنِيفَة - لأنه وطء لم يصر به أحدهما محصنا، فلم يصر الآخر محصنا، كوطء الشبهة.
والثاني: يصير الكامل منهما به محصنا، وهو الصحيح؛ لأنه حر مكلف وطئ في نكاح صحيح، فكان محصنا، كما لو كانا كاملين.
هذا ترتيب القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق، وقال الشيخُ أبُو حامد: إذا كان الزوج حرا عاقلا، والزوجة أمة.. فإن الزوج يصير محصنا قولا واحدا. وكذلك: إذا كان الزوج عبدا، والزوجة حرة بالغة عاقلة.. فإنها تصير محصنة قولا واحدا. فأما إذا كان أحدهما حرا بالغا عاقلا، والآخر صغيرا أو مجنونا.. فهل يصير الحر البالغ العاقل محصنا؟ على القولين.
[فرع: الإسلام ليس بشرط في الإحصان عندنا]
] : الإسلام ليس بشرط في الإحصان في الزِّنَا، فإذا زنَى ذمي وجدت فيه شرائط إحصان المسلم.. وجب عليه الرجم. وقال مالك وأبو حَنِيفَة: (الإسلام شرط في الإحصان في الزِّنَا، فلا يجب الرجم على الذمي إذا زنَى) .
دليلنا: ما رَوَى ابن عمر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم يهوديين زنيا» . ولقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . ولم يفرق.(12/354)
[فرع: المسلم المحصن إذا ارتد لا يبطل إحصانه]
المسلم المحصن إذا ارتد.. لم يبطل إحصانه. وقال أبُو حَنِيفَة: (يبطل إحصانه) .
دليلنا: أنه محصن، فلا يبطل إحصانه بالردة، بل إذا أسلم ثم زنَى.. لزمه حكم المحصن، كإحصان القذف.
[فرع: وطء امرأته في دبرها أو أمته لا يثبت الإحصان]
وماذا لو كان بشبهة أو بنكاح فاسد؟] :
إذا وطئ امرأته في دبرها، أو وطئ أمته.. لم يصر محصنا. وإن وطئ امرأة بشبهة أو في نكاح فاسد.. فهل يصير محصنا؟ فيه قولان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لا يصير محصنا؛ لأنه وطء في غير ملك صحيح.
والثاني: أنه يصير محصنا؛ لأن حكمه حكم الوطء في النكاح الصحيح في العدة والنسب، فكذلك في الإحصان.
[مسألة: حد الزاني غير المحصن]
مسألة: [غير المحصن إذا زنَى فحده الجلد والتغريب عندنا] :
وأمَّا البكر - وهو: من ليس بمحصن - رجلا كان أو امرأة وإن كانت قد ذهبت عذرتها، فإذا زنَى أحدهما وكان حرا.. كان حده مائة جلدة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] ، ويغربان سنة. وبه قال أبُو بكر وعمر وعثمان وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق.
وقال أبُو حَنِيفَة وحماد: (لا يجب التغريب على الرجل ولا على المرأة، وإنما هو على سبيل التَّعزِير إن رأى الإمام.. فعله، وإلا.. لم يجب التغريب على الرجل ولا المرأة) . وقال مالك: (يجب التغريب على الرجل دون المرأة) .
دليلنا: ما رَوَى عبادة بن الصامت: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البكر بالبكر جلد مائة(12/355)
وتغريب عام» ولم يفرق بين الرجل والمرأة. وروى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي سأله: «على ابنك جلد مائة وتغريب عام» ولفظه على الإيجاب. ولأن ما كان حدا للرجل.. كان حدا للمرأة، كالجلد والرجم.
[فرع: حد العبد والأمة إذا زنيا الجلد]
] : وأمَّا العبد والأمة إذا زنيا.. فإنه يجب على كل واحد منهما خمسون جلدة، سواء تزوجا أو لم يتزوجا. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة وأحمد.
وقال ابن عبَّاس: (إن لم يتزوجا.. فلا حد عليهما، وإن تزوجا- يعني: وطئا في نكاح صحيح- فحد كل واحد منهما إذا زنَى خمسون جلدة) . وبه قال طاووس وأبو عبيد القاسم بن سلام. وقال داود: (إذا تزوجت الأمة ثم زنت.. وجب عليها خمسون جلدة، وأمَّا العبد إذا زنَى.. فيجب عليه مائة جلدة) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] والمراد بقوله: {فإذا أحصن} بفتح الهمزة على قراءة من قرأ بالفتح: إذا أسلمن، وعلى قراءة من قرأ بالضم: إذا تزوجن، فنجعل القراءتين كالآيتين، فأفادت الآية: أنه لا يجب عليها الرجم، وإن كانت متزوجة.. فإنما يجب عليها نصف ما على المحصنات من العذاب وهن مسلمات وأراد به من الجلد؛ لأن الرجم لا يتنصف، فإذا ثبت هذا في الأمة.. قسنا العبد عليها؛ لأن حدها إنما نقص لنقصها بالرق، وهذا موجود في العبد، فساواها في الجلد.
[فرع: مقدار تغريب المملوك لو قلنا بوجوب تغريبه]
وهل يجب التغريب على المملوك؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يجب - وبه قال مالك وأحمد - لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زنت أمة أحدكم.. فليجلدها الحد» فأمر بالجلد ولم يأمر بالتغريب، فاقتضى الظاهر: أن الجلد جميع(12/356)
حدها. ولأن في تغريبه تفويت منفعة على السيد. ولأن التغريب يراد لإلحاق العار به والنَكَال ولا عار عليه في ذلك؛ لأن للسيد تغريبه متى يشاء.
والثاني: يجب عليه التغريب، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] وهذا عام في الجلد والتغريب. ولما رُوِيَ: (أن ابن عمر جلد أمة له زنت ونفاها إلى فدك) . ولأنه حد يتبعض، فوجب على المملوك، كالجلد. وأمَّا الخبر: فليس سكوته عنه يدل على أنه لا يجب. وقول الأول: (إن في ذلك تفويت منفعة على سيده) لا يصح؛ لأن لسيده أن يستخدمه وإن كان مغربا بالإجارة وغيرها، والعار والنَكَال يلحق بالمملوك إذا علم أنه غرب بالزِّنَا.
فإذا قلنا: لا يجب تغريب المملوك.. فلا كلام. وإذا قلنا: يجب تغريبه.. فكم يجب تغريبه؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب تغريبه سنة؛ لأنها مدة مقدرة بالشَّرعِ، فاستوى فيها الحر والعبد، كمدة العنة والإيلاء.
والثاني: لا يجب تغريبه إلا نصف السنة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] [النساء: 25] . ولأنه حد يتبعض، فكان المملوك فيه على النصف من الحر كالجلد، وما ذكره الأول.. ينتقض بعدة الوفاة.
وقال أبُو إسحاق: يغرب نصف السنة قولا واحدا. قال الشيخُ أبُو حامد: وهو الأصح مذهبا وحجاجا، فأما الحجاج: فما ذكرناه. وأمَّا المذهب: فكل موضع ذكر الشافعيُّ فيه تغريب المملوك قال: (يغرب نصف السنة) .
[فرع: زنَى البكر ثم أحصن ثم زنَى]
فإن زنَى وهو بكر، فلم يحد حتى أحصن ثم زنَى.. ففيه وجهان:(12/357)
أحدهما: يرجم ويدخل فيه الجلد والتغريب؛ لأنهما حدان يجبان بالزِّنَى فتداخلا، كما لو زنَى ثم زنَى وهو بكر.
والثاني: لا يدخل الجلد في الرجم، بل يجلد، ثم يرجم؛ لأنهما حدان مختلفان فلم يتداخلا، كحد السرقة والشرب.
فعلى هذا: يجلد ثم يرجم ولا يغرب؛ لأن التغريب يحصل بالرجم.
[مسألة: فيما يوجب الحد من الإيلاج]
والوطء الذي يجب به الحد: أن يغيب الحشفة في الفرج؛ لأن أحكام الوطء تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه، والحد من أحكام الوطء، فتعلق بذلك ولم يتعلق بما دونه. فإن وجدت امرأة أجنبية مع رجل في لحاف واحد ولم يعلم منهما غير ذلك.. لم يجب عليهما الحد.
وقال إسحاق ابن راهويه: يجب عليهما الحد؛ لما رُوِي عن عمر وعلي أنهما قالا: (يجلد كل واحد منهما مائة جلدة) .
دليلنا: ما رَوَى ابن مَسعُودٍ: «أن رجلا أتى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إنِّي وجدت امرأة في البستان، فأصبت منها كل شيء غير أنِّي لم أنكحها.» ورُوِي: «نلت منها - حراما- ما ينال الرجل من امرأته إلا الجماع، فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] » [هود: 114] ورُوِي أنه قال له: " استغفر الله وتوضأ "، ولم يوجب عليه الحد. وما رُوِي عن عمر وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.. فقد رُوِي عن عمر خلاف ذلك في قصة المغيرة بن شعبة؛ فإن زيادا قال: رأيت استا تنبو ونفسا يعلو،(12/358)
ورجليها في عنقه كأنهما أذنا حمار، ولم أعلم ما وراء ذلك. فلم يوجب الحد على المغيرة.
ويعزران على ذلك؛ لأنه معصية ليس فيها حد ولا كفارة، فوجب فيه التَّعزِير.
[فرع: وجدت الخلية حاملا]
إذا وجدت امرأة حاملا ولا زوج لها.. سئلت، فإن اعترفت بالزِّنَى.. وجب عليها الحد. وإن أنكرت الزِّنَى.. لم يجب عليها الحد. وقال مالك: (يجب عليها الحد) .
وقد رُوِي عن عمر: أنه قال: (الرجم واجب على كل من زنَى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا ثبت هذا بشهادة، أو اعتراف أو حمل) .
دليلنا: أنه يحتمل أنه من وطء بشبهة أو إكراه، و: (الحد يدرأ بالشبهة) . وما رُوِي عن عمر.. فقد رُوِي عنه خلافه؛ وذلك أنه رُوِيَ: أنه أتي بامرأة حامل، فسألها، فقالت: لم أحس حتى ركبني رجل، فقال عمر: (دعوها) .
[مسألة: الإكراه على الزِّنَى]
إذا أكره رجل امرأة على الزِّنَى.. وجب عليه الحد دونها؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ولما ذكرناه عن عمر في التي قبلها.
ويجب لها المهر عليه.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب) .
دليلنا: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مهر البغي» ، و (البغي) : الزانية، وهذه ليست(12/359)
بزانية ولا هي ملكه، فوجب لها المهر، كما لو وطئها بشبهة.
وإن أكره رجل على الزِّنَى، فزنا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق والمسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يجب عليه الحد؛ لأن الوطء لا يتأتى إلا بالشهوة، ولا يوجد ذلك إلا من المختار.
والثاني: لا يجب عليه الحد - ولم يذكر ابن الصبَّاغ غيره- لأنه مكره على الزِّنَى، فلم يجب عليه الحد، كالمرأة.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن أكرهه السلطان أو الحاكم.. لم يجب عليه الحد. وإن أكرهه غيرهما.. وجب عليه الحد استحسانا) .
دليلنا: أنه مكره على الوطء، فلم يجب عليه الحد، كما لو أكرهه السلطان.
[مسألة: الجهل في تحريم الزِّنَى]
ولا يجب حد الزِّنَا على من زنَى وهو لا يعلم تحريم الزِّنَى؛ لما رُوِيَ: أن رجلا قال: زنيت البارحة، فسئل، فقال: ما علمت أن الله حرمه، فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، فكتب عمر: (إن كان علم أن الله قد حرمه.. فحدوه، وإن لم يعلم.. فأعلموه، فإن عاد.. فارجموه) . وكذلك رُوِي عن عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه.
فإن زنَى رجل وادعى أنه لم يعلم تحريمه، فإن كان قد نشأ بين المسلمين.. لم(12/360)
يقبل قوله؛ لأن ذلك خلاف الظاهر، وإن كان قريب العهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة من المسلمين.. قبل قوله؛ لأن الظاهر أنه لا يعلم.
فإن وطئ المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن، وادعى أنه لم يعلم تحريمه.. فيه وجهان:
أحدهما: لا تقبل دعواه إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية، كما لو وطئ غير المرهونة، أو وطئ المرهونة بغير إذن الراهن وادعى الجهل بتحريم الزِّنَا.
والثاني: يقبل قوله؛ لأن معرفة ذلك يحتاج إلى فقه.
[مسألة: وجد امرأة على فراشه فظنها زوجته]
وإذا وجد رجل امرأة على فراشه فظنها زوجته أو أمته فوطئها.. لم يجب عليه الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجب عليه الحد، إلا إن زفت إليه امرأة ليلة الزفاف، فقيل له: زففنا إليك امرأتك، فوطئها.. فلا يجب عليه الحد) .
دليلنا: أنه وطئ امرأة معتقدا أنها زوجته، فلم يجب عليه الحد، كما لو زفت إليه امرأة وقيل له: هذه امرأتك، فوطئها.
[فرع: من يجب عليه الحد إذا زنَى بمن لا يجب عليه وعكسه]
وإن زنَى بالغ بصغيرة، أو عاقل بمجنونة، أو مستيقظ بنائمة، أو مختار بمكرهة، أو عالم بالتحريم بجاهلة بالتحريم.. وجب الحد على الرجل دون المرأة- وبه قال أبُو حَنِيفَة - لأنه من أهل وجوب الحد عليه، فوجب الحد عليه، كما لو كانت مساوية له.
وإن زنَى حربي مستأمن بمسلمة.. وجب الحد على المرأة دون الرجل؛ لأنها من أهل وجوب الحد.
وإن زنَى مجنون بعاقلة فمكنته من نفسها، أو زنَى صغير بكبيرة، أو جاهل بالتحريم بعالمة، أو استدخلت ذكر نائم في فرجها.. وجب الحد على المرأة دون الرجل. وقال أبُو حَنِيفَة: (الاعتبار بالرجل، فإذا سقط عنه الحد.. لم يجب عليها؛ لأنها تابعة له) .(12/361)
دليلنا: أن سقوط الحد عن أحد الواطئين بمعنى يخصه لا يوجب سقوطه عن الآخر، كما لو زنَى المستأمن بمسلمة.
وإن كان أحد الزانيين ثيبا والآخر بكرا.. وجب على الثيب الرجم، وعلى البكر الجلد والتغريب؛ لأن كل واحد منهما منفرد بسبب ذلك.
[مسألة: استأجرها للزنَى أو تزوج ذات رحم محرم]
إذا استأجر امرأة ليزني بها، فزنى بها، أو تزوج ذات رحم محرم، كأمه، أو أخته، أو امرأة أبيه، أو امرأة ابنه، أو امرأة طلقها ثلاثا ولم تتزوج بزوج غيره، أو امرأة معتدة في عدتها، أو تزوج خامسة فوطئها مع علمه بتحريمها.. وجب عليه الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد بجميع ذلك) .
دليلنا: ما رَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وقع على ذات رحم محرم له.. فاقتلوه» ولأنه وطء في غير ملك، محرم بدواعيه غير مختلف فيه، فإذا تعمده.. وجب عليه الحد، كالزنى.(12/362)
فقولنا: (في غير ملك) احتراز من وطء أحد الشريكين للجارية المشتركة بينهما. ومنه إذا وطئ أخته التي ملكها. وقولنا (محرم بدواعيه) احتراز من وطء زوجته الحائض. وقولنا: (غير مختلف فيه) احتراز من الأنكحة الفاسدة.
وإن ملك أمه أو أخته فوطئها.. فهل يجب عليه الحد؟ فيه قولان، وحكاهما الخراسانيون وجهين:
أحدهما: لا يجب عليه الحد؛ لأنه وطء في ملكه، فلم يجب عليه الحد وإن كان محرما، كما لو وطئ امرأته الحائض.
والثاني: يجب عليه الحد؛ لأن ملكه لها لا يبيح له وطأها بحال، فوجب عليه فيه الحد، كوطء الأجنبية.
[فرع: الوطء في النكاح الفاسد لا يوجب الحد]
وإن تزوج امرأة بنكاح فاسد بولي غير مرشد، أو بنكاح متعة، أو نكح امرأة بغير ولي فوطئها.. لم يجب عليه الحد.
وقال الصيمري: إن كان شافعيا يعتقد أن النكاح بلا ولي لا يصح، وجب عليه الحد بوطء المرأة في النكاح بلا ولي.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: إذا وطئها في النكاح بلا ولي.. وجب عليه الحد بكل حال؛ لأن الأخبار في بطلانه ظاهرة.
والأول أصح؛ لأنه مختلف في صحته، فلم يجب به الحد، كما لو نكح امرأة من ولي فاسق ووطئها.(12/363)
[فرع: وطء جارية الغير أو المشتركة بينهما]
إذا أباح له الغير وطء جاريته فوطئها.. وجب عليه الحد إذا كان عالما بتحريم ذلك. وقال أبُو حَنِيفَة: (إن أباحت له زوجته جاريتها فوطئها.. لم يجب عليه الحد) .
دليلنا: أنه وطء مجمع على تحريمه، فوجب به الحد، كما لو كانت لغير زوجته.
وإن زنَى بجارية له عليها قصاص.. وجب عليه الحد.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد) .
دليلنا: أنه زنَى بجارية لا يملكها، ولا له فيها شبهة ملك، فوجب عليه الحد، كما لو كانت مرهونة عنده.
وإن زنَى بجارية مشتركة بينه وبين غيره.. لم يجب عليه الحد، سواء علم بتحريمها أو لم يعلم. وقال أبُو ثور: (يجب عليه الحد) .
دليلنا: أنه اجتمع في الوطء ما يوجب الحد والإسقاط، فغلب الإسقاط؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهة، وملكه لبعضها شبهة في إسقاط الحد فسقط.
[مسألة: حرمة اللواط وحده]
اللواط محرم- وهو: إتيان الذكور في أدبارهم - وهو من الكبائر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [النمل: 54] [النمل: 54] فسماه فاحشة، وقد قال الله تَعالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] [الأعراف: 33] ، ولأن الله تَعالَى قال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 165] {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] [الشعراء: 165-166] فوبخهم الله تَعالَى على ذلك وسماهم بذلك عادين، ولأن الله تَعالَى عاقب على هذا الفعل في الدنيا بما لم يعاقب على ذنب؛ قال الله تَعالَى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82] [الآية: هود: 82] .(12/364)
ورَوَى حذيفة: «أن جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - احتمل أرضهم فرفعها حتى سمع أهل سماء الدنيا صوت كلابهم، وأوقد تحتهم نارا، وقلبهم عليها» .
وروى معاوية بن قرة: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لجبريل: ما أحسن ما أثنى عليك ربك بقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] [التكوير: 20-21] فما قوتك وما أمانتك؟! فقال جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أما أمانتي: فما أمرت بشيء قط عدوت به إلى غيره، وأمَّا قوتي: فهو أنِّي قلعت مدائن قوم لوط من الأرض السفلى، وكانت أربع مدائن، في كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فهويت بها في الهواء حتى سمع أهل السماء الدنيا صياح الدجاج ونباح الكلاب، ثم ألقيتها» .
وروى ابن عبَّاس: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط - قالها ثلاثا- من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط. فاقتلوا الفاعل والمفعول به» .(12/365)
وأجمع المسلمون: على تحريمه.
إذا ثبت هذا: فمن فعله وهو ممن يجب عليه الحد.. وجب عليه الحد، وفي حده قولان:
أحدهما: يقتل، بكرا كان أو ثيبا- وبه قال ربيعة ومالك وأحمد وإسحاق - ولما رَوَى ابن عبَّاس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله من يعمل عمل قوم لوط - ثلاثا- ثم قال: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط.. فاقتلوا الفاعل والمفعول به» .
ورُوِي: (أن خالد بن الوليد وجد رجلا في بعض ضواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فكتب بذلك إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فذكر أبُو بكر ذلك للصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فكان علي كرم الله وجهه أشدهم فيه قولا، فقال: هذا ذنب لم تعص الله به أمة من الأمم إلا أمة واحدة وقد علمتم ما صنع الله بها، وأرى أن يحرق بالنار. فكتب أبُو(12/366)
بكر بذلك إلى خالد فأحرقه) ، فأخذ بذلك ابن الزبير في إمارته.
ورُوِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه أحرق لوطيا) . ورُوِي عنه أنه قال: (يرجم) .
وعن ابن عبَّاس روايتان:
إحداهما: (أنه يرجم) .
والثانية: (أنه ينظر أطول حائط في تلك القرية، فيرمى منه منكسا، ثم يتبع بالحجارة) . ورُوِي عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (يرمى عليه حائط) .
وهذا إجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على قتله، وإن اختلفوا فيما يقتل به.
والقول الثاني: أنه كالزنى في الفرج، فيجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا. وهو المشهور من المذهب - وبه قال الحَسَن البَصرِيّ، وعطاء، والنخعي، وقتادة، والأَوزَاعِي، وأبو يوسف، ومحمد - لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى الرجل الرجل.. فهما زانيان» فسماه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنَى، وقد تقرر حد الزِّنَى في البكر والثيب، ولأنه(12/367)
فرج يجب في الإيلاج فيه الحد، ففرق فيه بين البكر والثيب، كفرج المرأة.
وما رُوِي عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.. محمول على أنهم فعلوا ذلك في الثيب.
هذا مذهبنا، وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب فيه الحد، وإنما يجب فيه التَّعزِير) .
قال الشيخُ أبُو حامد: ولا يوافقه على هذا المذهب أحد.
وأمَّا المسعودي [في " الإبانة "] : فقال: خرج في هذا قولا ثالثا في إتيان البهيمة، وليس بمشهور. وما ذكرنا للقولين دليل على أبي حَنِيفَة. فأما إذا قلنا: إنه كالزاني في الفرج.. فلا كلام. وإذا قلنا: إنه يقتل بكل حال.. قال الشيخُ أبُو إسحاق: فكيف يقتل؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] قولين:
أحدهما: أنه يقتل بالسيف؛ لأن إطلاق القتل ينصرف إلى القتل بالسيف، كما قلنا في قتل الردة.
والثاني: يقتل بالرجم؛ لأنه قتل يجب بالزِّنَى، فكان بالرجم، كقتل الثيب إذا زنَى في الفرج.
[فرع: وطء امرأة في دبرها أو عبد]
وإذا وطئ امرأة أجنبية في دبرها.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخُ أبُو إسحاق والمسعودي [في " الإبانة "] : هو كما لو وطئها في قبلها.
وقال الشيخُ أبُو حامد: هو كما لو وطئ رجل في دبره؛ لأنهما فرجان محرمان لا يستباحان بحال. فإن وطئ امرأته في دبرها.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخُ أبُو حامد وبعض أصحابنا الخراسانيين: لا يجب عليه الحد قولا واحدا؛ لأنها محل لشهوته، ولأنه مختلف في إباحته، فكان مالك يبيحه!(12/368)
وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: هو كما لو وطئ أخته في ملكه.. هل يجب عليه الحد؟ على قولين:
فإن لاط الرجل بعبده.. فاختلف أصحابنا الخراسانيون فيه:
فمنهم من قال: هو كما لو لاط بعبد غيره؛ لأنه لا يستباح بحال.
ومنهم من قال: هو كما لو وطئ أخته في ملكه، فيكون على قولين.
[فرع: من حرم مباشرتها بالوطء حرم ما دونه]
ومن حرمت مباشرته بالوطء في الفرج بحكم الزِّنَى واللواط.. حرمت مباشرته فيما دون الفرج بشهوة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ} [المؤمنون: 6] [المؤمنون: 5-6] وهذا ليس بواحد منهم.
وقولنا: (بحكم الزِّنَى) احتراز من امرأته الحائض والمحرمة والصائمة.
فإن باشر من يحرم عليه مباشرته فيما دون الفرج بشهوة.. لم يجب عليه الحد؛ لحديث الرجل الذي أخبر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أصاب من امرأة كل شيء غير الجماع، ولم يوجب عليه الحد. ويجب عليه التَّعزِير؛ لأنه معصية لا حد فيها ولا كفارة.
[رع: يحرم السحاق وفيه التَّعزِير]
فرع: يحرم السحاق وفيه التَّعزِير] :
ويحرم إتيان المرأة المرأة؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتت المرأة المرأة.. فهما زانيتان» . فإن ساحقت المرأة المرأة.. لم يجب عليها الحد.(12/369)
وقال مالك: (يجب على كل واحدة منهما حد؛ وهو مائة جلدة) .
دليلنا: أنها مباشرة لا إيلاج فيها، فلم يجب فيها الحد، كما لو باشر الرجل المرأة فيما دون الفرج. ويعزران؛ لأنها معصية لا حد فيها ولا كفارة.
[مسألة: إتيان البهيمة فيه التَّعزِير]
ويحرم إتيان البهيمة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] [المؤمنون: 5-7] .
فإن فعل ذلك من يجب عليه حد الزِّنَى.. فما الذي يجب عليه؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يجب قتله، بكرا كان أو ثيبا- وبه قال أبُو سلمة بن عبد الرحمن - لما رَوَى ابن عبَّاس: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أتى بهيمة.. فاقتلوه، واقتلوا البهيمة» قيل لابن عبَّاس: ما شأن البهيمة تقتل؟ فقال: لأنها ترى، فيقال: هذه وهذه، وقد فعل بها ما فعل. وروى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وقع على بهيمة.. فاقتلوه، واقتلوا البهيمة» . ولأن هذا الفرج لا يستباح بحال، فغلظ فيه الحد.(12/370)
فعلى هذا: كيف يقتل؟ فيه وجهان:
أحدهما: بالسيف.
والثاني: بالرجم، وقد مضى دليلهما.
والقول الثاني: أنه كالزنى في فرج المرأة، فيجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا؛ لأنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل، ففرق فيه بين البكر والثيب كفرج المرأة.
والثالث: أنه لا يجب فيه الحد، وإنما يجب فيه التَّعزِير، وبه قال أكثر أهل العلم؛ لأن الحد إنما يجب بالإيلاج في فرج يبتغي منه كمال اللذة، وفرج البهيمة مما تعافه النفس ولا يفعله إلا السفهاء، فلم يجب به الحد، كشرب البول.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: لا يجب فيه التَّعزِير قولا واحدا.
وأمَّا البهيمة المفعول بها.. فاختلف أصحابنا فيها: فذكر الشيخ أبُو حامد: أنها إن كانت مما تؤكل.. فلا خلاف أنها تذبح. ولأي معنى تذبح؟ فيه وجهان:
أحدهما: تذبح؛ لكي لا تلد ولدا مشوها؛ لما رُوِيَ: أن راعيا أتى بهيمة فولدت ولدا مشوها.
والثاني: أنها تذبح؛ لئلا يقال: هذه وهذه قد فعل بها؛ لما رَوَيْنَاهُ عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فإذا ذبحت.. فهل يحل أكلها؟ يبنى على العلتين:
فإن قلنا: تذبح لئلا تأتي بولد مشوه.. حل أكلها. وإن قلنا: تذبح لكي لا يعير بها.. لم يحل أكلها. وإن كانت مما لا يحل أكلها.. فهل تذبح؟ فيه وجهان:(12/371)
أحدهما: تذبح؛ لما ذكرناه من العلتين في التي يؤكل لحمها.
والثاني: لا تذبح؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة» ، وهذه تذبح لا لمأكلة.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: هل تذبح البهيمة المفعول بها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب ذبحها للخبرين.
والثاني: لا يجب ذبحها؛ لأن البهيمة لا تذبح لغير مأكلة، والخبرين ضعيفان.
والثالث: إن كانت مما يؤكل.. وجب ذبحها. وإن كانت مما لا يؤكل.. لم يجب ذبحها.
فإذا قلنا: يجب ذبحها وكانت مملوكة.. فهل يحل أكلها؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: يجب ذبحها، فذبحت.. نظرت:
فإن كان الذي فعل بها مالكها.. فلا ضمان عليه، كما لو أتلفها. وإن فعل بها غيره.. فهل يجب عليه ضمانها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لا يجب عليه ضمانها؛ لأنها تقتل حدا، كما يقتل المملوك حدا.
والثاني: يجب عليه ضمانها، وهو قول العراقيين من أصحابنا؛ لأنه حيوان أتلف من غير جناية. فعلى هذا: إن كانت مما لا يؤكل.. وجب عليه جميع قيمتها. وإن كانت مما يؤكل، فإن قلنا: لا يحل أكلها.. وجب عليه جميع قيمتها. وإن قلنا: يحل أكلها.. وجب عليه ما بين قيمتها حية ومذبوحة. وعلى من يجب؟ فيه وجهان، حكاهما أبُو علي الطبري والمسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يجب في بيت المال؛ لأنها قتلت في مصلحة المسلمين.
والثاني: يجب على الفاعل بها، وهو المشهور من المذهب؛ لأنه هو السبب في إتلافها.(12/372)
[مسألة: الإقرار بالزِّنَى]
إذا أقر من يجب عليه حد الزِّنَى مرة واحدة أنه زنَى.. وجب عليه الحد. وبه قال مالك، وأبو ثور، والحسن البَصرِيّ، وعثمان البتيُّ، وحماد بن أبي سليمان. ورُوِي ذلك عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق: (لا يجب عليه الحد حتى يقر أربع مرات) . فأما ابن أبي ليلى وأحمد فقالا: (إذا أقر أربع مرات في مجلس واحد أو مجالس.. لزمه الحد) . وأمَّا أبُو حَنِيفَة وأصحابه فقالوا: (لا يجب عليه الحد حتى يقر أربع مرات في أربعة مجالس) .
دليلنا: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل الذي سأله: «على ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها» والاعتراف يقع على المرة الواحدة.
ورُوِي: «أن الغامدية قالت: يا رسول الله، إنِّي قد فجرت، فقال رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارجعي " فلما كان من الغد أتته، وقالت: أتريد أن تردني كما رددت ماعزا؟ والله إنِّي لحبلى، فقال لها: " ارجعي " فجاءت في اليوم الثالث، فقال لها: " ارجعي حتى تضعي ". فلما وضعت.. قال لها: " ارجعي حتى تفطمي ولدك " فلما فطمته.. أتته، فأمر برجمها.» ولم ينقل أنها اعترفت عنده إلا مرة واحدة. وروى عمران بن الحصين: «أن امرأة من جهينة جاءت إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترفت بالزِّنَى وهي حبلي، فدعا النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها وقال له: " أحسن إليها حتى تضع، فإذا وضعت.. فجئ بها " فلما وضعت.. جاء بها، فأمر بها النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشبكت عليها ثيابها - يعني شدت- ورجمت» . ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من أتى من هذه القاذورات شيئا.. فليستتر بستر الله؛ فإن من أبدى لنا صفحته.. أقمنا عليه حد الله» و (الصفحة) : الاعتراف. ولم يفرق.(12/373)
[فرع: إقرار الأخرس بالزِّنَى]
إذا أقر الأخرس أنه زنَى.. وجب عليه الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد) .
دليلنا: أن من صح إقراره بغير الزِّنَى.. صح إقراره بالزِّنَى، كالناطق.
[فرع: أقر الرجل بالزِّنَى وأنكرت المرأة]
وإذا أقر رجل أنه زنَى بامرأة، وأنكرت.. وجب عليه الحد دونها.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه الحد) .
دليلنا: ما روى سهل بن سعد الساعدي: «أن رجلا اعترف أنه زنَى بامرأة، وجحدت المرأة، فحد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل» . ولأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجل السائل: «على ابنك جلد مائة وتغريب عام» فجلده النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغربه، وقال: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها» ، ولا يجوز أن يكون جلد الابن وغربه إلا بإقراره دون أبيه، وعلق رجم المرأة على اعترافها.
[فرع: رجوعه في الإقرار بالزِّنَى يقبل]
] : وإن أقر أنه زنَى، ثم رجع عن إقراره، وقال: لم أزن.. قبل رجوعه ولم(12/374)
يحد. وبه قال أبُو حَنِيفَة، وهو إحدَى الروايتين عن مالك.
وقال أبُو ثور: (لا يقبل رجوعه) . وهي الرواية الأخرى عن مالك.
دليلنا: ما رُوِي عن نعيم بن هزال أنه قال: «كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فوقع على جارية من الحي، فأخبر بذلك أبي، فقال له: بادر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن ينزل فيك قرآن، فأتى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف عنده بالزِّنَى فأعرض عنه، ثم اعترف فأعرض عنه، فقال له النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الآن أقررت أربعا، فبمن؟ " قال: بفلانة. فقال النَّبيّ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لعلك لمست؟ " قال: لا، قال: " لعلك قبلت؟ " قال: لا، قال: " لعلك نظرت؟ " قال: لا، قال: " جامعتها؟ " قال: نعم، فأمر برجمه فرجم، فلما أصابه حر الحجارة.. قال: ردوني إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن قومي غروني - يعني: هزالا حين قال له: بادر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك فقال: هلا رددتموه» .
ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لهزال: «هلا سترته بثوبك يا هزال»
فموضع الدليل: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعرض عنه ليرجع، فلما لم يرجع.. عرض له بالرجوع، ثم قال: «هلا رددتموه؟» وإنما قال ذلك لعله أن يرجع، فلو لم يقبل رجوعه.. لم يكن لذلك فائدة. والمستحب للإمام: أن يعرض للمقر بالزِّنَى بالرجوع؛ للخبر.
والله أعلم وبالله التوفيق(12/375)
[باب إقامة الحد]
إذا وجب حد الزِّنَى أو السرقة أو الشرب على حر.. لم يجز استيفاؤه إلا للإمام أو لمن فوض إليه الإمام ذلك؛ لأن الحدود في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي زمن الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لم تستوف إلا بإذنهم، ولأن استيفاءها يفتقر إلى نظر واجتهاد، فلا يصح استيفاؤها إلا من الإمام أو النائب عنه.
وأمَّا حد القذف: فيصح استيفاؤه للإمام، فإن تحاكم المتقاذفان إلى رجل من الرعية يصلح أن يكون حاكما.. فهل يصح حكمه فيه واستيفاؤه له؟ فيه وجهان، نذكرهما في موضعهما إن شاء الله.
[مسألة: حكم حضور الإمام والشهود موضع الرجم وابتداؤهم به]
ويجوز للإمام أن يحضر موضع الرجم، ولا يلزمه الحضور.
وحكي: أن أبا حَنِيفَة قال: (يلزمه الحضور) .
دليلنا: أنه رجم في زمن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعز، والغامدية، والجهنية، واليهوديان، ولم يرو: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضر رجم أحدهم) .
وإن ثبت الزِّنَى بالبينة.. لم يلزم البينة حضور الرجم، فإن حضروا.. لم يلزمهم البداية بالرجم. وكذلك إذا حضر الإمام.. لم يلزمه البداية بالرجم، وبه قال مالك.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يلزم البينة الحضور ويلزمهم البداية بالرجم، ثم الإمام، ثم الناس) . وإن ثبت الزِّنَى باعتراف الزاني.. لزم الإمام البداية بالرجم، ثم الناس.
دليلنا: أنه قد رجم جماعة في زمن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يرو: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ برجم(12/376)
أحدهم) . ولأنه قتل بحق الله تَعالَى، فلم يكن من شرطه أن يبتدئ به الإمام أو الشهود، كالقتل بالردة.
[فرع: استحباب حضور طائفة ليروا الحد ومقدار عددهم]
والمستحب للإمام إذا أراد أن يقيم الحد: أن يحضره طائفة من المسلمين يشهدون إقامته؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] [النور: 2] . واختلف الناس في عددهم:
فمذهبنا: أن الطائفة هاهنا أربعة.
وذهب ابن عبَّاس إلى: (أن الطائفة هاهنا واحد فما فوقه) . وذهب عطاء وأحمد إلى: (أن الطائفة هاهنا اثنان فما فوقهما) . وذهب الزهري إلى: أنها ثلاثة. وذهب ربيعة إلى: أنها خمسة. وذهب الحَسَن البَصرِي إلى: أنها هاهنا عشرة.
دليلنا: أن الأربعة هو العدد الذي يثبت به الزِّنَى، فوجب أن يكونوا هم العدد الذين يحضرون إقامة الحد.
قال الشيخُ أبُو حامد: قال الشافعي: (جعل الطائفة هاهنا أربعة فأكثر، وفي صلاة الخوف ثلاثة فأكثر، وقَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] [التوبة: 122] واحدا فأكثر) .
[مسألة: تخيير السيد في إقامة الحد على العبد]
] : وإن وجب الحد على مملوك.. فللمولى أن يجعل إقامة الحد على ذلك إلى الإمام أو إلى النائب عنه.
وإن أراد أن يقيم ذلك بنفسه، فإن كان حد الزِّنَى أو القذف أو الشرب وجب على المملوك بإقراره.. جاز للمولى إقامته. وبه قال جماعة من الصحابة، ومن التابعين: الحَسَن والنخعي وعلقمة والأسود. ومن الفقهاء: مالك وسفيان والأَوزَاعِي.(12/377)
وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه: (لا يجوز للمولى إقامة الحد على مملوكه، وإنما يجوز له تعزيره) .
دليلنا: ما روى علي بن أبي طالب: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أقيموا الحدود على من ملكت أيمانكم» . ورَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها.. فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت.. فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فتبين زناها.. فليبعها ولو بحبل من شعر» . ومعنى قوله: (لا يثرب عليها) أي: لا يوبخها ولا يعيرها. وقيل: معناه لا يبالغ في جلدها حتى تدمى. ورُوِي: أن رجلا جاء إلى ابن مَسعُودٍ، فقال له: إن أمة لي زنت؟ فقال: (اجلدها) ، فقال: الرجل: إنها لم تحصن؟ فقال عبد الله بن مَسعُودٍ: (إحصانها إسلامها) . ورُوِي: (أن أمة لأنس زنت، فأمر بعض أولاده أن يقيم عليها الحد) . ورُوِي: (أن غلاما لابن عمر سرق، فقطع يده) . و: (زنت أمة له، فجلدها ونفاها إلى فدك) . و: (سرقت أمة لعائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -(12/378)
فقطعتها) . ورَوَى الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أن فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت لها أمة فزنت فجلدتها) . ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فدل على: أنه إجماع لا خلاف فيه.
[فرع: تغريب المملوك وسماع المولى للبينة]
وهل للمولى أن يغرب مملوكه بالزِّنَى؟ إذا قلنا: يجب عليه التغريب.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس -: أنه ليس له أن يغربه، وإنما يغربه الإمام؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زنت أمة أحدكم.. فليجلدها الحد» ولم يذكر التغريب.
والثاني - وهو المذهب -: أن للمولى أن يغربه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» والتغريب من الحد. ولما رَوَيْنَاهُ عن ابن عمر.
وحكى الشيخ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال: يغربه من جلده، فإن جلده الإمام.. غربه. وإن جلده المولى.. غربه. وإن شهدت البينة على المملوك بما يوجب الحد.. فهل يملك المولى سماعها؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يملك ذلك؛ لأن البينة تحتاج إلى البحث عن العدالة، وذلك أمر يفتقر إلى الاجتهاد، فكان إلى الحاكم. فعلى هذا: يسمع الحاكم البينة، فإذا ثبت عدالتها وحكم بها الحاكم.. أقام المولى الحد.
والثاني: أن للمولى أن يسمع البينة بذلك، ويقيم بها الحد، وهو المذهب؛ لأن من جاز له إقامة الحد.. جاز له سماع البينة فيه، كالحاكم. وأمَّا البحث عن(12/379)
العدالة: فيمكن المولى ذلك كما يمكن الحاكم.
وهل للمولى أن يقيم الحد بعلمه؟ هو كالحاكم: هل له أن يقضي في الحدود بعلمه؟ على ما يأتي في القضاء، إن شاء الله تَعالَى.
[فرع: قطع السيد يد عبده في السرقة]
وهل للمولى أن يقطع مملوكه في السرقة؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبُو العباس: ليس له ذلك؛ لأن ما يقطع به السارق مختلف فيه، فافتقر إلى الحاكم، بخلاف الحد في الزِّنَى؛ فإنه مجمع على سببه، ولأن السيد يملك على عبده من جنس الجلد في الحد؛ وهو التَّعزِير، ولا يملك عليه من جنس القطع.
والثاني: يجوز له القطع، وهو المنصوص؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» ولم يفرق. ولـ " أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وأرضاهما، قطع عبدا له سرق ". و: (قطعت عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أمة لها سرقت) . ولا مخالف لهما في الصحابة. ولأن من ملك إقامة حد الزِّنَى.. ملك إقامة حد السرقة، كالحاكم. وإن ارتد المملوك.. فليس للسيد أن يقتله على قول أبي العباس، وله أن يقتله على المنصوص؛ لـ: (أن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قتلت أمة لها سحرتها) . والقتل بالسحر لا يكون إلا بالردة.
[فرع: شروط إقامة السيد الحد على مملوكه]
وأمَّا المولى الذي يملك إقامة الحد على مملوكه. فلا خلاف على المذهب: أن المولى إذا كان رجلا، بالغا، عاقلا، عالما، مسلما، حرا، عدلا.. فله إقامة الحد على مملوكه؛ لما ذكرناه. وهل للوصي أن يقيم الحد على رقيق الصغير؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] بناء على أن له تزويج أمته أو عبده؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي إسحاق: إن كان المولى يقيم الحد بنفسه.. فيحتاج أن يكون عدلا، عالما، قويا، له بطش. فإن وكل من يقيم له الحد.. فيحتاج أن يكون(12/380)
عدلا، عاقلا، عالما. وإن كان فاسقا أو جاهلا.. لم يكن له إقامة الحد؛ لأنها ولاية في إقامة الحد، فمنع الفسق والجهل منه، كولاية الحاكم.
والثاني: يجوز أن يكون فاسقا جاهلا، وهو المنصوص في القديم؛ لقوله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» . وهذا خطاب يعم الجميع، ولأنها ولاية بحق الملك، فلم يمنع الفسق والجهل منها، كولاية النكاح.
وهل للكافر أن يقيم الحد على مملوكه؟ فيه وجهان حكاهما الخراسانيون، وتعليلهما ما ذكرناه في الفاسق. وهل للمرأة أن تقيم الحد على مملوكها؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو المذهب: أن لها أن تقيم الحد؛ لما رُوِيَ: (أن فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلدت أمة لها زنت) ، و: (قطعت عائشة أمة لها سرقت) . ولا مخالف لهما في الصحابة.
والثاني - وهو قول أبي علي بن أبي هُرَيرَة: أنه ليس لها ذلك؛ لأنه ولاية على الغير، فلم تملكه المرأة، كولاية النكاح.
فعلى هذا: فيمن يقيم الحد على مملوكها وجهان:
أحدهما: ولي المرأة، كما يزوج أمتها.
والثاني: لا يملكه إلا الحاكم؛ لأن ذلك يستفاد بالولاية العامة وبولاية الملك، فإذا بطلت ولاية الملك في ذلك.. بقيت الولاية العامة في ذلك؛ وهي ولاية الحاكم.
وإن كان المولى مكاتبا.. فهل له أن يقيم الحد على مملوكه؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه ليس من أهل الولاية.
والثاني: له ذلك؛ لأنه يستفاد بالملك، فملكه المولى، كسائر التصرفات.(12/381)
وإن كان عبد بين اثنين شريكين.. لم يجز لأحدهما أن يقيم عليه الحد بغير إذن شريكه؛ لأنه ليس له أن يحكم في ملك شريكه.
[مسألة: هيئة الجلد وصفته]
إذا كان المحدود بكرا.. نظرت فيه: فإن كان صحيحا قويا، والزمان معتدل الحر والبرد.. فإنه يجلد ولا يجرد ولا يقيد. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجرد عن الثياب) .
دليلنا: ما رُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه قال: (ليس في هذه الأمة مد، ولا تجريد، ولا غل، ولا صفد) . ولا مخالف له في الصحابة.
ويفرق الضرب على أعضائه ويتوقى الوجه والمذاكير؛ لما رَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ضرب أحدكم.. فليتوق الوجه» . ورُوِي: أن عليا كرم الله وجهه حد رجلا، فقال للجلاد: (اضربه وأعط كل عضو منه حقه، واتق وجهه ومذاكيره) . ورُوِي ذلك عن ابن عمر. ولأن الوجه يتبين فيه(12/382)
الشين، والمذاكير مقتل. وهل يتوقى الرأس؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول الماسرجسي واختيار ابن الصبَّاغ: أنه يتوقاه؛ لأنه مقتل، ويخاف منه العمى وزوال العقل. وكذلك الخاصرة مثله.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا: أنه لا يتوقى الرأس؛ لما رُوِي عن أبي بكر الصدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال للجلاد: (اضرب الرأس؛ فإن الشيطان فيه) ، ولأنه يكون مغطى في العادة فلا يخاف تشويهه، ولأن ضربه بالسوط لا يخاف منه الموت.
ويضرب بسوط بين سوطين، لا جديد فيجرح، ولا خلق فلا يؤلم؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد أن يجلد رجلا، فأتي بسوط خلق، فقال: " فوق هذا " فأتي بسوط جديد، فقال: " بين هذين " فأتي بسوط قد لان فضرب به» وكذلك رُوِي عن علي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.(12/383)
ويضرب ضربا بين ضربين، فلا يرفع الجلاد يده حتى يرى بياض إبطه، ولا يضعها وضعا يسيرا، ولكن يرفع ذراعه ويضرب؛ لما رُوِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (سوط بين سوطين، وضرب بين ضربين) . وعن عمر وعلي وابن مَسعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أنهم قالوا للجلاد: (لا ترفع يدك حتى يرى بياض إبطك) . ولأنه إذا رفع يده.. وقع الضرب شديدا، وربما جرحه، وإذا وضع يده وضعا يسيرا.. لم يحصل به الألم.
ويضرب الرجل قائما، وتترك له يده يتقي بها، ولا يقيد ولا يمد ولا يجرد عن ثيابه، بل يترك عليه قميص أو قميصان، ولا تترك عليه جبة محشوة ولا فرو؛ لأنه يمنع من وصول الألم إليه. وتجلد المرأة جالسة.
وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: تجلد قائمة، كالرجل.
دليلنا: ما رُوِي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (تضرب المرأة جالسة) ، ولأن ذلك أستر لها.
وتشد عليها امرأة ثيابها في حال الضرب؛ لئلا ينكشف بدنها، وتضرب ضربا بين ضربين، لما رَوَيْنَاهُ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ورُوِي: أن جارية أقرت عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالزِّنَى، فقال: (أذهبت الجارية حسنها وجمالها) . ثم قال لرجلين: (اضرباها ولا تخرقا لها جلدا) .(12/384)
وإن كان البكر مريضا أو مقطوعا أو محدودا.. أخر جلده حتى يبرأ من مرضه أو قطعه ويسكن ألم حده الأول، وكذلك: إن كان الزمان شديد الحر أو البرد.. أخر جلده إلى أن يعتدل الزمان؛ لأن المقصود من جلده النَكَال والردع لا القتل، فلو جلدناه في هذه الأحوال.. لم يؤمن أن يموت من ذلك.
وإن كان نضو الخلق لا من علة لكنه نحيف الخلقة، أو كان به مرض لا يرجى زواله كالمسلول والزمن.. فإنه لا يحد حد الأقوياء، ولكن يضرب بإثكال النخل؛ وهو قضبانه. فيجمع مائة شمراخ، فيضرب بها دفعة واحدة، أو يضرب بأطراف الثياب والنعال. وقال مالك: (لا يضرب إلا بالسوط مائة مفرقة، فإن لم يمكن.. أخر جلده) . وقال أبُو حَنِيفَة: (يجمع مائة سوط، ويضرب بها دفعة واحدة) .
دليلنا: ما رَوَى أبُو داود بإسناده، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، «أنه أخبره بعض أصحاب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى ضني، فعاد جلده على عظمه، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش إليها، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه.. أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: ما رأينا أحدا من الناس نزل به من الضر مثل الذي هو به، فلو حملناه إليك.. لتفسخت عظامه، ولم يبق عليه إلا جلد على عظم، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذوا مائة شمراخ واضربوه بها ضربة واحدة» وهذا نص في موضع(12/385)
الخلاف. ولأنه لا يمكن ضربه بالسوط؛ لأنه يؤدي إلى تلفه، ولا يمكن تركه؛ لأنه يؤدي إلى تعطيل الحد. فإن سرق نضو الخلق أو المريض الذي لا يرجى زوال مرضه.. فهل يقطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقطع؛ لأنه ليس المقصود من الحد القتل، كما أنه ليس المقصود من الجلد القتل، فلما لم يجز جلده بالسوط.. لم يجز قطعه.
والثاني: يقطع، وهو المذهب؛ لأنه لا يمكننا أن نقطعه قطعا لا يخاف منه؛ إذ كل القطع يخاف منه السراية، فتركه يؤدي إلى إسقاط الحد، بخلاف الجلد.
[فرع: وقت الحد على الحامل وماذا لو مات المحدود؟]
وإن وجب الجلد على امرأة وهي حبلى.. لم تجلد حتى تضع؛ لأن جلدها ربما كان سببا لتلف ولدها، وربما كان سببا لتلفها؛ لأنها تضعف بالحمل. وكذلك: إذا ولدت.. لم يجز حدها ما دامت نفساء؛ لأن خروج الدم منها يضعفها، فهي كالمريضة.(12/386)
إذا ثبت هذا: فكل موضع قلنا: (يجوز فيه إقامة الحد) فأقامه الإمام فمات المحدود.. لم يجب ضمانه؛ لأن الحق قتله.
وكل موضع قلنا: (لا يجوز إقامة الحد فيه) فأقامه الإمام فيه، فإن كانت المرأة حاملا ثم تلف حملها.. وجب على الإمام ضمانه؛ لأنه متعد بذلك. فإن لم يعلم الإمام بكونها حاملا.. فهل يجب ضمانه في ماله أو في بيت المال؟ فيه قولان مَضَى توجيههما. وإن علم الإمام بكونها حاملا.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يجب ضمانه في ماله قولا واحدا؛ لأن بيت المال إنما يحمل خطأ الإمام، وهذا عمد إليه.
و [الثاني] : منهم من قال: فيه قولان، وهو الأصح؛ لأن إتلاف الجنين لا يتأتى فيه العمد المحض، وإنما يتلف بعمد الخطأ.
وإن تلف المحدود.. فقد نص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أن الإمام إذا أقام الحد على رجل في شدة حر أو برد، فمات المحدود.. أنه لا يجب ضمانه) .
ونص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على: (أنه إذا أمر الخاتن، فختنه في شدة حر أو برد، فمات المختون.. وجب ضمانه) .
فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وخرجهما على قولين:
أحدهما: لا يجب عليه ضمانه؛ لأنه تلف بما هو مستحق عليه.
والثاني: يجب عليه ضمانه؛ لأنه تعدى بذلك.
ومنهم من قال لا يجب عليه ضمان المحدود؛ لأن الحد منصوص عليه، ويجب عليه ضمان المختون؛ لأن الختان مجتهد فيه. فإذا قلنا: يجب الضمان.. فكم يجب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب جميع الدية؛ لأنه مفرط.
والثاني: لا يجب عليه نصف الدية؛ لأنه مات من واجب ومحظور.
وفي محل الوجوب قولان:(12/387)
أحدهما: في ماله.
والثاني: في بيت المال.
[مسألة: تغريب البكر]
ويغرب البكر الحر سنة مع الجلد، وفي العبد قولان، وقد مَضَى الدليل عليهم.
ولا تجوز الزيادة على السنة للخبر. وأقل مسافة التغريب ما تقصر إليه الصلاة.
وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة: يكفي التغريب إلى دون مسافة القصر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وتغريب عام» . ولم يفرق. والمذهب الأول؛ لأن ما دون مسافة القصر في حكم بلد الإقامة.
وإن رأى الإمام أن يغرب إلى أكثر من مسافة القصر.. جاز؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، غرب من المدينة إلى الشام) ، و: (غرب عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، منها إلى مصر) .
وإن كان الزاني غريبا في البلد الذي زنَى فيه.. لم يقنع منه بالإقامة في تلك البلد، بل يخرج منها إلى بلد تقصر إليه الصلاة من البلد الذي زنَى فيه. فإن أراد أن يرجع إلى وطنه وبينهما مسافة القصر أو أكثر.. منع من ذلك؛ لأن المقصود بالتغريب تعذيبه، وذلك لا يحصل برجوعه إلى وطنه. وهل يجزئ التغريب سنة متفرقة؟
يحتمل أن يكون على وجهين، كتعريف اللقطة سنة متفرقة.(12/388)
فإذا انقضت السنة.. كان بالخيار: بين أن يرجع إلى وطنه، وبين أن لا يرجع؛ لأن الواجب قد حصل.
[فرع: تغريب المرأة]
وهل تغرب المرأة وحدها؟ فيه وجهان، حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] :
أحدهما: تغرب وحدها؛ لأنه سفر واجب، فهو كالهجرة.
والثاني: لا تغرب وحدها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسافر المرأة إلا ومعها زوجها، أو ذو رحم محرم لها» .
فإذا قلنا بهذا: فهل يجب على ذي رحمها أن يسافر معها؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أكثر أصحابنا: لا يلزمه السفر معها؛ لأن السفر وجب عليها، فلم يجب على ذي رحمها، كما قلنا في سفرها للحج.
و [الثاني] : قال أبُو العباس: يلزمه الخروج معها، ولا يمتنع أن يجب على الإنسان قطع مسافة لأجل الغير، كما لو أمر الإمام قوما في الغزو وكان على طريقهم عدو يخافونه.. فإن على الإمام أن يبعث معهم جيشا ليجوزوا بهم على ذلك العدو.
والأول أصح. فعلى هذا: أن تطوع ذو رحمها بالخروج معها، أو لم يتطوع ولكن وجدت امرأة ثقة فتطوعت بالخروج معها وكان الطريق آمنا.. لزمها السفر بذلك.
وإن لم يتطوع ذو رحمها بالخروج، ولا وجدت امرأة ثقة تطوع بالخروج معها في طريق مأمون.. فإنه يستأجر ذو رحمها أو امرأة ثقة لتخرج معها. ومن أين يستأجر؟ فيه وجهان:
أحدهما: من مالها؛ لأن ذلك واجب عليها، فإن لم يكن لها مال.. فمن بيت المال؛ لأن في ذلك مصلحة.
والثاني: يستأجر من بيت المال؛ لأنه حق الله تَعالَى فكانت مؤنته من بيت المال،(12/389)
فإن لم يكن فيه شيء، أو كان ولكنه يحتاج إليه لما هو أهم من ذلك.. كان من مالها؛ لأن ذلك واجب عليها.
[مسألة: يعتبر حال الزاني لإقامة الحد]
وإن كان الزاني ثيبا.. نظر فيه: فإن كان صحيحا قويا، والزمان معتدل الحر والبرد.. رجم. وإن كان مريضا، أو كان في شدة حر أو برد.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال ابن الصبَّاغ: إن ثبت زناه بالبينة.. رجم. وإن ثبت بإقراره.. ففيه وجهان: أحدهما: يؤخر رجمه إلى أن يبرأ من مرضه ويعتدل الزمان؛ لأنه لا يؤمن أن يرجع عن إقراره بعد أن رجم بعض الرجم، فيؤدي ذلك مع المرض الشديد أو مع شدة الحر أو البرد إلى إتلاف نفسه.
والثاني: يرجم ولا يؤخر؛ لأن الزِّنَى قد ثبت عليه ووجب رجمه، فلم يؤخر كما لو ثبت زناه بالبينة. وما ذكره الأول: يبطل بالزِّنَى إذا ثبت بالبينة؛ فإنه يجوز أن يرجع الشهود بهد أن رجم بعض الرجم، فيسقط عنه الرجم، ومع هذا لا يؤخر الرجم.
وقال الشيخُ أبُو إسحاق: هل يؤخر الرجم مع شدة المرض أو شدة الحر أو البرد؟
فيه وجهان، ولم يفرق بين أن يثبت الزنى بالبينة أو بالإقرار، إلا أن تعليله يدل على أنه أراد إذا ثبت الزِّنَى بالإقرار؛ لأنه قال: يؤخر؛ لأنه ربما يرجع عن إقراره في حال الرجم.
وقال الشيخُ أبُو حامد: إن كان مريضا.. فإن الرجم يؤخر بكل حال، سواء كان مما يرجى زواله أو مما لا يرجى زواله. وإن كان في شدة الحر أو البرد.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يرجم في الحال.(12/390)
الثاني: إن ثبت بالإقرار.. لم يرجم، وإن ثبت بالبينة.. رجم، ودليلهما ما مَضَى.
الثالث: إن ثبت زناه بالبينة.. أخر رجمه، وإن ثبت بالإقرار.. رجم، لأنه هتك نفسه بإقراره. والأول أصح.
[فرع: حفر للمرجومة دون المرجوم]
فرع: [يحفر للمرجومة دون المرجوم] :
وإذا أريد رجم الزاني.. نظرت: فإن كان رجلا.. لم يحفر له، سواء ثبت زناه بالبينة أو بالإقرار؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحفر لماعز بن مالك» . فيدور الناس حوله ويرجمونه. وإن كان المرجوم امرأة.. فهل يحفر لها؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخُ أبُو حامد: إن ثبت زناها بالبينة.. حفر لها؛ لأنها عورة. وإن ثبت زناها بإقرارها.. لم يحفر لها؛ لأنها ربما هربت فيكون رجوعا، ولا يمكنها ذلك.
وقال القاضي أبُو حامد: إن ثبت زناها بالبينة.. فهو بالخيار: بين أن يحفر لها وبين أن لا يحفر لها. وإن ثبت زناها بإقرارها.. لم يحفر لها.
وقال القاضي أبُو الطيب: هو بالخيار: بين أن يحفر لها أو لا يحفر لها، وسواء ثبت زناها بالبينة أو بالإقرار؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفر للغامدية إلى ثدييها» ، و: (لم يحفر للجهنية) . وكان ثبت زناهما بالإقرار.
وقال الشيخُ أبُو إسحاق: يحفر للمرأة، ولم يفرق بين أن يثبت زناها بالبينة أو بالإقرار؛ لأن ذلك أستر لها.
[فرع: إقامة الرجم على الحبلى]
وإن وجب الرجم على امرأة حبلى.. لم ترجم حتى تضع؛ لما ذكرناه في الغامدية والجهنية.(12/391)
ورُوِي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، أراد أن يرجم امرأة حاملا، فقال له معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن كان لك سبيل عليها.. فليس لك سبيل على ما في بطنها فتركها) .
فإن وجد للولد من ترضعه.. رجمت بعد ما تسقيه الأم اللِّبَأ، لأنه لا يعيش إلا بذلك. وإن لم توجد له من ترضعه.. لم ترجم حتى تفطمه؛ لما ذكرناه في الخبر في الغامدية.
[فرع: هرب الزاني من الرجم]
وإن هرب المرجوم في حال الرجم.. نظرت: فإن ثبت زناه بالبينة.. اتبع ورجم إلى أن يموت؛ لأنه لا سبيل إلى تركه.
وإن ثبت زناه بإقراره.. لم يتبع؛ لما رُوِيَ: «أن ماعز بن مالك لما وجد ألم الحجارة.. فر من بين أيديهم، فتبعوه ورجموه حتى مات، ثم ذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا خليتموه حين سعى من بين أيديكم» . ولأنه لو رجع عن إقراره.. لقبل رجوعه، فكان الظاهر من حاله: أنه لما هرب منهم.. أنه رجع عن إقراره.
فإن هرب ولم يصرح بالرجوع، فتبعوه ورجموه حتى قتلوه.. لم يجب عليهم ضمانه؛ لـ: (أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوجب عليهم ضمان ماعز بن مالك) . ولأن هربه يحتمل الرجوع وغيره، فلم يجب عليهم الضمان بالشك.(12/392)
[فرع: يغسل المرجوم ويصَلَّى عليه إن كان مسلماً]
ويغسل المرجوم ويصَلَّى عليه إن كان مسلما.
وقال مالك: (لا يصَلَّى عليه) .
دليلنا: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالغامدية فرجمت، وصَلَّى عليها، ودفنت» . و: «أمرهم أن يصلوا على الجهنية) ، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: نصلي عليها وقد زنت؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة.. لوسعتهم، وهل وجدت شيئا أفضل من أن جادت بنفسها لله تَعالَى!» .
[فرع: لا يقام الحد في المسجد]
] : ويكره إقامة الحد في المسجد. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة.
وقال ابن أبي ليلى: لا يكره.
دليلنا: ما رُوِيَ «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود» . فإن أقيم الحد في المسجد.. سقط به الفرض؛ لأن النهي يعود إلى المسجد لا إلى الحد، فسقط به الفرض، كالصلاة في الدار المغصوبة.
وبالله التوفيق(12/393)
[باب حد القذف]
القذف محرم، وهو من الكبائر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية (النور: 4)
فأوجب فيه الحد، وجعله مانعاً من قبول الشهادة لا للتهمة، وسمى القاذف فاسقاً، وأثبت منه التوبة، وكل واحد من هذه الأشياء يدل على تحريمه.
ولقوله تَعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} [النور: 23] الآية (النور: 23)
ورَوَى حذيفة بن اليمان: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قذف محصنة يبطل عمل مائة سنة» .
«ورَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أقام الصلوات الخمس، واجتنب الكبائر السبع.. نودي يوم القيامة ليدخل من أي أبواب الجنة شاء" فقال رجل لابن عمر: أحفظتهن عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: نعم: "الشرك بالله تَعالَى، وعقوق(12/394)
الوالدين، والقتل، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والزنا» وقيل: أكل الربا، والزنا أشهر.
ورَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله. وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله تَعالَى، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات» .
وأجمعت الأمة: على تحريم قذف المحصنة والمحصن.
[مسألة: يعتبر وجوب الحد بالمقذوف ومقداره بالقاذف]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (وإذا قذف البالغ حراً بالغاً مسلماً، أو حرة بالغة مسلمة.. حد ثمانين) . وجملة ذلك: أن القاذف يجب عليه الحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية (النور: 4)
وروت عمرة «عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: (لما أنزل الله سبحانه عذري.. صعد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر فذكر الله تَعالَى، ثم تلا - تعني: آيات من كتاب الله تَعالَى - ثم نزل فأمر بأن يجلد الرجلان والمرأة حدودهم» تعني: حسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش.(12/395)
إذا ثبت هذا: فلا يجب حد القذف إلا على مكلف. فإن كان القاذف صغيراً أو مجنوناً.. لم يجب عليه الحد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» ، ولأن الصغير والمجنون لا حكم لقولهما، فلا يجب به الحد.
ويجب الحد بقذف المحصنة والمحصن، فإن قذف من ليس بمحصن.. لم يجب على القاذف الحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية (النور: 4) فاشترط الإحصان في المقذوفة، فدلَّ على: أنه لا يجب الحد بقذف من ليس بمحصن.
وللإحصان في حق المقذوف خمس شرائط: البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والعفة عن الزِّنَى.(12/396)
فإن قذف صغيراً أو مجنوناً.. لم يجب عليه حد القذف، لأن ما رماهما به من الزِّنَى لو تحقق.. لم يجب عليهما به حد، فلم يجب على قاذفهما به حد.
وإن قذف مملوكاً.. لم يجب عليه به حد، لأن الرق يمنع من كمال حد الزِّنَى، فمنع من وجوب الحد على قاذفه. وإن قذف كافراً.. لم يجب عليه الحد، لما رَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أشرك بالله.. فليس بمحصن»
وإن قذف من عرف زناه ببينة أو بإقراره.. لم يجب عليه الحد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية (النور: 4) فلما وجب الحد على القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء على زنَى المقذوف.. فدلَّ على: أنه إذا أتى بأربعة شهداء على زناه أنه لا حد عليه. وقسنا إقرار المقذوف بالزِّنَى على ثبوت زناه بالبينة.
إذا تقرر هذا: فإن وجوب الحد يعتبر بالمقذوف. وأمَّا كمال الحد ونقصانه.. فيعتبر بالقاذف، فإن كان القاذف حراً.. وجب عليه ثمانون جلدة للآية، وإن كان مملوكاً.. لم يجب عليه إلا أربعون جلدة. وبه قال أبُو بكر الصدِّيق وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأرضاهم، وأكثر أهل العلم.
وقال عمر بن عبد العزيز: يجب على المملوك ثمانون جلدة. وبه قال الزهريُّ وداود، وحكى ذلك عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
دليلنا: ما رُوِيَ عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: أنه قال: أدركت أبا بكر وعمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف إلا(12/397)
أربعين سوطاً، وما رأيت أحداً ضرب المملوك المفتري على الحر ثمانين جلدة قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فدلَّ على: أنه إجماع. ولأنه حد يتبعض، فكان المملوك فيه على النصف من الحر، كالجلد في الزِّنَى. وفيه احتراز من القطع في السرقة.
[فرع: المقذوف أو القاذف إذا كان مبعضاً]
فإن كان المقذوف بعضه حر وبعضه مملوك.. لم يجد الحد على قاذفه. وكذلك: إذا كان القاذف بعضه حر وبعضه مملوك.. لم يجب عليه حد الحر، وإنما يجب عليه حد المملوك، لأنه ناقص بالرق، ولهذا لا تثبت له الولاية ولا تقبل شهادته ولا يقتل الحر به، فكان كالمملوك في ذلك.
[فرع: قذف امرأة أو رجل وطئ وطئاً حراماً]
ً) : وإن قذف رجل رجلاً وطئ وطئاً حراماً، أو امرأة وطئت وطئاً حراماً، والوطء الحرام على أربعة أضرب:
ضرب: حرام محض، وهو: الزِّنَى. وكذلك: إذا وطئ أمه أو أخته بعقد النكاح وهو عالم بتحريمه، أو وطئ المرتهن الجارية المرهونة وهو عالم بتحريمه، أو وطئ جارية والده مع العلم بتحريمه.. أو وطئ الجارية التي أصدقها لزوجته مع العلم بتحريمه.. فهذا الوطء يجب به الحد على الواطئ ويسقط به إحصانه، فلا يجب الحد على قاذفه.
والضرب الثاني: وهو وطء حرام لعارض، وهو: إذا وطئ زوجته الحائض أو(12/398)
النفساء أو الصائمة أو المحرمة.. فهذا لا يجب عليه الحد بهذا الوطء، ولا يسقط به إحصانه، فيجب الحد على قاذفه.
والضرب الثالث: وطء حرام بكل حال إلا أنه في ملك، كمن وطئ أمه أو أخته في ملكه، فإن قلنا: يجب عليه الحد بوطئها.. سقط إحصانه بذلك، فلا يجب الحد على قاذفه. وإن قلنا: لا يجب عليه الحد.. لم يسقط إحصانه بذلك، فيجب الحد على قاذفه.
والضرب الرابع: وطء حرام في غير ملك إلا أنه مختلف فيه، كمن وطئ امرأة في نكاح بلا ولي ولا شهود، أو في نكاح الشغار، أو نكاح المتعة، أو وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره.. فهذا الوطء لا يجب به الحد على الواطئ، ولكن هل يسقط به إحصانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط به إحصانه، فلا يجب الحد على قاذفه، لأنه وطء محرم في غير ملك، فهو كالزنا.
والثاني: لا يسقط به إحصانه ويجب الحد على قاذفه، لأنه وطء لا يجب به الحد على الواطئ، فهو كما لو وطئ امرأته الحائض. وكذلك: إذا وطئ امرأة أجنبية ظنها زوجته.. فهو كما لو وطئ في النكاح بلا ولي.
[فرع: قذف الوالد ولده]
وإن قذف الوالد ولده وإن سفل.. لم يجب عليه الحد. وبه قال أبُو حَنِيفَة وأحمد وإسحاق - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -.
وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يكره له أن يحده، فإن حده.. جاز)
وقال أبُو ثور وابن المنذر: (يجب له الحد عليه) .(12/399)
دليلنا: أن الحد يسقط بالشبهة، وما يسقط بالشبهة.. لا يثبت للولد على الوالد، كالقصاص.
وإن قذف أم ابنه وكانت محصنة أجنبية منه.. وجب لها عليه حد القذف. فإن ماتت قبل أن تستوفيه، ولا وارث لها غير ابنه منها.. سقط الحد عن أبيه، لأنه إذا لم يثبت له الحد على أبيه ابتداء.. لم يثبت له عليه إرثا، كالقصاص. وإن كان لها وارث مع ابن القاذف.. كان له أن يستوفي جميع الحد، لأن حد القذف يثبت لبعض الورثة.
[فرع: ما يصنعه الحاكم إذا رفع إليه القاذف]
وإذا رفع القاذف إلى الحاكم، فإن علم أن المقذوف غير محصن.. لم يكن له أن يحد القاذف. وإن أقر القاذف بإحصان المقذوف، أو قامت به بينة.. حد القاذف.
وإن جهل الحاكم حال المقذوف.. فهل يجب عليه السؤال عن حاله؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه السؤال عن إحصانه، لأنه شرط في الحكم بالحد على القاذف، فوجب على الحاكم السؤال عنه، كعدالة الشاهد.
والثاني: لا يجب عليه، لأن البلوغ والعقل يعلمان بالنظر إليه، والظاهر من حاله الإسلام والحرية والعفة عن الزِّنَى.
وإن أقام القاذف بينة على زنَى المقذوف.. لم يجب الحد على القاذف. فإن طولب القاذف بالحد، فسأل أن ينظر إلى أن يقيم البينة على زنَى المقذوف.. أنظر ثلاثة أيام، لأن ذلك قريب.
وإن قال: القاذف للمقذوف: احلف أنك ما زنيت.. لم يحد القاذف حتى يحلف المقذوف أنه ما زنَى، لأن اليمين تعرض عليه ليخاف فيقر. ولو خاف المقذوف من(12/400)
اليمين فأقر أنه زنَى.. لم يجب الحد على القاذف. فإن حلف المقذوف أنه ما زنَى.. وجب الحد على القاذف. وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على القاذف، فإن حلف أن المقذوف زنَى.. سقط الحد عن القاذف، لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كإقرار المدعى عليه في أحد القوانين، أو كبينة يقيمها المدعي، ولو ثبت زنَى المقذوف بإقراره أو بالبينة.. لم يجب الحد على القاذف، وكذلك هذا مثله. ولا يجب حد الزِّنَى على المقذوف بيمين المدعي، لأن يمينه لإسقاط حد القذف، وحد الزِّنَى حق لله تَعالَى، فلا يثبت بيمين القاذف.
[فرع: سقوط حق المحصن من حد القاذف بزنا ونحوه]
وإن قذف رجل رجلاً محصناً أو امرأة محصنة، فلم يحد القاذف حتى زنَى المقذوف أو وطئ وطئاً حراماً سقط به إحصانه.. سقط حد القذف عن القاذف. وبه قال مالك وأبو حَنِيفَة.
وقال المزني وأبو ثور) لا يسقط عنه حد القذف، لأن الاعتبار بالحدود في حال الوجوب لا فيما يؤول إليه الحال، كما لو قذف مسلماً وقبل أن يقام عليه الحد ارتد المقذوف، وكما لو زنَى عبد فقبل أن يقام عليه الحد عتق، أو زنَى بكر فقبل أن يقام عليه الحد صار ثيباً) .
وهذا خطأ، لأن العفة عن الزِّنَى لا يعلمها الحاكم من المقذوف إلا بغلبة الظن.
فإذا زنَى المقذوف قبل إقامة الحد على القاذف.. احتمل أن يكون الزِّنَى حادثاً بعد القذف، فلم يسقط إحصانه حال القذف، واحتمل أن يكون هذا الزِّنَى كاشفاً لزنا كان يستتر به، لأن العادة أن الإنسان يظهر الطاعات ويستر المعاصي، فإذا أكثر من المعاصي.. أظهرها الله عليه، ولهذا رُوِيَ: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كان يجلد رجلاً في الزِّنَى فقال: والله يا أمير المؤمنين ما زنيت قبل هذا. فقال عمر (كذبت، إن الله تَعالَى أكرم من أن يهتك عبده في أول دفعة) . وإذا كان الأمر كذلك.. صار إحصانه(12/401)
مشكوكاً فيه حال القذف، وذلك شبهة، فيسقط به الحد عن القاذف.
وأمَّا استدلالهما بردة المقذوف قبل إقامة الحد.. فإن فيها وجهين:
أحدهما: يسقط إحصانه، كالزنا
والثاني: لا يسقط إحصانه.
والفرق بينها وبين الزِّنَى: أن الردة طريقها الديانات، ولم تجر العادة أن الإنسان يخفي دينه بل يظهره، ولهذا يبذل أهل الكتاب الجزية لإظهار دينهم، فلم تكن ردته قادحة في إسلامه المتقدم قبل القذف، وليس كذلك الزِّنَى، فإن العادة كتمانه، فإذا ظهر.. دل على تقدم مثله.
وأمَّا استدلالهما بحرية الزاني وثيوبته قبل إقامة الحد عليه: فلا يشبه مسألتنا، لأن هذا تغير حال من يقام عليه الحد، وفي مسألتنا: لو تغير حال من يقام عليه الحد.. لم يتغير الحد، وإنما كلامنا فيه إذا تغير حال من يقام عليه الحد لأجله.
[مسألة: القذف بلفظ صريح يوجب الحد وماذا لو كان غير صريح؟]
إذا قذف غيره بلفظ صريح، كقوله: زنيت، أو أنت زان، أو يا زاني، أو ما أشبه ذلك.. وجب عليه حد القذف، سواء نوى به القذف أو لم ينو، لأنه لا يتحمل غير القذف.
وإن قذفه بلفظ ليس بصريح في القذف ولكنه كناية يحتمل الزِّنَى وغيره، بأن يقول لغيره: يا فاجر، يا خبيث، يا حلال يا ابن الحلال. أو يقول: أما أنا فلست بزان، أو لم تحمل بي أمي من زنَى، أو لم تزن بي أمي، وما أشبه ذلك، فإن أقر أنه نوى به القذف.. وجب عليه الحد، لأن ما لا يعتبر فيه الشهادة.. كانت الكناية فيه مع النية بمنزله الصريح، كالطلاق والعتاق. وفيه احتراز من النكاح، فإنه تعتبر فيه الشهادة(12/402)
ويصح بلفظ الإنكاح والتزويج، ولا يصح بالكناية عنهما وهو ما يؤدي معناهما.
وإن لم ينوِ به القذف.. فإنه لا يكون قذفاً، سواء قال: ذلك في حال الرضا أو في حال الغضب والخصومة. وبه قال الثوريُّ وأبو حَنِيفَة وأصحابه.
وقال مالك وأحمد وإسحاق: (إن قال: ذلك في حال الرضا.. لم يكن قذفاً من غير نية، وإن قال: ذلك في حال الغضب والخصومة.. كان قذفاً من غير نية) .
دليلنا: ما رُوِيَ: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس؟ فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "طلقها" قال: أنِّي أحبها. فقال: "أمسكها» . فعرض الرجل بقذف امرأته بالزِّنَى، ولم يجعله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاذفاً بالتعريض.
ورُوِي: «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن امرأتي أتت بولد أسود ونحن أبيضان؟ فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال: "وما ألوانها؟ " قال: حمر، قال"هل فيها من أورق؟ " قال: نعم، إن فيها لورقاً، قال: "فأنى ترى ذلك؟ " فقال لعل عرقاً نزعها. فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وهذا لعل عرقاً نزعه» فعرض الرجل بقذف امرأته بالزِّنَى، ولم يجعله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاذفاً لها بظاهر التعريض".
ولأن التعريض بالقذف لا يكون قذفاً، كما أن التعريض بالسب لا يكون سباً، بدليل ما رُوِيَ: أن المشركين كانوا يعرضون بسب النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقولون:
مذمما عصينا ... وأمره أبينا
فكنوا عن محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بـ: (مذمم) فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أما ترون كيف عصمني الله منهم؟ وإنهم ليسبون مذمماً وإنما أنا محمد»(12/403)
ولأنه يحتمل القذف وغيره، فلم يجعل قذفاً بظاهره، كما لو قاله حال الرضا.
[فرع: ألفاظ لا تعتبر قذفاً]
وإن قال لرجل: يا قواد، يا مؤاجر.. فهو كناية في القذف.
وإن قال له: بارك الله عليك، وما أحسن وجهك، وما أشبه ذلك.. لم يكن قذفاً وإن نوى به القذف بالزِّنَى، لأنه لا يحتمل القذف، فلو أوقعنا فيه القذف.. لوقع القذف بالنية من غير لفظ، وهذا لا يصح.
[فرع: الرمي باللواطة]
وإن قال رجل أو امرأة: لطت، أو لاط بك فلان باختيارك.. فهو قذف، لأنه قذفه بزنا يوجب الحد، فهو كما لو قذفه بالزِّنَى في الفرج.
وإن قال لرجل: يا لوطي.. فقال: القاضي أبُو الطيب والشيخ أبُو إسحاق: يرجع إليه: فإن قال: أردت أنه على دين قوم لوط.. لم يجب عليه الحد، لأنه يحتمل ذلك. وإن قال: أردت أنه يعمل عمل قوم لوط.. وجب عليه الحد.
قال ابن الصبَّاغ: وهذا فيه نظر؛ لأن هذا مستعمل في الرمي بالفاحشة، فينبغي أن لا يقبل قوله: (إنِّي أردت أنه عليّ دينهم) ، بل يكون قذفا، وبه قال مالك.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يكون قذفا بحال) وبناه على أصله: أن اللواط لا يوجب الحد، فكذلك القذف به، وقد مَضَى الدليل على: أنه يوجب الحد.
[مسألة: قوله لأنثى يا زانية فقالت له يا زان أو بك زنيت]
وإن قال رجل لامرأته أو غيرها: يا زانية، فقالت له: يا زان.. كان كل واحد منهما قاذفاً لصاحبه.(12/404)
وقال أبُو حَنِيفَة: (يصير قصاصاً، فلا يجب على واحد منهما حد)
دليلنا: أن القصاص لا يجب في القذف، فلم تقع به المقاصة.
فإن قال رجل لامرأته: يا زانية فأجابته فقالت: زنيت بك، أو: بك زنيت.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر القول، فيجب عليه الحد. فإن أقام البينة أو لاعنها، وإلا.. حد لها.
وأمَّا جوابها له بقولها: بك زنيت أو زنيت بك.. فلا يكون قذفاً له بظاهره من غير نية، لأنه يحتمل القذف له، ويحتمل الإقرار على نفسها بالزِّنَى دونه، ويحتمل الجحود والإنكار عن الزِّنَى. فاحتمال القذف له أنها أرادت أنك زنيت بي قبل النكاح، فيكون ذلك قذفاً له واعترافا على نفسها بالزِّنَى. واحتمال الاعتراف على نفسها بالزِّنَى دونه: أنها أرادت أنك وطئتني قبل النكاح وأنت مجنون، أو استدخلت ذكرك وأنت نائم قبل النكاح، أو وطئتني قبل النكاح وأنت تظن أنِّي زوجتك وقد علمت أنك أجنبي. واحتمال جحودها عن الزِّنَى من وجهين:
أحدهما: أنها أرادت لم يصبني غيرك بالنكاح، فإن كان ذلك زنَى.. فبك زنيت.
والثاني: أنها أرادت إن كنت زنيت.. فمعك زنيت، أي: فكما لم تزن أنت.. لم أزن أنا، كما لو قال رجل لغيره: سرقت، فيقول: معك سرقت، أي أنِّي لم أسرق كما لم تسرق.
فإذا احتمل قولها هذه الاحتمالات.. لم يجعل قذفاً له من غير نية منها لقذفه، فيرجع إليها:
فإن قالت: إنِّي أردت به الاحتمال الأول وأنه زنَى بي قبل النكاح.. فقد قذفته بالزِّنَى واعترفت على نفسها بالزِّنَى، فيجب عليها حد الزِّنَى وحد القذف للزوج، ويسقط عن زوجها حد قذفها.
وإن قالت: أردت الاحتمال الثاني.. فقد اعترفت على نفسها بالزِّنَى، فلا يجب على الزوج حد القذف لها، ولا تكون قاذفة له.(12/405)
وإن قالت: أردت به الجحود عن الزِّنَى على أي الوجهين كان، فإن صدقها الزوج على ذلك.. سقط عنها عهدة هذا الكلام. وإن كذبها وادعى أنها أرادت قذفه.. فالقول قولها مع يمينها، لأنها أعلم بما أرادت. فإن حلفت.. برئت، وكان على الزوج حد القذف لها، وله إسقاطه بالبينة أو باللعان. وإن نكلت عن اليمين.. ردت اليمين على الزوج فيحلف: أنها أرادت قذفه بالزِّنَى أو الاعتراف على نفسها بالزِّنَى، فإذا حلف.. سقط عنه حد القذف، ووجب عليها حد القذف له، ولا يجب عليها حد الزِّنَى، لأن ذلك من حقوق الله تَعالَى، فلا يثبت بيمينه عليها.
وإن قال رجل لامرأة أجنبية: يا زانية، فقالت: بك زنيت أو زنيت بك.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول.
قال المسعوديُّ (في الإبانة) : ولا يرجع إليها بهذا، بل يكون قولها قذفاً له.
[فرع: قال لامرأة: يا زانية فأجابته أنت أزنى مني]
وإن قال رجل لامرأته: يا زانية، فقالت له: أنت أزنى مني.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول، ولا تكون قاذفة له بظاهر هذا القول من غير نية، لأنه يحتمل القذف وغيره. فاحتمال القذف: أنها أرادت أنِّي زانية وأنت زان، وأنت أكثر زنَى مني.
واحتمال غير القذف: أنه ما وطئني غيرك في النكاح، فإن كان ذلك زنَى.. فأنت أزنى مني، لأنك أحرص على ذلك، والعمل لك. فيرجع إليها، فإن أرادت الاحتمال الأول.. فقد اعترفت على نفسها بالزِّنَى وبالقذف له، فيجب عليها حد الزِّنَى وحد القذف، ويسقط عنه حد القذف لها. وإن قالت: أردت به الاحتمال الثاني، فإن صدقها على ذلك سقط عنها عهدة هذا الكلام، ووجب لها عليه حد القذف، وله إسقاطه بالبينة أو باللعان. وإن كذبها، وادعى أنها أرادت قذفه.. فالقول قولها مع يمينها على ما مَضَى.
وإن قال رجل لامرأة أجنبية: يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول. والذي يقتضي المذهب: أنها لا تكون قاذفة له بظاهر هذا(12/406)
القول، بل يرجع إليها، فإن قالت: أردت أنِّي زانية وهو أزنى مني.. فقد اعترفت على نفسها بالزِّنَى واعترف بقذفه، فيجب عليها حد الزِّنَى وحد القذف، ويسقط عنه حد القذف. وإن قالت: لست بزانية ولا هو بزان، فإن صدقها على ذلك.. سقط عنها عهدة هذا الكلام، فيجب لها عليه حد القذف. وإن كذبها وادعى: أنها أرادت أنها زانية وأنه أزنى منها.. فالقول قولها مع يمينها. فإن حلفت.. وجب لها عليه حد القذف، وإن نكلت وحلف.. وجب عليها حد القذف، وسقط عنه حد القذف، ولا يجب عليها حد الزِّنَى بيمينه، لأنه حق لله تَعالَى، فلا يثبت بيمينه.
[فرع: قوله: هي أزنى من فلان أو هو أزنى الناس]
وإن قال رجل لامرأته أو لغيرها: أنت أزنى من فلان أو من فلانة.. فإنه يكون قاذفاً بظاهر هذا القول، لأن قوله: (أزنى) على وزن أفعل، ولفظة: (أفعل) لا تستعمل إلا فيما يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما بزيادة - كما لو أن رجلاً قال: زيد أفقه من عمرو.. اقتضى قوله هذا: أنهما مشتركان في الفقه إلا أن زيدا أكثر فقهاً منه - فيرجع إليه، فإن قال: أردت أن فلاناً زان، وأنت أزنى منه.. فقد اعترف لهما بالقذف. وإن قال لا أعرف فلاناً، أو أعرفه وليس هو بزان، فإن صدقته على ذلك.. سقط عنه عهدة هذا الكلام. وإن كذبته.. حلف لها: أنه ما قذفها.
وإن قال لغيره: أنت أزنى الناس.. لم يكن هذا قذفاً بظاهره، فيرجع إليه، فإن قال: أردت أنه أزنى من جميع الناس.. لم يكن ذلك قذفاً، لأنا نعلم أن جميع الناس ليسوا بزناة، فيكون هذا أزنى منهم. وإن قال: أردت به أنه أزنى من زناة الناس، أو قال له ابتداء: أنت أزنى من زناة الناس.. كان قاذفاً له، فيجب عليه حد القذف لهذا المخاطب، ولا يجب عليه الحد لزناة الناس، لأنه قد قذف جماعة غير معينين.(12/407)
[مسألة: قوله لامرأة: يا زان]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولو قال لها: يا زان.. كان قذفاً، وهذا ترخيم منه) وجملة ذلك: أنه إذا قال لامرأته أو غيرها: يا زان.. فإنه يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول، لأن المفهوم من قوله: أنه أراد رميها بالفاحشة، فكان قذفاً، كما لو قذفها بالعجمية.
إذا ثبت هذا: فاعترض ابن داود على الشافعيُّ، في هذا بشيئين:
أحدهما: بقوله (وهذا ترخيم) فقال: الترخيم إنما يصح بأسماء الألقاب، فأما بالأسماء المشتقة من الفعل: فلا يصح فيها الترخيم.
والثاني: أنه قال: الترخيم إنما يصح بإسقاط حرف من الكلام، فأما بإسقاط حرفين.. فلا يصح.
فأجاب أصحابنا عن اعتراضه الأول بأن قالوا: هذا باطل، لترخيمهم لمالك وحارث، فإنهما اسمان مشتقان من الفعل. وأجابوا عن الثاني بأجوبة منها:
أن الشافعيَّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال في بعض كتبه: (إذا قال لها: يا زاني.. كان قاذفاً) وإنما غلط المزني فنقل: (إذا قال لها: يا زان) . ومنهم من قال: إذا كان الحرف الذي قبل الحرف الأخير حرف اعتلال.. سقط في الترخيم، كقولهم في عُثمانَ: يا عثم. ومنهم من قال: إذا كان المراد منه مفهوماً.. صح الترخيم وإن سقط حرفان أو أكثر، لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأبي هُرَيرَة: "يا أبا هر» .
[فرع: قوله لرجل: يا زانية]
) : إذا قال لرجل: يا زانية.. كان صريحاً في القذف عندنا في ظاهر هذا القول. وبه(12/408)
قال محمد. وقال أبُو حَنِيفَة وأبو يوسف: (لا يكون قذفاً) .
دليلنا: أن كل كلمة فهم معناها.. لزم المتكلم حكمها وإن كان لحنا، كما لو قال لامرأة: زنيت يا هذا، أو لرجل: زنيت يا هذه.
وقوله لرجل: يا زانية مفهوم المعنى، وهو: أنه رماه بالفاحشة وألحق به المعرة، فلزمه حكم هذه الكلمة، لأن لها مخرجاً في اللغة، وذلك أنه قد يشير إلى نفسه وذاته، فيكون معناه: يا نفسا زانية ويا ذاتاً زانية، فيصح التأنيث في هذا فوجب الحكم فيها بالقذف.
[فرع: قوله زنأت في الجبل كناية]
وإن قال لغيره: زنأت في الجبل.. فإنه لا يكون قاذفاً بظاهر هذا القول، إلا أن يقر أنه أراد به الزِّنَى.. فيكون قذفاً. وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه: (يكون قاذفاً بظاهره) .
دليلنا: أن قوله: زنأت في الجبل حقيقة في الصعود والارتقاء، يقال: زنأت تزنأ زنئاً وزنوئاً. ويقال: في الزِّنَى الذي هو الوطء: زنيت تزني زنَى، فإذا كان ذلك حقيقة في الصعود.. حمل على الإطلاق، ولم يحمل على المجاز إلا بدليل.
فأما إذا قال لغيره: زنأت ولم يقل: في الجبل.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يكون قذفاً بظاهره، لأنه لم يقترن به ما يدل على الصعود.
والثاني: - وهو قول أبي الطيب ابن سلمة -: إن كان هذا القائل عامياً.. كان هذا القول قذفاً بظاهره، لأن العامي لا يفرق بين زنيت وزنأت. وإن كان لغوياً.. لم يكن(12/409)
قذفاً بظاهره، لأن حقيقة هذا القول عنده: الصعود، كما قلنا فيمن قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار - بفتح الهمزة-.
وإن قال: زنأت في الجبل.. ففيه ثلاثة أوجه حكاها المسعوديُّ [في " الإبانة "] :
أحدها: أنه قذف، وقوله: (في الجبل) بيان المحل.
والثاني: لا يكون قذفاً بظاهره.
والثالث: إن كان لا يعرف العربية.. لا يكون قذفاً، وإن كان يعرف العربية.. كان قذفاً.
[مسألة: قوله زنَى فرجك أو يدك أو بدنك أو نحو ذلك]
إذا قال رجل لامرأة: زنَى فرجك، أو قال لرجل: زنَى ذكرك أو أيرك.. كان صريحاً في القذف، لأن ذلك صريح في الفاحشة.
وإن قال لرجل أو لامرأة: زنَى دبرك.. كان صريحاً في القذف.
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يكون ذلك قذفاً) بناء على أصله: أن الحد لا يجب بالوطء في الدبر، وقد دللنا عليه، ونقول هاهنا: لأنه أضاف الزِّنَى إلى سبيل يجب بالزِّنَى فيه الحد، فكان قذفاً صريحاً، كما لو قال لامرأة زنَى فرجك.
وإن قال: زنت عينك، أو يدك، أو رجلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه صريح في القذف- وهو ظاهر ما نقله المزني - لأنه أضاف الزِّنَى إلى بعض منه، فهو كما لو أضافه إلى الفرج أو إلى الذكر.
والثاني: أنه ليس بصريح في القذف، وإنما هو كناية فيه. قال الشيخُ أبُو حامد:
ولعله أصح، لأن لهذه الأعضاء زنايين:
زنا ليس بفاحشة، وهو النظر من العينين، والبطش من اليدين، والمشي من الرجلين. وزنا هو فاحشة، وهو مشاركة هذه الأعضاء للفرج، ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويصدق ذلك ويكذبه الفرج»(12/410)
فبين: أن الزِّنَى لا يتحقق من هذه الأعضاء إلا بمعاونة الفرج.
فإذا احتمل الزِّنَى بهذه الأعضاء هذين الاحتمالين.. لم يكن إضافة الزِّنَى إليها صريحاًَ في القذف، كقوله: يا حلال يا ابن الحلال، ولأنه لو قال: زنت عيني، أو يدي، أو رجلي.. لم يكن ذلك إقراراً منه بالزِّنَى، فإذا أضاف ذلك إلى غيره.. لم يكن صريحاً في القذف.
فإن قلنا: أنه صريح وادعى أنه لم يرد به الزِّنَى الحقيقي.. لم يقبل منه.
وإن قلنا: إنه كناية.. رجع إليه، فإن قال: أردت به الزِّنَى الحقيقي.. لزمه حد القذف، وإن قال لم أرد به الزنى الحقيقي.. فالقول قوله مع يمينه، لأنه أعلم بما أراده، وإن قال لرجل: زنَى بدنك.. قال الشيخُ أبُو إسحاق: فهل هو صريح أو كناية؟ فيه وجهان، والذي يقتضي المذهب في هذا: أن يقال: يبنى على الوجهين الأولين:
فإذا قلنا: إنه إذا أضاف الزِّنَى إلى عضو من أعضاء البدن غير القبل والدبر يكون صريحاً في القذف.. فيكون هاهنا صريحاً وجهاً واحداً.
وإن قلنا هناك: يكون كناية.. فهاهنا وجهان:
أحدهما: أنه صريح في القذف، لأنه أضاف الزِّنَى إلي جميع البدن، والقبل والدبر داخل فيه.
والثاني: أنه كناية في القذف، لأنه أضاف الزِّنَى إلى جميع البدن، والزنا بجميع البدن إنما يكون بالمباشرة، فلم يكن صريحاً في القذف.(12/411)
[فرع: قذف الخنثى]
) : وإن قال للخنثى المشكل: زنيت أو يا زاني.. كان صريحاً في القذف، لأنه رماه بالفاحشة. وإن قال له: زنَى فرجك، أو زنَى ذكرك.. فالذي يقتضيه المذهب: أن يكون فيه وجهان:
أحدهما: أنه صريح.
والثاني: أنه يكون كناية، كما لو أضاف الزِّنَى إلى اليد أو الرجل من المرأة أو الرجل، لأن كل واحد منهما يحتمل أن يكون عضواً زائداً، فهو كسائر أعضاء البدن.
وإن قال له: زنَى فرجك وذكرك.. كان صريحاً في القذف، لأنه لا بد أن يكون أحدهما أصلياً، وقد أضاف الزِّنَى إليه.
وإن قال له: زنَى دبرك.. كان صريحاً في القذف، لأن إضافة الزِّنَى إلى الدبر من الرجل أو المرأة صريح في القذف، ولا بد أن يكون الخنثى أحدهما.
[فرع: قوله: لا ترد يد لامس]
وإن قال: فلانة لا ترد يد لامس.. لم يكن صريحاً في القذف، لـ «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن امرأتي لا ترد يد لامس» ، فلم يجعله النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاذفاً لها بذلك.
[فرع: قوله زُنَي بك وأنت مكرهة]
إذا قال لامرأة: زنَى بك رجل وأنت مكرهة.. كان قاذفاً لرجل غير معين، ولا يجب عليه الحد، لأنه غير معين، ولا يكون قاذفاً للمرأة، لأنه رماها بوطء ليست بزانية فيه وهل يعزر لها؟ فيه وجهان(12/412)
أحدهما: لا يعزر لها، لأنه رماها بوطء لا حد عليها فيه ولا عار.
والثاني: يعزر، لأنه قد آذاها بحصول ماء حرام في رحمها، وذلك طعن عليها فلزمه التَّعزِير لها.
[فرع: قوله: زنيت بصبي أو ركبت رجلاً أو ساحقت امرأة]
وإن قال: زنيت بفلان وهو صبي يجامع مثله.. كان قاذفاً لها، لأنه يوجد منه الوطء الذي يجب به الحد عليها. وإن كان صبياً لا يجامع مثله.. لم يكن قاذفاً لها، لأن القذف ما احتمل الصدق والكذب، وفي هذا الموضع يعلم كذبه لا غير، فلم يكن به قاذفاً.
وإن قال لامرأة: ركبت رجلاً حتى دخل ذكره في فرجك.. كان قاذفاً لها، لأنه رماها بالفاحشة. وإن قال لامرأة: ساحقت فلانة أو زنيت بفلانة.. لم يكن قاذفاً لها، لأنه لو تحقق ذلك منهما.. لم يجب عليهما الحد، فلم يكن قاذفاً بذلك، ويعزر، لأنه آذاها بذلك.
[مسألة: إنكار نسبة الولد له]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو ولدت امرأته ولداً، فقال: زوجها: ليس بابني.. فإنه لا يكون عليه حد ولا لعان حتى ينفيه) . وجملة ذلك: أن الرجل إذا أتت امرأته بولد، فقال: هذا الولد ليس مني أو ليس بابني.. فإنه لا يكون قاذفاً لها بظاهر هذا القول، لأنه يحتمل: أنه أراد به ليس مني أو ليس بابني وأنه من الزِّنَى. ويحتمل: أنه ليس مني أو ليس بابني لا لأنه من الزِّنَى ولكنه ليس يشبهني خلقاً ولا خلقاً، ويحتمل: أنه ليس مني أو ليس بابني، بل من زوج قبلي. ويحتمل: أنه ليس بابني وليس مني وأنها استعارته أو التقطته. وإذا احتمل هذا القول القذف وغيره.. لم يكن قذفاً بظاهره، كما لو قال له: يا حلال يا بن الحلال، ويرجع في تفسير ذلك إليه، فإن قال: أردت أنه من الزِّنَى.. كان قاذفاً لها. وإن قال: أردت أنه(12/413)
ليس بابني، لأنه لا يشبهني خلقاً ولا خلقا، فإن صدقته على ذلك.. فلا كلام وإلا.. كان القول فيه قوله مع يمينه، لأنه أعلم بما أراد. وإن قال: أردت أنه من زوج قبلي، فإن لم يعرف لها زوج قبله.. قيل له: لا يقبل منك هذا التفسير، لأنك فسرته بما لا يحتمله، فعليك أن تفسره بما يحتمله. وإن كان قد عرف لها زوج قبله وصدقته على أنه أراد به ذلك.. لم يكن قاذفاً لها - والكلام في نفي نسب الولد عنه في ذلك قد مَضَى في اللعان - وإن كذبته في ذلك، فقالت: ما أردت بذلك إلا القذف؟ كان القول قوله مع يمينه، لأنه أعلم بما أراد.
وإن قال: أردت أنه ليس بابني، بل استعارته أو التقطته، وصدقته على أنه أراد ذلك، أو كذبته وحلف أنه أراد ذلك.. لم يكن قاذفاً لها، والكلام في نفي نسبه عنه قد مَضَى في اللعان.
[فرع: قذف زوجته ونفى ولدها باللعان ثم قال: أجنبي للولد: لست بابنه]
وإن قذف رجل زوجته ونفى نسب ولدها باللعان، ثم قال رجل أجنبي لذلك الولد: لست بابن فلان.. لم يكن ذلك صريحاً في القذف، لأنه يحتمل: أنه أراد لست بابن فلان، لأنه لا بنوة بينكما، ويحتمل: أنه أراد لست بابن فلان، بل إنك من الزِّنَى، فيرجع إليه، فإن قال: أردت أنه ليس بابنه، لأنه لا بنوة بينهما في الشَّرع، فصدقته المرأة على ذلك، أو كذبته وحلف على ذلك.. لم يكن قاذفاً لها. وإن قال: أرد أنك لست بابنه، بل من الزِّنَى.. كان قاذفاً للمرأة، فيجب لها عليه حد القذف.
وإن قذف امرأة ونفى نسب ولدها باللعان، ثم أكذب نفسه.. لحقه نسب الولد. فإن قال رجل أجنبي لهذا الولد بعد أن أكذب الزوج نفسه: لست بابن فلان.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (حد) ، وقال: في الزوج - إذا قال لهذا الولد: لست بابني -: (لا يكون صريحاً في القذف، وإنما يرجع إليه في التفسير) ، واختلف أصحابنا فيهما على أربعة طرق:(12/414)
فـ (الطريق الأول) : منهم من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين:
أحدهما: أنه صريح في القذف فيهما، لأن الظاهر من هذا القول نفي النسب.
والثاني: أنه كناية فيهما، لأنه يحتمل: أنه أراد لست بابنه - أي -: لا تشبهه في الخلق أو الخلق.
و (الطريق الثاني) : منهم من قال: بل هو كناية فيهما، لأنه يحتمل القذف وغيره. فإذا احتملهما.. لم يجعل قذفاً بظاهره، وحمل كلامه في الأجنبي عليه إذا اعترف: أنه أراد به القذف. وقوله في الأب إذا لم يعترف: أنه لم يرد القذف.
و (الطريق الثالث) : منهم من حملهما على ظاهرهما، فجعل ذلك كناية في الأب، لأنه قد يحتاج إلى تأديب ولده بالفعل والقول، فيقول: لست بابني على سبيل الردع والزجر، وجعل ذلك صريحاً من الأجنبي، لأنه ليس له أن يؤدب ولد غيره بفعل ولا بقول.
و (الطريق الرابع) : قال أبُو إسحاق: هي على اختلاف حالين:
فحيث جعله كناية أراد: إذا قال ذلك قبل استقرار نسب الولد، بأن يقول ذلك الأب أو الأجنبي حال وضع الولد، لأنه لم يستقر نسبه من الأب، لأن له أن ينفيه باللعان.
وحيث جعله صريحاً أراد: إذا قال: ذلك الأب أو الأجنبي بعد استقرار نسب الولد بتكذيب الأب نفسه بعد ذلك، لأنه لا سبيل إلى نفيه بحال. قال الشيخُ أبُو حامد: وهذا أسد الطرق، والله أعلم.
[مسألة: قوله لعربي يا نبطي]
وعكسه] :
وإن قال لعربي: يا نبطي.. لم يكن قاذفا بظاهر الكلام، لأنه يحتمل القذف(12/415)
وغيره، فيرجع إليه في تفسيره، فإن قال: أردت أنه نبطي اللسان، لأنه لا فصاحة له، أو نبطي الدار، لأنه ولد في دارهم، وصدقه المقذوف أنه أراد ذلك، أو كذبه وحلف القاذف أنه أراد ذلك.. لم يلزمه الحد، ولكن يلزمه التَّعزِير، لأنه قد أوهم أنه قذفه. وإن قال: أردت إن جدته زنت بنبطي وأتت بأبيه من نبطي، أو أن أمه زنت بنبطي وأتت به منه.. فقد قذف جدته أو أمه، فإن كانت محصنة.. وجب لها عليه حد القذف. وإن كانت غير محصنة.. لم يجب عليه حد القذف. وإن قال: أردت نفي نسبه من العرب إلى النبط بغير زنا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحد - وبه قال أبُو حَنِيفَة - لما رُوِيَ: أن ابن عبَّاس سئل عمن قال لنبطي: يا عربي، فقال: (لا حد عليه) . وعن الشعبي أنه قال: كلنا أنباط، يريد به: في الأصل. ولأن الله تَعالَى أوجب حد القذف بالقذف في الزِّنَى، وهذا لم يقذف بالزِّنَى، فلم يجب عليه الحد.
والثاني: يجب عليه حد القذف، وهو ظاهر النص، لأن الشافعيَّ، قال: (فإن قال: عنيت نبطي الدار أو اللسان.. أحلفته: ما أراد أن ينسبة إلى النبط. فإن نكل.. حلف المقذوف: أنه أراد نفيه، وحد له) . وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، والليث، وأحمد، وإسحاق، واختاره ابن الصبَّاغ، لما رَوَى الأشعث بن قيس: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا أوتى برجل يقول: إن كنانة ليست من قريش.. ألا جلدته»
ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه قال: (لا حد إلا في اثنين: قذف المحصنة، أو نفي رجل من أبيه) . ومثل هذا لا يقوله إلا توقيفاً.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فإن قال لقرشي: لست من قريش، أو لتيمي: لست من تيم.. نظرت: فإن قال: أردت به أنه ليس من صلب قريش.. لم يصدق، وكان قاذفاً. وإن قال: أردت أن واحدة من أمهاته في الجاهلية زانية.. لم يكن قذفاًًًً؛(12/416)
لأنها غير محصنة. وإن قال: أردت أن واحدة من أمهاته في الإسلام زانية.. لم يكن قذفا، لأنها غير معينة، فصار كما لو قال: في هذا البلد زان.
[فرع: قذف غير محصن وعرض به لمحصن]
وإن قذف غير محصن بالزِّنَى، أو عرض بالقذف للمحصن، ولم يقر أنه أراد به الزِّنَى.. فإنه يعزر على ذلك، لأنه آذاه بذلك.
[مسألة: حد القذف حق للمقذوف]
عندنا] :
حد القذف حق للمقذوف، ولا يستوفى إلا بمطالبته، ويسقط بعفوه أو إبرائه. وإن مات قبل الاستيفاء أو العفو أو إبرائه.. ورث عنه.
وقال أبُو حَنِيفَة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (حد القذف حق لله تَعالَى لا حق للمقذوف فيه، فلا يسقط بعفوه وإبرائه. ولا يورث عنه) . إلا أنه وافقنا: أنه لا يستوفى إلا بمطالبته.
دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا أن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» فأضاف العرض إلينا، والحد إنما يجب بتناول العرض، فإذا كان العرض للمقذوف.. وجب أن يكون ما وجب في مقابلته، كما أنه أضاف الدم والمال إلينا، ثم المال والدم ملك لنا، وما وجب في مقابلتهما.. ملك لنا.
وأيضاً ما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان يقول: تصدقت بعرضي» والتصدق بالعرض لا يكون إلا بالعفو عما وجب له(12/417)
فيه ولأنه حق على البدن، إذا ثبت بالاعتراف.. لم يسقط بالرجوع، فكان للآدمي كالقصاص. وفيه احتراز من حد الزِّنَى وحد الشرب. ولأنه لا خلاف أنه لا يستوفى إلا بمطالبة الآدمي فكان حقاً له، كالقصاص.
[فرع: طلب القذف من القاذف وموت المقذوف قبل الاستيفاء أوالعفو]
فرع: [طلب القذف من القاذف وموت المقذوف قبل الاستيفاء أو العفو] :
إذا قال رجل لآخر: اقذفني فقذفه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحد، كما لو قال له: اقطع يدي، فقطع يده.. فإنه لا يجب عليه القصاص.
والثاني: يجب عليه الحد، لأن العار يلحق بعشيرته، فلم يملك الإذن فيه.
وإن قذف حياً محصناً، فمات المقذوف قبل استيفاء الحد أو العفو.. فقد قلنا: أنه ينتقل إلى وارثه، وفيمن يرث ذلك عنه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يرثه جميع الورثة، لأنه موروث، فكان لجميع الورثة كالمال.
والثاني: يرثه جميع الورثة إلا من يرثه بالزوجية.. فإن لا يرثه، لأن الحد يجب لدفع العار، ولا يلحق أحداً من الزوجين عار الآخر بعد الموت، لأنه لا زوجية بينهما بعد الموت.(12/418)
والثالث: يرثه من كان يرثه من الرجال بالتعصيب، لأنه حق ثبت لدفع العار، فاختص به الرجال من العصبات، كولاية النكاح.
وإن قذف ميتاً.. كان الحد لوارثه فإن كان في الورثة زوج أو زوجة وقلنا: إنه إذا قذف حياً ثم مات فإنه لم يورث الحد عنه بالزوجية.. فها هنا أولى. وإن قلنا هناك: يورث عنه بالزوجية.. فهاهنا وجهان. والفرق بينهما: أن هناك الزوجية كانت قائمة عند ثبوت الحد، وهاهنا الزوجية قد ارتفعت بالموت، فلا يثبت للباقي منهما الإرث بالزوجية.
وإذا انتقل الحد إلى جماعة من الورثة، فعفا بعضهم عن حقه من الحد.. ثبت جميع الحد لباقي الورثة، لأن الحد جعل للردع، ولا يحصل الردع إلا بما جعله الله تَعالَى للردع.
هذه طريقة أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن لباقي الورثة أن يستوفوا جميع الحد، لما ذكرناه.
والثاني: يسقط جميع الحد، كما قلنا في القصاص.
والثالث: تسقط من الحد حصة العافي، وتبقى حصة من لم يعف، لأنه يتبعض، فتسقط حصة العافي دون الباقي، كالدين والدية.
وإن قذف رجلاً، فمات المقذوف ولا وارث له، أو قذفه بعد موته ولا وارث له معين.. ثبت الحد للمسلمين، ويستوفيه السلطان، لأنه ينوب عنهم في الاستيفاء كما ينوب عنهم في القصاص.
[فرع: قذف المملوك أو الحر وحصول موت أو جنون ونحوه قبل الاستيفاء أو العفو]
] : وإن قذف مملوكا.. ثبتت المطالبة بالتَّعزِير للمملوك، والعفو عنه دون السيد، لأنه ليس بمال ولا له بدَّل هو المال، فكان للمملوك دون السيد، كفسخ النكاح بالعيب، فإن مات المملوك قبل الاستيفاء أو العفو.. ففيه ثلاثة أوجه:(12/419)
أحدها: أنه ينتقل إلى مولاه، لأنه ثبت للعبد، فانتقل إلى مولاه بعد موته، كمال المكاتب.
والثاني: يسقط، لأن العبد لا يورث، وإنما المولى يملك عنه من جهة الملك، فلما لم يملك ذلك في حياته.. لم يملكه عنه بعد موته.
والثالث: يكون لعصباته، لأنه ثبت لنفي العار، فكان عصباته أحق به.
وإن ثبت لرجل الحد، فجن أو أغمى عليه قبل الاستيفاء أو العفو.. لم يكن لوليه استيفاؤه، لأنه حق ثبت للتشفي فلم يكن لوليه استيفاؤه في حال الجنون والإغماء، كالقصاص.
[فرع: أقر بزناه من امرأة ثم أكذب نفسه]
إذا قال: الرجل: زنيت بفلانة.. وجب عليه حد الزِّنَى، وإن كانت المرأة محصنة.. وجب لها عليه حد القذف، فلو قال: الرجل: كذبت ولم أزن.. سقط عنه حد الزِّنَى، لأنه إذا ثبت بالإقرار.. فإنه يسقط بالرجوع، وهل يسقط عنه حد القذف؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة "
أحدهما: لا يسقط، لأنه حق لآدمي، فلم يسقط بالرجوع،
كما لو رماها بالزِّنَى بغيره ثم أكذب نفسه.
والثاني: يسقط عنه، لأن قوله: (زنيت بفلانة) إقرار واحد، وكلام واحد، والمقصود منه الإقرار بالزِّنَا، فإذا رجع في الزِّنَا.. قبل رجوعه في جميع موجب الإقرار.
[مسألة: قذف جماعة رجال أو نساء]
] : إذا قذف الرجل جماعة رجال أو جماعة نساء.. نظرت: فإن قذف كل واحد منهم بكلمة، بأن قال لكل واحد منهم: زنيت، أو يا زاني.. وجب لكل واحد منهم حد(12/420)
وإن قذفهم بكلمة واحدة.. نظرت فإن كانوا جماعة لا يجوز أن يكونوا كلهم زنَاة، كأهل اليمن أو أهل بغداد.. لم يجب عليه الحد لأن القذف هو ما احتمل الصدق أو الكذب ونحن نقطع بكذبه هاهنا، ويعزر على الكذب، لحق الله تَعالَى، وإن كانوا جماعة يجوز أن يكونوا كلهم زناة، كالعشرة والمائة وما أشبه ذلك.. ففيه قولان:
(أحدهما) قال في القديم: (يجب لهم حد واحد) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية (النور: 4) فأوجبت ثمانين جلدة بقذف المحصنات، وذلك اسم للجمع. ولأن الحد يجب على القاذف لإزالة المعرة عن المقذوف، والمعرة تزول عن الجماعة إذا حد القاذف ثمانين جلدة، ولأن الحدود، إذا كانت من جنس واحد.. تداخلت، كما لو زنَى ثم زنَى
والثاني: قال في الجديد: (يجب لكل واحد منهم حد) . وهو الصحيح لأنها حقوق مقصودة لآدميين، فإذا ترادفت.. لم تتداخل كالقصاص.
فقولنا: (مقصودة) احتراز من الآجال في الديون، وقولنا: (لآدميين) احتراز من الحدود لله تعالى. وأمَّا الآية: فلم تتضمن قذف الواحد لجماعة من المحصنات، وإنما تضمنت قذف جماعة لجماعة، لأنه قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 4] الآية:
[فرع: خاطب زوجة وأجنبية بأنهما زناة أو أن زوجته زنت بفلان]
وإن قال لزوجته وأجنبية: زنيتما.. فاختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: يجب لكل واحدة منهما هاهنا حد قولا واحداً لأن مخرجه عن قذفه لهما مختلف، لأن حد الأجنبية لا يسقط إلا بالبينة أو إقرار المقذوف، وحد الزوجة يسقط بالبينة أو باللعان.
وإن قال لزوجته: زنيت بفلان. ولم يلاعن اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان. ومنهم من قال: يجب لهما حد واحد قولا واحداً، لأنه رماها بزنا واحد، هذا إذا اجتمعا على المطالبة.(12/421)
فأما إذا جاءت الزوجة فطالبت بحدها فحد لها، ثم جاء الرجل فطالب بحده.. بني على ما يجب عليه لهما، فإن قلنا: يجب لهما حدان.. حد له حد آخر، وإن قلنا: لا يجب لهما إلا حد واحد.. لم يحد له هاهنا.
وإن عفت الزوجة عن حدها.. سقط حدها ولا يسقط حده، لأنهما حقان لآدميين، فلم يسقط حق لأحدهما بسقوط حق الآخر كالديون فيحد له إذا طلب.
[فرع: وجوب حدين على القاذف أو أكثر]
وإذا وجب على القاذف حدان لاثنين.. نظرت فإن وجب لأحدهما بعد الآخر حد للأول، ثم يحد للثاني، لأن حق الأول أسبق فإن كان المحدود حرا.. لم يحد له حتى يبرأ ظهره من ألم الحد الأول لأن الموالاة بينهما ربما أدت إلى قتلة وإن كان عبداً ففيه وجهان.
أحدهما: يوالي بينهما، لأنهما كالحد الواحد على الحر.
والثاني: لا يوالي بينهما عليه، لأنهما حدان فلا يوالي بينهما كالحر.
وإن وجب لهما الحد في حالة واحدة.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حد له أولا، والكلام في الموالاة على ما مضى.
وإن قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية.. فقد قذف شخصين بكلمتين، فيجب لكل واحدة منهما حد، فإن جاءت إحداهما وطالبت بحدها والأخرى غائبة، أو حاضرة ولم تطالب.. حد للتي طالبت بحدها. وإن جاءتا وطالبت كل واحدة منهما بحدها.. ففيه وجهان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: نبدأ بحد البنت، لأنه بدأ بقذفها
والثاني: - وهو المنصوص -: (أنه يبدأ بحد الأم، لأن حدها مجمع عليه، وحد(12/422)
البنت مختلف في وجوبه. ولأن حد الأم آكد، لأنه لا يسقط إلا بالبينة، وحد البنت يسقط بالبينة أو اللعان) . وإن قال لها: يا زانية بنت الزانيين.. وجب لها حد وهل للأبوين حد أو حدان؟ على قولين. والكلام في الاستيفاء على ما مضى.
[مسألة: قذف رجلا فحد ثم قذفه فيعزر وماذا لو قذفه أو زوجته بزنايين؟]
إذا قذف رجل رجلا أو امرأة ليست بزوجة له بزنا، فحد القاذف، ثم قذفه بذلك الزِّنَى الذي حد للمقذوف فيه.. لم يجب عليه الحد، وإنما يعزر للأذى.
وقال بعض الناس: يجب عليه الحد.
دليلنا: ما رُوِيَ: (أن أبا بكرة، ونافعا، وشبل بن معبد، شهدوا على المغيرة بالزِّنَى عند عمر، ولم يصرح زياد بالشهادة على الزِّنَى عليه، فجعل عمر الثلاثة قذفة، فحدهم، ثم قال أبُو بكرة للمغيرة بعد ذلك: قد كنت زنيت، فهم عمر بجلده، فقال له عليّ: إن كنت تريد تحده.. فأرجم صاحبك - يعني: إن جعلت قوله هذا هو القذف الأول.. فقد حددته له وإن جعلته استئناف شهادة أخرى.. فقد تمت الشهادة، فارجم المغيرة - فتركه عمر، وأقرته الصحابة على ذلك) ولأن القذف: ما احتمل الصدق والكذب، وقد علم كذبه، فلا معنى لإيجاب الحد عليه.
وإن قذفه بزنا، ثم قذفه بزنا آخر، فإن كان قد أقيم عليه الحد للأول أو عفا عنه المقذوف.. أقيم عليه الحد للثاني.. وإن لم يقم عليه الحد للأول ولا عفا عنه المقذوف.. ففيه قولان:
(أحدهما) : قال في القديم: (يجب عليه حدان، لأنهما حقان لآدمي، فلم يتداخلا، كالدينين)
والثاني: قال في الجديد: (يجب عليه حد واحد) ، وهو الصحيح، لأنهما حدان من جنس لمستحق واحد فتداخلا، كما لو زنى ثم زنى، أو شرب ثم شرب(12/423)
وإن قذف امرأة بزنا فلم يحد لها ولم تعف عنه، ثم تزوجها، ثم قذفها بزنا آخر.. ففيه طريقان:
(أحدهما) : من أصحابنا من قال: فيه قولان، كالأولى.
(والثاني) : منهم من قال: يجب عليه هاهنا لها حدان قولا واحداً، لأن مخرجه من القذفين مختلف.
[مسألة: قذفت فأقرت ثم حدت ثم قذفت]
وإذا قذف الرجل امرأته أو قذفها أجنبي فأقرت بالزِّنَى فحدت، أو قامت البينة على زناها، ثم قذفها الزوج أو غيره بذلك الزِّنَى أو بغيره.. لم يجب عليه الحد، لأنها غير محصنة، ويعزر للأذى.
وإن قذف الرجل زوجته ولاعنها وأجابت لعانه.. فقد سقط إحصانها في حقه فإن قذفها بذلك الزِّنَى أو بزنا آخر أضافه إلى ما بعد اللعان.. لم يجب عليه الحد، لأن الحد لدفع المعرة عنها، ولم تدخل عليها معرة بهذا القذف، لأنها قد دخلت عليها بالقذف الأول، فلم يؤثر هذا القذف شيئا آخر.
وإن قذفها بزنا آخر أضافه إلى حال الزوجية أو إلى ما قبل القذف الأول أو بعده ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه الحد، وإنما يعزر، لأن اللعان حجة يسقط بها إحصانها في حق الزوج، فوجب أن يسقط إحصانها في الحال وفيما بعد وفي حال الزوجية كلها، كما لو أقام عليها البينة، وكما لو قذف أجنبيا ولم يطالب بحده حتى مر زمان طويل فطالب بحده فأقام القاذف بينة على زناه، فإن حصانته تسقط في الحال وفيما قبل.
والثاني: يجب عليه الحد لأن اللعان إنما يسقط إحصانها في حقه في الحالة التي(12/424)
يوجد فيها وفيما بعدها، ولا يسقط فيما تقدم، فوجب عليه الحد لما رماها به.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: إذا لاعنها ثم رماها بذلك الزِّنَى.. فلا حد عليه، وإن رماها بزنا آخر.. ففيه وجهان.
أحدهما: لا حد عليه، لأنه أقام الحجة على زناها مرة فهو كما لو أقام عليها البينة.
والثاني: يجب عليه الحد لأن، هذا قذف بغير ذلك الزِّنَى.
وإن قذف زوجته فلم يلاعن وحد لها ثم قذفها بذلك الزِّنَى.. لم يحد، وإنما يعزر، لما ذكرناه في قصة المغيرة. وإن قذفها بزنا آخر.. ففيه وجهان.
أحدهما - وهو قول ابن الحداد -: أنه لا يحد لها، لأنه قد حد لها مرة.
والثاني: يحد لها، لأنه رماها بزنا آخر.
[فرع: قذفها زوج فأجابت اللعان ثم قذفها أجنبي]
وإن قذف رجل زوجته، فلاعنها وأجابت لعانه، ثم قذفها أجنبي.. نظرت فإن كان قذفها بزنا آخر غير الذي قذفها به الزوج.. حد لها بلا خلاف، وإن قذفها بالزِّنَى الذي قذفها به الزوج.. حد لها إلا إن أقام البينة على زناها.. فلا يحد لها بحال.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن لاعنها الزوج، ونفى حملها، وكان الحمل حيا.. حد الأجنبي. وإن لم ينف حملها، أو نفاه ولكن مات الولد.. لم يحد لها الأجنبي)
دليلنا: ما رَوَى عكرمة عن ابن عبَّاس: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين المتلاعنين، وقضى: أن لا يدعى الولد لأب، وأنها لا ترمى ولا ولدها، فمن رماها أو ولدها فعليه الحد» . ولم يفرق بين أن يكون الولد حيا أو ميتا. ولأن اللعان إنما جعل حجة في حق الزوج، فلم يسقط إحصانها به إلا في حق الزوج.(12/425)
[فرع: قذف زوجته فلاعنها ولم تجب فحدت ثم قذفها هو أو أجنبي]
وإن قذف الرجل امرأته، فلاعنها ولم تجب لعانه، فحدت في الزِّنَى، ثم قذفها الزوج.. لم يحد لها، لأنها محدودة بإقامة الحجة عليها، فهو كما لو أقام البينة على زناها. وإن قذفها أجنبي بذلك الزِّنَى.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا حد عليه، لأنه قذفها بزنا حدت فيه، فهو كما لو حدت بالبينة.
والثاني: يجب عليه الحد، لأن اللعان حجة يختص بإقامتها الزوج، فأختص بسقوط إحصانها به دون الأجنبي
[مسألة: سماع الإمام للقذف]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: [وليس للإمام إذا رمى رجل رجلا بالزِّنَى أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك]
وجمله ذلك: أن السلطان أو الحاكم إذا سمع رجلا يقول: زنى رجل.. لم يحده، لأن المقذوف غير معين، ولا يسأله عن المقذوف، لأن الحد يدرأ بالشبهة. وإن سمع رجلا يقول: قال رجل: إن فلانا زنى.. لم يكن قاذفا لأنه حاك فإن اعترف المحكي عنه أنه قال: فلان زنى.. كان قاذفا، وإن أنكر.. لم يلزمه القذف بقول الذي قال: سمعته - وحده - لأن القذف لا يثبت بشاهد، ولا يلزم الحاكي بذلك شيء، لأن كل واحد منهما يكذب صاحبه والحد يدرأ بالشبة.
فأما إذا سمع السلطان أو الحاكم رجلا يقول: زني فلان.. قال الشيخُ أبُو حامد المستحب له: أن يبعث على المقذوف ويعلمه بذلك، لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أنيسا إلى المرأة التي قال: الرجل إن ابني كان عسيفا على هذا وإنه زني بامرأته، فقال:(12/426)
«يا أنيس اغد على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمها»
وأمَّا قول الشافعي: (ليس للإمام إذا رمى رجل رجلا بالزِّنَى.. أن يبعث إليه فسأله عن ذلك) فله ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن تأويله: أن يذكر للإمام: أنه استفاض في الناس أن فلانا زنى، فلا يبعث إليه لأنه ليس له قاذف بعينه. ويفارق حديث أنيس، لأنه كان لها قاذف بعينه.
(والثاني) : قال أبُو العباس: تأويله، أن رجلا قذف زوجته برجل بعينه، فلاعنها الزوج لعانا مطلقا، وقلنا: إن حد المرمي يسقط بلعانه.. فإن الإمام لا يبعث إلى المرمي، لأن حده قد سقط. ويفارق حديث أنيس لأن هناك لم يسقط حدها.
(والثالث) : قال أبُو إسحاق: تأويله، إذا قذف الرجل امرأته برجل بعينه.. فإن الإمام لا يبعث إلي المرمي ويعرفه بثبوت الحد له قبل أن يلتعن الزوج، لأن صحة لعانه لا تفتقر إلى مطالبة المرمي به بالحد، بل إذا طالبت المرأة بذلك، فلاعنها الزوج. صح اللعان ويسقط حدهما. ويفارق حديث أنيس، لأن هناك لا يسقط حدها بلعان قاذفها. هكذا ذكره الشيخ أبُو حامد.
وأمَّا الشيخ أبُو إسحاق فقال: هل يلزم السلطان أن يبعث إلى المقذوف ويعلمه بذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه - لأنه قد ثبت له حق لا يعلم به، فلزمه إعلامه به، كما لو ثبت له عنده مال لا يعلم به، فإن كذبه المقذوف.. حد القاذف له، وإن صدقه المقذوف.. حد المقر بالزِّنَى به.
والثاني: لا يلزمه إعلامه؛ لقول النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»(12/427)
[مسألة: قذف رجل رجلا آخر بالعبودية]
وإن قذف رجل رجلا، فقال: القاذف للمقذوف: أنت عبد فقال: المقذوف: بل أنا حر.. نظرت فإن كان المقذوف حراً معروف الحرية، مثل أن يعرف أن أبويه حران.. فالقول قوله بلا يمين. وإن عرفت عبودية المقذوف، فادعى أنه قد أعتق.. فالقول قول القاذف، لأن الأصل عدم العتق.
فإن اتفقا على أنه كان عبداً ثم أعتق، واختلفا في وقت القذف، فادعى القاذف أن القذف كان قبل العتق، وادعى المقذوف أن العتق كان قبل القذف.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل بقاء العبودية عليه وبراءة ظهره من الحد.
وإن كان المقذوف مجهول الحال.. ففيه طريقان مَضَى ذكرهما في (الجنايات) .
[فرع: أقام بينة على قذفه أو أقر القاذف بقذفه وادعى الجنون وقتها]
وإن أقام رجل على رجل البينة أنه قذفه، أو أقر القاذف بقذفه، وقال: قذفته وعقلي ذاهب من الجنون، وقال: المقذوف: بل قذفتني وأنت ثابت العقل. فإن لم يعلم للقاذف حال جنون.. فالقول قول المقذوف مع يمينه، لأن القاذف يدعي طرآن الجنون عليه، والأصل عدمه وإن عرف للقاذف حالة جنون ففيه قولان.
أحدهما: أن القول قول المقذوف مع يمينه؛ لأن صحته موجودة في الحال وهو يدعي طرآن الجنون عليه حالة القذف والأصل عدم الجنون.
والثاني: أن القول قول القاذف مع يمينه، وهو الأصح، لأنه قد ثبت له حالة جنون، وما يدعيه كل واحد منهما ممكن، والأصل براءة ذمة القاذف من الحد(12/428)
[فرع: قوله زنيت يوم كنت نصرانية]
وإن قال لامرأة مسلمة: زنيت وكنت نصرانية يوم الزِّنَى، فقالت: صدقت قد كنت نصرانية ولكني ما زنيت.. لم يجب عليه الحد، لأنه أضاف الزِّنَى إلى حال ليست بمحصنه فيه ويعزر للأذى. فإن قال لها: زنيت، ثم قال: أردت في الحال التي كنت فيه نصرانية، وقالت: بل أردت في الحال.. فالقول قولها مع يمينها، لأن الظاهر يخالف قوله، فإذا حلفت.. لزمه الحد، وإن قال لها: زنيت يوم كنت نصرانية، وقالت: لم أكن نصرانية ولا بينة معه أنها كانت نصرانية.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قولها مع يمينها، لأن الظاهر ممن بدار الإسلام أنه مسلم، فإذا حلفت.. حد لها.
والثاني: أن القول قوله مع يمينه، وهو الأصح، لأن دار الإسلام تجمع المسلمين والنصارى، وما قاله محتمل، والأصل براءة ذمته من الحد، فإذا حلف.. لم يلزمه الحد، ويلزمه التَّعزِير.
وإن أقرت أنها كانت نصرانية، وادعت أنها أسلمت.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل بقاؤها على النصرانية.
وكذلك: لو اتفقا على إسلامها وقد قذفها، واختلفا في السابق منهما.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل عدم إسلامها وبراءة ظهره من الحد.
وإن قذف مسلمة وادعى أنها ارتدت وأنكرت.. فالقول قولها مع يمينها، فإذا حلفت.. لزمه الحد؛ لأن الأصل عدم ردتها.
[فرع: قوله زنيت وكنت مملوكة]
وإن قال لامرأة: زنيت وكنت مملوكة يومئذ، فقالت: كنت مملوكة ولم أزن فلا حد عليه، لأنه أضاف الزِّنَى إلى حالة ليست بمحصنة فيها ويعزر، لأنه آذاها وإن قال لها: زنيت، ثم قال: أردت في الحال الذي كنت أمة فيها ثم أعتقت بعد(12/429)
ذلك، فقالت: بل أردت القذف في الحال.. فالقول قولها مع يمينها، فإذا حلفت لزمه الحد، لأن الظاهر معها. فإن قالت: لم أكن أمة.. ففيه قولان:
أحدهما: القول قول المقذوفة مع يمينها، لأن الظاهر ممن في الدار الحرية.
والثاني: القول قول القاذف، وهو الأصح، لأن الدار تجمع الأحرار والمماليك، والأصل براءة ذمته من الحد.
[مسألة: ادعى على آخر أنه قذفه أو أكل ماله وأقام شاهدين أو شاهدا واحداً]
وإن ادعى رجل على آخر أنه قذفه فأنكر، فأقام عليه شاهدين أنه قذفه، فإن عرف الحاكم عدالتهما.. حكم بشهادتهما وحد القاذف وإن عرف فسقهما.. لم يحكم بشهادتهما. وإن جهل حالهما فسأل المقذوف الحاكم أن يحبس القاذف إلى أن يعرف حالهما.. حبسه لأن البينة قد كملت، والظاهر منهما العدالة.
وإن أقام المقذوف شاهداً واحداً، فسأل الحاكم أن يحبس له القاذف إلى أن يقيم الآخر.. ففيه قولان:
أحدهما: يحبسه، لأن جنايته قد قويت بإقامة الشاهد فهو كما لو أقام شاهدين، ولأنه لو ادعى على رجل حقا وقدمه إلى الحاكم ولم يتفرغ الحاكم لهما فإن له أن يلازمه إلى أن يتفرغ الحاكم ويحكم بينهما، وهذا ضرب من الحبس، فدلَّ على ما ذكرناه.
والثاني: لا يحبسه لأن البينة لم تكمل، فلم يحبس.
وإن ادعى رجل مالا، وأقام عليه شاهدين، ولم يعلم الحاكم عدالتهما ولا فسقهما.. فهل للحاكم أن يحبسه إلى أن يبحث عن حالهما؟ فيه وجهان:
المذهب: أن له أن يحبسه، لما ذكرناه في الحد.
والثاني: قال أبُو سعيد الإصطخري: ليس له أن يحبسه(12/430)
والفرق بينهما: أن القاذف ربما هرب ففات الحد. والمال لا يفوت بهربه. وإن ادعى عليه مالا وأقام عليه شاهداً.. فليس له أن يحلف المدعي مع شاهده حتى يبحث عن عدالته، وهل يحبس المدعى عليه إلى أن يعرف عدالته؟
إن قلنا بقول الإصطخري في التي قبلها: لا يحبس.. فهاهنا أولى وإن قلنا هناك بالمذهب.. حبس هاهنا لأن الشاهد مع اليمين حجة في المال.
[فرع: قذفه وادعى أنه كان صغيرا]
وإن قذف غيره، فقال: القاذف: قد قذفتك وكنت صغيراً يوم القذف، وقال: المقذوف بل كنت بالغا يومئذ ولا بينة لهما.. فالقول قول القاذف مع يمينه، لأن الأصل عدم البلوغ. فإذا حلف.. كان عليه التَّعزِير. وكذلك إن أقام القاذف.. البينة أنه كان صغيرا يوم القذف. وإن أقام المقذوف بينة أنه كان بالغا يوم القذف.. وجب عليه الحد.
وإن أقام كل واحد منهما بينة، فإن كانتا مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. فهما قذفان، لأنه يمكن استعمالهما على ذلك فيجب على القاذف التَّعزِير بقذفه وهو صغير، والحد بقذفه وهو كبير إن ادعاهما المقذوف.
وإن كانتا مؤرختين تأريخا واحداً.. فهما متعارضتان، فإن قلنا: إنهما تسقطان.. كان كما لو لم يكن لهما بينة، ويحلف القاذف، ولا يحد بل يعزر، وإن قلنا تستعملان.. فلا تجيء القسمة، لأن القسمة لا تجيء في القذف، ولا يجيء الوقف، لأن القذف لا يجوز وقفه، ولكن يقرع بينهما، فإن خرجت القرعة للقاذف.. لم يحد ولكن يعزر، وإن خرجت للمقذوف.. حد القاذف. وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ على قولين يأتي بيانهما إن شاء الله تَعالَى.
وبالله التوفيق(12/431)
[باب قطع السرقة]
الأصل في ثبوت القطع في السرقة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تَعالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] (المائدة: 38)
ورُوِي: عن ابن مَسعُودٍ: (أنه كان يقرأ: "والسارقون والسارقات فاقطعوا أيديهما ") ورُوِي: " فاقطعوا أيمانهما "
وأمَّا السنة: فما «رُوِيَ: أنه قيل لصفوان بن أمية: إن من لم يهاجر هلك، فهاجر إلى المدينة فنام في المسجد، فسرق رداؤه من تحت رأسه، فانتبه فصاح، فأخذ(12/432)
السارق وجاء به إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "فقطع يده، فقال: يا رسول الله، ما أردت هذا، هو عليه صدقة، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هلا قبل أن تأتينا به!»
وأمَّا الإجماع: فلا خلاف في ثبوت القطع في السرقة.
إذا ثبت هذا: فـ (السارق) : من يأخذ الشيء عليّ وجه الاستخفاء و (المختلس) : من يأخذ الشيء عيانا مثل أن يمد يده إلي منديل إنسان فيأخذه من رأسه. و (المنتهب) من يأخذ الشيء عيانا بالغلبة، ولا يجب القطع على المختلس والمنتهب والجاحد والخائن وقال أحمد: (يجب عليهم القطع)
دليلنا: ما روى جابر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المختلس، ولا على المنتهب، ولا على الجاحد، ولا على الخائن قطع» ، ولأن السارق يأخذ المال(12/433)
على وجه الاستخفاء، فلا يمكن انتزاع الحق منه بالحكم، فجعل القطع ردعا له، والمنتهب والمختلس والجاحد والخائن يأخذون المال على وجه يمكن انتزاع الحق منهم، فلا حاجة إلى إيجاب القطع عليهم.
[مسألة: شروط القطع وماذا لو كان السارق أو الزاني حربيا أو معاهداً؟]
ولا يجب القطع في السرقة إلا على من يسرق وهو بالغ، عاقل، مختار، مسلماً كان أو كافراً، ملتزما لأحكامهم نصابا من المال يقصد إلى سرقته من حرز مثله لا شبهة له فيه، على ما يأتي تفصيل ذلك. فإن سرق صبي أو مجنون.. لم يجب عليه القطع؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] (المائدة: 38) والصبي والمجنون لا كسب لهما، ورُوِي أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق»
ورَوَى ابن مَسعُودٍ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بجارية قد سرقت، فوجدها لم تحض، فلم يقطعها» ورُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه أتي بغلام قد سرق، فقال: اشبروه، فكان ستة أشبار إلا أنملة واحدة، فلم يقطعه فسماه: نميلة)(12/434)
وعن عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أنه أتي بغلام قد سرق فشبروه، فنقص عن خمسة أشبار، فلم يقطعه) و: (عن عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مثله) ولا مخالف لهم في الصحابة، وإن سرق وهو سكران. فهل يجب عليه القطع؟ فيه قولان، مَضَى تعليلهما في الطلاق، ولا يجب القطع على من أكره على السرقة. لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وإن نقب رجل دار رجل، وأخرج منه مالا قيمته النِّصَاب وهو يظن أنه الدار دار نفسه والمال ماله.. وجب عليه القطع خلافا لأبي حنيفة ويجب القطع على المسلم بسرقة مال الذمي، وعلي الذمي بسرقة مال المسلم، وقد مَضَى بيان ذلك. وأمَّا الحربي: فلا يجب عليه القطع بسرقة مال المسلم، لأنه لم يلتزم أحكام الإسلام.
وهل يجب القطع على المعاهد، ومن دخل إلينا بأمان، بسرقة مال المسلم؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب عليه القطع، لأنه حد لله تَعالَى، فلم يجب عليه، كحد الزِّنَى والشرب.
والثاني: يجب عليه لأنه يجب لصيانة مال المسلم.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: هل يجب عليه القطع؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يجب.(12/435)
والثاني: لا يجب.
والثالث: إن شرط عليه عند المعاهدة والأمان أنه لا يسرق، فسرق.. قطع وإن لم يشرط عليه.. لم يقطع ومنهم من قال: هو على القول الثالث قولا واحداً وأمَّا الحد في الزِّنَى: فأختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو كقطع السرقة، على ما مَضَى. ومنهم من قال لا يجب الحد في الزِّنَى قولا واحدا بكل حال لأنه حق محض لله تَعالَى.
[فرع: سرقة العبد من غير مال سيده]
وإن سرق العبد من غير مال سيده.. نظرت: فإن كان غير آبق من سيده.. وجب عليه القطع بلا خلاف. وإن كان آبقا من سيده.. وجب عليه القطع عند أكثر أهل العلم. وقال ابن عبَّاس وسعيد بن العاص: (لا يقطع)
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة: 38) وهذا عام.
ورُوِي: (أن ابن عمر أبق له عبد، فسرق، فبعث به إلى سعيد بن العاص ليقطعه، فامتنع من ذلك، وقال لا أقطع آبقا، فقطعة ابن عمر، وقال: في أي كتاب الله تَعالَى وجدتم أن الآبق لا يقطع؟ !) ولأنه إذا وجب القطع على غير الآبق.. فلأن يجب على الآبق أولى، لأنه يحتاج إلى حراسة المال عنه لحاجته إليه.
[مسألة: نصاب القطع في السرقة]
وأمَّا قدر المال الذي يقطع به السارق.. فاختلف العلماء فيه:
فمذهبنا: أنه لا يقطع فيما دون ربع دينار، ويقطع في سرقة ربع دينار فصاعداً فإن سرق غير الذهب من المتاع.. قوم به، فإن بلغت قيمته ربع دينار - والدينار هو(12/436)
مثقال الإسلام - قطع. وإن نقص عن ذلك.. لم يقطع، وبه قال أبُو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وعائشة في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وفي الفقهاء: الليث، والأَوزَاعِي، وأحمد، وإسحاق. وذهب داود وشيعته إلى: أن القطع يجب في سرقة ما قل وكثر من المال) . وبه قال الخوارج، والحسن البَصرِيّ واختاره ابن بنت الشافعي. وذهب عُثمانَ البتيُّ إلى: أنه يقطع في سرقة درهم من دراهم الإسلام، ولا يقطع فيما دون ذلك، وذهب زياد بن أبي زياد إلى: أنه يقطع بسرقة درهمين، ولا يقطع بما دونهما. وذهب أبُو هُرَيرَة، وأبو سعيد الخدري إلى: (أنه يقطع بسرقة أربعة دراهم، ولا يقطع بسرقة ما دونها)
وذهب النخغي إلى: أنه يقطع بسرقة خمسة دراهم، ولا يقطع بما دونها.
وذهب مالك: (إلي أنه يقطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم، فإن سرق غير الذهب والفضة قوم بالدراهم، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم. قطع، وإن لم تبلغ قيمته ثلاثة دراهم.. لم يقطع) وذهب أبُو حَنِيفَة إلى: (أنه لا يقطع إلا في سرقة عشرة دراهم) وهي قيمة الدينار عنده. وبه قال ابن مَسعُودٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقطعوا السارق في ربع دينار، فأما بدون ربع دينار.. فلا تقطعوه» وهذا يبطل قول جميع المخالفين.(12/437)
[فرع: سرقة ربع دينار تبرا ونحوه]
فإن سرق ربع دينار تبرا - وهو الذهب الذي ليس بخالص - لم يقطع، لأنه إذا خلص.. لم يأت منه ربع دينار، وإن سرق ربع دينار ذهبا مضروبا.. قطع للخبر. وإن سرق ربع دينار ذهبا خالصا غير مضروب، أو حليا من ذهب وزنه ربع دينار وقيمته أقل من ربع دينار مضروب.. ففيه وجهان.
[أحدهما] : قال أبُو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن أبي هُرَيرَة: لا يقطع، لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب القطع في ربع دينار» . والدينار: إنما يقع على المضروب، وربع دينار خالص لا يجيء منه ربع دينار.
والثاني: قال أكثر أصحابنا: يجب عليه القطع، وهو المذهب، لأن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع إلا في ربع دينار» ولم يرد أنه يختص بربع دينار مضروب، وإنما يريد ما يقوم مقامه أو ما يقع به عليه اسم الربع، وهذا يقع عليه اسم ربع دينار، وقيمته ربع دينار مضروب.
[فرع: قطع السارق للثمار والبقول والطبيخ ونحوه]
ويجب القطع بسرقة الثمار الرطبة، كالرطب والعنب والتين والتفاح وما أشبهها، وبسرقة البقول والرياحين والطعام الرطب كالشواء والطبيخ والهريسة، إذا بلغت قيمته نصابا، وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب القطع بسرقة شيء من ذلك بحال)
وقال الثوريُّ: إن مما يبقى يوما ويومين وأكثر، مثل الفواكه.. وجب عليه القطع بسرقتها. وإن كان مما لا يبقى، مثل الشواء والهريسة وما أشبههما.. لم يجب القطع. دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة: 38) فعم(12/438)
ولم يخص، «ورُوِى عمر بن شعيب عن أبيه، عن جده أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الثمر المعلق؟ هل فيه قطع؟ فقال؟ "لا قطع إلا فيما آواه الجرين، أو بلغ قيمته قيمة المجن ففيه القطع» ، وقيمة المجن كانت يومئذ ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وصرف الدينار باثني عشر. ورُوِي: (أن عُثمانَ قطع في أترجة قيمتها ثلاثة دراهم) ولأنه سرق ما قيمته نصاب من حرز مثله لا شبهة له فيه، فقطع، كما لو سرق ربع دينار.
وأمَّا ما رُوِيَ عن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قطع في ثمر ولا كثر» فـ: (الثمر)(12/439)
هو معروف، و: (الكثر) هو جمار النخيل، وقيل: هو الفسلان الصغار من النخل، وإنما لم يوجب فيهما القطع على عادة أهل الحجاز، لأن بساتينهم لا حوائط عليها فهي غير محروزة.
[فرع: القطع فيما يتمول إذا بلغ ثمنه نصاباً]
ويجب القطع بسرقة كل ما يتمول إذا بلغت قيمته نصابا، سواء كان أصله على الإباحة، مثل الصيود، والطيور، والخشب، والحشيش، والقار، والنفط أو غير ذلك، وقال أبُو حَنِيفَة: (ما كان أصله على الإباحة إذا ملك ثم سرق.. لا يجب فيه القطع، إلا الساج فإنه يجب فيه القطع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة 38) فعم، ولم يخص. ورُوِي: (أن «النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم» ، فنقل الحكم والسبب، وأجمعنا على: أن القطع لم يجب بسرقة المجن بعينه، وإنما كان ذلك، لأن قيمته نصاب، فاقتضى الظاهر: أن كل من سرق ما تبلغ قيمته هذا القدر.. أنه يجب عليه القطع. وإن سرق ترابا أو ما قيمته نصاب.. ففيه وجهان: أحدهما: يجب عليه القطع، لما ذكرناه.(12/440)
والثاني: لا يجب عليه القطع، لأنه عام الوجود لا يتمول في العادة، فلا تدعو النفس إلى سرقته.
وإن سرق مصحفا أو كتاب فقه أو غير ذلك يساوي نصابا، أو عليه حلية تبلغ قيمته مع ذلك نصابا.. وجب عليه القطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع)
دليلنا: أنه نوع مال فتعلق بسرقته القطع، كسائر الأموال.
[مسألة: نقب جماعة حرزا واشتركوا في إخراج المال]
وإن نقب جماعة حرزا، ودخلوا وأخرجوا منه المال، فإن بلغت قيمة ما أخرجوه ما يصيب كل واحد منهم نصابا.. وجب عليهم القطع. وإن نقص عن ذلك.. فلا قطع على واحد منهم. وبه قال أبُو حَنِيفَة والثوريُّ وإسحاق، وقال مالك وأحمد وأبو ثور: (يجب القطع على جميعهم، كما لو اشتركوا في قتل إنسان) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقطعوا السارق في ربع دينار، فأما بدون ربع دينار.. فلا تقطعوه» وكل واحد منهم لم يسرق ربع دينار فلم يقطع، ويخالف اشتراكهم في القتل، فإنا لو لم نوجب عليهم القصاص.. لجعل الاشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص، بخلاف السرقة لأن كل واحد منهم لا يقصد في العادة إلى سرقة ما دون الربع لقلته.
[فرع: نقبوا حرزا وانفرد كل واحد منهم بإخراج المال]
وإن اشترك جماعة في نقب حرز، فدخلوه وأخرج كل واحد منهم مالا انفرد بإخراجه، فإن بلغت قيمة ما أخرجه كل واحد منهم نصابا بنفسه.. وجب عليه القطع وإن لم يبلغ نصابا.. لم يقطع. وبه قال مالك.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يضم ما أخرجوه بعضه إلى بعض، فإن كان قيمة الجميع مما يصيب كل واحد منهم نصاب.. وجب عليه القطع)(12/441)
دليلنا: أن كل واحد منهم سرق دون النِّصَاب، فلم يجب عليه القطع، كما لو انفرد بالنقب.
وإن نقب جماعة حرزاً ودخلوا، فأخرج بعضهم المال، ولم يخرج الباقون شيئا.. فإن بلغت قيمة ما أخرجه كل واحد منهم نصابا.. وجب عليهم القطع، ولم يجب على الذين لم يخرجوا. وقال أبُو حَنِيفَة: (القياس: أن لا يجب القطع إلا على المخرج، وإن كان ما أخرجه بعضهم يبلغ قيمة ما يصيب كل واحد منهم نصابا قطعتهم كلهم استحسانا) .
دليلنا: أن من لم يخرج المال.. ليس بسارق، فلم يجب عليه القطع، كما لو لم يدخل.
[فرع: نقب حرزا على طعام أو مال فأخذه شيئا فشيئا]
وإن نقب رجل حرزا على طعام، فأخرج الطعام قليلا قليلا حتى بلغ قيمة ما أخذه ربع دينار.. ففيه وجهان.
أحدهما: لا يجب عليه القطع، لأن ما أخذه في المرة الأولى لا يبلغ نصابا وما أخذه بعده أخذه من حرز مهتوك فلم يجب عليه القطع.
والثاني: يجب عليه القطع، وهو الأصح، لأنه أخذ نصابا من حرز هتكه، فوجب عليه القطع، كما لو أخذه دفعة واحدة.
وإن نقب حرزا وأخذ منه ثمن دينار وخرج، ثم عاد وأخذ منه ثمنا آخر.. ففيه ثلاثة أوجه:
[أحدها] : قال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: لا يلزمه القطع، لأن الذي سرقه أولا دون النِّصَاب، والذي سرقه ثانيا أخذه من حرز مهتوك.
و [الثاني] : قال أبُو العباس: يلزمه القطع، وهو الأصح، لأنه أخذ نصابا من حرز هتكه بنفسه، فلزمه القطع، كما لو أخذه دفعة واحدة.
و [الثالث] : قال أبُو عليّ ابن خيران: إن أخذ الثمن الثاني بعد أن علم صاحب(12/442)
الدار بالنقب، أو علم الناس به.. لم يجب عليه القطع لأنه أخذه من حرز مهتوك. وإن أخذه قبل أن يعلم بالنقب.. وجب عليه القطع، لأنه أخذ النِّصَاب من حرز هتكه بنفسه وهذا طريق أصحابنا البغداديين، وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إن كان المسروق منه عالما بإخراج الثمن الأول قبل أن يخرج الثمن الثاني.. فلا يجب على السارق القطع وإن كان غير عالم بالثمن الأول قبل إخراج الثمن الثاني.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يجب عليه القطع، كما لو أخرج الثاني بعد علم المسروق منه بالأول.
والثاني: يجب عليه القطع، لأن المتاع المسروق قد لا يمكن السارق إخراجه دفعة واحدة، فصار كما لو بطَّ جيب رجل فيه دراهم، فجعلت الدراهم تخرج منه درهما درهما.
والثالث: ينظر فيه: فإن أخرج الأول ووضعه على باب النقب ثم عاد ليأخذ الثاني.. وجب عليه القطع، لأن هذا يعد في العادة سرقة واحدة. وإن أخرج الأول فذهب به إلى داره، ثم عاد وأخرج الثاني.. لم يقطع، لأنهما سرقتان.
[مسألة: السرقة من غير حرز]
ولا يجب القطع فيما سرق من غير حرز، وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة وأحمد. وقال داود: (يجب عليه الحد)
دليلنا: ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «أن رجلا من مزينة قال: يا رسول الله، كيف ترى في حريسة الجبل فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس في شيء من الماشية(12/443)
قطع، إلا ما آواه المراح وليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا ما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن.. ففيه القطع» . فأسقط القطع في الماشية إلا ما آواه المراح وفي الثمر المعلق إلا ما آواه الجرين وليس بين الحالين فرق إلا أن الشيء محرز في أحد الوضعين دون الآخر، فدلَّ على أن الحرز شرط في إيجاب القطع. وقوله: (حريسة الجبل) لها تأويلان:
أحدهما: أنه أراد سرقة الجبل، لأن السارق يسمى: الحارس، و (الحريسة) : السرقة.
والثاني: أنها مسروقة الجبل.
إذا ثبت هذا: فالحرز يختلف باختلاف المال المحرز، وقد يكون الحرز حرزاً لبعض الأموال دون بعض.
وقال أبُو حَنِيفَة: (ما كان حرزا لشيء من الأموال.. كان حرزا لجميع الأموال)
دليلنا: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل حرز الماشية المراح، وجعل حرز الثمر المعلق الجرين» ، لأنهما مالان فدلَّ على: أن الحرز يختلف باختلاف الأموال. ولأن كل ما ورد به الشَّرع مطلقا وليس له حد في اللغة ولا في الشَّرع.. كان المرجع في حده إلى العرف والعادة. كما قلنا في التفرق والقبض في البيع، ووجدنا في العرف والعادة أن الأحراز تختلف باختلاف الأموال، فكان الاعتبار في الحكم بالقطع بذلك.
إذا تقرر هذا نظرت: فإن كان المال من الذهب، أو الفضة، أو الجواهر، أو من متاع البزازين أو العطارين، أو الصيادلة فإن ترك في الدكان في السوق، وأغلق عليه الباب وأقفل.. فهو محرز بالنهار. وأمَّا الليل: فإن كان الأمن ظاهرا ً.. فهو محرز بذلك، وإن كان الأمن غير ظاهر، فإن كان في الدكان أو في(12/444)
السوق حافظ.. فهو مَحرُوز بذلك، وإن لم يكن فيه حافظ.. فهو غير مَحرُوز. وإن لم يقفل عليه فإن كان في الدكان أو في السوق حافظ متيقظ.. فهو مَحرُوز، وإن لم يكن فيه حافظ، أو كان فيه حافظ نائم.. فهو غير مَحرُوز.
وإن ترك ذلك في بيت.. نظرت: فإن كان البيت في البلاد والقرى المسكونة، فإن كان البيت مغلقا.. فهو مَحرُوز، سواء كان في البيت حافظ أو لم يكن، لأن العادة جرت بإحراز المال فيها هكذا. وإن كان البيت غير مغلق، فإن كان في البيت حافظ متيقظ.. فهو مَحرُوز. وإن لم يكن في الدار حافظ أو كان فيه حافظ نائم.. فليس بمحرز إلا أن يكون في الدار خزانة مغلقة.. فما فيها محرز وإن لم يكن في الدار حافظ.
فإن كان البيت في الصحراء أو في البستان فإن كان فيه حافظ متيقظ.. فهو حرز لما فيه وإن لم يكن فيه حافظ.. فهو غير حرز لما فيه، سواء كان البيت مفتوحا أو مقفلا لأن العادة لم تجر بإحراز المال فيه من غير حافظ. فإن كان البيت فيه حافظ نائم، فإن كان البيت مقفلا.. فهو حرز لما فيه، وإن كان غير مقفل.. فليس بحرز لما فيه.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وإن كان داره في ناحية بعيدة من البلد بقرب الصحراء أو الخرابات، فأغلق بابها وغاب عنها.. لم تكن حرزا لما فيها وإن كانت مفتوحة الباب وهو فيها مستيقظ.. فهي حرز لما فيها. وإن كان فيها وهو نائم.. فهل هي حرز لما فيها؟ فيه وجهان. وإن كان الباب مفتوحا لكن أذن للناس في الدخول، مثل الخبازين، فسرق سارق من هذه الدار ورب الدار فيها مستيقظ.. فهل يقطع؟ فيه وجهان.
[فرع: حكم أبواب الغرف في الدور وبيوت الشعر والخيام]
وأمَّا أبواب البيوت في الدار.. فحكمها حكم المتاع في البيوت، فإن كان باب الدار مغلقا.. فهي محرزة، سواء كان في الدار حافظ أو لم يكن إذا كانت الدار في العمران، وسواء كانت أبواب البيوت مفتوحة أو مغلقة(12/445)
وإن كان باب الدار مفتوحا، فإن كان في الدار حافظ.. فأبواب البيوت محرزة، مغلقة كانت أو مفتوحة. وإن لم يكن في الدار حافظ، فإن كانت أبواب البيوت مغلقة.. فهي محرزة بذلك، وإن كانت غير مغلقة.. فهي غير محرزة.
فأما باب الدار: فهو مَحرُوز بنصبه على الدار، مغلقا كان أو مفتوحا. وأمَّا الحلقة التي على الباب: فإن كانت مسمرة.. فهي محرزة بذلك وإن كانت غير مسمرة.. فهي غير محرزة. وأمَّا الآجر والحجارة واللبن: فإنها محرزة ببنيانها على الحائط، لأن العادة جرت بحفظ ذلك كذلك.
وإن ضرب فسطاطا أو خيمة في صحراء أو برية وشد أطنابه وترك فيه متاعا، فإن كان في الفسطاط أو على بابه حافظ مستيقظ أو نائم.. فالفسطاط وما فيه محرز، لأن عادة الفسطاط وما فيه هكذا يحرز. وإن لم يكن فيه ولا على بابه حافظ فالفسطاط وما فيه غير محرز، لأن العادة لم تجر بأن الفسطاط يضرب في الصحراء ولا يكون فيه أحد. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال: المسعودي [في " الإبانة "] : إن ضرب الفسطاط في الصحراء مع الجماعة.. فهو بمنزلة الدور ويكون حرزا لما فيها إذا كانت مشدودة الأذيال.
وإن ضرب فسطاطا في مفازة وحده ولم يكن معه من يتقوى به.. فذلك الفسطاط لا يكون حرزاً.
[فرع: حرز الحنطة]
فرع: [ما هو حرز الحنطة؟]
قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (والحنطة حرزها أن تكون في الجوالقات وتطرح في وسط السوق، ويضم بعضها إلى بعض ويخاط رأسها، أو تشد ويطرح(12/446)
بعضها إلى بعض ويطرح عليها حلس أو أكسية وتشد)
فمن أصحابنا من قال: هذا الذي قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على عادة أهل مصر لأنهم هكذا يحرزون الحنطة في موضع البيع، فأما في العراق وخراسان: فلا تكون محرزة إلا في البيوت والأقفال.
ومنهم من حمله على ظاهرة في جميع البلاد، لأن ما ثبتت له العرف أنه حرز لشيء في بلد.. كان ذلك حرزا له في جميع البلدان. وأمَّا الحطب.. فحرزه أن يعبأ بعضه على بعض، ويربط بحبل بحيث لا يمكن أن يسل منه شيء إلا بحل رباطه، ومن أصحابنا من قال: هذا حرزه نهارا، وأمَّا بالليل فلا بد من باب يغلق عليه أو ما يقوم مقام الباب والأول أصح.
وأمَّا الأجذاع: فإحرازها أن تطرح على أبواب المساكن لأن العادة جرت بإحرازها كذلك.
[فرع: أخذ حب من أرض مبذورة]
وإن دخل رجل إلى أرض غيره وأخذ من حب مبذور فيها ما يساوي نصابا.. ففيه وجهان حكاهما المسعوديُّ [في " الإبانة "] :
أحدهما: يجب عليه القطع، لأنه سرق البذر من حرز.
والثاني: لا يجب عليه القطع، لأن حرز كل حبة غير حرز الحبة الأولى.
[مسألة: نبش القبر وسرقة ما فيه]
قال الشيخُ أبُو إسحاق: وإن نبش قبرا وسرق منه الكفن فإن كان في برية لم يقطع - لأنه ليس بحرز للكفن وإنما يدفن في البرية للضرورة، وإن كان في مقبرة تلي العمران.. قطع(12/447)
وقال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: إذ نبش قبرا وسرق منه الكفن.. قطع من غير تفصيل. وبه قال ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البَصرِيّ، والنخعي، وربيعة، وحماد، ومالك، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا سرق كفنا من القبر، فإن كان القبر في موضع حريز، بحيث لو كان هناك مال، فوضع على ظهر الأرض فسرق وجب على سارقه القطع.. قطع سارق الكفن منه. وإن كان القبر في موضع بعيد من العمران. مثل مفازة لا يحتاج السارق في السرقة إلى انتهاز الفرصة.. لم يقطع. وإن كان القبر في مقبرة قريبة من العمران يمر بها الناس، بحيث يحتاج السارق في سرقة الكفن إلى انتهاز الفرصة في السرقة منها.. فهل يقطع؟ فيه وجهان وكذلك ما هو مدفون هناك غير الكفن. هذا مذهبنا، وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه، والثوريُّ، والأَوزَاعِي: (لا يجب القطع على سارق الكفن من القبر بحال) .
دليلنا: قول تَعالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] (المائدة: 38)
و (السارق) : اسم جنس يتناول كل من أخذ الشيء على وجه الاستخفاء، وإن كان كل نوع من السرقة يختص باسم، فيقال لمن نقب: نقاب، ولمن أخذ شيئا من الجيب: طرار، ولمن أخذ الكفن من القبر: نباش، ويسمى: المختفي.(12/448)
ولهذا: رُوِيَ أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله المختفي والمختفية» وأراد به النباش. وقال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «من اختفى ميتا.. فكأنما قتله»
ومن الدليل على وجوب القطع عليه: ما روى البراء بن عازب: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «من حرق.. حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش.. قطعناه»
ورُوِي: (أن ابن الزبير قطع نباشا بعرفات) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فدلَّ على أنه إجماع. ولأن القطع إنما وجب إحرازا للمال وصيانة له، وكفن الميت أحق بذلك لأن الحي إذا أخذت ثيابه.. استخلف بدلها، والميت لا يستخلف، فكان إيجاب القطع لصيانة ثيابه أولى.
[فرع: سرقة ما زاد على الكفن أو الطيب المستحب]
فإن كفن الميت في أكثر من خمسة أثواب، أو دفن في تابوت، فسرق سارق ما زاد على خمس أثواب أو سرق التابوت من القبر.. لم يقطع، لأن ذلك غير مشروع في الكفن والدفن، فلم يجعل القبر حرزا له، كما لو دفن في القبر دنانير أو دراهم.
قال: الماسرجسي: وإن أخذ السارق من الطيب الذي طيب به الميت ما يساوي نصابا.. قطع، إلا أن يزيد على القدر المستحب في الطيب.. فلا يقطع السارق بسرقة ما زاد على المستحب،(12/449)
قال ابن الصبَّاغ: وعندي: أنه لا يجتمع من الطيب المستحب ما يساوي نصابا، لأن المستحب في تطيبه: التجمير بالعود وإن يطرح مع الحنوط وذلك لا يجتمع وإن كان مجتمعاً.. فلا قطع فيه
[فرع: مالكي الكفن]
] واختلف أصحابنا فيمن يملك الكفن:
فمنهم من قال: الكفن باق على ملك الميت لأنه محتاج إليه فكان باقيا على حكم ملكه وإن كان لا يجوز أن يدخل شيء في ملكه ابتداء، كما إذا مات وعليه دين؛ فإن الدين يكون باقيا في ذمته، وإن كان لا يجوز أن يثبت في ذمته دين ابتداء.
ومنهم من قال: إنه غير مملوك لأحد بل لله تَعالَى: لأنه لا يجوز أن يكون مملوكا لورثته، لأنهم لا يملكون التصرف فيه، ولا يجوز أن يكون مملوكا للميت، لأن الميت لا يملك.
ومنهم من قال: إنه مملوك للورثة، وهو الأصح لأنهم يملكون التركة والكفن من جملتها.
فإن كفن الميت بكفن من تركته، فأكل السبع الميت، أو ذهب به سيل وبقي الكفن، فإن قلنا: إن الكفن ملك للورثة.. قسم بينهم. وإن قلنا: إنه ملك للميت، أو لا مالك له.. نقل إلى بيت المال. ومن الذي يطالب بقطع سارق الكفن؟
إن قلنا: إنه ملك للورثة.. فهم المطالبون بقطعة. وإن قلنا: أنه لا مالك للكفن. فإن الإمام أو الحاكم يقطع سارقه من غير مطالبة أحد، كما لو سرق سارق سارية من سواري المسجد وإن قلنا: إن الكفن باق على حكم ملك الميت.. ففيه وجهان.
أحدهما: أن الحاكم لا يقطع السارق إلا بمطالبة الورثة، لأنهم يخلفون الميت.
والثاني: أن الحاكم يقطعه من غير مطالبة منهم، كما يقطع سارق مال الطفل والمجنون الذين لا ولي لهما.(12/450)
وإن كفن السيد عبده فلمن يكون الكفن ملكا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه ملك للسيد.
والثاني: أنه لا يملكه أحد، ولا يجيء فيه أنه ملك للعبد، لأنه لا يملك إلا بتمليك السيد - على القول القديم - ولم يملكه إياه.
[مسألة: النوم على الشيء أو الثوب حرز له]
وماذا لو كان معه متاع؟]
إذا كان معه ثوب أو شيء خفيف فتركه تحت رأسه ونام عليه، أو فرشه تحته ونام عليه فسرقه سارق من تحت رأسه أو من تحت جنبيه.. قطع لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع سارق رداء صفوان من تحت رأسه» . ولأن العادة في الأشياء الخفيفة أنها تحرز هكذا:
فإن تزحزح عنه في النوم وخرج من تحته، فسرقة سارق.. لم يقطع، لأنه خرج عن أن يكون محرزا. وإن ترك الثوب أو المتاع بين يديه وهو ينظر إليه فهو محرز به. فإن تغفله إنسان وسرقة.. قطع - لأنه محرز به وإن نام أو تشاغل عنه فهو غير مَحرُوز - فإن سرقه إنسان.. لم يقطع.
قال الشيخُ أبُو إسحاق: فكذلك لو تركه خلفه بحيث لا تناله اليد فسرقه سارق.. لم يقطع، لأنه غير مَحرُوز. وقال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (ولو ترك متاعه بين يديه فسرق.. لم يقطع سارقه) قال أصحابنا: أراد بذلك: إذا نام
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إذا ترك متاعه في موضع وقعد بقربه بحيث يقع بصره عليه، فإن كان ذلك الموضع لا يمر الناس فيه غالبا، مثل صحراء متباعدة عن الشارع، فتغفله إنسان فسرقة.. قطع وإن كان ذلك الموضع يمر الناس فيه غالبا، أو كان مشتركا بين جماعة الناس، كالمسجد أو قارعة الطريق ففيه وجهان:(12/451)
أحدهما: لا يجب عليه القطع، لأن ذلك الموضع منتاب للناس، فلا يكون حرزاً.
والثاني: يجب عليه القطع، كالتي قبلها.
وإن وضع متاعه في موضع غير محاط بالجدران، أو كان محاطاً لكن الباب مفتوح، ونام بقربه، فإن كان ذلك الموضع ليس بملك له.. لم يقطع سارق متاعه منه، لأن المكان لا يملكه، فلم يحفظ متاعه بل ضيعه. وإن كان المكان ملكاً له..
ففيه وجهان:
أحدهما: أن المال مَحرُوز، لأن المكان ملكه وهو فيه، وقد جرت العادة بأن ينام صاحب الدار الساعة والساعتين والباب مفتوح.
والثاني: أنه غير مَحرُوز، لأن المكان وإن كان ملكه.. فإن الباب مفتوح والنائم كالغائب.
[فرع: علق ثيابه في الحمام أو المسبح فسرقت]
وإن علق ثيابه في الحمام، فسرقها سارق من هناك، فإن أمر الحمامي أو غيره بمراعاتها فرعاها، وسرقها سارق في حال مراعاته لها.. قطع السارق، لأنها محرزة بمن يراعيها. فإن لم يراعها أحد.. لم يقطع السارق، لأنها غير محروزة، لأن الحمام مستطرق.
[مسألة: أحوال سرقة الجمال]
وإن سرق سارق من الإبل.. فلا يخلو: إما أن يسرق منها وهي في المرعى، أو يسرق منها وهي مناخة، أو يسرق منها وهي مقطرة.(12/452)
فإن سرق منها وهي في المرعى.. نظرت: فإن كان معها راع وهو ينظر إلى جميعها أو يبلغها صوته إذا زجرها.. قطع، لأنها محرزة. وإن كان لا ينظر إليها، بأن غابت عنه بجبل أو غيره، أو نام عنها، أو تشاغل، أو كان ينظر إليها ولا يبلغها صوته إذا زجرها، لم يقطع لأنها غير محرزة، وإن كان ينظر إلى بعضها دون بعض.. قطع سارق الذي ينظر إليه دون الذي لا ينظر إليه.
وإن سرق منها وهي مناخة، فإن كان معها حافظ ينظر إليها.. فهي محرزة. وإن كان لا ينظر إليها ولكنها معقولة، أو معها حافظ لها بقربها.. فهي محرزة، سواء كان مستيقظاً أو مشتغلاً عنها أو نائماً، لأن العادة جرت: أن الرعاة والمسافرين إذا أرادوا النوم.. عقلوا إبلهم وناموا بقربها، لأن حل العقال: يوقظ النائم وينبه المتغافل. وإن كانت غير معقلة وحافظها نائم بقربها، أو كانت معقلة ولا حافظ معها نائم ولا مستيقظ.. لم يقطع سارقها، لأنها غير محرزة، لأن العادة لم تجر بإحرازها هكذا.
وإن سرق منها وهي مقطرة، فإن كان معها سائق ينظر إليها، ويبلغها صوته إذا زجرها، أو كان لها قائد ينظر إليها إذا التفت وأكثر الالتفات إليها ويبلغها صوته إذا زجرها.. قطع سارقها، لأنها محرزة به. هكذا ذكر الشيخ أبُو إسحاق.
وأمَّا الشيخ أبُو حامد، وأكثر أصحابنا: فلم يشترطوا بلوغ صوته إليها في شيء من ذلك كله. وقال أبُو حَنِيفَة) إذا كان قائدا لها، فليس فيها محرز إلا التي بيده زمامها) .
دليلنا: أن العادة جرت في حفظ الإبل بمراعاتها بالالتفات، فكان ذلك حرزاً لها كالتي زمامها بيده.
إذا ثبت هذا: فإن أصحابنا العراقيين لم يقدروا القطار بعدد، بل اشترطوا ما مَضَى.
وأمَّا المسعوديُّ [في " الإبانة "] : فاشترط أن لا يزيد القطار الواحد على تسع، لأن هذا هو العرف في القطار، فإن زاد القطار على ذلك.. كان ما زاد غير محرز.(12/453)
قال: وإن كان القطار تسعاً، إلا أن الجمال يقوها في سكة مبنية متقاربة البناء، بحيث يغيب عن الجمال بعض الإبل، فمن سرق مما قد غاب عن عينه شيئاً.. لم يقطع.
[فرع: سرقة جمل مع راكبه]
وإن سرق سارق جملا وعليه راكب، فقال أصحابنا البغداديون: إن كان الراكب له حراً.. لم يقطع السارق، نائما كان الراكب أو مستيقظاً، لأن اليد على الجمل للراكب، ولا يلزم السارق ضمان الجمل، لأنه لم تزل يد الراكب عنه، وإن كان الراكب عليه عبداً.. قطع السارق، لأن اليد ثبتت على العبد وعلى ما في يده.
وقال الخراسانيون: فيه أربعة أوجه:
أحدها: يجب عليه القطع بكل حال، لأنه سرق من المال نصاباً محرزاً عنه لا شبهة له فيه.
والثاني: لا يجب عليه القطع بحال، لأن يد الراكب عليه لم يزلها.
والثالث: ينظر فيه: فإن كان الراكب قوياً، بحيث لو انتبه لم يقدر السارق عليه. لم يقطع السارق، وإن كان ضعيفاً، بحيث لو انتبه يقدر على السارق.. قطع السارق.
والرابع: إن كان الراكب حراً.. لم يقطع، وإن كان عبداً.. قطع، لما مَضَى.
[فرع: السرقة من المتاع المحمول على الإبل المقطرة]
وإن سرق سارق من المتاع المحمول على الإبل المقطرة.. فحكمه حكم من سرق من الأجمال المقطرة. وكذلك: إن سرق الجمل والمتاع المحمول عليه.. قطع.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن سرق الجمل والمتاع المحمول عليه.. لم يقطع، وإن فتق الجوالق على الجمل وسرق منه المتاع.. قطع) .(12/454)
دليلنا: نأن الجَمَل وما عليه محرز بصاحبه، فقطع سارقه، كما لو سرق متاعا محرزا بالبيت.
[فرع: سرقة الأنعام ونحوها]
وإن سرق سارق من ماشية غير الإبل، كالبقر والغنم والخيل والبغال والحمير..
فلا يتصور أن تكون مقطرة ولا مناخة، وإنما يتصور أن تكون راعية أو في موضع تأوي إليه. فإن كانت راعية.. فحكمها حكم الإبل الراعية على ما مَضَى.
وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا أرسل الراعي غنمه في سكة، وفي السكة دور وأبوابها مفتوحة إلى تلك السكة.. لم تكن محرزة به، فإذا أوت إلى موضع.. فالحكم فيها وفي الإبل إذا أوت إلى أعطانها واحد، فلا يخلو: إما أن تكون في البلد، أو في الصحراء. فإذا كانت في البلد في بيت، فإن كان معها حافظ مستيقظ.. فهي محرزة، سواء كان باب البيت مغلقاً أو مفتوحاً. وإن كان الحافظ نائما، فإن كان البيت مقفلاً.. فهي محرزة، وإن كان مفتوحاً.. فهي غير محرزة.
وإن كان البيت في الصحراء، فإن لم يكن معها حافظ.. فليست بمحرزة، سواء كان البيت مقفلاً أو مفتوحا. وإن كان معها حافظ مستيقظ.. فهي محرزة، سواء كان باب البيت مفتوحاً أو مقفلا. وإن كان نائما، فإن كان البيت مغلقا.. فهي محرزة، وإن كان مفتوحا.. فهي غير محرزة، كما قلنا في المتاع في البيت.
وإن دخل رجل مراحا لغنم، أو كانت في غير مراح إلا أنها محرزة بحافظ، فحلب من ألبانها أو أخذ من أصوافها ما يساوي نصابا.. قطع؛ لأن حرز الغنم حرز لما فيها من اللبن ولما عليها من الصوف.
[مسألة: لا يجب القطع على السارق إلا بإخراجه المال من الحرز بفعله]
ولا يجب القطع على السارق إلا بأن يخرج المال من الحرز بفعله. فإن دخل مراح غنم ونفرها حتى خرجت.. قطع، لأنها خرجت بفعله. وإن خرجت من غير(12/455)
تنفير.. لم يقطع، لأنها لم تخرج بفعله. وإن أخذ منها شاة لا تساوي نصابا، فخرج في إثرها شاة تم بها النِّصَاب.. فهل يقطع؟
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : ينظر فيه: فإن كان الأغلب أنها تخرج على إثرها؛ مثل ولدها، أو كانت الشاة التي أخرجها هادية الغنم فتبعها غيرها.. قطع؛ لأن إخراج التابع لها منسوب إليه. وإن لم يكن الأغلب ذلك.. لم يقطع، لأن التي أخرج لا تساوي نصابا، والتي تبعتها لا ينسب خروجها إليها.
[فرع: نقب حرزا وأخذ مالا ثم ألقاه ثم أخذه وماذا لو بطَّ جيبا أو طعاما]
وإن نقب رجل حرزا، ودخل وأخذ المال، ورمى به من النقب إلى خارج الحرز، أو رمى به من فوق حائط الدار، أو فتح الباب ودخل ورمى به، ثم خرج وأخذه.. وجب عليه القطع، لأن المال خرج بإخراجه.
وإن نقب الحرز ولم يدخل الحرز، بل أدخل يده في النقب وأخذ المال، أو دخل في البيت محجنا وتناول به المال أو أخرجه.. وجب عليه القطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع إلا إن كان النقب صغيراً لا يمكنه الدخول منه) .
دليلنا: أنه أخرج المال بفعله، فوجب عليه القطع، كما لو كان النقب صغيرا.
وإن كان في جيب رجل أو كمه مال، فبط رجل أسفله، وأخرج منه نصابا.. قطع. وكذلك: إن كان هناك بيت فيه طعام فنقبه رجل، فانثال من الطعام ما يساوي نصابا.. قطع، لأنه خرج بسبب فعله. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال الخراسانيون: هذه مبنية على من نقب حرزا وسرق منه ثمن دينار، ثم عاد(12/456)
وسرق منه ثمنا آخر، فإن قلنا هناك: يجب القطع.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يجب القطع.. فهاهنا وجهان.
والفرق: أن هذا ما أخرجه في الدفعة الأولى متميز عما أخرجه في الدفعة الثانية، وهاهنا: الحنطة المنثالة متصلة بعضها ببعض، فصارت كالمنديل يجره من الكيس فيخرج شيء بعد شيء. وحكى صاحب " الفروع " فيها وجهين على الإطلاق.
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه هكذا يخرج.
والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لأنه لم يخرج بفعله.
[فرع: أخرج المال من الحرز بواسطة]
وإن نقب حرزا فدخل وترك المال في ماء جار في الحرز وخرج المال بجريان الماء من الحرز.. قطع؛ لأن المال خرج بسبب فعله.
وحكى الشيخُ أبُو حامد وجها آخر: أنه لا يقطع، وليس بشيء.
وإن تركه من ماء راكد في الحرز، وحرك الماء حتى خرج المال من الحرز.. قطع؛ لما ذكرناه. وإن حركه غيره.. لم يقطع؛ لأنه لم يخرج بفعله.
وإن تفجر الماء وخرج بالمال.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه أخرجه بوضعه في الماء، فهو كما لو وضعه في الماء الجاري.
والثاني: لا يجب عليه القطع، لأن الماء لم يكن آلة لإخراجه، وإنما خرج به بسبب حادث.
وإن نقب حرزا وأخذ المال وتركه على النقب في وقت هبوب الريح، فأطارته الريح حتى أخرجته من الحرز.. قطع، كما لو تركه في ماء جار. وإن تركه على النقب.(12/457)
ولا ريح، ثم هاجت ريح فأطارته حتى أخرجته.. ففيه وجهان، كما لو تركه في ماء راكد، فتفجر الماء وأخرجه.
وإن نقب حرزا فدخله وأخذ المال وتركه على بهيمة، فساق البهيمة أو قادها حتى خرجت بالمال.. قطع؛ لأنها خرجت بسبب فعله.
وحكى الشيخُ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال: إنه لا يقطع، وليس بشيء.
وإن لم يسق البهيمة ولم يقدها، بل خرجت باختيارها.. فأختلف أصحابنا فيه:
فقال أكثرهم: فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع، لأن البهيمة إذا أحست بالمتاع على ظهرها.. سارت في العادة، فصار فعله سببا في إخراج المال.
والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الأصح، لأن للبهيمة قصدا واختيارا، وقد خرجت باختيارها.
وقال أبُو عليّ السنجي: إن وقفت البهيمة بعد وضع المال عليها ساعة، ثم سارت.. لم يقطع وجها واحدا. وإن سارت عقيب الوضع.. فهل يقطع؟ فيه وجهان.
قال: وهكذا لو وضع لؤلؤا على جناح طائر، فإن هيجه حتى خرج من الحرز.. فعليه القطع. وإن لم يهيجه، فمكث الطائر بعد أن شد عليه ساعة، ثم طار.. لم يجب عليه القطع. وإن طار عقيب الشد.. ففيه وجهان.
وإن نقب رجل حرزا وأمر صبيا لا يميز، حرا كان أو عبدا، فأخرج منه نصابا، أو دخل هو ودفع النِّصَاب إلى الصغير وخرج به.. وجب فيه القطع على الرجل، لأن الصغير كالآلة له؛ ولهذا لو أمره بقتل إنسان فقتله.. وجب عليه القتل. هكذا ذكر(12/458)
بعض أصحابنا. وحكى صاحب " الفروع " في وجوب القطع على الرجل وجهين، كما لو وضع المال على بهيمة، فخرجت به من غير سوق ولا قَوْد.
وإن نقب رجل حرزا، وأمر صغيرا عاقلاً مميزا، فأخرج النِّصَاب.. لم يجب القطع على واحد منهما؛ لأن الرجل لم يخرج المال بفعله، والمميز له اختيار صحيح، فلا يجعل بمنزلة الآلة له، وإنما لم يجب عليه القطع؛ لأنه ليس من أهل التكليف.
[فرع: ذبح شاة أو شق ثوبا في الحرز وخرج به]
وإن نقب رجل حرزا، فدخل وأخذ شاة فذبحها في الحرز، أو ثوبا فشقه في الحرز، ثم خرج بذلك. فإن كان اللحم والثوب بعد شقه يساوي نصابا.. قطع. وإن لم يساوي نصابا.. لم يقطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع بالشاة) ؛ لأن الأشياء الرطبة لا يجب القطع بسرقتها عنده.
وقال: في الثوب: (إن خرقه طولا.. لم يجب عليه القطع؛ لأنه بالخيار: بين أن يدفع قيمته ويتملكه. وإن خرقه عرضا.. وجب عليه القطع إذا كانت قيمته نصابا بعد الخرق) .
دليلنا: أنه سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع، كما لو وجده مخروقا.
وإن سرق ما يساوي نصابا، ثم نقصت قيمته بعد ذلك فصار لا يساوي نصابا.. لم يسقط القطع عنه. وبه قال مالك. وقال أبُو حَنِيفَة: (يسقط عنه القطع) .
دليلنا: أنه نقصان حدث بعد وجوب القطع، فلم يسقط به القطع، كما لو استعمله السارق فنقصت قيمته.. فإن القطع لا يسقط عنه بلا خلاف.(12/459)
[فرع: سرق فضة أو ذهبا فصاغها دراهم ودنانير]
فرع: [سرق فضة أو ذهبا فصاغها دارهم ودنانير] :
وإن سرق فضة تساوي نصابا فضربها دراهم، أو سرق نصابا من الذهب فضربه دنانير.. قطع، ووجب عليه رد الدراهم والدنانير. وبه قال أبُو حَنِيفَة.
وقال أبُو يوسف ومحمد: لا يلزمه رد الدراهم والدنانير، وبنيا ذلك على أصلهما فيمن غصب فضة فضربها دراهم، أو ذهبا فضربه دنانير.. أنه يسقط حق صاحبها منها.
دليلنا: أن هذه عين المال المسروق منه، فوجب ردها، كما لو لم يضربها.
[فرع: نقب حرزا وابتلع فيه جوهرة أو تطيب ثم خرج]
وإن نقب حرزا فدخله فابتلع فيه جوهرة تساوي نصابا، أو ابتلع ربع دينار ثم خرج.. فإن الشيخ أبا حامد وابن الصبَّاغ قالا: إن لم تخرج منه الجوهرة أو ربع الدينار.. لم يجب عليه القطع؛ لأنه أهلك النِّصَاب في الحرز بالابتلاع، فلم يجب عليه القطع، كما لو أكل في الحرز طعاما يساوي نصابا. وإن خرجت منه الجوهرة أو ربع الدينار وهو يساوي نصابا.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه أخرجه من الحرز، فهو كما لو أخرجه بيده أو في فيه.
والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الأصح؛ لأنه بالابتلاع صار في حكم المستهلك؛ بدليل: أن لمالكه أن يطالبه ببدله، فصار بمنزلة ما لو أتلفه في الحرز.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق والمسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا ابتلع الجوهرة في الحرز وخرج.. هل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان، من غير تفصيل. ولعلهما أرادا: إذا خرجت منه بعد الخروج من الحرز. وإن دخل السارق الحرز وأخذ منه طيبا، فتطيب به في الحرز، ثم خرج، فإن لم يمكن أن يجمع منه من الذي تطيب به عند خروجه ما يساوي نصابا.. لم يقطع؛ لأن الذي أخرجه من الحرز لا يساوي نصابا. وإن أمكن(12/460)
أن يجمع منه ما يساوي نصابا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه قد أخرج من الحرز ما يساوي نصابا، فوجب عليه القطع، كما لو أخرجه في إناء.
والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لأنه قد أتلفه في الحرز بالتطيب.
[مسألة: وجوب القطع بعد خروج جميع العين المسروقة من الحرز]
ولا يجب القطع على السارق حتى تنفصل جميع العين المسروقة عن جميع الحرز بفعل السارق، أو بسبب فعله.
فإن نبش قبرا وأخرج الكفن من اللحد، ولم يخرجه عن باقي القبر، ثم خرج وتركه، أو نقب حرزا ودخل وقبض المال في الحرز، ولم يخرج به.. لم يجب عليه القطع؛ لأنه لم يخرجه عن حرزه، ولكن يجب عليه ضمانه؛ لأنه قد قبضه.
وإن أخذ طرف جذع أو طرف عمامة أو ثوب من حرز وجره، فأخرج بعضه عن الحرز، فلحقه الصراخ قبل أن ينفصل جميع الجذع أو العمامة أو الثوب عن جميع الحرز.. لم يجب عليه القطع وإن كان قد خرج من الحرز ما يساوي نصابا؛ لأن بعض العين لا ينفرد عن بعض؛ ولهذا: لو كان على رأسه عمامة وطرفها على نجاسة، فصَلَّى فيها.. لم تصح صلاته، كذلك هذا.
قال: القاضي أبُو الطيب: وكذلك إذا أخذ طرفا من العين، والطرف الآخر في يد صاحبها.. فإنه لا يضمنها؛ لأنه لم تزل يد المالك عن جميع العين. وإن أخرج نصابا من الحرز ثم رده إليه.. لم يسقط عنه القطع. وقال أبُو حَنِيفَة: (يسقط) .
دليلنا: أن القطع قد وجب عليه بالإخراج، فلم يسقط بالرد.
[فرع: اشتركا في نقب حرز وأخرج أحدهما المال وناوله للثاني أو سرقه آخر]
وإن اشترك اثنان في نقب حرز، ودخل أحدهما الحرز وأخذ المال وأخرج يده من جميع الحرز بالمال وناوله الآخر، أو رمى المال من الحرز إلى خارج الحرز فأخذه(12/461)
الآخر.. فإن الضمان يجب عليهما، وأمَّا القطع.. فإنما يجب على الداخل دون الخارج. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب القطع على أحد منهما) .
دليلنا: أنه قد أخرج المال بفعله، فوجب عليه القطع، كما لو خرج هو به.
وإن اشتركا في نقب الحرز، ودخل أحدهما فأدنى المال إلى النقب من داخل الحرز ولم يخرجه، فأدخل الخارج يده في النقب وأخرج المال.. فإن الضمان يجب عليهما، وأمَّا القطع: قال المسعوديُّ [في" الإبانة "] : فإنه يجب على الخارج لإخراجه المال من الحرز، ولا يجب على الداخل؛ لأنه لم يخرج المال من الحرز.
وإن اشترك اثنان في نقب حرز، فدخل أحدهما وأخذ نصابين وتركهما على بعض النقب، وتناولها الآخر من خارج الحرز.. فحكى أصحابنا العراقيون فيها قولين، وحكاهما المسعوديُّ في [" الإبانة "] وجهين:
أحدهما: يجب عليهما القطع؛ لأنهما اشتركا في النقب وإخراج المال فلزمهما القطع، كما لو نقب معا ودخلا معا وخرجا معا فأخرجا المال.
والثاني: لا يجب عليهما القطع وهو الأصح؛ لأن كل واحد منهما لم يخرج المال من كمال الحرز، فلم يجب عليهما القطع، كما لو دخل أحدهما وأخرج المال إلى قرب النقب ولم يخرجه، وقد مَضَى وتركه.
وإن نقب أحدهما الحرز وحده، ودخل الآخر وأخذ المال.. ففيه طريقان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: فيه قولان كالتي قبلها؛ لأن السرقة تمت بهما، فهي كالأولى.
و [الثاني] : منهم من قال لا يجب عليهما القطع هاهنا قولا واحدا؛ لأن في الأولى اشتركا في النقب وإخراج المال من الحرز، وهاهنا لم يشتركا في ذلك، وإنما انفرد أحدهما بالنقب والآخر بإخراج المال.(12/462)
وإن نقب أحدهما الحرز ودخل، فأخذ المال ورمى به من داخل الحرز إلى خارجه، وخرج ليأخذه وقد أخذه سارق آخر.. فمن أصحابنا الخراسانيين من قال: هو كما لو اشتركا في النقب، وأخرج أحدهما المال إلى بعض النقب، وأخذه الآخر. ووجه الشبه بينهما: أن الرامي لم يتناول المسروق بعد إخراجه إياه من الحرز. كما أن من أخرج المتاع إلى بعض النقب.. لم يتناوله مخرجا. وقال أصحابنا العراقيون وبعض الخراسانيين: يجب القطع هاهنا على الذي رمى بالمال قولا واحدا؛ لأنه أخرج المال من جميع الحرز، فوجب عليه القطع، كما لو خرج وأخذ المال وغصب منه.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا الخراسانيون في كيفية اشتراكهما في نقب الحرز الذي يختلف فيه الحكم في السارقين على ما مَضَى:
فمنهم من قال لا يكونان مشتركين إلا بأن يأخذ آلة واحدة بأيديهما فينقبا الحرز بها معا، كما أنه لا يجب عليهما القود في اشتراكهما في قطع العضو إلا بأن يأخذا آلة واحدة بأيديهما ويقطعا بها العضو معا. فأما إذا نقب كل واحد منهما بعض الحرز بآلة منفردا بها.. فلا يكونان مشتركين في النقب، كما لو أخذ كل واحد منهما آلة، فقطع بها جانبا من العضو وأبانه الآخر.. فإنه لا قَود على واحد منهما في العضو.
ومنهم من قال: يصيران مشتركين في النقب إذا أخذا آلة واحدة بأيديهما ونقبا بها الحرز معا، كما مَضَى. ويصيران شريكين أيضا إذا أخذ كل واحد منهما آلة وانفرد بنقب بعض الحرز، وهو الأصح؛ لأنهما قد اشتركا في نقب الحرز، فهو كما لو اشتركا في النقب بآلة واحدة معا.
[فرع: مقعد وأعمى يشتركان في سرقة]
وإن حمل أعمى مقعدا وأدخله حرزا، وكان المقعد يدل الأعمى على المال، فأخذا منه ما يساوي نصابا.. ففيه وجهان:(12/463)
أحدهما: يجب عليهما القطع؛ لأن المال لم يخرج إلا بهما، فهو كما لو اشتركا في إخراجه بالمباشرة.
والثاني: لا يجب القطع إلا على الأعمى، وهو الأصح؛ لأنه هو المباشر لإخراجه.
[مسألة: إخراج متاع من بيت في الدار أو الخان إلى رحبتها]
إذا أخرج السارق المتاع من البيت إلى حجرة الدار - وهي: الصحن - نظرت: فإن كان الصحن مشتركا بين سكان في الدار.. وجب القطع على السارق، سواء كان باب الدار مغلقا أو مفتوحا؛ لأن ما في البيت إنما هو مَحرُوز في البيت لا بباب الدار.
وإن كانت الدار جميعها لواحد.. ففيه أربع مسائل:
إحداهن: أن يكون باب البيت الذي أخرج منه المتاع مفتوحا وباب الدار مغلقا.. لم يجب القطع هاهنا؛ لأن ما في البيت مَحرُوز بباب الدار دون باب البيت، ولم يخرج المال عن حرزه.
الثانية: أن يكون باب البيت مغلقا وباب الدار مفتوحا.. فيجب القطع؛ لأن ما في البيت محرز بباب البيت لا بباب الدار، وقد أخرج المال عن حرزه.
الثالثة: أن يكون باب البيت مفتوحا وباب الدار مفتوحا.. فلا يجب عليه القطع؛ لأن المال غير مَحرُوز.
الرابعة: أن يكون باب الدار مغلقا وباب البيت مغلقا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأن المال مَحرُوز بباب البيت، فإذا خرج منه.. وجب عليه القطع، كما لو أخرجه من الدار إلى السكة.
والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الأصح؛ لأن المال محرز بباب البيت وباب الدار، ولم يخرج المال من كمال الحرز، فلم يجب عليه القطع، كما لو كان المتاع في صندوق مقفل في البيت، فأخرجه من الصندوق إلى البيت.(12/464)
هذا نقل أصحابنا العراقيين: وقال الخراسانيون: إذا كان لرجل بيت في دار له، فأخرج السارق المتاع من البيت إلى الدار، وكان باب البيت مفتوحاً وباب الدار مفتوحاً.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه أخرجه من حرزه الذي أحرز فيه وإن أخرجه إلى حرز آخر.
والثاني: لا يجب عليه القطع، لأن المتاع أحرز بالبابين جميعاً، فلما لم يخرجه منهما.. لم يكمل الإخراج.
وإن كان في الخان بيوت لجماعة، لكل واحد منهم بيت، وكانت أبواب البيوت مغلقة، وباب الخان مغلقاً، فسرق سارق من ساحة الخان وأخرجه من الخان، فإن لم يكن للسارق بيت في الخان.. قطع. وإن كان له بيت في الخان.. لم يقطع؛ لأنه سرق ما هو غير محرز عنه.
إن كان المتاع في بعض بيوت الخان، فأخرجه من لا بيت له في الخان من البيت المغلق إلى ساحة الخان، والخان مغلق الباب.. فهل يقطع؟ فيه وجهان على ما مَضَى.
[مسألة: سرقة الضيف]
وإن نزل رجل ضيفاً برجل، فسرق الضيف من مال صاحب البيت نصاباً.. نظرت: فإن سرق من متاع في البيت الذي أنزل فيه، أو من موضع غير محرز عنه.. لم يقطع؛ لما رَوَى أبُو الزبير، عن جابر أنه قال: أضاف رجل رجلاً، فأنزله في مشربة له، فوجد متاعاً له قد اختانه، فأتى به أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: (خل عنه فليس بسارق، وإنما هي أمانة اختانها) . ولأنه غير مَحرُوز عنه، فلم يقطع فيه، كما لو أخذ الوديعة التي عنده.(12/465)
وإن سرقه من موضع مَحرُوز عنه.. قطع، وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يقطع) .
دليلنا: أنه سرق نصاباً، لا شبهة له فيه، محرزاً عنه، فقطع كغير الضيف. وعلى هذا يحمل ما روي: (أن رجلاً مقطوع اليد والرجل قدم المدينة ونزل بأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكان يكثر الصلاة في المسجد، فقال أبُو بكر: ما ليلك بليل سارق، فلبثوا ما شاء الله، ففقدوا حليا لهم، فجعل ذلك الرجل يدعو على من سرق أهل هذا البيت الصالح، فمر رجل بصائغ في المدينة، فرأى عنده حلياً، فقال: ما أشبه هذا بحلي آل أبي بكر! فقال للصائغ: ممن اشتريته؟ فقال: من ضيف أبي بكر، فأخذ ذلك الرجل، فأقر أنه سرقه، فبكى أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلت: ما يبكيك من رجل سرق؟! فقال: أبكي لغرته بالله، ثم أمر فقطعت يده) ، ولم يأمر بقطعه إلا لأنه كان محرزاً عنه، بدليل الحديث الأول عنه.
[مسألة: سرق اختصاصاً لا يعد مالا ككلب ونحوه أو مما يستهان به كالقشور]
وإن سرق ما ليس بمال، كالكلب والخنزير والخمر.. لم يجب عليه القطع.
وقال عطاء: إن سرق الخمر أو الخنزير من الذمي.. وجب عليه القطع.
دليلنا: أن ذلك ليس بمال؛ بدليل: أنه لا يجب على متلفه قيمته، فلم يجب فيه القطع، كالميتة.
فإن سرق إناء يساوي نصابا فيه خمر أو بول.. ففيه وجهان:(12/466)
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه سرق نصاباً.
والثاني: لا يجب عليه القطع - وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها سرقة، سقط القطع في بعضها فسقط في جميعها، كما لو سرق مالا مشتركا بينه وبين غيره، والأول أصح؛ لأن سقوط القطع في الخمر لا يوجب سقوط القطع في الإناء.
وإن سرق قشور الرمان وما أشبهها مما يستهان به.. فهل يجب فيه القطع؟ فيه وجهان، حكاهما في " الفروع " و " التجريد ":
أحدهما: لا يجب عليه فيه القطع؛ لأنه لا يتمول.
والثاني: يجب فيه القطع، وهو المذهب؛ لأنه مال.
[فرع: سرقة آلات اللهو أو إناء أو صنم من ذهب أو فضة]
قال الشيخُ أبُو حامد وابن الصبَّاغ: إذا سرق طنبوراً، أو مزماراً، أو غير ذلك من آلة اللهو، فإن كانت قيمته على حاله ربع دينار، وإذا أزيل تأليفه كانت قيمته أقل من ربع دينار.. لم يجب فيه القطع؛ لأن تأليفه محرم لا قيمة له. وإن كان إذا نقض تأليفه وصار خشباً يستعمل في أشياء مباحة يساوي ربع دينار فصاعداً.. وجب القطع بسرقته؛ لأنه سرق ما يساوي ربع دينار. وكذلك: إن كانت قيمته بعد نقضه لمنفعة مباحة لا تبلغ ربع دينار إلا أن عليه حلية تبلغ نصاباً بنفسها، أو تبلغ مع قيمته نصاباً.. وجب بسرقته القطع. وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إن كان إذا فصل.. صلح لمنفعة مباحة، وأراد: إذا بلغت قيمته نصاباً بعد ذلك.. فهل يجب بسرقته القطع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب؛ لما تقدم ذكره.
والثاني: لا يجب بسرقته القطع - وبه قال أبُو حَنِيفَة - لأنه آلة معصية، فلم يجب بسرقته القطع، كالخمر.
والثالث: وهو قول أبي علي بن أبي هُرَيرَة -: إن أخرجه مفصلاً.. قطع، لزوال المعصية. وإن أخرجه غير مفصل.. لم يقطع؛ لبقاء المعصية.
وإن سرق إناء من ذهب أو فضة، فإن كانت قيمته من غير صنعته تبلغ نصاباً..(12/467)
وجب بسرقته القطع. وإن كانت قيمته لا تبلغ نصاباً إلا بصنعته.. بني على القولين: هل يجوز اتخاذه؟ فإن قلنا: يجوز اتخاذه.. وجب بسرقته القطع. وإن قلنا: لا يجوز اتخاذه.. لم يجب بسرقته القطع.
وإن سرق صنما من ذهب أو فضة، فإن كانت قيمته لا تبلغ نصابا إلا بصنعته.. لم يجب فيه القطع؛ لأن صنعته لا حكم لها؛ لأنه لا يجوز اتخاذه. وإن كانت قيمته تبلغ نصاباً مفصلاً.. فهو كما لو سرق طنبوراً أو مزماراً، على ما مَضَى.
[مسألة: سرقة العبيد]
وإن سرق عبداً نائماً.. وجب عليه القطع، سواء كان صغيراً أو كبيراً.
وإن كان العبد مستيقظاً.. نظرت: فإن كان صغيرا لا يفرق بين طاعة مولاه وبين طاعة غيره.. وجب عليه القطع. وإن كان كبيراً.. نظرت: فإن كان مجنوناً أو أعجمياً لا يفرق بين طاعة مولاه وبين طاعة غيره.. وجب عليه القطع. وبه قال أبُو حَنِيفَة ومالك. وقال أبُو يوسف: لا يجب القطع بسرقة الآدمي بحال.
دليلنا: أنه حيوان مملوك لا يميز، فوجب بسرقته القطع، كالبهيمة.
وإن كان العبد صغيرا مميزا أو كبيراً عاقلاً مميزاً.. لم يجب بسرقته القطع، لأنه إذا قيل له: تعال إلى موضع كذا.. فذلك خدعة وليس بسرقة بحال.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إلا أن أكرهه على الذهاب به.. فيجب عليه القطع. وإن سرق أم ولد نائمة، أو مجنونة، أو أكرهها على طريقة المسعوديّ. هل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنها مال مقوم؛ بدليل: أنه لو أتلفها.. لوجبت عليه قيمتها، فهي كالأمة القنة.
والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لأن معنى المال فيها ناقص؛ بدليل أنه لا يملك نقل ملك الرقبة فيها إلى غيره.(12/468)
[فرع: سرق حرا صغيراً]
وإن سرق حراً صغيراً:.. لم يجب عليه القطع. وبه قال أبُو حَنِيفَة.
وقال مالك: (يجب عليه القطع)
دليلنا: أنه ليس بمال، فلم يجب عليه القطع، كالحر الكبير.
وإن سرق حراً صغيراً عليه حلي يبلغ نصاباً فصاعداً.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه سرق الحلي مع الصبي، فوجب عليه القطع، كما لو سرق الحلي منفرداً.
والثاني: لا يجب عليه القطع. وبه قال أكثر أصحابنا وأبو حَنِيفَة، وهو الأصح؛ لأن يد الصبي ثابتة على ما معه من الحلي؛ ولهذا: لو وجد منبوذاً ومعه حلي.. كان له الحلي، فلم يجب القطع بسرقته، كما لو سرق متاعاً ومالكه نائم عليه.
إذا ثبت هذا: فإن حرز العبد الصغير المستيقظ، والحر الصغير- إذا سرقه مع الحلي، وقلنا: يجب عليه القطع - دار السيد والولي وما يقرب من الدار، فإن كان يلعب مع الصبيان وسرقه سارق من هناك.. وجب عليه القطع؛ لأن السيد والولي لا ينسبان إلى التفريط بتركهما هنالك.. فأما إذا تباعدا عن باب الدار؛ بأن دخلا سكة أخرى، فسرقهما سارق من هنالك.. لم يجب عليه القطع؛ لأن السيد والولي ينسبان إلى التفريط بتركهما له هناك.
[فرع: سرقة العين الموقوفة]
وإن وقف رجل عينا مما ينقل، فسرقها سارق من غير الموقوفة عليهم، فإن قلنا: إن الملك ينتقل في الوقف إلى الموقوف عليه.. فهل يجب القطع على سارقها؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن سرق أم ولد لغيره نائمة أو مجنونة.(12/469)
وإن قلنا: إن الملك في الوقف ينتقل إلى الله تَعالَى.. فهل يجب القطع بسرقتها؟ فيه وجهان أيضا حكاهما الشيخ أبُو حامد:
أحدهما: لا يجب فيها القطع؛ لأنها غير مملوكة لآدمي، فلم يجب بسرقتها القطع، كالصيود.
والثاني: يجب بسرقتها القطع؛ لأنه مال ممنوع من أخذه، فوجب بسرقته القطع وإن لم يكن له مالك معين، كستارة الكعبة.
وإن وقف نخلا أو شجراً على قوم، فسرق سارق من غير أهل الوقف عليها ما يساوي نصابا.. وجب عليه القطع وجها واحداً؛ لأن ذلك ملك للموقوف عليه، فوجب بسرقته القطع، كغلة الوقف.
[مسألة: سرق الأموال العامة أو ما فيها شبهة ملك للسارق]
ولا يجب القطع بسرقة مال له فيه شبهة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرؤوا الحدود بالشبهات» .
فإن سرق مسلم من مال بيت المال.. لم يقطع، لما رُوِيَ: أن رجلا سرق من بيت المال، فكتب بعض عمال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إليه بذلك، فقال: (خلوه، لا قطع عليه، ما من أحد إلا وله فيه حق) . ورُوِي: (أن رجلا سرق من خُمس الخمس، فرفع إلى عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - فلم يقطعه ".(12/470)
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا سرق مسلم من بيت المال.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه القطع؛ لما مَضَى.
والثاني: يجب عليه القطع؛ لأنه مال من جملة الأموال.
قال: والصحيح: أنه ينظر فيه: فإن كان المال الذي سرقه منه من مال الصدقات والسارق فقير.. فلا قطع عليه. وإن كان غنيا.. قطع، لأنه لا حق له فيه.. وإن كان المسروق من مال المصالح، فإن كان السارق فقيرا.. فلا قطع عليه، وإن كان غنيا.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه لا يجوز للإمام أن يملك الغني من مال المصالح شيئا، فلا شبهة له فيه.
والثاني: لا يجب عليه القطع؛ لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - (ما من مسلم إلا وله في بيت المال حق) وقد يصرف هذا المال في عمارة القناطر والمساجد، فيكون للغني الانتفاع بها، كما يجوز ذلك للفقير.
وإن سرق ذمي من بيت المال.. قطع؛ لأنه لا حق له فيه بحال.
وإن كفن الإمام رجلا بثوب من بيت المال، فنبشه سارق وأخذ الكفن.. قطع؛ لأن الإمام إذا صرف شيئا من مال بيت المال في جهة.. اختص بها، وانتفت الشبهة فيه لسائر الناس.
[فرع: سرقة الشريك من المال المشترك]
] إذا سرق سارق من مال مشترك بينه وبين غيره.. فذكر الشيخ أبُو حامد: أنه لا يقطع؛ لأن له شبهة في كل جزء منه؛ لأنه لا يحرز عنه.
وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة "] فيه قولين:
أحدهما: لا يقطع؛ لأنه ما من جزء إلا وهو مشاع بينهما.
والثاني: يقطع؛ لأن مال شريكه لا شبهة له فيه.(12/471)
فإذا قلنا بهذا.. نظرت: فإن كان المال متساوي الأجزاء؛ بحيث يجبر الشريك على قسمته بالأجزاء بالقرعة، كالدنانير والدراهم والحنطة والشعير.. ففيه وجهان:
أحدهما: إن كانت الدنانير بينهما نصفين، فسرق نصف دينار.. قطع؛ لأنه تحقق أن ربع الدينار ملك الشريك خاصة.
والثاني: لا يقطع بهذا؛ ولكن يجمع حقه فيما سرق؛ فإن كان المشترك دينارين.. لم يقطع إلا بأن يسرق دينارا وربعا.. ولا يقطع إذا سرق دينارا؛ لأن الدينار حقه، والدنانير متماثلة الأجزاء. وإذا امتنع أحد الشريكين من القسمة.. فللآخر أن يأخذ نصيب نفسه، فيجعل هذا السارق كأنه أخذ نصيب نفسه.
وإن كان المال المشترك غير متساوي الأجزاء؛ مثل الثياب ونحوها.. فإنه يقطع إذا سرق ما يساوي نصف دينار.
والفرق بينهما: أن المال إذا كان متساوي الأجزاء، وأخذ دينارا، وله في جملة المال دينار.. صار كأنه أخذ مال نفسه. وإذا كان متفاوت الأجزاء.. فلا يجوز له أخذ شيء منه بحال إلا بإذن شريكه، فإذا سرق ما يساوي نصف دينار.. جعل سارقا لربع دينار، فقطع.
وإن سرق السيد من مال من نصفه حر ونصفه عبد له.. ينظر: فإن سرق من المال الذي له بنصفه الحر وقد أخذ السيد نصيبه منه.. قال القفال: لم يقطع؛ لأن له شبهة في ذلك المال؛ لأن المال إنما يكون في الحقيقة لجميع البدن، ونصف بدنه له، فهو كسرقة مال ولده. وقال أبُو عليّ السنجي: يجب عليه القطع؛ لأنه لا شبهة له في هذا المال؛ لأن العبد يملكه بنصفه الحر ملكا تاما؛ ولهذا: يجب عليه فيه الزكاة، ويورث عنه على الصحيح.
[فرع: السرقة من غلة الوقف]
وإن سرق إنسان من غلة الوقف على الناس.. لم يقطع؛ لأنه من الناس. وإن كان الوقف على الفقراء والمساكين، فسرق من غلته فقير أو مسكين.. لم يقطع؛ لأنه من أهل الوقف. وإن سرق منها غني.. قطع؛ لأنه ليس من أهل الوقف.(12/472)
[فرع: السرقة لستارة الكعبة أو ما يخص المساجد]
وإن سرق ستارة الكعبة.. فنص الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أنه يجب عليه القطع) .
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليه القطع) .
دليلنا: ما رُوِيَ: (أن رجلا سرق قبطية من منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقطعه عُثمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) . ومثل هذا لا يخفى على الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، فدلَّ على: أنه إجماع. ولأن ستارة الكعبة تراد للزينة، وإحرازها نصبها عليها، فإذا سرقها سارق.. فقد سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع كسائر الأموال.
قال أصحابنا: وعلى قياس هذا: إن سرق سارية من سواري المسجد أو سرق سقف المسجد أو بابه أو تأزيره.. وجب عليه القطع؛ لأن ذلك يراد لحفظ المسجد وزينته، فهو كستارة الكعبة.
فإن سرق مسلم من قناديل المسجد أو حصره.. لم يجب عليه القطع؛ لأن له أن ينتفع بها، فكان ذلك شبهة في سقوط القطع عنه بسرقتها.
[مسألة: سرقة الوالد من مال ولده وعكسه وسرقة ذَوِي الأرحام]
] : وإن سرق الوالد من مال ولده وإن سفل من قبل البنين أو البنات.. لم يجب عليه القطع. وكذلك: إن سرق الولد من مال أحد آبائه أو أمهاته وإن علوا.. لم يجب عليه(12/473)
القطع. قال الشيخُ أبُو حامد: وهذا إجماع.
وحكى الشيخُ أبُو إسحاق وابن الصبَّاغ: أن أبا ثور قال: (يجب القطع على جميعهم؛ لعموم الآية) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» فأخبر: أن مال الولد للوالد، فلم يجب عليه القطع بسرقته، كما لو أخذ مال نفسه. وإذا ثبت ذلك في الوالد.. ثبت في الولد؛ لأن لكل واحد منهما شبهة في مال الآخر في وجوب النفقة عليه. وأمَّا الآية: فمخصوصة بما ذكرناه.
وإن سرق من مال ذَوِي رحمه غير الوالدين والأولاد؛ بأن سرق من مال أخيه، أو ابن أخيه، أو عمه، أو من أشبههم.. وجب عليه القطع.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا سرق من مال ذي رحم محرم له، كالأخ، وابن الأخ، والعم، والخال، ومن أشبههم. لم يجب عليه القطع. وإن سرق من مال ابن العم، وابن الخال، وما أشبههما.. وجب عليه القطع) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] .
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» وهذا عام. ولأنهما قرابة لا تمنع قبول الشهادة، فلم تمنع القطع في السرقة، كقرابة ابن العم.
[فرع: لا قطع على العبد في سرقته من مال سيده]
ولا على السيد من مال مكاتبه أو المأذون] : وإن سرق العبد من مال سيده.. لم يقطع. قال الشيخُ أبُو حامد: وهو إجماع.
وحكى الشيخُ أبُو إسحاق: أن أبا ثور قال: (يجب عليه القطع) وحكاه ابن الصبَّاغ عن داود.
دليلنا: ما روى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سرق العبد..(12/474)
فَبِعهُ ولو بِنَش» . و (النَّش) : عشرون درهما، فأمر ببيعه ولم يأمر بقطعه، فدلَّ على: أن القطع لا يجب عليه. ورُوِي عن السائب بن يزيد: أنه قال: (شهدت عبد الله بن عمرو الحضرمي أتى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، - بغلام له، فقال: اقطعه فإنه سرق، فقال: ما الذي سرق؟ قال: مرآة لامرأتي، قيمتها ستون درهما، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرسله، فلا قطع عليه، خادمكم سرق مالكم) . وكذلك: رُوِيَ عن ابن مَسعُودٍ، ولا مخالف لهما في الصحابة، فدلَّ على: أنه إجماع. ولأن له شبهة في مال سيده؛ لاستحقاقه النفقة في ماله، كالأب إذا سرق مال ابنه. والآية مخصوصة بما ذكرناه.
قال المسعوديُّ [في" الإبانة "] : وإن سرق السيد من مال مكاتبه أو عبده المأذون.. لم يجب عليه القطع.
[فرع: سرقة أحد الزوجين من مال الآخر]
وإن سرق أحد الزوجين من مال الآخر نصابا.. نظرت: فإن سرق من مال غير محرز عليه.. لم يجب عليه القطع. وإن سرق من مال محرز عنه.. فقد قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في موضع: (لا يجب عليهما القطع) . وقال: في موضع آخر: (يجب عليهما القطع) . واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها: فقال الشيخُ أبُو حامد: فيها طريقان:(12/475)
أحدهما: أنهما على حالين: فالموضع الذي قال: (لا يجب عليهما القطع) أراد: إذا كان مال كل واحد منهما مختلطا بمال الآخر؛ لأنه غير محرز عنه. والموضع الذي قال: (يجب عليهما القطع) أراد: إذا كان مال واحد منهما منفردا عن مال الآخر محرزا عنه.
والطريق الثاني: إذا كان مال أحدهما مختلطا بمال الآخر.. فلا يجب على أحدهما القطع بسرقة مال الآخر قولا واحدا؛ لأنه غير محرز عنه. وإن كان مال أحدهما منفردا عن مال الآخر محرزا عنه.. ففيه قولان - قال: وهو الأصح -:
أحدهما: لا يجب عليه القطع - وهو قول أبي حَنِيفَة - لأن ما لم يقطع عبده بسرقة ماله.. لم يقطع سيده بسرقته. وقد رُوِيَ عن عمر: أنه قال: في غلام الحضرمي الذي سرق مرآة امرأته: (أرسله: فلا قطع عليه، خادمكم أخذ متاعكم) .
ولأن كل واحد من الزوجين له شبهة في مال الآخر؛ أما الزوجة: فلاستحقاقها النفقة في مال الزوج، وأمَّا الزوج: فلأنه يملك الحجر عليها ومنعها من التصرف في مالها- على قول بعض الفقهاء - ولأن العادة أن كل واحد من الزوجين لا يحرز ماله عن الآخر، وإن فعل ذلك.. كان نادرا، فألحق النادر بالغالب.
والثاني: يجب عليهما القطع، وهو الصحيح؛ لعموم الآية والخبر. ولأن الزوجية عقد تستباح به المنفعة، فلم تؤثر في إسقاط القطع، كالإجارة.. وما رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. فيحمل على: أنه سرق من موضع ليس بمحرز عنه.
وذكر القاضي أبُو الطيب والشيخ أبُو إسحاق: إذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر ما هو محرز عنه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يجب عليه القطع.(12/476)
والثاني: لا يجب عليهما القطع؛ لما ذكرناه.
والثالث: يجب القطع على الزوج بسرقة مال الزوجة؛ لأنه لا يستحق حقا في مالها. ولا يجب القطع على الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن الزوجة تستحق حقا في ماله.
فإذا قلنا: لا يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر.. لم يقطع عبد أحدهما بسرقة مال الآخر؛ لما رَوَيْنَاهُ من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأرضاه. وإذا قلنا: يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر.. قطع عبد أحدهما بسرقة مال الآخر.
[فرع: سرقا معا وأحدهما ولد صاحب الحرز أو والده]
أو أحدهما صبي والآخر بالغ] :
وإن نقب رجلان حرزا لرجل، ودخلا وأخذا نصابين، وأحدهما ولد صاحب الحرز أو والده، أو نقب صبي وبالغ حرزا وأخذا نصابين.. وجب القطع على الأجنبي والبالغ. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليهما القطع) .
دليلنا: أنه يجب عليه القطع بانفراده بالسرقة، فمشاركة الآخر له في السرقة لا تسقط القطع عنه، كما لو سرق شيئين يجب القطع في أحدهما دون الآخر.
[مسألة: سرقة الرهن من حرز المرتهن ونحوه أو السارق من السارق والغاصب]
إذا سرق السارق الرهن من حرز المرتهن أو العدل، أو سرق العين المستأجرة من حرز المستأجر، أو العين المودعة من حرز المودع، أو العين المستعارة من حرز المستعير، أو مال القراض من حرز العامل.. وجب على السارق القطع؛ لأن المالك قد رضي بهذا الحرز حرزا لماله؛ إلا أن المطالب بالمال أو القطع هو مالك المال دون المرتهن والمستأجر والمودع والمستعير؛ لأنه هو المالك للمال.
فإن سرق سارق نصابا من حرز مثله، فأحرزه في حرز له، فسرقه سارق آخر من حرز هذا السارق.. فإن السارق الأول قد وجب عليه القطع بسرقته، وأمَّا السارق الثاني.. فليس للسارق الأول مطالبته برد النِّصَاب إليه ولا بالقطع؛ لأنه لا حق له فيه -(12/477)
وهذا وفاق بيننا وبين أبي حَنِيفَة - ولمالك النِّصَاب أن يطالب السارق الثاني برده، وهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب عليه القطع؛ لأنه سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع، كالسارق الأول.
والثاني: لا يجب عليه القطع، وهو الصحيح؛ لأن مالك النِّصَاب لم يرض بهذا الحرز حرزا لماله.
وإن غصب رجل من رجل نصابا وأحرزه في حرز مثله، فسرقه سارق من ذلك الحرز.. فإن الغاصب لا قطع عليه، وليس للغاصب مطالبة السارق برد العين المغصوبة إليه قبل أن يطالبه المالك برد النِّصَاب. وقال أبُو حَنِيفَة: (له المطالبة بذلك) .
دليلنا: أنه غير مالك للنصاب، فلم يكن له المطالبة برده إليه كالسارق.
إذا ثبت هذا: فللمالك مطالبة أيهما شاء برد النِّصَاب، وهل يجب القطع على السارق من الغاصب؟ على الوجهين.
وإن غصب رجل من رجل شيئا وأحرزه بحرز مثله، فنقب المغصوب منه حرز الغاصب، فإن أخذ مال نفسه لا غير.. فلا قطع عليه؛ لأنه يستحق أخذه.
وإن سرق معه نصابا من مال الغاصب.. نظرت: فإن كان المال المغصوب منه مخلوطا بمال الغاصب غير مميز عنه.. قال الشيخُ أبُو حامد، وابن الصبَّاغ، وأكثر أصحابنا: لم يجب القطع على المغصوب منه وجها واحداً؛ لأنه لا يمكنه أخذ مال نفسه إلا بأخذ مال الغاصب، وذلك شبهة له في سرقة مال الغاصب، فلم يجب عليه القطع. وإن كان مال الغاصب غير مختلط بمال المغصوب منه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه القطع؛ لأن له هتك الحرز لأخذ مال نفسه، فإذا أخذ مال الغاصب.. فقد أخذه من حرز مهتوك، فلم يجب عليه القطع.(12/478)
والثاني: يجب عليه القطع؛ لأنه لما أخذ مال الغاصب.. علمنا أنه هتك الحرز ليسرق، فإذا سرق.. وجب عليه القطع.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: إذا سرق المغصوب منه من مال الغاصب نصابا مع مال نفسه.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يجب عليه القطع.
والثاني: يجب عليه القطع؛ لما مَضَى.
والثالث: إن كان ما سرقه متميزا عن ماله.. قطع؛ لأنه لا شبهة له في سرقته. وإن كان مختلطا بماله.. لم يقطع؛ لأنه لا يتميز ما يجب فيه القطع بما لا يجب فيه القطع، فعلى قوله.. في المال المخلوط وجهان، وفي غير المختلط وجهان.
[فرع: نقب من له دين على حرز من عليه الدين]
وإن كان لرجل على رجل دين، فنقب من له الدين حرزا لمن عليه الدين، وأخذ من ماله قدر دينه، وهو نصاب.. فقد قال الشافعي: (لا قطع عليه) .
وقال أصحابنا: إنما لا يجب عليه القطع إذا كان من عليه الدين مماطلا بما عليه له من الدين مانعا له عنه؛ لأن له أن يتوصل إلى أخذ دينه عند منعه بأي وجه قدر عليه. وإن كان من عليه الدين باذلا له دينه.. وجب عليه القطع؛ لأنه لا حاجة به إلى هتك الحرز، وأخذ ذلك من غير رضا من عليه الدين.
قال ابن الصبَّاغ: فإن كان من عليه الدين غير باذل له دينه، فأخذ من له الدين أكثر من دينه.. كان كالمغصوب منه إذا سرق من مال الغاصب مع مال نفسه على ما ذكرناه، وأراد كما لو سرق المغصوب منه من مال الغاصب نصابا متميزا عن ماله.. فهل يجب عليه القطع؟ فيه وجهان.(12/479)
[فرع: سرقة الطعام في المجاعة]
وإن سرق سارق الطعام عام المجاعة.. نظرت: فإن كان الطعام موجودا، وإنما هو غال.. وجب عليه القطع؛ لأنه إذا كان موجودا.. فليس لأحد أخذه بغير إذن مالكه، فهو كالطعام في غير المجاعة. وإن كان الطعام غير موجود.. فلا قطع على من سرقه ليأكله؛ لما رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لا قطع في عام المجاعة) ، ورُوِي عنه: أنه قال: (لا قطع في عام السنة) ، وعام القحط يسمى: السنة.
ورُوِي عن مروان: أنه أتي بسارق فلم يقطعه، وقال: أراه مضطرا إليه. ولأن من اضطر إلى طعام غيره.. فله أن يأخذه ويقاتل صاحبه، وهذا السارق مضطر إليه، فلم يقطع بسرقته.
[فرع: سرقة المؤجر من المستأجر أو المعير من المستعير]
وإن استأجر رجل بيتا فأحرز فيه ماله، فنقبه المؤجر وسرق منه نصابا للمستأجر.. وجب عليه القطع. وبه قال أبُو حَنِيفَة. وقال أبُو يوسف ومحمد: لا يجب عليه القطع.(12/480)
دليلنا: أنه سرق نصابا لا شبهة له فيه من حرز مثله، فوجب عليه القطع، كما لو سرقه من بيت صاحب المال.
فإن أعار رجل رجلا بيتا، فأحرز فيه المستعير ماله، فنقبه المعير وسرق منه نصابا.. قال الشيخُان: أبُو حامد وأبو إسحاق: فهل يجب عليه القطع؛ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه القطع؛ لأن له الرجوع في عاريته متى شاء، فإن نقب البيت.. فقد رجع في عاريته فهتك حرز نفسه، فلم يجب عليه القطع بالسرقة منه.
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه يجب عليه القطع) ، لأنه لما أعاره.. ملك المستعير إحراز ماله فيه، فإذا سرق منه المعير.. فقد سرق من حرز حق، فوجب عليه القطع، كما لو أحرزه في داره.
وقال ابن الصبَّاغ والمسعوديُّ [في " الإبانة "] : الوجهان إذا نوى المعير الرجوع في العارية عند النقب، فإذا لم ينو الرجوع عند ذلك.. قطع وجها واحدا.
وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه: (لا يجب عليه القطع) وقد مَضَى الدليل عليه.
[مسألة: هبة أو بيع المسروق منه]
السارق العين المسروقة] :
وإذا وهب المسروق منه العين المسروقة من السارق أو باعها منه.. لم يسقط القطع. قال أصحابنا: سواء وهبها منه أو باعها، قبل أن يترافعا إلى الحاكم أو بعد أن يترافعا؛ فإنه لا يسقط القطع، إلا أنه إذا وهبها منه أو باعها منه بعد أن يترافعا إلى الحاكم.. فلا يسقط القطع ويستوفيه الحاكم منه. وإذا وهبها منه أو باعها منه قبل أن يترافعا إلى الحاكم.. فإن القطع لا يسقط، ولكن لا يمكن استيفاؤه منه؛ لأنه بالهبة والبيع قد سقطت مطالبته له، والإمام لا يقطع السارق إلا بمطالبة المسروق منه به، فإذا لم يكن من يطالب بالقطع.. لم يكن استيفاء القطع.
هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق.(12/481)
وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا وهبها منه وأقبضه إياها.. سقط عنه القطع، سواء كان قبل الترافع إلى الحاكم أو بعد الترافع) .
وقال: قوم من أصحاب الحديث: إن وهبها منه قبل الترافع.. سقط القطع، وإن وهبها منه بعد الترافع.. لم يسقط القطع. وحكي ذلك عن أبي يوسف وابن أبي ليلى.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» . ولم يفرق بين أن يهبها منه أو لا يهبها. «ورُوِي: أن صفوان بن أمية نام في مسجد المدينة متوسدا رداءه، فسرقه رجل من تحته، فانتبه صفوان وصاح، وأخذ السارق وأتى به النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطعه، فقال: صفوان: يا رسول الله، ما أردت هذا، هو عليه صدقة، فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فهلا قبل أن تأتيني به" وقطعه» . فلو كانت الهبة تسقط القطع.. لنبه النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إتمامها. وأمَّا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فهلا قبل أن تأتيني به» ففيه تأويلان:
أحدهما: أنه أراد: فهلا سترت عليه ولم تأتني به.
والثاني: أنه أراد: فهلا وهبت له قبل أن تأتيني به؛ فيسقط استيفاء القطع لسقوط المطالبة.
ولأنه ملك حدث بعد وجوب الحد، فلم يسقط الحد، كما لو زنَى بأمة ثم اشتراها.
إذا ثبت هذا: فذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه إذا وهبها بعد ما رفع إلى السلطان.. لم يسقط القطع. ولا يجوز أن يقال: إنه أراد: إذا وهبها منه قبل أن يرفع إلى السلطان.. يسقط القطع؛ لأنه لم يذكر ذلك، وليس لكلامه دليل خطاب، وإنما أراد به: أنه يسقط الاستيفاء، كما قال سائر أصحابنا.
[مسألة: إقرار السارق بدعوى من المسروق منه أو بدونها]
إذا ادعى رجل على رجل أنه سرق منه نصابا منه حرز مثله، فأقر المدعى عليه بذلك.. لزمه غرم النِّصَاب، والقطع بإقراره مرة. وبه قال مالك، وأبو حَنِيفَة، وأكثر أهل العلم.(12/482)
وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف، وزفر، وأحمد، وإسحاق: (لا يلزمه القطع إلا بأن يقر بالسرقة مرتين) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى من هذه القاذورات شيئا.. فليستتر بستر الله؛ فإن من أبدى لنا صفحته.. أقمنا عليه حد الله» ولم يفرق بين أن يقر مرة أو مرتين.
فإن رجع عن إقراره.. سقط عنه القطع. وبه قال أكثر أهل العلم.
وقال ابن أبي ليلى وداود: (لا يسقط عنه القطع) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه يتعلق به صيانة أموال الآدميين. والمذهب الأول؛ لما «رَوَى أبُو أمية المخزومي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بسارق، فاعترف بالسرقة ولم يوجد معه متاع، فقال له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما أخالك سرقت". فقال: بلى، فكرر عليه ذلك ثلاثا وهو يقول: بلى، ثم أمر بقطعه فقطع، ثم قال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تب إلى الله واستغفره" فقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم اغفر له وتب عليه» ، فلولا أن القطع يسقط بالرجوع.. لما عرض له النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرجوع.
فإن قطعت بعض يده ثم رجع، فإن كانت يده إذا لم يتم قطعها رجي اندمالها ومنفعتها.. لم يجز قطعها. وإن كانت إذا لم يتم قطعها لا يرجى في تركها منفعة، بل يخشى ضررها.. فالسارق بالخيار: بين أن يقطعها ليستريح منها، وبين أن يتركها.(12/483)
إذا ثبت هذا: فإن المال لا يسقط برجوعه. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: هل يسقط المال برجوعه عن إقراره بالسرقة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يسقط، كما لو أقر أنه غصب من غيره عينا ثم رجع.
والثاني: يسقط عنه؛ لأنه إقرار واحد، فإذا قبلنا رجوعه فيه في بعض أحكامه.. قبلنا رجوعه في الجميع.
وإن أقر أنه سرق نصابا لرجل من حرز مثله من غير دعوى، فصادقه المقر له.. وجب عليه ضمان النِّصَاب والقطع. وإن كذبه المقر له وقال: كنت وهبته أو أبحته له أو للناس.. لم يجب القطع؛ لأن القطع لا يجب إلا بمطالبة المسروق منه، ولا مطالبة مع ذلك.
[فرع: ادعاء رجل على آخر أنه سرقه]
وإن ادعى رجل على رجل أنه سرق منه نصابا من حرز مثله، وأنكر المدعى عليه، فأقام المدعي شاهدين ذكرين.. وجب عليه الضمان والقطع، ولا يجب عليه ذلك حتى يبين الشاهدان جنس المال وقدر النِّصَاب وصفة الحرز؛ لأن الناس مختلفون في ذلك، فوجب بيانه لينظر الحاكم فيه.
قال: القاضي أبُو الطيب: ويقولا: ولا نعلم أن له فيه شبهة.
قال ابن الصبَّاغ: وينبغي أن يكون هذا تأكيدا، لأن الأصل عدم الشبهة.
فإن قال: المشهود عليه: كذب الشاهدان، ولم أسرق.. لم يلتفت إلى قوله ولم يسقط القطع. وإن قال: المشهود عليه: صدق الشاهدان، كنت أخذته من حرز مثله ولكنه مال لي غصبه مني، أو كنت ابتعته منه أو وهبه لي وأذن لي بقبضه، أو أباحه لي أو للناس، فأنكر المسروق منه ذلك.. لم يسمع قول السارق في إسقاط حقه من المال فيحلف المسروق منه؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه السارق، ويأخذ المسروق منه ماله. وأمَّا القطع.. فيسقط.(12/484)
وقال أبُو إسحاق: لا يسقط؛ لأن هذا يؤدي إلى: أن كل من ثبت عليه قطع السرقة ادعى ذلك، فيسقط القطع. والمذهب الأول؛ لأن القطع حد، والحد يسقط بالشبهة، وذلك شبهة؛ لأنه يجوز صدقه. وهكذا: لو وجد مع امرأته رجلا يزني بها، فقال: هذه زوجتي، فكذبته.. فإنه يسقط الحد عنه.
وإن ادعى عليه أن سرق منه نصابا من حرز مثله، فأنكر المدعى عليه، فأقام المدعي على ذلك شاهدا وامرأتين، أو شاهدا وحلف معه.. ثبت للمدعي المال الذي ادعاه؛ لأنه يثبت بذلك المال، وأمَّا القطع: فلا يثبت؛ لأن القطع ليس بمال ولا المقصود منه المال. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: لا يثبت القطع، وهل يثبت المال؟ فيه قولان:
أحدهما: يثبت؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يثبت؛ لأن المال هاهنا تبع للقطع، فإذا لم يثبت القطع.. لم يثبت المال؛ لأنها شهادة واحدة، فلم تتبعض.
وإن ادعى على رجل أنه سرق نصابا من حرز مثله، فأنكر المدعى عليه، ولا بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه. فإن حلف.. لم يجب عليه غرم ولا قطع. وإن نكل.. حلف المدعي وثبت له الغرم، ولا يثبت القطع؛ لأنه حد لله تَعالَى، فلا يثبت بيمين المدعي.
[فرع: شهدا أنه سرق نصابا من رجل غائب أو أقر بذلك]
أو أنه غصبه منه غصبا] :
وإن شهد شاهدان على رجل أنه سرق نصابا من حرز مثله لرجل، والمسروق منه غائب.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (لا يقطع السارق حتى يحضر المسروق منه) وقال: (لو شهد أربعة على رجل بأنه زنَى بأمة لرجل وهو غائب.. حد، ولا يعتبر حضور السيد) . واختلف أصحابنا فيهما على ثلاثة طرق:
فـ[الطريق الأول] : قال أبُو العباس: لا يقطع حتى يحضر المسروق منه، ولا يقام الحد حتى يحضر سيد الأمة قولا واحدا؛ لأن الحد يسقط بالشبهة، ويجوز أن(12/485)
يكون عند الغائب شبهة يسقط بها الحد؛ بأن يقول في السرقة: كنت وهبته له أو أوقفته عليه، وفي الزِّنَى يجوز أن يقول: كنت وقفتها عليه، ومن نقل إقامة الحد قبل حضور السيد.. فخطأ.
و [الطريق الثاني] : نقل أبُو إسحاق جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين:
أحدهما: لا يجوز إقامة الحدين قبل حضور المالكين؛ لما ذكرناه.
والثاني: يجوز، لأن الحد قد وجب في الظاهر، فلا يجوز تأخيره.
و [الطريق الثالث] : حملهما أبُو الطيب ابن سلمة على ظاهرهما، فقال لا يجوز القطع قبل حضور المالك، ويجوز إقامة حد الزِّنَى قبل حضور السيد؛ لأن الحد في السرقة يسقط بإباحة المالك، والحد في الزِّنَى لا يسقط بالإباحة. ولأن قطع السرقة أوسع في الإسقاط؛ ولهذا: لو سرق مال والده.. لم يقطع، ولو زنَى بأمة والده.. حد. وإن أقر رجل أنه سرق نصابا من حرز مثله لرجل غائب، أو زنَى بجارية لرجل وهو غائب.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: تبنى هذه على التي قبلها، وهو: إذا ثبتت بالسرقة والزنا بالبينة، فإن قلنا: يقطع السارق ويحد الزاني قبل حضور المالك.. فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: لا يقطع السارق ولا يحد الزاني حتى يحضر المالك.. فهاهنا وجهان.
والفرق بينهما: أن ذلك إذا ثبت بالبينة.. جاز أن تكون البينة كاذبة. وإذا ثبت ذلك بإقراره.. فقد أقر على نفسه.
وذكر الشيخ أبُو حامد: إذا أقر بالسرقة ابتداء من غير دعوى.. لم يقطع حتى يحضر المسروق منه، فيطالبه.
وقال أبُو إسحاق: يقطع ولا ينتظر حضوره؛ لأن القطع قد لزم بإقراره، فلا معنى لانتظاره.
والمذهب: أنه لا يقطع؛ لأن الحد يسقط بالشبهة، ويجوز أن يكون عند الغائب(12/486)
شبهة يسقط بها القطع. فإذا قلنا: يقطع.. فلا كلام. وإذا قلنا: لا يقطع.. فهل يحبس السارق إلى أن يحضر المسروق منه؟ قال الشيخُان: فيه وجهان:
أحدهما: يحبس؛ لأن الحد قد وجب في الظاهر، وإنما أخر استيفاؤه خوف أن يكون هناك شبهة يسقط بها القطع، فوجب حبسه، كما لو وجب القطع لصبي أو مجنون.
والثاني: إن كانت غيبة المسروق منه قريبة.. حبس السارق إلى أن يقدم. وإن كانت بعيدة.. لم يحبس؛ لأن على السارق ضررا في الحبس إلى أن يحضر من الغيبة البعيدة، ولا ضرر عليه في الحبس إلى أن يحضر من الغيبة القريبة.
فإن أقر رجل أنه غصب من رجل غائب مالا.. لم يحبسه الحاكم.
والفرق بينهما: أن من أقر بالغصب.. أقر بحق للمغصوب منه، فلا يتعلق للحاكم به مطالبة، فلم يستحق حبسه. ومن أقر بالسرقة.. أقر بما يتعلق به للحاكم مطالبة، وهو القطع، فملك حبسه. وقال ابن الصبَّاغ: هل يحبس السارق؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحبس؛ لما مَضَى.
والثاني: إن كانت العين المسروقة تالفة.. حبس. وإن كانت باقية.. نظرت: فإن كانت غيبته قريبة.. أخذت منه العين وحبس. وإن كانت بعيدة.. أخذت منه العين ولم يحبس.
[فرع: أقرا بسرقة عين ذات نصاب أو ادعى السارق أنها ملك لسيده]
أو لفلان أذن له فيها] :
وإن أقر رجلان بسرقة عين قيمتها نصاب من حرز مثلها.. وجب عليهما القطع. فإن رجع أحدهما عن إقراره، وأقام الآخر على إقراره.. سقط القطع عن الراجع ولم يسقط عن الآخر؛ لأن حكم كل واحد منهما معتبر بنفسه.
وإن قال أحدهما: هذه العين لي، وصدقه شريكه، أو ادعاها شريكه لنفسه، وكذبهما المسروقة منه.. لم يقبل قولهما في ملك العين، ويسقط القطع عنهما على المذهب. وأمَّا إذا ادعاها لنفسه وكذبه شريكه، وقال: بل سرقناها.. فإن القطع يسقط عن الذي ادعاها أنها له، وهل يسقط القطع عن شريكه المكذب؟ فيه وجهان:(12/487)
[أحدهما] : قال ابن القاص وابن الصبَّاغ: لا يسقط عنه القطع؛ لأنه مقر بالسرقة ولا يدعي شبهة.
و [الثاني] : قال القفال: يسقط عنه القطع؛ لجواز صدق شريكه المدعي أنها له. ألا ترى أن رجلا لو سرق عينا من رجل، فقال: المسروق منه: العين للسارق، كنت وهبتها له أو أبحتها له.. سقط القطع؟ وكذلك هذا مثله.
فأما إذا قال أحدهما: هذه العين لشريكي الذي أخذها معي وأخذتها مع بإذنه، فقال: شريكه: ليست لي، وإنما سرقناها.. قال: الطبري في " العدة ": فلا قطع على هذا المدعي؛ لأن ما ادعاه محتمل. وهل يجب القطع على شريكه؟ فيه وجهان بناء على الوجهين، إذا شهدا على رجل بما يوجب القتل فقتل، ثم رجعا عن الشهادة، وقال أحدهما: تعمدنا الشهادة عليه ليقتل، وقال الآخر: بل أخطأنا.. فلا قَود على الذي قال: أخطأنا، وهل يجب الوقود على المقر بعمدها؟ فيه وجهان.
وإن شهد شاهدان على عبد لرجل أنه سرق نصابا لرجل من حرز مثله.. وجب عليه القطع. فإن قال: العبد: المال الذي سرقته لسيدي، فإن صدقه السيد.. سقط القطع عن العبد. وإن قال: السيد: المال ليس لي.. فقد قال ابن القاص: يسقط القطع عن العبد.
فمن أصحابنا من سلم له ذلك؛ لأن العبد ادعى ما لو ثبت.. سقط عنه به القطع، فصار كالحر إذا سرق وادعى أنه يملك ما سرقه.
ومنهم من قال لا يسقط عنه القطع؛ لأنه لا يدعي لنفسه شيئا، وإنما ادعى ملكه لمن لا يدعيه، فلم يسقط عنه القطع.
وإن قال: السارق: هذه العين لفلان وقد أذن لي في أخذها، فقال: فلان: ليست لي.. فهل يسقط القطع عن السارق؟ على الوجهين في العبد.
[مسألة: قيام البينة على سرقة عبد نصابا أو أقر هو أو سيده بذلك]
إذا قامت البينة على عبد لرجل أنه سرق لغيره نصابا.. وجب عليه القطع. فإن كان(12/488)
باقيا.. وجب رده، سواء كان في يد العبد أو في يد سيده. وإن كان تالفا.. بيعت رقبة العبد لإيفاء حق المسروق منه.
وإن أقر السيد على عبده أنه سرق لغيره نصابا وكذبه العبد.. لم يقطع العبد؛ لأن السيد لا يملك من عبده إلا المال، والقطع ليس من المال، ويقبل إقرار السيد عليه بالمال، فيباع به.
وإن أقر العبد أنه سرق من غير سيده أقل من نصاب، أو نصابا من غير حرز، فإن صدقه المولى.. كان كما لو قامت عليه البينة في وجوب ضمان ذلك في رقبته. وإن كذبه المولى.. لم يقبل إقرار العبد على السيد في تعلق ذلك برقبته؛ لأنه متهم في إزالة ملك السيد عنه، فتعلق ذلك بذمته إلى أن يعتق.
وإن أقر العبد بسرقة تقتضي القطع، فإن صدقه المولى.. فلا كلام، وإن كذبه المولى.. لزمه القطع.
وقال المزني وأحمد ومحمد بن جرير الطبري وأبو يوسف وزفر: (لا يقبل إقراره) .
دليلنا: أنه لا يتهم في الإقرار بما يوجب قطعه. فإن كان المسروق في يد السيد.. لم يقبل إقرار العبد عليه، بل يتعلق بذمته إلى أن يعتق. وإن كان المسروق في يد العبد أو تالفا.. فهل يقبل إقراره على المولى بالمال المسروق؟ فيه قولان:
أحدهما: يقبل؛ لأنه إقرار واحد، وقد زالت التهمة عنه فيه، فإذا قبل في بعضه.. قبل في جميعه.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه إقرار بالمال، فلم يقبل على السيد، كما لو أقر بالمال في غير السرقة. واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا كان المال المسروق باقيا في يد العبد، فأما إذا كان(12/489)
تالفاً.. فلا يقبل إقراره قولا واحدا في حق المولى في تعلق المال برقبته، بل يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأن المسروق إذا كان باقيا.. فالإقرار يتعلق به، وإذا كان تالفا.. لم يتعلق الإقرار بالمسروق، وإنما يتعلق برقبة العبد، فلم يقبل إقراره، كما لو أقر بغصب مال أو إتلافه. ومنهم من قال: القولان إذا كان المسروق تالفا:
أحدهما: يقبل على المولى، فتباع رقبته.
والثاني: لا يقبل، فيتعلق بذمته إلى أن يعتق.
فأما إذا كان المسروق باقيا في يده.. فلا يقبل على المولى قولا واحدا، بل يتعلق بذمته إلى أن يعتق؛ لأن يد العبد كيد المولى. ولو أقر بعين في يد المولى.. لم يقبل، فكذلك إذا أقر بعين في يده.
ومنهم من قال: القولان في الحالين، سواء كان المسروق باقيا أو تالفا؛ لأن العبد وما في يده في حكم ما في يد المولى، فإذا قبل إقرار العبد على المولى في أحدهما.. قبل في الآخر، وإذا لم يقبل إقراره في أحدهما.. لم يقبل في الآخر.
[مسألة: لا عفو ولا شفاعة إذا ثبتت السرقة الموجبة للقطع لدى السلطان]
وإذا ثبتت السرقة الموجبة للقطع عند السلطان أو الحاكم.. لم يجز له أن يعفو عنه، ولا لغيره أن يشفع إليه في ذلك؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق، فأمر به فقطع، فقيل: يا رسول الله، ما كنا نرى أنك تبلغ به هذا؟ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو كانت فاطمة بنت محمد.. لأقمت عليها الحد» .
ورُوِي: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطع امرأة من بني مخزوم، فاجتمع أهلها وأقرباؤها، وقالوا: نسأل أسامة بن زيد، فإنه حب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل رسول الله، في أمرها، فسألوه، فسأله، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: "لا تسألوني في حد" ثم صعد المنبر، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم؛ لأنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريف..(12/490)
تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع.. قطعوه. والذي بعثني بالحق نبيا: لو سرقت فاطمة.. لقطعتها» . ورُوِي: «أن الزبير شفع في سارق، فقيل له: حتى يأتي السلطان، فقال: إذا بلغ السلطان.. فلعن الله الشافع والمشفع، كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ولأن الحد لله، فلا يجوز العفو عنه ولا الشفاعة فيه: كسائر حقوق الله.
[مسألة: ما يقطع من السارق وماذا لو سرق ثم قطع ثم سرق وهكذا؟]
إذا سرق أول مرة.. قطعت يده اليمنى؛ لقول تَعالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] ، ورُوِي عن ابن مَسعُودٍ: أنه كان يقرؤها: "فاقطعوا أيمانهما". والقراءة الشاذة تجري مجرى أخبار الآحاد. ورُوِي «عن النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في السارق: "إذا سرق.. فاقطعوا يده اليمنى". و: (أتي النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسارق، فقطع يمينه»(12/491)
ورُوِي ذلك عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا مخالف لهما.
وإن سرق ثانيا بعد أن قطعت يده اليمنى.. قطعت رجله اليسرى. وبه قال عامة أهل العلم إلا عطاء؛ فإنه قال: تقطع يده اليسرى.
دليلنا: ما رُوِيَ: «أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عبَّاس يسأله: هل قطع رسول الله، في المرة الثانية اليد أو الرجل؟ فكتب إليه: (بل قطع الرجل بعد اليد» .
فإن سرق بعد أن قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى.. قطعت يده اليسرى. فإن سرق بعد ذلك.. قطعت رجله اليمنى. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق.
وقال أبُو حَنِيفَة وأصحابه والأَوزَاعِي: (لا يقطع في الثالثة ولا في الرابعة، بل(12/492)
يحبس) . ورُوِي ذلك عن عليّ بن أبي طالب، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] واسم اليد يقع على اليمنى واليسرى. وروى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في السارق: «إن سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله، ثم إن سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله» . وروى جابر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق فقطع يده، ثم أتي به ثانيا فقطع رجله، ثم أتي به ثالثا فقطع يده، ثم أتي به رابعا فقطع رجله، ثم أتي به خامسا.. فقتله» و: (قطع أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، يد الرجل الذي سرق من بيته الحلي- وكان مقطوع اليد والرجل- عند ذلك) ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. وكذلك فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فإن سرق خامسا.. فإنه يحبس ويعزر، ولا يقتل.(12/493)
وقال: عُثمانَ بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز: (يقتل) ؛ لحديث جابر.
دليلنا: ما ذكرناه من حديث أبي هُرَيرَة؛ فإنه بين حكم السارق ولم يذكر القتل. وأمَّا حديث جابر.. فمحمول على أنه قتله بزنا أو ردة.
[فرع: مكان قطع اليد والرجل حدا]
وإذا أراد الإمام قطع يد السارق.. فإنه يقطعها من مفصل الكوع. ورُوِي عن بعض السلف أنه قال: تقطع الأصابع دون الكف. وهي إحدَى الروايتين عن عليّ.
وقالت الخوارج: يقطع من المنكب.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] . وإطلاق اسم اليد ينصرف إلى اليد من الكوع؛ بدليل ما رُوِيَ: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في اليد خمسون من الإبل» ، واليد التي يجب بها خمسون إنما هي اليد من الكوع. ورُوِي عن أبي بكر: أنه قال: (إذا سرق.. فاقطعوا يده اليمنى من الكوع) . وكذلك رُوِيَ عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ولأن البطش يقع بذلك.
وإذا أراد قطع رجله.. فإنه يقطعها من مفصل القدم.
ورُوِي عن عليّ: أنه قال: (يقطع من شطر القدم) . وبه قالت الرافضة وأبو ثور.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن سرق.. فاقطعوا رجله» ، وإطلاق اسم الرجل إنما ينصرف إلى الرجل من مفصل القدم، بدليل: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الرجل خمسون من الإبل» ، وذلك إنما ينصرف إلى الرجل من مفصل القدم.(12/494)
[فرع: قطع السارق الذي فقد إحدَى يديه ونحو ذلك]
إذا قطعت يده اليمنى بجناية أو قصاص، أو سقطت بآكلة، ثم سرق.. قطعت رجله اليسرى، كما لو سرق فقطعت يده اليمنى ثم سرق ثانيا.
وإن سرق ويده اليمنى غير مقطوعة، فقطعت ظلما أو بقصاص، أو سقطت بآكلة.. قال أصحابنا البغداديون: سقط عنه القطع في هذه السرقة. وبه قال أبُو حَنِيفَة. وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : تقطع رجله اليسرى.
والأول هو المشهور؛ لأن القطع في السرقة تعلق بيده اليمنى، فإذا سقطت.. سقط القطع. ويخالف: إذا سرق ولا يمين له؛ فإن القطع لم يتعلق بها وإنما يتعلق بالعضو الذي يقطع بعدها. وإن سرق وله يد يمين تامة الأصابع، وله يد يسار شلاء أو ناقصة الأصابع، أو لم يكن له يسار.. قطعت يده اليمنى.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن لم يكن له يسار، أو كانت له يسار ناقصة الإبهام أو ناقصة إصبعين من الأصابع الأربع، أو كانت شلاء.. لم تقطع يده اليمنى) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السارق: «إذا سرق.. فاقطعوا يمينه» ولم يفرق.
وإن سرق وله كف يمين لا أصابع لها.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز قطعها، بل تقطع رجله اليسرى؛ لأن الكف ليس له بدَّل مقدر، فأشبه الذراع.
والثاني: يقطع كف يده، وهو المذهب؛ لأنه بقي بعض ما يقطع في السرقة، فلم ينتقل إلى العضو بعدها مما بعده مع وجوده، كما لو بقي في كفه أنملة.
وإن سرق وله يد شلاء، فإن قال: أهل الخبرة: لا يخاف من قطعها هلاكه..
قطعت ولم ينتقل إلى العضو الذي بعدها، كالصحيح. وإن قالوا: يخاف من قطعها هلاكه.. لم يقطع، وقطعت رجله اليسرى؛ لأنها كالمعدومة.
[فرع: تداخل حدود السرقة]
وإن سرق من رجل سرقة تقتضي القطع، ثم سرق من آخر سرقة تقتضي القطع قبل(12/495)
القطع، ثم سرق ثالثا ورابعا.. فإنه يقطع العضو الذي وجب قطعه للسرقة الأولى ويقع ذلك عن جميع السرقات؛ لأنها حقوق لله تَعالَى فتداخلت، كما لو زنَى ثم زنَى.
وإن سرق من رجل عينا فقطعت يده فيها، ثم ردت العين إلى مالكها فسرقها هذا السارق مرة ثانية.. قطعت رجله. وكذلك: إذا سرقها ثالثا.. قطعت يده. وإن سرقها رابعا.. قطعت رجله. وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا قطع بسرقة عين مرة.. لم يقطع بسرقتها، سواء سرقها من مالكها الأول أو من غيره) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله، ثم إن سرق.. فاقطعوا يده، ثم إن سرق.. فاقطعوا رجله» ولم يفرق.
[فرع: كيفية قطع اليد]
ويجلس السارق إذا أريد قطعه؛ لأنه أمكن. ويضبط؛ لئلا يتحرك فيتعدى القطع إلى موضع آخر. ويخلع كفه، وهو: أن يشد حبل في يده من فوق كوعه، وحبل في كفه، ثم يجر الحبل الذي فوق كوعه إلى جانب مرفقه، والحبل الذي بكفه إلى جانب أصابعه حتى يبين مفصل الكف، ويقطع بسكين حاد أو بحديدة حادة قطعة واحدة، ولا يقطع بسكين غير حاد، ولا قليلا قليلا؛ لأن القصد إقامة الحد دون التعذيب. ثم يحسم موضع القطع، وهو: أن تترك يده بعد القطع في زيت أو سمن مغلي؛ لما رُوِيَ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي برجل أقر أنه سرق شملة، فقال: " اقطعوه واحسموه» ، ورُوِي ذلك: عن أبي بكر وعمر، ولا مخالف لهما. ولأن بالحسم ينقطع الدم، فلا يتلف.
والمستحب: أن يأمر الإمام من يتولى ذلك الحسم.
ولا يحسم السارق إلا بإذنه؛ لأنه مداواة، فإن لم يأذن.. لم يحسم. ويكون ثمن(12/496)
الدهن وأجرة القاطع من بيت المال؛ لأنه فيه مصلحة، فإن لم يكن في بيت المال شيء.. كان ذلك من مال السارق.
فإن قال: السارق: أنا أقطع يدي بنفسي.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يمكن من ذلك، كما قلنا في (القصاص) .
والثاني: يجوز تمكينه من ذلك؛ لأن القصد ردعه، وذلك يحصل بقطعه بنفسه، بخلاف القطع في القصاص؛ فإن القصد منه التشفي، وذلك لا يحصل بقطعه.
والمستحب: أن تعلق يده على رقبته بعد القطع، ويترك ساعة؛ لما روى فضالة بن عبيد: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق، فأمر به فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه» ، ولأن في ذلك ردعا له ولغيره من الناس.
[مسألة: قطع اليسرى بدَّل اليمنى]
إذا وجب على السارق قطع يمينه، فقال له القاطع: أخرج يمينك، فأخرج يساره ظنا منه أنها يمينه أو أن قطعها يجزئ عن قطع اليمين فقطعها.. اختلف أصحابنا فيه:
فذكر القاضي أبُو الطيب والشيخ أبُو إسحاق فيه وجهين:
أحدهما: يجزئ قطعها عن اليمين، وهو المنصوص؛ لأن الحق لله تَعالَى ومبناه على المسامحة.
والثاني: لا يجزئ؛ لأنه قطع غير العضو الذي تعلق به القطع فلم يجزه، كما قلنا في (القصاص) . فعلى هذا: إن قال: القاطع: علمت أنها اليسار أو أن قطعها لا يجزئ عن اليمين.. وجب عليه القصاص في اليسار.
وإن قال: ظننتها اليمين، أو أن قطعها يجزئ عن اليمين.. وجب عليه(12/497)
ديتها. وقال الشيخُ أبُو حامد: يرجع إلى القاطع، فإن قال: علمت أنها اليسار، أو أنها لا تجزئ عن اليمين وعمدت إلى قطعها.. وجب عليه القصاص في اليسار، ووجب قطع يمين السارق.
وإن قال: القاطع: لم أعلم أنها اليسار، أو علمتها اليسار وظننتها تجزئ عن اليمين.. فالقول قوله مع يمينه، ولا قصاص عليه، بل عليه دية اليسار، وهل يسقط القطع عن يمين السارق؟ فيه قولان. قال أبُو إسحاق المَروَزِيُّ: إذا وجب على السارق القطع في يمينه، فسقطت يساره بآكلة.. سقط القطع عن اليمين. قال الشيخُ أبُو حامد: وأظنه أخذه من أحد القولين في هذه المسألة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الشافعيَّ، إنما أسقط القطع عن اليمين فيها على أحد القولين - إذا أخذت اليسار بنية القطع عن اليمين بسرقة- وهذا المعنى غير موجود فيه إذا سقطت اليسار بآكلة.
[مسألة: في السرقة القطع ورد المسروق معا]
إذا سرق نصابا يجب فيه القطع، فإن كان النِّصَاب باقيا.. وجب قطع السارق، ووجب عليه رد المال المسروق بلا خلاف. وإن كان تالفا.. لزمه القطع والغرم عندنا. وبه قال الحَسَن البَصرِيّ، وحماد، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبُو حَنِيفَة والثوريُّ: (لا يجمع بين الغرم والقطع، فإذا ثبت المسروق منه السرقة عند الحاكم.. فإنه يقطعه ولا غرم عليه. وإن طالبه المسروق منه بالغرامة، وغرم.. سقط القطع عنه) . وقال مالك: (يقطع بكل حال، فإن كان موسراً.. كان عليه الغرم، وإن كان معسراً.. فلا غرم عليه) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» ولم يفرق. ولأنه حد لله تَعالَى يجب بإيقاع فعل في عين، فإذا وجب رد العين مع بقائها.. جاز أن يجب الحد وغرم العين مع تلفها، كما لو غصب جارية وزنا بها.
وبالله التوفيق(12/498)
[باب حد قاطع الطريق]
الأصل في حد قاطع الطريق: قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] [المائدة: 33] .
وهذه الآية نزلت في قطاع الطريق. وبه قال ابن عبَّاس، ومالك، وأبو حَنِيفَة وأكثر أهل العلم. وقال بعض الناس: نزلت في أهل الذمة إذ نقضوا الذمة ولحقوا بدار الحرب. وقال ابن عمر: (نزلت في المرتدين من العرنيين) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] فأمر بقتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وأسقط عنهم بالتوبة من قبل أن يقدر عليهم هذه الأحكام، وهذا إنما يكون في قطاع الطريق. فأما أهل الذمة والمرتدون إذا أسلموا.. حقنوا دماءهم قبل القدرة عليهم وبعد القدرة عليهم.
إذا ثبت هذا: فاختلف العلماء في ترتيب الأحكام المذكورة في هذه الآية في قطاع الطريق:
فمذهبنا: أنهم إذا أشهروا السلاح وأخافوا السبيل حتى صار الناس يفزعون من الاجتياز فيها خوفاً منهم.. فقد صاروا محاربين بذلك وإن لم يأخذوا شيئا، فيجب(12/499)
على الإمام طلبهم؛ لأنه إذا تركهم.. أفسدوا بأخذ الأموال والقتل. فإن هربوا.. تبعهم إلى أن يخرجوا من بلاد الإسلام، فإن أدركهم.. عزرهم بما أداه اجتهاده إليه، ويحبسهم. قال أبُو العباس: والأولى أن يحبسهم في غير بلدهم؛ لتلحقهم الوحشة.
فإن أخذوا المال ولم يقتلوا.. قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإن قتلوا ولم يأخذوا المال.. قتلهم ولم يصلبهم. وإن قتلوا وأخذوا المال.. قتلهم وصلبهم. وإن فعلوا شيئا من ذلك وهربوا.. تبعهم الإمام، فإن ظفر بهم.. أقام عليهم من الحدود ما وجب عليهم، وإن لم يظفر بهم.. تبعهم حتى يخرجوا من بلاد الإسلام.
وحكى المسعوديُّ [في " الإبانة "] : أن أبا الطيب ابن سلمة خرج قولا آخر: أنهم إذا أخذوا المال وقتلوا.. فإنه يقطعون لأخذ المال، ثم يقتلون لأجل القتل، ويصلبون للجمع بين ذلك. والمشهور هو الأول، وبه قال ابن عبَّاس، وقتادة، وحماد، وأبو مجلز، والليث، وأحمد، وإسحاق.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إذا أخافوا السبيل.. وجب عليهم التَّعزِير- كما قلنا- وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال.. وجب عليهم القتل- كما قلنا- وإن أخذوا المال ولم يقتلوا.. قطعوا- كما قلنا - وإن قتلوا وأخذوا المال.. فالإمام فيهم بالخيار: بين أن يقتلهم ويصلبهم، أو يصلبهم ويقطعهم، أو يقطعهم ويقتلهم ويصلبهم) ، والنفي عنده الحبس. وقال مالك: (إذا أشهروا السلاح وأخافوا السبيل.. فقد لزمتهم هذه الأحكام المذكورة في الآية، إلا أنها تختلف باختلاف أحوالهم، فينظر الإمام فيهم: فمن كان منهم ذا رأي.. قتله، وإن كان جلدا ولا رأي له.. قطعه، ومن لم يكن ذا رأي ولا جلد.. حبسه) .
وقال ابن المسيب والحسن ومجاهد: إذا شهروا السلاح وأخافوا السبيل.. فالإمام فيهم بالخيار بين أربعة أشياء: بين أن يقتلهم، أو يقتلهم ويصلبهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم، أو يحبسهم.
دليلنا: ما رُوِيَ عن ابن عبَّاس: أنه قال: في قطاع الطريق: (إذا قتلوا وأخذوا المال.. قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال.. قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا.. قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، و [إذا أخافوا السبيل ولم(12/500)
يأخذوا مالا] .. ينفيهم، وإذا هربوا.. يطلبهم حتى يؤخذوا فتقام عليهم الحدود) . ولا يقول مثل هذا إلا توقيفا، وإن قاله تفسيرا للآية.. فهو ترجمان القرآن وأعرف بالتأويل. ولأن العقوبات تختلف باختلاف الأجرام؛ ولهذا اختلف حد الزِّنَى في البكر والثيب، واختلف حد الزِّنَى والقذف والشرب. ولأن الله تَعالَى بدأ في الآية بالأغلظ فالأغلظ، وهذا يدل على أنها على الترتيب، كما أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ في كفارة الظهار لما كانت على الترتيب، ولما كانت كفارة اليمين على التخيير.. بدأ بالأخف فالأخف.
[مسألة: الأمكنة التي تعتبر فيها جناية قطاع الطريق وشروط تعلق الأحكام بهم]
] : وحكم قطاع الطريق إذا أخذوا المال وقتلوا، أو أخذوا المال ولم يقتلوا، أو قتلوا ولم يأخذوا المال من المصر أو البلد.. حكمهم إذا فعلوا ذلك في الصحراء. وبه قال الأَوزَاعِي، والليث، وأبو ثور، وأبو يوسف.
وقال مالك: (قطاع الطريق الذين تتعلق بهم هذه الأحكام هو: أن يفعلوا ذلك على ثلاثة أميال من المصر فصاعدا، فإن فعلوا ذلك على أقل من ثلاثة أميال أو كانوا في المصر.. لم تتعلق بهم هذه الأحكام) .
وقال أبُو حَنِيفَة: (لا تتعلق بهم هذه الأحكام إلا إذا كانوا في البرية، فأما إذا كانوا في مصر أو قرية، أو بين قريتين متقاربتين.. فلا تتعلق بهم هذه الأحكام) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية [المائدة: 33] . ولم يفرق بين أن يكون ذلك في الصحراء أو في المصر. ولأنه إذا وجبت عليهم هذه الحدود إذا فعلوا ذلك في الصحراء وهو موضع الخوف.. فلأن يجب عليهم ذلك إذا فعلوا ذلك في المصر وهو موضع الأمن أولى.
إذا ثبت هذا: فإنما تتعلق بهم هذه الأحكام في المصر إذا كان قوم عددهم يسير في قرية، فاجتمع قوم من قطاع الطريق وأشهروا السلاح عليهم وغلبوا أهل القرية ولم(12/501)
يتمكنوا من دفعهم، وأخذوا منهم المال وقتلوا، أو فعلوا أحدهما، وكذلك إذا غلبوا على طرف من المصر. فأما إذا أمكن أهل القرية منعهم، فلم يمنعوهم.. فلا تتعلق بهم هذه الأحكام.
قال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : وإن اجتمع عدد يسير على آخر القافلة في المواضع المنقطعة، فأخذوا المال وقتلوا، أو خرج الواحد والاثنان والثلاثة على آخر القافلة واستلبوا منهم شيئا، أو اعترضوهم بغير سلاح.. لم يكن حكمهم حكم قطاع الطريق؛ لأنهم غير ممتنعين ولا قاهرين لمن يقصدونهم، فهم كالمختلسين.
قال القفال: والمكابرون بالليل، وهو أن يهجم جماعة بالليل على بيت رجل بالمصابيح ويخوفونه بالقتل إن صاح أو استغاث.. حكمهم حكم قطاع الطريق.
وقال سائر أصحابنا: ليسوا بقطاع الطريق؛ لأنهم يرجعون إلى الخفية ولا يجاهرون، بل يبادرون مخافة أن يتشاعر الناس بهم. وإن خرج قطاع الطريق بالعصي والحجارة.. فهم محاربون. وقال أبُو حَنِيفَة: (ليسوا بالمحاربين) .
دليلنا: أن العصي والحجارة من جملة السلاح الذي يأتي على النفس، فأشبه الحديد.
[فرع: أخذ نصاب السرقة من حرز المثل على وجه القهر]
والغلبة يثبت حكم قطع الطريق] :
ولا يتعلق حكم قطع الطريق بأخذ المال إلا إن كان المال المأخوذ نصابا، فأما بدون النِّصَاب.. فلا يتعلق به حكم قطع الطريق.
وخرج أبُو عليّ ابن خيران قولا آخر: أنه لا يعتبر فيه النِّصَاب، كما لا يعتبر التكافؤ في القتل في المحاربة في أحد القولين. والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «القطع في ربع دينار» ولم يفرق بين السرقة وبين قطع الطريق. ولأنا لو لم نعتبر النِّصَاب في قطع الطريق.. لأوجبنا تغليظَيْن؛ قطع الرجل وسقوط اعتبار النِّصَاب، وهذا لا سبيل إليه.
ويعتبر فيه الحرز: فإن أخذ المال من غير حرز؛ لأن أخذ مالا مضيعا.. لم يتعلق(12/502)
به حكم قاطع الطريق. ولا يعتبر أن يأخذ المال فيه على وجه الاستخفاء، بل إذا أخذ النِّصَاب من حرز مثله بالقهر والغلبة مع إشهاره السلاح وإخافته السبيل.. تعلق به حكم قاطع الطريق؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، فوجب عليه القطع، كالسارق.
قال المسعوديُّ [في" الإبانة "] : وسواء أخذ النِّصَاب من مالك واحد أو ملاك.
فأما في السرقة: فإذا سرق ربع دينار من مالكين: فإن كان من حرز واحد.. قطع. وإن كان من حرزين.. لم يقطع. وسواء كان ربع الدينار الذي في الحرزين ملك واحد أو ملك جماعة؛ فإنه لا يوجب القطع. ولو أخذ في قطع الطريق ثلث دينار، وكان معه ردء وأخذ سدس دينار.. قطع الذي أخذ الثلث دون الذي أخذ السدس.
وإذا قطع قاطع الطريق على الواحد أو الجماعة.. تعلق به حكم قاطع الطريق إذا كان قاهرا لهم.
[فرع: حكم الردء الذي لم يباشر في أخذ المال أو القتل]
وماذا لو كان القاطع للطريق امرأة؟] :
ولا يجب حد قطع الطريق إلا على من باشر أخذ المال والقتل، فأما من حضر فكثر وهيب، وكان ردءا لهم أو طليعة.. فلا يجب عليه قطع ولا قتل، وإنما يعزر ويحبس. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجب على المكثر والمهيب - وهو الردء - ما يجب على من أعانه من القطع والقتل) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنَى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق» . وهذا لم يفعل أحد هذه الأشياء الثلاثة، فلم يجز قتله. ولأنه حد يجب بارتكاب معصية، فلم يجب على المعين، كما لو شد رجل امرأة لآخر حتى زنَى بها.
وإن كان في قطاع الطريق امرأة فأخذت المال أو قتلت.. وجب عليها حد قطاع الطريق. وقال أبُو حَنِيفَة: (لا يجب عليها ولا على من كان ردءا لها) .(12/503)
دليلنا: أن كل من يلزمه الحد في السرقة.. لزمه حكم قطاع الطريق، في قطع الطريق كالرجل.
وإن كان قطاع الطريق جماعة فأخذوا المال.. اعتبر أن يكون قدر ما أخذه كل واحد منهم يبلغ نصابا، فإن كان فيهم صبي أو مجنون.. فإنه يجب على شريكه في أخذ المال القطع إذا بلغت حصته نصابا، وهل يجب على شريكه في القتل القتل؟ فيه قولان بناء على القولين في عمد الصبي: هل هو عمد أو خطأ؟
[فرع: أخذ المحارب المال وما يترتب عليه من قطع]
وإذا أخذ المحارب المال ولم يقتل.. قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع، ورجله اليسرى من مفصل القدم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] [المائدة: 33] . وهو قول ابن عبَّاس ولا مخالف له. ولأن المحارب يساوي السارق في أخذ المال على وجه لا يمكن الاحتراز منه فساواه في قطع اليد وزاد عليه في شهر السلاح وإخافة السبيل فغلظ عليه بقطع الرجل.
فإذا قطعت يده اليمنى.. فإنها تحسم بالنار، ثم تقطع رجله اليسرى وتحسم بالنار في مكان واحد؛ لأنهما حد واحد. فإن لم يكن له إلا إحداهما.. قطعت لا غير. وإن لم يكن له واحدة منهما.. قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى؛ لأنه قد فقد ما يتعلق به القطع ابتداء، فانتقل إليه ما بعدهما، كما لو سرق ولا يمين له.
فإن أخذ المال وليس له إلا كف يده اليمنى أو قدم رجله اليسرى، أو ليس على أحدهما أنملة من الأصابع.. فهل يقطعان، أو ينتقل عنهما إلى اليد اليسرى والرجل اليمنى؟ فيه وجهان، كما قلنا فيه إذا سرق وليس له إلا كف اليد اليمنى ولا أنملة عليها.
[فرع: قتل المحارب وماذا لو عفا ولي المقتول عنه؟]
وإن قتل المحارب ولم يأخذ المال.. وجب قتله قودا لولي المقتول ويتحتم قتله(12/504)
لحق الله تَعالَى، فلا يجوز للإمام تركه؛ فوجوب القتل عندنا حق للآدمي وانحتامه حق لله تَعالَى. وقال بعض الناس: لا يتحتم القتل، بل إن شاء الولي قتل، وإن شاء عفا عنه، كالقتل في غير المحاربة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية [المائدة: 33] . فعين القتل، فمن قال: إنه على التخيير.. خالف ظاهر الآية. ولأن الله تَعالَى ذكر القتل هاهنا وأطلقه ولم يضفه إلى ولي المقتول، فلو كان ذلك إلى اختيار ولي المقتول.. لأضافه إليه، كما أضاف إليه القتل في غير المحاربة في قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] [الإسراء: 33] فعلم أن المخاطب بالقتل في المحاربة هم الأئمة دون الأولياء. ورُوِيَ «عن ابن عبَّاس: أنه قال: (نزل جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالحد فيهم: أن من قتل ولم يأخذ المال.. قتل» . والحد لا يكون إلا حتما، ولا مخالف له من الصحابة. ولأن ما أوجب عقوبة في غير المحاربة.. تغلظت العقوبة فيه بالمحاربة، كأخذ المال.
وإن قتل المحارب من لا يكافئه.. فهل يجب قتله به؟ فيه قولان مَضَى ذكرهما في (الجنايات) . الصحيح: لا يجب. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: هل القتل في المحاربة حق لله تَعالَى أو للآدمي؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه حق لله لا حق للآدمي فيه، إذ لو كان حقا للآدمي.. لسقط بعفوه، ولا خلاف أنه لا يسقط بعفوه.
والثاني: أنه حق للآدمي؛ لأن القصاص في غير المحاربة حق للآدمي.. فلأن يكون له في المحاربة أولى، إلا أن انحتام القتل وجب تغليظا عليه؛ لقطعه الطريق.(12/505)
ولهذين القولين فوائد:
منها: إذا قتل في المحاربة من لا يكافئه.. فإن قلنا: أنه حق لله تَعالَى.. قتل به. وإن قلنا: أنه حق للآدمي.. لم يقتل به.
الثانية: إذا قتل المحارب جماعة.. فإن قلنا: إنه حق لله تَعالَى.. قتل بجميعهم، ولا شيء للأولياء؛ لأن الحدود تتداخل. وإن قلنا: أنه حق للآدمي.. قتل بأولهم، ووجب للباقين الدية في ماله.
الثالثة: إذا عفا ولي الدم عن القاتل، فإن قلنا: إن القتل حق لله تَعالَى.. كان كما لو لم يعف، فيقتل ولا شيء لولي المقتول. وإن قلنا: أنه حق للآدمي.. سقط بعفوه ما كان حقا له؛ وهو قتله قصاصا، ووجبت له الدية في ماله، إلا أن المحارب يقتل لله تَعالَى، كما لو كان عليه قتل قصاص وقتل ردة وعفا ولي القصاص.. فإنه يقتل للردة.
[فرع: ارتكاب المحارب جناية لا توجب حدا كقطع مفصل ونحوه]
وإن قتل قاطع الطريق رجلا خطأ أو عمد خطأ، أو أخافه عمدا أو خطأ.. فإنه لا يجب عليه القصاص بذلك قولا واحدا؛ لأن هذه الجنايات لا يجب بها القصاص في غير المحاربة، فلم يجب بها في المحاربة. وإن قطع يده من المفصل، أو جرحه جراحة يثبت بها القصاص.. وجب عليه القصاص، وهل يتحتم قطعه؟ فيه قولان:
أحدهما: يتحتم؛ لأن ما أوجب العقوبة في غير المحاربة.. تغلظ بالمحاربة بانحتام القود، كالنفس.
والثاني: لا يتحتم؛ لأن الله تَعالَى ذكر حدود المحاربة؛ وهي: القتل، وقطع اليد والرجل من خلاف، والصلب. فدلَّ على أن ذلك جميع حدود المحاربة، فلو(12/506)
كان انحتام القصاص في ما دون النفس من حدود المحاربة. لذكره كما ذكر غيره.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن كانت الجناية في المحاربة فيما دون النفس مما يوجب حدا في غير المحاربة، كقطع اليد والرجل.. انحتم القصاص بها في المحاربة بلا خلاف على المذهب؛ لأنها تجب حدا في غير المحاربة، فانحتم القود فيها في المحاربة، كالنفس. وإن كانت الجناية فيما دون النفس لا توجب حدا في غير المحاربة، كالموضحة وقطع الأذن وما أشبههما.. فهل يتحتم القصاص بها في المحاربة؟ فيه وجهان؛ لأن ذلك لا يوجب حدا في الشَّرع.
[فرع: أخذ المحارب المال مع القتل وما يترتب عليه من الحد]
وإذا أخذ المحارب المال وقتل.. فقد ذكرنا: أنه يقتل ويصلب.
وخرج أبُو الطيب ابن سلمة قولا آخر: أنه تقطع يده ورجله، ثم يقتل، ثم يصلب. وحكى ابن القاص في " التلخيص " عن الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال: (يصلب قبل القتل ثلاثا، ثم ينزل ويقتل) . ومن أصحابنا من قال لا يقتل، بل يصلب حيا حتى يموت جوعا وعطشا؛ لأن الصلب يراد للزجر، ولا ينزجر بصلبه بعد موته. وقال أبُو يوسف: يصلب حيا ثلاثا، فإن مات، وإلا.. قتل وهو مصلوب.
والمذهب الأول، وما حكاه ابن القاص لا يعرف للشافعي؛ لأن كل معصية توجب عقوبة في غير المحاربة.. غلظت تلك العقوبة في المحاربة تغليظا واحدا، كما قلنا فيه إذا أخذ المال ولم يقتل.. فإنه تقطع يده ورجله، فكذلك إذا أخذ المال وقتل.. فإنه يغلظ بالقتل والصلب. وقول أبي الطيب: إنه يقطع ثم يقتل.. لا يصح؛ لأن القتل يحصل به من النَكَال أكثر من القطع.
وقول من قال: يصلب حيا حتى يموت.. باطل أيضا؛ لـ: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تعذيب الحيوان» . وهذا حيوان، وقال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قتلتم.. فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» . وقوله: إن الصلب يراد لزجره.. غير صحيح؛(12/507)
إنما يراد لزجر غيره، وذلك يحصل بصلبه بعد موته.
إذا ثبت أنه يصلب بعد موته.. قال الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإنه يصلب على خشبة ثلاثة أيام، ثم ينزل ويغسل ويكفن ويصَلَّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه مسلم قتل بحق، فهو كالمقتول في القصاص) . قال: القاضي أبُو الطيب: قال الماسرجسي: إنما نص الشافعيُّ، على صلبه ثلاثا في البلاد الباردة أو البلاد المعتدلة، فأما في البلاد الحارة.. فإنه إذا خيف تغيره قبل الثلاث.. فإنه يحنط ليمكن غسله وتكفينه. وقال أبُو عليّ ابن أبي هُرَيرَة: يصلب حتى يسيل صديده، ولا يحنط أبدا. وليس بشيء؛ لأن هذا يؤدي إلى إبطال وجوب غسله وتكفينه ودفنه.
هذا نقل أصحابنا البغداديين، وقال الخراسانيون: يصلب ثلاثا، وهل ينزل بعد الثلاث إن لم يسل صديده؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ينزل حتى يسيل صديده؛ لأن الصلب إنما يسمى صلبا بسيلان صديد المصلوب، وهو الودك، فما لم يتغير لا يذوب صديده.
والثاني: ينزل بعد الثلاث؛ لئلا يتغير فيتأذى به الناس. فإذا قلنا بهذا: فخيف تغيره قبل الثلاث.. فهل ينزل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا ينزل؛ لأن التنكيل لا يحصل بدون الثلاث.
والثاني: ينزل؛ لأنا إنما ننزله بعد الثلاث حتى لا يتغير على الصليب، فإذا خيف ذلك قبل الثلاث.. أنزل.
وإن مات قبل أن يقتل.. فهل يجب صلبه بعد موته؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبُو إسحاق:
أحدهما - وهو قول الشيخ أبي حامد: أنه لا يصلب؛ لأن الصلب صفة للقتل وتابع له، وقد سقط القتل بالموت فسقط الصلب.(12/508)
والثاني - وهو قول القاضي أبي الطيب: إنه يصلب بعد موته؛ لأنهما حقان، فإذا تعذر أحدهما.. وجب الآخر.
[مسألة: اجتماع حد محاربة وقصاص]
إذا لزمه قتل في المحاربة وقصاص فيما دون النفس في غير المحاربة، فإن عفا من وجب له القصاص فيما دون النفس.. ثبت له الدية في ماله وقتل في المحاربة. وإن اختار أن يقتص منه فيما دون النفس.. اقتص منه، ثم قتل في المحاربة حتما.
ويقدم القصاص في الطرف، سواء تقدم القتل عليه أو تأخر. فإن لزمه القصاص فيما دون النفس في المحاربة، وقتل في المحاربة.. فإنه يقتص منه فيما دون النفس، ويقتل في المحاربة. وقال أبُو حَنِيفَة: (يدخل الجرح في القتل) .
دليلنا: أنهما حقان مقصودان لآدميين، فلم يتداخلا، كما لو وجبا في غير المحاربة.
وإن قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من رجل في غير المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل.. فمن قطعت يده ورجله بالخيار: بين أن يعفو عنه، وبين أن يقتص. فإن عفا عنه.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى؛ لأخذ المال في المحاربة. وإن اختار به القصاص.. قدم القصاص على القطع في المحاربة، سواء تقدم أخذ المال أو الجناية؛ لأن حق الآدمي آكد، فإذا اقتص منه.. لم يقطع للمحاربة حتى يبرأ من قطع القصاص؛ لأنهما حقان يجبان بسببين مختلفين.
وإن قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى من رجل في المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل، فإن قلنا: إن القصاص فيما دون النفس لا يتحتم في المحاربة؛ فإن عفا عن القصاص.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى؛ لأخذ المال في المحاربة. وإن اختار القصاص، أو قلنا: إنه يتحتم.. قدم القطع للقصاص في اليد اليسرى(12/509)
والرجل اليمنى على القطع في المحاربة، سواء تقدمت الجناية أو أخذ المال؛ لأن حق الآدمي آكد، ولكن لا يقطع للمحاربة حتى يبرأ من قطع القصاص؛ لأنهما حقان يجبان بسببين مختلفين.
وأمَّا إذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من رجل في غير المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل، فإن اختار المجني عليه العفو عن القصاص وعفا.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى للمحاربة. وإن اختار القصاص.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في القصاص، وسقط القطع للمحاربة؛ لأن العضو الذي تعلق به القطع قد فات.
وإذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى من رجل في المحاربة، وأخذ المال في المحاربة ولم يقتل، فإن قلنا: إن القصاص فيما دون النفس لا يتحتم في المحاربة.. فهو كما لو قطعها في غير المحاربة، وقد مَضَى. وإن قلنا: يتحتم.. قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى للقصاص، وسقط القطع للمحاربة؛ لأن القصاص حق آدمي، والقطع في المحاربة حق لله تَعالَى.. فقدم حق الآدمي عليه. هكذا ذكر الشيخ أبُو حامد وابن الصبَّاغ.
وذكر الشيخ أبُو إسحاق: أنه إذا قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في المحاربة، وأخذ المال ولم يقتل، وقلنا: يتحتم القصاص فيما دون النفس في المحاربة.. نظرت: فإن تقدم أخذ المال.. سقط قطع المحاربة؛ لما مَضَى. وإن تقدمت الجناية.. لم يسقط القطع للمحاربة، بل تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى؛ لأن اليد اليمنى والرجل اليسرى استحقا بالجناية قبل أخذ المال، فيصير كمن أخذ المال بالمحاربة وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى، فتعلق قطع المحاربة باليد اليسرى والرجل اليمنى.
[مسألة: توبة قطاع الطرق]
وإذا تاب قاطع الطريق.. نظرت: فإن تاب بعد قدرة الإمام عليه.. لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه من حدود المحاربة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] فشرط في الغفران وفي سقوط أحكام المحاربة عنهم أن تكون التوبة قبل القدرة عليهم، فدلَّ على أنها إذا كانت بعد(12/510)
القدرة عليهم.. لم يؤثر ذلك؛ لأن المحارب إذا حصل في قبضة الإمام.. وجب عليه إقامة الحد عليه، وإذا تاب في هذه الحال.. فالظاهر: أنه تاب للتقية من إقامة الحد عليه، فلم يسقط.
فأما إذا تاب قبل قدرة الإمام عليه.. فإنه تسقط عنه الحدود التي يختص وجوبها بالمحاربة قولا واحدا؛ وهي: قطع الرجل، وانحتام القتل عليه، والصلب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] .
ولا تسقط حقوق الآدميين - وهو: حد القذف، وضمان الأموال، والقصاص- بالتوبة بحال، سواء كان محاربا أو غير محارب.
وأمَّا الحدود التي تجب لحق الله تَعالَى ولا يختص وجوبها بالمحاربة؛ كحد الزِّنَى، واللواط، وحد الخمر، والسرقة.. فهل تسقط بالتوبة عن المحارب وغير المحارب؟ فيه قولان:
أحدهما: لا تسقط بالتوبة - وبه قال أبُو حَنِيفَة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] [المائدة: 38] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شرب الخمر.. فاجلدوه» ولم يفرق بين أن يتوب وبين أن لا يتوب. ولأنه حد لا يختص بالمحاربة، فلم يسقط بالتوبة، كحد القذف.
والثاني: يسقط بالتوبة، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] فأخبر: أن المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه.. غفر له جميع ما كان منه، وقال تَعالَى:(12/511)
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] إلى قوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39] [المائدة: 38-39] فأخبر: أنه إذا تاب وأصلح.. فإن الله يتوب عليه ويغفر له. والظاهر: أنه لا يتعلق عليه شيء بعد ذلك. وقال في الزِّنَى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] [النساء: 16] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التوبة تجب ما قبلها» . ورُوِي: «أن رجلا أتى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أنِّي أصبت حدا فأقمه عليّ، فقال: "أليس توضأت فصليت؟ " فقال: بلى، قال: "فلا حد عليك» فالظاهر: أنه إنما سقط عند الحد بصلاح العمل. ولأنه حد خالص لله، فسقط بالتوبة، كالحد الذي يختص بالمحاربة.
فإذا قلنا بهذا: فإن كانت هذه الحدود وجبت عليه في حال المحاربة.. سقطت عنه بالتوبة، ولا يشترط عليه في سقوط الحد مع التوبة إصلاح العمل. وإن كانت وجبت عليه في غير المحاربة.. لم تسقط عنه حتى يقرن مع التوبة إصلاح العمل.
والفرق بينهما: أن المحارب مظهر للمعاصي، فإذا تاب.. فالظاهر من حاله أنه لم يتب تقية، وإنما رجع عما كان عليه. وغير المحارب غير مظهر للمعاصي، فإذا تاب.. فالظاهر: أنه تاب تقية، فلم يحكم بصحة توبته حتى يقترن به إصلاح العمل، ويشترط إصلاحه للعمل مدة يوثق بتوبته فيها.
وأمَّا قطع اليد لأخذ المال في المحاربة.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبُو إسحاق: لا يختص بالمحاربة؛ لأنه لا يجب إلا بأخذ نصاب، فهو كالقطع في السرقة.
وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة، وأبو عليّ الطبري: يختص بالمحاربة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية [المائدة: 33] فعلق قطع اليد والرجل(12/512)
بالمحاربة، فدلَّ على أنهما يختصان معا بالمحاربة. ولأنه وجب لأخذ المال مجاهرة، وقطع اليد في السرقة يجب لأخذ المال من حرزه على وجه الاستخفاء.. فكانا مختلفين.
فعلى قول أبي إسحاق: إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه.. هل يسقط عنه قطع اليد؟ على قولين.
وعلى قول أبوي عليّ: يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه قولا واحدا.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعوديُّ [في " الإبانة "] : إذا تاب قاطع الطريق قبل الظفر به.. فالصحيح: أن ما كان حقا لله تَعالَى كالقطع ونحوه.. فإنه يسقط، وما كان حقا لآدمي، كانحتام القصاص.. لا يسقط. وقيل: يسقط القصاص أيضا. وليس بشيء. وإن تاب بعد الظفر به.. ففيه قولان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو تاب قبل الظفر به؛ لأن ما يسقط بتوبة أو غيرها لا فرق فيه قبل الظفر به أو بعد الظفر به، كسقوط قطع السرقة الواجب بالإقرار، وعكسه القصاص.
والثاني: لا يسقط؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] [المائدة: 34] . قال: وعلى هذا خرج أصحابنا وجهين في حد الزِّنَى والشرب: هل يسقط بالتوبة؟
وبالله التوفيق(12/513)
[باب حد الخمر]
الخمر محرم، والأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع.
والخمر المجمع على تحريمه هو: عصير العنب الذي قد اشتد وقذف زبده.
أما الكتاب: فقوله تَعالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] [البقرة: 219] فأخبر: أن فيهما منفعة وإثما، وأن الإثم أكبر من المنفعة. وهذا يدل على التحريم. وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة: 90] إلى قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] [المائدة: 90-91] . وفي هاتين الآيتين سبعة أدلة:
أحدها: أن الله تَعالَى قرن بين الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وقدمه عليها، وهذه الأشياء كلها محرمة، فدلَّ على تحريم الخمر.
والثاني: أن الله تَعالَى سماها رجسا، و (الرجس) : اسم للشيء النجس، وكل نجس حرام.(12/514)
الثالث: قَوْله تَعَالَى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] ، وما كان من عمل الشيطان فهو محرم.
الرابع: قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ، ولا يأمر باجتناب محرم.
الخامس: قَوْله تَعَالَى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وضد الفلاح الفساد.
السادس: قَوْله تَعَالَى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] وما صدَّ عن ذلك فهو محرم.
السابع: قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وهذا أبلغ كلمة في الزجر عن الشيء.
ويدل على تحريمه من الكتاب قَوْله تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] [الأعراف: 33] و (الإثم) : هو الخمر، قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول
واختلف الناس في سبب نزول تحريم الخمر:
فقيل: إن السبب أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: (لا ينتهى عن هذه الخمور حتى يأتي أحدنا وقد ضرب فجرح وكلم) ، فأنزل الله تَعالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] الآية [البقرة: 219] ، فاختلف الناس فيها، فقال بعضهم: هي مباحة لذكر المنفعة فيها. وقال بعضهم: هي محرمة لذكر الإثم فيها. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اللهم بين لنا بيانا شافيا، فأنزل الله تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] [النساء: 43] الآية. فقالوا: إنما حرم شربها في وقت الصلاة دون غيره، فقال عمر: اللهم بين لنا بيانا شافيا، فأنزل الله تَعالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة: 90] الآيتين إلى قَوْله تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] [المائدة: 90-91] فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انتهينا يا ربنا) . وقيل: إن سبب نزول تحريم الخمر: «أن رجلا من(12/515)
الأنصار شوى بعيرا ودعا سعدا، فأكل وشرب معه وسكر، فرمى وجه سعد بلحي البعير، فكسر أنفه، فنزل تحريمها» .
وأمَّا السنة: فما رَوَى الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ - بإسناده عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر في الدنيا.. حرمها في الآخرة» .
ورَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله الخمرة، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه» .
ورَوَى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخمر أم الخبائث» .(12/516)
ورُوِي «عن أنس: أنه قال: (كنت أسقي أبا طلحة وأبي بن كعب وأبا أيوب الأنصاري، فأتاهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبُو طلحة: قم إلى الجرار فاكسرها، فقمت إليها، فضربت أسفلها بمهراس فكسرتها» .
ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شارب الخمر كعابد وثن» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم الكلب وحرم ثمنه، وحرم الخنزير وحرم ثمنه، وحرم الخمر وحرم ثمنها» .
وأمَّا الإجماع: فأجمعت الصحابة ومن بعدهم من المسلمين: على تحريمها.
ورُوِي عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب: أنهما قالا: (هي حلال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] الآية [المائدة: 93] فقال قدامة: فلنشرب ونتق، فأنكر عليهما الصحابة ذلك، فرجعا عن ذلك) . وأمَّا الآية.. فلها تأويلان:(12/517)
أحدهما: أنه أراد ذلك قبل تحريمها.
والثاني: أنه أراد: فيما طعموا من المباحات الطيبات.
فمن استحل شربها بعد ذلك.. فهو كافر، وعليه يتأول قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شارب الخمر كعابد وثن» يعني: إذا اعتقد إباحتها.
إذا ثبت هذا: فمن شرب منها وهو مسلم، عاقل، بالغ، مختار.. وجب عليه الحد، سواء شرب منها قليلا أو كثيرا، سكر أو لم يسكر؛ لما رَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر.. فاجلدوه، فإن عاد.. فاجلدوه، فإن عاد.. فاجلدوه، ثم إن عاد.. فاقتلوه» والقتل في الرابعة منسوخ؛ لما روى قبيصة بن ذؤيب: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي برجل شرب الخمر فجلده، فأتي به ثانيا وقد شرب فجلده، فأتي به ثالثا وقد شرب فجلده، فأتي به رابعا وقد شرب فجلده، ولم يقتله» . وأجمعت الأمة: على ذلك أيضا.(12/518)
[مسألة: حرمة ما أسكر كثيره وقليله وأنواعه]
وما عدا الخمر من الأشربة المسكرة؛ كعصير العنب المطبوخ، ونبيذ التمر والزبيب والذرة والشعير، وغير ذلك.. فيحرم قليلها وكثيرها، ويجب بشربها الحد. وبه قال عمر، وعلي، وابن عبَّاس، وابن عمر، وأبو هريرة، وسعد ابن أبي وقاص، وابن مَسعُودٍ، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ومن الفقهاء: مالك، والأَوزَاعِي، وأحمد، وإسحاق، وقال أبُو حَنِيفَة: (الأشربة على أربع أضرب:
أحدها: الخمر - وهو عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده - فيحرم قليله وكثيره، ويجب على شاربه الحد- ولم يشترط أبُو يوسف ومحمد أن يقذف زبده، وقالا: إذا اشتد وغلى.. كان خمرا-.
والثاني: المطبوخ من عصير العنب، فإذا ذهب أقل من ثلثيه.. فهو حرام، ولا حد على شاربه إلا إذا سكر. وإن ذهب ثلثاه.. فهو حلال إلا ما أسكر منه.
وإن طبخه عنبا.. ففيه روايتان:
إحداهما: أنه يجري مجرى عصيره.
والمشهور: أنه حلال وإن لم يذهب ثلثاه.
الثالث: نقيع التمر والزبيب، فإن طبخ بالنار.. فهو مباح، ولا حد على شاربه إلا إذا أسكر، فيحرم القدر الذي يسكر، وفيه الحد. وإن لم تمسسه النار.. فهو حرام، ولا حد على شابه إلا إذا أسكر.
الرابع: نبيذ الحنطة والذرة والشعير والأرز والعسل ونحو ذلك.. فهو حلال،(12/519)
سواء كان نيئا أو مطبوخا، إلا أنه يحرم المسكر منه، ولا حد على شاربه سكر أو لم يسكر) .
دليلنا: ما رَوَى النعمان بن بشير: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا» . ورَوَى أبُو هُرَيرَة: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والكرم» .
ورَوَى ابن عمر: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» .
ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حرمت الخمرة بعينها، والمسكر من كل شراب» .
ورُوِي: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر كثيره.. فقليله حرام» .(12/520)
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر الفرق منه.. فملء الكف منه حرام» . و (الفرق) بسكون الراء -: مكيال يسع مائة وعشرين رطلا. وبنصب الراء: يسع ستة عشر رطلا. والخبر رُوِيَ بنصب الراء.
ولأن الله تَعالَى حرم الخمر ونبه على المعنى الذي حرمها لأجله؛ وهو: أن الشيطان يوقع فيها العداوة والبغضاء ويصد بها عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه المعاني موجودة في هذه الأشربة، فوجب أن يكون حكمها حكم الخمر في التحريم والحد.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في هذه الأشربة: هل يقع عليها اسم الخمر؟
فمنهم من قال: يقع عليها اسم الخمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من البر خمرا» . ورُوِي عن عمر وأبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أنهما قالا: (الخمر ما خامر العقل) . فعلى هذا: يحتج على تحريم هذا الأشربة بالآية. وقال أكثر أصحابنا: لا يقع عليها اسم الخمر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حرمت الخمرة بعينها، والمسكر من كل شراب» فلو كان اسم الخمر يطلق على هذه المسكرات.. لاكتفى بقوله: «حرمت الخمرة بعينها» . فعلى هذا: لا يدل على تحريم هذه الأشربة إلا السنة والقياس.(12/521)
[فرع: بيع المسكر]
كل شراب مسكر لا يجوز بيعه، وهو نجس. وقال أبُو حَنِيفَة: (يجوز بيعه إلا الخمر) .
وقال أبُو يوسف ومحمد: لا يجوز بيع نقيع التمر والزبيب، ويجوز بيع باقيها.
دليلنا: أنه شراب فيه شدة مطربة، فلم يجز بيعه، كالخمر.
[فرع: طبخ اللحم أو عجن الدقيق والند بخمر]
قال ابن الصبَّاغ: وإن طبخ لحما بخمر وأكل مرقها.. حد. وإن أكل اللحم.. لم يحد؛ لأن عين الخمر موجود في المرقة وليس بموجود في اللحم، وإنما فيه طعمه.
وإن عجن دقيقا بخمر وخبزه، فأكل الخبز.. لم يحد؛ لأن عين الخمر أكلتها النار. قال ابن الصبَّاغ: وإن استعطَى الخمر أو احتقن.. لم يحد؛ لأنه ليس بشرب ولا أكل. وفيما قاله ابن الصبَّاغ نظر؛ لأن حكم الاستعاط والاحتقان حكم الشرب في إبطال الصوم، فكان حكمه حكم الشرب في الحد.
قل ابن الصبَّاغ: وإن ثرد بالخمر وأكله، أو اصطبغ بها.. حد؛ لأنها غير مستهلكة. وإن عجن الند بالخمر.. كان نجسا، ولم يجز بيعه. وإذا تبخر به.. فهل ينجس؟ فيه وجهان، بناء على الوجهين في دخان سائر النجاسات.
[مسألة: حد الحر أو العبد في شرب الخمر]
فإن كان المحدود في الخمر حرا.. جلد أربعين جلدة. ورُوِي ذلك عن أبي بكر(12/522)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقال مالك وأبو حَنِيفَة والثوريُّ: (الواجب عليه ثمانون جلدة، ولا يجوز النقصان عنه) . واختاره ابن المنذر.
دليلنا: ما روى عبد الرحمن بن الأزهر قال: «أتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشارب الخمر، فقال: "اضربوه"، فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، وحثوا عليه التراب، ثم قال: "بكتوه".. فبكتوه» . و (التبكيت) : أن يقال للرجل: أما خشيت الله، أما اتقيت الله؟
فلما كان زمن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. أتي بشارب، فسأل من حضر ذلك الضرب، فقومه، فضرب أبُو بكر في الخمر أربعين جلدة، ثم عمر، ثم تتابع الناس في الخمر، فاستشار عمر الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فضربه ثمانين) .
ورَوَى أنس: (أن «النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشارب خمر، فأمر عشرين رجلا فضربه كل واحد ضربتين بالجريد والنعال» . روى أبُو ساسان قال: (شهدت عُثمانَ بن عفان وقد أتي بالوليد بن عقبة وقد شهد عليه حمران وآخر معه بالخمر، فشهد أحدهما أنه شربها(12/523)
وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عُثمانَ: ما تقيأها حتى شربها، فقال لعلي: دونك ابن عمك فاجلده، فقال علي للحسن: اجلده، فقال: ولِّ حارها من تولى قارها- يعني: ولِّ شديدها من تولى هينها ولينها - فقال عليّ: لا، ولكنك ضعفت وعجزت، قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده، فأخذ السوط وجلده وعلي يعد، فلما بلغ أربعين.. قال: «حسبك، جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين» وجلد أبُو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكلاهما سنة، وهذا أحب إلي) .
وإن كان المحدود عبدا.. فالواجب عليه عشرون جلدة؛ لأنه حد يتبعض، فكان العبد على النصف من الحر، كالجلد في الزِّنَى.
فإن رأى الإمام أن يحد الحر أكثر من الأربعين إلى الثمانين، وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرا، أو يحد العبد أكثر من عشرين إلى أربعين، وتكون الزيادة على العشرين تعزيرا.. جاز؛ لما رَوَى أبُو وبرة الكلبي قال: (أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته ومعه عُثمانَ وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير، فقلت: إن خالدا يقرأ عليك السلام، ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه؟ فقال عمر: فما ترون؟ فقال عليّ: إنه إذا شرب.. سكر، وإذا سكر.. هذى، وإذا هذى.. افترى، فيحد حد المفتري، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال. فجلد خالد ثمانين، وجلد عمر ثمانين، وكان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا أتي بالرجل المنهمك بالشرب.. جلدة ثمانين، وإذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة.. جلده أربعين) ، ويدل عليه قول عليّ: «جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين» وأبو بكر أربعين(12/524)
، وعمر ثمانين، وكلاهما سنة، وهذا أحب إلي) . ومعناه: الاقتصار على حد الخمر سنة، وضم التَّعزِير إليه سنة، فإن قيل: فالتَّعزِير لا يبلغ عندكم أربعين؟
قلنا: لا يجوز له أن يبلغ به الأربعين على زلة واحدة، فأما إذا كانت زلات.. فلا يمنع أن يبلغ به أربعين، وهاهنا منه زلات الهذيان والافتراء.
[فرع: جلد الشارب فمات]
فإن جلد الإمام الحر في الخمر أربعين فمات منه، أو جلد العبد عشرين فمات.. كان دمه هدرا؛ لما رُوِيَ: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما جلد ابنه عبيد الله في الخمر.. جعل عبيد الله يقول: قتلتني، فقال عمر: (الحق قتلك) . ولأنه مات من حد، فلم يضمنه، كما لو مات من حد الزِّنَى.
وإن رأى الإمام أن يبلغ في الحر ثمانين أو بالعبد أربعين، فبلغ به ذلك فمات.. لم يهدر دمه؛ لما رُوِيَ عن عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (ما أحد أقيم عليه حدا فيموت فأجد في نفسي منه شيئا إلا الخمر؛ فإنه شيء أحدثناه بعد موت النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن مات منه.. فديته في بيت المال، أو على عاقلة الإمام) . وأراد به الزيادة على الأربعين؛ لأنه قد ذكر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلد في الخمر أربعين» .
إذا ثبت هذا: فلا خلاف أنه لا يضمن جميع الدية؛ لأنه مات من حد ومن غير حد، فينظر فيه: فإن جلده ثمانين فمات.. وجب عليه نصف ديته، وهدر نصف ديته. وإن جلده إحدَى وأربعين جلدة فمات.. ففيه قولان:(12/525)
أحدهما: يجب نصف ديته ويهدر النصف؛ لأنه مات من مضمون وغير مضمون، فسقط نصف ديته ووجب نصفها، كما لو جرح نفسه جراحات، وجرحه آخر جراحات، ومات من الجميع.
والثاني: أن الدية تقسم على عدد الجلدات، فيسقط من ديته أربعون جزءا، ويجب جزء من واحد وأربعين جزءا؛ لأن السياط تتساوى في الظاهر في السراية والألم، بخلاف الجراحات. وما وجب من ديته.. فهل يجب في بيت المال، أو على عاقلة الإمام؟ فيه قولان، مَضَى ذكرهما في (الجنايات) .
وإن أمر الإمام رجلا، أن يجلد رجلا في القذف ثمانين جلدة، فجلده إحدَى وثمانين جلدة، فمات المحدود.. وجب على الجلاد الضمان. وكم يجب عليه؟ على هذين القولين:
أحدهما: يجب عليه نصف الدية.
والثاني: يجب عليه جزء من واحد وثمانين جزءا من الدية، إلا أن يكون الإمام قد قال للجلاد: اضرب وأنا أعد، فتركه حتى زاد على الثمانين ومات المحدود.. فإن الضمان يجب على الإمام؛ لأنه هو الذي اختار الزيادة؛ إذ لم يأمره بالقطع. وكم يجب عليه؟ على القولين.
فإذا قال الإمام للجلاد: اضرب ما شئت وما اخترت.. لم يكن له أن يزيد على الحد، فإن زاد عليه.. ضمن. وإن أمر الإمام الجلاد أن يجلد في الخمر ثمانين، فجلد إحدَى وثمانين جلدة، فمات المحدود، فإن قلنا: تقسم الدية على عدد الجلدات.. سقط من ديته أربعون جزءا من أحد وثمانين جزءا، ووجب على الإمام أربعون جزءا من هذا الأصل، وعلى الجلاد جزء من هذا الأصل. وإن قلنا: تقسم الدية على أنواع الجلد.. ففيه وجهان:
أحدهما: يسقط من ديته الثلث، ويجب على الإمام الثلث، وعلى الجلاد الثلث؛ لأنه اجتمع في الجلد ثلاثة أنواع: حد واجب، وتعزير، ومحرم.(12/526)
والثاني: يسقط من ديته النصف، ويجب النصف على الإمام والجلاد بينهما نصفين؛ لأن الجلد نوعان: مضمون وغير مضمون، فسقط النصف لأجل ما ليس بمضمون، ووجب النصف لأجل ما هو مضمون، فكان بين الضامنين نصفين.
[مسألة: آلة ضرب المحدود]
] : وبم يضرب المحدود في الخمر؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أكثر أصحابنا - أنه يضرب بالنعال والأيدي وأطراف الثياب؛ لما روى عبد الرحمن بن أزهر: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشارب فقال: "اضربوه" فضربوه بالنعال والأيدي وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب» . وروى أنس: «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بشارب، فأمر عشرين رجلا، فضربه كل واحد منهم ضربتين بالجريد والنعال» . ولأن حد الخمر لما كان أخف من غيره في العدد.. فوجب أن يكون أخف من غيره في الصفة.
والثاني - وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق، واختيار الشيخ أبي حامد -: أنه يضرب بالسوط؛ لما رُوِيَ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، جلد ابنه عبيد الله بالسوط لما شرب الطلاء) . و: (ضرب عليّ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، الوليد بن عقبة بالسوط) . ومن قال بهذا.. تأوَّل الخبرين الأولين: على أن المحدود كان مريضا أو نضو الخلق ضعيفا.
فإذا قلنا: يضرب بالسوط، فضرب به فمات.. لم يجب ضمانه.
وإذا قلنا: يضرب بالنعال والأيدي، فضرب بالسوط فمات.. فهل يضمن؟ فيه وجهان - حكاهما ابن الصبَّاغ مأخوذان من القولين إذا ضربه في شدة حر أو برد:
أحدهما: يضمن؛ لأنه فعل ما ليس له.
والثاني: لا يضمن؛ لأنه وقع موقع الحد. فإذا قلنا: يضمن.. فكم يضمن؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يضمن جميع الدية؛ لأنه تعدى بجميع الضرب، فضمن جميع الدية، كما لو ضربه بما يجرح فمات.
والثاني: يضمن بقدر ما زاد ألم السوط على ألم النعال.(12/527)
والثالث: يضمن نصف الدية؛ لأن قدر الضرب بالأيدي والنعال مستحق، وما زاد عليه متعد به، فصار بعضه مضمونا وبعضه غير مضمون، فسقط النصف لما هو غير مضمون، ووجب النصف لما هو مضمون.
وهل يجب ذلك في بيت المال، أو على عاقلة الإمام؟ على القولين.
[مسألة: الإقرار والشهادة من غير تفسير في الخمر والشم]
مسألة: [الإقرار والشهادة من غير تفسير يوجبان الحد في الخمر بخلاف الشم ونحوه] :
ولا يجب حد الخمر حتى يقر أنه شرب خمرا، أو أنه شرب مسكرا، أو شرب شرابا يسكر منه غيره، أو تقوم عليه بينة بذلك. ولا يفتقر في الشهادة عليه إلى أن يقول الشاهد: إنه شرب شرابا مسكرا وهو غير مكره، ولا مع علمه أنه يسكر؛ لأن الظاهر من فعله الاختيار والعلم.
والفرق بينه وبين الشهادة على الزِّنَى حيث قلنا: لا يحكم عليه حتى يفسر الشاهد الزِّنَى.. أن الزِّنَى يعبر به عن الصريح وعن دواعيه، وشرب الخمر لا يعبر به عن غيره.
فإن وجد الرجل سكران، أو شم منه رائحة الخمر، أو تقيأ خمرا أو مسكرا.. لم يقم عليه الحد. وبه قال أكثر أهل العلم. ورُوِي عن عُثمانَ: (أنه لما شهد عنده رجلان على الوليد بن عقبة، فشهد أحدهما عليه أنه شرب الخمر، وشهد الآخر أنه تقيأها، فقال: ما تقيأها إلا وقد شربها، فحده) .
ورُوِي: (أن ابن مَسعُودٍ، قدم حمص، فسألوه أن يقرأ لهم شيئا من القرآن، فقرأ سورة يوسف، فقال له رجل: ما هكذا أنزلت! فقال ابن مَسعُودٍ: قرأت عليكم كما قرأت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل الرجل ينازعه، فشم منه ابن مَسعُودٍ، رائحة الخمر، فقال: أتشرب النجس وتكذب بالقرآن؟! والله لا أبرح حتى أحدك، فحده) .(12/528)
دليلنا: أنه يحتمل أنه أكره على شربها، ويحتمل أنه ظن أنه لا يسكر، فلا يلزمه الحد بالشك. وما رُوِيَ عن عُثمانَ وابن مَسعُودٍ. فقد رُوِيَ عن عمر: (أنه شم من ابنه عبيد الله رائحة الشراب فسأله، فقال: شربت الطلاء، فقال عمر: إنِّي سائل عنه، فإن كان مسكرا.. حددتك، فسأل عنه، فقيل: إنه مسكر، فحده، ولم يحده بشم الرائحة) . وكذلك رُوِيَ عن ابن الزبير.
[مسألة: تداخل حد الشرب يوجب حدا واحدا وماذا لو تقادم العهد قبل إقامته؟]
إذا شرب الخمر، فلم يحد حتى شرب ثانيا وثالثا.. حد للجميع حدا واحدا، كما قلنا في حد الزِّنَى.
وإن شرب الخمر، فمضى عليه زمان ولم يحد ولم يتب.. فإن الحد لا يسقط عنه، وكذلك سائر الحدود.
وقال أبُو حَنِيفَة: (يسقط بتقادم العهد حد الشرب وحد الزِّنَى دون حد القذف) .
دليلنا: أنه حد فلم يسقط بتقادم العهد، كحد القذف.
[مسألة: اجتماع أسباب الحدود]
وإن اجتمع عليه حدود بأسباب؛ بأن زنَى وهو بكر، وسرق، وشرب الخمر، وقذف.. فإنها لا تتداخل؛ لأن أسبابها مختلفة. فإن اجتمع عليه الحد في الزِّنَى، وحد القذف.. قدم حد القذف، سواء تقدم القذف أو تأخر.
واختلف أصحابنا في علته: فقال أبُو إسحاق وغيره: إنما قدم؛ لأنه حق آدمي.
وقال أبُو عليّ بن أبي هُرَيرَة: إنما قدم؛ لأنه أخف. والأول أصح.(12/529)
وإن اجتمع حد القذف وحد الشرب. فعلى تعليل أبي إسحاق: يقدم حد القذف. وعلى تعليل أبي عليّ بن أبي هُرَيرَة: يقدم حد الشرب. فإن اجتمع مع ذلك القطع في السرقة.. قدمت هذه الحدود على القطع؛ لأنها أخف.
ولا يقام عليه حد حتى يبرأ ظهره من ألم الحد الذي قبله.
فإن سرق نصابا في غير المحاربة ونصابا في المحاربة.. قطعت يمينه لأحد النصابين، وتقطع رجله لأخذ المال في المحاربة، وهل يوالى بين قطع اليد والرجل؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يوالى بينهما، بل لا يقطع حتى تندمل اليد؛ لأن اليد قد قطعت في السرقة بغير المحاربة، والرجل قطعت لأخذ المال في المحاربة، وهما سببان مختلفان.
والثاني: يوالى بينهما، وهو الأصح؛ لأنهما حد واحد.
فإن اجتمع عليه حد الزِّنَى، وحد القذف، وحد الشرب، والقطع لأخذ المال في المحاربة، والقتل في غير المحاربة.. فإن هذه الحدود تقام عليه على ما مَضَى، ثم تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى. قال الشيخُ أبُو حامد: فإذا اندملتا.. قتل قصاصا.
وقال ابن مَسعُودٍ: (يقتصر على القتل وحده) . وبه قال النخعي.
دليلنا: الظواهر في وجوب هذه الحدود، ولم تفرق.
وإن اجتمع عليه حد الزِّنَى، وحد القذف والشرب، وأخذ المال في المحاربة، والقتل في المحاربة.. فإن هذه الحدود تقام عليه، ثم يقتل ولا يقطع للمحاربة؛ لأن المحارب إذا أخذ المال وقتل.. لم يلزمه القطع، وإنما يقتل ويصلب. وهل يجب التفريق بين هذه الحدود؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجب التفريق بينها؛ لأنه إذا والى بين حدين.. لم يؤمن أن يموت قبل استيفاء ما بعدهما.(12/530)
و [الثاني] : قال أبُو إسحاق: تجوز الموالاة بينهما؛ لأن القتل في المحاربة متحتم عليه، فلا معنى للتفريق. والأول أصح.
وإن اجتمعت عليه هذه الحدود، وقتل في المحاربة، وقتل في غير المحاربة.. فإن هذه الحدود تقام عليه على ما مَضَى، ولا تقطع اليد والرجل للمحاربة؛ لما مَضَى. فإن كان القتل للمحاربة وجب عليه قبل القتل في غير المحاربة.. قتل للمحاربة وصلب، ووجبت الدية في ماله للقتل في غير المحاربة. وإن كان القتل في غير المحاربة وجب عليه القتل للمحاربة.. فولي المقتول بالخيار: بين أن يقتص منه وبين أن يعفو؛ فإن عفا عنه.. قتل للمحاربة وصلب. وإن اقتص منه الولي للقتل في غير المحاربة.. صلب للقتل في المحاربة.
وروى الحارث بن سريج البقال عن الشافعيُّ، - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه قال: (لا يصلب؛ لأن الصلب إنما يجب إذا قتل للقتل في المحاربة) وهذا يدل على صحة قول الشيخ أبي حامد إذا مات قاطع الطريق: أنه لا يصلب.
والله أعلم وبالله التوفيق(12/531)
[باب التَّعزِير]
التَّعزِير: اسم يختص بالضرب الذي يضربه الإمام أو خليفته؛ للتأديب في غير الحدود. فأما ضرب الرجل زوجته، وضرب المعلم للصبي.. فلا يسمى تعزيرا، وإنما يسمى تأديبا.
فإذا فعل الإنسان معصية ليس فيها حد ولا كفارة، كوطء الأجنبية فيما دون الفرج، والسرقة فيما دون النِّصَاب أو من غير حرز، أو القذف بغير الزِّنَى، أو الجنايات التي ليس فيها أرش.. فللإمام أن يعزره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] [النساء: 34] فأجاز للزوج أن يضرب زوجته للنشوز، والنشوز معصية، فدلَّ على: أن كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.. يجوز الضرب لأجلها.
ورَوَى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع في الثمر المعلق إلا ما آواه الجرين، فإذا آواه الجرين وبلغت قيمته ثمن المجن.. ففيه القطع، وإن لم تبلغ قيمته ثمن المجن.. ففيه الغرم وجلدات نَكَالا» . ورَوَى أبُو بردة بن نيار: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجلد أحد فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله» . فدلَّ على: أنه يجوز ضرب عشر جلدات في غير الحدود. ورُوِي: «أن(12/532)
النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عزر إنسانا» . ورُوِي: (أن معن بن زائدة زور على عمر كتابا، فعزره) . ورُوِي: أن علياً سئل عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث، فقال: (هن فواحش، فيهن تَعزِير، وليس فيهن حد) .
إذا ثبت هذا: فإن التَّعزِير غير مقدر، بل إن رأى الإمام أن يحبسه.. حبسه. وإن رأى أن يجلده.. جلده. ولا يبلغ به أدنى الحدود؛ فإن كان حرا.. لم يبلغ به أربعين جلدة، بل ينقص منها ولو جلدة. وإن كان عبدا.. لم يبلغ به عشرين جلدة. وبه قال أبُو حَنِيفَة ومحمد. وحكى الشيخُ أبُو حامد: أن من أصحابنا من قال لا يبلغ بتعزير الحر عشرين جلدة.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: ينظر في المعصية التي يعزر لأجلها، فإن كانت من جنس الشرب، مثل أن يكون قد أدار كأس الماء على جماعة على هيئة إدارة كأس الخمر.. عزر دون الأربعين. وإن كانت من جنس القذف؛ بأن يشتم إنسانا بما ليس بقذف.. فإنه يضرب دون الثمانين. وإن كانت من جنس الزِّنَى؛ مثل أن يطأ أجنبية فيما دون الفرج أو يقبلها.. فإنه يضرب دون المائة.
وقال أبُو يوسف وابن أبي ليلى: يجوز أن يبلغ بالتَّعزِير خمسا وسبعين، ولا يزاد عليه. وقال مالك والأَوزَاعِي: (له أن يضرب في التَّعزِير أي عدد شاء على حسب ما يؤدي إليه اجتهاده) .
والأول أصح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بلغ بما ليس بحد حدا.. فهو من المعتدين» .(12/533)
ورَوَى أبُو بردة بن نيار أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجلد أحد فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله» . وعند المخالف: يجوز أن يجلد مائة في غير الحد.
فإن قيل: فالخبر يدل على أنه لا يجوز الزيادة على العشر في غير الحد؟
قلنا: قد أجمعت الأمة: على أنه يجوز الزيادة على العشر ما لم يبلغ به أدنى الحدود، فيستدل بالإجماع على نسخ ظاهر الخبر. ورُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه كتب إلى أبي موسى: (أنه لا يبلغ بنَكَال أكثر من عشرين سوطا) . ورُوِي: (ثلاثين سوطا) . ورُوِي: (ما بين الثلاثين إلى الأربعين) . ولأن العقوبة إذا علقت في الشَّرع بجرم.. لم تتعلق بما دونه، كالقطع لما علق بسرقة النِّصَاب لم يتعلق بما دونه.
ويكون الضرب في التعزير بين الضربين، كما قلنا في الحد. وقال أبُو حَنِيفَة: (الضرب في التَّعزِير يكون أشد من الضرب في الزِّنَى، ثم الضرب في الشرب دون الضرب في الزِّنَى، ثم الضرب في القذف) . وقال الثوريُّ: الضرب في القذف أشد من الضرب في الشرب.
دليلنا: أن التَّعزِير أخف من الحد في عدده، فلا يجوز أن يزاد عليه في إيلامه ووجعه.
[فرع: جواز التَّعزِير وتركه]
قال الشيخُ أبُو إسحاق: إن رأى السلطان ترك التَّعزِير.. جاز تركه إذا لم يتعلق به حق آدمي. وقال الشيخُ أبُو حامد: التَّعزِير ليس بواجب، بل الإمام بالخيار: إن شاء فعله، وإن شاء تركه. ولم يفرق بين أن يتعلق به حق آدمي أو لا يتعلق. وقال أبُو حَنِيفَة: [إن غلب على ظن الإمام أنه لا يصلح الرجل إلا التَّعزِير.. فالتَّعزِير واجب،(12/534)
ولا يجوز للإمام تركه. وإن غلب على ظنه أنه يصلحه الجلد وغيره.. فليس ذلك بواجب] .
دليلنا: ما رُوِيَ: أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أقيلوا ذَوِي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» .
ورُوِي: «أن الزبير ورجلا من الأنصار اختصما إلى النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شراج الحرة- و (الحرة) : هي الأرض الملبسة بالحصى، و (الشراج) : هي الساقية التي فيها الماء - فقال النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اسق يا زبير أرضكم، ثم أرسل الماء إلى جارك". فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله؟! فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى تبلغ أصول الجدر» .
فموضع الدليل: أن الأنصاري اتهم النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى للزبير؛ لأنه ابن عمته، وهذا يستحق به القتل فضلا عن التَّعزِير، فترك النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعزيره.
فمن أصحابنا من قال: إنما أمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزبير أن يسقي أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الجدر، وذلك زائد على ما تستحقه من الشرب، تعزيرا للأنصاري حين قال ما قال، وكان ذلك حين كانت العقوبات في الأموال.
ومنهم من قال: بل كان أمر النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير في المرة الأولى أن يأخذ أقل من حقه من السقي، فلما قال الأنصاري ما قال.. أمره النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستوفي جميع حقه، وهو: أن يبلغ الماء إلى أصول الجدر، وإذا بلغ ذلك.. كان إلى الكعب.
وكان قول الأنصاري هذا يقتضي التَّعزِير، وإنما ترك النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعزيره على ما مَضَى. ولأنه ضرب غير محدود، فلم يكن واجبا، كضرب الزوج زوجته، وكما لو غلب على ظن الإمام أنه يصلحه الضرب وغير الضرب.(12/535)
[فرع: موت المعزر يوجب الضمان]
إذا عزر الإمام رجلا فمات.. وجب ضمانه.
وحكى الطبري في " العدة " وجها آخر: أن التَّعزِير نوعان:
[أحدهما] : نوع واجب، كتعزير من قذف أمة أو ذمية، أو وطئ أجنبية فيما دون الفرج، فإذا عزر فيه الإمام فأدى إلى التلف.. لم يضمنه الإمام.
و [الثاني] : نوع لا يجب؛ مثل: أن يسيء أدبه في مجلس القاضي، فإذا عزره القاضي ومات.. وجب ضمانه. والأول أصح.
وقال أبُو حَنِيفَة: (إن غلب على ظن الإمام أنه لا يصلحه إلا الضرب، فضربه فمات.. لم يجب ضمانه؛ لأنه تَعزِير واجب. وإن غلب على ظنه أنه يصلحه الضرب وغيره، فضربه ومات.. وجب ضمانه) .
دليلنا: ما رُوِيَ عن عليّ: أنه قال: (ما من أحد أقيم عليه الحد فيموت، فأجد في نفسي منه شيئا إلا حد الخمر - ورُوِي - إلا ما كان من شارب الخمر؛ فإنه شيء أحدثناه بعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن مات منه.. فديته على عاقلة الإمام) . أو قال: (في بيت المال) ، والذي أحدثوه بعد النَّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الزيادة على الأربعين، وهو التَّعزِير، فثبت أنه إذا مات من التَّعزِير.. وجب ضمانه. وكذلك في قصة المرأة التي أرسل إليها عمر فأسقطت جنينا ميتا، فحكم عليّ بـ (أن دية الجنين على عاقلة عمر) . ولم يخالفه أحد، فدلَّ على أنه: إجماع. ولأنه ضرب غير محدود، له عنه مندوحة، فكان مضمونا، كالضرب في النشوز.
فقولنا: (غير محدود) احتراز من الضرب في الحد؛ فإنه محدود. وقولنا: (له عنه مندوحة) احتراز من ضرب الرائض للدابة؛ فإنه لا مندوحة له عنه؛ لأنه لا يمكن(12/536)
تأديبها إلا بالضرب، وهذا قد كان يمكنه تأديبه بالزجر بالكلام والحبس.
وهل يجب ذلك على عاقلة الإمام، أو في بيت المال؟ على القولين.
[مسألة: أزال السلعة من رجل فمات]
إذا كان على إنسان سلعة - وهي: كالجوزة تكون بين الجلد واللحم، تكون على الرأس والبدن، قال ابن الصبَّاغ: وهي بكسر السين، والسلعة - بفتح السين-: هي الشجة - فإن قطعها منه إنسان فمات.. نظرت: فإذا كانت على إنسان غير مولى عليه، فإن قطعها بإذنه.. فلا ضمان عليه. وإن قطعها بغير إذنه، أو أكرهه على قطعها.. لزمه القود إن كان ممن يجب له عليه القود.
وإن كانت على مولى عليه، فإن قطعها من لا ولاية له عليه.. فعليه القود، أو الدية إن لم يكن ممن يجب له عليه القود. وإن قطعها ولي عليه، فإن كان أبا أو جدا.. لم يلزمه القود، ووجبت عليه ديته. وإن كان غيرهما من الأولياء.. ففيه قولان، مَضَى ذكرهما في (الجنايات) .
وإن كان القاطع إماما.. فهل تجب الدية في ماله، أو على عاقلته؟ على القولين.
وبالله التوفيق
[كتاب الأقضية]
[باب أدب القضاء](12/537)
كتاب الأقضية(13/5)
كتاب الأقضية باب أدب القضاء القضاء واجب. والأصل في ثبوته في الشرع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] [ص: 26] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] [النساء: 65] وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58](13/7)
[النساء: 58] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] [المائدة: 48] .
ولأن الله تعالى ذم قوما امتنعوا من الحكم، ومدح قوما أجابوا إلى الحكم، فقال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] [النور: 48] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] [النور: 51] .
وأما السنة: فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بين الناس و: «بعث عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى اليمن للقضاء بين الناس» .
وأما الإجماع: فإن الخلفاء الراشدين حكموا بين الناس و: (بعث أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنس بن مالك إلى البحرين ليقضي بين الناس) ، و: (بعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضيا) ، و: (بعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضيا) .(13/8)
وأما القياس: فلأن الظلم من شيم النفوس، وطبع العالم، ولهذا قال الشاعر:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
فإذا كان كذلك.. فلا بد من حاكم لينصف المظلوم من الظالم.
إذا تقرر هذا: فقد وردت أخبار تدل على ذم القضاء، وأخبار تدل على مدحه.
فأما التي تدل على ذمه: فما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم قال: «من استقضى.. فكأنما ذبح بغير سكين» قيل لابن عباس: وما الذبح؟ قال: (نار جهنم) . وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤتى بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من(13/9)
شدة الحساب ما يود أنه لم يكن قضى بين اثنين» . «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: " إني أحب لك ما أحب لنفسي: فلا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» .
وأما الأخبار التي تدل على مدحه: فما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب.. فله أجران، وإن أخطأ.. فله أجر واحد» . وروى ابن مسعود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» .
وتأويل ذلك: أن الأخبار التي تدل على ذمه محمولة على من علم من نفسه أنه لا يقوم بالقضاء؛ إما لجهله أو لقلة أمانته. والأخبار التي تدل على مدحه محمولة على من علم من نفسه القيام بالقضاء لعلمه وأمانته.
والدليل على صحة هذا التأويل: ما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة،(13/10)
واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة: فرجل علم الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فجار في حكمه، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار» .
وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طلب القضاء حتى يناله، فإن غلب عدله جوره.. فهو في الجنة، وإن غلب جوره عدله.. فهو في النار» . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جلس القاضي.. بعث الله إليه ملكين يسددانه، فإن عدل.. أقاما، وإن جار.. عرجا وتركاه» .
[مسألة أحوال الناس في القضاء وطلب الإمام تولية رجل منهم]
] : الناس في القضاء على ثلاثة أضرب:
منهم من يجب عليه القضاء، ومنهم من لا يجوز له القضاء، ومنهم من يجوز له القضاء ولا يجب عليه.
فأما (من يجب عليه) فهو: أن يكون رجل من أهل الاجتهاد والأمانة، وليس هناك من يصلح للقضاء غيره، فيجب على الإمام أن يوليه القضاء، وإذا ولاه الإمام..(13/11)
لزمه القبول، فإن امتنع.. أجبره. فإن لم يعرفه الإمام.. لزمه أن يعرف الإمام حاله، وأن يعرض نفسه عليه للقضاء؛ لأن ذلك يجري مجرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو لم يكن من يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا واحد.. لتعين ذلك عليه.
وأما (من لا يجوز له القضاء) فهو: أن يكون الرجل ليس من أهل الاجتهاد، أو كان من أهل الاجتهاد إلا أنه فاسق.. فهذا لا يجوز له القضاء، وإن ولاه الإمام.. لم تنعقد ولايته، وإن حكم.. لم يصح حكمه، خلافا لأبي حنيفة، ويأتي الدليل عليه في موضعه.
وأما (الذي لا يجب عليه القضاء ويجوز له) فهو: أن يكون هناك رجلان أو جماعة يصلح كل واحد منهم للقضاء.. فإن القضاء لا يجب على واحد منهم بعينه، بل وجوب القضاء عليهم على طريق الكفاية، وإذا قام به أحدهم.. سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنعوا كلهم عن القضاء.. أثموا؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقدس الله أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه» .
فإن طلب الإمام أن يولي رجلا منهم.. فهل يتعين عليه القضاء بتولية الإمام له، وهل يجوز للإمام أن يجبر واحدا منهم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يتعين عليه، ويجوز للإمام إجباره؛ لأنه دعاه إلى واجب فتعين عليه، ولأنه إذا امتنع هذا.. فربما امتنع الباقون، فيؤدي ذلك إلى تعطيل القضاء.
والثاني: لا يتعين عليه، ولا يجوز له إجباره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا نجبر على(13/12)
الحكم أحدا» ، ولأنا لو قلنا يتعين عليه، ويجوز له إجباره.. لصار القضاء والقصاص متعينا عليه.
ومن جاز له الدخول في القضاء ولم يجب عليه.. فهل يستحب له القضاء إذا دعي إليه؟ ينظر فيه:
فإن كان له مال يكفيه وهو مشهور يقصده الناس للفتيا والتدريس.. لم يستحب له ذلك؛ لأنه لا يأمن على نفسه من الخطأ، والأولى له أن يشتغل بالفتيا والتدريس؛ لأن ذلك أسلم. وعلى هذا يحمل امتناع ابن عمر حين دعاه عثمان إلى القضاء. وكذلك روي: (أن أبا ذر طلب للقضاء فهرب، فقيل له: لو وليت وقضيت بالحق؟ فقال: من يقع في البحر إلى كم يسبح؟) .
وإن كان لا مال له يكفيه ويرجو بالقضاء أخذ الرزق عليه من بيت المال.. يستحب له القضاء؛ لأنه لا بد له من مكتسب، واكتسابه بتولي الطاعة أولى من الاكتساب بغيره.
وكذلك: إذا كان معه مال يكفيه إلا أنه خامل الذكر لا يقصده الناس للفتيا والتدريس.. فيستحب له القضاء؛ ليشتهر في الناس وينتفع بعلمه.
ومن استحب له ولاية القضاء إذا دعي إليه.. فهل يستحب له طلبه وبذل العوض منه لذلك؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: يستحب له طلبه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إخبارا عن يوسف:(13/13)
{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] الآية [يوسف: 55] فطلب الاستئمان.
ويجوز له بذل العوض؛ ذلك لأنه يتوصل به إلى مطلوبه.
ومنهم من قال: لا يستحب له ذلك، ولا يجوز له بذل العوض؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الرحمن بن سمرة: " يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة.. وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة.. أعنت عليها» .
وروى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طلب القضاء فاستعان عليه.. وكل إليه، ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه.. أنزل الله تعالى إليه ملكا ليسدده» .
ومن قال بالأول.. حمل الخبر على من طلب ذلك محبة للرياسة، فأما إذا طلب ذلك للقربة أو لحصول كفايته.. فلا بأس عليه بذلك.
[فرع أخذ الرزق على القضاء]
] : وأما أخذ الرزق على القضاء.. فينظر فيه:
فإن كان قد تعين عليه القضاء، فإن كان له كفاية.. لم يجز له أخذ الرزق عليه؛ لأنه فرض توجه عليه، فلا يجوز له أخذ الرزق عليه مع الاستغناء عنه. وإن لم يكن له كفاية، أو كان مكتسبا وإذا اشتغل بالقضاء تعطل عليه الكسب.. جاز له أخذ الرزق عليه؛ لأنه إذا اشتغل بالقضاء.. بطل عليه كسبه وذهب معاشه.
وإن لم يتعين عليه القضاء، فإن كانت له كفاية.. فالمستحب له: أن لا يأخذ عليه رزقا؛ لأنه قربة في حقه، فكره له أخذ العوض عليه. وإن أخذ الرزق عليه.. جاز؛(13/14)
لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ولي الخلافة.. خرج إلى السوق برزمة ثياب، فقالوا: ما هذا؟ فقال: أنا كاسب أهلي، فقالوا: لا يصلح هذا مع الخلافة، فاجتمعت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقدروا له كل يوم درهمين من بيت المال) . وروي: (أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جعلوا له كل يوم شاتين؛ شاة لغدائه وشاة لعشائه، وألف درهم في كل سنة. فلما ولي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يكفيني ذلك، فأضعفوا له ذلك) . وإذا ثبت ذلك في الإمامة.. كان في القضاء مثله؛ لأنهما في معنى واحد. وروي: أن عمر قال: أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة ولي اليتيم: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] [النساء: 6] .
وروي: (أن عمر رضي الله بعث إلى الكوفة عمار بن ياسر واليا، وعبد الله بن مسعود قاضيا، وعثمان بن حنيف ماسحا، وفرض لهم كل يوم شاة؛ نصفها وأطرافها لعمار، والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان، وقال: إن بلدا يخرج منها كل يوم شاة لسريع خرابها) ، و: (لما ولى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شريحا القضاء.. أجرى له كل شهر مائة درهم) ، و: (لما ولاه علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.. أجرى له ذلك) . ولأن مال بيت المال للمصالح، وهذا من المصالح.
ولا يكون ما يأخذه القاضي أجرة، وإنما هو رزق، كالذي يأخذه الإمام والمؤذن. وإن عقد الإجارة على القضاء.. لم يصح؛ لأنه عمل غير معلوم. وإن وجد الإمام من يتطوع للقضاء من غير رزق يأخذه.. لم يول القضاء من يطلب الرزق. ويدفع إلى القاضي مع رزقه شيء للقراطيس التي يكتب بها المحاضر والسجلات من(13/15)
بيت المال؛ لأن ذلك من المصالح. فإن لم يكن في بيت المال شيء، أو كان وهناك ما هو أهم منه يحتاج إليه لذلك.. قال القاضي لمن ثبت له الحق: إن اخترت أن تأتي بكاغد أكتب لك ذلك.. فافعل.
ويدفع للقاضي مع رزقه لمن يكون على بابه من الوكلاء؛ لأنه يحتاج إلى ذلك كما يحتاج إلى العامل في الصدقات.
[فرع تولية الإمام قاضيا في بلده أو غيره]
] : ويجوز للإمام أن يولي قاضيا في البلد الذي هو فيه؛ لما روي: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن العاص: " اقض بينهما " فقال: أقضي بينهما وأنت حاضر! قال: " اقض بينهما، فإن أصبت.. فلك أجران، وإن أخطأت.. فلك أجر واحد» وفي رواية: «إن أصبت.. فلك عشر حسنات، وإن أخطأت.. فلك حسنة واحدة» .
وروي: (أن رجلين أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أحدهما: يا رسول الله، إن لي حمارا، ولهذا بقرة، فإن بقرته قتلت حماري، فأرسلهما إلى أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: لا ضمان على البهائم، فأرسلهما إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال مثل ذلك، فأرسلهما إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: أكانا مشدودين؟ فقالا: لا، قال: أفكانا مرسلين؟ قالا: لا، قال: فكانت البقرة مشدودة والحمار مرسلا؟ قالا: لا، قال: أكان الحمار مشدودا والبقرة مرسلة؟ قالا: نعم، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: على صاحب البقرة الضمان) ، فدل على جواز القضاء بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وأما الخبر فتأويله: أن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حملا الأمر على الظاهر(13/16)
وأنهما كانا مرسلين، لا يد لأحد عليهما، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استفصلهما وأوجب الضمان على صاحب البقرة، ويحتمل أنها كانت تحت يد صاحبها.
وإن كان الإمام ببلد واحتاج أهل بلد آخر إلى قاض.. وجب على الإمام أن يبعث إليهم قاضيا؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عليا إلى اليمن قاضيا» . ولأنهم يشق عليهم قصد بلد الإمام لخصوماتهم. فإن كان الإمام يعرف أهل الاجتهاد والعدالة.. بعث قاضيا منهم، وإن كان لا يعرفهم.. جمع أهل المذاهب في مجلسه وسألهم أن يتناظروا بين يديه، فإذا علم المجتهد منهم.. بحث عن عدالته، فإذا ثبتت عدالته.. ولاه القضاء وبعثه إليهم.
[مسألة الشروط المطلوبة في القاضي والمفتي]
] : ويشترط في القاضي والمفتي أن يكونا من أهل الاجتهاد، وهو: أن يكون عالما بالكتاب، والسنة، والإجماع، والاختلاف، ولسان العرب والقياس.
فأما الكتاب: فلا يشترط أن يكون عالما بجميع ما فيه من القصص والأخبار،(13/17)
وإنما يشترط أن يكون عالما بأحكامه، وهو: أن يعرف العام منه، والخاص، والمحكم، والمتشابه، والمجمل، والمفسر، والمطلق، والمقيد، والناسخ، والمنسوخ.
وأما السنة: فلا يشترط معرفة المغازي ولا الآثار التي تتعلق بالأحكام، بل يعلم الأحكام منها التي ذكرناها في الكتاب، ويعرف الآحاد، والمتواتر، والمسند، والمرسل.
وأما الإجماع: فيعرف أقوال العلماء وما أجمعوا فيه وما اختلفوا فيه، ويعرف طرفا من لسان العرب ليمكنه أن يعرف أحكام الكتاب والسنة؛ لأنهما عربيان.(13/18)
ويعرف القياس على ما بين في أصول الفقه.
قال ابن داود: شرط الشافعي في الحاكم والمفتي شروطا لا توجد إلا في الأنبياء.
ومن أصحابنا من قال: شرط الشافعي شروطا في الحاكم والمفتي تمنع أن يكون أحد بعده حاكما أو مفتيا. وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد يسهل تعلمه الآن؛ لأنه قد دون وجمع. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: أما القاضي: فعلى ما مضى، وأما المفتي: فإن الرجل إذا عرف مذهب إمام حبر ولم يبلغ مبلغ المجتهدين.. فهل يجوز له أن يفتي على مذهب ذلك الإمام؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، وهو اختيار القفال.
والثاني: لا يجوز.
وأصل هذا: أن المستفتي، هل هو مقلد للمفتي أو للميت وهو صاحب المذهب؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: إنه مقلد لصاحب المذهب.. جاز له أن يفتي. وإن قلنا: إنه مقلد للمفتي.. لم يجز له أن يفتي.
هذا مذهبنا، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا تشترط هذه الشرائط في القاضي، بل يجوز أن يكون عاميا ويقلد العلماء ويحكم) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] [المائدة: 48] ، والتقليد ليس مما أنزل الله. ولما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان(13/19)
في النار، فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق وحكم به فهو في الجنة، ورجلا عرف الحق فجار في حكمه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس على جهل فيه فهو في النار» ، والمقلد يقضي بجهل. ولأن الحكم آكد من الفتيا؛ لأن المفتي لا يلزم المستفتي ما يفتيه به، فإذا لم يجز أن يكون المفتي عاميا.. فلأن لا يجوز أن يكون القاضي عاميا أولى.
ويشترط أن يكون القاضي مع كونه مجتهد - عدلا كاملا.
فأما (العدل) : فلا يجوز أن يكون كافرا ولا فاسقا، فإن تولى القضاء وهو عدل ثم فسق.. بطلت ولايته.
وقال الأصم: يجوز أن يكون فاسقا.
دليلنا: أن القضاء يتضمن الولاية في التزويج والنظر في أموال السفهاء واليتامى والوقوف، والفسق ينافي هذه الولايات، فلم ينعقد مع القضاء.
وأما (الكمال) : فيشترط أن يكون كاملا في الحكم والخلق.
و: (الكمال في الحكم) : أن يكون ذكرا، بالغا، عاقلا، حرا.
وقال ابن جرير: يجوز أن تكون المرأة قاضية في جميع الأحكام، كما يجوز أن تكون مفتية.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود، ولا يجوز أن تكون قاضية في الحدود) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أفلح قوم وليتهم امرأة» . وروي: «ولوا أمرهم امرأة» ، وضد الفلاح الفساد، فاقتضى الخبر: أنها إذا وليت القضاء.. فسد أمر من وليتهم.(13/20)
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في النساء: " أخروهن من حيث أخرهن الله» ، والمرأة إذا وليت القضاء.. كانت مقدمة والرجال مؤخرين عنها، فلم يجز.
ولأن حال القضاء آكد من حال الإمامة في الصلاة، فإذا لم يجز أن تكون المرأة إمامة للرجال.. فلأن لا يجوز أن تكون قاضية أولى. ولا يجوز أن يكون الخنثى المشكل قاضيا؛ لجواز أن يكون امرأة.
وأما (الكمال في الخلق) : فلا يجوز أن يكون القاضي أعمى، ولا أصم، ولا أخرس؛ لأن فقد هذه الحواس يمنع من استيفاء الحكم بين الخصمين.
وحكى الشيخ أبو إسحاق في الأخرس وجها آخر: أنه يصح أن يكون قاضيا إذا فهمت إشارته. والمشهور هو الأول.
وهل يصح أن يكون القاضي أميا لا يكتب؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه من أهل الاجتهاد والعدالة، وفقد الكتابة لا يؤثر فيه، كما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يكتب وهو إمام الأئمة وحاكم الحكام.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يحتاج أن تقرأ عليه المحاضر والسجلات، ويقف على ما يكتب كاتبه، فإذا لم يكن كاتبا.. ربما غير القارئ والكاتب. ويفارق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإن كونه لا يكتب من معجزاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن أصحابه كانوا عدولا تؤمن منهم الخيانة في الكتاب له، ولو خان أحد منهم في ذلك.. أعلمه الله به.
ويستحب أن يكون القاضي مع هذه الشرائط حليما، ذا فطنة وتيقظ، عالما بلغات أهل قضائه، جامعا للعفاف، بعيدا عن الطمع، لينا في الكلام، ذا سكينة ووقار؛ لما روي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولى أبا الأسود القضاء ساعة ثم عزله، فقال له: لم(13/21)
عزلتني، فوالله ما خنت؟! فقال: بلغني أن كلامك يعلو كلام الخصمين إذا تحاكما إليك) .
ويستحب ألا يكون القاضي جبارا متكبرا؛ لأن ذلك يمنع الخصم من استيفاء حجته.
ويستحب ألا يكون القاضي ضعيفا مهينا؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة.. انبسط الخصمان بالشتائم، وذكر السخف بين يديه، وربما انبسط عليه بالكلام.
ويستحب أن يكون بين هاتين الحالتين؛ لما روي عن بعض السلف: أنه قال في صفة القاضي: (شدة من غير عنف، ولين من غير ضعف) .
وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (لقد هممت أن أنزع هذا الأمر من هؤلاء وأضعه فيمن إذا رآه الفاجر فزع منه) . وروي: (فرق منه) .
[مسألة يعقد القضاء الإمام أو نائبه وماذا لو عزله]
؟] : ولا يصح عقد القضاء إلا من الإمام أو النائب عنه.
فإن عقد الإمام القضاء لرجل يصلح للقضاء، ثم عزله وهو يصلح للقضاء.. فهل ينعزل؟ فيه وجهان:(13/22)
أحدهما: لا ينعزل، كما لو عقد أهل العقد والحل الإمامة لمن يصلح لها، ثم عزلوه من غير سبب.
والثاني: ينعزل؛ لما ذكرناه من عزل علي لأبي الأسود.
فإن قلنا بهذا: فقال له الإمام: قد عزلتك.. انعزل بذلك. وإن كتب إليه: عزلتك.. فهل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل؟
من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما قلنا في الوكيل.
وقال الشيخ أبو زيد المروزي: لا ينعزل حتى يبلغه العزل قولا واحدا؛ لأنا لو قلنا: ينعزل قبل أن يبلغه العزل.. أدى إلى فساد عظيم؛ لأنه يزوج ويقيم الحدود.
وإن كتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا فأنت معزول.. لم ينعزل قبل أن يأتيه الكتاب.
فإن كتب إليه: إذا قرأت كتابي هذا فأنت معزول.. لم ينعزل قبل أن يقرأ كتابه.
وإذا ولى الإمام قاضيا ثم مات الإمام.. لم ينعزل القاضي؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولوا قضاة فلم ينعزلوا بموتهم.
[فرع التحاكم عند من له أهلية القضاء]
فرع: [صحة التحاكم عند من له أهلية القضاء] : وإن تحاكم رجلان عند رجل يصلح للقضاء وليس بقاض، فحكم بينهما.. صح حكمه؛ لما روي: (أن عمر وأبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت) ، و: (تحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم) .
فإن قيل: كان عمر وعثمان الإمامين في وقتهما، وإذا ردا ذلك إلى غيرهما.. صار حاكما؟
فالجواب: أنه لم ينقل عنهما أكثر من الرضا بالحكم، وبذلك لا يصير حاكما.
وبأي شيء يلزم حكمه بينهما؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمهما حكمه إلا برضاهما بحكمه بعد الحكم؛ لأنه لما اعتبر رضاهما في ابتداء الحكم عنده.. اعتبر رضاهما بلزوم حكمه.(13/23)
والثاني: يلزمهما حكمه بنفس الحاكم؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حكم بين اثنين تراضيا بحكمه، فلم يعدل.. فعليه لعنة الله» ، فلما توعده على ترك العدل في الحكم.. دل على أنه إذا عدل.. لزم حكمه، ولأن من صح حكمه.. لزم حكمه بنفس الحكم، كالحاكم إذا ولاه الإمام.
فعلى هذا: إذا حكم بينهما.. لم يكن لأحدهما الامتناع، وإن امتنع أحدهما بعد شروعه في الحكم وقبل تمامه.. ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن رضاهما لم يوجد حال الحكم، فهو كما لو امتنع أحدهما قبل شروعه في الحكم.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنا لو جوزنا له ذلك؛ لأدى إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحاكم ما لا يوافقه.. رجع، فيؤدي إلى إبطال المقصود.
واختلف أصحابنا في الموضع الذي يصح فيه حكمه:
فمنهم من قال: يصح في جميع الأحكام؛ لأن من صح حكمه في حكم من الأحكام، صح في جميع الأحكام، كالحاكم إذا ولاه الإمام.
والثاني: يصح حكمه في جميع الأحكام إلا في أربعة أحكام: النكاح، واللعان، وحد القذف، والقصاص؛ لأن هذه الأحكام غلظ بها في الشرع، فلا يجوز أن يتولاها إلا الإمام أو من ولاه الإمام. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال المسعودي [في " الإنابة "] : إذا حكما بينهما حاكما، فحكم.. فهل ينفذ حكمه؟ فيه قولان.(13/24)
إذا ثبت هذا: فإن التحكيم من الخصمين يجوز، سواء كان في البلد حاكم أو لم يكن حاكم. وإذا رفع حكمه إلى الحاكم الذي ولاه الإمام.. لم ينقض حكمه إذا كان مثله لا ينقض.
وقال أبو حنيفة: (إذا رفع حكم إلى الحاكم الذي ولاه الإمام.. فله أن ينقضه إذا خالف رأيه، وإن كان مما لا ينقض مثله على الحاكم الذي ولاه الإمام.. قبله) .
دليلنا: أنه حكم قد صح ولزم، فلم يكن له فسخه لمخالفته رأيه، كما لو كان من حاكم قبله ولاه الإمام.
[مسألة تعدد القاضي]
مسألة: [جواز تعدد القاضي] : ويجوز للإمام أن يجعل قضاء بلد إلى اثنين أو أكثر على أن يحكم كل واحد منهما في موضع، أو على أن يحكم أحدهما في حق والآخر في حق آخر، أو على أن يحكم كل واحد منهما في زمان؛ لأنهما يملكان الحكم بإذنه، فكان على حسب ما أذن فيه لهما. وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد، في زمان واحد، وحق واحد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز، كما يجوز ذلك في سائر الأشياء التي يجوز النيابة فيها.
والثاني: لا يجوز؛ لأنهما قد يختلفان في الحكم فيبطل المقصود.
ولا يجوز أن يعقد القضاء على أن يحكم بمذهب إمام بعينه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] [ص: 26] ، والحق لا يتعين في مذهب إمام بعينه، بل الحق ما دل عليه الدليل.
[مسألة ما يستحب للإمام أو القاضي بعد توليته]
] : إذا ولى الإمام رجلا القضاء على بلد.. فالمستحب له: أن يكتب له كتاب العهد والتولية؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث عمرو بن حزم إلى اليمن.. كتب له(13/25)
عهدا» ، و: (كتب أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأنس حين بعثه إلى البحرين) .
ويأمره في العهد بتقوى الله، والتثبت في القضاء، ومشاورة أهل العلم، وما يحتاج إليه من القيام بحفظ أموال اليتامى والوقوف، ومراعاة حال الشهود، وغير ذلك.
فإن كان البلد الذي ولاه القضاء عليه بعيدا عن البلد الذي فيه الإمام؛ بحيث لا ينتشر الخبر بتوليته إليهم.. أحضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما كتاب العهد، أو قرئ عليهما بحضرته وهما ينظران الكتاب لئلا يغير القارئ شيئا، وقال لهما الإمام: أشهدكما أني قد وليت فلانا القضاء على البلد الفلاني وأني تقدمت إليه بما في كتاب العهد، ويمضيان معه إلى البلد الذي ولي القضاء عليها ليقيما له الشهادة بها على توليته.
وإن كان البلد الذي ولي القضاء عليها قريبا من بلد الإمام؛ بحيث ينتشر الخبر إليهم بتوليته.. ففيه وجهان.
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: لا يفتقر إلى الإشهاد؛ لأن الخبر ينتشر إلى البلد القريب فيقع لهم العلم بتوليته ذلك.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: يفتقر إلى الإشهاد؛ لأنه عقد، فلم يثبت بالاستفاضة، كالبيع.
وهذا مثل اختلافهما في الوقف، والعتق، والنكاح: هل يثبت بالاستفاضة؟
وإذا أراد الحاكم أن يسير إلى بلد ولايته.. فإنه يبحث عمن ببلد الإمام من ذلك البلد، فإن وجد فيها ثقة.. سأله عن البلد الذي ولي عليها ومن فيها من العلماء والأمناء والشهود العدول. فإن لم يجد ببلد الإمام من يخبره عن ذلك.. بحث عن ذلك في طريقه ليقدم له الخبر بذلك، فإن لم يجده في طريقه.. بحث عنه في البلد.
والمستحب: أن يدخل البلد الذي ولي القاضي عليها يوم الاثنين؛ لـ: «أن(13/26)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل المدينة لما هاجر إليها يوم الاثنين» .
والمستحب: أن ينزل وسط البلد ليتساوى أهل البلد في قصده، ثم يأمر مناديا ينادي في البلد: ألا إن فلانا بن فلان القاضي قد قدم إليكم قاضيا، فاجتمعوا لسماع عهده لوقت كذا. فإن كان البلد كبيرا.. نودي يومين أو ثلاثا ليتصل بجميعهم النداء. وإن كان صغيرا.. نودي فيه يوما. وإن كانت قرية يمكن جمع أهلها في ساعة.. جمعهم فيها في موضع بارز وقرأ عليهم العهد، ثم رجع إلى منزله وابتدأ في النظر على ما نذكره فيما بعد.
[مسألة الإذن في الاستخلاف للقاضي]
مسألة: [استحباب الإذن في الاستخلاف للقاضي] : وإن ولى الإمام رجلا القضاء على بلد.. فالمستحب له: أن يأذن له أن يستخلف فيما يمكنه القيام به وفيما لا يمكنه؛ لأنه قد يحتاج إليه. فإذا أذن له في الاستخلاف.. جاز له أن يستخلف، وإن نهاه عن الاستخلاف.. قال الشيخ أبو إسحاق: فليس له أن يستخلف؛ لأنه نائب عنه فتبع أمره ونهيه.
وقال القاضي أبو الطيب: إن كان ما ولاه يمكنه القيام به.. لم يجز له أن يستخلف، وإن كان لا يمكنه القيام به.. فوجود النهي هاهنا وعدمه سواء.
وإن كان ولاه ولم يأذن له في الاستخلاف ولا نهاه عنه.. نظرت:
فإن كان ما ولاه يمكنه النظر فيه بنفسه.. فهل يجوز له أن يستخلف؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجوز له أن يستخلف؛ لأن الغرض بتولية القضاء الفصل بين الخصمين، فإذا فعله بنفسه أو بغيره.. جاز. ولأنه ينظر في مصالح المسلمين، فجاز أن ينظر بنفسه وبغيره.(13/27)
والثاني: لا يجوز أن يستخلف، وهو الأصح؛ لأنه نائب عن الإمام فلم يجز له الاستخلاف فيما يقدر عليه، كالوكيل في البيع.
وإن كان ما ولاه لا يقدر على النظر فيه بنفسه؛ بأن يولي الإمام رجلا القضاء على اليمن.. فله أن يستخلف فيما لا يمكنه النظر فيه بنفسه - كما قلنا فيمن وكل وكيلا في بيع ما لا يقدر عليه بنفسه - وهل له أن يستخلف فيما يقدر على النظر فيه بنفسه؟ على الوجهين الأولين:
فكل موضع قلنا: له أن يستخلف فيه، فاستخلف وحكم الخليفة بحكم.. فإنه يلزم بنفس الحكم، كالحكم الحاكم الذي ولاه الإمام.
وكل موضع قلنا: ليس له أن يستخلف فيه، فاستخلف وحكم الخليفة فيه.. فهو كما لو تحاكم خصمان إلى من يصلح للقضاء وليس بقاض على ما مضى.
[مسألة مدى صلاحية حكم القاضي في بلده أو غيرها]
] : وإذا ولى الإمام رجلا القضاء على بلد، فحضر إليه خصمان في البلد الذي ولي القضاء عليها من غير أهل ذلك البلد.. جاز أن يحكم بينهما.
وإن خرج القاضي عن البلد الذي ولي القضاء عليها إلى بلد آخر.. لم يجز له أن يكتب إلى حاكم آخر بما ثبت عنده ليحكم به، أو بما حكم فيه لينفذه، فإن فعل ذلك.. لم يعتد بكتابه.
وهكذا: إن وصل إليه كتاب من حاكم، فقرأه في بلد غير بلد عمله وشهد به عنده شاهدان بذلك.. لم يجز له العمل بموجب ما كتب إليه حتى يرجع إلى بلد عمله ويقرأ الكتاب ثانيا ويعيد الشاهدان الشهادة؛ لأنه في غير بلد عمله كسائر الرعية.
وإن حضر إليه خصمان في غير بلد عمله، فحكم بينهما.. لم يعتد به سواء كانا من بلد عمله أو من غيرها؛ لأنه هناك كسائر الرعية. هكذا قال أصحابنا.
والذي يقتضي المذهب: أنه يكون كما لو تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء وليس بقاض على ما مضى.(13/28)
ولو أذن الإمام للقاضي أن يحكم بين أهل ولايته حيثما كانوا.. جاز له أن يحكم بينهم وإن كانوا في ولاية غيره.
وإن اجتمع حاكمان في غير عملهما، فأخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به أو بشيء ثبت عنده.. لم يصح ذلك الإخبار، ولا يجوز للسامع أن يحكم بما أخبره به الآخر بثبوته عنده، ولا أن ينفذ ما أخبره أنه حكم به؛ لأن الخبر وسماعه لم يصح.
وأما إذا التقيا في عمل أحدهما؛ بأن اجتمع قاضي الجند وقاضي زبيد في الجند، فإن أخبر قاضي زبيد قاضي الجند بشيء ثبت عنده أو بحكم حكم به.. لم يصح إخباره، ولا يجوز لقاضي الجند العمل بموجب خبره؛ لأن قاضي زبيد في الجند كسائر الرعية. وإن أخبر قاضي الجند قاضي زبيد بشيء ثبت عنده أو بحكم حكم به.. صح الإخبار؛ لأن قاضي الجند في موضع عمله، فصح إخباره. فإذا رجع قاضي زبيد إلى موضع عمله.. فهل يجوز له أن يعمل بموجب ما أخبره به قاضي الجند؟ فيه قولان بناء على القولين في القاضي، هل يجوز له أن يحكم بعلمه، ويأتي بيانهما في موضعهما.
[مسألة لا يجوز للقاضي الحكم لنفسه]
وماذا يترتب عليه تجاه أصله أو فرعه؟] : ولا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه، كما لا يجوز أن يشهد لنفسه. فإن اتفق بينه وبين غيره خصومة.. تحاكما إلى الإمام أو إلى بعض القضاة الذين ولاهم الإمام، فإن تحاكما إلى خليفة القاضي المخاصم.. صح؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تحاكم مع أبي بن كعب إلى زيد بن ثابت) ، و: (تحاكم عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع طلحة إلى(13/29)
جبير بن مطعم) ، و: (تحاكم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع يهودي في درع إلى شريح) .
ولا يجوز له أن يحكم لوالده وإن علا، ولا لولده وإن سفل.
وقال أبو ثور: (يجوز) .
دليلنا: أنه لا تقبل شهادة له، فلم يصح حكمه له، كنفسه.
وإن تحاكم إليه والده وولده.. فهل يصح حكمه بينهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، كما لا يصح حكمه بين أحدهما وبين أجنبي.
والثاني: يصح؛ لأنهما سواء في البعضية منه، فارتفعت عنه تهمة الميل.
فإن أراد القاضي أن يستخلف والده أو ولده.. جاز؛ لأنهما يجريان مجرى نفسه. وإن فوض إليه الإمام أن يختار قاضيا.. لم يجز أن يختار أحدهما، كما لا يجوز أن يختار نفسه.
[مسألة أخذ الرشوة بالنسبة للقاضي]
مسألة: [حرمة أخذ الرشوة] : ويحرم على القاضي أخذ الرشوة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم» . ولأنه إذا أخذ الرشوة في الحكم ليحكم بغير الحق..(13/30)
فالحكم بغير الحق محرم، وكذلك الأخذ عليه. وإن أخذ الرشوة ليوقف الحكم.. فإمضاء الحكم واجب عليه، فحرم الأخذ على إيقافه. وإن أخذ الرشوة ليحكم بالحق.. لم يجز؛ لأنه يأخذ الرزق من الإمام، فلم يجز له أن يأخذ عوضا آخر.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد والقاضي أبا الطيب قالا: إذا كان القاضي لا يأخذ رزقا من الإمام، فقال: لست أقضي بينكما حتى تجعلا لي عوضا.. جاز.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون أخذه لذلك من أحدهما ليحكم بالحق، ويجري مجرى الهدية على ما نذكرها.
وأما الراشي: فإن كان الراشي يطلب بما يدفعه أن يحكم له بغير الحق أو على إيقاف الحكم.. حرم عليه ذلك، وعليه تحمل لعنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للراشي. وإن كان يطلب بما يدفعه وصولا إلى حقه.. لم يحرم عليه ذلك وإن كان ذلك حراما على آخذه، كما لا يحرم عليه فكاك الأسير وإن كان ذلك يحرم على آخذه.
[فرع الهدية للقاضي أو العامل]
] : وإن أهدي للقاضي أو إلى العامل في الصدقة هدية.. نظرت:
فإن كان المهدي ممن لم تجر له العادة بالهدية إليه قبل الولاية.. حرم عليه قبول الهدية منه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وليناه ورزقناه فما أخذه بعد ذلك..(13/31)
فهو غلول» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل على الصدقة رجلا من الأعراب يقال له: ابن اللتبية، فلما قدم، قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فصعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر وخطب، فقال: " ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي! ألا جلس في بيت أمه -وروي: على أريكته - فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منها شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته» . قال ابن الصباغ: وأصحابنا يحتجون بهذا الخبر، وليس فيه حجة ظاهرة؛ لأن العامل قبل الهدية ممن له عليه الصدقة، وكلامنا فيمن لا يكون له عليه شيء. ولأن من لم تجر العادة له بالهدية إلى القاضي قبل الولاية إذا أهدى إليه شيئا.. فالظاهر أنه أهدى له ذلك بخصومة حاضرة، فلم يجز له قبولها.
وأما إذا أهدى له من كانت له عادة بالهدية إليه قبل الولاية بقرابة أو بصداقة، فإن كانت له حكومة.. لم يجز قبولها؛ لما روي: (أن زيد بن ثابت كان يهدي إلى عمر بن الخطاب في كل عشية لبنا، ثم إنه استقرض منه من بيت المال فأقرضه مائتي دينار، فأهدى زيد لعمر من عشيته شيئا من اللبن، فلم يقبل وقال: لعله إنما قدم لنا لما أقرضناه، فلم يقبل ذلك حتى قضى زيد دينه) .
وإن لم يكن له حكومة.. فهل يجوز له قبولها؟ حكى ابن الصباغ والطبري فيه وجهين:(13/32)
أحدهما: لا يجوز له قبولها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هدايا العمال غلول» ، وروي: «سحت» ولم يفرق.
الثاني - وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره -: (أن الأولى له أن لا يقبل؛ لجواز أن يكون قد أهدى إليه لحكومة منتظرة. فإن قبلها.. جاز؛ لأن العادة قد جرت بإهدائه إليه لا لأجل الحكومة، فلم تلحقه التهمة) .
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا لم يكن له حكومة، فإن كان أكثر مما كان يهدي إليه أو رفع منه.. لم يجز له قبوله. وإن كان مثل ما كان يهدي إليه.. جاز له قبولها.
هذا ترتيب أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: إن كان المهدي أحد المتحاكمين.. لم يجز له قبول الهدية منه. وإن كان غير المتحاكمين، فإن كان من أهل ولايته.. لم يقبل منه، سواء كان يهدي إليه قبل الولاية أو لا يهدي إليه.
وإن كان من غير أهل ولايته.. فالأولى أن لا يقبل منه. فإن قبل منه.. جاز، والأولى إذا قبل منه.. أن يثيبه عليها.
وإن خرج القاضي عن بلد ولايته، فأهدي إليه.. فهل يجوز له قبولها؟ فيه وجهان:(13/33)
المنصوص: (أنه يجوز له قبولها) ؛ لأنه هناك كسائر الرعية.
والثاني: لا يجوز له قبولها، كما لا يجوز له أخذ الرشوة هناك.
وكل موضع قلنا: لا يجوز له قبول الهدية فقبلها.. فإنه لا يملكها؛ لأنا قد حكمنا بتحريمها عليه. وإلى من يردها؟ فيه وجهان:
أحدهما: يردها إلى المهدي؛ لأن ملكه لم يزل عنها.
والثاني: يردها إلى بيت المال، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه أهدى إليه لمكان ولايته وهو منتصب لمصلحة المسلمين، وكأن المهدي أهدى إلى المسلمين فصرف ذلك في مصالحهم.
وكذلك الوجهان في العامل إذا قبل الهدية:
أحدهما: يردها إلى المهدي.
والثاني: يجعلها في الصدقات.
هذا ترتيب أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: هل يملكها المهدى إليه؟ فيه وجهان:
[مسألة استجابة القاضي لدعوة الوليمة]
] : إذا دعي القاضي إلى الوليمة.. فالمستحب له: أن يجيب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أهدي إلي ذراع.. لقبلت، ولو دعيت إلى كراع.. لأجبت» .
ولأن الإجابة من فرائض الكفايات والقاضي من أهل الكفايات.
وإن كثرت عليه الدعوات إلى الولائم وكان حضوره فيها يشغله عن الحكم.. لم يحضرها؛ لأن حضورها فرض على الكفاية ولم يتعين عليه، والحكم قد تعين عليه لما صار قاضيا. والمستحب له: أن يعتذر إلى من دعاه، ويعرفه اشتغاله بالحكم، ويسأله أن يحلله من الحضور.(13/34)
ولا يختص بالإجابة قوما دون قوم؛ لأن في ذلك ميلا إلى من حضر عنده، وكسرا لمن لم يحضر عنده.
قال الطبري في " العدة ": وقد قيل: إن هذا عند تساوي أحوال أصحاب الولائم وتقارب أحوالهم وفضلهم وعلمهم وصلاحهم، فأما من ليس في درجتهم من الفساق أو السوقة.. فلا بأس عليه أن لا يجيبهم وإن كان يجيب غيرهم. والأول هو المشهور. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن دعاه الخصمان أو أحدهما إلى الضيافة.. لم يجب؛ لأن أحدهما ربما زاد في إكرامه ما لا يزيده الآخر.
وإن دعاه غير الخصمين إلى الضيافة، فإن دعاه إلى غير الوليمة.. لم يجب. وإن دعاه إلى الوليمة، فإن كانت الدعوة حفلا؛ بأن فتح الباب لكل من أراد أن يدخل.. لم يجب. وإن كانت الدعوة نقرى؛ بأن يخص قوما من أهل كل طائفة بأعيانهم.. لم يجب. فإن دعا كل طائفة واستوعبهم، فإن كان الحاكم يجد من طبعه أنه يجيب غيره.. أجابه. وإن كان يجد من طبعه أنه لا يجيب غيره.. لم يجبه.
[فرع شهود القاضي الجنائز]
وعيادة المرضى] :
ويجوز للقاضي أن يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويأتي مقدم الغائب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عائد المريض على مخارف الجنة حتى يرجع» ، و: «عاد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعدا وجابرا وغلاما يهوديا كان في جواره، وعرض عليه الإسلام فأسلم» ، و: «كان يصلي على الجنائز» . فإن كثر ذلك عليه، وخاف أن يشغله عن الحكم.. فله أن يفعل من ذلك ما لا يقطعه عن الحكم، ويترك ما يشغله.(13/35)
والفرق بينه وبين حضور الولائم: أن الحضور في الولائم لحق أصحابها، فإذا حضر عند بعضهم دون بعض.. كان في ذلك ميل. والحضور في هذه الأشياء لطلب الثواب، فجاز أن يحضر بعضها دون بعض.
[مسألة تولي القاضي البيع ونحوه]
مسألة: [كراهة تولي القاضي البيع ونحوه] : ويكره للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما عدل وال اتجر في رعيته» ، وروي عن شريح أنه قال: (شرط علي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين ولاني القضاء أن لا أبتاع، ولا أبيع، ولا أرتشي، ولا أقضي وأنا غضبان) . ولأنه إذا تولى ذلك بنفسه.. حاباه من عامله، والمحاباة بمنزلة الهدية، وقبول الهدية محرم عليه. ولأنه إذا اشتغل بالبيع والشراء.. شوش خاطره.
وإن احتاج إلى البيع والشراء.. اتخذ وكيلا مجهولا، لا يعرف أنه وكيله؛ لئلا يحابى. فإن عرف أنه وكيله.. استبدل به غيره.
فإن باع واشترى بنفسه.. صح؛ لأن المحاباة أمر مظنون، فلا يبطل البيع بأمر مظنون.
قال الشافعي: (وأكره للإمام النظر في أمر ضيعته ونفقة منزله وعياله، بل يوكل وكيلا؛ لأنه إذا تولى ذلك بنفسه.. اشتغل به وشوش خاطره) .(13/36)
[مسألة القضاء في حالة الغضب والجوع]
مسألة: [كراهية القضاء في حالة الغضب والجوع وغيره] : ويكره للقاضي أن يقضي وهو غضبان؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقضي القاضي [بين اثنين] وهو غضبان» ، وروت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين.. فلا يقضين وهو غضبان» . وقال شريح: (شرط علي عمر أن لا أقضي وأنا غضبان) ، وكان شريح إذا غضب.. قام ولم يقض. ولأن الغضب يغير العقل والفهم، وذلك يمنعه من الاجتهاد ويورثه النسيان.
ويكره أن يقضي في كل حالة ويشوش فيه فهمه، مثل أن يصيبه الجوع الشديد، أو العطش الشديد، أو الغم الشديد، أو الفرح الشديد، أو النعاس الغالب له، أو كان يدافع الأخبثين، أو بحضرة الطعام ونفسه تتوق إليه؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقضي القاضي وهو غضبان، ولا مهموم، ولا مصاب حزين، ولا جائع» . وحكي: أن الشعبي كان يأكل مع طلوع الشمس، فقيل له في ذلك، فقال: آخذ حلمي، ثم أخرج إلى الحكم. ولأن هذه الأشياء تمنع من التوفر على الاجتهاد، فكره فيها القضاء، كحالة الغضب.(13/37)
فإن حكم في حالة الغضب.. صح؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم على الأنصاري في حالة الغضب» .
[مسألة القضاء على منصة وفي مكان واسع ومريح]
مسألة: [استحباب القضاء على منصة وفي مكان واسع ومريح] : ويستحب أن يقضي في مكان بارز للناس؛ ليصل إليه كل أحد.
ويستحب أن يكون الموضع واسعا؛ لئلا يلحقه الملل والضجر من ضيقه فيمنعه من التوفر على الاجتهاد، ويلحق المتخاصمين ذلك فلا يمكنهم استيفاء الحجة.
ويستحب أن لا يكون بقربه ما يتأذى به من دخان أو رائحة منتنة وما أشبهه؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أبي موسى الأشعري: (إياك والقلق والضجر) ، وهذه الأشياء تفضي إلى الضجر، وتمنع الحاكم من التوفر على الاجتهاد، وتمنع الخصوم من استيفاء الحجة.
فإن حكم في هذه المواضع المكروهة.. صح حكمه، كما يصح في حال الغضب.
[فرع كراهة اتخاذ المسجد محكمة]
وماذا لو كان في بيته أو اتخذ حاجبا؟] : ويكره للقاضي أن يجلس في المسجد للحكم. وبه قال عمر وابن المسيب.
وقال الشعبي ومالك وأحمد وإسحاق: (لا يكره) .
وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: (يكره) . والثانية: (لا يكره إلا في المسجد الأعظم) .(13/38)
دليلنا: ما روى معاذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جنبوا مساجدكم: صبيانكم، ومجانينكم، ورفع أصواتكم، وخصوماتكم، وحدودكم، وسل سيوفكم، وبيعكم، وشراءكم» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلا ينشد ضالته في المسجد، فقال النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " لا وجدتها، إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة» . فدل على أنه ما عدا هذين ينهى عنه في المساجد. ولأنه قد يكون في الخصوم من لا يمكنه اللبث في المسجد، كالجنب والحائض. ولأن الخصوم يجري بينهم التكاذب والتشاتم، فينزه المسجد عن ذلك.
فإن دخل الحاكم المسجد للصلاة أو الاعتكاف، أو كان ينتظر الصلاة، فحضر خصوم.. لم يكره له أن يحكم بينهم؛ لما روي: (أن عمر حكم بين الناس في المسجد) . وروى الحسن قال: (دخلت مسجد المدينة، فرأيت عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد كوم كومة من حصى، فوضع عليها رداءه ونام، فجاء سقاء ومعه قربه ومعه خصم له، فتحاكما إليه، فجلس وقضى بينهما) . وروي: (أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى في المسجد) .
وإن جلس الحاكم في بيته لغير الحكم وحضره خصمان.. لم يكره أن يحكم بينهما؛ لما روي عن أم سلمة: أنها قالت: «اختصم رجلان من الأنصار في مواريث متقادمة فقضى بينهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي» . وروي: (أنه كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب خصومة في مواريث، فأتيا زيد بن ثابت في منزله ليحكم(13/39)
بينهما، فقال زيد: يا أمير المؤمنين، لو أمرتني لأجبتك، فقال عمر: في بيته يؤتى الحكم) .
ولا يحتجب القاضي من غير عذر؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولي من أمور المسلمين شيئا، فاحتجب دون فاقتهم وحاجتهم.. احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره» . وروي: (أن عمر ولى سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قضاء الكوفة، فقضى زمانا بلا حاجب، ثم اتخذ حاجبا، فعزل عمر حاجبه) . ولأن الحاجب لا يؤمن منه أن يقدم المتأخر من الخصوم، ويؤخر المتقدم.
فإن دعته حاجته إلى اتخاذ حاجب.. اتخذ حاجبا أمينا بعيدا من الطمع، ويوصيه بتقديم الأول فالأول من الخصوم؛ لأنه موضع حاجة. ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجبا؛ لـ: (أن عمر وعثمان وعليا اتخذ كل واحد منهم حاجبا) ؛ لأنه موضع حاجة، ولأنه ينظر في جميع المصالح، وقد تدعوه الحاجة إلى الاحتجاب في وقت؛ لينظر في مصلحة من المصالح.
[فرع اتخاذ السجن والدرة]
فرع: [استحباب اتخاذ السجن والدرة] : ويستحب للحاكم أن يتخذ سجنا؛ لـ: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتخذ سجنا)(13/40)
و: (اتخذ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سجنا) . ولأنه قد يحتاج إليه للتأديب ولاستيفاء الحق به من المماطل مع الغنى.
ويستحب له أن يتخذ درة يؤدب بها؛ لأن عمر اتخذ درة يؤدب بها.
[مسألة كتابة القاضي بنفسه أو يستعين بآخر وشروط الكاتب]
] : فإن تولى القاضي الكتابة بنفسه بين الناس.. جاز. وإن اتخذ كاتبا.. جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له كتبة منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت. وروي «عن زيد بن ثابت: أنه قال: قال لي النبي: " أتحسن السريانية؟ فإن اليهود يكتبون إلي وما أحب أن يقف على كتبي كل أحد " فقلت: لا، قال: " فتعلمها "، فتعلمتها في(13/41)
نصف شهر -وروي في بضعة عشر يوما - فكنت أقرأ كتبهم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكتب له إليهم» . ولأن الحاكم يشتغل بالاجتهاد وتنفيذ الحكم، وقد يحتاج إلى كاتب يكتب له المحاضر والسجلات، فجاز له اتخاذ الكاتب.
ومن شرط الكاتب أن يكون حافظا؛ لئلا يغلط وأن يكون ثقة لئلا يزور عليه وينقل عليه سره وأخبار مجلسه إلى غيره.
ويستحب أن يكون فقيها ليعرف مواقع الألفاظ، ويفرق بين الجائز والواجب. ويستحب أن يكون فصيحا، عالما بلغات الخصوم، فطنا، متيقظا، لا يخدع بغرة، منزها من الطمع، ولا يستمال بهدية، قوي الخط قائم الحروف.
وهل يشترط أن يكون مسلما أو لا يشترط؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن الإسلام شرط فيه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمران: 118] [آل عمران: 118] ، وقَوْله تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] [الممتحنة: 1] . وإذا كان الكاتب كافرا.. فقد اتخذه بطانة ووليا.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تستضيئوا بنار المشركين» أي برأيهم. وهذا قد استضاء بهم في الكتابة.(13/42)
وروي: (أن أبا موسى قدم على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ومعه كاتب له نصراني، فأعجب به عمر لما رأى من حفظه، فقال له: قل لكاتبك يدخل حتى يقرأ على الناس كتابا في المسجد، فقال له: إنه نصراني لا يدخل المسجد، فانتهره عمر، وهم به، وقال: لا تأمنوهم وقد خونهم الله، ولا تدنوهم وقد أقصاهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله) . ولأنهم أعداء المسلمين، فلا يؤمن أن يكتب ما يبطل به حقوقهم.
فعلى هذا: لا يجوز أن يتخذ كاتبا فاسقا.
والثاني: أن ذلك ليس بشرط فيه، بل هو مستحب؛ لأنه لا بد أن يقف الحاكم على ما يكتب.
فعلى هذا: يجوز أن يتخذ كاتبا فاسقا. والأول أصح.
[مسألة اتخاذ شهود راتبين]
مسألة: [عدم اتخاذ شهود راتبين] : ولا يجوز للحاكم أن يتخذ شهودا راتبين يسمع شهادتهم ولا يسمع شهادة غيرهم. وقيل: إن أول من اتخذ هذا إسماعيل بن إسحاق المالكي.
والدليل -على أنه لا يجوز له ذلك -: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] الآية. فعم ولم يخص. ولأن في هذا ضررا على الناس؛ لأنه ربما لا يمكن الناس إشهادهم، وربما إذا علم الشهود الراتبون أن الحاكم لا يقبل غير شهادتهم.. لا يتحملون الشهادة إلا بعوض فيؤدي إلى الضرر بالناس.
[مسألة العلم بحال الشهود وصفاتهم]
] : وإن ادعى رجل على آخر حقا فأنكره، وأقام عليه المدعي شاهدين بما ادعاه.. نظرت: فإن علم الحاكم فسقهما ظاهرا وباطنا، أو فسقهما في الباطن.. لم يقبل(13/43)
شهادتهما. وإن علم عدالتهما ظاهرا وباطنا.. قبل شهادتهما بلا خلاف بين أهل العلم في ذلك.
وإن جهل الحاكم حالهما.. نظرت:
فإن جهل إسلامهما.. رجع في ذلك إلى قولهما؛ لما روي: «أن أعرابيا شهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برؤية الهلال، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " فقال: نعم. قال: " أتشهد أن محمدا رسول الله؟ " فقال: نعم، فصام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمر الناس بالصيام» .
وإن جهل حريته.. ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع في ذلك إلى قوله، كما يرجع إليه في إسلامه.
والثاني: لا يرجع إلى قوله؛ لأن حريته لا تثبت بقوله، وإسلامه يثبت بقوله.
وإن عرف الحاكم إسلام الشاهدين وحريتهما، وجهل عدالتهما.. فلا يجوز أن يحكم بشهادتهما، حتى يبحث عن عدالتهما في الظاهر والباطن، سواء شهدا بحد أو قصاص أو مال. وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إن شهد بحد أو قصاص.. لم يحكم بشهادتهما حتى يبحث عن عدالتهما. وإن شهدا بمال أو نكاح أو غير ذلك.. فإنه يقتصر في العدالة على الظاهر ولا يسأل عن ذلك في الباطن، إلا أن يجرحهما الخصم، أو يقول: هما فاسقان، أو غير ذلك.. فحينئذ يحتاج أن يسأل عن عدالتهما في الباطن) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] إلى قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ، ولا يعلم أنه مرضي حتى يبحث عن عدالته. وروي: (أن رجلا ادعى على رجل حقا عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأنكر، فشهد بذلك شاهدان، فقال عمر: لا أعرفكما ولا يضركما أن لا أعرفكما، فأتياني بمن يعرفكما، فأتياه برجل، فقال: أتعرفهما؟ فقال: نعم، فقال: أكنت معهما في السفر الذي يتبين فيه جواهر(13/44)
الناس؟ قال: لا، قال: هل عرفت صباحهما ومساءهما؟ قال؟ لا، قال: هل عاملتهما في الدراهم والدنانير التي تقطع بها الرحم؟ قال: لا، قال: يا ابن أخي ما تعرفهما. ائتياني بمن يعرفكما) . ولا مخالف له في الصحابة. ولأنه حكم شهادة، فلم يجز له تنفيذ إلا بعد معرفة عدالة الشهود في الباطن، كما لو شهدا بحد أو قصاص.
إذا ثبت هذا: فلا يخلو الشهود: إما أن يكون لهم عقول وسمت حسن وعفاف في الظاهر لا تسبق التهمة إليهم، أو كانوا بخلاف ذلك بحيث تسبق التهمة إليهم: فإن كانوا بحيث تسبق التهم إليهم.. فالمستحب للحاكم: أن يفرقهم قبل البحث عن عدالتهم، فإذا فرقهم.. سألهم عن الشهادة، وعن كيفية تحملها، وفي أي موضع وقعت وغير ذلك من الأمور التي يرى الحاكم السؤال عنها. فإن اختلفوا.. علم كذبهم.
وقيل: إن أول من فرق الشهود دانيال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ وذلك: أن شهودا شهدوا عنده أن امرأة زنت، ففرقهم، ثم استدعى واحدا منهم، فشهد أنها زنت تحت شجرة كمثرى، وشهد آخر أنها زنت تحت شجرة تفاح، فعلم كذبهم، فدعا الله عليهم فنزلت نار من السماء فأحرقتهم. وروي: (أن داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اتخذ حاجبا فجاءته امرأة في خصومة لها، فحجبها الحاجب وراودها عن نفسها، فامتنعت عليه، ثم وضع أربعة من الشهود فشهدوا: أن كلبا أتاها، فهم داود برجمها، فبلغ ذلك ابنه سليمان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ -، فدعا أربعة من الصبيان، فلقنهم حتى شهدوا على(13/45)
امرأة أن كلبا أتاها، ثم دعاهم متفرقين، فسألهم عن كيفية الحال وصفة الكلب فاختلفوا، فبلغ ذلك داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فدعا بالشهود على المرأة متفرقين وسألهم عن كيفية الحال وكيفية الكلب فاختلفوا، فدرأ الحد عنها) وروي: (أن سبعة نفر خرجوا في سفر، فعاد ستة منهم وفقد السابع، فجاءت امرأته إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبرته، فدعاهم فسألهم فأنكروا، فأقام كل واحد منهم عند سارية ووكل به من يحفظه، ثم استدعى واحدا منهم فسأله فأنكر، فقال علي: الله أكبر ونحاه، فظن الباقون أنه قد اعترف فاعترفوا، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أما هؤلاء فقد أقروا على أنفسهم بالقتل، وأما أنت فقد شهدوا عليك بالقتل، فاعترف فقتلهم) . فدل على أن تفرقه الشهود عند الارتياب بهم مستحبة. ولأن الشهادة إذا كانت صحيحة.. لم يختلف الشهود عند التفرقة، وإذا كانت زورا.. اختلفوا؛ لأنه قد سألهم عن شيء لم يتواطؤوا عليه.
فإن فرقهم وسألهم لم يختلفوا.. فالمستحب للحاكم: أن يعظهم ويخوفهم من شهادة الزور؛ لما روي: (أن شاهدين شهدا عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على رجل بالسرقة، فقال المشهود عليه: والله ما سرقت ولقد شهدا علي لتقطع يدي، فأقبل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الشاهدين يعظهما ويخوفهما، وازدحم الناس فدخلا في الزحمة، فدعاهما فلم يجيبا، فقال: لو صدقا لثبتا) . وروي: أن أبا حنيفة قال: (كنت عند محارب بن دثار قاضي الكوفة، فشهد عنده شاهدان على رجل بحق، فقال المشهود عليه: والذي قامت به السموات والأرض لقد كذبتما علي في شهادتكما، والذي قامت به السموات والأرض لو سألت عنهما الناس.. ما اختلف فيهما اثنان. قال: وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا، ثم قال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمي بما في(13/46)
حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار» فإن كنتما صدقتما.. فاثبتا، وإن كنتما كذبتما.. فغطيا رؤوسكما وانصرفا، فغطيا رؤوسهما وانصرفا) .
فإن وعظهم ورجعوا عن الشهادة.. سقطت شهادتهم، وإن ثبتوا على الشهادة.. فهم بمنزلة من لهم سمت حسن وعفاف ظاهر، فيسأل الحاكم عن عدالتهم في الباطن، ولا يمكنه السؤال عنهم بنفسه، ولكنه يتخذ قوما من أصحاب المسائل، ويبعثهم للسؤال عنهم. ويسأل عنهم في السر دون الجهر؛ لأن القصد معرفة عدالتهم دون فضيحتهم، فإن سأل عنهم جهرا ربما جرحوا فافتضحوا، ولأنه إذا سأل عنهم جهرا.. ربما استحيا المسؤول عنهم فعدلهم وليسوا بعدول، أو خاف من المشهود عليه فجرحهم وهم عدول، أو خاف من المشهود له فعدلهم وهم غير عدول، فكان السؤال عنهم في السر أولى. فيكتب الحاكم أربعة أشياء:
أحدهما: اسم الشاهد، ونسبه، وحليته، وصنعته، ومسكنه؛ حتى لا يشتبه بغيره.
والثاني: اسم المشهود عليه؛ لأنه قد يكون بينه وبين الشاهد عداوة، فلا يقبل شهادته عليه.
والثالث: اسم المشهود عليه؛ لأنه قد يكون ولده أو والده، ولا تقبل شهادته له.
الرابع: قدر المال الذي شهد به؛ لأن من الناس من يزكى في شهادته في الحق اليسير ولا يزكى في الحق الكثير.
ويكتب ذلك في رقعتين، ويدفع كل رقعة إلى رجل من أصحاب المسائل.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويخفي عن كل واحد منهم ما دفعه إلى صاحبه؛ لئلا يتواطأ على الجرح والتعديل) .(13/47)
ويشترط أن يكونا عدلين؛ لأن الخير لا يقبل إلا من عدل، ويكونا ذوي تيقظ وفهم؛ لئلا يسألا عدوا للشاهد ولا صديقا عن حاله؛ لأن العدو ربما جرحه وهو غير مجروح، والصديق ربما عدله وهو غير عدل. ثم يأمرهما الحاكم يسألان عن الشاهد في جيران منزله؛ لأنه إن كان فيه فسق.. عرفه جيرانه فأخبروا عنه. ويسألان عنه في موضع صلاته؛ لأنهم يعلمون توفره على الصلوات ولزوم الجماعة وتهاونه بها. ويسألان عنه في سوقه؛ ليعرف كيف معاملته.
والحاكم بالخيار: بين أن يقول للذين بعثهم: اسألا فلانا وفلانا عنه، وبين أن يقول: اسألا عنه من شئتما من جيران منزله وجماعته وأهل سوقه.
ويكون المسؤولون عنه غير معروفين عند الشاهد والمشهود له والمشهود عليه؛ لأنهم إذا كانوا معروفين عند الشاهد والمشهود له.. ربما أعطاهم شيئا ليعدلوا الشاهد وهو غير عدل، وإذا عرفهم المشهود عليه.. ربما أرشاهم ليجرحوا له الشاهد وهو عدل.
ويكون المسؤولون عنه عدولا، وافري العقول، برآء من الشحناء فيما بينهم وبين الناس، بعداء من التعصب في نسب أو مذهب؛ لئلا يجرحوا عدلا ولا يعدلوا مجروحا.
والمستحب: أن لا يعرف بعضهم بعضا؛ لئلا يجمعهم الهوى على تعديل مجروح أو جرح عدل.
[مسألة ثبوت الجرح والتعديل بعدلين]
] : قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ولا يثبت الجرح والتعديل إلا من اثنين) ، واختلف أصحابنا في تأويل هذا:
فقال أبو إسحاق: أراد: أن التعديل لا يحكم به إلا بشهادة اثنين من الجيران، ولا يحكم به بقول أصحاب المسائل؛ لأنه شهادة على شهادة، فلم يصح مع حضور شاهد الأصل.(13/48)
فعلى هذا: إذا بعث الحاكم أصحاب المسائل للبحث عن حال الشاهد، فرجع واحد منهم وأخبر الحاكم بجرح الشاهد.. فإن الحاكم لا يتوقف عن الحكم بشهادة الشاهد، ويقول للمشهود له: زدني في شهودك. ولا يستحضر الحاكم الذي جرحه من الجيران ويسأله عنه؛ لأن الغرض معرفته بحال الشاهد دون فضيحته. هكذا حكي عن أبي إسحاق.
وقال الشيخ أبو حامد: والذي يجيء على قياس قوله: أنه لا يتوقف عن الحكم بشهادة الشاهد حتى يخبره بالجرح اثنان. وإن رجع واحد أو اثنان من أصحاب المسائل بعدالة الشاهد.. فإن الحاكم لا يحكم بعدالته بقولهما، ولكن يسألهما عن الذي عدله من الجيران، ويستدعي اثنين منهم ليشهدا على تعديله بلفظ الشهادة.
وقال أبو سعيد الإصطخري: بل أراد الشافعي: أن الجرح والتعديل يثبت بقول اثنين من أصحاب المسائل، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولا يقبل إلا من اثنين ويخفي من كل واحد منهما ما دفع إلى الآخر) . وهذا إنما يكون في أصحاب المسائل دون الجيران؛ لأن المزكي من الجيران لا يلزمه الحضور إلى الحاكم للتزكية، ولا يجوز للحاكم إجباره على ذلك، فجاز الحكم بقول أصحاب المسائل في ذلك.
فعلى هذا: إذا بعث الحاكم اثنين من أصحاب المسائل للسؤال عن الشاهد على ما مضى.. نظرت: فإن رجعا فأخبرا الحاكم بعدالته.. حكم بعدالته. وإن أخبراه بجرحه.. توقف عن الحكم بشهادته، ولا يظهر جرحه؛ لأنه ليس الغرض فضيحته، وإنما الغرض معرفة حاله، ولكن يقول للمشهود له: زدني في شهودك. وإن جاء أحدهما فأخبر بجرحه، وأخبر الآخر بتعديله.. لم يحكم بجرحه ولا بتعديله؛ لأن الجرح والتعديل لا يثبتان بقول واحد.
قال الشيخ أبو إسحاق: ويبعث ثالثا، فإن عاد بالجرح.. كملت بينة الجرح، وإن عاد بالتعديل.. كملت بينة التعديل.(13/49)
وقال غيره من أصحابنا: يبعث آخرين، فإن عادا بالجرح.. ثبتت بينة الجرح وسقط التعديل. وإن عادا بالتعديل.. تمت بينة التعديل وسقط الجرح. وإن عاد أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل.. قدمت بينة الجرح على بينة التعديل؛ لأن من شهد بالتعديل.. شهد بأمر ظاهر، ومن شهد بالجرح.. شهد بأمر باطن خفي على بينة التعديل، فقدمت شهادته، كما لو شهد شاهدان: أن لرجل على رجل دينارا، وشهد آخر: أنه قد قضاه ذلك الدين.. فإن بينة القضاء تقدم.
قال أصحابنا: ولا تقدم بينة التعديل على بينة الجرح إلا في مسألتين:
إحداهما: إذا شهد شاهدان على رجل بالجرح في بلد آخر، وانتقل ذلك الرجل إلى بلد آخر وشهد شاهدان على تعديله بالبلد الذي انتقل إليه.. فيقدم التعديل هاهنا؛ لأن العدالة هاهنا طارئة على الجرح، والتوبة ترفع المعصية.
الثانية: إذا شهد اثنان أنه زنى أو سرق، وشهد آخران أنه تاب من ذلك وحسنت حالته.. فإن العدالة هاهنا مقدمة؛ لأن التوبة رفعت المعصية.
واختلف أصحابنا في موضع الوجهين في اعتبار العدد في أصحاب المسائل:
فقال ابن الصباغ: الوجهان إذا عين الحاكم لهم من يسألونه، فأما إذا لم يعين لهم من يسألونه وإنما رد إليهم الأمر.. فإن العدد شرط فيهم وفيمن يسألونه، فلا يقبلا إلا من اثنين، فإن عادوا إليه فشهدوا بالجرح أو التعديل بشهادة أنفسهم، فيسمع ذلك من اثنين.
وقال سائر أصحابنا: لا فرق بين أن يعين لهم من يسألونه أو لا يعين لهم، فالحكم في اعتبار العدد فيهم على الوجهين. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يكون المزكي واحدا) .
دليلنا: أنه إثبات صفة، فافتقر إلى العدد، كالحصانة في الزاني والمقذوف.(13/50)
[فرع تفسير الجرح ضروري لقبوله]
] : ولا يقبل الجرح إلا مفسرا، فإن قال: هو مجروح أو فاسق.. لم يحكم بجرحه في ذلك.
وقال أبو حنيفة: (يحكم بجرحه) .
دليلنا: أن الناس مختلفون فيما يفسق به الإنسان وما يصير به مجروحا:
فمنهم من يقول: إن من شرب النبيذ مستحلا بشربه.. يفسق به، ومن وطئ في نكاح المتعة.. يصير به فاسقا.
ومنهم من قال: لا يفسق به، فلم يجز أن يقبل من الشاهد مطلقا؛ لجواز أن يكون قد اعتقد فسقه بشيء لا يرى الحاكم أنه يفسق به، والاعتماد على اجتهاد الحاكم.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولقد شهدت بعض من يعرف بالصلاح وهو يجرح رجلا فصرح بجرحه، وقيل له: بم جرحته؟ فقال: لا يخفى علي ما يجرح به الشهود، فألح عليه في ذلك، فقال: رأيته يبول قائما، فقيل: ما في ذلك؟ فقال: ينضح البول على ثيابه، فيصلي ولا يغسله، فقيل له: رأيته يصلي ولا يغسله؟ فقال: أراه يفعل ذلك) . فدل على أنه لا بد من ذكر السبب.
إذا ثبت هذا: فسئل الجارح عن سبب الجرح، فذكر أن الشاهد زنى.. لم يكن قاذفا، سواء كان بلفظ الشهادة أو بغير لفظ الشهادة؛ لأنه لم يقصد بشهادته إثبات الزنى ولا إدخال المعرة عليه بالقذف، وإنما قصد بيان صفته عند الحاكم ليتبين للحاكم حكمه، فلم يجب عليه الحد.
[فرع الجرح بالمعاينة أو السماع]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقبل الجرح إلا بالمعاينة أو بالسماع) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا:(13/51)
فقال الشيخ أبو حامد: تأويلها على قول أبي إسحاق: إن صاحب المسألة إذا أخبر الحاكم بالجرح.. لا يعتمد على قوله، ولكن يستدعى الذي جرح من الجيران فيسأله عن ذلك، ولا يقبل منه الجرح إلا أن يصف معاينة فيقول: رأيته يزني أو يشرب، أو: إلى السماع، فيقول: أقر عندي بذلك.
وأما على قول أبي سعيد: فإنه يعتمد على قول أصحاب المسائل في الجرح، فإذا شهد صاحب المسألة أنه زنى أو سرق أو غير ذلك.. لم يسأله الحاكم أنه شاهد ذلك منه أو سمعه، ولكن لا يجوز لصاحب المسألة أن يشهد بذلك إلا إذا شاهده يفعل ذلك، أو سمع ذلك مستفيضا في الناس أنه زان فاسق، فيجوز له أن يجرحه بذلك.
وقال ابن الصباغ: ليس للحاكم أن يسأل الشاهد إذا شهد بالجرح من أين شهد بذلك بل يسمع منه الشهادة لا غير، كما يسمع شهادته في سائر الأشياء. وقول الشافعي عائد إلى صاحب المسألة؛ فإنه لا يصير عالما إلا بمشاهدة منه لذلك أو بسماع متواتر، فإن لم يكن متواترا ولكن شاع في الناس.. فيجوز له أن يؤدي الشهادة مطلقا، كما يشهد بالموت والنسب. فأما إن كان بخبر الواحد والعشرة.. فلا يصير عالما بذلك لكنه يشهد عند الحاكم بما يسمع ويكون شاهد فرع والذي يسمع منه شاهد أصل، ولا يثبت شاهد الأصل إلا باثنين.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه يجوز أن يكون الذي يخبر أصحاب المسائل من الجيران واحدا إذا وقع في نفوسهم صدقه، ويجب أن يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم على شروط الشهادة.(13/52)
[فرع قبول عدالة الشاهد بقول المزكي]
: هو عدل لي وعلي] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يقبل التعديل حتى يقول: هو عدل علي ولي) . واختلف أصحابنا في هذا:
فقال أبو سعيد الإصطخري: يكفي أن يقول: هو عدل. وبه قال أبو علي الطبري وأهل العراق؛ لأن القصد إثبات عدالته عند الحاكم، وعدالته تثبت بذلك، وقول الشافعي: (علي ولي) تأكيدا لا شرطا.
وقال أكثر أصحابنا: إن قوله: (علي ولي) شرط في التعديل، واختلفوا في تعليله:
فقال أبو إسحاق: إن قوله: عدل لا ينبئ عن العدالة في كل شيء، بل يجوز أن يكون عدلا في شيء دون شيء، كما يجوز إذا قلت للإنسان: أنت صادق.. جاز أن يكون صادقا في شيء دون شيء، فإذا قال: عدل علي ولي.. ثبتت عدالته على الإطلاق.
ومنهم من قال: لأن التزكية لا تقبل إلا ممن تقبل شهادته له، ولا تقبل من الولد والوالد. وكذلك الشهادة بالجرح، لا تقبل إلا ممن تقبل شهادته عليه ولا تقبل من العدو. فأما إذا قال: عدل علي ولي.. انتفى بذلك أن يكون بينهما ولادة أو عداوة.
وهذا أشبه؛ لأن من كان عدلا في شيء دون شيء لا يوصف بالعدالة ولا يفتقر في التعديل إلى ذكر السبب الذي صار به عدلا؛ لأن أسبابها في الظاهر والباطن لا تنضبط.
فإن قال المزكي: لا أعلم منه إلا خيرا.. لم تحصل بذلك التزكية. وحكي عن أبي يوسف: أن التزكية تحصل بذلك.
دليلنا: أنه لم يصرح بالعدالة، فلا يكون تعديلا، كما لو قال: أعلم فيه خيرا.(13/53)
ولا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة وخبرة طويلة بالشاهد؛ لأن المقصود معرفة حال الشاهد في الباطن، وذلك لا يدركه إلا من خبر باطنه وطالت خبرته به، فأما من يعرفه في شهر أو شهرين.. فلا يقبل منه التعديل؛ لأنه ربما يكون قد تقدم منه فسق لم يعرفه، فلم يقبل تزكيته.
وأما الشهادة بالجرح: فتقبل ممن يخبر باطنه وممن لا يخبر باطنه؛ لأن الجرح يحصل بفعل واحد، فإذا علمه.. جرح به.
[فرع الجهر بتزكية الشاهد بعد السؤال عنه سرا]
فرع: [طلب الحاكم الجهر بتزكية الشاهد بعد السؤال عنه سرا] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويسأل عمن جهل عدالته سرا، فإذا عدل.. سأل عن تعديله علانية؛ ليعلم أن المعدل سرا هو هذا؛ لئلا يوافق اسمه اسما) . واختلف أصحابنا في تأويل هذا على حسب اختلافهم في المزكين:
فقال أبو إسحاق: أراد به: أن أصحاب المسائل إذا أخبروا الحاكم بعدالة الشاهد سرا.. لا يقتصر على ذلك، بل يحضر المزكين من الجيران ويقول لهم: هذا الذي سألناكم عن عدالته، فيخبروه عن عدالته جهرا؛ لئلا يوافق اسمه اسما آخر ونسبه نسبا آخر.
وقال أبو سعيد الإصطخري: وأراد بذلك: أن أصحاب المسائل إذا أخبروا الحاكم بعدالة الشاهد سرا.. سألهم عن عدالته جهرا.
وإن ادعى رجل على رجل حقا فأنكره، فشهد له بذلك شاهد مجهول الحال عند الحاكم، فقال المشهود عليه: هو عدل.. فهل يجوز للحاكم أن يحكم عليه بشهادته؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه، وقد شهد له بالعدالة.
والثاني: لا يجوز أن يحكم بشهادته حتى يبحث عن عدالته؛ لأن اعتبار العدالة في الشهادة حق لله تعالى؛ ولهذا: لو رضي المشهود عليه بالحكم عليه بشهادة الفاسق..(13/54)
لم يجز للحاكم أن يحكم بذلك. ولأن الحكم بشهادته حكم بتعديله، والتعديل لا يثبت بقول واحد منهما.
وإن عرف الحاكم عدالة الشاهد في وقت ثم شهد عنده بعد ذلك.. نظرت:
فإن كان بينهما مدة قريبة، كاليوم واليومين والثلاث.. فإنه يحكم بشهادته ولا يفتقر إلى السؤال عنه؛ لأن عدالته لا تتغير في مثل ذلك، والأصل بقاؤها إلى أن يعلم خلافها. وإن مضى له مدة طويلة.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يحكم بشهادته ولا يسأل عن حالته؛ لأن عدالته قد ثبتت، والأصل بقاؤها إلى أن يعلم خلافها.
[والثاني] : قال أبو إسحاق: لا يحكم بشهادته حتى يسأل عن عدالته؛ لأن مع طول الزمان قد يتغير الحال.
فعلى هذا: ليس له حد مقدر، ولكن يرجع في ذلك إلى العرف والعادة في كل مدة يجوز أن يتغير حال الإنسان فيها.
وحكى أبو إسحاق: أن بعض الناس قال: يسأل عنه في كل ستة أشهر. وليس هذا مذهبنا، ولكن على ما يراه الحاكم.
[فرع شهادة المسافرين]
] : وإن شهد مسافران عند الحاكم بشهادة وهو لا يعرفهما.. لم يحكم بشهادتهما حتى يزكيهما رجلان من أهل الرفقة، أو من أهل البلد ممن يعرفهما الحاكم.
وقال مالك: (إذا رأى الحاكم فيهما سيماء الخير.. حكم بشهادتهما وإن لم يعرف عدالتهما في الباطن ولا زكاهما من يعرفهما) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] [البقرة: 282] ومن لا يعرف عدالته غير مرضي. ولأن عدالتهما في الباطن مجهولة عند الحاكم، فلم يصح الحكم بشهادتهما، كشاهدي الحضر.(13/55)
[مسألة حضور أهل الفقه عند القاضي لمشاورتهم]
] : والمستحب: أن يكون بحضرة القاضي قوم من أهل الفقه من أهل مذهبه وغيرهم، حتى إذا حدثت حادثة.. ألقاها عليهم؛ ليذكر كل واحد منهم ما عنده فيها فيسهل عليه الاجتهاد فيها إذا سمع حجتهم. وهو بالخيار: إن شاء.. أقعدهم معه في مجلسه، وإن شاء.. أقعدهم بالقرب من مجلسه حتى إذا احتاجهم.. استدعاهم. فإن حكم بحكم لم يشاورهم فيه.. فليس لأحد منهم أن ينكر عليه؛ لأنه افتيات عليه، إلا أن يحكم بما يخالف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.
وإذا أراد الحاكم أن يحكم بشيء، فإن كان أمرا واضحا لا يحتاج فيه إلى الاجتهاد؛ مثل الحكم الذي دل عليه النص: وهو الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.. فإنه يحكم به ولا يشاور به من بحضرته من الفقهاء؛ لأنه لا يحتمل إلا معنى واحدا، فلم يحتج فيه إلى المشاورة. وإن كان يحتاج فيه إلى الاجتهاد.. فالمستحب له: أن يشاور فيه من بحضرته من الفقهاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لغنيا عن مشاورتهم ولكن أراد: أن يستن الحكام بعده بذلك، ولم يرد أنه يشاورهم في الشرع:؛ لأن الشرع يؤخذ منه، وإنما أراد أن يشاورهم في تدبير الحرب. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاور الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في أسارى(13/56)
بدر، فقال بعضهم: يقتلون، وقال بعضهم: يفادون» . و: «شاور أهل المدينة يوم الخندق فيما قاله مالك بن عوف» . و: (شاور أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الجدة) . و: (شاورهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الجنين) . ولأن الإنسان لا يحيط علما بالشرع كله، وإنما يعلم البعض، وقد يخفى عليه البعض، فربما ذكر له من يستشيره ما يخفى عليه منه.
ولا يستحب له أن يشاور إلا من بلغ درجة الاجتهاد في الفقه؛ لأن القصد معرفة الأدلة، وهذا لا يدركه إلا من بلغ مبلغ الاجتهاد.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويشاور الموافق والمخالف، ويذكر كل واحد ما عنده فيها من المذهب والدليل؛ ليسهل عليه الاجتهاد) .
وإذا شاور من عنده، وذكروا ما عندهم.. نظرت:
فإن اتفق اجتهاد الحاكم واجتهادهم.. حكم بذلك ولا كلام. وإن أداه اجتهاده إلى خلاف ما أداهم اجتهادهم إليه.. حكم بما أداه اجتهاده إليه، وليس لهم أن يعترضوا عليه؛ لأن في ذلك افتئاتا عليه.
وإن لم يؤد اجتهاده إلى شيء.، فإن كان الوقت ضيقا وخاف فوات الحكم إن اشتغل بالاجتهاد؛ بأن تحاكم إليه مسافران وخاف إن اشتغل بالاجتهاد فوات الرفقة.. فهل يجوز له أن يقلد غيره؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: يجوز له أن يقلد غيره ويحكم بقوله.
[والثاني] : قال أكثر أصحابنا: لا يجوز.
وأصل هذا الاختلاف بينهم: في البصير إذا لم يعرف القبلة وضاق عليه الوقت.. هل له أن يقلد غيره؟ فإن كان الوقت واسعا.. فلا يجوز له أن يقلد غيره ويحكم به،(13/57)
وكذلك: لا يجوز للعالم أن يقلد غيره فيما يعمل به ولا فيما يفتي به وإن كان من يقلده أعلم منه.
قال أبو حنيفة: (يجوز للحاكم أن يقلد غيره ويحكم به) ، وكذلك: (يجوز للعالم -عنده - أن يقلد غيره فيما يعمل به، ولا يجوز له أن يقلد غيره ليفتي به) .
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] [النساء: 59] ، فأمر بالرد عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة، فمن قال: إنه يرد إلى التقليد.. فقد خالف ظاهر الآية. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " بم تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسول الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله» ولم(13/58)
يذكر التقليد. ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قد اختلفوا في مسائل كثيرة، فما روي أن أحدا منهم قلد أحدا. ولأن كل واحد منهم معه آلة للاجتهاد، فلم يجز لأحدهم تقليد الآخر، كالعالم والعامي في معرفة الله تعالى.
[مسألة الاجتهاد في الأصول والفروع وأقوال العلماء في تعدد الحق فيهما]
] : إذا اجتهد اثنان أو أكثر في حادثة، فأدى كل واحد منهم اجتهاده إلى خلاف ما أدى الآخر اجتهاده إليه.. نظرت: فإن كان ذلك في أصول الدين؛ مثل الرؤية، وخلق القرآن، وخلق الأفعال، وما أشبه ذلك.. فإن الحق في واحد من الأقوال؛ لأن الله تعالى قد نصب دليلا عليها كلف المجتهد إصابته، فإن أخطأه.. كان مذموما عند الله، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: كل مجتهد في ذلك مصيب. وهذا خطأ؛ لأن الخلاف في ذلك يعود إلى الاعتقاد، ولا يجوز أن يعتقد اثنان في شيء واحد اعتقادين مختلفين ويكونا مصيبين.
وإن كان في الفروع.. اختلف أهل العلم فيه على ثلاثة مذاهب:(13/59)
فـ[الأول] : منهم من قال: الحق عند الله في واحد من الأقوال وقد نصب الله عليه دليلا وأمر بالتوصل إليه والنظر فيه، فمن أداه اجتهاده إليه.. كان مصيبا عند الله ومصيبا في الحكم، وله أجران: أجر لاجتهاده وأجر لإصابته الحق. وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله مخطئا في الحكم، إلا أنه لا يأثم وله أجر. وبه قال مالك وجماعة من أهل العلم.
و [المذهب الثاني] : منهم من قال: الحق عند الله تعالى في واحد من الأقوال، فمن أداه اجتهاده إليه.. كان مصيبا عند الله في الحكم، وله أجران. فإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله ومصيبا في الحكم وذلك فرضه وله أجر عليه. وبه قال أبو حنيفة وأهل العراق.
و [المذهب الثالث] : منهم من قال: كل مجتهد مصيب، والحق في قول كل واحد من المجتهدين، وفرض كل واحد من المجتهدين ما يغلب على ظنه ويؤديه إليه اجتهاده. وبه قالت الأشعرية والمعتزلة وأكثر المتكلمين.
واختلف أصحابنا في حكاية مذهب الشافعي في ذلك:
فذهب أبو إسحاق المروزي، والقاضي أبو الطيب، وأكثر أصحابنا: إلى أن مذهبه هو الأول، قولا واحدا.
ومنهم من قال: بل له في ذلك قولان:
أحدهما: أن الحق عند الله في واحد من الأقوال، إن أصابه.. كان مصيبا للحق عند الله وفي الحكم، وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله وفي الحكم، ولا إثم عليه.
والثاني: أن الحق عند الله في واحد من الأقوال، إن أصابه المجتهد.. كان مصيبا عند الله وفي الحكم، وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله مصيبا في الحكم.
واختار الشيخ أبو حامد هذا الطريق، قال: لأن للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مسائل مثلها على قولين:
منها: إذا اجتهد في القبلة، فصلى إلى جهة، ثم تيقن بعد الفراغ منها أنه صلى إلى غير جهة القبلة.(13/60)
ومنها: إذا اجتهد الأسير فصام شهرا، فبان أنه صام قبل شهر رمضان.
ومنها: إذا دفع الصدقة إلى من ظاهره الفقر، ثم بان أنه غني.
والمشهور من المذهب هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] [الأنبياء: 79] .
وذلك: (أن غنما لقوم دخلت كرم قوم فأفسدته، فترافعوا إلى داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقضى بالغنم لصاحب الكرم، فأخبر سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذلك، فقال: لا، ولكن يدفع الغنم إلى صاحب الكرم لينتفع بها ويدفع الكرم إلى مالك الغنم ليعمره، فإذا عاد إلى حالته.. رده إلى صاحبه، وردت الغنم إلى صاحبها، فبلغ ذلك داود، فرجع إليه، فأخبر الله سبحانه: أنه فهم القضاء سليمان. فلو كان الحق في قول كل واحد منهما.. لكان كل واحد منهما قد فهم القضاء) . وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب.. فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ.. فله أجر واحد» . فجعل أحدهما مصيبا والآخر مخطئا. ولأنه فاضل بينهما في الثواب، فدل على اختلافهما في الإصابة.
إذا ثبت هذا: فإن المخطئ يؤجر للخبر، وبماذا حصل له الأجر؟ فيه وجهان حكاهما أصحابنا العراقيون، وحكاهما الخراسانيون قولين:
أحدهما: أنه يؤجر على قصد الاجتهاد، كمن اشترى عبدا فأعتقه، فبان حرا.. فإن عتقه لم يقع موقعه ولكنه يؤجر على القصد، وكما لو رمى رجلان كافرا، فأصابه أحدهما.. فإن المصيب يؤجر للقصد والإصابة، والمخطئ يؤجر للقصد.
والثاني: أنه يؤجر للاجتهاد، كرجلين سلكا إلى الجامع أو إلى مكة طريقين بالاجتهاد، فضل أحدهما عن الطريق فلم يصل.. فإنه يؤجر على ما أتى به من الفعل. والأول أصح.
[مسألة تبين خطأ الحاكم بعد الحكم]
وإن حكم الحاكم بحكم، ثم بان أنه أخطأ في ذلك الحكم، أو رفع إليه حكم غيره، وبان أنه أخطأ في حكمه.. نظرت: فإن كان الحكم الأول مما لا يسوغ فيه(13/61)
الاجتهاد؛ مثل أن يكون قد خالف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.. نقض الحكم الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] [النساء: 59] . وأراد به الكتاب والسنة. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [المائدة: 49] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] [الشورى: 10] . وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أدخل في ديننا ما ليس فيه.. فهو رد» . يعني: مردودا. وعن عمر: أنه قال: (ردوا الجهالات إلى السنة) ، وكتب إلى أبي موسى: (لا يمنعنك قضاء قضيت به، ثم إذا راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء، وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل) . وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن قيس: «كتب إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» . فرجع عمر. «وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يفضل دية الأصابع بعضها على بعض، فقيل له: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل. فرجع عن ذلك» .
فإن كان الحكم الأول مما يسوغ فيه الاجتهاد؛ بأن لم يخالف نص الكتاب أو السنة، أو إجماعا، أو قياسا جليا.. لم ينقضه على نفسه أو على غيره؛ لما روي: (أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم في مسائل باجتهاده، ثم خالفه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيها ولم ينقض ما حكم به أبو بكر) . وروي: أن عمر قال: (لا أشرك بين الإخوة من الأب والأم، وبين الإخوة من الأم، ثم شركهم، فقيل له في ذلك،(13/62)
فقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي) . وروي عنه: (أنه قضى في الجد بسبعين قضية) ، وقيل: بمائة قضية، وكذلك روي عن علي ولا مخالف لهما في ذلك. ولأن الاجتهاد الثاني كالأول، فلو نقض الأول بالثاني.. أدى إلى أن لا يثبت حكم؛ لأنه قد يتغير الثاني إلى غيره.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : واختلف أصحابنا في مسائل لأبي حنيفة: هل ينقض الحكم فيها على أصحاب أبي حنيفة، منها: النكاح بلا ولي، والحكم ببيع أم الولد، وحصول اللعان بأكثر كلمات اللعان، وحيث قالوا: لا تقبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة، وقولهم: لا قصاص بين طرف الرجل والمرأة، وقولهم: لا يجب الحد بوطء الأم بالنكاح، وحكمهم بالشفعة للجار
فمن أصحابنا من قال: ينقض حكمهم في ذلك كله؛ لأن الخطأ ظاهر في ذلك بدليل قاطع من الكتاب والسنة.
ومنهم من قال: لا ينتقض حكمهم في ذلك؛ لأن الخطأ فيها إنما ظهر بقياس غير جلي.
وأما إذا بان له الخطأ في اجتهاده قبل أن ينفذ حكمه.. فلا يجوز أن يحكم بالاجتهاد الأول؛ لأنه يعتقده خطأ، فلا يجوز له الحكم به.
[مسألة لا يتعقب القاضي حكم الذي قبله]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وليس للقاضي أن يتعقب حكم من قبله) .
وجملة ذلك: أن القاضي إذا عزل وولي بعده قاض، فإن كان الأول لا يصلح للقضاء.. نقضت أحكامه كلها، أصاب فيها أو أخطأ؛ لأنه لا يصح حكمه.
وإن كان يصلح للقضاء.. فلا يجب على الثاني أن يتصفح أحكامه من غير متظلم؛ لأن الظاهر منها الصحة. وهل يجوز له أن يتصفحها من غير متظلم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأن فيه احتياطا.
والثاني: لا يجوز؛ لأن فيه ضربا من التجسس.(13/63)
فإن خالف وتصفحها ووجد فيه منتقضا.. قال ابن الصباغ: فإن كان يتعلق بحق الله؛ كالطلاق والعتاق.. نقضها؛ لأن النظر في حقوق الله تعالى إليه. وإن كان يتعلق بحق آدمي له عليه ولاية نقضها؛ لأنه لا مطالب له بحقه غيره. وإن كان يتعلق بحق آدمي لا ولاية له عليه.. لم يجز نقضه؛ لأنه لا يستوفى من غير مطالبة من له الحق.
وإن تظلم منه متظلم وسأل القاضي أن يحضره.. لم يجز للقاضي الثاني أن يحضره حتى يسأل المتظلم منه عن دعواه عليه؛ لأنه ربما لا يكون له عليه حق، وإنما قصد ابتذاله بالحضور، وللقاضي أعداء، فلم يجز إحضاره من غير تحقيق الدعوى.
وإن سأله عما يدعي عليه، فقال: غصب مني مالا، أو عليه لي دين، أو أخذ مني رشوة على حكم.. أحضره إلى مجلسه وحكم بينهما بذلك.
وإن قال: حكم علي بغير الحق، أو حكم علي بشهادة عبدين أو فاسقين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه يحضره، كما لو قال: غصب مني مالا.
والثاني: لا يجوز له إحضاره حتى يقيم البينة بما ادعاه؛ لأن المحكوم عليه بذلك لا يتعذر عليه إقامة البينة عليه.
فإذا قلنا بهذا: فاختلف أصحابنا في كيفية الشهادة التي لا يجوز إحضاره إلا بها:
فمنهم من قال: لا يحضره حتى يقيم بينة على إقرار القاضي المعزول: أنه حكم عليه بغير حق، أو على حكمه بشهادة عبدين فاسقين؛ لأن من شرط البينة أن تكون موافقة للدعوى.
ومنهم من قال: إذا أقام بينة: أنه قضى عليه قضاء ما.. أحضره؛ لأنه يتعذر عليه إقامة البينة على ما زاد على ذلك.
فإن قلنا: لا يحتاج إلى البينة في إحضاره، أو قلنا: يجوز أن يحضره إذا أقام عليه بينة: أنه قضى عليه قضاء ما، فأحضره بذلك.. نظرت: فإن أقر: أنه حكم عليه(13/64)
بغير حق، أو أقر: أنه حكم عليه بشهادة فاسقين أو عبدين.. لزمه الضمان. وإن أنكر فأقام المدعي بينة ذلك.. لزمه الضمان.
وإن قال: ما حكمت عليه إلا بشهادة حرين عدلين.. فالقول قول القاضي المعزول مع يمينه، وهل يقبل قول من غير يمين؟ فيه وجهان:
أحدهما -وهو قول أبي سعيد -: أنه يقبل قوله من غير يمين؛ لأن قوله: (قضى علي) إقرار له بالأمانة، والأمين إذا ادعيت عليه خيانة.. قبل قوله من غير يمين.
والثاني: لا يقبل قوله من غير يمين، وهو الأصح؛ لجواز أن يخاف من اليمين فيقر فيلزمه الغرم.
هذا مذهبنا: وقال أبو حنيفة: (إذا أقر أنه قضى عليه.. لزمه الضمان حتى يقيم البينة أنه قضى عليه بحق) .
دليلنا: أن قوله: (قضى علي) إقرار منه بالأمانة له، والأمين إذا ادعيت عليه خيانة.. كان القول قوله كالمودع.
وإن قال المدعي: جار علي في الحكم.. نظر الحاكم فيما حكم عليه به: فإن كان مما لا يسوغ فيه الاجتهاد.. نقضه. وإن كان مما يسوغ فيه الاجتهاد، فإن أدى الثاني اجتهاده إلى ما أدى الأول اجتهاده إليه.. نفذ حكمه وأمضاه. وإن أداه اجتهاده إلى خلاف ما أدى الأول اجتهاده إليه بعد.. ففيه قولان يأتي بيانهما.
[فرع الادعاء على القاضي المعزول بالقتل أو إخراج العقار ظلما]
] : قال ابن القاص: إذا ادعى رجل على القاضي المعزول: أنه قتل ابنه ظلما.. فإنه يستحضره ويسأله، فإن أقر.. حكم عليه بموجب إقراره، وإن أنكر فأقام عليه المدعي بينة.. حكم له، وإن لم يكن له بينة.. لم يستحلف القاضي المعزول.(13/65)
قال ابن الصباغ: وهذه يجيء فيها الوجهان، كالوجهين في التي قبلها:
أحدهما: لا يحضره إلا ببينة.
والثاني: يحضره من غير بينة. وهل يحلف القاضي؟ على الوجهين في التي قبلها أيضا.
وإن قال المدعي: أخرج من يدي عقارا أو عينا فدفعها إلى فلان بغير حق، فقال المعزول: بل فعلت ذلك بحق.. كان القول قول المعزول بلا يمين.
وأما الذي في يده العقار أو العين، فإن صدق القاضي بأنه حكم له بذلك.. لم يقبل قوله من غير بينة. وهل يكون قول القاضي بعد عزله: حكمت له بذلك شهادة مقبولة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تكون شهادته مقبولة؛ لأنه ليس فيه أكثر من أنه شهد على فعل نفسه بما لا يجز به إلى نفسه نفعا فقبل، كما لو شهدت المرضعة على إرضاعها.
والثاني: لا تكون شهادة مقبولة؛ لأن شهادته بالحكم تضمنت إثبات العدالة لنفسه، فلم يصح.
وإن قال الذي في يده العقار أو العين هذا ملكي.. لم يحكم لي به القاضي.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر مما في يده أنه يملكه.
[فرع شهدا على رجل بطلاق ونحوه فادعى كذبهما وطلب إحضارهما]
قال ابن الصباغ: إذا شهد شاهدان على رجل بعتاق أو طلاق أو حد، فادعى عليهما أنهما شهدا عليه في ذلك زورا وسأل إحضارهما.. فإنهما يحضران؛ لجواز أن يقرا فيلزمهما الغرم. فإذا حضرا، فإن أنكرا، فأقام المدعي عليهما البينة.. لزمهما الغرم، وإن لم يقم بينة بذلك.. فإنهما لا يستحلفان؛ لأن إحلافهما يطرق عليهما الدعوى في الشهادة والامتهان، وربما منع ذلك من إقامة الشهادة.(13/66)
[مسألة آداب القضاء وهيئة القاضي]
] : وإذا أراد القاضي الخروج إلى مجلس حكمه.. فإنه يخرج راكبا إن كان له مركوب، وإن لم يكن له مركوب.. خرج ماشيا. ويستحب له أن يدعو بما روت أم سلمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج من بيته.. قال: " اللهم إني أعوذ بك من [أن أضل أو أضل] أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» .
ويسلم على من في طريقه من المسلمين في يمينه ويساره وبين يديه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " يسلم الراكب على القائم والماشي، والقائم على القاعد، والماشي على القائم، والقليل على الكثير» .
فإذا بلغ إلى موضع حكمه، فإن كان قد سبق إليه قوم.. سلم عليهم؛ لما ذكرناه من الخبر. فإن لم يكن مسجدا.. لم تسن له الصلاة لتحيته، وإن كان مسجدا.. سن له أن يصلي ركعتين قبل أن يجلس. فإذا أراد أن يجلس.. بسط له بساط ليجلس عليه؛ لأنه أهيب له. ويجلس منفردا على الناس؛ ليهتدي إليه الخصوم.
ويستحب له أن يجلس مستقبل القبلة؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» .(13/67)
ويستحب أن يجلس وعليه السكينة والوقار؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا متكئا على يساره، فقال: " هذه جلسة المغضوب عليهم» .
ويستحب أن يكون على رأسه محضر يقدم المتقدم من الخصوم، ويؤخؤ المتأخر، ويكون ثقة أمينا؛ لئلا يقدم المتأخر ويؤخر المتقدم. ويكون القمطر بين يديه مختوما؛ ليجعل فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات.
وإن كان له كاتب.. فهو بالخيار: إن شاء أجلسه عنده، وإن شاء أجلسه بالبعد منه. فإن أجلسه عنده.. فالمستحب: أن يجلسه بين يديه؛ لينظر ما يكتب ولا يحتاج أن يلتفت إليه. وإن أجلسه بالبعد منه وأقر الخصم.. بعثه إليه ليكتب إقراره.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويكتب الحاكم اسم المقر؛ لئلا يجحد الإقرار عند الكاتب) .
قال أبو بكر الصيرفي: كنت عند بعض الحكام، فتقدم إليه خصمان، فادعى أحدهما على الآخر، فأقر المدعى عليه بذلك، فبعث بهما إلى الكاتب ليكتب إقرار المقر منهما، فلما حصلا عند الكاتب.. قال كل واحد منهما للآخر: أنت الذي أقررت، فردا إلى الحاكم، فلم يعرف عين المقر منهما، فضاع الحق المقر به.
ويستحب للقاضي أن يجمع الشهود في موضع قضائه، فإن قلنا: إن للقاضي أن يحكم بعلمه.. فهو بالخيار: إن شاء أجلسهم بحضرته، وإن شاء أجلسهم بالبعد منه حتى إذا احتاج إلى إشهادهم.. أحضرهم. وإن قلنا: ليس له أن يقضي بعلمه..(13/68)
احتاج أن يجلسهم بالقرب منه ليسمعوا كلام المتخاصمين، فيحفظوا إقرار المقر منهما، فيشهدوا عليه إذا أنكر الإقرار.
[مسألة للقاضي النظر في المسجونين]
مسألة: [يستحب للقاضي النظر في المسجونين أو لا ثم الأهم فالأهم] : وإذا جلس القاضي في مجلس حكمه.. فالمستحب: أن يبدأ بالنظر في المحبسين؛ لأن الحبس عذاب، وربما يكون فيهم من يجب إطلاقه، فينفذ ثقة إلى حبس القاضي الذي كان قبله، ويكتب اسم كل محبوس ولمن حبسه وبماذا حبس في رقعة، ثم يأمر القاضي مناديا فينادي في البلد يومين أو ثلاثا على قدر البلد، فيقول المنادي: ألا إن فلان بن فلان القاضي يريد النظر في أمر المحبسين في موضع كذا وكذا، وفي وقت كذا وكذا، فمن كان له محبوس.. فليحضر ذلك الوقت. فإذا كان ذلك الوقت وحضر القاضي وحضر الناس.. ترك الرقاع التي فيها أسماء المحبسين بين يديه، ومد يده وأخذ واحدة منها ونظر اسم من فيها من المحبسين، وقال: من خصم فلان بن فلان؟ فإذا قال رجل: أنا.. بعث معه ثقة إلى الحبس فأخرج خصمه، ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يمكنه النظر بينهم في ذلك اليوم، فيخرجهم من الحبس ولا يخرج معهم غيرهم، وينظر فيهم الأول فالأول.
فإذا حضر المحبوس وخصمه.. فإن الحاكم لا يسأل خصم المحبوس بم حبسه؛ لأن الظاهر أنه حبسه بحق، ولكن يسأل المحبوس، فيقول له: بم حبست؟ فإن قال: حبست له بدين وأنا مقر علي به.. فإن الحاكم يقول له: اقضه دينه وإلا رددناك إلى الحبس.
فإن قال: حبست له بدين وأنا مقر به إلا أني معسر، فإن كان الدين قد ثبت عليه بعوض؛ مثل القرض أو البيع، أو ثبت عليه من غير عوض؛ كالمهر أو الجناية، إلا أنه قد عرف له مال.. لم يقبل قوله: إنه معسر من غير بينة؛ لأن الأصل بقاء المال في(13/69)
يده. فإن لم يعرف له مال.. فالقول قوله مع يمينه: إنه معسر؛ لأن الأصل فيه الإعسار، فإذا حلف.. أمر القاضي من ينادي: هل له خصم غيره؟ فإذا كان له خصم يدعي عليه جناية أو حدا.. نظر بينهما، وإن لم يحضر له خصم.. أطلقه من غير استحلاف بأنه لا خصم له؛ لأن الظاهر أنه لا خصم له غيره.
وإن أقام خصمه بينة أن للمحبوس الدار الفلانية، فإن صدقه المحبوس.. فلا كلام، وإن قال: ليست لي، وإنما هي لغيري، ولم يعين المقر له.. لم يلتفت إلى إقراره وبيعت في الدين.
وكذلك إن قال: ليست لي ولا أدري لمن هي.. لم يلتفت إلى قوله وبيعت، وقضى صاحب الدين دينه من ثمنها.
وإن قال: هي لزيد.. نظرت: فإن كذبه زيد.. لم يلتفت إلى إقراره وبيعت، وقضى صاحب الدين دينه من ثمنها.
وإن ادعى زيد أنها له، فإن أقام زيد بينة أنها له.. حكم له بها؛ لأنه معه بينة وقد أقر له صاحب اليد -وهو المحبوس - باليد، فاجتمع له بينة ويد. فإن لم يكن مع زيد بينة. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تباع في الدين، بل يحكم بها لزيد؛ لأن البينة شهدت بملكها للمحبوس وهو لا يدعيها، فلم يحكم له بها، وقبل إقراره بها لزيد؛ لأنها في يده.
والثاني: تباع في الدين؛ لأن البينة شهدت للمحبوس بالملك، وللخصم بقضاء الدين من ثمنها، فإذا أسقط المحبوس حقه.. بقي حق الخصم.
فإذا قلنا: تباع.. بيعت. أو قلنا: لا تباع.. فإنه ينادي عليه: هل له خصم آخر، فإن لم يحضر له خصم آخر.. أطلق من غير استحلاف.
فإن قال المحبوس: حبست في حق واجب في بدني، إما قصاص أو حد.. فيستوفى(13/70)
ذلك الحق منه، ثم ينادى عليه: هل له خصم آخر، فإن لم يحضر له خصم آخر.. خلي من غير استخلاف.
وإن قال المحبوس: حبست بحق شهد به علي شاهدان لم تثبت عدالتهما، فإن قلنا: يجوز حبسه لذلك.. رده إلى الحبس إلى أن يكشف عن عدالة الشاهدين. وإن قلنا لا يجوز حبسه لذلك.. أمر من ينادي عليه: هل له خصم، فإن لم يحضر له خصم.. خلاه.
وإن قال المحبوس: حبسني بقيمة كلب قتلته عليه على قول مالك، أو بقية خمر أتلفتها على ذمي على مذهب أبي حنيفة. فإن أدى هذا الحاكم اجتهاده إلى ما أدى الأول اجتهاده إليه في ذلك.. أنفذ حكم الأول وأمضاه. وإن كان أداه اجتهاده إلى خلاف اجتهاد الأول في ذلك.. فالحكم في هذا كالحكم في القاضي إذا تصفح حكم القاضي قبله فوجد في حكمه ما يسوغ فيه الاجتهاد وخالف اجتهاده اجتهاده، وفي ذلك قولان:
أحدهما: يمضي حكم الأول؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله.
والثاني: لا يمضيه؛ لأنه يعتقد بطلانه، ولا ينقضه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، ولكن يتوقف فيه ويجتهد أن يصطلحا بينهما.
وعلى القولين يرد المحبوس إلى الحبس.
وإذا قال المحبوس: حبست لغير خصم.. فإن الحاكم يأمر مناديا ينادي: من كان خصما لفلان بن فلان فليحضر، فإن حضر رجل وقال: أنا خصمه وحبس لي، فإن أقر المحبوس بذلك.. نظر بينهما على ما مضى، وإن أنكر وقال: لست بخصم له ولا أعرفه، فإن كان مع المدعي بينة تشهد أنه حبس بحقه.. كان الجواب على ما مضى. وإن لم يكن معه بينة.. قيل للمدعي: ادع عليه الآن، ويحكم الحاكم بينهما.(13/71)
وإن لم يظهر له خصم.. لم يطلقه الحاكم من الحبس حتى يحلفه: أنه لم يحبس لخصم له عليه حق؛ لأن الظاهر أنه لم يحبسه إلا بحق عليه.
فإذا فرغ الحاكم من النظر في أمر المحبسين.. نظر في أمر الأوصياء؛ لأنهم ينظرون في أمر من لا يمكنه أن يطالب بحقه.. فيستدعي الوصي ويسأله عن وصيته، فإن أقام بينة أن الحاكم الأول قد أنفذ الوصية إليه.. لم يعزله ولم يسأل عن حاله؛ لأن الظاهر أنه لم ينفذ الوصية إليه إلا وهو ممن يصلح أن يكون وصيا، إلا أن يظهر فسقه فيعزله؛ لأن العدالة شرط في الوصي.. وإن كان عدلا ضعيفا.. ضم إليه الحاكم عدلا أمينا لينظر معه.
فإن لم يقم البينة أن الأول أنفذ الوصية إليه، إلا أنه قد أقام البينة على أن الوصية إليه.. نظر الحاكم فيه: فإن كان عدلا قويا.. أنفذ الوصية إليه، وإن كان فاسقا.. عزله وجعل الأمر إلى عدل قوي، وإن كان عدلا ضعيفا.. ضم إليه غيره. وإن كان قويا ولم يثبت عنده فسقه ولا عدالته.. ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يقر المال في يده؛ لأن الظاهر منه أنه لما أوصي إليه أنه عدل أمين.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: ينزع المال من يده حتى يعلم عدالته؛ لأن الذي رضيه ليس بحاكم يسكن إلى فعله، والأصل عدم العدالة حتى تعلم.
وإن ادعى رجل: أن فلانا أوصى له بالنظر في أولاده، ولم يقم على ذلك بينة.. لم يقبل قوله؛ لأن الأصل عدم الوصية إليه. فإن كان عدلا قويا.. فالأولى للحاكم أن يجعل أمرهم إليه؛ لجواز أن يكون قد أوصى إليه بهم. وإن جعل أمرهم إلى غيره.. جاز.
وكذلك: إذا قامت بينة عند الحاكم أن رجلا أوصى بتفرقة ثلث ماله إليه، وادعى(13/72)
آخر: أنه أوصى إليه بذلك ولم يقم بينة على ذلك.. فهو كما لو ادعى: أنه أوصى إليه بالنظر في أولاده الصغار، ولم يقم بينة على ذلك على ما مضى.
وإن ادعى فاسق: أن رجلا أوصى إليه بدفع شيء من ماله إلى قوم، فدفعه إليهم، وأقام بينة على ذلك.. نظرت: فإن كانت الوصية لقوم معينين وقد وصل إليهم ما وصى لهم به وهم من أهل القبض.. صح الدفع إليهم، ولا ضمان عليه؛ لأن المقصود وصول ذلك إليهم وقد وصل. وكذلك لو أخذهم الموصى لهم بأنفسهم.. صح قبضهم.
وإن كانت الوصية لغير معينين؛ مثل: أن أوصى للفقراء والمساكين، فأوصل إليهم.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يلزمه الضمان؛ لأنه دفع المال إلى مستحقه، فأشبه إذا كانت الوصية لمعينين.
والثاني - وهو المشهور -: أنه يلزمه الضمان؛ لأن التفرقة على هؤلاء تفتقر إلى الاجتهاد، والفاسق ليس من أهل الاجتهاد، فإذا فرق.. لزمه الضمان.
قال ابن الصباغ: وإن أقام رجل البينة أن فلانا أوصى بثلث ماله ولم يوص إليه، لكنه فرقه خوفا عليه، فإن كانت الوصية لمعينين.. فلا ضمان عليه، وإن كان لغير معينين.. ففيه وجهان، ودليلهما ما مضى.
فإذا فرغ القاضي من النظر في أحوال الأوصياء.. نظر في أمر الأمناء -والأمين: من نصبه الحاكم لينظر أمر الأطفال والمجانين والسفهاء ويعرفه بيت المال - فمن كان منهم من أهل الولاية والنظر.. أقره، ومن علم فسقه.. عزله وأقام غيره مقامه، وإن عرف ضعفه مع عدالته.. ضم إليه غيره.
فإذا فرغ من النظر في ذلك.. نظر في اللقطة والضالة، فمن كانت عنده.. أمره بتعريفها إن اختار تملكها، وإن لم يختر تملكها.. أمر أمينا بقبضها وحفظها على صاحبها، فما خاف عليه التلف.. باعها وحفظ ثمنها، وما لا يخاف عليه التلف.. حفظه على صاحبه.(13/73)
قال ابن الصباغ: وإن رأى أن يخلط الضالة بمال بيت المال، حتى إذا جاء صاحبها أعطاه قيمتها من بيت المال.. فعل.
ثم ينظر في الأوقاف العامة، وغير ذلك من المصالح، يبدأ الأهم فالأهم.
وبالله التوفيق(13/74)
[باب ما على القاضي في الخصوم والشهود]
المستحب: للقاضي أن يقدم رجلا إلى مجلس حكمه، يكتب أسماء الحاضرين للدعوى، الأول فالأول. فإذا حضر القاضي وقد حضر هناك جماعة من الخصوم، أو حضروا بعد جلوسه في مجلس الحكم.. فإنه يقدم الأول في الحضور في الحكم؛ لأن له مزية بالسبق، والاعتبار بسبق المدعي في الحضور دون المدعى عليه؛ لأن الحق للمدعي.
وإن حضر مدعيان أو مدعون في وقت واحد، أو سبق بعضهم بعضا، وأشكل السابق منهم.. أقرع الحاكم بينهم، فمن خرجت له القرعة.. قدم. وإن شاء الحاكم.. كتب اسم كل واحد منهم في رقعة، وجعلها بين يديه مطوية، ومد يده إلى واحدة منها، فمن خرج اسمه.. قدمه في الحكم؛ لأنه لا مزية لبعضهم على بعض.
وإن ثبت التقديم لأحدهم بالسبق أو بالقرعة، فاختار من ثبت له التقديم أن يقدم غيره على نفسه.. جاز؛ لأن الحق له.
فإذا ثبت التقديم لواحد، فنظر الحاكم في خصومة بينه وبين رجل، فقال له المدعي: لي دعوى أخرى.. لم يسمع منه؛ لأنه قد قدمه لسبقه في خصومة، فيقدم من بعده، ويقول له: اجلس حتى إذا لم يبق أحد من الحاضرين.. نظرت في دعواك هذه. فإذا نظر فيهم واحدا بعد واحد، فقال الأخير -بعد أن نظر بينه وبين خصمه -: لي دعوى أخرى.. لم يسمع منه هذه الدعوى حتى يسمع الدعوى الثانية من الأول؛ لأنه قد سبق إليها، ثم يسمع الدعوى الثانية من الأخير. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين.(13/75)
وقال الخراسانيون: إذا ثبت التقديم لواحد وله خصمان.. لم يقدم إلا في الدعوى على أحدهما، ولا يمكن من الدعوى على الثاني حتى تخرج له القرعة الثانية، وإن أراد أن يدعي بالدعوى الثانية على الخصم الذي ادعى عليه بالأولى.. فهل يمكن منها قبل خروج القرعة له ثانيا؟ فيه وجهان.
[مسألة حضر مسافرون ومقيمون عند القاضي أو نساء ورجال]
] : وإن حضر عند القاضي مسافرون ومقيمون للحكم.. نظرت: فإن سبق المسافرون.. قدمهم لسبقهم.
وإن حضر المسافرون والمقيمون في وقت واحد، فإن كان المسافرون قليلين لا يدخل على المقيمين ضرر بتقديمهم وهم على الخروج.. جاز للحاكم أن يقدمهم على المقيمين. وحكى الشيخ أبو إسحاق وجها آخر: أنه لا يجوز له تقديمهم إلا برضا المقيمين؛ لتساويهم في الحضور.
والأول هو المنصوص؛ لأن الله تعالى خص المسافرين بالتخفيف في العبادة، فجاز للحاكم تقديمهم.
قال ابن الصباغ: وإن سبق المقيمون المسافرين في الحضور، والمسافرون قليلون.. جاز للحاكم تقديم المسافرين؛ لما ذكرناه.
وإن كان المسافرون كثيرون يساوون أهل البلد أو يزيدون عليهم.. لم يجز للحاكم تقديمهم على المقيمين؛ لأن على المقيمين ضررا بتقديمهم عليهم.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وكذلك إذا حضر رجال ونساء في وقت واحد.. جاز للحاكم أن يقدم النساء على الرجال.(13/76)
[فرع سبق أحد الخصمين في الدعوى أو ادعاؤهما دفعة واحدة]
] : فإن حضر خصمان عند القاضي، فادعى أحدهما على الآخر بدعوى، فقال المدعى عليه: أنا الذي أحضرته لأدعي عليه.. قدم السابق بالدعوى؛ لأنه قد ثبت له السبق بالدعوى، فإن أجاب عن دعواه.. كان له أن يدعي عليه.
وإن حضر خصمان وادعى كل واحد منهما على الآخر دفعة واحدة.. فقد حكى ابن المنذر اختلاف الناس فيه:
فمنهم من قال: يقرع بينهما.
ومنهم من قال: يقدم الحاكم من شاء.
ومنهم من قال: يصرفهما الحاكم إلى أن يصطلحا.
ومنهم من قال: يسمع منهما، ويحلف كل واحد منهما: أنه سبق صاحبه.
قال الشيخ أبو حامد: ولا نص فيها، والذي يجيء على أصلنا: أنه يقرع بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، فأقرع بينهما، كما لو جاءا في وقت واحد.
[مسألة تسوية الحاكم بين الخصمين]
] : ويسوي الحاكم بين الخصمين في دخولهما عليه، فلا يقدم أحدهما على الآخر في الدخول عليه للحكم، وفي الإقبال عليهما، ورد السلام، والاستماع منهما، ولا يرفع صوته على أحدهم دون الآخر؛ لما روت أم سلمة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتلي منكم بالقضاء بين المسلمين.. فليسو بين الخصمين في المجلس، والكلام، والإشارة، والنظر، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين دون الآخر» .(13/77)
وروي: أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: (آس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك) . وروي: (أنه كان بين عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبين أبي بن كعب حكومة، فترافعا إلى زيد بن ثابت ليحكم بينهما، فقال زيد: لو أمرنا أمير المؤمنين لأتيناه، فقال عمر: (في بيته يؤتى الحكم، فأومأ زيد إلى مخدة، فقال عمر: هذا جور! سو بيننا في المجلس، فلما توجهت اليمين على عمر.. جعل زيد يشفع إلى أبي بن كعب ويقول: لو عفوت عن أمير المؤمنين عن اليمين، فقال عمر: ما تدري ما القضاء حتى تسوي بين الخصمين) . ولا مخالف له، ولأنه إذا قدم أحدهما عن الآخر بشيء من ذلك.. انكسر قلب الآخر، وربما عجز بذلك عن إيراد حجته.
فإن كان الخصمان مسلمين أو كافرين.. أجلسهما بين يديه؛ لما روى ابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن يقعد الخصمان بين يدي القاضي» . ولأنه أمكن للقاضي في الإقبال عليهما.
وإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق والمسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: يسوي بينهما في المجلس كما يسوي بينهما في دخولهما عليه وإقباله عليهما.
والثاني - ولم يذكر الشيخ أبو حامد والصباغ غيره -: أنه يرفع المسلم عليه في المجلس؛ لما روي: أن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى درعه مع يهودي، فقال: هذه درعي، سقطت مني يوم الجمل، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فترافعا إلى شريح ليحكم بينهما، فلما رآه شريح.. قام من مجلسه وأجلسه فيه،(13/78)
وجلس شريح مع اليهودي بين يديه، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لولا أني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تسووا بينهما في المجلس، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشيعوا جنائزهم، واضطروهم إلى أضيق الطرق» لجلست معه بين يديك.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في ذلك: واجب أو مستحب؟
فذكر الشيخ أبو حامد: أنه يجب على الحاكم أن يسوي بينهما في الدخول والإقبال والاستماع والمجلس؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (وينبغي للقاضي أن ينصف بين الخصمين في المدخل عليه للحكم والإنصات) .
وقال ابن الصباغ: هو مستحب غير واجب.
[فرع لا يضيف القاضي أحد الخصمين وغير ذلك مما فيه ميل لأحدهما ظاهر]
] : قال الشافعي: (ولا ينبغي أن يضيف الخصم دون خصمه) .
وجملة ذلك: أنه لا يجوز للقاضي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر؛ لما روي: أن رجلا ورد على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأقام عنده أياما، ثم إنه أدلى بخصومة -يعني: ذكر خصومة - فقال علي: ألك خصم؟ قال: نعم، قال: تحول عنا؛ فإني سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يضيف القاضي أحد الخصمين إلا ومعه خصمه» .(13/79)
ولأنه إذا ضيف أحدهما.. انكسر قلب الآخر، وربما لا يمكنه استيفاء حجته.
ولا يسار أحدهما دون الآخر؛ لأن ذلك يكسر قلب الآخر.
ولا يجوز له أن يلقن أحدهما حجته؛ لأن عليه أن يسوي بينهما، وإذا لقن أحدهما الإقرار.. أضر به، وإن لقنه الإنكار.. أضر بخصمه الآخر.
وكذلك لا يجوز له أن يلقن الشاهد الامتناع من الشهادة إذا أراد أن يشهد؛ لأن فيه إضرارا بالمشهود له، ولا يلقنه الشهادة إذا رآه ممتنعا منها؛ لأن فيه إضرار بالمشهود عليه.
ويجوز للقاضي أن يدفع ما وجب على أحد الخصمين من مال نفسه؛ لأن في ذلك نفعا لهما، ويجوز له أن يشفع لأحدهما إلى الآخر بالإنظار أو بالإسقاط؛ لما روي: «أن بريرة لما أرادت أن تفسخ النكاح.. قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لو راجعتيه؛ فإنه أبو ولدك " فقالت: أبأمرك يا رسول الله؟ قال: لا، إنما أنا شفيع» . فدل على: أنه يجوز للحاكم أن يشفع، وأن للمشفوع إليه أن يجيبه وله أن يرده، فلا ضرر عليه في ذلك.
ولا يجب على القاضي أن يسوي بين الخصمين في محبة القلب، بل لو أحب أحدهما ولم يظهر منه ذلك بقول ولا فعل.. لم يأثم؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] [النساء: 129] .
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (أي: لا تتبعوا أفعالكم أهواءكم) .
وإذا ثبت هذا في النساء؛ لأنه لا يمكنه ذلك.. ثبت بين الخصمين مثله.(13/80)
[فرع لا ينتهر القاضي أحد الخصمين أو كلاهما أو شاهدا إلا بحق]
] : ولا يجوز للقاضي أن ينتهر الخصمين أو أحدهما، ولا يصيح عليهما؛ لأنه إذا فعل ذلك.. انكسر قلب من انتهره، وربما منعه ذلك من استيفاء حجته.
فإن بان من أحد الخصمين لدد، وهو: الالتواء في الخصومة وشدة الخصومة، قال الله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] [البقرة: 204] ، وقال الله تعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97] [مريم: 97] ، وذلك بأن لا يستوي على وجهة واحدة؛ مثل: أن يسأل الحاكم أن يستحلف له خصمه، فلما استحلفه بعض اليمين.. قال له: اقطع اليمين، فلي بينة أقيمها، فانصرف، ثم عاد ورفعه ثانيا ولم يقم عليه بينة وما أشبه ذلك، فإذا فعل الخصم ذلك مرة.. نهاه الحاكم عن ذلك، فإن عاد إليه.. زجره بالكلام، فإن فعله ثالثا.. أدبه بالضرب أو بالحبس على ما يرى فيه من المصلحة.
فإن أغلظ الخصم للحاكم بالقول؛ مثل أن يقول: جرت علي في الحكم أو حكمت علي بغير حق وما أشبه ذلك.. فعلى الحاكم ما يرى فيه من المصلحة من تعزيره أو ترك تعزيره. فإن كان الخصم جاهلا يرى أن ترك تعزيره للعجز عنه.. عزره؛ لئلا ينبسط عليه بأكثر من ذلك. وإن كان عاقلا، إلا أنه أخطأ في ذلك.. زجره بالكلام.
ولا يتعنت شاهدا، وهو: أن الحاكم متى شهد عنده شاهدان وتوسم فيهما سيما الخير والعدالة.. لم يفرقهما، ولم يسألهما: أين شهدتما؟ ولا في أي موضع شهدتما؟.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولا ينتهر شاهدا ولا يعنفه) . و (الانتهار) : أن(13/81)
يصيح عليه، و (التعنيف) هو: أن يداخله في كلامه ويتعقبه في ألفاظه؛ لأن ذلك كله يكسر قلب الشاهد ويمنعه من إقامة الشهادة، وربما دعاه ذلك إلى ترك تحمل الشهادة خوفا من ذلك الأذى، فيؤدي إلى ضياع الحقوق.
[مسألة وجوب القدوم لدعوة القاضي وماذا لو استعدى إليه رجل]
؟] : إذا كان بين رجلين خصومة، ودعا أحدهما الآخر إلى مجلس الحاكم.. وجبت عليه الإجابة إلى الحكم ومدح من أجاب إلى الحكم، فقال: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] [النور: 48] . وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] [النور: 51] .
وإن استعدى رجل الحاكم على رجل في البلد.. وجب عليه أن يعديه، سواء بين دعواه أو لم يبين.
ومن أصحابنا من قال: إذا كان الرجل المستعدى عليه من أهل الصيانة والمروءة واستعدى عليه من يتهم أنه قصد ابتذاله بذلك.. لم يستحضر إلى مجلس الحاكم، لكن ينفذ إليه الحاكم من يحكم بينهما ويحلفه له إن وجبت له عليه يمين في مسجده أو منزله. والمشهور هو الأول، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (لا يعديه عليه إلا إذا علم أن بينهما معاملة) . وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، ولم يفرق بين أن يكون بينهما معاملة أو لا يكون بينهما معاملة. ولأنه قد يكون له عنده وديعة أو عارية جحدها، أو غصب منه شيئا، فوجب عليه أن يعديه عليه، كما لو علم بينهما معاملة.(13/82)
والمستحب: أن يكون عند القاضي خواتم من طين على كل واحد منها مكتوب اسمه، أو: أجب القاضي فلانا، فيدفع إلى من استعداه خاتما من تلك الخواتم ليدفعه إلى الذي استعدى عليه، فإذا دفعه إليه.. وجب عليه أن يجيب معه للآية.
قال أبو العباس: فإذا حضر، فإن كان الرجل من أهل الصيانة والمروءة.. أدخله القاضي إلى داره وحكم بينهما هناك صيانة له. وإذا دفع إليه الختم وامتنع من الحضور أو كسر الختم.. بعث إليه القاضي عونا من أعوانه وسأله أن يحضر، فإن حضر، وإلا.. أرسل القاضي إلى صاحب الشرطة ليحضره، وإذا حضر.. سأل القاضي شاهدين على امتناعه عن الحضور أو على كسر الخاتم.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويسأل عن عدالتهما ويحقق السؤال، فإذا ثبت ذلك.. عزره على حسب ما يرى في حاله من الزجر بالكلام أو كشف العمامة أو الحبس أو الضرب) .
فإن اختفى على من يحضره.. بعث القاضي من ينادي على بابه ثلاثة أيام: أنه إن لم يحضر.. سمر بابه وختم عليه. ويستحب له: أن يجمع أماثل جيرانه ويشهدهم على إعدائه، فإن لم يحضر، وإلا.. سمر بابه وختمه.
وقال ابن القاص: ومذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه يوكل عليه وكيلا بعد أن يبعث الحاكم من ينادي على بابه بحضرة شاهدي عدل: إن لم يحضر مع خصمه فلان بن فلان، وإلا.. وكل عليه. والمستحب: أنه يعزز إليه في ذلك ثلاثا، فإن لم يحضر.. وكل عليه وكيلا ليناظر عنه المدعي، فإن ثبت عليه حق ووجد له مالا.. قضاه منه. وإن كان الحق على بدنه وعرف له مكانا.. أمر القاضي بالاقتحام عليه،(13/83)
فينفذ الخصيان والغلمان الذين لم يبلغوا والثقات من النساء، ويبعث معهم ذوي عدل من الرجال، فيدخل النساء والغلمان، فإذا حصلوا في صحن الدار.. دخل الرجال، ويؤمر الغلمان والنساء بالتفتيش عنه، والنساء يتفقدن النساء، فإذا وجد.. أخرج، وحكم عليه بما وجب عليه.
وأما إذا كان المستعدى عليه غائبا عن البلد، فإن كان في بلد ليس للقاضي المستعدى إليه ولاية عليها.. لم يجب عليه الإعداء عليه، بل لو أقام عليه المدعي البينة وحكم عليه القاضي.. كان حكما على غائب على ما يأتي بيانه.
وإن كان في بلد ولاية القاضي المستعدى إليه، فإن كان للحاكم في ذلك البلد خليفة.. لم يحضره بل يكتب إلى خليفته لينظر بينهما، فإن لم يكن هناك خليفة له، وهناك رجل من الرعية يصلح للقضاء ورأى القاضي أن يكتب إليه لينظر بينهما.. فعل. وإن أراد أن ينفذ من يحكم بينهما هناك.. فعل.
وإن لم يمكن شيء من ذلك وسأل الخصم إحضاره.. نظرت: فإن لم يحرر دعواه.. لم يجز له إحضاره؛ لجواز أن يدعي عليه بما لا حق عليه، مثل أن يقول: سعى بي إلى السلطان، أو يدعي عليه بالشفعة للجار، أو بقيمة كلب، والحاكم لا يرى وجوب ذلك. ويخالف الحاضر في البلد حيث قلنا: يلزمه أن يعديه عليه وإن لم يحرر الدعوى عليه؛ لأنه لا مشقة على من في البلد في الحضور، وعلى الغائب عن البلد مشقة في الحضور. وإن حرر دعوى صحيحة عليه.. وجب على القاضي أن يعديه عليه، سواء كانت المسافة بينهما قريبة أو بعيدة.
وقال أبو يوسف: لا يحضره إلا إذا كان يمكنه أن يحضر وينصرف في يومه.
وقال بعض الناس: لا يحضره إلا إذا كانت في مسافة يوم وليلة، ولا يحضره إذا كانت المسافة أكثر من ذلك.
وقال بعضهم: يحضره من مسافة ثلاثة أيام، ولا يحضره في مسافة أكثر من ذلك.(13/84)
دليلنا: أنه إذا لم يكن هناك من يحكم بينهما.. ضاع الحق إذا لم يعده، فوجب عليه أن يعديه، كالمسافة المتفق عليها.
[فرع استعداء الرجل للحاكم على المرأة]
] : وإن استعدى رجل الحاكم على امرأة.. نظرت: فإن كانت برزة - وهي التي تخرج لحوائجها - فإن الحاكم يعدي عليها ويحضرها في مجلس الحكم ويحكم بينهما.
وإن كانت مخدرة - وهي التي لا تخرج لحوائجها - لم يكلفها الحاكم الحضور، بل يأمرها أن توكل من ينوب عنها في الخصومة، أو يبعث الحاكم من يحكم بينهما؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن ترجم الغامدية وهي ظاهرة» ، «وأمر أنيسا أن يغدو على امرأة الرجل التي أقر عسيفه أنه زنى بها، وقال: " إن اعترفت فارجمها» . فأمر برجمها وهي غير ظاهرة، وإنما فرق بينهما؛ لأن الغامدية كانت برزة، والأخرى غير برزة.
وإن كانت المرأة غير برزة وحضر من يحكم بينها وبين خصمها، وكان الحاكم أو الخصم من غير ذوي رحمها.. فإنه يكون بينه وبينها سترة وتتكلم من ورائها. فإن اعترفت أنها خصمه.. حكم بينهما. وإن قال: ليست هذه خصمي، فإن شهد شاهدان أنها خصمه.. حكم بينهما. وإن لم يكن لها بينة.. كلفت أن تتلفح بإزارها وتخرج من وراء الستر؛ لأنه موضع حاجة.
والله أعلم(13/85)
[باب صفة القضاء]
إذا حضر خصمان عند القاضي.. جاز للقاضي أن يقول لهما: تكلما أو يتكلم المدعي منكما، أو يقول ذلك القائم على بابه؛ لأنهما ربما هاباه من ابتداء الكلام. ولا يجوز أن يقول لأحدهما: تكلم؛ لأن في ذلك كسرا لقلب الآخر.
ويجوز له أن يسكت إلى أن يتكلم المدعي منهما؛ لأنهما ما حضرا إلا للكلام. فإذا ابتدأ أحدهما بالدعوى، فأراد الآخر أن يداخله بالكلام في حال كلامه.. منعه من ذلك؛ لأن المداخلة تمنع المدعي من بلوغ غرضه في الدعوى.
فإذا ادعى أحدهما على الآخر بدعوى، فإن كانت غير صحيحة.. قال له القاضي: صحح دعواك. وهل له أن يلقنه كيف يصححها؟ فيه وجهان:
أحدهما -وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: يجوز له ذلك؛ لأنه لا ضرر على المدعى عليه في تصحيح الدعوى عليه.
والثاني - وهو المذهب -: أنه لا يجوز للقاضي ذلك؛ لأن قلب الآخر ينكسر بذلك.
وإن كانت الدعوى صحيحة، فإن لم يجبه المدعى عليه بعد الدعوى.. نظرت:
فإن قال المدعي للقاضي: كلفه الخروج عن دعواي.. قال له القاضي: أجب عن دعواه. وإن لم يسأله المدعي ذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له ذلك؛ لأن سؤال المدعى عليه حق للمدعي، فلا يستوفيه القاضي من غير إذنه.
والثاني: يجوز له ذلك، وهو المذهب؛ لأنه ما ادعى عليه إلا ليجيبه، فكان شاهد الحال يدل عليه.(13/86)
فإن طولب بالجواب فأجاب، أو أجاب من غير مطالبة.. فلا يخلو: إما أن يقر أو ينكر.
فإن أقر بما ادعى عليه، فإن سأله المقر له أن يحكم له على المقر بما أقر له به.. حكم له بذلك. وإن لم يسأله ذلك.. لم يجز له أن يحكم له بذلك؛ لأن الحكم حق للمقر له، فلا يفعله بغير إذنه.
فإن أنكر المدعى عليه، فإن كان الحاكم يعلم أن المدعي لا يعلم أن هذا موضع إقامة البينة.. فإنه يقول له: ألك بينة تشهد لك عليه؟ وإن كان يعلم أن ذلك موضع إقامة البينة.. فله أن يقول له ذلك، وله أن يسكت.
وحكي: أنه كان بالبصرة شابان يتفقهان على مذهب الشافعي، وكان أول من تفقه فيها على مذهب الشافعي، فلما ولي عيسى بن أبان قضاء البصرة أراد أن يعرفاه بأنفسهما، فتواطآ على أن يدعي أحدهما على صاحبه شيئا بين يديه، فتقدما إليه وادعى أحدهما على الآخر حقا، فبادر عيسى بن أبان فقال للمدعى عليه: ما تقول فيما ادعاه عليك؟ فقال المدعي: ما سألتك أن تستفهم منه، وقال الآخر: أيها القاضي إن كان خصمي لم يسألك مطالبتي فلم تسألني؟ فقال للمدعي: أأسأله عما ادعيت؟ فقال: سله، فلما سأله.. قال: ليس له علي شيء، فقال عيسى بن أبان: قد أنكر، فقال المدعي: أنا أقرب إليه أيها القاضي! تعرفني شيئا أنا به خبير، فتحير عيسى، وقال: من أنتما؟ فقالا: نحن من أصحاب الشافعي ونتفقه على مذهبه، وإنما أردنا أن نعرف أنفسنا إليك لنعمل في ديوان الحكم، قال: فأحسن إليهما وقبلهما، وارتفع بذلك شأنهما عنده.
إذا ثبت هذا: فإن لم يكن للمدعي بينة، وكانت الدعوى في غير دم.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما روى وائل بن حجر: «أن رجلا حضرميا ادعى على رجل من كندة أرضا في يده، فقال الكندي: أرضي وفي يدي أزرعها، لا حق له فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ "، فقال: لا، قال: " لك يمينه "،(13/87)
فقال: إنه لا يبالي بما يحلف؛ لأنه لا يتورع عن شيء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليس لك إلا ذلك» . ولأن جنبة المدعى عليه هاهنا أقوى؛ لأن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله.
ولا يجوز للقاضي أن يحلفه إلا بسؤال المدعي؛ لأن الحق له فلا يستوفيه إلا بإذنه، فإن حلفه بغير إذنه.. لم يعتد بيمينه، وللمدعي أن يطالب بإعادة اليمين؛ لأنها لم تقع موقعها.
فإن قال المدعي للمدعى عليه: أبرأتك من اليمين.. سقط حقه منها في هذه الدعوى، وله أن يستأنف الدعوى، فإذا أنكره.. فله أن يحلفه، فإذا حلف له المدعى عليه.. سقطت عنه الدعوى في ظاهر الحكم، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. لم يحكم عليه بنكوله بالحق المدعى به عليه، بل يرد اليمين على المدعي، فإذا حلف.. حكم له بما ادعاه. وبه قال الشعبي والنخعي.
وقال مالك: (إن كان ذلك الحق مما يقبل فيه الشاهد والمرأتان، أو الشاهد واليمين.. ردت اليمين على المدعي، وإن كانت مما لا يقبل فيه إلا الشاهدان.. لم ترد اليمين على المدعي، بل يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف) .
وقال أبو حنيفة: (إن كانت الدعوى في المال ونكل المدعى عليه عن اليمين.. كرر الحاكم عليه ثلاثا، فإن حلف، وإلا.. حكم عليه بنكوله، ولزمه المال. وإن كان في القصاص.. لم يحكم عليه بالقصاص بالنكول، بل يحبس حتى يقر أو يحلفه) .(13/88)
وقال أبو يوسف: (يقضى عليه بالنكول بالدية) .
دليلنا -على فوات رد اليمين على المدعي -: قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] [المائدة: 108] . وبالإجماع: أن اليمين لا ترد بعد اليمين، فثبت أن المراد بذلك: أن ترد أيمان بعد وحوب أيمان.
وروى زيد بن ثابت: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من طلب طلبة.. فالمطلوب أولى باليمين من الطالب» و (أولى) على وزن أفعل، وذلك موضوع في اللغة لاشتراك الشيئين في الحكم وانفراد أحدهما عن الآخر بمزية، فدل على أن الطالب والمطلوب شريكان في اليمين، وأن المطلوب أولى.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد اليمين على طالب الحق» .
وروي: (أن المقداد اقترض من عثمان دراهم، فقضاه أربعة آلاف درهم، فقال عثمان: إنما أخذت مني سبعة آلاف، فاختصما إلى عمر، فقال المقداد لعثمان: احلف أني أخذت سبعة آلاف، فقال عمر: إنه أنصفك، فامتنع عثمان عن اليمين، فلما ولى المقداد.. قال عثمان: والله إنه أخذ مني سبعة آلاف، فقال عمر: ما منعك أن تحلف؟ والله إن هذا القضيب بيدي، ووالله إن هذا ثوب! فقال عثمان: خشيت أن(13/89)
توافق قدر بلاء فيقال: بيمينه) ، ولا مخالف لهم في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
والدليل -على أنه لا يقضي عليه بنكوله -: أنه نكول عن يمين، فلم يقض بالحق بالنكول عن اليمين كالنكول عن القصاص.
فإن امتنع المدعى عليه عن اليمين.. لم يسأل عن سبب امتناعه، بل ترد اليمين على المدعي؛ لأنه بامتناعه.. سقطت اليمين عن جنبته وصارت في جنبة المدعي.
وإن سأل المدعى عليه أن يمهل عن اليمين لينظر في حسابه.. أمهل ثلاثة أيام؛ لأن ذلك قريب.
وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين، ثم بذل اليمين بعد ذلك.. لم يسمع منه ذلك؛ لأن حقه قد سقط منها.
وإن كان القاضي يعلم أن المدعي لا يعلم أن اليمين قد صارت في جنبته.. قال له: أتحلف وتستحق؟ وإن كان يعلم ذلك.. فله أن يقول له ذلك، وله أن يسكت عنه.
وإن حلف المدعي.. استحق ما ادعاه في ظاهر الحكم، كما تسقط الدعوى عن المدعى عليه إذا حلف في ظاهر الحكم.
فإن امتنع المدعي عن اليمين.. سئل عن سبب امتناعه، فإن قال: امتنعت؛ لأن لي بينة أقيمها، أو لأنظر في حسابي ثم أحلف.. ترك ما شاء؛ لأن الحق له، ولا تسقط اليمين عن جنبته، بل متى شاء.. حلف واستحق.
وإن قال: امتنعت لأني لا أختار أن أحلف.. سقطت اليمين عن جنبته، ولا يعود اليمين إليه إلا إن ادعى ثانيا ونكل المدعى عليه عن اليمين.
والفرق بينهما حيث قلنا: (إنه لا يسأل المدعى عليه عن سبب امتناعه ويسأل(13/90)
المدعي) أن المدعى عليه إذا امتنع عن اليمين.. انتقلت اليمين إلى المدعي، ففي سؤاله إضرار بالمدعي، وإذا امتنع المدعي.. لم تنتقل اليمين إلى جنبة غيره، فلا ضرر في سؤاله على أحد.
وإن حلف المدعي عند نكول المدعى عليه.. ففي يمينه قولان:
أحدهما: يجري مجرى بينة يقيمها؛ لأنها حجة من جهته.
والثاني: يجري مجرى إقرار المدعى عليه، وهو الأصح؛ لأن اليمين إنما ترد لنكوله، فصارت يمين المدعي كإقرار المدعى عليه.
[مسألة ادعاء يثبت بشاهد ويمين]
وإن ادعى حقا يثبت بالشاهد واليمين، وأقام شاهدا، فإن حلف.. حكم له بما ادعاه.
وإن قال: لست أختار أن أحلف معه.. سقطت اليمين عن جنبته، وصارت في جنبة المدعى عليه، فإن أراد المدعي أن يحلف مع شاهده.. لم يكن له ذلك في هذا المجلس، إلا أن يتفرقا عن ذلك المجلس ويدعي عليه ثانيا وينكر، فله أن يقيم شاهده ويحلف معه؛ لأن يمينه قد سقطت في هذه الدعوى، فلم تعد إليه إلا في دعوى أخرى.
وإن انتقلت اليمين إلى جنبة المدعى عليه هاهنا.. نظرت:
فإن حلف.. سقطت عنه المطالبة، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين.. لم يقض عليه بالنكول بالحق المدعى به عليه مع شاهد المدعي.
وقال مالك: (يقضي عليه هاهنا بنكوله بالحق المدعى به عليه مع شاهد المدعي) .(13/91)
دليلنا: أن الشاهد معنى تقوى به جنبة المدعي، فلم يقض به مع نكول المدعى عليه كاللوث في القسامة.
وإذا ثبت هذا: فهل ترد اليمين على المدعي؟ فيه قولان:
أحدهما: لا ترد عليه؛ لأنها قد كانت في جنبته وقد أسقطها بالنكول، فلم ترد عليه، كما لو ادعى حقا ولا شاهد معه، فنكل المدعى عليه عن اليمين، فردت على المدعي، فنكل.. فإنها لا ترد على المدعى عليه.
فعلى هذا: يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف.
والثاني: ترد على المدعي، وهو الأصح؛ لأن هذه اليمين غير تلك اليمين التي نكل عنها؛ لأن تلك لقوة جنبته بالشاهد، وهذه لقوة جنبته بنكول المدعى عليه، ألا ترى أن تلك لا يقضى بها إلا في المال وما يقصد به المال، وهذه يقضى بها في جميع الحقوق؟
[مسألة لا يقضى بالنكول عن اليمين إلا في مسائل وبسبب مقدم]
] : قال ابن القاص: ولا يقضى بالنكول من غير يمين على قول الشافعي إلا في ست مسائل:
إحداهن: إن كان لرجل مال تجب فيه الزكاة، وحال عليه الحول، وجاء الساعي وطالب بزكاته، فقال رب المال: قد بعته ثم اشتريته ولم يتم عليه الحول.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. برئ من الزكاة، وإن لم يحلف.. وجبت عليه الزكاة بنكوله.(13/92)
الثانية: إذا كان له أربعون من الغنم، فحال عليها الحول، فجاء الساعي يطلب زكاتها، فقال: قد دفعتها إلى ساع غيرك، أو كان له ثمانون شاة في بلدين، فجاء الساعي يطلب منه الزكاة في بلد، فقال: قد دفعتها في البلد الآخر.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. برئ من الزكاة، وإن نكل.. وجبت عليه الزكاة بنكوله.
الثالثة: إذا كان له ثمار فخرصت عليه وضمن الزكاة، فجاء الساعي يطلب منه الزكاة، فادعى رب المال أن الثمرة سرقت أو هي أقل مما خرصت.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه زكاة ما سرق وما نقص، وإن نكل.. وجبت عليه زكاة ذلك بنكوله.
الرابعة: إذا غاب رجل من أهل الذمة زمنا، ثم قدم بعد حؤول حوله، فطالبه الإمام بالجزية، فادعى أنه أسلم قبل الحول فسقطت عنه الجزية.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه. وإن نكل.. أخذت منه الجزية بنكوله.
الخامسة: إذا وقع في الأسر غلام مراهق من أولاد الكفار وكان قد أنبت، فادعى أنه إنما أنبت لمعالجة عالج بها نفسه وأنه لم يبلغ الآن.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. حكم بأنه لم يبلغ وجعل في الذراري، وإن لم يحلف.. حكم عليه بنكوله أنه بالغ، فيجعل في المقاتلة.
السادسة -ولم يحكها الشيخ أبو حامد عنه -: إذا حضر القتال غلام مراهق من أولاد المسلمين، وذكر أنه بالغ فطلب سهمه مع المقاتلين.. حلف وأخذ، وإن نكل.. حكم عليه بالنكول أنه غير بالغ ولم يعط السهم.
قال أصحابنا: أما المسائل الأربعة الأولى.. فهل اليمين عليه فيها واجبة أو مستحبة؟ على وجهين:
أحدهما: أنها مستحبة، فإن لم يحلف.. فلا شيء عليه.(13/93)
والثاني: أنها واجبة عليه، فإن حلف.. فلا شيء عليه، وإن نكل.. وجبت عليه الزكاة والجزية، ولم يجب عليه ذلك بالنكول كما قال ابن القاص، ولكن بالظاهر المتقدم وهو سبب الوجوب للزكاة والجزية، كما أن الزوج إذا قذف زوجته.. وجب عليه الحد، فإن لاعن.. سقط عنه الحد، وإن نكل.. وجب عليه الحد لا بالنكول ولكن بالقذف المتقدم.
وأما المسألة الخامسة: فقال الشيخ أبو حامد: اليمين واجبة فيها وجها واحدا؛ لأن دعواه تخالف الظاهر، فإن حلف.. حكم بأنه لم يبلغ، وإن لم يحلف.. حكم ببلوغه لا بالنكول ولكن بالظاهر المتقدم، وهو: أن الظاهر أن الشعر ينبت من غير علاج.
قال أبو علي السنجي: وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز قتله حتى يتحقق بلوغه.
قال أبو علي: وفي تحليفه شيء؛ لأن اليمين إنما تصح من البالغ، فكيف يثبت بيمينه صغره وسقوط القتل عنه إذا حلف؟ قال: ولعله إنما حلف؛ لأن معه أمارة تدل على بلوغه في الظاهر، وهو: الإنبات، فلا يكون كمن ادعى على مراهق شيئا، وادعى المراهق أنه غير بالغ.. لم يجز إحلافه إذ لا دليل على بلوغه.
وأما المسألة السادسة: فمن أصحابنا من خالفه وقال: إذا ادعى أنه بالغ واحتمل ما قال.. فالقول قوله بلا يمين؛ لأن احتلامه لا يعرف إلا من جهته، ويعطى من سهم المقاتلة.
ومنهم من وافقه وقال: يحلف؛ لاحتمال أن يكون كاذبا. وهل اليمين واجبة أو مستحبة؟ على وجهين:
فـ[الأول] : إن حلف.. أعطي، وإن نكل، فإن قلنا: إنها واجبة.. لم يعط، ولا يكون هذا قضاء بالنكول ولكن بالأصل المتقدم، وهو: عدم البلوغ.
والثاني: أنها مستحبة، فعلى هذا: يعطى.(13/94)
[فرع مسائل لا يمكن فيها رد اليمين]
] : ذكر أصحابنا ثلاث مسائل لا يمكن فيها رد اليمين على المدعي:
إحداهن: إذا مات رجل ولا وارث له غير المسلمين، فوجد في دفتره أن له دينا على رجل، أو شهد له بذلك شاهد واحد، وأنكر من عليه الدين ونكل عن اليمين.. فلا يمكن رد اليمين هاهنا على أحد وماذا يفعل فيه؟ قال أبو سعيد الإصطخري: فيه وجهان:
أحدهما: يحكم على المدعى عليه هاهنا بالنكول، فيجب عليه الدين؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف، وهو الأصح؛ لأنه لا يمكن رد اليمين على القاضي؛ لأن النيابة في اليمين لا تصح، ولا على المسلمين؛ لأنهم لا يتعينون، ولا يحكم عليه بالنكول؛ لأن ذلك لا يجوز عندنا، فإن تعذر ذلك.. لم يبق إلا حبس المدعى عليه إلى أن يحلف أو يقر.
الثانية: أن يموت رجل، فادعى رجل أن الميت وصى إليه بتفرقة ثلثه على الفقراء والمساكين، فأنكر الورثة.. فإن شهادة الوصي لا تقبل، فإن حلف الورثة.. فلا كلام، وإن نكلوا.. فلا يمكن رد اليمين على الوصي؛ لأن النيابة لا تصح في اليمين، ولا على المساكين والفقراء؛ لأنهم لا يتعينون، وماذا يفعل؟ على الوجهين في التي قبلها.
الثالثة: أن يموت رجل وله طفل، فأوصى به إلى آخر، فادعى الوصي أن للطفل على رجل دينا ولا شاهد له به.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. فلا كلام، وإن نكل.. فلا يمكن رد اليمين على الصبي؛ لأن يمينه لا تصح، ولا على الوصي، لأن النيابة في اليمين لا تصح، فتوقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي فيحلف ويستحق.
قال في " الفروع ": وقيل: يحكم هاهنا بالنكول أيضا. والمشهور هو الأول.(13/95)
[فرع كراهة إعادة اليمين]
] : قال الطبري في " العدة ": فإذا حلف المدعى عليه مرة على دعوى.. كره له أن يحلفه عليها ثانيا، فإن أراد تحليفه، فقال المدعى عليه: قد حلفني مرة، فأنكره المدعي، فقال المدعى عليه: حلفوه أنه لم يحلفني عليه.. فإنه يحلف المدعي عن اليمين أنه ما حلفه، فإن حلف المدعي أنه ما حلفه.. حلف له المدعى عليه، وإن نكل المدعي عن اليمين وقال: أحلفوه أني قد أحلفته.. قال الطبري في " العدة ": فإنه لا يجاب إلى اليمين؛ لأنه يؤدي بينهم إلى الدور.
[فرع لزوم اليمين عند عدم البينة في حقوق المتداعين وماذا عن الدعوى]
الموجبة للحد؟] :
وكل حق لزم المدعى عليه الإجابة فيه عن الدعوى ولا بينة للمدعي فيه.. فإن اليمين تعرض على المدعى عليه، كالأموال والنكاح والطلاق والعتق والنسب وما أشبه ذلك، وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (لا يستحلف في النكاح وما يتعلق به من الدعوى في الطلاق والرجعة والإيلاء، ولا في العتق وما يتعلق به من الاستيلاد والولاء، ولا في النسب، فإن كان مع المدعي بينة.. لم يحلف المدعى عليه) .
وقال مالك: (إن كان مع المدعي في غير الأموال شاهد.. استحلف المدعى عليه، وإن لم يكن معه شاهد.. لم يستحلف) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . ولم يفرق. ولـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحلف ركانة بن عبد يزيد على الطلاق» . ولأنها دعوى صحيحة مسموعة، فعرضت اليمين فيها على المدعى عليه، كالدعوى في المال.
وأما الدعوى بما يوجب الحد: فإن كان فيها حد القذف.. سمعت فيه الدعوى(13/96)
وعرضت اليمين على المدعى عليه إذا لم يكن مع المدعي بينة.
وقال أبو حنيفة: (حد القذف حق لله تعالى، فلا تعرض فيه اليمين على المدعى عليه) ، وقد مضى الدليل عليه: أنه حق لآدمي.
وهكذا: إن ادعى عليه شتما يوجب التعزير.. عرضت فيه اليمين على المدعى عليه، فإن لم يحلف.. حلف المدعي، وعزر الشاتم.
وأما حد الشرب: فلا تسمع فيه الدعوى ولا تلزم الإجابة عليه؛ لأن الدعوى لا تسمع إلا من خصم أو وكيل له، وهذا ليس بواحد منهما.
وأما الدعوى في الزنى: فلا تسمع ولا تعرض فيه اليمين على المدعى عليه إذا لم يتعلق به حق آدمي؛ لأنه مندوب فيه إلى الستر؛ ولهذا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هلا سترته بثوبك يا هزال» . ولأنه لا فائدة بذلك. ولهذا: لو أقر ورجع.. قبل رجوعه وإن تعلق به حق آدمي، مثل أن يقذف رجلا فيطالب المقذوف بحد القاذف، فإن قال القاذف للحاكم: يحلف المقذوف أنه ما زنى.. سمعت منه هذه الدعوى ولزم المقذوف أن يحلف؛ لجواز أن يخاف من اليمين فيقر بالزنى فيسقط عن القاذف حد القذف. وإن حلف المقذوف أنه ما زنى.. وجب على القاذف حد القذف. فإن نكل المقذوف عن اليمين.. ردت اليمين على القاذف فيحلف أن المقذوف زنى، فإن حلف.. سقط حد القذف ولا يجب على المقذوف بذلك حد؛ لأن ذلك حق لله تعالى فلا يجب بيمين القاذف، سواء قلنا: يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة أو كالإقرار؛ لأنا إن قلنا: إنها كإقرار المدعى عليه.. فالحد يسقط بالإنكار بعد الإقرار.
وإن قلنا: إنها كالبينة.. فهي كالبينة في حق المتداعين، والحد لله تعالى وليس هو من حقوق المتداعين.
وأما الدعوى في السرقة: فإن كان المسروق منه قد وهب العين المسروقة من السارق، أو تلفت فأبرئ منها، أو استوفاها منه.. فلا تسمع فيها الدعوى ولا تعرض فيها اليمين؛ لأنه لم يبق إلا القطع وهو حق لله تعالى، فلا تسمع فيها الدعوى.(13/97)
وإن كان المسروق منه لم يستوف حقه.. سمعت فيه الدعوى ولزمت عليه الإجابة، فإن أقام المدعي البينة أو أقر المدعى عليه.. لزمه الغرم والقطع، وإن لم تكن بينة ولا إقرار.. فالقول قول السارق مع يمينه، وإن حلف.. فلا غرم عليه ولا قطع، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على المسروق منه، فإذا حلف.. ثبت الغرم له، ولا يثبت القطع؛ لأنه حق لله تعالى، فلا يثبت بيمين المدعي.
[مسألة البينة مقدمة على اليمين في ثبوت الحق]
وتكفي لوحدها بشرط العدالة] :
وإن كان مع المدعي بينة فيما ادعاه.. حكم له بها، وقدمت على يمين المدعى عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، «وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " لك يمينه» . فبدأ بالبينة على اليمين، فثبت أنها مقدمة. ولأن البينة حجة من غير جهة المدعي فلم تلحقها التهمة، واليمين قول واحد، وقول اثنين أقوى من قول واحد، فقدم القوي على الضعبف.
إذا ثبت هذا: فأحضر المدعي شاهدين.. فإن الحاكم لا يسألهما حتى يقول له المدعي: قد حضر الشاهدان فاسألهما؛ لأن الحق في سماع البينة له، فلا يفعله الحاكم بغير إذنه. فيقول لهما القاضي: ما تقولان، أو أي شيء عندكما؟ ولا يقول لهما: اشهدا؛ لما روي عن شريح: أنه قال للشاهدين: ما دعوتكما، فإن قمتما.. لم أمنعكما، وأنا أتقي الله فيكما فاتقيا الله في أنفسكما. فإن شهدا شهادة غير صحيحة.. فإن القاضي يقول للمدعي: زدني في شهودك. وإن شهدا شهادة صحيحة.. فإن القاضي يتعرف عدالتهما إن كان لا يعرفهما، على ما مضى. فإذا ثبتت عدالتهما عنده.. فإنه لا يجوز له أنه يحكم بشهادتهما حتى يسأله المدعي أن يحكم بشهادتهما؛ لأن الحكم بذلك حق له فلا يفعله إلا بإذنه. فإن سأل المدعى عليه أن يحلف المدعي مع شاهديه أنه يستحق ما شهدا له به عليه.. لم يلزمه أن يحلف، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.(13/98)
وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز للحاكم أن يحكم للمدعي حتى يحلف مع شاهديه.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» . فجعل على المدعي البينة فقط، ومن قال: عليه مع البينة اليمين.. فقد خالف الظاهر. «ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " لك يمينه، ليس لك إلا ذلك» . وهذا نص أنه ليس له عليه البينة واليمين؛ لأنه لم يقل: ألك بينة ويمين. ولأن البينة قد سمعت، واستحلاف الخصم على ما شهدت به البينة طعن فيها، فلم تجب.
وإن ادعى عليه دينا، فقال المدعى عليه: قد قضيتك كذا أو أبرأتني منه.. فإن هذا إقرار منه له بالدين، ويكون المدعى عليه مدعيا للبراءة أو القضاء. فإن أقام على ذلك البينة.. برئ، وإن لم يقم البينة وسأل أن يحلف المدعي أنه لم يقض ولم يبرئه.. لزمه أن يحلف؛ لأن الأصل عدم القضاء أو البراءة، ولا يكون ذلك طعنا في البينة؛ لأنها يمين في دعوى غير ما شهدت به البينة.
[فرع للمدعي بينة غائبة أو حاضرة ولم يقمها أو كذبها]
] : وإن كان للمدعي بينة غائبة وقال: لا أتمكن من إقامتها.. فهو بالخيار: إن شاء استحلف خصمه، وإن شاء تركه. فإن استحلفه.. جاز، وإن لم يستحلفه وتركه.. لم يجز له ملازمته ولا مطالبته بالكفيل.
وقال أبو حنيفة: (له ملازمته ومطالبته بالكفيل إلى أن يقيم البينة) .
دليلنا: «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " ألك بينة؟ " قال: لا، قال: " لك يمينه، ليس لك إلا ذلك» "، فجعل له اليمين ولم يجعل له الملازمة، فمن قال: له ملازمته.. فقد خالف ظاهر الخبر.
فإن حلف له المدعى عليه، ثم حضرت بينة المدعي بالحق الذي حلف عليه(13/99)
المدعى عليه.. حكم للمدعي بها. وبه قال شريح، والشعبي، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أهل العلم. وقال ابن أبي ليلى، وداود: (لا يجوز سماعها ولا الحكم بها بعد ذلك) .
دليلنا: ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال: (البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة) . ولأنها حالة لو اعترف المدعى عليه بالحق الذي حلف عليه.. لحكم به عليه، فإذا قامت البينة.. حكم عليه بها كما قبل اليمين.
وإن قال المدعي: لي بينة حاضرة وأتمكن من إقامتها، ولكني لا أقيمها، بل يحلف لي المدعى عليه.. أحلف له؛ لأنه ربما يرجو منه أن يخاف من اليمين فيقر، وإثبات الحق من جهة الإقرار أسهل من إثباته بالبينة. ولأنه قد يكون له غرض في أن يحلفه ثم يقيم عليه البينة ليفضحه، فإذا حلف المدعى عليه، ثم أقام عليه البينة.. سمعت؛ لما مضى.
فإن قال المدعي: ليس لي بينة حاضرة ولا غائبة، أو قال: كل بينة تشهد لي فهي كاذبة، وطلب يمين المدعى عليه فحلف له، ثم أقام المدعي بينة بالحق الذي حلف عليه المدعى عليه.. فهل تسمع بينته ويحكم له بها؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وبه قال محمد بن الحسن -: أنه لا يحكم له بها؛ لأنه قد كذبها.
والثاني: إن كان المدعي هو الذي تولى الإشهاد بنفسه.. لم تسمع بينته بعد ذلك؛ لأنه قد كذبها. وإن كان وكيله هو الذي تولى الإشهاد، أو كان الشاهدان تحملا الشهادة له ولم يشهدهما ولا علم له بهما.. سمعت بينته وحكم له بها؛ لأنه لم يكن عالما بها.
والثالث: أنها تسمع ويحكم له بها بكل حال، وبه قال أبو يوسف، وهو الأصح؛(13/100)
لأنه يجوز أن يكون تولى الإشهاد له غيره، أو تولى الإشهاد بنفسه ثم نسيه، أو تحملت البينة الشهادة من غير أن يتولى استشهاد أحد، فيكون قوله: (لا بينة لي) راجعا إلى ما يعتقده.
إذا ثبت هذا: فإن أقام شاهدين.. حكم له بالحق، وإن أقام شاهدا وحلف معه، أو شاهدا وامرأتين، والحق مما يقبل فيه ذلك.. حكم له به.
وإن نكل المدعى عليه عن اليمين فردت اليمين على المدعي، وقال: لست أختار أن أحلف، وأقام شاهدا واحدا، وأراد أن يحلف معه وكانت الدعوى في مال.. فهل له أن يحلف معه؟ على القولين فيمن ادعى مالا وأقام شاهدا ولم يحلف معه، فردت اليمين على المدعى عليه فلم يحلف.. فهل ترد اليمين على المدعي، وقد مضى توجيههما.
[فرع إقامة المدعي البينة وجرح المدعى عليه لها]
] : وإذا أقام المدعي البينة بما ادعاه وثبتت عدالتهما عند الحاكم، فإن كان الحاكم يعلم أن المشهود عليه لا يعلم أن له دفع البينة بالجرح.. قال له: قد شهد عليك فلان وفلان وقد ثبتت عدالتهما عندي، فهل تعرف فيهما شيئا يجرحهما فإن ادعى جرحهما، أو سأل أن يمهل إلى أن يقيم البينة على جرحهما.. أمهل يوما أو يومين أو ثلاثا؛ لأنه قريب ولا يجوز أن يمهل أكثر من ثلاث إلا برضا المشهود له؛ لأن ما زاد على الثلاث كثير. فإن أقام البينة على جرحهما.. لم يحكم بشهادتهما. فإن مضت المدة التي استمهل لإقامة البينة فيها فلم يقم البينة على جرحهما.. حكم بشهادتهما؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: (واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة.. أخذت له حقه، وإلا استحللت له القضية عليه؛ فإنه أتقى للشك وأجلى للعمى) .
قال الشيخ أبو إسحاق: وللمدعي أن يلازم المدعى عليه إلى أن يقيم البينة(13/101)
بالجرح، وكذلك إذا ادعى البينة بالقضاء أو البراءة.. فله أن يلازمه إلى أن يقيم البينة بذلك.
فإن ادعى المدعى عليه: أن المدعي يعلم أن الشهود الذين أقامهم مجروحون، وسأله أن يحلف على ذلك.. فهل يلزمه أن يحلف على ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لا يلزمه أن يحلف، كما لا يلزم المزكي والقاضي أن يحلف.
والثاني: يلزمه أن يحلف، كما لو قذف ميتا فطالبه وارث المقذوف بحد القذف، فسأله أن يحلف: ما يعلم أن مورثه زنى.. فإنه يلزمه أن يحلف، فكذلك هذا مثله.
وإن طلب المشهود عليه يمين الشاهد: ما هو مجروح.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأنا لو حلفناه.. صار خصما، فيؤدي إلى أن يصير جميع الشهود خصوما.
وإن أقام المدعي شاهدين ولم تثبت عدالتهما، وسأل أن يحبس له الخصم إلى أن تثبت عدالتهما، أو أقام شاهدا وسأل أن يحبس له الخصم إلى أن يقيم الآخر؛ وقد مضى بيانه في (حد القذف) .
[مسألة القضاء بعلم القاضي]
إذا علم القاضي حال المحكوم فيه، ولم تقم عنده بينة؛ مثل أن يعلم أن رجلا غصب من رجل مالا أو اقترض منه، أو علم أن رجلا زنى أو سرق.. فهل يجوز له أن يقضي فيه بعلمه؟ نظرت:
فإن كان في حقوق الآدميين.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجوز له أن يقضي فيه بعلمه.. وبه قال شريح، والشعبي، ومالك، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] الآية [النور: 4] . فأمر بجلد القاذف إذا لم يأت بأربعة(13/102)
شهداء على القاذف، ولم يفرق بين أن يعلمه الحاكم أو لا يعلمه. «ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: " شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك» ، فاقتضى أنه لا يجوز الحكم بغير ذلك. وروي: أن رجلا ادعى على رجل عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حقا، فقال عمر: (من يشهد لك؟) فقال: أنت، فقال عمر: (إن شئت شهدت لك ولم أحكم، وإن شئت حكمت لك ولم أشهد) . ولأنه لو كان علم الحاكم بمنزلة الشاهدين.. لانعقد النكاح به وحده.
والثاني: يجوز له أن يحكم بعلمه. وبه قال أبو يوسف، واختاره المزني، وهو الأصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] [ص: 26] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] [المائدة: 42] ، والحق هو ضد الباطل، ولم يفرق بين أن يحكم القاضي بالبينة أو بعلمه. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو سمعه» . وروي: «أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، فقضى لها رسول الله بأن تأخذ نفقتها من ماله؛ لكونها زوجته بعلمه، ولم يقم على ذلك بينة. ولأنه إذا جاز أن يقضي بالشاهدين وأنه إنما يعلم صحة ما شهد به من طريق(13/103)
الظن.. فلأن يجوز أن يقضي بما علمه بنفسه من طريق القطع أولى.
وإن كان ما يقضي به من حقوق الله تعالى، كالحد في الزنا، والقطع في السرقة.. فهل يجوز له أن يقضي فيه بعلمه من غير بينة؟ يبنى على القولين في حقوق الآدميين:
فإن قلنا: لا يجوز له أن يقضي علمه في حقوق الآدميين.. لم يجز له أن يقضي به في حقوق الله تعالى.
وإن قلنا: يجوز له أن يقضي في حقوق الآدميين.. ففي حقوق الله تعالى قولان:
أحدهما: يجوز له أن يقضي فيه بعلمه؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يجوز له، وهو الأصح؛ لما روي عن أبي بكر: أنه قال: (لو رأيت رجلا على حد.. لم آخذه به حتى تقوم به البينة عندي) . ولأن الحد مندوب إلى الستر فيه، فلم يجز أن يحكم فيه بعلمه.
إذا ثبت هذا: فقد قال الربيع: مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن القاضي يحكم بعلمه، وإنه يوقف فيه لفساد القضاة، ولا فرق عندنا بين أن يعلم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، في عمله أو في غير عمله.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (إن علمه قبل ولايته أو في غير عمله.. لم يجز أن يقضي فيه بعلمه، وإن علمه بعد ولايته في عمله.. جاز له أن يقضي فيه بعلمه) .
دليلنا: أنه يعلم صحة ذلك، فجاز له القضاء به، كما لو علمه بعد ولايته في عمله، هذا الكلام في المدعى عليه إذا أقر وأنكر، فأما إذا سكت فلم يقر ولم ينكر.. فإن القاضي يقول له: أجب عن دعواه، فإن أجبت، وإلا.. جعلناك ناكلا وردت(13/104)
اليمين على المدعي، فإذا حلف.. قضيت عليك بالحق الذي ادعاه. والمستحب: أن يقول له ذلك ثلاثا، فإن أجاب، وإلا.. جعله ناكلا، ورد اليمين على المدعي، فإذا حلف.. قضى له بالحق الذي ادعاه؛ لأنه لا يخلو إذا أجاب: إما أن يقر أو ينكر، فإن أقر.. فقد حكم عليه بما يجب على المقر، وإن أنكر.. فقد وصل إنكاره بالنكول، وقد قضى عليه بما يجب على الناكل.
[فرع شروط المترجم في القضاء]
] : إذا كان القاضي عربيا فتحاكم إليه أعجميان لا يعرف لسانهما، أو كان القاضي أعجميا فتحاكم إليه عربيان لا يعرف لسانهما.. لم يقبل الحاكم في الترجمة إلا شاهدين عدلين.
وقال أبو حنيفة: (يقبل في الترجمة واحدا) .
دليلنا: أنه يثبت إقرارا فافتقر إلى العدد، كما لو شهد على إقراره في غير مجلس الحكم.
فعلى هذا: إن كان الحق لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين.. لم يقبل في الترجمة عنه إلا شاهدان ذكران. وإن كان مما يقبل فيه الشاهد والمرأتان.. قبل في الترجمة عنه الشاهد والمرأتان.
فإن كان إقراره بالزنا.. فهل يقبل عنه في الترجمة شاهدان، أو لا يقبل فيه إلا أربعة؟ فيه قولان، بناء على أنه: هل يحكم بالإقرار بشاهدين؟ وفيه قولان يأتي بيانهما.
[مسألة الادعاء على الغائب بما لا يوجب حدا]
] : إذا ادعى على غائب عن مجلس الحكم بحق، فإن لم يكن مع المدعي بينة بما ادعاه.. لم يسمع الحاكم دعواه.. لأنه لا فائدة في سماعها.(13/105)
فإن كان معه بينة بما ادعاه.. نظرت في المدعى عليه: فإن كان غائبا عن البلد.. وجب على الحاكم أن يسمع الدعوى عليه والبينة. وكذلك: لو كان المدعى عليه حاضرا في البلد مستترا لا يصل المدعي إليه.. فإنه يجب على الحاكم أن يسمع الدعوى والبينة عليه. وكذلك: لو حضر مجلس الحكم فلما ادعى عليه أنكر، فلما أراد المدعي إقامة البينة عليه قام المدعى عليه وهرب.. فإن الحاكم يسمع البينة عليه.
وأما إذا كان المدعى عليه حاضرا في البلد غائبا عن مجلس الحكم غير ممتنع عن الحضور.. فهل يجوز سماع الدعوى عليه والبينة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز، وهو المذهب؛ لأنه يمكن إحضاره في مجلس الحكم، فلم يجز سماع الدعوى عليه والبينة.
والثاني: يجوز؛ لأنه غائب عن مجلس الحكم، فهو كما لو كان غائبا عن البلد.
فإذا قلنا بهذا: وكان المدعى عليه حاضرا في مجلس الحكم.. فهل يجوز للحاكم أن يسمع البينة عليه ويقضي عليه قبل سؤاله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه حاضر يمكن سؤاله.
والثاني -حكاه أبو علي السنجي -: أنه يجوز أن يسمع البينة عليه ويقضي عليه قبل سؤاله؛ لأنه لا يخلو من: أن يقر بعد سماع البينة عليه والقضاء أو ينكر، فإن أقر.. فهذا قضاء على المنكر، فلم يكن في سؤاله فائدة، فإن أنكر.. فقد زاد البينة قوة. والأول هو المشهور. فإذا قلنا: لا تسمع الدعوى إلا على الغائب عن البلد.. فإن أصحابنا العراقيين لم يشترطوا حدا في الغيبة، وإنما اشترطوا خروجه عن البلد لا غير.
وأما الخراسانيون: فاختلفوا في حد الغيبة في ذلك:
فمنهم من قال: أقلها مسافة القصر.
ومنهم من قال: إذا كانت المسافة من موضع المدعى عليه إلى موضع القاضي بحيث لا يمكن قطعها والرجوع إليها بالليل.. فهذا يجوز سماع الدعوى عليه والبينة، وإن كانت دون ذلك.. فهو بمنزلة الحاضر.(13/106)
وكل موضع قلنا: يجوز سماع الدعوى على الغائب.. فإن الحاكم إذا سمع الدعوى عليه، وشهدت البينة عنده بالحق وعرف عدالتهما، وسأله المدعي أن يحكم له بذلك.. فلا يجوز له أن يحكم له بذلك حتى يحلف المدعي: أن هذا الحق -ويسميه - ثابت له إلى الآن، ما اقتضاه بنفسه ولا بغيره ولا شيئا منه، ولا أبرأه منه بنفسه ولا بغيره ولا شيئا منه، ولا أحال به بنفسه ولا بغيره ولا بشيء منه.
هذا مذهبنا في القضاء على الغائب، وبه قال مالك، والليث، والأوزاعي، وابن سيرين، وأحمد، إلا أن أحمد قال: (لا تجب اليمين) .
دليلنا عليه: أن الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الغائب، ومن الاحتياط أن يحلف له المدعي، كما لو كان حاضرا فادعى ذلك.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: (لا يجوز القضاء على الغائب) .
دليلنا: ما روى أبو موسى الأشعري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا حضرا الخصمان وتواعدا موعدا، فوفى أحدهما ولم يوف الآخر.. قضى للذي وفى على الذي لم يوف» . ومعلوم أنه لم يرد أنه يقضي له بدعواه، وإنما يقضي له بالبينة، فدل على أن القضاء على الغائب جائز.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» ، ولم يفرق بين أن يكون المدعى عليه حاضرا أو غائبا. ولأنه لو لم يجز القضاء على الغائب.. لجعلت الغيبة والاستنظار طريقا إلى إبطال الحقوق.
إذا ثبت هذا: فقدم الغائب.. نظرت: فإن قدم بعد سماع البينة وقبل الحكم عليه.. فإن الحاكم يستدعيه ويخبره: بأن فلانا قد ادعى عليك بكذا، وقد شهد عليك بذلك فلان وفلان، وقد ثبتت عدالتهما عندي، فإن كانت لك بينة بالجرح أو بالإبراء أو بالقضاء.. فأحضرها. فإن استمهل ثلاثة أيام.. أمهل، فإن لم يأت بالبينة.. حكم عليه.(13/107)
فإن قدم بعد الحكم.. استدعاه وأخبره: بأن فلانا ادعى عليك بكذا، وشهد له بذلك فلان وفلان، وثبتت عدالتهما عندي، وحكمت له بذلك، فإن كانت لك بينة بالجرح أو الإبراء أو القضاء.. فأحضرها. فإن أحضر بينة بشيء من ذلك.. نقض الحكم، وإن لم يحضر بينة بذلك.. استقر الحكم.
[فرع القضاء على غائب بحد ببينة]
] : وأما القضاء على الغائب بالحدود بالبينة: فنقل أصحابنا العراقيون: أنه لا يجوز؛ لأنه ليس بمأمور بالاحتياط فيها، بل إن قامت البينة على رجل غائب بالسرقة.. حكم عليه بالغرم دون القطع.
وقال الخراسانيون: هل يقضى بالحدود على الغائب؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يقضى بها؛ لما ذكرناه.
والثاني: يقضى بها عليه، فيكتب القاضي المشهود عنده بذلك إلى القاضي في بلد المشهود عليه، ليقيم عليه الحد؛ لما ذكرناه في حقوق الآدميين. والأول هو المشهور.
[فرع ادعى على ميت أو صبي أو مجنون حقا وأقام بينة]
] : وإن ادعى رجل على ميت حقا وأقام عليه البينة.. سمعت الدعوى والبينة عليه. فإن كان له وارث معين.. كان إحلاف المدعي إليه إن ادعى عليه قضاء أو إبراء، وإن لم يكن له وارث معين.. وجب على الحاكم أن يحلف المدعي مع بينته؛ لأن الوارثين له لا يتعينون فقام الحاكم مقامهم.
وإن كانت الدعوى على صبي أو مجنون، وكان للمدعي بينة.. وجب على الحاكم سماعها والحكم بها بعد يمين المدعي؛ لأن الجواب متعذر من جهتهما، فجاز القضاء(13/108)
عليهما بالبينة مع اليمين، كالغائب. ويكتب القاضي في المحضر على الغائب والصبي والمجنون؛ لأن المدعى عليه على حجته، فإذا بلغ الصبي وأفاق المجنون، وأقام البينة على جرح الشهود عند الشهادة، أو على الإبراء، أو على القضاء.. نقض الحكم.
[مسألة كتابة قاض إلى آخر بحكم ثبت أو بشهادة شهدت عنده]
] : يجوز للقاضي أن يكتب إلى القاضي فيما حكم به وفيما ثبت عنده. وكذلك: يجوز للإمام أن يكتب إلى القاضي، وللقاضي أن يكتب إلى الإمام. ويجوز للمكتوب إليه أن يعمل بما كتب إليه به؛ والدليل -على ذلك -: قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] الآية [النمل: 29] . «وروي عن الضحاك بن قيس -وقيل: الضحاك بن سفيان - أنه قال: (ولاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعض الأعراب، ثم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فورثتها» . وكان عمر لا يورث المرأة من دية زوجها حتى «قال له الضحاك بن قيس: (إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلي بذلك» ، فورثها عمر من دية زوجها. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيشا، فأمر عليه عبد الله بن رواحة، ودفع إليه كتابا مختوما، وقال: " لا تفكه إلا بعد ثلاث، فإذا مضت ثلاث.. ففكه واعمل بما فيه» . «وروى عبد الله بن حكيم قال: (أتانا كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل موته بشهر: ألا لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» . وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى قيصر: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول الله إلى عظيم الروم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران: 64] الآية [آل عمران: 64] "، فلما وصل إليه الكتاب.. قبله ووضعه على رأسه ووضعه في المسك، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ثبت ملكه» . و: «كتب إلى كسرى بن هرمز: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول الله إلى(13/109)
كسرى بن هرمز، أما بعد.. أسلموا تسلموا "، فلما بلغه الكتاب.. مزقه، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " تمزق ملكه» فملك الروم باق إلى اليوم، وملك المجوس تمزق وذهب.
وأجمعت الأمة: على جواز الكتاب والعمل به؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن كتب القاضي بما حكم به.. قبله المكتوب إليه ونفذ حكمه، سواء كانت بينهما مسافة قريبة أو بعيدة.
وإن كتب إليه يعلمه بشهادة شاهدين على رجل قبل أن يحكم بشهادتهما.. فإنه يقول: شهدا عندي بكذا، ولا يقول: ثبت عندي؛ لأن ثبوته عنده حكم منه به، فلا يجوز للمكتوب إليه العمل به إلا إذا كان بينهما مسافة تقبل فيها شهادة الفرع على شهادة الأصل، وفي قدرها وجهان:
أحدهما: مسافة القصر.
والثاني: ما لا يمكنه أن يمضي من أحد الموضعين إلى الآخر أول النهار ويأوي إليه بالليل من حيث مضى.
وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة: (أنه يجوز له العمل به في المسافة القريبة والبعيدة) .
دليلنا: أن القاضي الكاتب كشاهد الأصل، والشهود على الكتاب كشاهد الفرع، وشاهد الفرع لا يقبل على شاهد الأصل فيما قرب من المسافة، فكذلك هذا مثله.
والفرق بين أن يكتب إليه فيما حكم به، وفيما شهد به عنده ولم يحكم به هو: أن ما حكم به.. قد لزم الحكم به، فوجب على كل أحد تنفيذه وإمضاؤه. وما شهد به(13/110)
عنده لم يحكم به، وإنما هو إخبار وإعلام، فهو بمنزلة الشهادة على الشهادة، فلم يعمل به إلا في المسافة التي تعمل فيها الشهادة على الشهادة.
[فرع قبول كتاب القاضي يحتاج لشاهدين]
] : ولا يجوز له قبول الكتاب والعمل بموجبه إلا أن يشهد عليه شاهدان على ما بينته، ولا يقنع فيه بمعرفة الخط والختم، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال أبو ثور: (يجوز قبوله والعمل به من غير شهادة عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتب ويعمل بكتبه من غير شهادة عليها) .
وقال مالك والحسن البصري وسوار القاضي وعبيد الله بن الحسن العنبري: (إذا عرف المكتوب إليه خط الكاتب وختمه.. جاز له قبوله والعمل به) . وبه قال أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا.
دليلنا: أن الخط يشبه الخط، والختم يشبه الختم، فلا يؤمن أن يزور على خطه وختمه، ويمكن إثبات الكتابة بالشهادة، فلا يقتصر فيها على معرفة الخط والختم، كإثبات الشهادة.
إذا ثبت هذا: وكتب القاضي الكتاب.. استدعى رجلين عدلين يخرجان غلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه ويقرأ القاضي الكاتب عليهما الكتاب، أو يقرؤه غيره بحضرته وهو يسمع.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وأحب للشاهدين أن ينظرا في الكتاب عند قراءته؛ لئلا يغير منه شيء، فإن لم يفعلا ذلك.. جاز؛ لأن الاعتماد على ما يسمعان) .
فإذا قرئ الكتاب عليهما.. قال لهما: أشهدكما أني كتبت إلى فلان بن فلان بما سمعتماه فيه، وإن قال: هذا كتابي إلى فلان بن فلان.. أجزأه. فإن كان(13/111)
المكتوب قليلا يحفظانه.. اعتمدا على حفظهما، وإن كان كثيرا.. كتب كل واحد منهما ما سمعه في نسخة وقابله بالكتاب ليتذكر به ما أشهد عليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ويقبضا الكتاب قبل أن يغيبا عنه) .
وقال أبو حنيفة: (إنه لا يصح العمل بالكتاب، إلا أن يكتب ويقول: هذا كتابي إلى فلان بن فلان القاضي وإلى كل قاض من قضاة المسلمين يبلغه هذا الكتاب) .
دليلنا: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتب كتبا إلى أقوام بأعيانهم ولم يقل فيها إلى كل من بلغ إليه ويعملون بها، فدل على: أنه لا يشترط ما ذكره.
فأما إذا كتب الكتاب وختمه واستدعاهما، وقال: هذا كتابي إلى فلان بن فلان، ولقد أشهدتكما بما فيه على نفسي، ولم يقرأ الكتاب.. لم يصح التحمل، وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: إذا ختمه بختمه وعنونه.. جاز لهما أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا.
دليلنا: أنهما تحملا الشهادة بما لم يعلماه، فلم يصح.
وإذا وصل الشاهدان إلى المكتوب إليه.. قرآ الكتاب عليه أو قرأه القاضي أو غيره وهما يسمعان، ثم قالا: نشهد أن هذا كتاب فلان بن فلان القاضي إليك، وأشهدنا على نفسه بما فيه في مجلس حكمه.
وإن لم يقرآ الكتاب ولكن دفعاه إلى المكتوب إليه، وقالا: نشهد أن فلان بن فلان كتب إليك هذا الكتاب وأشهدنا على نفسه بما فيه.. لم يصح؛ لأنه ربما زور عليهما الكتاب.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولقد حضرت بعض الحكام ورد عليه كتاب مختوم من بعض القضاة وشهد به شاهدان، ففضه وقرأه فتوقف فيه، وقال: قد ورد إلي(13/112)
كتاب في مثل هذا المعنى بخلاف هذا، ثم كتب إلى ذلك القاضي كتابا يخبره بذلك، فكتب إليه القاضي يخبره: أنه كتب إليه كتابا ووضعه بين يديه، فأخذ الكتاب من بين يديه وزور كتاب آخر مكانه فظن أنه الكتاب الذي أنفذه) .
فإن انكسر الختم.. لم يؤثر؛ لأن المعول على ما في الكتاب، فإن محي الكتاب أو بعضه، فإن كان الشاهدان يحفظان ما في الكتاب أو معهما نسخة أخرى.. جاز أن يشهدا. وإن كانا لا يحفظانه ولا معهما نسخة أخرى.. لم يجز أن يشهدا؛ لأنهما لا يعلمان الذي كان في الكتاب.
وإن أشهد على الكتاب رجلا وامرأتين.. لم يعمل بشهادتهم؛ لأن ذلك ليس بمال؛ لأن المقصود إثبات الكتاب عند المكتوب إليه.
[فرع كتب إلى قاض وأشهد على نفسه بما فيه ولم يذكر اسمه]
] : إذا كتب كتابا إلى قاض، وأشهد على نفسه بما فيه، ولم يكتب اسم المكتوب إليه في عنوان الكتاب ولا في باطنه.. جاز للمكتوب إليه العمل به.
وقال أبو حنيفة: (إذا لم يكتب اسمه في باطن الكتاب؛ بأن يقول: هذا كتاب من فلان بن فلان.. فلا يجوز قبوله. وكذلك إذا ذكر اسمه في العنوان دون باطنه.. لم يكفه ذلك) .
دليلنا: أن المعول فيه على شهادة الشهود على الكتاب وذلك موجود.
[فرع معرفة القاضي الكاتب والمكتوب إليه لعدالة الشهود]
] : قال المسعودي [في " الإبانة "] : ومعرفة القاضي الكاتب لعدالة شهود الحق تكفي، فيكتب: ثبت عندي بشهادة شهود عدول، ولا يفتقر إلى ذكر أسمائهم. فإن لم تثبت عدالتهم عنده.. كتب أسماءهم وأنسابهم، أو خلاهم ليبحث المكتوب إليه عن عدالتهم.(13/113)
فأما عدالة شهود الكتاب: فيجب أن تثبت عند المكتوب إليه، فإن عدلهم الكاتب.. لم تثبت.
وقال القفال الشاشي: تثبت. وهذا غلط؛ لأنه يؤدي إلى تزكية الشاهد بقوله، فلم تصح.
[فرع ادعاء دين في الذمة أو عين وثبوته عند القاضي]
] : إذا كان المدعى دينا في الذمة وثبت عند القاضي بإقرار أو بينة.. جاز أن يكتب به على ما مضى، ويعمل المكتوب إليه بموجب ما كتب به إليه.
وإن كان المدعى عينا في بلد المكتوب إليه، فإن كانت عينا متميزة عن غيرها، كالعقار المحدود، أو العبد المشهور الاسم والصفة، أو دابة مشهورة الاسم والصفة.. جاز قبول الكتاب والعمل به في ذلك؛ لأنها متميزة عن غيرها فيمكن إلزام تسليمها. وإن كانت العين غير مشهورة، مثل أن يشهد الشاهدان عند الكاتب له بعبد من صفته كذا وكذا.. فهل يجوز قبول الكتاب فيه والعمل به؟ فيه قولان، حكاهما أصحابنا العراقيون:
أحدهما: لا يجوز قبول الكتاب فيه ولا العمل به. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، واختاره المزني؛ لأن المشهود به مجهول العين فلا يكفي فيه الوصف، ألا ترى أنه لا يصح أن يكون المشهود له موصوفا؟ فكذلك المشهود به.
والثاني: يجوز قبول الكتاب به؛ لأنه يمكن ضبطه بالصفة؛ ولهذا يثبت في الذمة بالعقد، فأشبه الدين، ويخالف المشهود له؛ لأنه لا حاجة به إلى ذلك.
فعلى هذا: يأمر المكتوب إليه المشهود عليه أن يحضر تلك العين، فإن أحضر عينا بالصفة التي شهد بها الشهود عليه عند الكاتب وادعاها المدعي.. ختم عليها المكتوب إليه بختمه وأنفذها مع المشهود له إلى الكتاب، وكانت في ضمان المدعي.(13/114)
فإذا وصل الكاتب.. أحضر الشاهدين اللذين شهدا للمدعي بها ونظرا إلى العين، فإن شهدا أنها هي العين التي شهدا بها أنها له.. أخذها المشهود له وبرئ من ضمانها، وإن لم يشهدا على عينها.. ردها الكاتب إلى المكتوب إليه، وكان على المشهود له قيمتها إن تلفت وأجرة منفعتها تلك المدة.
فإذا قلنا بهذا: وكان المشهود به جارية.. فهل يبعث بها إلى القاضي الكاتب؟ فيه وجهان، المشهور: أنه يبعث بها.
وحكى أصحابنا الخراسانيون فيها قولا ثالثا: أن العين تنزع من يد المشهود عليه ويدفع المشهود له قيمتها، فإن شهد الشاهدان له بها.. رد المشهود عليه ما أخذه من القيمة، وإن ضاعت العين في الطريق.. استقر ملك المدعى عليه على القيمة.
[فرع كتب القاضي كتابا لقاض آخر ثم مات أو عزل]
] : إذا كتب قاض كتابا إلى قاض بشيء، ثم مات القاضي الكاتب أو عزل قبل وصول الكتاب إلى المكتوب إليه.. فإن المكتوب إليه يقبل الكتاب ويعمل به. وبه قال أبو حنيفة وأحمد.
وقال أبو يوسف: إن مات قبل خروجه من يده.. لم يعمل به المكتوب إليه، وإن مات بعد أن خرج من يده.. عمل به المكتوب إليه.
دليلنا: أن المعول فيه على ما شهد به الشاهدان وهما حيان، فلم يؤثر موت الكاتب، كما لو مات شاهد الأصل. ولأنه إن كان الكتاب مما حكم به.. فيجب على كل واحد إمضاؤه، وإن كان فيما شهد به عنده عليه.. جرى مجرى الشهادة على الشهادة، وموت شاهد الأصل لا يؤثر في الشهادة عليه.
وأما إذا فسق القاضي الكاتب.. نظرت:(13/115)
فإن كان الكتاب فيما حكم به.. لم يؤثر فسقه وجاز قبول الكتاب والعمل به؛ لأن فسقه بعد حكمه لا يؤثر في حكمه. وإن كان الكتاب فيما ثبت عنده.. نظرت:
فإن فسق بعد وصول الكتاب إلى المكتوب إليه وبعد حكمه به.. لم يؤثر فسق الكاتب، كما لا يؤثر فسقه في حكمه، وإن فسق قبل وصول الكتاب إلى المكتوب إليه، أو بعد وصوله وقبل حكمه به.. لم يجز له الحكم به، كما لا يجوز الحكم بشهادة الفرع بعد فسق شاهد الأصل.
[فرع كتب القاضي لآخر فوصل كتابه إلى من ولي القضاء بعده]
فرع: [كتب القاضي لآخر فوصل كتابه إلى من ولي القضاء بعد عزل المكتوب إليه] : وإن كتب القاضي كتابا إلى قاض، فمات المكتوب إليه أو عزل أو فسق، وولي غيره ووصل الكتاب إليه.. فإنه يقبل الكتاب ويعمل به. وبه قال الحسن البصري؛ وذلك: أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس بن معاوية وكان قاضيا بالبصرة، فوصل الكتاب وقد عزل وتولى مكانه الحسن البصري، فقبل الكتاب.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للثاني قبول الكتاب ولا العمل به) .
دليلنا: أن المعمول فيه على ما شهد به الشهود، فإن كان الكتاب فيما حكم به.. فعلى كل من بلغه إمضاؤه، وإن كان فيما ثبت عنده.. فهو بمنزلة الشهادة على الشهادة، وعلى كل أحد أن يحكم بالشهادة على الشهادة.
[فرع كتابة الإمام أو القاضي لخليفته ثم موته أو عزله قبل وصول الكتاب]
] : إذا كتب الإمام إلى خليفته كتابا، فمات الإمام أو خلع نفسه قبل وصول كتابه، ثم وصل كتابه.. فإن المكتوب إليه يقبل الكتاب فيعمل به؛ لأنه لا ينعزل بموته.
وإن كتب قاض إلى خليفته كتابا، ثم مات الكاتب أو عزل، ثم وصل كتابه.. فهل يعمل بكتابه؟ فيه وجهان -حكاهما الشيخ أبو حامد -:(13/116)
أحدهما: أن الخليفة القاضي لا ينعزل بانعزاله، كما لا ينعزل القاضي بانعزال الإمام الذي ولاه ولا بموته.
فعلى هذا: يجوز له قبول كتابه والعمل به.
والثاني: أنه ينعزل بانعزاله؛ لأنه نائب عنه، وإذا بطلت ولاية المنوب عنه.. بطلت ولاية النائب عنه. والفرق بينه وبين الإمام: أنا لو قلنا: إن القضاة ينعزلون بموت الإمام أو عزله.. لأدى ذلك إلى الضرر بالمسلمين.
فعلى هذا: لا يقبل كتابه.
[فرع كتب إلى قاض آخر بحكم على رجل سماه]
] : إذا كتب القاضي إلى قاض بحكم حكم به على رجل سماه في بلد المكتوب إليه، فوصل الكتاب إلى المكتوب إليه فاستدعاه الحاكم وأخبره بكتاب القاضي، فقال: ألست فلان بن فلان؟ فإن لم يكن مع المدعي بينة أنه فلان بن فلان.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت عنه المطالبة بالدعوى؛ لأن الأصل براءة ذمته. وإن أقام المدعي بينة أنه فلان بن فلان، أو أقر المدعى عليه بذلك إلا أنه قال: لست فلان بن فلان الذي ذكره القاضي في كتابه، وإنما ذلك رجل غيري.. لم يقبل منه حتى يقيم البينة أن له من يشاركه في ذلك الاسم والصفة؛ لأن الأصل عدم من يشاركه. فإن أقام البينة على أنه له من يشاركه في ذلك الاسم والصفة التي وصفه بها.. أحضره الحاكم وسأله، فإن اعترف أنه المحكوم عليه وصادقه المدعي على ذلك.. لم يسأل عن الأول، وإن أنكر أن يكون المحكوم عليه.. توقف الحاكم حتى يعرف من المحكوم عليه منهما، وكتب إلى الحاكم الكاتب ليرجع إلى الشاهدين الذين شهدا عنده على المدعى عليه؛ ليزيدا في وصف المشهود عليه منهما.
فإن أقام صاحب الاسم والصفة بينة أنه كان له من يشاركه في الاسم والصفة التي يسمى بها إلا أنه ميت، فإن لم يعاصر المشارك المدعى عليه؛ بأن مات قبل أن يولد المدعي.. فهو كما لو لم يكن هناك مشارك. وإن عاصر المدعي، فإن كان موته بعد(13/117)
الحكم.. فهو كما لو كان حيا على ما مضى، وإن كان موته قبل الحكم.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقع الإشكال؛ لجواز أن يكون الميت هو المحكوم عليه.
والثاني: لا إشكال فيه؛ لأن الظاهر أن الحاكم إنما حكم على حي؛ إذ لو حكم على ميت.. لذكر ورثته.
وإذا ألزم المكتوب إليه المشهود عليه الحق فدفعه فقال: اكتب لي كتابا إلى القاضي الكاتب بذلك، أو ليكون في يدي؛ لئلا يدعي علي خصمي مرة أخرى.. ففيه وجهان:
أحدهما -وهو قول أبي سعيد الإصطخري -: أنه يلزمه أن يكتب له إليه ليتخلص من الحق المدعى المشهود به عليه.
والثاني: أنه لا يلزمه؛ لأن الحاكم إنما يكتب بما حكم به أو ثبت عنده، وهذا لم يحكم عليه بشيء، ولا ثبت عنده عليه شيء، وإنما كان ذلك عند الكاتب. وأما تخليصه من الحق المشهود به: فيمكنه ذلك؛ بأن يشهد على الأداء.
وإن طالبه أن يدفع إليه الكتاب الذي ثبت به الحق.. لم يلزمه دفعه. وكذلك كل من كان له كتاب بدين فاستوفاه أو بعقار فباعه.. لم يلزمه دفع الكتاب إليه؛ لأنه ملكه.
[مسألة كتابة القاضي للمحاضر والسجلات]
] : إذا حضر عند القاضي خصمان، فادعى أحدهما على الآخر حقا، فأقر له به.. لزمه ما أقر به، فإن سأل المقر له الحاكم أن يشهد له شاهدين على إقراره.. لزمه أن يشهد له؛ لأن القاضي إن كان لا يحكم بعلمه.. فربما جحد المقر، وإن كان يحكم بعلمه.. فربما نسي الإقرار أو عزل فلزمه أن يشهد. فإن قال المقر له: اكتب لي محضرا بذلك.. كتب له:(13/118)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضر القاضي فلان بن فلان، وهو يلي القضاء من قبل الإمام فلان بن فلان، أو: خليفة القاضي فلان بن فلان قاضي الإمام فلان بن فلان، أو من يلي القضاء من قبل فلان بن فلان وفلان بن فلان، إذ حكمه الخصمان فلان بن فلان وفلان بن فلان -يعني الخصمين - ويرفع في أسمائهما وأنسابهما حتى يتميزا عن غيرهما، وإن كان يعرفهما.. فالمستحب: أن يحليهما مع ذلك، فادعى فلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا وكذا، فأقر له به في وقت كذا وكذا، شهد عليه بذلك فلان وفلان. ولا يحتاج أن يقول: في مجلس حكمه؛ لأن الإقرار يصح في غير مجلس حكمه. ويكتب تحت المحضر: أقر بذلك عندي، ويكتب على رأسه علامة: حسبي الله، أو الحمد لله رب العالمين، أو ما أشبه ذلك.
وإن أنكر المدعى عليه، فأقام المدعي البينة بما ادعاه.. حكم له بذلك على ما مضى، فإن سأل المدعي الحاكم الإشهاد له على ذلك.. فهل يلزمه الإشهاد له عليه؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: لا يلزمه الإشهاد؛ لأن للمدعي بالحق بينة، فلا يلزم القاضي تجديد بينة له أخرى.
والثاني: يلزمه الإشهاد؛ لأن في إشهاده على نفسه بذلك تعديلا للبينة الأولى وإلزاما لخصمه.
فإن سأله أن يكتب له بذلك محضرا.. كتب له:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضر القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - فلان بن فلان وفلان بن فلان في مجلس قضائه، فادعى فلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا وكذا فأنكر، فسأل(13/119)
الحاكم المدعي البينة فأحضر فلان بن فلان وفلان بن فلان -يعني الشاهدين - وسأل الحاكم سماع شهادتهما فشهدا بكذا وكذا، وعرف الحاكم عدالتهما لما رأى قبول شهادتهما، فسأل فلان بن فلان أن يحكم له بشهادتهما فحكم له بذلك في وقت كذا، ويكتب العلامة على رأس المحضر، وتحت المحضر: شهدا عندي بذلك.
وإن كان للمدعي في هذه والتي قبلها كتاب بالإقرار أو بالشهادة.. جعله القاضي محضرا، وكتب العلامة في رأسه، وكتب تحته: شهد عندي بذلك.
فإن لم يكن للمدعي بينة، فحلف المدعى عليه على ما مضى، وسأل المدعى عليه الحاكم أن يكتب له بيمينه محضرا، ليكون له وثيقة حتى لا يدعي عليه بذلك الحق مرة ثانية.. كتب له:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضر القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - فلان بن فلان في مجلس حكمه وقضائه، وادعى المدعي على فلان بن فلان بكذا وكذا فأنكره، فطالب القاضي المدعي بالبينة فلم تكن له بينة، ثم طالب المدعي القاضي بإحلاف خصمه فحلفه له -فيذكر كيف حلفه له - في وقت كذا وكذا، ويكتب العلامة على رأسه.
فإن نكل المدعى عليه عن اليمين ورد اليمين على المدعي فحلف، وسأل المدعي الحاكم أن يشهد له على ذلك.. لزمه أن يشهد على ذلك؛ لأنه لا حجة له غير الإشهاد. فإن سأله أن يكتب له بذلك محضرا.. كتب له:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حضر القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - فلان بن فلان في مجلس حكمه، وادعى على فلان بن فلان بكذا فأنكره، فسأل القاضي المدعي البينة فلم تكن له بينة، فسأل المدعي الحاكم استحلاف المدعى عليه، فعرض عليه اليمين فلم(13/120)
يحلف، ورد اليمين على المدعي فحلف له على كذا في وقت كذا، ويكتب العلامة في أوله، ويكتب تحته: حلف عندي.
وإن سأل صاحب المحضر القاضي أن ينفذ الحكم له ويسجله له، ويشهد عليه.. كتب له:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان -ويذكر من ولاه القضاء - في مجلس حكمه: أن فلان بن فلان ثبت له حق بكتاب نسخته كذا -ويكتب الذي ذكر في المحضر - فحكم به وأنفذه وأمضاه بسؤال فلان بن فلان المدعي، وشهد على إنفاذ القاضي فلان بن فلان بجميع ما في هذا الكتاب في وقت كذا فلان بن فلان، ويكتب العلامة في رأسه.
وإن كان القاضي لا يعرف الخصمين.. حضر رجل ذكر أنه فلان بن فلان، وأحضر رجلا ذكر أنه فلان بن فلان، ولا بد من ذكر حليتهما؛ لأن الاعتماد عليها.
وقال ابن جرير: إذا لم يعرفهما القاضي.. لم يجز له أن يسجل؛ لأنهما ربما يزوران النسب والاسم. وهذا غلط؛ لأنه لا بد أن يذكر حليتهما، ولا يمكنهما تزوير الحلية.
إذا ثبت هذا: فهل يلزم القاضي كتب المحضر والسجل؟ ينظر فيه:
فإن لم يجعل له شيء من بيت المال لما يشتري به الورق، ولا أحضر الخصم ورقة يكتب له بها.. لم يلزم القاضي ذلك؛ لأن الذي يلزمه: أن يحكم، ولا يلزمه أن يغرم الورق للمحكوم له.
وإن سلم إليه شيئا لثمن الورق، أو أتاه المحكوم له بورقة وسأله أن يكتب له فيها.. ففيه وجهان:(13/121)
أحدهما: يلزمه؛ لأنه وثيقة للمحكوم له، فلزمت الحاكم، كالإشهاد.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن الوثيقة فيما يثبت به الحق من الإقرار أو البينة أو اليمين دون المحضر والسجل.
فعلى هذا: يستحب له أن يكتب له؛ لأنه زيادة في الوثيقة.
فإذا قلنا: يلزمه أو يستحب له.. فإنه يستحب له أن يكتب ذلك نسختين: نسخة تكون مع المحكوم له، ونسخة تكون مع القاضي في ديوان الحكم، فإذا هلكت إحداهما.. اكتفي بالأخرى، ويكتب على ظهرها: سجل فلان بن فلان المحكوم له، ويضم ما يجتمع عنده من السجلات، ويشدها إضبارة على قدر اجتماعها في اليوم أو الأسبوع أو الشهر أو السنة، ويختم على الإضبارة بختمه، ويكتب على ظهرها: محاضر أو سجلات يوم كذا في شهر كذا في سنة كذا، أو: سجلات أسبوع كذا في شهر كذا من سنة كذا، حتى إذا حضر من يطلب شيئا منها.. سأله عن وقت ذلك، فيسهل عليه استخراجها، ولا يشتغل بتفتيش جميع الكتب.
فإذا عزل القاضي وكانت عنده محاضر وسجلات للناس.. سلمها إلى الذي ولي القضاء بعده؛ لأنه كان له نظر وولاية، وقد صار النظر والولاية للثاني، فكان أولى بذلك.
[فرع حكم القاضي بحجة بخطه وختمه أو بحجة الذي قبله]
] : إذا حضر خصمان عند القاضي فادعى أحدهما على الآخر حقا فأنكر، فقال المدعي: لي حجة في ديوان الحكم، فطلبها الحاكم، فوجد له حجة بخطه وختمه.. نظرت:
فإن كان الحاكم ذاكرا لحكمه له بذلك، ولم يشهد عنده بذلك شاهدان.. قال الشيخ أبو حامد: فهل يجوز له أن يحكم له بذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في أن القاضي له أن يقضي بعلمه.
وقال ابن الصباغ: لا يكون هذا قضاء بالعلم، وإنما هو إمضاء ما حكم به.(13/122)
وإن كان غير ذاكر لما حكم به، ولم يشهد عنده بذلك شاهدان، إلا أنه عرف خطه وختمه.. فلا يجوز له أن يحكم له بذلك، وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يجوز له أن يحكم له به إذا عرف خطه وختمه.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] [الإسراء: 36ٍ] يعني: لا تقل ما ليس لك به علم، وما لا يذكره ولا شهد عنده به.. ليس له به علم. ولأنه لا يؤمن أن يكون قد زور على ختمه وخطه.
وإن رأى بخطه شهادة له وهو لا يذكرها.. لم يجز له أن يشهد بها، وحكى أصحابنا العراقيون: أن أبا يوسف وافق على ذلك.
وحكى أصحابنا الخراسانيون: أن أبا يوسف قال: يجوز له أن يشهد بذلك.
ودليلنا عليه: ما مضى.
وإن رأى بخط أبيه دينا له بعد موته.. جاز له أن يحلف عليه؛ لأنه يمكنه الرجوع بما حكم به إلى الذكر واليقين؛ لأنه فعل نفسه، وما وجده بخط أبيه لا يمكنه الرجوع إلى اليقين، فكفى فيه الظن.
قال ابن الصباغ: وإن وجد بخط نفسه حقا له على غيره.. لم يجز له أن يطالب به ويحلف عليه، إلا أن يتيقنه وإن وجد له سماعا بخطه ولا يذكره.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : فإن لم يغب عنه ذلك.. جاز له أن يرويه؛ لأن الإخبار أوسع من الحكم والشهادة. وإن غاب عنه.. لم يجز له أن يرويه؛ لجواز أن يكون قد زور عليه.
وإن شهد عنده شاهدان للمدعي.. نظرت:
فإن شهدا على إقرار المدعى عليه.. حكم له بشهادتهما؛ لأنهما لو شهدا على إقراره في غير مجلس الحكم. لحكم له بهما، فكذلك إذا شهدا على إقراره في مجلس الحكم.
وإن شهدا على حكمه له بذلك على المدعى عليه وهو لا يذكر ذلك.. لم يجز له أن يحكم له بذلك، وبه قال أبو حنيفة.(13/123)
وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يجوز له أن يحكم له بذلك.
دليلنا: أنهما لو شهدا على رجل أنه شهد لفلان بكذا، والشاهد لا يذكر ذلك.. لم يجز له أن يشهد بذلك، فكذلك الحاكم لا يجوز له أن يحكم له بشهادتهما إذا كان غير ذاكر له.
وإن كانت الحجة بخط القاضي قبله وختمه.. فلا يجوز له أن يحكم للمدعي بذلك حتى يشهد بذلك شاهدان على حكم القاضي قبله له بذلك. فإن كان القاضي الثاني قد حضر عند الأول عند حكمه لهذا المدعي بهذه الحكومة.. فهل يجوز له أن يقضي له بذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في الحكم بالعلم.
وإن أقام المدعي بينة على أن القاضي الأول حكم له بذلك، وأقام المدعى عليه بينة أن القاضي الأول توقف في ذلك.. لم يجز للثاني أن يحكم له بذلك.
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه يجوز له أن يحكم له بذلك.
والمشهور هو الأول؛ لأن الثاني فرع للأول، فلا يجوز للثاني إنفاذ الحكم مع توقف الأول، كما لو شهد شاهدان على شهادة رجل، وشهد آخران على توقف شاهد الأصل.. فإنه لا يجوز الحكم بشهادة من شهد على شهادته.
[فرع يندب للحاكم أن يوجه للصلح]
] : قال في " الأم ": (إن بان للحاكم وجه الحكم.. ندبهما إلى الصلح، وأخر الحكم اليوم واليومين) ؛ لأن الصلح مندوب إليه. ويسألهما أن يحللاه من تأخير الحكم، فإن لم يجتمعا على تحليله وطالباه بالحكم.. وجب عليه الحكم؛ لأن الحكم إذا بان وجهه.. وجب على القاضي إنفاذه. هكذا ذكر ابن الصباغ، والذي يقتضي المذهب: أن التحليل بتأخير الحكم إنما يطلب من المحكوم له، وكذلك(13/124)
وجوب الحكم إنما يتوجه بطلبه دون المحكوم عليه؛ لأن الحق في الحكم للمحكوم له دون المحكوم عليه.
[مسألة إقرار القاضي بحكمه لفلان قبل عزله أو بعده وشهادته عند غيره]
] : إذا قال القاضي في حال ولايته: حكمت لفلان على فلان بكذا بإقرار المدعى عليه، أو بقيام بينة عليه وثبتت عدالتهما عندي، أو بيمين المدعي بعد نكول المدعى عليه.. قبل قول القاضي بذلك، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد.
وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: لا يقبل قوله حتى يشهد بحكمه شاهدان، أو رجل عدل معه.
دليلنا: أنه يملك الحكم فملك الإقرار به، كالزوج لما ملك الطلاق.. ملك الإقرار به.
فأما إذا عزل، فقال بعد العزل: قد كنت حكمت لفلان بكذا.. فإنه لا يقبل قوله.
وقال أحمد: (يقبل قوله) .
دليلنا: أنه لا يملك الحكم فلا يملك الإقرار به، كسائر الرعية. وهل يكون شاهدا حتى لو شهد معه آخر عند قاض آخر حكم له به؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو سعيد الإصطخري: يكون شاهدا فيه، كما تقبل شهادة المرضعة على إرضاعها مع ثلاث نسوة معها.
و [الثاني] : المذهب: أنه لا تقبل شهادته في ذلك؛ لأن ذلك يتضمن إثبات العدالة لنفسه؛ لأن الحكم لا يصح إلا من عدل، فلم يصح ذلك بقوله، بخلاف الرضاع؛ فإنه يصح من غير عدل، فلم يتضمن إثبات العدالة لنفسه.
فإذا قلنا بهذا: فقال هذا المعزول: أشهد أن حاكما يجوز حكمه حكم لفلان بكذا، ولم يخبر بذلك عن نفسه.. ففيه وجهان:(13/125)
أحدهما: تقبل شهادته فيه؛ لأنه إذا أضاف ذلك لنفسه.. لحقته التهمة بتزكية نفسه. وإذا أطلق ذلك.. لم تحصل به تهمة.
والثاني: لا تقبل؛ لأنه يحتمل أنه أراد نفسه بذلك، فلم تقبل حتى يصرح بالحاكم أنه غيره.
فأما إذا قال المعزول: أشهد أن فلانا أقر لفلان في مجلسي بكذا.. قبلت شهادته له وجها واحدا؛ لأنه لا يجر بذلك إلى نفسه نفعا، ولا يدفع عنها ضررا.
وبالله التوفيق(13/126)
[باب القسمة]
قسمة الأموال المشتركة جائزة، والأصل فيها: قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء: 8] الآية [النساء: 8] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] [القمر: 28] .
وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم غنائم خيبر على ثمانية عشر سهما» ، و: «قسم غنائم بدر بشعب يقال له: الصفراء» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة في كل ما لم يقسم» .
ولأن بالشركاء حاجة إلى القسمة؛ ليتمكن كل واحد منهم من التصرف في نصيبه منفردا.
إذا ثبت هذا: فإن تقاسم الشريكان بأنفسهما.. جازت، ولا تفتقر القسمة إلى عقد، بل إذا عدلا السهام وأقرعا على ما يأتي بيانه.. صحت القسمة ولزمت؛ لأن المقصود إفراد نصيب كل واحد منهما عن نصيب الآخر، وذلك يحصل بما ذكرناه.
وإن دعا أحدهما صاحبه إلى القسمة فامتنع، فرفع الطالب الأمر إلى الحاكم فقسم بينهما، أو بعث قاسما فقسم بينهما، أو تراضيا بالرفع إلى الحاكم، فبعث قاسما ليقسم بينهما فقسم بينهما.. جاز.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (القسام: حكام) .
وأراد بذلك: أنهم في معنى الحكام، وأن قسمتهم تلزم بنفس الإقراع، كما يلزم(13/127)
حكم الحاكم بنفس الحكم؛ لأن كل واحد منهما مجتهد فيما ولي عليه من ذلك.
وأراد: أن القاسم الذي نصبه الحاكم يجب أن يكون بالغا، عاقلا، حرا، عدلا، عالما بالقسمة، كما يجب أن يكون الحاكم بالغا، عاقلا، حرا، عدلا، عالما بالأحكام. ولم يرد: أن القاسم يجب أن يكون من أهل الاجتهاد؛ لأن ذلك لا يفتقر إليه في القسمة.
وإن نصب الشريكان قاسما يقسم بينهما ممن يحسن القسمة.. جاز، كما يجوز أن يحتكما إلى من ليس بقاض ممن يصلح للقضاء. والمنصوص: (أن قسمته لا تلزم إلا بتراضي الشريكين بالقسمة بعد خروج القرعة) ؛ لأن هذه القسمة مبناها على التراضي في الابتداء، فاعتبر التراضي بها في الانتهاء.
ومن أصحابنا من خرج فيه قولا آخر: أن قسمته تلزم بنفس القرعة، كما قال الشافعي -في الرجلين إذا تحاكما إلى من ليس بقاض ممن يصلح للقضاء -: (أن حكمه يلزم بنفس الحكم) في أحد القولين.
ويجوز أن يكون هذا الذي نصبه الشريكان عبدا أو فاسقا؛ لأنه وكيل لهما.
هكذا ذكره أكثر أصحابنا، وقال ابن الصباغ: إذا نصب الشريكان قاسما فقسم بينهما.. لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما بقسمته بعد القرعة، وجاز أن يكون عبدا أو فاسقا. وإن حكما رجلا ليقسم بينهما فقسم بينهما.. ففيه قولان، كالقولين إذا حكما رجلا ليحكم بينهما. فإذا قلنا: يلزم.. وجب أن يكون على الشرائط التي ذكرناها في قاسم القاضي. وإن قلنا: لا تلزم قسمته إلا بتراضيهما بعد القرعة.. جاز أن يكون عبدا أو فاسقا. ففرق بين النصب والتحكيم. والطريق الأول أقيس. وأما عدد من يقسم: فإن لم يكن في القسمة تقويم.. جاز أن يكون واحدا، وإن(13/128)
كان فيها تقويم.. لم يجز أن يكون أقل من اثنين، كما قلنا في تقويم المتلفات. وإن كان فيها خرص.. ففيه قولان، كما قلنا في الخرص في الزكاة.
[مسألة أجرة القاسم جائزة]
ويجوز استئجار القاسم بأجرة معلومة؛ لأن القسمة عمل معلوم، بخلاف الإجارة على الحكم، فإنه لا يجوز؛ لأنه عمل غير معلوم.
ويجوز أن يدفع الإمام إلى القاسم الذي نصبه الرزق من بيت المال؛ لما روي: (أنه كان لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قاسم يقال له: عبد الله بن لحي، يعطيه رزقه من بيت المال) . ولأن ذلك من
المصالح
. فإن لم يكن في بيت المال شيء، أو كان فيه ولكنه يحتاج إلى صرفه فيما هو أهم من ذلك.. فإن أجرة القاسم على الشركاء؛ لأن القسمة حق لهم. فإن استأجره كل واحد منهم بعقد منفرد ليقسم له نصيبه.. جاز، ولزم كل واحد منهم ما استأجره به، سواء كان قليلا أو كثيرا. وإن استأجروه بعقد واحد ليقسم بينهم بأجرة.. وجبت عليهم الأجرة على قدر أملاكهم، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: (تجب الأجرة عليهم، وتقسم بينهم على عدد الرؤوس) .
وقال أبو يوسف ومحمد: القياس يقتضي: أن تقسم بينهم على عدد رؤوسهم، ولكنا نقسمها عليهم على قدر أملاكهم استحسانا.
دليلنا: أن الأجرة مؤنة تتعلق بالملك فقسمت على قدر الأملاك، كنفقة العبد.
وإن طلب أحدهما القسمة وامتنع الآخر، فرفع الطالب الأمر إلى الحاكم فنصب قاسما، فقسم بينهما.. فإن أجرته على الشريكين، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (تجب جميع أجرته على الطالب) .
دليلنا: أن الأجرة تجب لإقرار النصيبين، وهما في ذلك سواء، فوجبت الأجرة عليهما، كما لو تراضيا بالرفع إلى الحاكم.(13/129)
[مسألة أنواع قسمة الأملاك المشتركة]
إذا كان في القسمة رد؛ وذلك بأن يكون المملوك بين الشريكين لا يمكن أن يجعل جزأين إلا بعوض يكون مع أحدهما؛ بأن يكون بينهما عبدان نصفين، وقيمة أحدهما عشرون درهما، وقيمة الآخر ثلاثون درهما.. فإنه لا يمكن تعديلهما جزأين إلا بأن يجعل مع الذي قيمته عشرون خمسة دراهم، يدفعها من خرج له الذي يساوي ثلاثين، فهذه القسمة تفتقر إلى تراضيهما بها في ابتداء القسمة، فلو طلبها أحدهما وامتنع الآخر منها.. لم يجبر عليها. وتفتقر إلى تراضيهما بها بعد القسمة؛ وذلك أنهما إذا تراضيا عليها في الابتداء وأقرع بينهما فخرجت قرعة كل واحد منهما على عبد.. افتقر إلى تراضيهما في هذه الحال.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يفتقر إلى تراضيهما بها قبل القسمة، وأما بعد خروج القرعة: فلا يفتقر إلى تراضيهما بها.
والمذهب هو الأول؛ لأنه لما افتقر إلى تراضيهما بها في الابتداء.. افتقر إلى تراضيهما بها بعد خروج القرعة. ولأنها تتضمن دفع العوض، فافتقر إلى تراضيهما بها بعد خروج القرعة؛ ليلزم البيع والشراء.
إذا ثبت هذا: فإن هذه القسمة بيع لما فيها من المعاوضة، إلا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك والقبول.
وإن لم يكن في القسمة رد.. ففيه قولان:
أحدهما: أن القسمة بيع؛ لما فيها من المعاوضة، إلا أنها لا تفتقر إلى لفظ الإيجاب والقبول؛ لأن كل جزء من المال مشترك بينهما، فإذا أخذ أحدهما أحد الجزأين.. فقد باع حقه في الجزء الآخر بحق صاحبه في الجزء الذي أخذه.(13/130)
والثاني: أنها فرز النصيبين، وهو الأصح؛ لأنها لو كانت بيعا.. لافتقرت إلى الإيجاب والقبول، كالبيع، ولأنها لو كانت بيعا.. لما تعين حق كل واحد منهما بالقرعة، كما لا يصح أن يقول: بعتك أي عبد خرجت عليه قرعتك.
فإن قلنا: إنها بيع.. لم يجز قسمة ما لا يجوز بيع بعضه ببعض -كالرطب والعسل الذي انعقدت أجزاؤه بالنار- بالقرعة. فإن كان بين اثنين شيء من ذلك مشترك، وأرادا قسمته.. جعل جزأين واشترى أحدهما نصيب شريكه من أحد الجزأين بدرهم، واشترى الآخر نصيب شريكه من الجزء الآخر بدرهم وتقاصا، أو أبرأ كل واحد منهما صاحبه.
وإن تقاسما ما يحرم فيه الربا مما لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا.. لم يجز قسمته إلا بالكيل فيما يكال، والوزن فيما يوزن، ولا بد أن يقبض كل واحد منهما ما حصل له قبل أن يتفرقا.
وإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. صحت القسمة فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض بالقرعة، وصحت قسمته بالكيل فيما يوزن، وبالوزن فيما يكال إذا أمكن، وجاز أن يتفرقا قبل القبض.
وإن كان المشترك ثمرة على شجرة، وأرادا قسمتها: فإن قلنا: إن القسمة بيع..لم يجز قسمتها بالقرعة، ولكن يحتال في إفراز النصيبين بالبيع على ما مضى.
وإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين: فإن كانت الثمرة رطبا أو عنبا.. صحت قسمتها بالخرص؛ لأن الخرص يدخلهما. وإن كانت غيرهما من الثمار.. لم يصح قسمتها بالخرص؛ لأن الخرص لا يدخلها.
[مسألة اشتراك اثنين أو جماعة في شيء وطلب قسمته]
إذا كان الشيء مشتركا بين اثنين أو جماعة، فطلب بعضهم قسمته، وامتنع البعض.. نظرت: فإن لم يكن في قسمته ضرر على أحدهما؛ بأن كانت قيمة نصيب كل واحد منهم بعد القسمة مثل قيمته قبل القسمة، وينتفع به بعد القسمة كما كان ينتفع(13/131)
به قبل القسمة.. فإن الممتنع من القسمة يجبر عليها؛ لأن كل واحد منهم يريد الانتفاع بنصيبه منفعة تامة بعد القسمة، ولأن الشركة فيها ضرر لاختلاف الأيدي. فإذا دعا بعضهم إلى إزالة ذلك من غير ضرر يلحق فيما طلبه.. وجبت إجابته إلى ما طلب.
وإن كان في القسمة ضرر.. نظرت:
فإن كان الضرر فيها على جميع الشركاء؛ بأن كانت قيمة نصيب كل واحد منهم ومنفعته بعد القسمة تنقص عن قيمته ومنفعته قبل القسمة.. لم يجبر الممتنع منهما.
وقال مالك: (يجبر) .
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن القيل وقال، وعن إضاعة المال» ، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار» ، وفي هذه القسمة إضاعة المال وإضرار، فلم يجبر الممتنع منهما عليها.
إذا ثبت هذا: فإن تراضى الشركاء على هذه القسمة التي فيها ضرر عليهم، وسألوا الحاكم أن يبعث من يقسم بينهم، فإن كان فيها إتلاف مال؛ بأن كانت جوهرة بين جماعة فطلبوا كسرها.. لم يجبهم الحاكم إلى ذلك؛ لأن ذلك سفه. وإن لم يكن فيها إتلاف مال، كالدار والأرض.. جاز أن يبعث من يقسمها بينهم.
وإن كان في القسمة ضرر على بعض الشركاء دون بعض؛ مثل أن كانت دار بين اثنين، لأحدهما تسعة أعشارها وللآخر عشرها، وكانت قيمة عشرها ومنفعته بعد القسمة تنقص عن قيمته ومنفعته قبل القسمة، ولا تنقص قيمة نصيب صاحب الأكثر ولا منفعته.. نظرت:
فإن دعا إلى القسمة من لا يستضر بها وامتنع الآخر منهما.. أجبر الممتنع، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال ابن أبي ليلى: لا يجبر الممتنع، ولكن يباع ويقسم الثمن بينهما.(13/132)
وقال أبو ثور: (لا يجبر الممتنع منهما، ويوقف الملك مشاعا إلى أن يتراضيا على القسمة) .
دليلنا: أنها قسمة لا ضرر فيها على الطالب، فوجب إجابته إليها، كما لو كان لا ضرر فيها على أحد في القسمة. ولأنه يطلب ما ينتفع به فوجبت إجابته إليه وإن كان فيها ضرر على غيره، كما لو كان له دين على غيره ولا يملك من عليه الدين إلا قدر الدين.
وإن طلب القسمة من يستضر بها، وامتنع الآخر منها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر الممتنع عليها - وبه قال أبو حنيفة - لأنها قسمة فيها ضرر على بعض الشركاء دون بعض، فأجبر الممتنع منهما عليها، كما لو كان الضرر على الممتنع وحده.
والثاني: لا يجبر الممتنع منهما عليها، وهو المذهب؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن إضاعة المال» ، وفي هذه القسمة إضاعة المال. ولأنه يطلب ما يستضر به، وإجابته على ذلك سفه، فلم تجب. هذا ترتيب أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: إن دعا إلى القسمة من يستضر بها، وامتنع منها من لا يستضر بها.. لم يجبر الممتنع وجها واحدا. وإن دعا إليها من لا يستضر بها من الشركاء، وامتنع منها من يستضر بها.. فهل يجبر الممتنع؟ فيه وجهان.
إذا ثبت هذا: فإن كان نصف الدار لواحد، ونصفها لعشرة: لكل واحد منهم نصف عشرها، وطلب العشرة أن يقسموا نصيبهم من الدار مجموعا، وامتنع صاحب النصف.. أجبر على ذلك؛ لأنها قسمة لا ضرر فيها. وكذلك: إذا طلب صاحب النصف أن يفرد نصيبه عن العشرة.. أجبر شركاؤه على ذلك.
[مسألة طلب إزالة الشيوع في الأعيان المشتركة]
] : إذا كان بين رجلين أعيان مشتركة، فطلب أحدهما أن تقسم كل عين على الانفراد جزأين، وطلب الآخر أن تقوم كل عين ويأخذ كل واحد منهم أعيانا منها بقيمتها.. نظرت:(13/133)
فإن كان المشترك دارا واحدة فيها بيوت، وطلب أحدهما أن يقسم كل بيت جزأين، وطلب الآخر أن تقسم البيوت بالقيمة فيأخذ كل واحد منهم بيوتا بالقيمة.. قدم قول من دعا إلى القسمة بالقيمة؛ لأن قسمة كل بيت جزأين تنقص به قيمته ومنفعته.
وإن كان المشترك بينهما دورا متفرقة، وطلب أحدهما أن تقسم كل دار بانفرادها، وطلب الآخر أن تجعل كل دار نصيبا.. قدم قول من دعا إلى أن تقسم كل دار بانفرادها، سواء كانت الدور في محلة أو في محال، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (إن كانت الدور في محال.. قدم قول من دعا إلى قسمة كل دار وحدها-كما قلنا- فإن كانت الدور في محلة واحدة.. قدم قول من دعا إلى أن يجعل كل دار نصيبا) .
وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان الحظ في أن تقسم كل دار.. قسمت كل دار، وإن كان الحظ في أن تجعل كل دار نصيبا.. جعلت كل دار نصيبا.
دليلنا: أنها قسمة تتضمن نقل حقه من عين إلى عين غيرها فلم يجبر عليها، كما لو كانت الدور في محال، على مالك، وعلى أبي يوسف ومحمد: كما لو كان الحظ في قسمة كل دار.
إذا ثبت هذا: فإن كان بينهما خان ذو بيوت ومساكن.. جازت قسمته وإفراد بعض المساكن عن بعض؛ لأنه يجري مجرى الدار الواحدة فيها بيوت. وإن كان بينهما دكاكين.. فهي كالدور. وأما إذا كان بينهما عضائد صغار متلاصقة -وهي البيوت من الدكاكين في الأسواق التي سكنها التجار- فطلب أحدهما أن تقسم بالقيمة، وامتنع الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر؛ لأن هذه العضائد تجري مجرى الدار فيها بيوت، أو تجري(13/134)
مجرى الخان فيها بيوت، ومعلوم أن كل من دعا إلى أن يجعل كل بيت في الدار أو الخان نصيبا.. فإنه يجاب إلى ذلك، فكذلك هذا مثله.
والثاني: لا يجبر الممتنع؛ لأن كل عضادة مسكن، ولأنها أعيان متميزة فلا يقسم بعضها في بعض، كالدور المتفرقة.
فعلى هذا: إن كانت كل عضادة مما يمكن قسمتها جزأين.. قسمت كل عضادة، وإن كان لا يمكن ذلك إلا بضرر يلحق في القسمة أو المنفعة.. لم تقسم.
[فرع تقسيم الدار ذات علو وسفل]
وإن كان بينهما دار فيها علو وسفل، فطلب أحدهما أن يجعل العلو والسفل بينهما، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع؛ لأن البناء في الأرض يجري مجرى الغراس في الأرض؛ لأنهما يتبعان في البيع والشفعة، ولو كان بينهما أرض فيها غراس، فطلب أحدهما أن تقسم الأرض والغراس بينهما، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع.
وإن طلب أحدهما أن يجعل العلو نصيبا والسفل نصيبا ويقرع بينهما، فإن رضي الآخر.. جاز ويكون الهواء لصاحب العلو، وله أن يحمل على علوه ما لا يضر بصاحب السفل. وإن امتنع أحدهما من هذه القسمة.. لم يجبر؛ ولأن العلو تبع للسفل، فلم يجز أن يجعل التابع متبوعا، ولأن العلو والسفل كالدارين المتجاورتين، ثم لو كان بينهما داران متجاورتان، وطلب أحدهما أن تجعل كل دار نصيبا، وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع، فكذلك هذا مثله.
وإن طلب أحدهما أن يقسم السفل بينهما ويترك العلو على الإشاعة، وامتنع الآخر.. لم يجبر على ذلك؛ لأن القسمة تراد لتمييز حق أحدهما عن حق الآخر، وإذا كان العلو مشتركا.. لم يحصل التمييز؛ لأنهما قد يقتسمان فيحصل ما لأحدهما على ما للآخر فلا يتميز الحقان. وإن تراضيا على ذلك.. جاز.(13/135)
[مسألة تقاسما عرصة جدار أو نفس الجدار]
وإن كان بينهما حائط فهدماه وأرادا قسمة عرصته، فإن تراضيا على أن يكون لأحدهما نصف الطول في كمال العرض، أو نصف العرض في كمال الطول.. جاز. وإن طلب أحدهما قسمة طوله فيكون لأحدهما نصف طوله في كمال عرضه، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع، ويكون لكل واحد منهما ما خرجت عليه قرعته. فإن أراد كل واحد منهما أن يبني فيما خرج له.. جاز. فإن بقي بينهما فرجة.. لم يجبر من هي في ملكه على سدها.
وإن طلب أحدهما أن يكون لأحدهما نصف العرض في كمال الطول، وامتنع الآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجبر على ذلك؛ لأن هذه القسمة لا تدخلها القرعة؛ لأنا لو أقرعنا بينهما.. لم نأمن أن يخرج نصيب أحدهما مما يلي ملك الآخر، فلم يجبر الممتنع منهما عليها، كالقسمة التي فيها رد.
والثاني: يجبر الممتنع، وهو الأصح؛ لأنها قسمة لا ضرر فيها، فأشبهت قسمة الطول في كمال العرض، ويخالف القسمة التي فيها الرد؛ لأن دخول الرد فيها يجعلها بيعا، والبيع لا يجبر عليه من امتنع منه.
فعلى هذا: إذا قسم بينهما.. لم يقرع بينهما، ولكن يجعل لكل واحد منهما ما يلي ملكه.
وإن طلب أحدهما أن يقسم طولها في كمال عرضها، وطلب الآخر أن يقسم عرضها في كمال طولها، فإن قلنا: لا يجبر من امتنع من قسمة عرضها في كمال طولها.. أجبر من دعا إلى قسمة طولها في كمال عرضها. وإن قلنا: يجبر من امتنع من قسمة عرضها في كمال طولها.. لم يجبر أحدهما، بل يتركان حتى يصطلحا؛ لأن قول أحدهما ليس بأولى من قول الآخر.(13/136)
وأن أرادا قسمة الحائط بينهما، فإن تراضيا على قسمة طوله في كمال عرضه، أو على قسمة عرضه في كمال طوله.. جاز.
وإن طلب أحدهما أن يقسم عرضه في كمال طوله، وامتنع الآخر.. لم يجبر؛ لأن الحائط إن قطع.. كان في ذلك إتلاف. وإن لم يقطع وعلم على نصف العرض علامة ليضع عليه ما يريده.. جاز، فإن وضع على جميع الحائط.. كان منتفعا في نصيب شريكه.
وإن طلب أحدهما أن يقسم طوله في كمال عرضه فامتنع الآخر.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يجبر الممتنع؛ لأن الحائط إن قطع.. فقد أتلف جزء من الحائط، فلم يجبر الممتنع من ذلك عليه، كما لو كان بينهما ثوب فطلب أحدهما قطعه نصفين.
والثاني: يجبر الممتنع، وهو الأصح، كما يجبر على قسمة العرصة لذلك. فعلى هذا: إن كان القطع يضر بالحائط.. لم يقطع، ويجعل بين النصيبين علامة، وإن كان القطع لا يضر به.. قطع بمنشار إن كان لبنا أو طينا، كالثوب إذا كان قطعه لا يضره.
[مسألة قسمة الأرض المشتركة]
وإن كان المشترك أرضا.. قال أصحابنا: وإن كانت قراحا واحد- وأحسبهم أرادوا بالقراح الذي نسميه الجول- فإن كانت متساوية الأجزاء، قيمة الذراع في أولها كقيمة الذراع في وسطها وفي آخرها.. فإنها تقسم بالتعديل بالأجزاء.
وإن كان فيها نخل وكرم وشجر.. قال ابن الصباغ: فإنه يقسم بالتعديل،(13/137)
ولا يجب قسم كل جنس على حدته؛ لأن القراح واحد، فهو بمنزلة الدار يكون فيها البناء والأبواب؛ فإنه لا يجب قسمة كل نوع منها، بل تقسم جميعها، كذلك هذا مثله.
وإن كانت أجزاء الأرض مختلفة، بأن كانت قيمة كل ذراع من أولها يساوي درهمين، وقيمة ذراع من أوسطها يساوي درهما، وقيمة ذراع من آخرها يساوي نصف درهم، أو في بعض الأرض نخل أو كرم أو شجر وبعضها بياض، أو بعضها يسقى بالسيح وبعضها يسقى بالناضح.. نظرت: فإن أمكن التسوية بين الشركاء في جيدها ورديئها، وشجرها وبياضها، وما يسقى بالسيح والناضح بالتعديل بالأجزاء.. قسمت بالتعديل بالأجزاء.
وإن لم تمكن قسمة ذلك بالتعديل بالأجزاء.. فقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: أنها تقسم بينهم بالتعديل بالقيمة - على ما يأتي بيانه - فإن امتنع أحدهم من ذلك.. أجبر عليه؛ لأنه ليس فيه أكثر من اختلافها في القيمة، وذلك لا يمنع من القسمة، كما قلنا في الدار الواحدة.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: إذا كانت الأرض ثلاثين جريبا، وقيمة عشرة أجربة(13/138)
من جيدها كقيمة عشرين جريبا من رديئها، فدعا أحدهما إلى قسمتها بالتعديل بالقيمة - ومعناه: أن تكون العشرة الأجربة نصيبا والعشرون جريبا نصيبا - ففيه قولان:
أحدهما: يجبر الممتنع؛ لوجود التساوي بينهما في القيمة.
والثاني: لا يجبر؛ لتعذر التساوي في الذرع. وأحسبه أراد بذلك: إذا كان في الجول الواحد، وأراد بـ: (الجريب) : أذرعا معلومة عندهم، فإن كان أراد هذا.. فهو خلاف ما مضى؛ لأنهم قالوا: يقسم بالتعديل بالقيمة، وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في غير هذا الموضع: أن الأرض تعدل بالقيمة، ولعله أراد على القول الأول، وهو المشهور.
فإذا قلنا بالأول.. ففي أجرة القاسم وجهان:
أحدهما: يلزم على كل واحد منهما نصفها؛ لأنهما متساويان في أصل الملك.
والثاني: يجب على من خرجت له العشرة ثلث الأجرة، وعلى الآخر ثلثاها؛ لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة.
وإن أمكن قسمة الأرض بالرد وأمكن قسمتها بالتعديل، فدعا أحدهما إلى أن تقسم بالرد ودعا الآخر إلى أن تقسم بالتعديل بالقيمة، فإن كانت أرضا بين شريكين نصفين،(13/139)
وذرعها ستمائة ذراع، وقيمة مائتي ذراع من أولها أربعمائة درهم، وقيمة الأربعمائة الذراع الباقية منها أربعمائة درهم، كل مائة ذراع تساوي مائة درهم، فطلب أحدهما أن يجعل مائتا ذراع من أولها جزءا، وتكون الأربعمائة الذراع الباقية جزءا، ودعا الآخر إلى أن يجعل ثلاثمائة ذراع من أولها جزءا وقيمته خمسمائة درهم، والثلاثمائة الذراع الباقية من آخرها جزءا وقيمته ثلاثمائة درهم، فمن خرج له الثلاثمائة الذراع من أولها رد على الآخر مائة درهم، فإن قلنا: إن من امتنع من قسمة التعديل بالقيمة يجبر عليها.. وجب إجابة من قال: تجعل مائتا ذراع من أولها جزءا، والباقي منها جزءا. وإن قلنا: لا يجبر من امتنع من قسمة التعديل بالقيمة.. لم يجبر هاهنا أحدهما، بل يتركان إلى أن يتراضيا على القسمة.
وإن كانت الأرض أقرحة.. قال ابن الصباغ: فإن أبا إسحاق ذكر في " الشرح ": إذا كانت متجاورة.. جرت مجرى القراح الواحد، وجاز أن يقسم قراح في نصيب شريك وقراح في نصيب شريك آخر قسمة الإجبار.
وقال غيره من أصحابنا: إنما تجري الأقرحة مجرى القراح الواحد في ذلك إذا كان شربها واحدا وطريقها واحدا، فأما إذا كان لكل واحد شرب منفرد وطريق منفرد.. لم يقسم بعضها في بعض قسمة الإجبار.
قال ابن الصباغ: وهذا أشبه بكلام الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى.
[فرع قسمة الأرض المزروعة]
وإن كانت بينهما أرض مزروعة، فطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع، وامتنع الآخر.. أجبر الممتنع، سواء كان الزرع بذرا لم يخرج أو قد خرج؛ لأن الزرع في الأرض كالقماش في الدار، والقماش في الدار لا يمنع من قسمتها، فكذلك الزرع في الأرض.(13/140)
فإن طلب أحدهما قسمة الزرع دون الأرض، وامتنع الآخر.. نظرت: فإن كان الزرع بذرا لم يخرج.. لم يجبر الممتنع؛ لأنه مجهول. وكذلك إن كان الزرع قد ظهر واشتد حبه.. لم يجبر الممتنع أيضا؛ لأنه لا يمكن خرصه.
وإن كان الزرع قد ظهر ولم يصر حبا.. فحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال: لا يجبر الممتنع؛ لأنه لا يمكن تعديله. وحكى عن القاضي أبي الطيب أنه قال: إن قلنا: إن القسمة بيع.. لم يجبر؛ لأنه لا يمكن بيعه إلا بشرط القطع. وإن قلنا: إن القسمة فرز الحقين.. جازت قسمته - قال: وهذا أشبه؛ لأنه إذا أمكن تعديله مع الأرض.. أمكن تعديله وحده.
وأما إذا طلب أحدهما قسمة الأرض والزرع.. لم يجبر الممتنع؛ لأن الزرع لا يمكن تعديله. فإن تراضيا على ذلك.. نظرت:
فإن كان بذرا لم يخرج، أو كان الزرع قد صار حبا مشتدا.. لم يجز؛ لأنه مجهول.
وإن كان قد ظهر ولا ربا فيه.. صحت القسمة في الزرع مع الأرض تبعا لها، كما لا يجوز بيعه مع الأرض من غير شرط القطع تبعا للأرض.
[مسألة أحوال قسمة القراح الواحد من الأرض]
وإذا أريد قسمة القراح الواحد من الأرض.. فلا تخلو من أربعة أحوال:
إما أن تكون الأرض متساوية الأجزاء والأنصباء متساوية، أو تكون الأرض مختلفة الأجزاء والأنصباء متساوية، أو تكون الأرض متساوية الأجزاء والأنصباء مختلفة، أو تكون الأرض مختلفة الأجزاء والأنصباء مختلفة.
فـ[الأول] : إن كانت الأرض متساوية الأجزاء والأنصباء متساوية؛ بأن تكون أرضا بين رجلين نصفين، أو بين ثلاثة أثلاثا، وقيمة الذراع في أولها كقيمة الذراع في(13/141)
جميعها.. فهاهنا تعدل بالأجزاء في المساحة، فإن كانت بين ثلاثة أثلاثا وكانت ستمائة ذراع.. جعل كل مائتي ذراع منها جزءا ويقرع بينهم، ويمكن هاهنا إخراج الأسماء على الأجزاء، أو إخراج الأجزاء على الأسماء.
فأما إخراج الأسماء على الأجزاء فهو: أن يكتب اسم كل شريك في رقعة، وتكون الرقاع متساوية، ثم تدرج كل رقعة في بندقة من شمع أو طين وتجفف، ثم تترك في حجر رجل لم يحضر الكتابة والبندقة، ويقال له: أخرج بندقة على الجزء الأول، فإذا أخرج عليه بندقة.. كسرت ونظر اسم من فيها من الشركاء، فمن خرج فيها اسمه.. كان له ذلك الجزء، ثم يخرج بندقة على الجزء الثاني من الأرض، ثم تكسر البندقة فينظر من فيها اسمه فيكون له الجزء الثاني من الأرض، ويتعين الجزء الثالث للشريك الثالث، ولا يفتقر إلى إخراج البندقة عليه ولا إلى كسرها؛ لأنه لا فائدة في ذلك.
وأما إخراج الأجزاء على الأسماء فهو: أن يكتب في رقعة: الجزء الأول، وفي الثانية: الجزء الثاني، وفي الثالثة: الجزء الثالث، وتجعل عليها البنادق كما مضى، ثم تكتب أسماء الشركاء في ثلاثة مواضع، في كل موضع اسم واحد، ثم يأمر رجلا لم يحضر الكتابة والبندقة أن يخرج ببندقة على اسم أحد الشركاء أو عليه بنفسه إذا لم يكتب أسماءهم، فيكسر البندقة وينظر اسم أي أجزاء الأرض فيها، فيكون لمن خرجت على اسمه أو عليه بنفسه، ثم تخرج بندقة على اسم الشريك الثاني أو عليه بنفسه وتكسر البندقة وينظر أي اسم أجزاء الأرض فيها وتكون لمن خرجت على سهمه أو عليه، ويتعين الجزء الثالث على الشريك الثالث ولا يفتقر إلى إخراج البندقة الثالثة على اسمه ولا عليه؛ لأنه لا فائدة في ذلك.(13/142)
و [الثاني] : إن كانت الأرض مختلفة الأجزاء والأنصباء متساوية؛ بأن تكون الأرض بين ثلاثة أثلاثا، قيمة الذراع من أول الأرض تساوي درهمين، وقيمة الذراع من وسطها تساوي درهما، وقيمة الذراع في آخرها تساوي نصف درهم، فلا يمكن تعديلها هاهنا بتساوي المساحة في الأجزاء ولكن تعدل بالقيمة، فينظر كم قيمة جميع الأرض، وينظر كم قدر ثلث القيمة وإلى أي موضع تنتهي من الأرض قليلا كان أو كثيرا فيجعل جزءا، ثم ينظر إلى أي موضع ينتهي من الأرض ما قيمته قيمة الثلث أيضا فيجعل جزءا، ثم يجعل الباقي جزءا، ثم يقرع بينهم على ما مضى في التي قبلها من كتب الأسماء والأجزاء.
و [الثالث] : إن كانت الأجزاء متساوية والأنصباء مختلفة؛ بأن تكون أرض متساوية الأجزاء بالقيمة بين ثلاثة، لرجل النصف، وللثاني الثلث، وللثالث السدس.. فإنها تقسم بينهم على أقل السهام، وهي السدس، فتعدل الأرض بالمساحة بالأجزاء ستة أجزاء، فإن كانت ستمائة ذراع.. جعل كل مائة ذراع جزءا، ويعلم عليه بعلامة، ويكتب عليه أسماء الشركاء، ويجعل في بنادق - على ما مضى- وتخرج بندقة على الجزء الأول ثم ينظر من فيها، فإن خرج فيها اسم صاحب السدس.. أخذه، ثم تخرج بندقة على الجزء الثاني ثم ينظر من فيها، فإن خرج اسم صاحب الثلث فيها.. أخذ الثاني والثالث، وتعينت الأجزاء الثلاثة الباقية لصاحب النصف، وإن خرج على الجزء الثاني اسم صاحب النصف.. أخذ الثاني والثالث والرابع، وتعين الجزء الخامس والسادس لصاحب الثلث. وإنما قلنا: يأخذه وما يليه؛ لئلا يتبعض حقه فيستضر بذلك. وكم يكتب هاهنا من الرقاع؟ فيه وجهان:
أحدهما: تكتب ثلاث رقاع لا غير، فيكتب اسم كل واحد في رقعة؛ لأن صاحب النصف والثلث إنما يأخذ جزءا واحدا بالقرعة، وما يليه يأخذه بغير قرعة، فلا فائدة في كتب ما زاد عليه.
والثاني - وهو المنصوص -: (أن يكتب ست رقاع، فيكتب اسم صاحب النصف في(13/143)
ثلاث رقاع، واسم صاحب الثلث في رقعتين، واسم صاحب السدس في رقعة) ؛ لأن لصاحبي النصف والثلث مزية بكثرة الملك، فكان لهما مزية بكثرة الرقاع، ولأنه قد يكون لهما غرض في أن يأخذا من أول الأرض، فإذا كانت رقاعهما أكثر.. كان أقرب إلى خروج اسميهما. ولا يمكن في هذا القسم أن تكتب الأجزاء وتخرج على أسماء الشركاء؛ لأنا لو كتبنا الأجزاء وأخرجنها على الأسماء.. فربما خرج الجزء الثاني أو الخامس لصاحب السدس، فلا بد أن نقطع على صاحب النصف أو الثلث نصيبه، ولأنه ربما خرج الجزء الرابع لصاحب النصف فيقول: آخذه وجزأين بعده، ويقول الآخر: بل تأخذه وجزأين قبله، ولا مزية لقول بعضهم على بعض فيؤدي إلى الخصومة؛ فلذلك قلنا: لا يجوز إلا كتب الأسماء وإخراجها على الأجزاء على ما مضى.
و [الرابع] : إن كانت أجزاء الأرض مختلفة والأنصباء مختلفة؛ بأن كان هناك جريب قيمة أجزائه مختلفة بين ثلاثة، لواحد النصف والآخر الثلث وللثالث السدس.. فلا يمكن تعديلها بالمساحة في الأجزاء، ولكن تعدل بالقيمة، فينظر كم جميع قيمة الأرض؟ وينظر كم قدر سدس قيمتها؟ ويجعل ما قيمته ذلك من الأرض جزءا، ثم كذلك حتى تنتهي الستة الأجزاء، ويكتب أسماء الشركاء ويخرجها على الأجزاء على ما مضى في التي قبلها، ولا يمكن كتب الأجزاء وإخراجها على الأسماء؛ لما مضى في التي قبلها.
[مسألة قسمة المشترك غير الدور والأرض]
وإن كان المشترك غير الدور والأرض، فإن كان من أموال الربا.. فقد مضى حكمه.
وإن كان من غير أموال الربا، كالثياب والصفر والحديد وما أشبهه، فإن كانت أجناسا، فطلب أحد الشريكين أن يجعل أحد الجنسين جزءا والجنس الآخر جزءا،(13/144)
وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع؛ لأن الأغراض تختلف في ملك الأجناس.
وإن طلب أحدهما أن تقسم العين الواحدة من ذلك جزأين، وامتنع الآخر، فإن كانت قيمتها لا تنقص بذلك، كالثياب الغليظة وما أشبهها.. أجبر الممتنع على ذلك. وإن كانت قيمتها تنقص بذلك، كالثياب الرقيقة..لم يجبر الممتنع على ذلك؛ لأن فيه ضررا. فإن تراضيا على ذلك وقسماها.. جاز.
وإن طلب أحدهما أن يعدل الجنس الواحد بالقيمة وأمكن تعديله بذلك، وامتنع الآخر.. ففيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي بن خيران وأبي علي بن أبي هريرة -: أنه لا يجبر الممتنع؛ لأنها أعيان متفرقة، فلا يجبر على قسمة بعضها ببعض، كالدور.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا، وهو المذهب -: أنه يجبر على ذلك؛ لأنه لا يمكن قسمتها من غير ضرر إلا بذلك، فوجبت قسمتها كذلك، كالدار الواحدة.
وإن كان المشترك حيوانا غير الرقيق، فإن كان أجناسا.. لم يقسم جنس في جنس إلا بالتراضي، وإن طلب أحدهما أن يقسم الجنس الواحد بعضه ببعض بالتعديل بالقيمة وامتنع الآخر.. فهل يجبر الممتنع؟ على الوجهين في التي قبلها.
وإن كان رقيقا.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق: أنها على الوجهين، كغير الرقيق.
وقال ابن الصباغ: يجبر الممتنع وجها واحدا - وبه قال أبو يوسف ومحمد - لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جزأ العيد الستة الذين أعتقهم الرجل في مرض موته ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم» ، ولأن الرقيق لما وجب تكميل الحرية فيه.. دخلته قسمة الإجبار بالقيمة، بخلاف غيره.
وقال أبو حنيفة: (الرقيق لا يقسم؛ ولأنه تختلف منافعه) .
ودليلنا عليه: الخبر، ولأنه يمكن تعديله بالقيمة، كسائر الأموال.(13/145)
[مسألة قسمة المنافع المشتركة والمهايأة]
وإن كان المشترك بينهما منفعة؛ بأن أوصي لهما بمنفعة دار أو أرض أو عبد، فطلب أحدهما أن يتهايآها فينتفع بها أحدهما مدة والآخر مدة، وامتنع الآخر.. لم يجبر.
ومن أصحابنا من قال: يجبر على ذلك، كما يجبر على قسمة الأعيان.
والمذهب الأول؛ لأن حق كل واحد منهما متعجل في المنفعة، فلم يجبر على تأخير حقه في المهايأة بخلاف الأعيان؛ فإنها لا يتأخر بها حقه. فإن تراضيا على ذلك.. جاز، ويختص كل واحد منهما بالمنفعة في المدة التي اتفقا عليها.
فإن كان ذلك عبدا وكسب كسبا معتادا.. كان ذلك الكسب لمن هو في يومه، وإن كسب كسبا نادرا، كاللقطة والركاز.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه لمن هو في يومه؛ لأنه كسب له، فكان له كالكسب المعتاد.
والثاني: لا يكون له، بل يكون بين الشريكين؛ لأن المهايأة بيع؛ لأنه يبيع حقه في الكسب في يوم شريكه بحق شريكه من الكسب في يومه، والبيع لا يدخل فيه إلا ما يقدر على تسليمه في العادة، والنادر لا يقدر عليه في العادة، فلم يدخل.
فعلى هذا: لا يحسب على الذي هو في يومه في المدة التي كسب فيها ذلك من مدته.
[فرع طلب المهايأة في الدار والأرض المشتركة]
وإن كان بينهما دار أو أرض، فطلب أحدهما المهايأة ولم يطلب قسمتها، وامتنع الآخر.. لم يجبر الممتنع.
وقال مالك وأبو حنيفة: (يجبر) .(13/146)
دليلنا: أن الأصل مشترك بينهما، فلا يجبر الممتنع على أن ينفرد أحدهما ببعض المنفعة مع اشتراكهما في الأصل؛ لأن التمييز لا يحصل بذلك.
[فرع انتفع أحدهما بالمهايأة ثم هلكت العين]
] : وإن تهايآه، فانتفع أحدهما مدة، ثم هلكت العين قبل أن ينتفع الآخر بها مثله.. رجع عليه بحصته من أجرة مثلها لا بما انتفع بها.
[مسألة طلبا من الحاكم قسمة مشترك في أيديهما واعتبار البينة]
إذا كان في يد رجلين شيء فترافعا إلى الحاكم لينصب من يقسمه بينهما، فإن أقاما بينة أنه ملكهما.. نصب الحاكم قاسما يقسمه بينهما، وإن لم يقيما بينة على ملكه.. ففيه طريقان:
[الطريق الأول] : من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجوز له أن يبعث قاسما يقسم بينهما؛ لأن الظاهر من أيديهما الملك.
فعلى هذا: يكتب في كتاب القسم: قسمت ذلك بينهما بغير بينة لهما، بل بدعواهما.
والثاني: لا يجوز أن يبعث من يقسم بينهما؛ لأنه قد يكون ملكا لغيرهما، فإذا قسمه الحاكم بينهما.. كان حجة لهما في الملك.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يجوز له أن يبعث من يقسم بينهما قولا واحدا؛ لما ذكرناه.
وحيث قال: (يبعث من يقسم بينهما) حكاه عن غيره.
وقال أبو حنيفة: (إن كان غير العقار.. قسمه، وإن كان عقارا ولم ينسباه إلى(13/147)
الميراث.. قسمه بينهما، وإن نسباه إلى الميراث.. لم يقسمه بينهما حتى يقيما البينة على موته وعدد ورثته) .
دليلنا عليه: ما مضى، ولا فرق بين العقار وغيره، فلا معنى للتفرقة بينهما.
[مسألة ادعاء أحد الشريكين الغلط بالقسمة]
إذا كان بينهما أرض فاقتسماها، ثم ادعى أحدهما غلطا في القسمة عليه.. نظرت: فإن قسمت بينهما قسمة إجبار؛ بأن نصب الحاكم بينهما قاسما فقسمها.. لم يقبل قول المدعي من غير بينة؛ لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة فيها، فهو كالحاكم إذا ادعى المحكوم عليه غلطا في الحكم. فإن أقاما المدعي شاهدين عدلين من أهل المعرفة بالقسمة بالغلط عليه.. نقضت القسمة، كما لو حكم الحاكم بما يخالف النص. وإن لم يقم المدعي بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فيحلف أنه لا فضل معه له، أو لا يستحق عليه ما يدعيه ولا شيئا منه.
وإن كان ذلك في غير قسمة الإجبار.. نظرت:
فإن اقتسما بأنفسهما.. لم يقبل قول المدعي؛ لأنه إن كان كاذبا.. فلا حق له، وإن كان صادقا.. فيجوز أن يكون قد رضي بدون حقه. فإن أقام على ذلك بينة.. لم يسمع ما يدعيه؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصا.
وإن نصبا قاسما، أو وكلا من يقسم بينهما، فإن قلنا: إنه يفتقر إلى تراضيهما بقسمته بعد القسمة.. لم تقبل دعواه ولا تسمع بينته بالغلط في ذلك؛ لأنه قد رضي بأخذ حقه ناقصا. وإن قلنا: إنه لا يفتقر إلى تراضيهما بقسمته بعد القسمة.. قبلت دعواه إذا أقام بينة، وإن لم يقم بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.
وإن اقتسما قسمة فيها رد.. لم يقبل قول المدعي للغلط على المذهب؛ لأنها تفتقر إلى تراضيهما بها بعد القسمة، وتقبل الدعوى فيها على قول الإصطخري بالبينة.(13/148)
[فرع تنازع المقتسمان]
فإن تنازع المقتسمان في بيت في دار اقتسماها، وادعى كل واحد منهما أنه خرج في سهمه ولا بينة.. تحالفا ونقضت القسمة، كالمتبايعين.
فإن قال القاسم في حال القسمة: قسمت بينهما وعدلت السهام بينهما وخرج لفلان كذا.. قبل قوله؛ لأنه يملك القسمة فقبل قوله فيها، كالحاكم في حال ولايته.
وإن انصرف القاسم وقال: قسمت بينهما وخرج لفلان كذا، ولفلان كذا، أو ادعى أحدهما القسمة وأنكرها الآخر فشهد القاسم للمدعي.. فهل تقبل شهادته؟ فيه وجهان، كالحاكم إذا قال بعد العزل: حكمت لفلان بكذا.
وإن تقاسما وخرج بما صار لأحدهما عيب لم يعلم به.. كان له فسخ القسمة، كما قلنا في البيع.
[مسألة اقتسما أرضا وفيها مستحق لغيرهما]
إذا اقتسم الشريكان أرضا، ثم استحق شيء منها.. نظرت:
فإن كان المستحق قطعة بعينها من الأرض، فإن كانت من نصيب أحدهما.. بطلت القسمة؛ لأنها إذا خرجت من نصيبه.. بقي معه أقل من حقه. وإن كانت القطعة من النصيبين، فإن كان في نصيب أحدهما منها أكثر مما في نصيب الآخر.. بطلت القسمة؛ لما مضى.
وإن كان في نصيب كل واحد منهما نصفها.. لم تبطل القسمة؛ لأن ما بقي لكل واحد منهما بعد المستحق هو قدر حقه.
وإن كان المستحق مشاعا؛ بأن اقتسما أرضا بينهما نصفين، فبان أن الآخر ثلثها.. بطلت القسمة في المستحق، وهل تبطل في الباقي.. اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن أبي هريرة: فيه قولان، بناء على تفريق الصفقة في البيع.
وقال أبو إسحاق: تبطل القسمة قولا واحدا؛ لأنه بان أن الشركاء ثلاثة، فإذا(13/149)
اقتسم الشريكان دون الثالث.. لم يصح، ولأنهما إذا اقتسما.. فلا بد أن يحدثا ما يتميز به نصيب كل واحد منهما عن نصيب الآخر وذلك في حق المستحق، فكان له نزعه فتعود الإشاعة.
[فرع اقتسام التركة قبل تأدية الديون ونحوها]
إذا اقتسم الورثة التركة قبل قضاء الدين عن الميت، فإن قلنا: إن القسمة بيع.. فهل تصح القسمة؟ يبنى ذلك على جواز بيع التركة قبل قضاء الدين، وفيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق هنا وجهين، وقد مضى ذكرهما في (التفليس) .
فإن قلنا: لا يصح البيع.. لم تصح القسمة أيضا.
وإن قلنا: يصح البيع.. صحت القسمة، فإن قضى الورثة الدين.. استقرت القسمة، وإلا.. نقضت القسمة.
وإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. صحت القسمة قولا واحدا، فإن قضى الورثة الدين.. استقرت القسمة قولا واحدا، وإن لم يقضوا الدين.. نقضت القسمة.
وأما إذا اقتسم الورثة التركة، ثم بان أن الميت قد كان أوصى لوصية تخرج من ثلثه، فإن كانت الوصية بشيء معين من التركة.. لم يجز، أو بجزء مشاع منها.. فهو كما لو اقتسم التركة، ثم استحق شيء منها على ما مضى.
وإن كانت الوصية بشيء مبهم.. فهو كما لو اقتسم الورثة، ثم ظهر على الميت دين على ما مضى.
والله أعلم(13/150)
[كتاب الدعاوى والبينات](13/151)
كتاب الدعاوى والبينات المدعي في اللغة: هو من ادعى شيئا لنفسه، سواء كان في يده أو في يد غيره.
وأما المدعي في الشرع: فهو من ادعى شيئا في يد غيره، أو دينا في ذمته.
والمدعى عليه في اللغة والشرع: هو من ادعي عليه شيء في يده أو في ذمته.
هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : قال الشافعي في موضع: (المدعي: من يدعي أمرا باطنا، والمدعى عليه: من يدعي أمرا ظاهرا) . وقال في موضع آخر: (المدعي: من إذا سكت. ترك وسكوته، والمدعى عليه: من لا يترك وسكوته) . قال المسعودي [في " الإبانة "] : وهذا اختلاف في العبارة ولا فائدة له إلا في الزوجين إذا ادعى أحدهما: أنهما أسلما معا قبل الدخول، وادعى الآخر: أن أحدهما أسلم بعد الآخر، وقد مضى ذلك في نكاح المشرك.
إذا ثبت هذا: فإن دعوى المجهول في غير الوصية والإقرار لا تصح؛ لأن المدعى عليه ربما صدقه فيما ادعاه فلا يعلم الحاكم بماذا يحكم عليه.
فإن ادعى عليه شيئا من الأثمان.. فلا بد من أن يذكر الجنس والقدر والصفة(13/153)
فيقول: لي ألف دينار، ويبين الغرائب؛ فإنها تختلف. فإن اختلف الوزن في ذلك.. فلا بد من ذكر الوزن. وإن ادعى شيئا من غير الأثمان، فإن كان مما يضبط بالصفة.. وصفه بما يوصف به في السلم، ولا يفتقر إلى ذكر قيمته مع ذلك؛ لأنه يصير معلوما من غير ذكر قيمته. فإن ذكر قيمته.. كان آكد. وإن كان مما لا يضبط بالصفة، كالجواهر.. فلا بد من ذكر قيمته. وإن كان المدعى تالفا، فإن كان له مثل.. ذكر مثله، وإن ذكر قيمته مع ذلك.. كان آكد. وإن لم يكن له مثل.. لم يدع إلا بقيمته من نقد البلد؛ لأنه لا يجب له إلا ذلك. وإن كان المدعى أرضا أو دارا.. فلا بد أن يذكر اسمه، واسم الوادي، والبلد الذي هو فيه، وحدوده التي تليه. وإن ادعى عليه سيفا محلى بالفضة.. قومه بدنانير من الذهب. وإن كان محلى بالذهب.. قومه بدراهم من الفضة.. وإن كان محلى بالذهب والفضة.. قومه بالذهب أو الفضة؛ لأنه موضع ضرورة. وإن ادعى عليه مالا مجهولا من وصية أو إقرار.. صحت الدعوى؛ لأن الوصية والإقرار يصحان في المجهول، فصحت الدعوى بالمجهول منهما. وإن ادعى عليه دينا في ذمته أو عينا في يده.. فلا تفتقر إلى ذكر السبب الذي ملك به ذلك -قال الشيخ أبو حامد: وهو إجماع - ولأن المال يملك بجهات مختلفة من الابتياع والهبة والإرث والوصية وغير ذلك، وقد يملك ذلك من جهات ويشق عليه ذكر سبب كل درهم. وإن ادعى قتلا أو جراحا.. فلا بد من ذكر سببه، فيقول: عمدا أو خطأ أو عمد خطأ، ويصف العمد، والخطأ، وعمد الخطأ، ولا بد أن يذكر أنه انفرد بالجناية أو شاركه غيره فيها؛ لأن القصاص يجب بذلك. فإذا لم يذكر سببه.. لم يؤمن أن يستوفي القصاص فيما لا قصاص فيه. وإن ادعى عليه جراحة فيها أرش مقدر، كالموضحة من الحر.. لم يفتقر إلى ذكر الأرش في الدعوى. وإن لم يكن لها أرش مقدر، كالجراحة التي ليس لها أرش مقدر من الحر والجراحات كلها في العبيد.. فلا بد من ذكر الأرش في الدعوى؛ لأن الأرش غير مقدر في الشرع، فلم يكن بد من تقديره في الدعوى.(13/154)
[مسألة ادعاء رجل نكاح امرأة]
وإن ادعى رجل على امرأة نكاحا.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا تسمع دعواه حتى يقول: نكحتها بولي، وشاهدي عدل، ورضاها) . فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أوجه:
فـ[الأول] : منهم من قال: لا يجب ذكر ذلك في الدعوى، وما ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.. فإنه ذكره على طريق الاستحباب - وبه قال مالك وأبو حنيفة - كما يستحب له أن يمتحن الشهود إذا ارتاب بهم؛ لأنها دعوى ملك، فلم يفتقر إلى ذكر سببه، كدعوى المال، ولأنه لما لم يفتقر في الدعوى في النكاح إلى أنها خالية من العدة والإحرام والردة.. لم يفتقر إلى ذكر الولي والشاهدين ورضاهما؛ لأن الجميع شرط في صحة النكاح.
و [الثاني] : منهم من قال: يجب ذكر ذلك في دعوى النكاح - وبه قال أحمد - لأن الناس مختلفون في شروط النكاح، فمنهم من شرط الولي والشهود، ومنهم من شرط الولي دون الشهود، ومنهم من لم يشرط الولي والشهود، فلم يكن بد من ذكر الشرائط التي وقع عليها ذكر العقد؛ لئلا يكون النكاح وقع على جهة يعتقد الحاكم بطلانها. ولأن النكاح يحصل فيه الوطء ولا يمكن تلافيه إذا وقع، فكان كالقتل لا بد من ذكر سببه في الدعوى.
و [الثالث] : منهم من قال: إن كان يدعي عقد النكاح.. وجب ذكر هذه الأسباب؛ لأنها شرط في العقد. وإن كان لا يدعي العقد وإنما يدعي استدامة النكاح؛ بأن يقول: هي زوجتي.. لم يجب ذكر هذه الأسباب في الدعوى؛ لأن هذه الشرائط لا تشترط في استدامة النكاح، ولأن استدامة النكاح ثبتت بالاستفاضة، والعقد لا يثبت بالاستفاضة.(13/155)
هذا ترتيب أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: هل يستحب ذكر هذه الأسباب في الدعوى في ابتداء النكاح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يستحب.
والثاني: يجب. فإذا قلنا: يجب.. ففيه معنيان:
أحدهما: لاختلاف الناس في هذه الأشياء في عقد النكاح.
والثاني: لأجل الاحتياط في الأبضاع.
وإن ادعى استدامة النكاح.. فهل يجب ذكر هذه الأسباب في الدعوى؟
إن قلنا: إن المعنى في الدعوى في ابتداء النكاح اختلاف الناس فيها.. لم يجب ذكرها هاهنا؛ لأنه لا خلاف بينهم فيها في الاستدامة. وإن قلنا: المعنى هناك الاحتياط في الأبضاع.. وجب ذكرها في الدعوى في الاستدامة؛ لأن هذا المعنى موجود هاهنا. فإن ادعى نكاح أمة، وقلنا: يجب ذكر الشروط في الدعوى في النكاح.. فهل يجب عليه أن يذكر في دعوى نكاح الأمة عدم الطول وخوف العنت؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يجب ذكر ذلك؛ لأنهما شرطان في النكاح فوجب ذكرهما، كما قلنا في الولي والشاهدين. ومنهم من قال: لا يجب ذكرهما، كما لا يجب ذكر خلوها من العدة والردة والإحرام. والأول أصح.
إذا ثبت هذا: وادعى رجل على امرأة نكاحا.. نظرت:
فإن أقرت له بالنكاح.. ففيه قولان، حكاهما القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، والمسعودي [في " الإبانة "] :
[أحدهما] : قال في القديم: (لا يثبت النكاح) ؛ لأنها ليست من أهل مباشرة عقد النكاح، فلم يقبل إقرارها به، كالصبي.
قال ابن الصباغ: فعلى هذا: لا يثبت النكاح إلا بالبينة، إلا أن يكون في الغربة لتعذر البينة.(13/156)
و [الثاني] : قال في الجديد: (يثبت النكاح) . ولم يحك الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا غيره، وهو الأصح؛ لأنها مقبولة الإقرار، فقبل إقرارها في النكاح، كالرجل.
وأما ما قاله الأول: يبطل بالمحرم؛ فإنه لا يملك عقد شراء الصيد ويصح إقراره بشرائه. فإن أنكرت النكاح ولا بينة.. كان القول قولها مع يمينها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» . فإن حلفت له.. سقطت دعواه، وإن نكلت.. ردت اليمين عليه، فإذا حلف.. ثبت النكاح. فإن قلنا بقوله القديم، وأن النكاح لا يثبت بإقرارها.. فهل تحلف؟ قال ابن الصباغ: لا تحلف؛ لأن اليمين إنما يعرض لتخاف فتقر، ولو أقرت.. لم يقبل إقرارها، فلا فائدة في عرض اليمين. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وهل تحلف على هذا القول؟ فيه قولان، بناء على أن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه: هل تحل محل إقرار المدعى عليه، أو تحل محل البينة من جهة المدعي؟ فإن قلنا: إنها تحل محل إقرار المدعى عليه.. لم تحلف؛ لأنها إن نكلت وردت اليمين، فحلف.. كانت يمينه كإقرارها، وإقرارها لا يقبل. وإن قلنا: إن يمينه كبينة يقيمها المدعي.. عرضت عليها اليمين؛ لجواز أن تنكل عن اليمين فيحلف الزوج فتكون كبينة أقامها، وبينته مسموعة.
[فرع دعوى امرأة نكاح رجل]
وإن ادعت امرأة على رجل نكاحا.. فهل تسمع دعواها؟ ينظر فيها:
فإن ادعت مع النكاح حقا من حقوق النكاح، كالمهر والنفقة أو غير ذلك.. سمعت دعواها، وإن لم تدع غير النكاح.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تسمع دعواها؛ لأن النكاح حق للزوج عليها؛ لأن الملك له ومن أقر لغيره بملك شيء في يده وأنكر المقر له.. لم يقبل إقراره له.
والثاني: تسمع دعواها؛ لأن النكاح يتضمن وجوب حقوق لها عليه من المهر والنفقة،(13/157)
فصارت دعواها للنكاح متضمنة لدعواها في هذه الحقوق، فسمعت دعواها.
وكل موضع سمعت دعواها في النكاح.. فهل يجب ذكر شروط العقد في الدعوى؟ على الأوجه التي ذكرناها في دعوى الرجل.
ثم ينظر في الرجل: فإن أقر بالنكاح.. ثبت النكاح، وإن أنكر.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات ": إنها تحرم عليه بإنكاره وإن أقامت البينة على النكاح. وقال الشيخ أبو حامد: لا يكون إنكاره طلاقا، وهو المنصوص في " الأم "؛ فإنه قال: (إذا أنكر.. كلفت البينة، فإن أقامت البينة.. ثبت النكاح، وإن لم تقم البينة.. فالقول قول الزوج مع يمينه، فإن حلف لها.. سقطت دعواها، وإن نكل.. ردت اليمين عليها، فإن حلفت.. ألزمته النكاح) .
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا أنكر.. جعل كأنه لا نكاح بينهما، فإن رجع عن الإنكار.. قبل رجوعه، وجعلت زوجة له، وهذا كما لو قال: راجعتك قبل انقضاء العدة، فقالت: لا، بل بعد انقضاء العدة.. فالقول قولها، ويجعل كأنه لا رجعة له فيه، فلو رجعت عن الإنكار.. ثبتت الرجعة.
قال: ونص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما يقرب من هذه، وهو: (لو أن حرا تزوج أمة، ثم قال: كنت واجدا للطول عند التزويج.. فرق بينهما، وهل تلك الفرقة تكون طلاقا أو فسخا؟ فيه قولان) . قال القفال: فلو رجع عن قوله وقال: كذبت، بل كنت عادما للطول.. قبل قوله.
[فرع ادعاء عقد بيع أو صلح أو هبة في عبد ونحوه]
وإن ادعى عليه عقد بيع في عبد أو أرض، أو عقد صلح أو إجارة، وما أشبه ذلك.. فهل يجب فيه ذكر شروط العقد في الدعوى؟
إن قلنا: لا يجب ذكر شروط عقد النكاح في دعوى النكاح.. لم يجب هاهنا.
وإن قلنا: يجب في النكاح.. فهاهنا وجهان:(13/158)
أحدهما: يجب؛ لأنه دعوى عقد، فافتقر إلى ذكر شروطه في الدعوى، كدعوى عقد النكاح. فعلى هذا القول: يقول: عقدنا بثمن معلوم من جائزي التصرف وتفرقنا عن تراض.
والثاني: لا يجب ذكر شروط العقد في الدعوى؛ لأن الدعوى متعلقة بالمال، فلم يفتقر إلى ذكر سبب الملك، كما لو ادعى المال مطلقا.
فإذا قلنا بهذا: وكانت الدعوى في البيع أو الشراء في الجارية.. فهل يفتقر إلى ذكر الشروط في الدعوى؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يفتقر؛ لأنه يدعي مالا، فهو كما لو ادعى ذلك في العبد.
والثاني: يفتقر إلى ذكر الشروط في الدعوى؛ لأنه عقد يستباح به البضع، فأشبه عقد النكاح.
وقال المسعودي [في " الإبانة "] : وإذا ادعى عليه أنه وهب منه شيئا أو باع منه شيئا.. فلا تسمع هذه الدعوى حتى يقول المدعي: يلزمه تسليمه إلي؛ لجواز أنه وهب منه شيئا، ثم رجع عن الهبة قبل القبض، أو فسخ البيع بعد القبض.
[فرع ادعى القرض أو الغصب أو البيع أو الهبة ونفاه الآخر]
وإن ادعى عليه أنه أقرضه أو غصب منه شيئا، فإن قال المدعى عليه: ما أقرضتني، أو ما غصبت منك شيئا.. صح الجواب؛ لأنه أجاب عما ادعى عليه.
وإن قال: لا تستحق علي شيئا، أو لا يلزمني شيء مما ادعيت به علي.. صح الجواب، ولا يكلف الجواب: أنه ما اقترض منه؛ لأنه قد يقترض منه ثم يقضيه أو يبرئه. فإن أنكره.. كان كاذبا، وإن أقر له بذلك.. احتاج أن يقيم البينة على القضاء أو البراءة، فيستضر بذلك. وإن ادعى عليه أنه باع منه شيئا أو وهب منه شيئا، فإن قال المدعى عليه: ما بعت منك ولا وهبت منك.. صح الجواب. فإن قال: لا تستحق ذلك علي، أو لا يلزمني تسليمه إليك.. صح الجواب ولا يستحق؛ لأنه قد يبيعه أو يهبه منه، ثم يفسخ، فلم يكلف الجواب على نفي البيع والهبة.(13/159)
[مسألة ادعى على رجل دينا في ذمته أو عينا في يده فأنكره]
وإن ادعى رجل على رجل دينا في ذمته، فأنكره ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم.. لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» ، ولأن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله.
وإن ادعى رجل على رجل عينا في يده، فأنكره ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما روى وائل بن حجر: «أن رجلا من حضرموت أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه رجل من كندة، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: أرضي، وفي يدي أزرعها، ولا حق له فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: "ألك بينة؟ " فقال: لا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لك يمينه"، فقال: إنه فاجر لا يبالي على ما حلف، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ليس لك منه إلا ذلك» ، «وروي عن الأشعث: أنه قال: كانت أرض بيني وبين يهودي فجحدني، فأتيت به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لي: " ألك بينة؟ " فقلت: لا، فقال اليهودي: أحلف، فقلت: إذن يحلف ويذهب بالمال» ولأن اليد تدل على الملك، فكانت جنبته أقوى، فكان القول قوله.
[فرع اختلفا في عين أنها لكل ولا بينة]
وإن كان في يد رجلين عين، فادعى كل واحد منهما جميعها ولا بينة لأحدهما..(13/160)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (حلف كل واحد منهما لصاحبه على نفي ما ادعاه) .
قال أصحابنا: ليس هذا على ظاهره؛ لأن كل واحد منهما يدعي جميعها، وليس في يد كل واحد منهما إلا نصفها، بل يجب على كل واحد منهما أن يحلف لصاحبه على النصف الذي هو في يده، فإن حلف كل واحد منهما لصاحبه.. قسمت العين بينهما نصفين؛ لما روى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين تنازعا دابة، وليس لأحد منهما بينة، فجعلها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما [نصفين] » ، ولا يكون ذلك إلا إذا حلف كل واحد منهما لصاحبه. فإن حلف أحدهما لصاحبه ونكل الآخر.. ردت اليمين على الحالف، فإن حلف على النصف الذي في يد الناكل.. قضي له بجميعها.
[مسألة تداعيا عينا وأقام واحد بينة]
وإن تداعيا عينا وأقام أحدهما بينة.. قضي بها لصاحب البينة، سواء كانت العين في يد صاحب البينة أو في يد المدعي الآخر أو في يد ثالث أو لا يد لأحد عليها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» ، فبدأ بالحكم بالبينة، فدل على أنها أقوى حجة، وهذا قد أقام البينة فحكم له بها.
وإن ادعيا عينا في يد أحدهما، وأقام كل واحد منهما بينة.. حكم بها لصاحب اليد. وبه قال شريح، والنخعي، والحكم، ومالك، وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة: (إذا أقام المدعي البينة، ثم أراد المدعى عليه أن يقيم البينة في مقابلته.. نظرت: فإن كانت تشهد بملك مطلق أو بملك مضاف إلى سبب يتكرر ذلك السبب؛ مثل أن تكون الدعوى في آنية تسبك وتصاغ ثانيا وثالثا، أو في ثوب كتان أو صوف ينقض ثم ينسج.. لم تسمع بينته. وإن كانت بينته تشهد بملك مضاف إلى سبب(13/161)
لا يتكرر؛ مثل أن تكون الدعوى في الدابة وشهدت بينة المدعي أن الدابة له نتجت في ملكه، وشهدت بينة المدعى عليه أنها له نتجت في ملكه.. فهاهنا بينة الذي لا يد له عليها أولى من بينة صاحب اليد) . وقال أحمد: (بينة من لا يد له أولى بكل حال) .
دليلنا: ما روي: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دابة، وأقام كل واحد منهما بينة أنها له نتجت في ملكه، فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدابة لمن هي في يده» . ولأن كل واحد منهما معه بينة، ومع أحدهما ترجيح باليد فقدمت بينته، كالخبرين إذا تعارضا ومع أحدهما ترجيح.
إذا ثبت هذا: فهل يجب على صاحب اليد أن يحلف مع بينته؟ حكى أكثر أصحابنا فيها وجهين، المنصوص: (أنه لا يجب عليه أن يحلف مع بينته) .
وحكى ابن الصباغ في ذلك قولين، بناء على البينتين إذا تعارضتا، وفيهما قولان: أحدهما: تسقطان. فعلى هذا: لا بد أن يحلف صاحب اليد.
والثاني: تستعملان. فعلى هذا: ترجح بينة صاحب اليد بيده، فلا يجب عليه أن يحلف، وإنما تسمع بينة صاحب اليد بعد أن يقيم المدعي الذي لا يد له بينته؛ ليعارض بها بينة الخارج. فإن أراد صاحب اليد أن يقيم بينته قبل أن يقيم الذي لا يد له بينة.. فهل تسمع بينته؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي العباس بن سريج -: أنها تسمع؛ لأنها مسموعة في الحكم، فسمعت كما لو أقامها بعد أن أقام خصمه بينته.
والثاني: لا تسمع، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه محكوم له بالملك بمجرد(13/162)
اليد، فلا فائدة في إقامة البينة. وهل تقبل بينة صاحب اليد بالملك له مطلقا من غير ذكر سبب الملك؟ فيه وجهان، حكاهما بعض أصحابنا قولين:
[أحدهما] : قال في القديم: (لا تقبل حتى يضيفه إلى سبب) ؛ لأنها قد تشهد له بالملك لأجل اليد.
و [الثاني] : قال في الجديد: (تقبل مطلقا) ، وهو الأصح؛ لأن الظاهر من حالهم أنهم لم يتعمدوا في شهادتهم يدا منازعة، وإنما شهدوا بالملك بأمر عرفوه غير اليد.
[فرع إقامة من ليس له يد بينة ثم إقامة صاحب اليد بينة]
وإن كانت العين في يد أحدهما، فأقام الذي لا يد له بينة، فحكم له بها وسلمت العين إليه، ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له.. نقض الحكم الأول وسلمت العين إلى صاحب اليد الأول؛ لأنا حكمنا لمن لا يد له ظنا منا أنه لا بينة لصاحب اليد، فإذا أقام البينة.. فقد بان أن له يدا وبينة، فقدمت بينته على بينة الآخر.
[مسألة ادعيا عينا لا يد لهما عليها أو كانت في يد ثالث]
إذا ادعى رجلان عينا في يد ثالث، أو لا يد لأحدهما عليها، وأقام كل واحد من المدعيين بينة أن جميعها له.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البينتين تسقطان، فيكون كما لو لم تكن معهما بينة - وبه قال مالك - لأن كل واحدة من البينتين أثبتت الملك لمن شهدت له، ولا يمكن أن يكون الشيء ملكا للاثنين في حالة واحدة ولا مزية لإحداهما على الأخرى فسقطتا، ولأنهما أوقعتا إشكالا في حق المالك منهما فسقطتا، كما لو شهدت البينة بملك عين لأحد الرجلين لا بعينه.(13/163)
والثاني: لا تسقطان، بل تستعملان؛ لأنهما حجتان تعارضتا، فإذا أمكن استعمالهما.. لم يسقطا، كالخبرين إذا تعارضا في الحادثة وأمكن استعمالهما.
فإذا قلنا: تستعملان.. ففي كيفية استعمالهما ثلاثة أقوال:
أحدها: يوقف الأمر إلى أن يصطلحا. قال الربيع: وهو الأصح؛ لأن إحداهما صادقة في الباطن والأخرى كاذبة، ويرجى انكشاف الصادقة منهما، فوجب التوقف إلى أن نتبين الصادقة، كما لو زوج المرأة وليان لها من رجلين وسبق أحدهما وأشكل السابق.
والثاني: تقسم العين بين المدعيين - وبه قال ابن عمر وابن الزبير والثوري وأبو حنيفة - لما روى تميم الطائي: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شيء، فأقام كل واحد منهما بينة أنه له، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما نصفين» . وروى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير، فأقام كل واحد منهما بينة أنه له، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» ، ولأن البينة حجة كاليد، ولو كان لكل واحد منهما يد.. لقسمت العين بينهما، فكذلك إذا كان لكل واحد منهما بينة.
والقول الثالث: أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالعين؛ لما روى سعيد بن المسيب: «أن قوما اختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتساوت بيناتهم في العدالة والعدد، فأسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم، وقضى للذي خرج له السهم» ، ولأن المدعيين(13/164)
قد تساويا في الدعوى والبينة فأقرع بينهما، كما لو أعتق رجل في مرض موته عبيدا لا يخرجون من ثلثه. فإذا قلنا بهذا: فهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان:
أحدهما: يحلف؛ لأن القرعة ضعيفة، فرجحت باليمين ورجحت بهما البينة، فيكونان بمجموعهما قائمين مقام اليد التي تترجح بها إحدى البينتين.
والثاني: لا يجب عليه أن يحلف، وهو الأصح؛ لأن البينة ترجحت بالقرعة؛ لأن كل دليلين تقابلا ووجد مع أحدهما ترجيح.. قدم ولم يطلب ترجيح آخر، كما لو كان مع إحدى البينتين يد.
والصحيح هو الأول: أنهما تسقطان، وحديث تميم الطائي ضعيف، وحديث أبي موسى الأشعري محمول على أن البعير كان في أيديهما، وحديث ابن المسيب مرسل وعلى أنه لم يذكر عن أي شيء كان، ويحتمل أنه كان في العتق.
[فرع زيادة بينة أحدهما على الآخر بعدد أو غيره]
وأنواع البينة] : وإن كانت بينة أحدهما شاهدين، وبينة الآخر أربعة أو أكثر.. فنقل أصحابنا البغداديون: أنهما متعارضتان ولا ترجح بكثرة العدد. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أن الشافعي قال في القديم: (ترجح البينة بكثرة عدد الشهود) ، وحكى: أنه مذهب مالك. والمشهور عن الشافعي ومالك وأكثر أهل العلم هو الأول.
وقال الأوزاعي: (تقسم العين بيد المدعيين على عدد الشهود، فيكون لصاحب الشاهدين ثلث العين ولصاحب الأربعة ثلثاها) .
دليلنا: أن عدد الشهود أمر مقدر في الشرع، وما قدر في الشرع لا يدخل الاجتهاد فيه كالدية لما قدرت في الشرع.. لم يجز أن يدخل فيها الاجتهاد، باختلاف(13/165)
المقتول في الطول والعرض والقصر.. وإن أقام كل واحد منهما بينة عادلة إلا أن بينة أحدهما أعلم وأعف وأشهر في العدالة.. فإنها لا تقدم على بينة الآخر فيما تعارضتا فيه. وقال مالك: (تقدم البينة التي هي أعف وأعلم وأشهر في العدالة) .
وحكى المسعودي [في " الإبانة "] : أنه قول آخر للشافعي. والمشهور عنه هو الأول؛ لأنهما متساويتان في العدالة المعتبرة، فكانتا متعارضتين، كما لو استويا في العدالة. فإن أقام أحدهما شاهدين، وأقام الآخر شاهدا وأراد أن يحلف معه، أو شاهدا وامرأتين.. ففيهما قولان:
أحدهما: أنهما متعارضتان؛ لأنهما متساويتان في إثبات المال.
والثاني: يقضي لمن معه الشاهدان على من معه الشاهد واليمين، ولمن معه الشاهد والمرأتان على من معه الشاهد واليمين؛ لأنها بينة مجمع عليها، والشاهد واليمين مختلف فيها.
[فرع عين في يد رجل وادعى آخر ملك جميعها وثالث ملك نصفها]
إذا كانت عين في يد رجل، فادعى رجل ملك جميعها، وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر ملك نصفها، وأقام على ذلك بينة.. فإن للذي ادعى جميعها نصفها؛ لأنه لم تعارض بينته فيه بينة الآخر. وأما النصف الآخر.. فقد تعارض فيه البينتان.
فإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا، سقطتا.. رجع إلى مَنِ الْعَيْنُ في يده، فإن ادعى ذلك النصف لنفسه.. حلف لكل واحد منهما يمينا. وإن أقر به لأحدهما.. كان له، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان، يأتي بيانهما. وإن أقر به لهما.. كان بينهما، وهل يحلف لكل واحد منهما على الربع؟ على القولين. وإن قلنا: تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقف ذلك النصف إلى أن يصطلحا عليه. وإن قلنا: يقسم.. قسم ذلك النصف بينهما نصفين، فيكون لمدعي الجميع ثلاثة أرباع العين،(13/166)
ولمدعي النصف ربعها. وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما عليه، وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ على قولين. وقال أبو العباس بن سريج: إذا قلنا: إن البينتين تسقطان في النصف الذي تعارضتا فيه.. فهل تسقط بينة مدعي الجميع في النصف الآخر؟ فيه قولان، بناء على أن البينة إذا ردت في بعض شيء.. فهل ترد في الباقي؟ فيه قولان، وهو اختيار القاضي أبي الطيب والمسعودي [في " الإبانة "] . وقال الشيخ أبو حامد: والأول أصح؛ لأن القولين إنما هما إذا ردت الشهادة في بعض الشيء للتهمة، فأما للتعارض.. فلا ترد قولا واحدا، ألا ترى أنا إذا قلنا: يقسم المشهود به.. فقد أسقطنا البينة في بعض ما شهدت به، ولا تسقط في الباقي؟.
[فرع في يديهما عين وادعاها كلاهما والآخر ثلثها]
وإن كانت العين في يد رجلين، فادعى كل واحد منهما جميعها، وأقام على ما ادعاه بينة.. فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق: أن الحكم فيه كما لو ادعى كل واحد منهما جميعها وأقام على ذلك بينة، والعين في يد غيرهما أو لا يد لأحدهما عليها.
وقال الشيخ أبو حامد: تكون العين بينهما، وهل يحتاج كل واحد منهما أن يحلف على النصف الذي في يده مع بينته؟ فيه قولان؛ لأن لكل واحد منهما يدا وبينة على النصف، فهو كما لو أقام كل واحد منهما بينة والعين في يد أحدهما؛ فإنه يقضى بها لصاحب اليد، وهل يحلف مع بينته؟ فيه قولان. وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قلنا: تسقط البينتان عند التعارض.. كان كما لو لم يقيما بينة، فيحلفان وتقسم بينهما. وإن قلنا: تستعملان.. فيجيء فيه قول القسمة، ولا يجيء فيه قول الوقف؛ لأنه لا معنى للوقف مع ثبوت اليد، وهل تجيء فيه القرعة؟ فيه وجهان.
وإن كانت العين في يد رجلين، فادعى أحدهما جميعها، وادعى الآخر ثلثها، وأقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه.. فإنه يقضى لمدعي ثلثها بثلثها؛ لأن له اليد على نصفها إلا أن بينته لم تشهد له إلا بثلثها، فقضي له بها. ويقضى لمدعي الجميع بثلثيها؛ لأن له يدا وبينة على نصفها، وله بينة بسدسها وللآخر فيه يد بلا بينة، والبينة مقدمة على اليد.(13/167)
[مسألة دار بيد ثلاثة وادعى كل منهم حصة]
قال الشافعي: (ولو كانت الدار في يد ثلاث أنفس، فادعى أحدهم النصف، والآخر الثلث، والآخر السدس وجحد بعضهم بعضا.. فهي لهم على ما في أيديهم، ثلثا ثلثا) .
فاعترض معترض على الشافعي، فقال: كيف يجعل لمدعي السدس الثلث وهو لا يدعي إلا السدس؟ فقال أصحابنا: أراد الشافعي بما ذكره: إذا كانت الدار بين ثلاثة، فادعى كل واحد منهم جميع الدار إلا أن أحدهم قال: نصفها ملكي والنصف الآخر وديعة في يدي لرجل غائب أو عارية، وقال الآخر: ثلثها ملكي وثلثاها وديعة عندي أو عارية، وقال الثالث: سدسها ملكي والباقي منها وديعة عندي أو عارية.. فإنه يجعل لكل واحد منهم هاهنا ثلث الدار، كما قال الشافعي؛ لأن يده ثابتة عليه.
والدليل على أنه أراد ذلك: أنه قال: (وجحد بعضهم بعضا) ، ولا يتصور التجاحد بينهم إلى على ما ذكرناه.
فأما إذا كانت في أيديهم وادعى أحدهم ملك نصفها لا غير، وادعى الثاني ملك ثلثها لا غير، وادعى الثالث ملك سدسها لا غير، وأقام كل واحد منهم بينة على ما ادعاه.. فإنه يحكم لمدعي الثلث بالثلث؛ لأن له فيه يدا وبينة، ويحكم لمدعي السدس بالسدس؛ لأن له فيه يدا وبينة، وأما مدعي النصف.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أنه يحكم له بنصف الدار؛ لأن له يدا على الثلث وبينة، وله بينة على السدس في يد مدعي السدس، وليس لمدعي السدس عليه إلا يد ولا يدعيه، فيحكم به لمدعي النصف.
والثاني: أنه يحكم لمدعي النصف بالثلث الذي في يده، ويحكم له بنصف السدس مما في يد مدعي السدس، فبقي في يد مدعي السدس السدس ونصف السدس؛ لأن مدعي النصف إنما يدعي السدس الزائد على الثلث مما في يد مدعي(13/168)
الثلث ومدعي السدس؛ بدليل: أنه لو لم يكن معه بينة.. لكان له أن يستحلفهما عليه، فإذا كان ذلك مشاعا بينهم.. لم يكن له أن يأخذ شيئا مما في يد مدعي الثلث؛ لأن له فيه يدا وبينة، فلم يبق له إلا نصف السدس مما في يد صاحب السدس.
[فرع دار في يد ثلاثة وادعاها أحدهم والثاني نصفها والثالث ثلثها]
فرع: [دار في يد ثلاثة وادعاها أحدهم والثاني نصفها ولهما بينة والثالث ثلثها ولا بينة] :
وإن كانت الدار في يد ثلاثة، فادعى أحدهم ملك جميعها وأقام على ذلك بينة، وادعى الثاني ملك نصفها وأقام على ذلك بينة، وادعى الثالث ملك ثلثها ولا بينة له.. فإنه يحكم لمدعي الكل بالثلث الذي في يده؛ لأن له فيه يدا وبينة. ويحكم لمدعي النصف بالثلث الذي في يده؛ لأن له فيه يدا وبينة. وأما الثلث الذي في يد الثالث.. فإنه يحكم بنصفه -وهو السدس- لمدعي جميعها؛ لأن له فيه بينة لا تعارضها فيه بينة الآخر. وأما السدس الباقي في يد مدعي الثلث.. فقد تعارضت فيه بينة مدعي الجميع وبينة مدعي النصف، فإذا قلنا: تسقطان.. رجع فيه إلى قول من هو في يده. وإن قلنا: تستعملان: فإن قلنا بالوقف.. وقف، وإن قلنا: بالقسم.. قسم بينهما، وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما.
[فرع دار في يد أربعة أو يد غيرهم وادعى كل منهم حصة]
وإن كانت دار في يد أربعة رجال، فادعى أحدهم ملك جميعها، وادعى الثاني ملك ثلثيها، وادعى الثالث ملك نصفها، وادعى الرابع ملك ثلثها، فإن لم تكن مع واحد منهم بينة.. فالقول قول كل واحد منهم مع يمينه في الربع الذي في يده وتقسم بينهم أرباعا. وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه.. قضي لكل واحد منهم بالربع الذي في يده؛ لأن له فيه يدا وبينة. وإن كانت الدار في يد غيرهم، فإن لم يقم أحد منهم بينة.. فالقول قول من الدار في يده مع يمينه. وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه.. فإنه يحكم لمدعي الجميع بثلث الدار؛ لأن له فيه بينة لا تعارضها فيه بينة.(13/169)
وأما الثلثان: ففيه تعارض بالسدس الذي بين النصف والثلثين، تعارض فيه بينتان؛ بينة مدعي الجميع وبينة مدعي الثلثين. والسدس الذي بين النصف والثلث تعارض فيه ثلاث بينات؛ بينة مدعي الجميع، وبينة مدعي الثلثين، وبينة مدعي النصف. والثلث الباقي تعارض فيه الأرب البينات، فيبنى على القولين في البينتين إذا تعارضتا. فإن قلنا: تسقطان.. صار كما لو لم تكن بينة في الثلثين، فيكون القول قول من الدار في يده مع يمينه، فإن أنكرهم.. حلف لكل واحد منهم، وإن أقر به أو بشيء منه لبعضهم.. قبل إقراره له وهل يحلف للباقين؟ فيه قولان. وإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا استعملتا.. ففي كيفية الاستعمال الأقوال الثلاثة.
فإن قلنا بالوقف.. وقف الثلثان بينهم إلى أن يصطلحوا عليه.
وإن قلنا بالقسمة.. قسم السدس الذي بين النصف والثلثين: بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين نصفين، ويقسم السدس الذي بين النصف والثلث: بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين ومدعي النصف أثلاثا، ويقسم الثلث الباقي بين الأربعة أرباعا، فتصح من ستة وثلاثين سهما؛ لمدعي الجميع عشرون؛ اثنا عشر سهما منها ثلث الدار الذي لا ينازعه فيه غيره، وثلاثة أسهم هي نصف السدس الذي بين النصف والثلثين، وسهمان: ثلث السدس الذي بين النصف والثلث، وثلاثة أسهم هي ربع الثلث.(13/170)
ويحصل لمدعي الثلثين ثمانية أسهم؛ ثلاثة: نصف السدس الذي بين النصف والثلثين، وسهمان: ثلث السدس الذي بين النصف والثلث، وثلاثة أسهم: ربع الثلث الباقي. ويحصل لمدعي النصف خمسة أسهم؛ سهمان: ثلث السدس الذي بين النصف والثلث، وثلاثة: ربع الثلث الثالث الباقي.
ويحصل لمدعي الثلث ثلاثة أسهم لا غير، وهي ربع الثلث.
وإن قلنا بالقرعة.. فعلى هذا: يقرع في ثلاثة مواضع:
أحدها: في السدس الذي بين النصف والثلثين، بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين.
والثاني: في السدس الذي بين النصف والثلث، بين مدعي الجميع ومدعي الثلثين ومدعي النصف.
والثالث: في الثلث الباقي بين الأربعة.
فمن خرجت قرعته على شيء من ذلك.. كان ذلك الشيء له.
[مسألة عين في يد رجل أو يد أحدهما وشهدت البينة بملك متقدم لأحدهما]
وإن كانت عين في يد رجل، فادعى رجل ملكها وأقام بينة على أنها ملكه منذ سنتين لا يعلم أنه زال عنه إلى الآن، وادعى آخر أنها ملكه وأقام بينة أنها ملكه منذ سنة لا يعلم أنه زال عنه إلى هذه الحالة.. ففيه قولان:
أحدهما: يحكم لمن شهدت له البينة بالملك المتقدم - وبه قال أبو حنيفة والمزني - وهو الأصح؛ لأن البينة أثبتت له الملك في وقت لا تعارضها فيه البينة الأخرى؛ ولهذا: يجب له على المشهود عليه نماء تلك العين وأجرتها في تلك(13/171)
المدة، وإنما تعارضتا في إثبات الملك فيما بعد ذلك، فإذا سقطتا فيما تعارضتا فيه.. بقي إثبات الملك له فيما قبل ذلك، فوجب استدامته.
والثاني: أنهما سواء؛ لأن الاعتبار بالبينة إثبات الملك في الحال وهما متساويتان في ذلك.
فإذا قلنا بهذا: فهما متعارضتان، فإن قلنا: تسقطان عند التعارض.. كان القول قول من العين في يده، فإن ادعاه لنفسه.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر بها لأحدهما.. كانت له، وهل يحلف للآخر.. فيه قولان. وإن أقر بها لهما.. قسمت بينهما، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف؟ فيه قولان.
وإن قلنا: لا تسقطان، بل تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقفت العين بينهما إلى أن يصطلحا عليها، وإن قلنا بالقسمة.. قسمت بينهما، وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما. فإن كانت بحالها وشهدت بينة أحدهما أنها ملكه في الحال، وشهدت بينة الآخر أنها ملكه منذ شهر إلى هذه الحال.. فقال أكثر أصحابنا: هي على قولين كالتي قبلها. ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: هما سواء قولا واحدا.
وإن كانت العين في يد أحد المتداعيين، وشهدت بينة أحدهما أنها ملكه منذ سنة إلى هذه الحال، وشهدت بينة الآخر أنها ملكه منذ شهر إلى هذه الحال.. نظرت: فإن كانت الدار في يد من شهدت له البينة بالملك المتقدم.. حكم له بالعين قولا واحدا؛ لأن معه ترجيحين باليد والشهادة بتقادم الملك. وإن كانت في يد الآخر.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: يبنى على القولين فيها إذا كانت العين في يد غيرهما. فإن قلنا هناك: إنهما متعارضتان من جهة البينة ومع الآخر ترجيح.. فحكم بها لصاحب اليد؛ لأن البينتين قد تساويتا وانفرد صاحب اليد باليد، فحكم له بها. وإن قلنا: إنه يحكم بها لمن شهدت له البينة بالملك المتقدم.. حكم له بها هاهنا أيضا؛ لأن معه ترجيحا من جهة البينة، ومع الآخر ترجيحا من جهة اليد،(13/172)
والترجيح من جهة البينة يقدم على الترجيح من جهة اليد.
ومن أصحابنا من قال: يحكم بها لصاحب اليد قولا واحدا، وهو ظاهر المذهب؛ لأنهما متساويان في إثبات الملك في الحال، ولأحدهما مزية في إثبات الملك المتقدم، وللآخر مزية باليد الموجودة، واليد الموجودة أولى من إثبات الملك المتقدم. ألا ترى أنه لو كان في يد رجل عين وادعاها آخر وأقام بينة أنها كانت له منذ سنة.. فإنه لا يحكم له بها؟ فكذلك هذا مثله.
[فرع دابة أو زرع في يد رجل فادعاهما آخران وتقديم بينة الملك على اليد]
وإن كانت دابة في يد رجل، فادعاها رجلان، وأقام أحدهما بينة أنها ملكه في هذه الحال، وأقام الآخر بينة أنها ملكه في هذه الحال وأنها نتجت في ملكه.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس: فيه قولان، كما لو شهدت بينة أحدهما بملك متقدم:
أحدهما: أنهما سواء، فتكونان متعارضتين، والحكم في المتعارضتين ما ذكرنا فيما مضى.
والثاني: أن الذي شهدت بينته بالملك المتقدم أولى، فتقدم هاهنا بينة من شهدت له بالنتاج؛ لأن الشهادة بالنتاج كالشهادة بالملك المتقدم.
وقال أبو إسحاق: يحكم بها لمن شهدت البينة له بالنتاج قولا واحدا؛ لأن التي شهدت بالملك المتقدم لا تنفي أن يكون الملك لغيره فيما قبل هذه المدة ويجوز أن يكون الملك فيها لخصمه، والتي شهدت له بالنتاج في ملكه نفت أن يكون الملك فيها لغيره قبل النتاج. وإن ادعيا زرعا في يد غيرهما، فأقام أحدهما بينة أنه ملكه في هذه الحال، وأقام الآخر بينة أنه ملكه في هذه الحال وأنه زرعه في ملكه.. ففيه طريقان، كما قلنا فيمن شهدت له بينة بالملك وشهدت للآخر بينة بالملك والنتاج.(13/173)
قال في " الأم ": (وإن ادعى رجل دابة، وأقام بينة أنها ملكه منذ عشر سنين، فنظر الحاكم إلى الدابة فإذا لها سنتان.. لم يحكم للمدعي بالدابة؛ لأنه بان كذب بينته فيما شهدت به؛ لأن الدابة التي لها سنتان لا يجوز أن تكون ملكه منذ عشر سنين) .
وإن كان في يد رجل عين وادعاها آخر وأقام بينة أنها له منذ سنة، وأقام صاحب اليد بينة أنها في يده منذ سنتين.. قدمت بينة الخارج؛ لأنها تشهد بالملك، وبينة الآخر تشهد باليد، والملك مقدم على اليد.
[فرع عين في يد رجل وادعاها زيد وأقام بينة وسلمت له ثم ادعاها عمرو]
إذا كانت عين في يد رجل، فجاء زيد فادعاها وأقام عليها بينة، فحكم له بها وسلمت إليه، ثم جاء عمرو فادعاها وأقام عليها بينة.. قال أبو العباس: فقد تعارضت البينتان، فإن قلنا: تسقطان.. كان كما لو لم يكن بينة.
وإن قلنا: تستعملان.. فهل يحتاج زيد إلى إقامة بينة ليعارض بها بينة عمرو؟ يبنى على القولين في البينتين إذا كانت إحداهما تشهد في ملك متقدم: فإن قلنا: إن التي شهدت بالملك المتقدم تقدم على الأخرى.. لم يحتج زيد إلى إعادة بينة؛ لأنها ثابتة له في الحال وفيما قبل، فيكون كما لو أقامها في الحال. وإن قلنا: إن البينة التي شهدت بالملك المتقدم تساوي البينة الأخرى.. فهل يحتاج زيد إلى إعادة بينته؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يحتاج إلى إعادتها - وبه قال أبو حنيفة - لأنها قد أثبتت الملك له يوم الشهادة، والأصل بقاء ذلك الملك إلى أن يعلم خلافه.
والثاني: يحتاج إلى إعادة بينته؛ لأن حكم التعارض في الملك في الحال، وبينة زيد لم تشهد له بالملك في الحال، وإنما شهدت له بالملك في وقت متقدم، فلا بد أن يثبت له الملك في الحال؛ لتعارض البينة التي شهدت لعمرو بالملك في الحال.(13/174)
[مسألة ادعى عينا في يد آخر مع بينة أنها له فأنكرها الخصم]
مسألة: [ادعى عينا في يد آخر مع بينة أنها له أمس فأنكرها الخصم أو أقر أنها كانت في يده] :
وإن كان في يد رجل عين وادعاها آخر، فأنكر من هي في يده، وأقام المدعي بينة أنه كانت في يده أمس.. فقد نقل المزني والربيع: (أنه لا يحكم له بهذه الشهادة) ، ونقل البويطي: (أنه يحكم بها) . ولا فرق بين أن تشهد له باليد أو بالملك، إلا أن الشافعي لم ينص إلا على اليد، واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فقال أبو العباس: فيه قولان، قال: وأصلهما القولان في الرجلين إذا ادعيا عينا في يد غيرهما، وأقام أحدهما بينة أنها ملكه منذ سنة إلى هذه الحال، وأقام الآخر بينة أنها ملكه منذ شهر إلى هذه الحال: فإذا قلنا: إنهما سواء.. لم يحكم بهذه البينة. وإن قلنا: إن التي شهدت بالملك المتقدم أولى.. حكم بهذه البينة. فإذا قلنا: يحكم بها - وهو اختيار البويطي وأبى العباس - فوجهه: أن البينة أثبتت له اليد أو الملك أمس، والأصل بقاء ذلك إلى أن يعلم خلافه. وإذا قلنا: لا يحكم له بها -كما قال الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق - وهو الأصح.. فوجهه: أنه ادعى الملك في الحال، والبينة إنما شهدت له باليد أو بالملك أمس، فلم يحكم له بذلك، كما لو ادعى دارا وشهدت له بينة بغيرها. ولأنه لو ادعى أن هذه الدار كانت ملكا له أمس، ولم يدع ملكها في هذه الحال.. لم تسمع هذه الدعوى، فكذلك: إذا شهدت له البينة بملكها أمس ولم تثبت الملك له في هذه الحال.. فإنها لا تسمع، كالدعوى والشهادة بالمجهول. قال أبو إسحاق: لا يحكم بها قولا واحدا - لما ذكرناه- وما ذكره البويطي.. فهو مذهبه لا مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وقد حكى الربيع في "الأم" ما يدل على صحة ذلك؛ لأنه حكي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها: (أنه لا يحكم بالبينة) ، ثم قال: وقال أبو يعقوب البويطي: أنه يحكم بها، فتبين أنه مذهب البويطي، ويخالف الشهادة بالملك المتقدم؛ لأنهما قد شهدتا بالملك في الحال، وإنما انفردت إحداهما بإثبات الملك في زمان ماض فرجحت بذلك، وهاهنا لم تثبت البينة في الحال، فلم يحكم بها.
فإن شهدت البينة أنها كانت في يد المدعي أو في ملكه أمس، وأن فلانا أخذها منه أو قهره عليها أو غصبها منه، أو كانت العين عبدا فأبق.. قال أصحابنا: فإنه يحكم(13/175)
بهذه البينة قولا واحدا؛ لأنه لو علم أن سبب يد الثاني من جهته، فكان موجب قولها: (إن فلانا أخذها منه) أن له اليد لهذا، أو أن يد الثاني بغير حق، ويخالف إذا لم يذكر السبب؛ لأن اليد تدل على الملك والاستحقاق. قال أبو العباس: وإن ادعى رجل دارا في يد غيره، فأقر المدعى عليه أن هذه الدار كانت في يد المدعي، فإن قلنا: إن البينة إذا قامت له بذلك تقبل.. حكم له بها هاهنا بالإقرار. وإن قلنا: لا تقبل في البينة.. فهل يحكم له بها بالإقرار؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحكم له بها، كما لو قامت البينة بذلك.
والثاني: يحكم له بها؛ لأن البينة لا تنفي أن تكون في يد غيره قبل ذلك، فقد تعارضت البينتان في الوقت المتقدم، وانفرد من بيده الدار بيد موجودة في هذه الحال، فحكم له بها، فأسقط حكم البينة. وليس كذلك إذا أقر أن الدار كانت في يد المدعي؛ لأن بإقراره أسقط يد نفسه فجعلت اليد للمدعي، والأصل بقاؤها إلى أن يعلم زوالها. قال أبو العباس: إذا قال المدعى عليه: إنها كانت للمدعي.. فإنه يحكم بها للمقر له وجها واحدا؛ لأنه إذا أقر أنها كانت في يده.. لم يتضمن الإقرار بملكها، وإذا أقر أنها كانت في ملكه.. فلأنه أثبت الملك لغيره، فأسقط حق نفسه منها، فحكم بها للمقر له، وجها واحدا.
[فرع ادعى عينا موروثة في يد رجل فأنكره آخر فأقام بينة]
إذا ادعى رجل عينا في يد آخر فأنكره، فأقام المدعي بينة أنها ملك أبيه إلى أن مات وخلفها موروثة وهو وارثه.. فاختلف أصحابنا المتأخرون فيها: فمنهم من قال: هو كما لو أقام بينة أنها كانت في يده أو في ملكه أمس. ومنهم من قال: يحكم بها، وهو الأصح عندي مذهبا وحجاجا. أما (المذهب) : فلأن المزني والربيع نقلا: (لو أقام بينة أن أباه هلك وترك هذه الدار ميراثا له ولأخيه الغائب.. أخرجتها من يد من هي في يده) . ونقل المزني والربيع: (أنها إذا شهدت أنها كانت في يده.. لا تسمع) .(13/176)
ولم يقل أحد من أصحابنا المتقدمين: أنهما نقلا أن البينة بالملك بالأمس تسمع، بل أضافوا ذلك إلى البويطي. وأما (الحجاج) : فلأنه روي: أن الحضرمي «قال: يا رسول الله، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن هذا غلبني على أرض ورثتها من أبي - وروي: أنه قال: كانت لأبي- فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألك بينة؟ " فقال: لا» فدل على أنه لو أقام بينة على ما ادعاه.. لسمعت. ولأنه لو أقام بينة أنه اشتراها من مالكها.. حكم له بها، فلأن يحكم له بها إذا أضافها إلى الميراث أولى؛ لأنه أقوى.
[فرع في يديهما شاتان وادعى كل شاة صاحبه]
أو ادعاهما وماذا لو كانت شاة مسلوخة بينهما؟] :
إذا كان في يد رجلين شاتان في يد كل واحد منهما شاة، فادعى كل واحد منهما الشاة التي في يد صاحبه وأنها بنت الشاة التي في يده، وأقام كل واحد منهما البينة بذلك.. فإن البينتين متعارضتان في النتاج دون الملك، فيقضى لكل واحد منهما بالشاة التي في يد صاحبه؛ لأنه قد يملك الشاة ولا يملك أمها؛ بأن يوصى له بما في بطنها.
وإن كان في يد رجل شاتان، سوداء وبيضاء، فادعاهما رجل وأن السوداء ولدت البيضاء وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر ملكهما وأن البيضاء ولدت السوداء وأقام على ذلك بينة.. فقد تعارضت البينتان في النتاج والملك، فإن قلنا: إن البيتين إذا تعارضتا سقطتا.. رجع فيهما إلى قول من هما في يده. وإن قلنا: تستعملان.. فعلى الأقوال الثلاثة. وإن كان في يد رجل شاة مسلوخة، وفي يد آخر جلدها وسواقطها، فادعى كل واحد منهما ملك الشاة، وأقام على ذلك بينة.. حكم لكل واحد منهما بما في يده. وقال أبو حنيفة: (يقضى لكل واحد منهما بما في يد الآخر) .
دليلنا: أن لكل واحد منهما يدا وبينة بما معه، ولصاحبه فيه بينة بلا يد.. فحكم لمن اجتمعت له اليد والبينة في شيء واحد.
[فرع عند عمرو شاة حكم له بها وادعاها زيد]
إذا كان في يد عمرو شاة، فادعاها زيد، فقال عمرو: هذه لي حكم لي بها حاكم وسلمها إلي، وأقام على ذلك بينة، وأقام زيد بينة أنها له.. قال أبو العباس: نظر(13/177)
كيف وقع الحكم بها لعمرو؟ فإن كان قد حكم بها لعمرو على زيد؛ لأن البينة قامت لعمرو ولم تقم لزيد بينة وكانت في يد زيد.. فإنه ينقض ذلك الحكم؛ لأنه بان أن لزيد فيها يدا وبينة، ولعمرو فيها بينة بلا يد، فيقضى بها لصاحب اليد والبينة. وإن كان حكم بها لعمرو؛ لأن بينة عمرو عادلة، وبينة زيد غير عادلة.. أقرت في يد عمرو. وإن كان حكم بها لعمرو؛ لأنها كانت في يد زيد وقد أقام كل واحد منهما بينة، وكان الحاكم يرى الحكم ببينة الجارح.. لم ينقض حكمه؛ لأنه حكم بما يسوغ فيها الاجتهاد. وإن كان الحاكم حكم بها لعمرو بأنه سبق بالبينة، فقال: لا أسمع بينة بعدها.. نقض الحكم؛ لأنه حكم مخالف للإجماع. وإن لم يعلم كيف حكم بها الحاكم لعمرو.. قال أبو العباس: فيه وجهان:
أحدهما: أنه ينقض الحكم؛ لحصول بينة زيد.
والثاني: لا ينقض، وهو الأصح؛ لأن الظاهر أنه حكم بها لعمرو حكما صحيحا.
[فرع ادعى ثوبا في يد آخر فأنكره وأقام البينة أنه غصب منه]
قطنا ثم غزله ثم نسجه] :
قال أبو العباس: وإن ادعى رجل ثوبا في يد رجل فأنكره، فأقام المدعي بينة أنه غصب منه قطنا وغزل منه غزلا ونسج منه هذا الثوب.. حكم له بذلك؛ لأنه قد أثبت بالبينة أن هذا عين ماله وإنما تغيرت صفته، ثم يقابل بين قيمة القطن والغزل والثوب، فإن كان الثوب أكثر قيمة.. أخذ المغصوب منه الثوب ولا شيء للغاصب بزيادة قيمة الثوب. وإن كانت قيمة الثوب أنقص من قيمة القطن أو من قيمة الغزل.. كان للمغصوب فيه الثوب وما نقص من قيمة القطن أو الغزل. وإن كانت قيمة الغزل أنقص من قيمة القطن، وقيمة الثوب مثل قيمة القطن أو أكثر.. فالذي يقتضي المذهب: أنه يلزمه رد الثوب وما نقص من قيمة الغزل عن قيمة القطن؛ لأن بنقصان قيمة الغزل عن قيمة القطن.. لزم الغاصب ضمان ذلك، فلا يسقط عنه ذلك بزيادة قيمة الثوب.(13/178)
[مسألة ادعى عينا على رجل هي في يده فقال المدعى عليه هي لغيري]
وإن ادعى رجل على رجل عينا في يده، فقال من بيده العين: ليست لي، وإنما هي لفلان، فإن كان المقر له حاضرا وصدق المقر أنها له.. انتقلت الخصومة في العين إليه، فإن كان مع المدعي بينة.. حكم له بالعين، وإن لم يكن معه بينة.. كان القول قول المقر له مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه الدعوى، وإن نكل عن اليمين.. حلف المدعي واستحق العين. فإن لم تحصل العين للمدعي، وسأل من كانت العين في يده أن يحلف له: ما يعلم أن العين له.. فهل تلزمه اليمين؟ فيه قولان، بناء على من أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو.. فإن الدار تسلم إلى زيد ولا يقبل إقراره لعمرو في الدار، ولكن: هل يلزمه أن يغرم قيمة الدار لعمرو؟ فيه قولان. فإن قلنا: يلزمه أن يغرم.. لزمه هاهنا أن يحلف؛ لأنه قد يخاف من اليمين فيقر بالعين للمدعي، فيغرم له قيمتها. وإن قلنا: لا يلزمه أن يغرم لعمرو شيئا.. لم يلزمه هاهنا أن يحلف؛ لأنه لو خاف من اليمين فأقر بها للمدعي.. لم يفد إقراره شيئا، فلا فائدة في عرض اليمين. فإن قال المقر له: ليست العين لي، ولا بينة للمدعي.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الحاكم ينتزعها ممن هي في يده ويحفظها إلى أن يجيء من يدعيها ويقيم عليها البينة؛ لأن من في يده العين قد أسقط حقه منها بالإقرار، والمقر له قد أسقط حقه منها برد الإقرار، ولا بينة للمدعي، فصارت كلقطة لا يعرف مالكها، فكان على الحاكم حفظها.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنها تسلم إلى المدعي؛ لأنه ليس هاهنا من يدعيها غيره.
والثالث - حكاه ابن الصباغ -: أنه يقال له: من أقررت له قد رده، فإما أن تدعيها لنفسك فتكون الخصم، أو تقر بها لمن يصدقك فيكون الخصم، فإن لم تفعل.. جعلناك ناكلا، وحلفنا المدعي وسلمناها إليه.
والأول أصح؛ لأن على ما قال أبو إسحاق: تدفع العين إلى المدعي بمجرد الدعوى، وهذا لا يجوز. وعلى قول من قال: إن المقر يدعيها لنفسه.. لا يصح؛(13/179)
لأنه قد أقر أنه لا يملكها، فكيف يقبل قوله بعد ذلك أنه يملكها؟ وإن أقر بها من هي في يده لغائب معروف.. نظرت: فإن لم يكن مع المدعي بينة.. سقطت الخصومة بينه وبين من في يده العين؛ لأنه له حجة له، ويوقف الأمر إلى أن يقدم الغائب. فإن قال المدعي: يحلف لي من العين في يده: ما يعلم أن العين لي.. فهل يلزمه أن يحلف؟
فيه قولان، مضى ذكرهما. وإن كان مع المدعي بينة فأقامها، ولا بينة مع من بيده العين.. فإنه يحكم ببينة المدعي، وهل يحتاج إلى أن يحلف مع البينة؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : من أصحابنا من قال: يحتاج أن يحلف مع البينة؛ لأنه قضاء على الغائب، والقضاء على الغائب لا بد فيه من اليمين.
و [الثاني] : قال أبو إسحاق: لا يجب عليه أن يحلف، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فإذا أقام المدعي البينة.. قضي له على الذي هي في يده) ، ولم يذكر اليمين. ولأنه قضاء على الحاضر. وإن كان مع المقر بينة أن العين للمقر له وأقامها.. فإنها تسمع، فإن لم يدع المقر أنه وكيل للغائب ولا أن العين في يده وديعة ولا إجارة.. فإن بينة المدعي تقدم على بينة الغائب؛ لأن البينة إنما يحكم بها إذا أقامها المدعي أو وكيله. فلم يحكم بها كما لو أفلس رجل وأراد الحاكم قسمة ماله بين غرمائه، أو مات رجل وأراد الحاكم قسمة ماله بين ورثته، وشهد شاهدان: أن هذه العين لفلان الغائب.. فإنه لا يحكم بهذه العين للغائب. فإن قيل: فإذا كانت هذه البينة إذا أقامها المقر لا يحكم له بها.. فلم قلتم: يسمعها الحاكم؟ فالجواب: أن سماعها يفيد أمرين:
أحدهما: أنه ينفي عن نفسه التهمة بالإقرار إذا أقامها.
والثاني: أنه إذا أقامها.. فلا يقضي للمدعي ببينته إلا مع يمينه وجها واحدا؛ لأنه قضاء على الغائب.
وإن ادعى المقر: أن العين في يده رهن أو إجارة من الغائب، وأقام البينة أن العين للغائب.. ففيه وجهان:
أحدهما: تقدم بينة الغائب على بينة المدعي؛ لأنه يدعي حقا لنفسه ومعه يد وبينة، فقدمت على بينة بلا يد.(13/180)
والثاني - وهو المنصوص -: (أنه لا يحكم ببينة المقر) ؛ لأن الرهن والإجارة إنما يثبتان بعد ثبوت الملك للراهن والمؤاجر، ولم يثبت له ملك العين.
وإن ادعى من بيده العين: أنه وكيل للغائب وأقام على ذلك بينة، ثم أقام للغائب البينة بملك العين.. قدمت بينة الغائب على بينة المدعي؛ لأن للغائب يدا وبينة. وكل موضع حكمنا للمدعي بالبينة على الغائب وسلمت العين إلى المدعي، ثم حضر الغائب وادعى ملك العين وأقام بينة.. فإن العين تنزع من الأول؛ لأنه بان أن للغائب بينة ويدا، فقدمت على من له بينة بلا يد. وإن أقر بها المدعى عليه لمجهول؛ بأن قال: هي لغيري، ولم يعين المقر له.. قيل له: ليس هذا يسقط عنك الدعوى في العين، فإما أن تقر بها لمعروف ويكون خصما في العين، أو نجعلك ناكلا، وترد اليمين على المدعي ويحلف ويحكم له بالعين. فإن أقر بها لمعروف.. كان الحكم فيه ما مضى. وإن ادعاها لنفسه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأنه قد اعترف أنها لغيره، فيتضمن ذلك أنه لا يملكها.
والثاني: يقبل؛ لأن إقراره الأول لم يصح، فلا يمنعه ذلك من أن يدعيها لنفسه.
[مسألة ادعى ملك جارية أو ثمرة نخلته وهي في يد غير]
هـ] :
وإن ادعى رجل ملك جارية في يد غيره فأنكره المدعى عليه، وأقام المدعي بينة.. نظرت: فإن شهدت البينة: أن الجارية له أو ملكه.. حكم له بها. وإن شهدت: أنها له ولدتها أمته في ملكه.. حكم له بها؛ لأن هذا آكد من قولها: إنها له. وإن شهدت بينة: أنها بنت أمته ولدتها في ملكه، أو ادعى ثمرة في يد رجل وشهدت بينة: أنها ثمرة نخلته حملت بها في ملكه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (حكمت بذلك) . وقال فيمن ادعى عينا وشهدت له البينة: أنها كانت في يده أمس: (إنه لا يحكم بها) .
واختلف أصحابنا فيه: فنقل أبو العباس جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى، وجعلهما على قولين في الشهادة بالملك المتقدم.(13/181)
وحملهما أبو إسحاق وسائر أصحابنا على ظاهرهما، فقالوا: يحكم بالبينة هاهنا قولا واحدا، ولا يحكم بها هناك قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن الشهادة هاهنا بنماء الملك، والشهادة بنماء الملك لا تفتقر إلى إثبات ملكه في الحال، بل إذا ثبت حدوثها في ملكه.. اكتفى بذلك؛ لأن النماء تابع للأصل. والشهادة هناك على أصل الملك، فلم يحكم بها حتى يثبت الملك في الحال. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو شهد أن هذا الغزل من قطن فلان.. جعلته له. وإن شهد أن هذه الجارية بنت أمته، وأن هذه ثمرة نخلته.. لم يحكم له بها) . والفرق بينهما: أن البينة إذا شهدت أن هذا يغزل من قطنه.. فالغزل هو نفس القطن، وإنما تغيرت صفته، فكأنما شهدت أن هذا غزله. وليس كذلك إذا شهدت أنها بنت أمته أو أنها ثمرة نخلته؛ لأن الأمة قد تلدها وهي في غير ملكه، والنخلة قد تثمر وهي في غير ملكه، ثم يملك الأمة والنخلة، ولا يملك الولد والثمرة؛ لأنه لا يمكن أن يكون الغزل حاصلا قبل حصول القطن له، فإذا أثبتت البينة له ملك القطن.. تضمن ذلك إثبات ما حدث منه، وهو الغزل، فحكم له بملكه. وليس كذلك إذا شهدت أن هذه الجارية بنت أمته، أو أن هذه الثمرة من نخلته؛ لأنهما قد يحدثان قبل حدوث ملك الجارية والنخلة، فليس فيه إثبات ملك الجارية له. ولأنه قد يوصي لرجل بما تلد الجارية وتثمر النخلة، فيحدث الولد والثمرة في ملك الموصى له مع كون الجارية والنخلة ملكا لغيره. قال الشيخ أبو إسحاق: وهكذا إذا ادعى طيرا أو آجرا، فأقام بينة أن الطير من بيضه وأن الآجر من طينه.. فإنه يحكم به له؛ لما ذكرناه في الغزل.
قال أبو العباس: وإن شهد له شاهدان أن هذا الثوب من غزله، وأن هذه الثمرة من نخلته.. حكم له بذلك. قال الشيخ أبو حامد: وهذا تفريع من أبي العباس على القول الذي اختاره إذا شهدت له البينة: أنه كان في ملكه أمس.. أنه يحكم له بذلك.(13/182)
[مسألة ادعاء شراء عين من غير من هي في يده]
إذا كان في يد زيد دار، فادعى عمرو أنها له وأقام بينة أنه اشتراها من خالد.. لم يحكم لعمرو بالدار حتى تشهد بينته: أنه اشتراها من خالد وهو يملكها، أو: أنه اشتراها من خالد وسلمها خالد إليه؛ لأن الظاهر أنه لا يسلم إلا ملكه.
وإن شهدت أنه ملك لعمرو واشتراها من خالد.. حكم له بها؛ لأنها قد أثبتت الملك لعمرو. فأما إذا شهدت بينته أنه اشتراها من خالد وأطلقت.. لم يحكم له بها؛ لأنه قد يبيع ما لا يملك بيعه. فإن قيل: فإذا شهدت أنه اشتراها من خالد وهو يملكها.. فقد حكمتم بالشهادة بملك ماض، وقد قلتم: إن البينة إذا شهدت له أنها كانت في ملكه أمس.. لم يحكم له بها على الصحيح من المذهب.
قلنا: الفرق بينهما: أن ملك المشتري إنما يثبت من جهة البائع، فإذا ثبت ملك البائع.. كان الملك الآن ثابتا للمشتري؛ لأن الأصل بقاؤه، فصار كما لو شهدت له البينة: أنه يملك العين منذ سنة، ويخالف إذا شهدت له البينة: أنها كانت في ملكه أمس؛ لأن ذلك لا يقتضي بقاء ملكه الآن.
[فرع ادعى زيد ملك عين في يد رجل أنه ملكها منذ سنة وادعى آخر شراءها منه منذ خمس سنين]
وإن ادعى زيد ملك عين في يد رجل وأقام بينة أنها ملكه منذ سنة، وادعى آخر أنه ابتاعها من هذا المدعي منذ خمس سنين وكان مالكا لها وقت البيع.. فإنه يحكم ببينة الابتياع؛ لأن البائع قد أقام بينة أنه يملكها منذ سنة، وثبوت الملك لها منذ سنة لا ينفي الملك قبل ذلك، فإذا أقام المدعي للابتياع بينة بالابتياع.. فقد ثبت أنه ابتاعها هذا من المدعي من مالك، فقدمت على بينة البائع؛ لأن بينة البيع شهدت بأمر حادث خفي على البينة التي شهدت للبائع بأصل الملك فقدمت، كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.(13/183)
وهكذا: لو شهدت بينة المدعي: أنه ابتاعها من هذا المدعي فسلمها إليه.. فإنه يحكم بها للمدعي للابتياع؛ لأن بينة البائع قد أثبتت له الملك، وبينة المبتاع قد أثبتت له البيع والتسليم، فثبت أن اليد كانت للبائع في حال البيع. وهاتان المسألتان وفاق بيننا وبين أبي حنيفة، وأما إذا أقام المدعي للابتياع بينة، فشهدت أنه ابتاعها من زيد فحسب.. فإنه يحكم بها للمبتاع. وقال أبو حنيفة: (يحكم بها لزيد، ولا يحكم بها للمبتاع إلا أن شهدت البينة أن زيدا باع ما يملكه أو ما في يده؛ لأن البيع المطلق ليس بحجة) .
دليلنا: أنه قد ثبتت بالبينة الأولى إزالة يد من الدار بيده، وإثبات الملك لزيد، فإذا قامت البينة على زيد بالبيع.. فالظاهر أنه لا يبيع إلا ما ملكه فحكم بذلك، وصار بمنزلة أن يقيم رجل البينة أن هذه الدار له، وأقام آخر البينة أنه ابتاع الدار منه.. فإنه يحكم بها للمبتاع منه.
[فرع ادعى ملك الدار من سنتين وادعى آخر شراءها منه منذ سنتين]
قال في " الأم ": (وإن ادعى رجل: أن هذه الدار ملك له منذ سنتين وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر: أنه ابتاعها منه منذ سنتين وأقام على ذلك بينة.. حكم بها للمبتاع؛ لأن بينته شهدت بأمر حادث ربما خفي على شاهدي الملك فقدمت، كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل) .
[فرع في يد رجل دار فادعاها آخر وأنه كان قد أجره إياها]
فرع: [في يد رجل دار فادعاها آخر وأنه كان قد أجره أو أودعه إياها أو غصبها منه] :
قال أبو العباس: إذا كان في يد رجل دار، فادعاها آخر وأقام بينة أنها له أجرها ممن هي في يده، أو أودعه إياها، أو غصبها منه، فأقام على ذلك بينة، وأقام من في يده الدار بينة أنها ملكه.. قدمت بينة الجارح؛ لأنها شهدت له بالملك واليد، وأثبتت أن يد صاحب الدار نائبة عنه في الإجارة أو الوديعة، وإذا شهدت بالغصب.. فقد شهدت بأمر خفي على بينة الملك فقدمت، كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.(13/184)
[فرع في يد رجل دار فادعاها اثنان أنه غصبها أو أجراها إياه]
فرع: [في يد رجل دار فادعاها اثنان أحدهما أنه غصبها منه والآخر أنه أجره إياها] :
وإن كان في يد رجل دار فادعاها اثنان، وأقام أحدهما بينة أن الذي في يده الدار غصبها منه، وأقام الآخر بينة أن هذه الدار أقر له بها من هي بيده.. حكم للدار للمغصوب منه؛ لأنه قد ثبت بالبينة أن من في يده الدار غاصب لها، وإقرار الغاصب لها غير مقبول. ولا يلزم المقر أن يغرم للمقر له قيمة الدار قولا واحدا، بخلاف ما لو قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو.. فإنه يلزمه أن يغرم لعمرو قيمة الدار في أحد القولين. والفرق بينهما: أنه إذا أقر بها لزيد ثم أقر بها لعمرو.. فقد أتلفها على عمرو بإقراره فيها لزيد وحال بينها وبينه، وهاهنا لم يتلف على المقر له شيئا، وإنما لزمه تسليمها بالبينة. فإن ادعى رجلان دارا في يد رجل، وأقام أحدهما بينة أنها له أودعها عند من هي في يده، وأقام الآخر بينة أنها له أجرها ممن هي في يده.. فقد تعارضت البينتان: فإن قلنا: يسقطان.. رجع إلى من هي في يده، فإن ادعاها لنفسه.. حلف لكل واحد منهما، وإن أقر بها لأحدهما.. سلمت إليه، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان. وإن أقر لهما بها.. قسمت بينهما، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف؟ فيه قولان. وإن قلنا لا يسقطان، وإنما يستعملان.. ففي الاستعمال الأقوال الثلاثة، وقد تقدم ذكرها.
[مسألة تنازعا دارا في يد رجل وادعاها كل منهما وأنه اشتراها منه ونقده الثمن]
إذا تنازع رجلان دارا، وادعى كل واحد منهما أنه اشتراها من زيد وهو يملكها بثمن معلوم ونقده الثمن، وأقام كل واحد منهما بينة، فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا؛ بأن شهدت بينة أحدهما بأنه اشتراها في المحرم، وشهدت بينة الآخر بأنه اشتراها في صفر.. قدمت بينة الذي اشتراها في المحرم؛ لأنه بان أنه باعها في صفر بعد زوال ملكه عنها بالبيع في المحرم، ويطالب البائع برد الثمن للمشتري الثاني الذي قبضه. وإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا واحدا، أو مطلقتين، أو إحداهما مؤرخة(13/185)
والأخرى مطلقة، فإن كانت الدار في يد أحد المدعيين.. قضي له بها؛ لأنه اجتمع له اليد والبينة. وحكى المسعودي [في " الإبانة "] وجها آخر: أنه لا يرجح باليد هاهنا؛ لأنهما تقارا على أن اليد كانت قبل ذلك لغيرهما، وكل واحد منهما يدعي أن اليد انتقلت إليه، فلم يقر الثاني أن هذه اليد يده. والأول هو المشهور.
وإن كانت الدار في يد البائع.. تعارضت البينتان:
فإن قلنا: يسقطان.. رجع إلى البائع، فإن كذبهما.. حلف لكل واحد منهما، وهل لهما استرداد الثمن منه؟ فيه وجهان، حكاهما المسعودي [في " الإبانة "] :
أحدهما: لهما ذلك؛ لأنا قد حكمنا بالبينة أن كل واحد منهما قد سلم الثمن ولم يحصل له المثمن.
والثاني: ليس لهما ذلك؛ لأنا قد حكمنا بسقوط البينتين.
فإن أقر بالبيع لأحدهما.. سلمت الدار إليه بالثمن الذي ادعى أنه ابتاعها به، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان. وإن أقر بالبيع لهما.. كان لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف الذي للآخر؟ فيه قولان. وإن قلنا إن البينتين لا تسقطان، وإنما تستعملان، فإن صدق البائع أحدهما.. فهل تقدم بينة من صدقه؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال أبو العباس: تقدم بينته؛ لأن اليد للبائع، فإذا صدق أحدهما.. فكأنه نقل يده إليه، فاجتمعت له اليد والبينة فقدمت، كما لو كانت الدار في يد أحد المتداعيين.
والثاني: لا تقدم بينة المصدق، وهو قول أكثر أصحابنا، وهو الأصح؛ لأن البينتين قد اتفقتا على إزالة يد البائع.
فإذا قلنا بهذا: ولم يصدق البائع أحدهما.. ففي كيفية الاستعمال الأقوال الثلاثة:
أحدها: الوقف، ولا يتأتى الوقف هاهنا؛ لأنهما يتداعيان عقدا والعقد لا يمكن وقفه.
والثاني: القرعة.(13/186)
فعلى هذا: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالدار بالثمن الذي اشتراه به، وهل يحلف مع خروج القرعة له؟ على القولين. ويرجع الآخر بالثمن الذي دفعه.
والثالث: القسمة. فعلى هذا: تقسم بينهما الدار، ويكون لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاعه به، ولكل واحد منهما الخيار في فسخ البيع؛ لأن الصفقة تبعضت عليه.
فإن اختارا جميعا الفسخ وفسخا.. رجعت الدار إلى المدعى عليه، ورجع عليه كل واحد منهما بالثمن الذي دفع. وإن اختار جميعا الإمساك.. أمسك كل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، ورجع على البائع بنصفه. وإن اختار أحدهما الفسخ واختار الآخر الإمساك.. قال الشيخ أبو حامد: فينظر فيه:
فإن اختار أحدهما الفسخ أولا، ثم اختار الآخر الإمساك.. فإنه يمسك الدار بجميع الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به؛ لأنه قد ادعى أنه ابتاع جميع الدار وشهدت له البينة بذلك، وإنما لم يحكم له بالجميع لمزاحمة غيره، فإذا سقط حق غيره.. كان له إمساك الجميع. وإن اختار أحدهما الإمساك أولا، ثم اختار الآخر الفسخ.. فإن الأول يستقر ملكه على نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وليس له أن يأخذ النصف الذي فسخ الثاني البيع فيه؛ لأنه قد أمسك النصف وحكم الحاكم بإمضاء البيع فيه وفسخه في النصف الآخر، فلم ينتقض الحكم فيه، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا فسخ أحدهما البيع في نصف الدار.. فهل على البائع تسليم ذلك النصف إلى المدعي الآخر؟ فيه وجهان من غير تفضيل:
أحدهما: عليه ذلك؛ لأنه قد أقام البينة على أنه يستحق جميع الدار، إلا أنه تعذر تسليم الكل إليه لأجل صاحبه، فإذا ارتفع ذلك.. سلم إليه.
والثاني: لا يسلم إليه؛ لأن بينة الذي فسخ شهدت له بالملك، فإذا فسخ البيع.. انتقل الملك فيه إلى المدعى عليه.(13/187)
[مسألة خصمان ادعيا شراء دار كل واحد من بائع]
وإن تنازع رجلان دارا، فادعى أحدهما أنه ابتاعها من زيد بمائة وهو يملكها ونقده الثمن ولم يسلم إليه الدار وأقام على ذلك بينة، وادعى الآخر أنه ابتاعها من عمرو بمائة وهو يملكها ونقده الثمن ولم يسلم إليه الدار وأقام على ذلك بينة، فإن كانت الدار في يد أحد المتداعيين.. قضي له بالدار بالثمن الذي ادعى أنه ابتاع به؛ لأنه اجتمع له اليد والبينة. وإن كانت الدار في يد أحد البائعين أو في يد أجنبي.. فالبينتان متعارضتان؛ لأنه لا يجوز أن تكون جميع الدار ملكا لاثنين ويبيع كل واحد منهما جميعا من واحد. فإن قلنا: إنهما تسقطان، وكانت الدار في يد أحد البائعين أو كانت في يد أجنبي.. كان القول قول من كانت الدار في يده، فإن ادعاها لنفسه.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر بها لأحدهما.. سلمت إليه وسلم الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به إلى الذي ادعى أنه باعه، وهل يحلف المقر للآخر؟ فيه قولان. وإن أقر لهما بها.. كان لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وهل يحلف لكل واحد منهما على النصف الآخر؟ فيه قولان. وإن قلنا: إن البينتين تستعملان، وكانت الدار في يد أحد البائعين، فإن صدق الذي ادعى: أنه ابتاع منه.. فهل ترجح بينته بذلك؟ فيه وجهان. فإذا قلنا: لا ترجح أو لم يصدقه.. استعملتا، ولا يجيء الوقف هاهنا؛ لأن العقود لا توقف. وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم له بالدار بالثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، ورجع الآخر بالثمن الذي دفعه. وإن قلنا بالقسمة.. كان لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى أنه ابتاع به، وثبت لكل واحد منهما الخيار في فسخ البيع؛ لأن الصفقة تبعضت عليه. فإن اختار الإمساك.. رجع كل واحد منهما بنصف الثمن الذي دفع؛ لأنه لم يسلم له إلا نصف الدار. وإن اختار الفسخ.. رجع كل واحد منهما بما دفع من الثمن. وإن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإمساك.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الذي اختار الفسخ(13/188)
يرجع بجميع الثمن الذي دفع ولا يسلم هذا النصف الذي فسخ فيه البيع إلى الذي اختار الإمساك. والفرق بينهما وبين التي قبلها: أن البائع هناك واحد، وكل واحد من المدعيين قد أقام البينة أنه اشترى منه، وإنما لم يمسك جميعه لمزاحمة غيره له، فإذا سقطت المزاحمة.. كان له إمساك، وهاهنا البائع اثنان، والمشتري اثنان، وكل واحد منهما يدعي أنه ابتاع من واحد، فإذا فسخ أحدهما البيع مع بائعه.. لم يكن للآخر أن يأخذه؛ لأنه لا يأخذه من غير بائعه. وأما إذا ادعى كل واحد من المشتريين: أنه قبض الدار وقامت عليه البينة بذلك.. فالحكم فيه ما ذكرناه إذا لم يقبض الدار إلا في شيء واحد، وهو: أنه لا يرجع على الذي باعه بالثمن الذي دفعه إليه ولا ببعضه؛ لأنه إذا لم يقبض المبيع.. فقد تعذر عليه قبض المبيع، فصار ضمان عهدته على بائعه، فيرجع عليه بالثمن الذي دفعه إليه. فإذا قبض المبيع.. فقد استقر عليه الثمن وإنما غصب منه الدار بعد ذلك، فلا يلزم البائع ضمان عهدته.
[مسألة في يد رجل دار فادعى أحد الخصمين أنه باعها منه بمائة وادعى الآخر مثله]
وإن كان في يد رجل دار، فادعى زيد أنه باعها منه بمائة وأقام على ذلك بينة، وادعى عمرو أنه باعها منه بمائة وأقام على ذلك بينة.. نظرت:
فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا واحدا.. فهما متعارضتان؛ لأنه يستحيل أن يكون جميع الدار ملكا لاثنين في وقت واحد. فإن قلنا: إنهما يسقطان.. رجع إلى المدعى عليه، فإن أنكرهما من الشراء.. حلف لكل واحد منهما يمينا، وإن أقر أنه ابتاع جميع الدار من كل واحد منهما.. لزمه الثمنان؛ لأنه يجوز أن يبتاعه من أحدهما، ثم يخرج من ملكه إلى ملك الآخر ثم يبتاعه منه. وإن أقر أنه ابتاعه من أحدهما.. لزمه الثمن له وحلف للآخر قولا واحدا؛ لأنه لو أقر أنه ابتاعه منه.. لزمه الثمن له. وإن قال: ابتعته منكما.. فقد أقر لكل واحد منهما بنصف الثمن الذي ادعى أنه باعه منه، ويلزمه أن يحلف لكل واحد منهما على النصف الآخر قولا واحدا.
وإن قلنا: إنهما يستعملان.. فلا يجيء هاهنا الوقف؛ لأن العقود لا توقف،(13/189)
ولكن تجيء القرعة أو القسمة. فإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فإذا خرجت لأحدهما القرعة.. حكم له بالثمن الذي ادعاه، وهل يحلف مع خروج القرعة له؟ على القولين، ويكون للذي لم تخرج له القرعة أن يحلف المشتري؛ لأنه لو أقر له بعد ذلك.. لزمه الثمن له. وإن قلنا بالقسمة.. لزمه لكل واحد منهما نصف الثمن الذي ادعاه، ولا خيار للمشتري؛ لأن جميع الدار قد حصلت له، ولا فرق بين أن تحصل من واحد منهما أو من اثنين. ولكل واحد من البائعين أن يحلفه على نصف الثمن؛ لأنه لو أقر لكل واحد منهما.. لزمه ما أقر به له. وإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا؛ بأن شهدت بينة أحدهما: أنه باعها منه في المحرم، وبينة الآخر: أنه باعها منه في صفر.. لزمه الثمنان؛ لأنه يجوز أن يبتاعها منه في المحرم، ثم تخرج من ملكه، ثم يبتاعها من الآخر في صفر وهي في ملكه. وإن كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الثمنان؛ لأنه يمكن أن يكون قد اشتراها منهما في وقتين.
والثاني: أنهما تتعارضان، فيكونان كما لو كانتا مؤرختين تأريخا واحدا؛ لأنه يحتمل أن يكونا في وقتين فيلزمه الثمنان، ويحتمل أن يكونا في وقت واحد، فتكونان متعارضتين، والأصل براءة ذمته من الثمنين. هكذا: ذكر الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ، وأما الشيخ أبو حامد.. فقال: فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الثمنان؛ لما مضى.
والثاني: لا يلزمه إلا ثمن واحد وهو المتيقن وجوبه، ويسقط الثمن الآخر بالشك في وجوبه.
[مسألة ادعى ملك عين أو عبد وادعى آخر أنه باعه إياها أو وقفها عليه]
وإن ادعى رجل ملك عين وأقام على ذلك بينة، وادعى آخر على هذا المدعي أنه باعه تلك العين أو وقفها عليه، أو كانت العين عبدا فادعى أن المدعي أعتقه وأقام(13/190)
المدعي الثاني بينة بما ادعاه.. قدمت بينة المدعي الثاني على بينة المدعي الأول؛ لأن بينة الأول شهدت بأصل الملك، وبينة الثاني شهدت بأمر حادث ربما خفي عن بينة الملك فقدمت. وإن كان في يد رجل عبد، فادعى رجل أنه ابتاع منه هذا العبد وأقام على ذلك بينة، وادعى العبد أن سيده الذي هو في يده أعتقه وأقام على ذلك بينة.. نظرت:
فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا.. قضي بالبينة الأولى، سواء كانت بيعا أو عتقا؛ لأن صحة الأول تمنع صحة الثاني. وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين تأريخا واحدا، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. فهما متعارضتان. فإن كان العبد في يد المشتري.. قدمت بينته؛ لأن له يدا وبينة. وقال المزني: تقدم بينة العبد؛ لأن يده ثابتة على نفسه. وهذا ليس بصحيح؛ لأن العبد لا تثبت له يد على نفسه؛ بدليل: أنه لو كان له عبد في يد رجل فادعاه آخر، وأقام كل واحد منهما بينة، وصدق العبد الخارج.. فإنه لا يحكم له به، فلو ثبت للعبد يد على نفسه.. لكان قد اجتمع للخارج يد وبينة. وإن كان العبد في يد المدعى عليه، فإن قلنا: إنهما يسقطان. رجع إليه، فإن كذبهما.. فالقول قوله مع يمينه، فيحلف لكل واحد منهما يمينا. وإن صدق أحدهما وكذب الآخر.. حكم للذي صدقه بما ادعاه، ولا يحلف للآخر قولا واحدا؛ لأنه لا يلزمه له غرم؛ لأنه إن صدق العبد أولا.. فإقراره بالبيع بعده لا يحكم به، إلا أنه يلزمه رد الثمن إن كان قد قبضه، وإن صدق المشتري أولا.. فإقراره بالعتق لا يصح ولا يلزمه غرم للعبد. وإن قلنا: إنهما يستعملان، فصدق السيد المشتري أو العبد.. فهل ترجح بينة المصدق منهما؟ فيه وجهان، مضى ذكرهما.
فإن قلنا: لا ترجح بينة المصدق منهما، أو لم يصدق أحدهما.. فلا يجيء في الاستعمال هاهنا الوقف؛ لأن الاختلاف بالعقد والعقود لا توقف، ولكن تجيء القرعة أو القسمة. فإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فإن خرجت القرعة للعبد.. عتق، ورجع المشتري بالثمن على البائع إن كان قد دفعه إليه. وإن خرجت القرعة للمشتري.. ملك العبد. وإن قلنا بالقسمة.. حكم للمبتاع بنصف العبد بنصف(13/191)
الثمن، ورجع بنصف الثمن إن كان قد دفعه، وحكم بعتق نصف العبد، ويكون المبتاع بالخيار؛ لأن الصفقة تبعضت عليه. فإن اختار الفسخ.. حكم بعتق جميع العبد على البائع؛ لأن البينة قد شهدت بعتقه، وإنما لم يحكم بعتق جميعه لمزاحمة المبتاع له، فإذا سقطت المزاحمة.. حكم بعتق جميع العبد. وإن اختار الإمساك، فإن كان البائع معسرا.. لم يقوم عليه باقي العبد، وإن كان موسرا.. فهل يقوم عليه باقي العبد؟ فيه قولان، وقيل: هما وجهان:
أحدهما: لا يقوم عليه؛ لأنه لم يعتق عليه باختياره، فلم يقوم عليه كما لو ورث نصف من يعتق عليه؛ فإنه لا يقوم عليه الباقي.
والثاني: يقوم عليه الباقي؛ لأن البينة قد شهدت عليه: أنه أعتق جميعه باختياره.
[مسألة علق عتق عبده بقتله أو علق عتق عبديه بصفتين متغايرتين]
قال في " الأم": (إذا قال لعبده: إن قتلت فأنت حر، فأقام العبد بينة أنه قتل، وأقام الورثة بينة أنه مات حتف أنفه.. ففيه قولان:
أحدهما: تقدم بينة العبد فيعتق؛ لأن معها زيادة صفة؛ لأن كل قتل موت، وليس كل موت قتلا.
والثاني: أنهما متعارضتان، فتسقطان ويرق العبد؛ لأن بينة القتل تثبت القتل وتنفي الموت، وبينة الموت تنفي القتل وتثبت الموت، فتسقطان ويرق العبد) . هكذا ذكر الشيخان: أبو حامد وأبو إسحاق.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون على قوله الجديد: (أن البينتين إذا تعارضتا سقطتا) ، ويجيء على قوله القديم إذا قلنا: (تستعملان) الأقوال الثلاثة في الاستعمال. قال في " الأم ": (وإن كان له عبدان، سالم وغانم، فقال لسالم: إن مت في رمضان فأنت حر، أو قال لغانم: إن مت في شوال فأنت حر، ثم مات وأقام سالم بينة أنه مات في رمضان، وأقام غانم بينة أنه مات في شوال.. ففيه قولان:(13/192)
أحدهما: تقدم البينة التي شهدت أنه مات في رمضان فيعتق سالم؛ لجواز أن يكون مات في رمضان وخفي موته فلم يظهر إلا في شوال، فشهدت بينة غانم بموته في شوال عند ظهوره، فبينة سالم معها زيادة علم فقدمت.
والثاني: أنهما متعارضتان؛ لأنه لا يجوز أن يموت في رمضان وشوال.
قال الشيخ أبو إسحاق: فعلى هذا: يرق العبدان.
قلت: وينبغي أن يقال هاهنا كما قال ابن الصباغ في التي قبلها: إن هذا على القول الجديد: (إن البينتين إذا تعارضتا.. سقطتا) .
فأما إذا قلنا بالقول القديم: (تستعملان) فإنه وجب أن يكون هاهنا في الاستعمال ثلاثة أقوال. قال في " الأم ": (وإن قال لعبده سالم: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، وقال لعبده غانم: إن برأت من مرضي هذا فأنت حر، ثم مات وأقام سالم بينة أنه مات من مرضه ذلك، وأقام غانم بينة أنه برأ من مرضه ذلك ومات من غيره.. فهما متعارضتان قولا واحدا؛ لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى) .
قال الشيخ أبو إسحاق: فيرق العبدان.
قلت: وينبغي أن يقال هاهنا ما قاله ابن الصباغ في الأولى: إن هذا على القول الجديد، فأما على القول القديم: فيأتي فيه الأقوال الثلاثة في الاستعمال. هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال المسعودي [في " الإبانة "] : إذا قامت بينة أنه مات من مرضه، وبينة ببرئه من مرضه.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما متعارضتان.
والثاني: أنه يحكم بالبينة التي شهدت بموته من مرضه ذلك.
وإن قال رجل لعبده: إن لم أحج هذا العام فأنت حر، فأقام السيد بينة أنه وقف على عرفات تلك السنة، وأقام العبد بينة أن السيد كان يوم النحر في بغداد.. فإنه(13/193)
لا يحكم بعتق العبد. وقال أبو حنيفة: (يعتق) .
دليلنا: أنه يحتمل أنه حصل له ذلك من طريق الكرامة، وأنه سار من عرفات ومكة إلى بغداد بليلة واحدة. وإن أقام السيد بينة أنه وقف على عرفات تلك السنة، وأقام العبد البينة أنه كان في بغداد يوم عرفة.. فلا أعلم فيها نصا، والذي يقتضي المذهب: أنهما متعارضتان؛ لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى، فيرق العبد على القول الجديد الذي يقول: يسقطان عند التعارض، وعلى القول القديم يكون على الأقوال الثلاثة في الاستعمال:
أحدها: الوقف إلى أن ينكشف الحال.
والثاني: القرعة.
والثالث: القسمة.
فإذا قلنا بهذا: أعتق جميع العبد؛ لأنه عتق نصفه بالبينة، وعتق نصفه الآخر بالسراية؛ لأنه موسر بباقيه.
[مسألة اختلاف المتكاريين في الكراء أو المتبايعين في الثمن]
وإن اختلف المتكاريان في قدر الكراء، أو في قدر المكرى، أو في قدر المدة، أو في جنس الكراء، أو في عين المكرى، أو اختلف المتبايعان في قدر الثمن، أو في قدر المثمن، أو في قدر الأجل، أو في جنس الثمن، فإن لم يكن مع أحدهما بينة.. فقد مضى ذكره في (اختلاف المتبايعين) . وإن كان مع أحدهما بينة دون الآخر.. قضي لصاحب البينة. وإن كان مع كل واحد منهما بينة، فإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا مختلفا.. قضي بالأولى منهما؛ لأن العقد الأول يمنع صحة الثاني.
وإن كانتا مطلقتين، أو مؤرختين تأريخا واحدا، أو إحداهما مطلقة والأخرى(13/194)
مؤرخة، فإن كان الاختلاف في جنس الكراء، أو في عين المكرى، أو في جنس الثمن.. فهما متعارضتان بلا خلاف على المذهب؛ لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى. وإن كان الاختلاف في قدر الكراء، أو في قدر المكرى، أو في قدر المدة، أو في قدر الثمن، أو في قدر المثمن، أو في قدر الأجل.. فالمنصوص: (أنهما متعارضتان) . وقد خرج أبو العباس قولا آخر: أنهما غير متعارضتين، بل يقضى بالبينة التي تشهد بالزائد من ذلك كله، كما لو شهد شاهدان: أن لفلان على فلان ألف درهم، وشهد آخر: أن له عليه ألفين.. فإنه يحكم عليه بالألفين. وهذا خطأ؛ لأن كل واحدة من البينتين مكذبة للأخرى، فهو كما لو شهدت بينة لرجل بملك عين وشهدت بينة أخرى لآخر بملكها، وتخالف البينتين في الألف والألفين؛ لأن كل واحدة منهما لا تكذب الأخرى. وكل موضع قلنا: إنهما متعارضتان.. ففيهما قولان:
أحدهما: تسقطان.
فعلى هذا: يكون كما لو لم يكن لأحدهما بينة فيتحالفان.
والثاني: تستعملان، ولا يجيء هاهنا الوقف؛ لأن العقود لا توقف، ولا تجيء القسمة؛ لأنهما يختلفان في عقد والعقد لا ينقسم، وتجيء القرعة، فيقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. قضى له.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن كانت كل واحدة من البينتين زائدة من وجه ناقصة من وجه؛ مثل أن يقول المكري: أكريتك بيتا بعشرين، وقال المكتري: بل اكتريت منك جميع الدار بعشرة.. ففيه قولان:
أحدهما: أنهما متعارضتان.
والثاني: يجمع بين الزيادتين، فيجعل جميع الدار مكراة بعشرين.
وأظن المسعودي فرع هذا على قول أبي العباس: أنه يقضي بالبينة التي تشهد بالزيادة، فأما على المذهب: فهما متعارضتان قولا واحدا.
قال المسعودي [في " الإبانة "] : وإن قال أحدهما: استأجرت هذه الدار من زيد في شهر رمضان لسنة كذا بكذا، وأقام على ذلك بينة، وقال الآخر: استأجرتها من زيد(13/195)
في شوال سنة كذا بكذا، وأقام على ذلك بينة.. ففيه قولان:
أحدهما: أن بينة رمضان أولى؛ لأنها أسبق. والثاني: أن بينة شوال أولى؛ لأنها ناسخة للأولى، فيجعل كأنهما تقايلا في الإجارة في رمضان، ثم أجرها من الثاني في شوال. وأراد المسعودي بهذين القولين: إذا تنازع المتكاريان لدار من رجل في مدة واحدة، فادعى كل واحد منهما أنه اكتراها من مالكها تلك المدة، وبينة أحدهما أقدم تأريخا.
والذي يقتضي المذهب: أن الأول أصح، كما قلنا في الرجلين إذا ادعيا أنهما ابتاعا من رجل دارا وبينة أحدهما أقدم تأريخا.. فإنه يقضى له.
[مسألة ادعيا دارا وأضافا سببا يقتضي اشتراكهما فيها أو لا يقتضي ذلك]
وإن ادعى رجلان دارا في يد رجل وأضافا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما فيها؛ بأن قالا: ورثناها من أبينا وغصبتها منا قبل أن نقبضها، أو غصبتها من أبينا في حياته، فأقر المدعى عليه بنصفها لأحدهما.. شارك المدعي الثاني المقر له في هذا النصف المقر به؛ لأنهما أضافا الدعوى إلى سبب يوجب اشتراكهما في كل جزء منها، ولهذا: لو كان طعاما فهلك بعضه.. كان هالكا منهما، فكان الباقي بينهما. فإذا أقر بالنصف وجحدهما عن النصف.. كان الذي أقر به بينهما، والذي أنكر منه بينهما.
وإن قالا: ابتعناها صفقة واحدة وغصبتها منا قبل أن نقبضها، فأقر لأحدهما بالنصف.. فهل يشارك المدعي الثاني المقر له في هذا النصف؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -: أنه يشاركه فيه؛ لأن ابتياعهما لها في صفقة واحدة سبب يوجب اشتراكهما في كل جزء منها، فهو كما لو قالا: ورثناها.
والثاني - وهو اختيار القاضي أبي الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غيره -: أنه لا يشاركه فيه؛ لأن البيع من اثنين بمنزلة البيع في صفقتين.(13/196)
قال الشيخ أبو حامد: وإن قالا: ورثناها من أبينا وقبضناها ثم غصبتها علينا، فأقر لأحدهما بنصفها.. لم يشارك المدعي الثاني المقر له بالنصف المقر به؛ لأن بعد القبض يجوز أن يغصب نصيب أحدهما دون نصيب الآخر. وأما الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: فلم يشترطا عدم قبضهما لها في اشتراكهما في النصف المقر به لأحدهما. وإن ادعيا العين وأضافا الدعوى إلى سببين، أو أطلقا الدعوى، أو أضاف أحدهما إلى سبب وأطلق الآخر دعواه، فأقر لأحدهما بنصفها.. لم يشارك المدعي الثاني المقر له في هذا النصف؛ لأن دعوى المقر له لا تقتضي أن الثاني يشاركه فيما أقر له به منها.
[فرع ادعيا دارا في يد رجل كل ادعى نصفها ولم يبينا سببا للشركة]
فرع: [ادعيا دارا في يد رجل كل ادعى نصفها ولم يضيفا سببا يقتضي اشتراكهما] :
وإن كانت دار في يد رجل، وادعى رجلان كل واحد منهما نصفها ولم يضيفا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما، فأقر المدعى عليه لأحدهما بجميع الدار.. نظرت:
فإن كان قد سمع من المقر له إقرار للمدعي الثاني بنصفها قبل ذلك، أو أقر له الآن بنصفها.. لزمه تسليم النصف إليه؛ لأنه أقر له بذلك، فإذا صارت الدار بيده.. لزمه تسليم ما أقر له به.
وإن لم يسمع من المقر له إقرار قبل ذلك بنصفها للمدعي الثاني، ولا أقر له به الآن، بل ادعى المقر له أن جميعها له.. حكم له بجميعها؛ لأنه يجوز أن يكون الجميع له، ودعواه في نصفها صحيحة؛ لأن من له الجميع.. فله النصف، وإنما خص النصف بالدعوى؛ لأنه عالم أنه يقر له بالنصف أو له بالنصف بينة، فادعى ما فيه خلف بينهما. ولأنه يجوز أن يكون له النصف في حال الدعوى، ثم يحدث له ملك النصف بعد الدعوى بإرث أو ابتياع، فيكون له الجميع.
وإن أقر المدعى عليه لأحدهما بجميعها ولم يسمع من المقر له إقرار للمدعي الثاني بنصفها ولا ادعى الجميع لنفسه، بل قال: لي النصف لا غير، والنصف الثاني لا أدري لمن هو.. ففيه ثلاثة أوجه:(13/197)
أحدها: أنه يبقى على ملك المدعى عليه؛ لأنه أقر به لمن لا يدعيه، فيبقى على ملكه.
والثاني: يدفع إلى المدعي الثاني؛ لأن بإقرار المدعى عليه بجميع الدار للمدعي الثاني أخبر أنه لا يملك شيئا من الدار، وبرد المقر له إقراره في هذا النصف أخبر أنه لا يملكه، فلم يبق له هاهنا مدع له إلا المدعي الثاني، فوجب تسليمه إليه.
والثالث: أن الحاكم ينتزعه من يد المدعى عليه، ويحفظه إلى أن يجيء من يدعيه ويقيم عليه البينة؛ لأن الذي في يده الدار لا يدعيه، والمقر له به لا يدعيه، ولا يجوز أن يسلم إلى المدعي الثاني بالدعوى، فلم يبق إلا أن يحفظه الحاكم.
قال ابن الصباغ: فعلى هذا: يؤاجره الحاكم ويحفظ أجرته.
وقال أبو علي في " الإفصاح ": يفرقها الحاكم في مصالح المسلمين. وليس بشيء؛ لأن الأجرة تابعة للأصل. والأول أصح.
[مسألة مات عن ابنين نصراني ومسلم وكلاهما يدعي أن أباه مات على دينه]
وإن مات رجل وخلف ابنين، مسلما ونصرانيا، لا وارث له غيرهما، وادعى كل واحد منهما أن أباه مات على دينه وأقام على ذلك شاهدين مسلمين عدلين.. فلا يخلو حال الميت: إما أن يعرف أصل دينه أنه كان نصرانيا، أو لا يعرف أصل دينه. فإن عرف أصل دينه وأنه كان نصرانيا.. نظرت في البينتين: فإن كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة.. حكم بأنه مات مسلما، ويكون ميراثه لابنه المسلم؛ لأن التي شهدت بالنصرانية ربما شهدت بالنصرانية؛ لأنه أصل دينه؛ لأنها إذا لم تعرف إسلامه.. جاز لها أن تشهد بأنه مات نصرانيا، والتي شهدت بالإسلام شهدت بأمر حادث على النصرانية وربما خفي على الأخرى، فقدمت كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل. وإن كانت البينتان مؤرختين تأريخا واحدا؛ بأن شهدت إحداهما أن آخر كلامه التلفظ بالإسلام، وشهدت الأخرى أن آخر كلامه التلفظ بالنصرانية.. فهما متعارضتان؛ لأنهما متنافيتان. فإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا سقطتا.. كان كما لو لم يكن لأحدهما بينة، ويكون القول قول النصراني مع يمينه؛ لأنه لا يعلم أنه مات(13/198)
مسلما؛ لأن الأصل بقاؤه على النصرانية وعدم الإسلام، فإن حلف.. كان الميراث له، وإن نكل عن اليمين.. ردت اليمين على الثاني فيحلف أنه مات مسلما، فإذا حلف.. كان الميراث له. وإن قلنا: إنهما تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقف المال؛ لأنه هو المتداعى. وإن قلنا بالقرعة.. أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. حكم ببينته، وهل يحلف مع القرعة؟ فيه قولان. وإن قلنا بالقسمة.. فاختلف أصحابنا فيه: فقال أبو إسحاق: لا يجوز أن يقسم بينهما الميراث؛ لأنا نتيقن الخطأ في توريث أحدهما.
وقال أكثر أصحابنا: يقسم بينهما - وهو المنصوص - كما لو ادعيا ملكا من غير الميراث، وأقام كل واحد منهما بينة وقلنا: بالاستعمال بالقسمة. وما قاله أبو إسحاق من الخطأ في القسمة غير صحيح؛ لأنه يجوز أن يكون مات الأب نصرانيا وهما نصرانيان، ثم أسلم أحدهما وادعى أن أباه مات مسلما ليحوز جميع ميراثه. وإن لم يعرف أصل دين الميت.. فإن البينتين متعارضتان، سواء كانتا مؤرختين تأريخا واحدا أو مطلقتين، أو إحداهما مؤرخة والأخرى مطلقة؛ لأنه ليس له أصل دين يبنى عليه حتى تكون إحداهما أثبتت أمرا حادثا بعد ذلك الأصل. فإن قلنا: إن البينتين إذا تعارضتا سقطتا.. صار كأن لم يقم أحدهما بينة، فإن كان الشيء الذي يتداعيانه في يد غيرهما.. كان القول قوله، وإن كان في يد أحدهما.. فهو أحق به ويحلف للآخر، وإن كان في يدهما.. قسم بينهما ويحلف كل واحد منهما لصاحبه على النصف الذي حصل له. هكذا ذكر الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق. قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر؛ لأنه إذا كان في يد أحدهما.. فإنه يعترف أنه للميت الذي ادعى أنه يرثه والآخر يدعي مثل ذلك، فلا ينبغي أن يكون ليده حكم، بل ينبغي أن يكون موقوفا أو مقسوما بينهما. وإن كان في يدها..فينبغي أن يوقف وتكون يدهما عليه، أو يقسم بينهما بحكم اليد ولا يتحالفان. وإن قلنا: إن البينتين تستعملان، فإن قلنا بالوقف.. وقفت التركة، وإن قلنا(13/199)
بالإقراع.. أقرع بينهما، وإن قلنا بالقسمة.. فالمذهب: أنها تقسم بينهما، وقال أبو إسحاق: لا تقسم بينهما، وقد مضى دليلهما. ويصلى على الميت، وينوى بالصلاة عليه إن كان مسلما، ويدفن في مقابر المسلمين تغليبا للإسلام، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار ولم يتميزوا) .
هذا مذهبنا، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: (يقضي ببينة الإسلام بكل حال) .
دليلنا: أنهما إذا تعارضتا.. كانت كل واحدة منهما مكذبة للأخرى، وليس مع إحداهما زيادة علم فسقطتا، كما لو شهدتا بعين في يد غير المدعيين.
[مسألة مات وهو مسلم وخلف ابنين أو مات وخلف أبوين وابنين واختلفوا]
إذا مات رجل وخلف ابنين ودارا، واتفقا على أن أباهما مات مسلما في أول شهر رمضان، وأن أحدهما أسلم في شعبان، واختلفا في إسلام الثاني، فقال الثاني: أنا أسلمت في شعبان أيضا، فلي الميراث معك، وقال أخوه: بل أسلمت في رمضان بعد موت أبي، ولا بينة لمن ادعى الإسلام في شعبان.. فالقول قول المتفق على إسلامه في حياة الأب، فيحلف أنه لا يعلم أن أخاه أسلم في حياة أبيه، ويكون له جميع الميراث؛ لأن الأصل عدم إسلامه. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وهكذا إذا مات رجل وخلف ابنين واتفقا على أن أباهما مات حرا، وأن أحدهما أعتق قبل موت الأب، واختلف في وقت عتق الآخر، فادعى أنه أعتق أيضا في حياة أبيه، وقال أخوه: بل أعتقت أنت بعد موت أبينا.. فالقول قول المتفق على عتقه في حياة الأب، فإذا حلف.. كان له جميع الميراث) ؛ لما ذكرناه.
وإن اتفق الابنان أن أحدهما أسلم في أول شعبان، وأن الآخر أسلم في أول شهر رمضان، واتفقا بأن أباهما مات مسلما، إلا أنهما اختلفا في وقت موته، فقال الذي أسلم في شعبان: مات أبي في شعبان، فلي الميراث دونك، وقال الذي أسلم في رمضان: بل مات أبي في رمضان بعد أن أسلمت، فالميراث بيننا.. فالقول قول الذي أسلم في رمضان(13/200)
مع يمينه؛ لأن الأصل حياة الأب وعدم موته، فإذا حلف.. كان الميراث بينهما. وإن مات رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين، فادعى الأبوان أنه مات كافرا فهما أحق بميراثه، وادعى الابنان أنه مات مسلما فهما أحق بميراثه.. قال أبو العباس: فيحتمل قولين:
أحدهما: أن القول قول الأبوين؛ لأن الأبوين إذا كانا كافرين.. فولدهما قبل البلوغ كافر تبعا لهما، والأصل بقاؤه على الكفر إلى أن يعلم إسلامه. قال: وهذا أشبه بقول العلماء.
والثاني: أن الميراث يوقف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف الحال فيه؛ لأن الولد يتبع أبويه في الكفر قبل البلوغ، فأما بعد البلوغ.. فله حكم نفسه، ويحتمل أنه مات كافرا ويحتمل أنه مات مسلما، وليس هاهنا أصل يبنى عليه، فوقف إلى أن يصطلحوا أو ينكشف حاله.
[فرع مات عن زوجة وأخ مسلمين وابن كافر]
وإن مات رجل وخلف زوجة مسلمة وأخا مسلما وابنا كافرا، فقالت الزوجة والأخ: مات مسلما فالميراث لنا، وقال الابن: بل مات كافرا فالميراث لي، فإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه.. فالحكم فيها كالحكم في الرجل إذا مات وخلف ابنين أحدهما نصراني والآخر مسلم، فادعى كل واحد منهما أن أباه مات على دينه، على ما مضى. وإن لم يكن لهم بينة، فإن عرف أصل دينه أنه كان كافرا.. فالقول قول الابن؛ لأن الأصل بقاؤه على الكفر. وإن لم يعرف أصل دينه.. وقف الأمر إلى أن ينكشف الحال أو يصطلحوا.
[مسألة ادعى دارا في يد رجل أنها ميراث له ولأخيه الغائب من أبيهما أو دينا]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أقام رجل بينة أن أباه هلك وترك هذه الدار ميراثا له ولأخيه الغائب.. أخرجتها من يد من هي في يده، وأعطيته منها نصيبه، وأخذت نصيب الغائب) .(13/201)
وجملة ذلك: أنه إذا كانت في يد رجل دار، فجاء رجل وادعى أن أباه مات وترك هذه الدار له ولأخيه الغائب، فأنكر من بيده الدار، فإن لم يكن مع المدعي بينة.. فالقول قول من الدار في يده مع يمينه. وإن أقام الابن الحاضر بينة أن أباه مات وخلف ابنين هذا والغائب، وقالت البينة: لا نعلم له وارثا سواهما، والبينة من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. فإن الحاكم يسمع هذه البينة ويحكم بالدار للميت، وينتزعها ممن هي في يده، ويسلم إلى الحاضر نصفها ويسلم النصف الذي للغائب إلى أمين يحفظه له إلى أن يقدم، وإن أمكن إكراؤه له.. أكراه له وحفظ أجرته، وكذلك إذا كانت العين المدعى بها مما تنقل وتحول.. وبه قال أبو يوسف وأحمد ومحمد. وقال أبو حنيفة: (إذا كانت العين المدعى بها مما تنقل وتحول.. فكما قلنا، وإن كانت مما لا تنقل ولا تحول كالدار والأرض.. فإنه لا ينتزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه حتى يقدم الغائب ويدعيه، كما لو ادعى رجل أن هذه الدار له ولشريكه وأقام على ذلك بينة.. فإن نصيب الغائب لا ينتزع) .
دليلنا: أن هذه الدار إذا ثبتت.. فإنها تثبت للميت، ثم تنتقل إلى ورثته، وما كان حقا للميت.. فعلى الحاكم سماع البينة فيه؛ لأنه يلي على الأموات، بخلاف الدار بين الشريكين؛ فإنه لا ولاية له على الغائب. ولأن نصيب أحد الأخوين الوارثين متعلق بسلامة نصيب الآخر؛ لأنه لو أخذ الحاضر النصف ثم قدم الغائب فجحده من هو في يده على النصف الباقي ولم تقم له بينة.. فإنه يشارك أخاه في النصف الذي حصل له، فكذلك [إذا] سمعها وحكم بها. ولأن كل ما كان للحاكم أن ينتزعه إذا كان مما ينقل.. كان له أن ينتزعه وإن كان مما لا ينقل، كما لو كان أخوه صغيرا أو مجنونا. وإن كان المدعى به دينا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يأخذ نصيب الغائب ويحفظه عليه، كما لو كان المدعى به عينا.
والثاني: أنه ليس له أن يأخذه؛ لأن تركه في الذمة أحوط لصاحبه.
وإذا دفع إلى الحاضر نصيبه من الدين أو العين في هذا القسم.. لم يجب أن يؤخذ منه ضمين؛ لأن في ذلك طعنا على البينة.
فأما إذا لم تكن البينة من أهل الخبرة الباطنة بالميت، أو كانت من أهل الخبرة(13/202)
الباطنة بالميت إلا أنها لم تشهد بأنها لا تعلم له وارثا غيرهما، أو شهدت بأنه مات وخلف هذين الابنين ولم تقل وهما وارثان.. فإن الدار تثبت للميت ولكن لا يسلم شيء إلى الابن الحاضر من الدار بمجرد هذه الشهادة؛ لأنها لم تشهد بما يستحقه من الدار، ولكن يبعث الحاكم إلى البلاد التي كان يسافر إليها الميت ويقيم بها ويسأل فيها: هل له وارث فيها؟ فإن سأل عن ذلك وغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له وارث آخر.. لظهر، فإن لم يظهر له وارث.. فإنه يدفع إلى الحاضر نصيبه؛ لأن الظاهر أنه لو كان له وارث لظهر، فصار هذا الظاهر مع البينة بمنزلة ما لو شهدت البينة بأنها لا تعلم أن له وارثا غيرهما وهي من أهل الخبرة الباطنة بالميت.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ويؤخذ منه ضمين) ، وهذا يقتضي وجوب أخذ الضمين. وقال في " الأم ": (وأحب أن يؤخذ منه الضمين) . واختلف أصحابنا فيها على طريقين: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يجب أخذ الضمين منه؛ لأنه ربما ظهر له وارث آخر، وربما كان المدفوع إليه غائبا أو ميتا، فوجب أخذ الضمين منه للاستيثاق.
والثاني: يستحب ولا يجب؛ لأن الظاهر أنه لا وارث له غير هذا الحاضر والغائب؛ إذ لو كان له وارث غيرهما.. لظهر.
ومن أصحابنا من قال: إن كان الحاضر غير ثقة.. وجب أخذ الضمين منه؛ لأنه لا يؤمن أن يضيع حق من يظهر. وإن كان ثقة.. لم يجب أخذ الضمين منه وإنما يستحب؛ لأنه يؤمن أن يضيع حق من يظهر، وحمل القولين على هذين الحالين.
وإن كان المدعي ممن يحجب عن الميراث، كالأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، وأقام بينة أن أخاه مات وخلفه وارثا، فإن شهد الشاهدان بأنهما لا يعلمان له وارثا غيره، وهما من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. دفع الدار إلى الأخ، ولم يؤخذ منه ضمين، كالابن. وإن لم يشهد الشاهدان بأنهما لا يعلمان له وارثا سواه، أو شهدا بذلك ولكنهما ليسا من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. فإن الدار تثبت للميت ولا تدفع(13/203)
إلى الأخ؛ لجواز أن يكون هناك وارث يحجبه، ولكن يبعث الحاكم إلى البلاد التي كان يدخلها الميت ويقيم بها ويسأل: هل له وارث؟ فإن لم يظهر له وارث.. دفع الدار إلى الأخ، كما قلنا في الابن، وهل يجب أخذ الضمين منه؟
إن قلنا: يجب أخذ الضمين من الابن.. فمن الأخ أولى.
وإن قلنا: لا يجب أخذ الضمين من الابن.. ففي الأخ وجهان:
أحدهما: لا يجب، كما لا يجب أخذه من الابن، ولكن يستحب.
والثاني: يجب؛ لأن الابن لا يجوز أن يحجب بحال، والأخ يجوز أن يكون هناك من يحجبه.
فإن شهد الشاهدان أن هذا أخوه ولم يشهدا أنه وارث.. قال أبو العباس: لم يجز للحاكم أن يدفع إليه المال وأن يسأل عن وارث له آخر حتى يشهدا أنه وارث.
والفرق بينه وبين الابن، حيث قلنا: إذا شهد أنه ابنه ولم يشهدا أنه وارث.. أنه يدفع إليه المال بعد أن يسأل عن وارث آخر؛ لأن الابن يتيقن كونه وارثا، والأخ لا يتيقن أنه وارث؛ لجواز أن يكون هناك وارث يحجبه. وإن كان المدعي ممن له فرض يتقدر.. نظرت: فإن شهد الشاهدان: أنه وارثه لا نعلم له وارثا سواه، وهما من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. دفع إليه نصيبه كاملا، ولا يؤخذ منه ضمين.
وإن شهدا بأنه وارثه ولم يقولا: ولا نعلم له وارثا غيره، أو شهدا بذلك وليسا من أهل الخبرة الباطنة بالميت.. فإن الحاكم يدفع إليه القدر الذي يتيقنه من الميراث له، فإن كان زوجا.. دفع إليه ربعا عائلا، وهو: ثلاثة أسهم من خمسة عشر سهما. وإن كانت زوجة.. دفع إليها ربع الثمن عائلا، وهو: ثلاثة أسهم من مائة وثمانية أسهم. وإن كان أبا.. دفع إليه السدس عائلا، وهو: سهمان من خمسة عشر(13/204)
سهما. وإن كانت أما.. دفع إليها السدس عائلا، وهو: سهم من عشرة أسهم؛ لأن ذلك أقل حق كل واحد منهم. ويوقف الباقي حتى يسأل عن الميت في البلاد التي كان يسافر إليها ويقيم بها، فإن لم يظهر له وارث ينقصه.. ففيه وجهان: أحدهما: لا يكمل له فرضه؛ لعدم البينة.
والثاني: يكمل لصاحب الفرض فرضه. وهو الأصح؛ لأن الظاهر بعد البحث أنه لو كان هناك وارث ينقصه.. لظهر.
[فرع شهدا أنه ابن لزيد ولا يعلمان ولدا غيره وشهد غيرهما لآخر بعكسها]
إذا شهد شاهدان لرجل: أنه ابن زيد ولا نعلم له ابنا غيره، وشهد شاهدان آخران لآخر: أنه ابن زيد لا نعلم له ابنا غيره.. ثبت نسبهما من زيد ولا يكونان متعارضين؛ لأنه يجوز أن تعرف كل واحدة منهما ما لا تعرف الأخرى.
[مسألة ماتت الزوجة عن زوج وابن وأخ واختلفوا]
وإن كانت له زوجة وله ابن منها ولها أخ، فماتت الزوجة وابنها، فاختلف الزوج والأخ، فقال الزوج: ماتت الزوجة أولا فورثتها أنا وابنها، ثم مات ابنها فورثته، وقال الأخ: بل مات الابن أولا فورثته الأم، ثم ماتت الأم فورثتها أنا وأنت، فإن كان لأحدهما بينة بما يدعيه ثبت ما ذكره. وإن لم تكن بينة.. فالقول قول الأخ مع يمينه في إرثه من أخته؛ لأن الزوج يدعي حجبه عن ميراثها والأصل عدم حجبه. والقول قول الزوج مع يمينه في إرثه من ابنه؛ لأن الأخ يدعي إرث الأم منه والأصل عدم إرثها، فلا ترث الزوجة(13/205)
من ابنها، بل يكون ماله كله لأبيه، ولا يرث الابن من مال أمه، بل يكون مالها للأخ والزوج؛ لأن من لم تتيقن حياته عند موت مورثه.. لم يرث منه شيئا، وكل واحد منهمما لا يتيقن حياته عند موت مورثه، فلم يرث أحدهما من الآخر، كالغرقى.
[فرع خلف رجل دارا لابن وزوجة فاختلفا في الدار أهي إرث أم مهر]
وإن مات رجل وخلف ابنا ودارا وزوجة، وادعى الابن أن أباه ترك الدار ميراثا، وادعت الزوجة أنه أصدقها الدار في حياته، وأقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه.. قدمت بينة الزوجة؛ لأن بينة الابن تشهد بأصل الملك، وبينة الزوجة تشهد بأمر حادث خفي على بينة الابن، فقدمت كما لو كان الزوج حيا وأقام بينة أن الدار ملكه، وأقامت الزوجة بينة أنه أصدقها الدار.
[مسألة تداعيا جدارا بين داريهما]
] : قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا تداعى رجلان جدارا بين داريهما، فإن كان متصلا ببناء أحدهما اتصال البنيان الذي لا يحدث إلا من أول البناء.. جعلته له دون المنقطع منه) .
وجملة ذلك: أن الرجلين إذا تنازعا في جدار بين ملكيهما، وادعى كل واحد منهما أنه ملكه، فإن كان لأحدهما بينة دون الآخر.. قضي لصاحب البينة. وإن لم يكن لأحدهما بينة.. نظرت: فإن كان لأحدهما عليه بناء لا يمكن إحداثه بعد كمال البناء؛ بأن كان له عليه أو فيه أزج معقود.. فالقول قول صاحب الأزج مع يمينه.
قال الشيخ أبو حامد: لأن جدار الأزج يبتدئ أولا بالاعوجاج أو بالاستواء ثم يعوج عن قليل، وإنما حلفناه لجواز أن يكونا قد اشتركا في بناء الأساس، ثم عقد(13/206)
أحدهما الأزج عليه بإذن صاحبه. قال ابن الصباغ: فإن كان مبنيا على تربيع بناء أحدهما متصلا به مساويا له في السمك دون الآخر.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الظاهر أنه له. قال أبو إسحاق المروزي: وإن كان الجدار خمسة عشر ذراعا، وعشرة منه بين داريهما، ولأحدهما خمسة أزرع متصلة بالعشرة، ثم تنازعا في العشرة.. فالقول قول صاحب الخمسة مع يمينه في العشرة؛ لأنه لا يمكن إحداث ما ينفرد به دون الذي تنازعا فيه، فعلم أن الجميع له، كما لو كان لأحدهما عليه أزج.
وقال الشيخ أبو حامد: وهذا غلط لا يجيء على المذهب؛ لأن انفراده ببعض الحائط لا يدل على أن جميع الحائط له؛ لأنه يجوز أن يكونا قد اشتركا في بناء الذي بينهما وانفرد صاحب الزيادة ببنائها، ويخالف إذا كان لأحدهما عليه أزج؛ لأن الأزج موضوع على الجدار، فالظاهر أنه وضعها في ملكه.
فإن كان الحائط على خشبة طويلة، فأقر أحدهما لصاحبه بالخشبة الطويلة وتنازعا في الحائط، أو تنازعا في الخشبة والحائط، وقامت لأحدهما بينة بالخشبة، أو كان بعض الخشبة في ملك أحدهما.. فالقول قول صاحب الخشبة - أو من بعضها في ملكه- مع يمينه في الحائط؛ لأنها لا تتبعض، فإذا حكم له ببعضها.. حكم له بجميعها، وحكم له بالحائط؛ لأن الظاهر أنه وضع ملكه على ملكه.
وإن كان الجدار غير متصل ببناء أحدهما، وإنما هو حاجز زج بين ملكيهما ويدهما عليه، أو لا يد لأحدهما عليه ولا بينة لأحدهما.. حلف كل واحد منهما، فإن حلفا أو نكلا.. قسم بينهما، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. كان الجميع للحالف. وهكذا إذا كان متصلا ببنائهما. ولا ترجح دعوى من إليه داخل الحائط أو خارجه، ولا من إليه معاقد القمط؛ وهو: مشاد خيوط الخص. وبه قال أبو(13/207)
حنيفة. وقال مالك وأبو يوسف: (يحكم به لمن إليه وجه الحائط ومعاقد القمط) .
ودليلنا: أن من إليه ذلك لا يدل على أن له ملك الحائط، فلم يرجح به دعوى من هي إليه، كما لو كان إلى أحدهما النقوش والتجصيص.
وكذلك: إذا كان لأحدهما على الحائط تجصيص أو نقوش.. فإنه لا يحكم له بالحائط بذلك؛ لأنه يمكن إحداثه بعد كمال البناء. وإن كان عليه لأحدهما جذع أو جذوع.. لم ترجح بذلك دعواه. وقال مالك: (إذا كان لأحدهما جذع.. رجحت دعواه، فيحلف على الحائط أنه له) . وقال أبو حنيفة: (يرجح بجذعين فما زاد، ولا يرجح بدون الجذعين) .
دليلنا: أن وضع الجذع معنى حادث بعد تمام الحائط، فلم ترجح به الدعوى، كالتجصيص والتزويق.
[فرع تنازعا جدارا في عرصة لأحدهما وعكسه]
وإن تنازع رجلان جدارا في عرصة لأحدهما.. فالقول قول صاحب العرصة؛ لأن الظاهر مما في ملك الإنسان أنه ملكه.
وإن تنازعا عرصة، لأحدهما عليها جدار.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أنه لا يرجح قول صاحب الجدار، بل يتحالفان على العرصة، كما قلنا فيهما إذا تنازعا حائطا عليه لأحدهما جذوع.
والثاني: أن القول قول صاحب الجدار؛ لأن الظاهر أنه لا يضع ملكه إلا على ملكه؛ لأن أحدا لم يجوز وضع الجدار في عرصة غيره بغير إذنه، بخلاف الجذوع وهكذا الوجهان: إذا تنازعا عرصة، لأحدهما فيها نخلة.(13/208)
[مسألة تنازعا في حيطان السفل أو العلو أو السقف لدارهما]
] : إذا كانت سفل الدار في يد رجل والعلو في يد آخر، فإن تنازعا في حيطان السفل.. فالقول قول من السفل بيده مع يمينه. وإن تنازعا في حيطان العلو.. فالقول قول من العلو في يده مع يمينه؛ لأن كل واحد منهما هو الذي ينتفع بما في يده، فكان القول قوله فيه. فإن تنازعا السقف الذي بينهما.. حلفا، وجعل بينهما نصفين.
وقال أبو حنيفة: (هو لصاحب السفل) ، وحكاه أصحاب مالك عنه، وأصحابنا يحكون عنه: (أنه لصاحب العلو) .
دليلنا: أنه حاجز بين ملكيهما غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان، فكان بينهما كالحائط بين المالكين.
[فرع دار له علو وسفل وتنازعا درج السفل]
وإن كانت الدار علوها لرجل وسفلها لآخر، وتنازعا في الدرجة المبنية في السفل التي يصعد عليه صاحب العلو، فإذا ادعى كل واحد منهما أنها ملكه ولا بينة لأحدهما.. نظرت: فإن كانت معجمة ولا منفعة لصاحب السفل تحتها.. فالقول قول صاحب العلو فيها مع يمينه؛ لأنها من انتفاعه خاصة. وكذلك: لو اختلفا في ملك السلم المنصوب الذي يصعد عليه صاحب العلو؛ لما ذكرناه.
وإن كانت الدرجة معقودة وهي سقف لبيت صاحب السفل.. فقال الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق: فهي بينهما، وأرادا: إذا حلفا أو نكلا. وإن كانت ليست بسقف لصاحب السفل إلا أن تحتها موضع جب لصاحب السفل.. ففيه وجهان: أحدهما: أنهما يحلفان ويجعل بينهما؛ لأنهما يرتفقان بها.
والثاني: أن القول قول صاحب العلو وحده فيها؛ لأن الانتفاع بها إنما هو لصاحب العلو، وانتفاع صاحب السفل في ذلك غير مقصود.(13/209)
وقال القاضي أبو الطيب: فيها وجهان، سواء كانت سقفا لبيت صاحب السفل أو سقفا لموضع الجب. قال ابن الصباغ: وهو الأشبه.
[فرع دار علوها لرجل وسفلها لآخر وفيها عرصة وادعى كل واحد ملكها]
وإن كانت الدار علوها لرجل وسفلها لآخر، وفي السفل عرصة، وتنازعا في العرصة وادعى كل واحد منهما ملكها، فإن كانت الدرجة لصاحب العلو في آخر العرصة.. حلفا وجعلت العرصة بينهما؛ لأنها في أيديهما وتصرفهما. وإن كانت الدرجة لصاحب العلو في الدهليز في أول العرصة.. ففيما جاوز الدرجة من العرصة وجهان:
أحدهما: أنهما يحلفان وتجعل بينهما؛ لأن لكل واحد منهما يدا على العرصة.
والثاني: أن القول فيها قول صاحب السفل؛ لأنه ليس لصاحب العلو إلا الاستطراق فيها فيما جاوز الدرجة، فكانت اليد فيها والانتفاع لصاح السفل وحده.
وإن كانت الدرجة في وسط العرصة.. فإن أول العرصة إلى حد الدرجة في يديهما، فيحلفان وتقسم بينهما. وما جاوز الدرجة من العرصة على وجهين. ومثل هذا: زقاق لا ينفذ وفيه بابان لرجلين، باب لأحدهما في أوله، وباب للآخر في وسطه، فمن أول الزقاق إلى باب الأول بينهما، وما جاوزه من الزقاق إذا تنازعاه على وجهين، وقد مضى ذكرهما في "الصلح".
[فرع اختلفا على مسناة نهر]
قال في " الأم ": (وإن كان لرجل نهر وإلى جنبه أرض لآخر وبينهما مسناة، فقال صاحب النهر: هي لي بنيتها لتجمع الماء في النهر ويكثر فأنتفع به. وقال صاحب الأرض:(13/210)
بل هي لي بنيتها لتمنع الماء من دخول أرضي.. حلفا وجعلت بينهما) . وقال أبو حنيفة: (تكون لصاحب النهر) . وقال أبو يوسف ومحمد: تكون لصاحب الأرض.
دليلنا: أن لكل واحد منهما فيها منفعة وهي مجاورة لملكيهما، فحلفا وجعلت بينهما، كالسقف إذا تنازع فيه: صاحب العلو وصاحب السفل.
[فرع تنازعا دابة أحدهما راكب والآخر آخذ بزمامها أو جملا أو عمامة]
وإن تنازعا دابة وأحدهما راكبها والآخر آخذ بلجامها، ولا بينة لأحدهما.. فالقول قول الراكب فيها مع يمينه. ومن أصحابنا من قال: يحلفان وتجعل بينهما. والأول أصح؛ لأن الراكب هو المنفرد بالتصرف فقضي له. وإن تنازعا جملا ولأحدهما عليه حمل، ولا بينة لأحدهما عليه.. فالقول قول صاحب الحمل مع يمينه؛ لأنه هو المنتفع به، والظاهر أنه لا يحمل إلا على ملكه. وإن تداعيا عبدا ولأحدهما عليه ثوب.. فهما فيه سواء؛ لأن صاحب الثوب لا ينتفع بلبس العبد لثوبه، وإنما العبد هو الذي ينتفع بلبسه، بخلاف الحمل على الجمل.
فإن تداعيا عمامة وفي يد أحدهما ذراع منها وفي يد الآخر الباقي.. فهما سواء، فيحلفان ويجعل بينهما نصفين؛ لأن إمساك الذراع يد؛ بدليل: أنه لو كان في يد رجل ذراع منها وباقيها على الأرض فادعاها عليه آخر.. كان القول قوله فيها مع يمينه، كما لو كان جميعها في حجره.
[مسألة ادعى طفلا أو صبيا مميزا في يده أنه مملوكه أو صبية صغيرة أنها زوجته]
] : وإن كان في يد رجل طفل لا تميز له، فادعى أنه مملوكه ولا يعرف حريته.. قبل قوله؛ لأنه في يده، فقبل قوله فيه وحكم له بملكه. فإن بلغ هذا الطفل وقال: لست بمملوك له.. لم يقبل قوله من غير بينة؛ لأنا قد حكمنا بملكه فلا يسقط لقوله.
وحكى القاضي أبو الطيب في " شرح الفروع " وجها آخر: أنه يقبل قول الطفل بعد(13/211)
بلوغه مع يمينه، بناء على الوجهين في اللقيط إذا حكم بإسلامه بالدار، ثم بلغ ووصف الكفر.. فإنه يقبل منه في أحد الوجهين. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الإسلام الحق فيه لله تعالى فقبل قوله فيما يسقطه، والرق حق للآدمي لا يقبل قوله فيما يسقطه.
وهكذا: إذا كان في يده صبي يستخدمه ولم يدع ملكه في صغره ولا أقر بحريته، فلما بلغ هذا الصبي ادعاه من هو في يده أنه مملوكه.. قبل قوله في ذلك؛ لأن كونه في يده وتصرفه يدل على ملكه. فإن جاء رجل وادعى أنه ابنه وهو مجهول النسب..
لم يقبل إقراره ولم يلحق به؛ لأن في ذلك إضرارا بالسيد؛ لأنه ربما يعتقه فيثبت له عليه الولاء، فإذا كان نسبه ثابتا من رجل.. لم يرثه بالولاء. فإن أقام المدعي بينة أنه ابنه.. ثبت نسبه بذلك؛ لأن البينة شهدت له بذلك، ولا يزول ملك السيد عنه؛ لأنه يجوز أن يكون ابنا لرجل ومملوكا لآخر، إلا أن يكون الذي ادعى بنوته وأقام عليه البينة عربيا وقلنا بقوله القديم: (أن العرب لا يسترقون) فإنه يحكم بحريته على هذا.
وإن كان في يد رجل صبي عاقل يميز، وادعى أنه مملوكه، وأنكره الصبي.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحكم له بملكه؛ لأنه يعبر عن نفسه، فلم يحكم له بملكه مع إنكاره، كالبالغ.
والثاني: أنه يحكم له بملكه، وهو الأصح؛ لأنه صغير، فقبل قوله عليه كالطفل. وإن كان في يد رجل صبية صغيرة، فادعى زوجيتها ولا بينة له.. لم تقر يده عليها ولا يخلى بينه وبينها؛ لأن الحرة لا تثبت عليها اليد والمنافع، فلا يتصور ثبوت اليد عليها، فإذا لم يكن له بينة ولا يد ولا يصح من الصغيرة التصديق.. لم يجز أن تقر في يده ليخلو بها. فإن بلغت وأقرت له بالنكاح.. ثبت النكاح على قوله الجديد، ولم يثبت على قوله القديم إلا أن يكونا في الغربة، فإن أنكرت.. حلفت على الجديد، ولم تحلف على القديم.(13/212)
[فرع في يده رجل وادعى أنه مملوكه]
أو كان هو أو طفل بين رجلين فاختلفا فيه] : وإن كان في يده رجل بالغ عاقل، فادعى أنه مملوكه، فأنكره ولا بينة للمدعي.. فالقول قول المدعى عليه؛ لأن الظاهر منه الحرية. وإن صدقه أنه مملوكه.. حكم له بملكه.
وإن كان الكبير البالغ العاقل في يد رجلين، وادعى كل واحد منهما ملكه، فأنكرهما.. حلف لكل واحد منهما. وإن صدقهما معا.. كان بينهما نصفين. وإن صدق أحدهما وكذب الآخر.. حكم بملكه لمن صدقه دون من كذبه.
وقال أبو حنيفة: (يحكم بملكه بينهما نصفين) .
دليلنا: أنه لا حكم ليدهما عليه قبل ثبوت رقه، وإنما يحكم برقه بإقراره، فإذا أقر برق نفسه لأحدهما.. لم يشاركه الآخر.
وإن أقام كل واحد منهما بينة برقه، فصدق المملوك أحدهما أنه ملكه دون الآخر.. لم ترجح بينة المصدق؛ لأنه لا يد له على نفسه وإنما حكم برقه بالبينة، فلم يقبل تصديقه لأحدهما.
وإن كان طفل في يد رجلين، فادعى كل واحد منهما ملك جميعه ولا بينة.. تحالفا وجعل بينهما نصفين؛ لأن اليد ثبتت عليه، ويد كل واحد منهما ثابتة على نصفه، فحكم له بملك نصفه وحلف عليه لصاحبه.
[فرع اشترى جارية فادعت حريتها]
وماذا لو كانت عينا واستحقت وما حكم الرجوع بالثمن؟] :
وإن اشترى رجل من رجل جارية وقبضها، وادعت على المشتري أنها حرة الأصل، وادعى المشتري أنها مملوكته، ولا بينة للمشتري على إقرارها بالرق، ولا بينة لها على أصل الحرية.. قال ابن الحداد: فالقول قولها مع يمينها، لأن الأصل الحرية، والرق طارئ عليها.(13/213)
قال ابن الحداد: فإذا حلفت.. حكم بحريتها، ولا يرجع المشتري على البائع بالثمن؛ لأن يمينها للمشتري فلا يتعدى حكمها إلى البائع، ولأن المشتري قد أقر أنها أمته ومملوكته وهذا إقرار منه بصحة البيع وثبوت ملك البائع على الثمن، فلم يكن له الرجوع عليه فيه.
قال القاضي أبو الطيب: وقد قال بعض أصحابنا: إنه إذا قال في كتاب الابتياع: اشترى فلان من فلان جميع ما هو له وفي ملكه وهو كذا، ثم استحقه مستحق.. فإن المشتري لا يرجع بالثمن على البائع؛ لأن المشتري إذا أشهد على نفسه بذلك.. فقد أقر أن البائع باعه ما يملكه ولا يقبل رجوعه. وكذلك: إذا قال في البيع: تسلم فلان من فلان -يعني: المشتري- جميع كذا -يعني: المبيع- فصار في ملكه.. يكون إقرارا منه بصحة البيع، فلا يرجع بالثمن إذا استحق؛ لما ذكرناه.
وقال ابن الحداد: إذا اشترى من رجل شيئا وقبضه، فادعى مدع أنه ملكه.. فالقول قول المشتري مع يمينه، فإن نكل عن اليمين وردت اليمين على المدعي فحلف.. استحق المدعى به، ولا يرجع المشتري على البائع بشيء؛ لأن ذلك يحري مجرى إقرار المشتري له بذلك، فلا يرجع على البائع بالثمن بإقراره. وإن قلنا: إنه كالبينة.. فإن ذلك يخص المدعى عليه، ولا يتعدى إلى غيره من البائع وغيره، ويخالف إذا قامت البينة بالاستحقاق؛ لأنها ثبتت في حق جميع الناس.
[فرع ادعى على رجل بيده جارية فأنكره]
وإن ادعى رجل على رجل جارية في يده، فأنكره ونكل عن اليمين، فحلف المدعي وسلمت الجارية إليه فوطئها وأولدها أولادا، ثم قال المدعي: كنت كاذبا والجارية للمدعى عليه.. فلا يقبل قوله في إبطال حق الجارية وأولادها؛ لأنها صارت أم ولد له، وأولادها أحرارا، فلا يقبل قوله فيما يسقط حقهم، كما لو اشترى عبدا فأعتقه وادعى أنه كان مغصوبا. ويجب عليه للمدعى عليه قيمة الجارية أكثر ما كانت(13/214)
من حين قبضها إلى أن تقوم عليه، ويجب عليه له مهرها، ويجب عليه قيمة أولادها حين سقطوا؛ لأنه حكم بحريتهم في ذلك الوقت، ولا يجوز له وطؤها؛ لأنه مقر بتحريمها عليه، فإن اشتراها من المدعى عليه أو اتهبها منه.. حلت له؛ لأنا تيقنا إباحتها له.
[فرع شهدا بعتق عبد أو أمة]
إذا شهد شاهدان بعتق عبد أو أمة.. ثبت عتقهما، سواء صدقهما المشهود عليه بعتقه أو لم يصدقهما، ولا تفتقر الشهادة بالعتق إلى تقدم الدعوى، ووافقنا أبو حنيفة في الأمة وخالفنا في العبد.
دليلنا: أنها شهادة بعتق، فلا تفتقر إلى تقدم الدعوى، كعتق الأمة.
[فرع ادعى قرضه ألفا وادعى الخصم قضاءه أو أنكره]
لو ادعى عليه أنه أقرضه ألفا، فقال المدعى عليه: لا يستحق علي شيئا، وأقام المدعي على ذلك بينة، وأقام المدعى عليه بينة أنه قضاه ألفا ولم يعرف التاريخ.. قال ابن القاص: قضي ببينة القضاء؛ لأنه لم تثبت إلا الألف، وقد ثبتت بينة القضاء، ولا يكون القضاء إلا بما عليه.
وإن أنكر المدعى عليه القرض، وأقام المقرض البينة بالقرض، وأقام المنكر بينة بالقضاء.. فبينة المقرض أولى؛ لأنه أنكر القرض فلا تسمع بينته أنه قضى القرض، وإنما يكون القضاء بغير ذلك.
[مسألة اختلف الزوجان أو ورثتهما في أثاث البيت]
وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت الذي يسكنان فيه، فادعى كل واحد منهما أنه له ولا بينة لأحدهما.. فإنهما يحلفان ويقسم بينهما، سواء كان المتاع يصلح للرجال دون النساء كالسلاح، أو كان يصلح للنساء دون الرجال كالحلي، أو كان يصلح لهما(13/215)
كالدنانير والدراهم، وسواء كان في أيديهما من طريق المشاهدة، أو في أيديهما من طريق الحكم، وسواء اختلفا في حال الزوجية أو بعد البينونة.
وكذلك: إذا ماتا واختلف ورثتهما، أو مات أحدهما واختلف الثاني وورثة الميت.. وبه قال ابن مسعود وعثمان البتي.
وقال الثوري وابن أبي ليلى وأحمد: (إن كان الشيء المتنازع فيه مما يصلح للرجال دون النساء.. فالقول قول الزوج فيه، وإن كان مما يصلح للنساء دون الرجال.. فالقول قول المرأة فيه، وإن كان مما يصلح لهما.. كان بينهما) .
وقال مالك: (ما كان يصلح لأحدهما دون الآخر.. فالقول قوله فيه، وما كان يصلح لهما.. فالقول فيه قول الزوج، وسواء كان في أيديهما من طريق الحكم أو من طريق المشاهدة) .
وقال أبو حنيفة ومحمد: (ما كان في أيديهما من طريق المشاهدة.. فهو بينهما، وما كان في أيديهما من طريق الحكم، فما كان يصلح للرجال دون النساء.. فالقول قول الزوج فيه، وما كان يصلح للنساء دون الرجال.. فالقول قولها فيه، وما كان يصلح لهما.. فالقول فيه قول الزوج. وإن اختلف أحدهما وورثة الآخر.. كان القول قول الباقي منهما) . وقال أبو يوسف: القول قول المرأة فيما جرت العادة أنه قدر جهازها.
دليلنا: أنهما تساويا في ثبوت اليد على الشيء المتنازع فيه، فكان القول قولهما فيه، كما لو تنازعا في الدار التي يسكنانها.
[فرع تنازع المكري والمكتري في متاع]
وإن تنازع المكري والمكتري في المتاع الذي في الدار المكراة، فادعى كل واحد منهما ملك جميعه ولا بينة.. فالقول قول المكتري مع يمينه؛ لأن يده ثابتة عليه.
وكذلك: إذا تنازعا في السلالم التي ليست بمسمرة في الدار.. فالقول قول المكتري مع يمينه؛ لأنها كالقماش.(13/216)
وإن تنازعا في السلالم المسمرة والرفوف المسمرة.. فالقول قول المكري مع يمينه؛ لأنها متصلة بالدار، فهي كأجزاء الدار.
وإن تنازعا في الرفرف التي ليست بمسمرة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تحالفا وجعلتها بينهما) .
والفرق بينهما وبين القماش: أن العادة لم تجر أن الإنسان إذا انتقل من دار يترك فيها قماشه، فكان الظاهر أنها للمكتري، وجرت العادة أن من انتقل من الدار أن يترك فيها الرفوف، ويجوز أن يكون المكتري عملها، فإذا احتملت الأمرين.. تحالفا وجعلت بينهما.
[مسألة أقر لآخر بحق وبذله له]
إذا كان لرجل على رجل حق، فإن كان مقرا له به باذلا له.. لم يجز له أن يأخذ من ماله شيئا بغير إذنه؛ لأنه مخير في أعيان ماله الذي يقضيه منها، فإن أخذ شيئا من ماله.. لزمه رده عليه. فأما إذا كان جاحدا له في الظاهر والباطن، أو جاحدا له في الظاهر مقرا له في الباطن، فإن لم يكن لصاحب الحق بينة بحقه.. فله أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه. وإن كان له بينة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له أن يأخذ شيئا من ماله بغير إذنه؛ لأنه يقدر على الوصول إلى حقه بإقامة البينة عند الحاكم.
والثاني: يجوز له؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان بقدر حقها» ، وقد كان يمكنها التوصل إلى استيفاء حقها منه بالحكم، ولأن على صاحب الحق مشقة في المحاكمة. وإن كان مقرا له في الظاهر والباطن، إلا أنه غير باذل لدفعه وممتنع بقوة.. فله أن يأخذ من ماله قدر حقه. وقال أحمد: (لا يأخذ من ماله شيئا بغير إذنه) . وعن مالك روايتان:(13/217)
إحداهما: مثل قول أحمد.
والثانية -وهي المشهورة عنه-: (إن لم يكن على من عليه الحق دين لغيره.. جاز له أن يأخذ من ماله بغير إذنه بقدر حقه. وإن كان عليه دين لغيره.. أخذ بحصته من ماله) .
دليلنا: ما روي: «أن هندا امرأة أبي سفيان أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي بالمعروف إلا ما أخذته منه سرا؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
إذا ثبت هذا: فإن له أن يأخذ من ماله، سواء كان من جنس حقه، أو من غير جنس حقه.
وقال أبو حنيفة: (له أن يأخذ من ماله من جنس حقه، وليس له أن يأخذ من غير جنس حقه) . وحكى الشيخ أبو حامد ذلك عن بعض أصحابنا.
والمذهب الأول؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان» ، ولم يفرق بين أن يكون من جنس حقها، أو من غير جنس حقها.
إذا ثبت هذا: فإن كان الذي أخذه من ماله من جنس حقه.. لم يأخذ إلا قدر حقه، فإذا أخذه.. تملكه. وإن كان الذي أخذه من غير جنس حقه.. فلا يجوز له أن يتملكه؛ لأنه من غير جنس حقه، ولكن يباع ويستوفي حقه من ثمنه. وفي كيفية بيعه وجهان:
أحدهما: يبيعه بنفسه؛ لأنه لو أداه إلى الحاكم وأخبره بذلك.. لم يجز للحاكم بيعه حتى يقيم عنده البينة على حقه وعلى امتناعه، وربما تعذر عليه ذلك، فجوز له بيعه بنفسه؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: لا يجوز له بيعه بنفسه؛ لأنه لا ولاية له على مالكه.
والحيلة في بيع الحاكم ذلك عليه إذا لم يمكنه إقامة البينة على حقه: أن يواطئ رجلا فيقر له بما أخذه من مال الآخر، ويدعي عليه بدين عند الحاكم، ويقر له به ويمتنع من أدائه، فيأمر الحاكم من يبيع ذلك عليه.(13/218)
والأول أصح؛ لأنه لا يؤمن ممن يواطئه على ذلك أن لا يقر له بالدين ويدعي العين التي أقر له بها، فيتعذر عليه الوصول إلى حقه.
فإذا باع ذلك بنفسه أو باعه الحاكم، فإن كان ثمنه قدر دينه.. فلا كلام. وإن كان أقل من دينه.. فله أن يتوصل إلى أخذ شيء من ماله ليستوفي حقه. وإن كان أكثر من حقه، فإن كان مما ينقسم.. باع منه بقدر حقه ورد الباقي عليه على حسب إمكانه؛ بأن يقول: وهبت لك، أو غير ذلك. وإن كان مما لا ينقسم.. باع جميعه وأخذ منه قدر حقه ورد عليه بقية الثمن على حسب إمكانه.
فإن تلف ما أخذه قبل أن يبيعه من غير تفريط.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا ضمان عليه، بل له أخذ حقه ممن عليه الحق؛ لأنه استحق أخذه وصرف ثمنه في حقه، فلم يضمنه، كالرهن.
والثاني: عليه ضمانه؛ لأنه أخذ مال غيره بغير إذنه، فلزمه ضمانه وإن جاز له أخذه، كما لو اضطر إلى طعام غيره، فأخذه وتلف في يده قبل أن يأكله.. فإن عليه ضمانه، كذلك هذا مثله.
وبالله التوفيق(13/219)
[باب اليمين في الدعاوى]
إذا ادعى رجل على رجل حقا، فأنكره ولا بينة للمدعي.. نظرت: فإن كانت الدعوى في غير القتل.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف.. سقطت عنه الدعوى، وإن نكل عن اليمين وحلف المدعي.. قضي له بما ادعاه، وقد مضى بيان ذلك.
وإن كانت الدعوى في القتل ولا بينة للمدعي، فإن كان هناك لوث - وهو: معنى يغلب معه على الظن صدق المدعي؛ مثل أن يوجد الرجل مقتولا في محلة أعدائه أو ما أشبه ذلك، على ما يأتي بيانه- فإن الأيمان تثبت في جنبة ولي المقتول أولا، فيحلف خمسين يمينا على المدعى عليه، سواء كان في المقتول جراحة أو لا جراحة به. وبه قال ربيعة ومالك والليث وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (إذا وجد الرجل مقتولا في محلة قوم، فإن لم تكن به جراحة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإذا حلف.. فلا شيء عليه. وإن كان به جراحة.. فإنه يؤخذ من صالحي المحلة أو القرية خمسون رجلا، فيحلف كل واحد منهم يمينا ما قتلناه ولا نعلم من قتله. فإن لم يكن في المحلة خمسون من(13/220)
الصالحين، فإن كانوا خمسة وعشرين.. حلف كل واحد منهم يمينين. فإن لم يكن فيها إلا رجل واحد.. حلف خمسين يمينا. فإذا حلفوا.. وجبت دية المقتول على باقي المحلة، سواء كان قد زال ملكه عنها أو لم يزل إن كان موجودا. فإن لم يكن موجودا.. كانت الدية على عاقلة سكان المحلة من حلف منهم ومن لم يحلف) .
وقال أبو يوسف: تكون الدية على السكان بكل حال.
قالوا: فإن وجد القتيل في مسجد المحلة.. حلف منهم خمسون رجلا، وكانت الدية في بيت المال. وإن وجد المقتول في دار نفسه.. فديته على عاقلته. وإن وجد بين قريتين.. نظر إلى أيتهما أقرب، ويكون حكمه كما لو وجد فيها.
دليلنا: ما روى الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة» .
وروى سهل بن أبي حثمة: أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما، فتفرقا في حوائجهما، فأخبر محيصة: أن عبد الله قتل وطرح في قفير أو عين، فأتى يهود، فقال: أنتم قتلتموه؟ فقالوا: والله ما قتلناه، فقدم محيصة على قومه فأخبرهم، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن أخو المقتول فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وكان أصغرهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كبِّر كبِّر» ، وروي: «الكبر الكبر» ، وروي: «الكبير الكبير» يريد السن، فتكلم حويصة ثم محيصة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لليهودي: «إما أن تدوا صاحبكم أو تأذنوا بحرب من الله» ، فكتب إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فكتبوا إليه: إنا والله ما قتلناه. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: «تحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» فقالوا: لا، قال: «أفتحلف لكم يهود؟» قالوا: ليسوا بمسلمين! فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من(13/221)